أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبو الحسن سلام - حيرة الباحث المسرحي بين نظرية العامل ونظرية المتخلفات والمتغيرات المتلازمة















المزيد.....



حيرة الباحث المسرحي بين نظرية العامل ونظرية المتخلفات والمتغيرات المتلازمة


أبو الحسن سلام

الحوار المتمدن-العدد: 3684 - 2012 / 3 / 31 - 18:52
المحور: الادب والفن
    



مهاد نظري :
من المقطوع به في مجال تعريف العلم على كثرة الاختلاف والتعدد حول تعريفه أن العلم هو ما يقبل التخطئة، فقد ظلت آراء أرسطوطاليس حول الأرض بوصفها مركز الكون فاعلة في حقول الدراسات الجغرافية والأنثروبولوجية والرياضية والفلكية حتى عصر النهضة عندما ظهرت آراء كوبرنيكوس وكيبلر وجاليليو التي حطمت نظرية أرسطوطاليس. وكذلك تحطمت عدم قابلية الذرة للتفتت التي قال بها إنشتين. وكلتا النظريتين كانتا علميتين إلى أن أثبت البحث العلمي خطأ كل منهما.
العلم هو ما يقبل التخطئة فإن ما يقال حول الفنون من أنها لا تصبح علوماً لأنها " لا تصبح تعبيراً نهائياً يمكن قياسه كنتيجة لها صفة الثبات ، ذلك أن الفن إبداع يرسله المبدع للتأثير على متلقٍ متباين الاستقبال الشعوري والإدراكي ومن هنا تتغير الدلالة في رسالة المبدع "
ويستند بعض العلماء ومنهم ماجنوس بيك في زجر القائلين بأن الفنون عندما يتم تناولها في أبحاث علمية تصبح علوماً؛ مؤسساً زجره لهم على أربع ركائز هي " الغرض والذوقيات والدوافع والفلسفة الأدبية خارج حدود العلم"
ومع ذلك فإن ماجنوس بيك نفسه في بداية كتابه نفسه (حدود العلم) إذ ينص على أن العلوم الأساسية " هي الكيمياء والفيزياء وعلم الحياة " فإنه يخلخل محدداته للعلم ، فقوله بوجود علوم أساسية يعني أنه يقر ضمناً بوجود علوم رئيسية وبوجود علوم فرعية وعلوم ثانوية – هذا من ناحية – ومن ناحية أخرى " فإن علم الحياة ينبني أساسه على الإنسانيات ودراسة كل ما يتصل بالحياة الإنسانية نفساً ومجتمعاً ولغة ونشاطاً وبيئة. والأدب نشاط بشري يعكس حياة البشر انعكاساً نفسياً ومجتمعياً وبيئياً ولغوياً قائماً على تصوير يتمثل الضرورات والاحتمالات، وفق تصورات وافتراضات تراعي الضرورات الحياتية، لتظهر الصورة نموذجاً من الأصل بقدر صدق التصوير كما تراعي الضرورات الفنية التي تغلف الإقناع بعناصر الإمتاع "
ومن تعريفات الباحثين لمفهوم العلم نقف أيضاً عند تعريف أحمد سليم سعدان الذي يعرف العلم "بالقدرة على التنبؤ" فإذا عرفنا أن الإبداع الأدبي والفني الحقيقي هو الذي تقوم صوره في مواضع متعددة من بنيته الإبداعية على استشفاف المأمول والمستقبلي جنباً إلى جنب مع تصويره للماضي وللحاضر . فإننا سنحكم بأن الإبداع الفني والأدبي يشكل بذلك دوراً أصيلاً من أدوار العلم. ومع ذلك فإن الدخول في مجال الحديث عن إشكالية ارتباط فنون المسرح بالعلم سواء في التدريس أو في البحث يقتضي من الباحث أن يقف عند ثلاث ركائز حددها روبرت مرتون يجب توافرها حتى تتحقق بها لفظة العلم وهي :
 "مجموعة من المناهج ذات طابع معين فيها تمكين للعلم أن يتحدد.
 مجموعة معارف متراكمة لازمة عند تطبيق هذه المعارف
 مجموعة من القيم الثقافية والأخلاقيات التي تحكم الأنشطة العلمية أو ترتبط بها من منظور سوسيولوجي"
ولأن مناهج البحث Methodology تتمثل مفهوماً في فرعين هما :
فرع من المنطق ينصب على دراسة المنهج بوجه عام. وعلى دراسة المناهج الخاصة بالعلوم المختلفة.
ويشكل الثاني أحد أقسام الفلسفة . وقد اختلف مدلوله باختلاف العصور تبعاً لقصره على مشكلة الوجود أو المعرفة.
لقد مر مصطلح منهج بمراحل متعددة بتعدد الفلسفات قديمها وحديثها إذ اختلف مدلوله عند أرسطو والمدرسيين كما اختلف عند ديكارت (1596-1650) وعند كانط وعند كونت وكذلك عند برجسون. وهو يعتمد عند محمد مندور على " الفصل بين التأثر الشخصي والمعرفة الموضوعية " .
والمنهج عند مجدي وهبة هو " بوجه عام ، وسيلة محددة توصل إلى غاية معينة " . أما المنهج العلمي فهو عنده " خطة منظمة لعدة عمليات ذهنية أو حسية بغية الوصول إلى كشف حقيقة والبرهنة عليها ".
ويمكن الوقوف عند ثلاث مسارات منهجية :
المنهج التجريبي الاستنتاجي :حيث اهتمام الباحث بدراسة الكل. ثم يستخلص نتائج منطقية تسري على الأجزاء. ويدرس المبادئ والقواعد العامة فيطبقها على الأجزاء وهو منهج روجر بيكون .
المنهج التجريبي الاستقرائي : وهو منهج فرنسيس بيكون (1561-1626) ويقوم على استقراء الجزء بالتجربة. أي يختبر الأجزاء ليستدل منها على حقائق يعممها على الكل لأن ما في الجزء يسري على الكل. أي تعميم الحكم على الخصائص الجزئية في شيء ما هو موضوع البحث على الشيء كله.
المنهج الإحصائي: فرع من فروع المنهج الرياضي : وهو يقوم على حساب مقدار احتمال صحة أي حالة.
وهناك المنهج المعياري والمنهج الوصفي.
المنهج إذن هو أداة ضبط طرق استقصاء حقيقة ما بهدف تأصيلها وتحصينها وهو ضابط لأساليب التحقق وأدواته وتوجيهها توجيهاً موضوعياً في اتجاه الوصول إلى الحقيقة خالصة استناداً على القياس الدقيق الذي يولد حقيقة جديدة.
والقياس هو أساس الاستدلال على صحة النتائج التي يسعى إليها عمل الباحث ، وهو نوعان :
قياس المناطقة : قياس الحاضر على الماضي * أي الحكم على صحة الشيء قياساً لاحقاً على سابق.
التقدير بالوحدات : كتقدير الطول بالسنتيمترات والكتلة بالجرامات "
مقاربة منهجية : علمية الدراسات المسرحية
تتوقف علمية دراسة ما في أي مجال على دور تلك الدراسة ورؤيتها في حالة تقدم إلى الأمام ، فإذا كان من تعريفات العلم أنه " النشاط الإنساني الوحيد الذي يمكن رؤيته يتقدم إلى الأمام من ذروة إلى أخرى أكثر بعداً"، لأن تاريخ العلم هو التاريخ الوحيد الذي يمكن أن يصور تقدم الإنسان "
" وإذا كانت علمية دراسة ما تكتسب اسمها من وجود خواص ثلاثة ينهض بها العلم وهي :
الخاصية الأولى : وجود معارف منظمة في المجال – موضوع الدراسة –
الخاصية الثانية : وجود مناهج بحث لاكتشاف تلك المعارف
الخاصية الثالثة : إمكان الضبط الكمي لتلك المعارف "
وأضيف إليها خاصية رابعة : شخصية الباحث وموضوعيته ، فإن الدراسة المسرحية تكتسب علميتها من وجود هذه الخواص نفسها :
الخاصية الأولى : وجود معارف منظمة في مجال المسرح وتتمثل في الاتجاهات والمدارس والنظريات المسرحية.
الخاصية الثانية: وجود مناهج بحث لاكتشاف المعارف المسرحية المنظمة.
الخاصية الثالثة : إمكان الضبط الفني للمعارف المسرحية المنظمة، فهناك مدارس مسرحية لكل منها أسسها التي تعد بمثابة القوانين الضابطة لمنهج كتابتها وأسلوب كل منها وهناك نظريات نقدية متعددة لكل منها أسسها وشروطها التي هي بمثابة قوانين ضابطة لتوظيفها وتعاملها مع النص أو مع العرض. وهناك نظريات الإخراج المسرحي التي تقوم على أسس تحدد طبيعة العرض المسرحي وهناك نظريات التمثيل التي تضبط أساليب الأداء.
الخاصية الرابعة : شخصية الباحث المسرحي وموضوعيته وتأهيله النظري والعملي.
إذاً فالمسرح بوصفه فناً له تقنيات ، وبوصفه ظاهرة إنسانية فاعلة له تاريخ وبوصفه ظاهرة في ممارسته العملية الحاضرة من حيث الإرسال والتلقي له نظريات . ولأن نظرياته متعددة ومتباينة تفرقت في اتجاهات . فلاشك أن تاريخ تراكم الممارسة المستمرة للأداء والتلقي الجماهيري والنقدي والتنظيري ينظم وجود المعارف في المسرح ويكشف عن حركة تطوره ويضبط معارفه ويؤصلها في شكل نظريات ومدارس واتجاهات تتضافر جميعها في تأطير فن المسرح بالعلم عن طريق وجود أساليب محددة كل منها نابع من نظرية فنية أدبية ونظرية أداء ونظرية إخراج ونظرية نقد ؛ وكلها تشكل منهاج عمل الباحث المسرحي عند انكبابه على البحث في وظائف منتج إبداعي مسرحي من حيث الوظيفة العاطفية والوظيفة المعرفية والوظيفة المرجعية والوظيفة الإدراكية والوظيفة اللغوية الواصفة وصولاً إلى تقويم الوظيفة الاتصالية بين ذلك الإبداع وتلقيه.
فلقد جسّد فن المسرح تعطش الإنسان للمعرفة ، واجتهد منذ ظهوره حتى الآن في خلق جسور اتصال بينهما. كما جسد أشواقه الرومنسية لكل ما لا يمكن الحصول عليه ، أو تحديده ، وجسد محاولاته الدائبة من أجل مجاوزة إنسانيته. وجسد كذلك فرديته وعقده وتمرده في إطار تحقيق ذاتيته. وجسد تعطشه للشهوة والإشباع الجنسي وتعطشه لاكتناز الأموال.
وقد تراوحت صورة الإنسان عبر المسرح بين الانتهازية والنبل والخسة والعدل والظلم والحرب والسلم والأمانة والخيانة والحب والكراهية والانتقام والتسامح والأمن والإرهاب.
ولأن الأساس في فنون المسرح هو التمثيل فقد تبارت المدارس التمثيلية في تأصيل نظرياتها ما بين إلحاح ستانسلافسكي على تركيز الممثل على الصفات الداخلية والخارجية تأكيداً للذات الفردية عن طريق إمساكه بالعاطفة الحاكمة للشخصية التي يمثلها وتمثيله لنفسه المجرّبة في سبيل تمكينها من تجسيد حكم الذات على الموضوع الخارجي ، ومنطق بريشت الذي يرشد الممثل إلى خلق مسافة بينه وبين دوره للتركيز على عدم الإلحاح على صنع الاكتمال الفني الذي يطلبه ستانسلافسكي و "بارو" و " لي ستراسبرج " أو التوحد والحلولية الصوفية التي يطلبها جروتوفسكي أو الاحتفالية التي يحيل بها "أرتو" فن الممثل إلى طقس أو تباين نظرية المسرح الشرطي عند "ماير هولد" في توظيفه لعلم حركة الجسم (البيوميكانيك) أو سيادة مدرسة السرد التمثيلي والسرد التشكيلي تحقيقاً لفكرة موت المؤلف التي استلهمها المسرحيون من فكرة (موت الخالق) التي نظر لها "نيتشه" . أو تحقيقاً لمقولة "ليوناردو دافنشي" الذي يطالب المتفرج فيها بأن يكمل إبداعياً رسم ما يقدمه الفنان رساماً كان أم مؤلفاً أو مخرجاً أم ممثلاً. ولينحو فن التمثيل بذلك نحو تفكيك دوره والكشف عن تناقضات الإبداع ، باعتبار الممثل ناقداً قبل أن يكون مبدعاً أو مؤدياً ، دون أن ينفي عن أدائه طاقة الإبداع.
وهذا البحث يعرض لدور المنهج العلمي في عمل الباحث المسرحي في اتجاه فض حيرته التي تتمثل في اصطدامه عند القياس والاستدلال على حقيقة ما يبحث عنها في مجال الإبداع المسرحي إذ أن القياس يجري على ما ثبت واستقر في نص أو في شكل إبداعي أو في ظاهرة متكررة عبر فترات زمنية متتالية وتراكمات معرفية عنها بما هو أكثر منه ثباتاً بحيث يتمكن الباحث من استعادة النظر المنهجي إليها وتحليلها أو تفكيكها حسب المنهج والأدوات المناسبة للقياس والاستدلال بوصفه مهارة مساندة لتوكيد المصداقية . ومن ثم حصر تداعيات الظاهرة وتطورها ثم ضبط معطيات دراستها وبحثها.
ولأن الأساس في فن المسرح هو التمثيل ، وهو فن زماني من حيث التعبير الصوتي وفن مكاني من حيث التعبير الحركي والتشكيلي؛ لذلك يصعب ضبط معطياته الأدائية على نحو ما تضبط معطيات العمل الأدبي في نص القصة أو القصيدة الشعرية أو في النص المسرحي -حتى مع كونه إبداعاً مرجأ وغير نهائي- وفق مقاييس يستنبطها الناقد أو يستقرئها من النص نفسه ؛ ذلك لأن النص قد ينتهي بين ضفتي كتاب ، أما الأداء فمتغير تبعاً لكل مرة يعرض فيها النص مجسداً على المسرح وأمام جمهور : ولأن قياس ذلك التغير من حيث حجمه وقيمته وأثره محكوم بعامل أو أكثر ، قد يكون عاملاً متغيراً مستقلاً، وقد يكون عاملاً مستقلاً معتمداً على العامل المتغير المستقل ، لذلك فإن الباحث ينهج في طريق بحثه المنهج التجريبي – وهو الأنسب في مجال البحث في العرض المسرحي– في حين يمكن قياس النص المسرحي قياساً منهجياً وفق المنهج الاستنباطي الذي يعتمد على طريقة المتخلفات وطريقة التغيرات المتلازمة – خاصة عند البحث في خصائص أسلوبية متكررة وتشكل ظاهرة في إبداع كاتب مسرحي ما أو مخرج مسرحي محدد أو ظاهرة في الأداء التمثيلي أو الموسيقي أو التشكيلي لمبدع بعينه أو عند القياس البيني بين خصائص متناظرة أو متقاربة بين أسلوب وأسلوب آخر مناظر أو في مجمل إبداع مبدع ما ومجمل إبداع آخر عند ملاحظة وجود عامل مشترك.
ولأن النص المسرحي مادة فكرية متناقضة في وحدة تتشكل بالتجسيد أو التشخيص المعروض بالطاقة التصويرية والتعبيرية الإيهامية التطهيرية أو الإدهاشية الإدراكية التغييرية بوساطة إبداع بشري مستعين بتقنيات آلية تأثيرية مصاحبة، ولأن الطاقة وفق اسحق نيوتن (1642-1727م) (تعادل الكتلة مضروبة في ضعف سرعتها) فإن الطاقة الإبداعية للعرض المسرحي تعادل مادة النص المسرحي مضروباً في ضعف سرعة تجسيده تجسيداً حاضراً أمام جمهور.
فإذا كانت الكلمة تشكل كتلة تشغل حيزاً في الزمن حينما تلفظ ؛ فيكون مكمن قوتها ناتجاً عن الزمن المستغرق في لفظتها مضافاً إليه الدافع من وراء لفظها. فالزمن في اللفظ يتحدد بالدافع وبالإيقاع الذاتي والموضوعي إلى تشكله ليصبح طاقة إبداعية مؤثرة عبر الإمتاع والإقناع؛ فبطاقة الأداء ، ودافعه معاً يتحدد التعبير الساحر أو الجذاب المؤثر القوي الإيجابي أو الضعيف السلبي.
إن الحوار في النص المسرحي يشكل الكتلة فإذا ضرب في ضعف سرعة تجسيده بالصوت والصورة التي تحددها دوافع الأداء متوافقة مع دوافع الاستقبال أو التلقي ، حصلنا على مدى تأثيره أو مدى قوته المؤثرة.
وإذ اعتبرنا المسرحية كتلة أو كمية فإن تغيرها من النص إلى العرض وأثرها الدرامي والجمالي؛ يتحقق بقدر ما يبذله الأداء الإبداعي البشري والتقني – جنباً إلى جنب – في تحريكها أو بعثها أو إعادة خلقها في اتجاه مشاعر الجمهور وإدراكه المتباين. وهذا اينشتين يقرر "إن تغير كتلة الجسم مرتبطة كل الارتباط بالشغل المبذول عليه ويتناسب مع هذا التغير تناسباً طردياً مع مقدار الشغل اللازم لاكتساب حركة الجسم".
يرتكز هذا البحث إذاً على هذا المهاد النظري في سبيل إثبات وجود أسس نظرية كافية لإخضاع المسرح لمناهج العلم. مع الأخذ في الاعتبار أن المقاييس المنهجية التي تصلح في بحث النص المسرحي لا تصلح في بحث العرض المسرحي ، الذي يتغير من تناول إلى تناول آخر حيث القياس يصلح مع ما هو ثابت ومستقر بما هو أكثر منه ثباتاً. فإذا كان النص المسرحي مستقراً في كتاب، فإن العرض المسرحي لا يعرف الاستقرار لأنه تفاعل حي ومتجدد من يوم إلى يوم آخر، ومن رؤية إخراجية إلى رؤية أخرى خاصة عند مغايرة أسلوب الإخراج لأسلوب النص ، ومن أداء إلى أداء آخر ، ومن تلقٍ إلى تلقٍ آخر. إلى جانب دخول عناصر إضافية غير كلامية في نسيج العرض المسرحي مما يحير الباحث المسرحي ما بين المنهج الإحصائي والمنهج المعياري وصولاً إلى استدلالات ونتائج يمكن الوثوق بها ذلك أن الاستدلال القائم على الشواهد وعلى التجربة هو مرآة الحقيقة ، ومتى خوى البحث من الاستدلال خوى البحث من الحقيقة.
أولاً : البحث المسرحي بين المنهج الاستنباطي والمنهج التجريبي

المنهج مجموعة من العمليات الذهنية تتيح تحليل الواقع وفهمه وتفسيره. ويعد المنهج جوهر العلم ، وبدونه لا تصحح المعارف. والمنهج مسار عقلي أو فكري عام يربط بين مجموعة من العمليات الفكرية والفنية . ومنه الاستنباطي ومنه التجريبي. ويتأسس كلا المنهجين على الاستدلال ، فاستدلال أحدهما على حقيقة ما يبحث قائم على الاستنباط الذي ينشغل القياس فيه بنظرية التقدير. أما الآخر فتجريبي استقرائي يعتمد الاستدلال فيه على نظرية الفروض.
أولاً : المنهج الاستنباطي
وهو منهج (مل) ويقوم على الاستنباط قياساً على استقراء الظواهر ، وما بينها من تغيرات ؛ حيث يقاس الغائب على الحاضر ، وغير المعلوم على المعلوم، والمتحرك على الثابت ، فالإلمام بجزء أو بعدد من الأجزاء الظاهرة أو القضية – موضوع البحث – يمكن القياس عليها لاستكمال المعرفة عن الكل المتبقي ، للإلمام بحقيقة الظاهرة كلها أو بأسبابها عن طريق الاستنباط الاستقرائي إلماماً قائماً على التقدير.
نظرية التقدير :عن طريق التقدير يستدل بالجزء الحاضر على الكل الغائب ؛ فما تثبت صحته في جزء من الظاهرة أو القضية تنطبق نتيجته على كل أجزاء تلك الظاهرة أو تلك القضية الملتبسة . فسوء سلوك رجل ما أو فتاة ما في واقعة ما – ولو كانت هي الواقعة الوحيدة التي حدثت منها – يؤخذ قرينة أو دليلاً استنباطياً – حسب توصيفها – على فساد ذلك الرجل أو تلك الفتاة . وهذا المنهج يتخذ بفاعلية في أقسام الشرطة عند غياب التحقق من نسبة جريمة ما إلى شخص بعينه ؛ إذ سريعاً ما تحوم الشبهات حول متهم سابق في دائرة الأمن في المحافظة عينها التي وقعت تلك الجريمة المجهولة نسبتها إلى فاعل معلوم يمكن توجيه الاتهام إليه مما يدفع ضباط المباحث إلى إلصاق الاتهام بأحد المشبوهين الذين سبقت إدانتهم في جريمة مماثلة – حتى وإن كانت صلته بالجرائم قد انتهت وأصبح مواطناً سوياً وصالحاً – ذلك أن الضابط قد استنبط من تشابه ملابسات الجريمة المجهولة الفاعل ؛ مع ملابسات جريمة سابقة مناظرة لها أنه الفاعل فحكم – تقديراً – بصلة ذلك المشبوه بالجريمة – موضوع تحقيقه – ومن ثم قرر اتهامه إذ قدّر عن طريق المقاربة السابقة بين ملابسات مشتركة أو متطابقة بين الجريمة السابقة والجريمة اللاحقة المجهلة أن الفاعل في الجريمة الأولى المنتهية هو نفسه الفاعل في الجريمة الثانية المجهلة الفاعل.
وهذا منهج يقوم على تقدير الضابط بين متشابهات جزئية في معلوم ومعلوم آخر.
على ما تقدم فإن المنهج الاستنباطي يقوم على تقدير صحة الغائب قياساً على حاضر معلوم كما يقوم أيضاً على تقدير متغير متلازم قياساً على توافقه مع متغير آخر إذ يغير كل منها الآخر. فالقياس في كلتا الطريقتين يقوم على الاستنباط.
وينطلق هذا المنهج ارتكازاً على نظرية التقدير عبر طريقتين : طريقة المتخلفات ، وطريقة التغيرات المتلازمة :

أولاً : طريقة المتخلفات :
تأسست هذه الطريقة على أنه " إذا عرفت العوامل المحددة والمسببة لجانب من جوانب ظاهرة معينة، فإن باقي جوانب الظاهرة يمكن إرجاعها إلى العوامل الأخرى المتبقية أو المتخلفة " ومن أمثلتها في الطبيعة رؤية دخان في مكان مكشوف دون رؤية النار التي هي سبب لظهور الدخان. وهي رؤية كيفية تقدر تقديراً عقلياً لغياب صورة الطرف الآخر عن الصورة المرئية وهي النار ، لأن المنطق العقلي يستدل على النار الغائبة عن عين الرائي بظهور مظهر من المظاهر التي لا توجد إلاّ بوجودها.ومن أمثلتها في المسرح استدلال الفلاحين في مسرحية (الأم شجاعة) لبريشت على وجود جنود في قريتهم بسماعهم لصوت قرع الطبلة دون أن يعرفوا من الفاعل ومن ثم قدروا أن عودتهم إلى القرية – مع أن يوم العمل في الحقول قد انتهى – يشكل خطراً عليهم ، إذ يمكن للجند أن يتمكنوا من تجنيدهم تجنيداً إجبارياً في أحد الجيشين المتحاربين.
والخرساء ابنة (الأم شجاعة) حاضرة في قرعها للطبلة فوق سطح أحد منازل الفلاحين وهي في قرعها للطبلة تكشف بتحذيرها للفلاحين عن الحقيقة المؤسسية التي تنتظرهم أي تكشف بفعلها الحاضر عن فعل مضمر – غير ظاهر ولكنها استنبطته بالربط بين وجود الجنود وضابطهم في القرية. وهو يشكل جزءً من حقيقة أنهم جاءوا ليجندوا فلاحي تلك القرية ، قياساً على خبرة سابقة متبقية من متخلفات معرفة سابقة مرت بها هي وأمها ، حيث سحبت قوات المتحاربين أخين لها .. أحدهما في صفوف جيش والآخر في صفوف الجيش الثاني المعادي له . وقد ترتب على ذلك قتل الأخ لأخيه وموتهما معاً.
وهذه الطريقة – نفسها – لاشك وسيلة مناسبة لبحث ظاهرة الاستلهام في مجال المسرح . فعند تعرض باحث ما لظاهرة استلهام التراث كما في مسرحية (الهلالية) ليسري الجندي أو (الفلاح عبد المطيع) للسيد حافظ أو (ديوان البقر) للسلاموني . أو إعادة إنتاج حدث تاريخي إنتاجاً مسرحياً كما حدث في (سليمان الحلبي) لألفريد فرج ، فإن (طريقة المتخلفات) هي لاشك الطريقة المناسبة لبحثه لأنه عند القياس وصولاً إلى الاستدلال على مواطن الاستلهام ، أو عن منبع الإبداع فيما أعيد إنتاجه عبر النص المسرحي ؛ لابد وأن يقف الباحث على المتن التراثي ليكشف عما فيه مما يغاير المعالجة الاستلهامية والإبداعية (حدودها وقيمتها وأثرها في تأكيد الهوية) . ففي نص مسرحية السيد حافظ (حكاية الفلاح عبد المطيع) نرى فلاحاً تعتقله شرطة (الظاهر بيبرس) لأنه خالف أمر السلطان القاضي بارتداء أهل مصر الملابس السوداء حزناً على الرمد الذي أصاب عيني السلطان ومن ثم صدر فرمانه بإلزامهم بطلاء منازلهم باللون الأسود ... ومع ذلك ظهر الفلاح بثوب أبيض ، كما أن مسكنه مطلي باللون الأبيض . وهذا مخالف لأوامره ، وعندما تشفى عينا السلطان يؤمر أهل مصر بارتداء الزي الأبيض وطلاء المساكن بطلاء أبيض ، ومن ثم يطلق سراح الفلاح عبد المطيع. فإذا به خشية أن يعاد اعتقاله يرتدي زياً أسود ويطلي مسكنه بطلاء أسود ؛ ذلك أنه لم يكن يعلم بتغير الأمر السلطاني بشفاء السلطان. وهنا يعاد إلى السجن.
ولكي يتحقق الباحث من نسبة تلك الحكاية إلى عصر "الظاهر بيبرس" عليه الرجوع إلى مصادر التاريخ في حقبة حكم الظاهر بيبرس وعندها سوف لا يجد أثراً يشهد بحدوثها في فترة حكمه وهنا يصاب الباحث بالحيرة. ويكتشف أن عليه النبش في وقائع التاريخ المملوكي ؛ ليصل إلى طريق مسدود.
فالحادثة المستلهمة لا أثر لها في تاريخ الظاهر بيبرس ولا في التاريخ المملوكي . وحيرة الباحث هنا نابعة من أن الكاتب المسرحي الذي وظّف هذه الحادثة محوراً لحبكته المسرحية لم يشر إلى مصدر استلهامه كما أن الحادثة التي نسبها إلى الظاهر بيبرس لم تحدث على الإطلاق فيما ثبت من تاريخ المماليك. غير أن دأب الباحث يستطيع في النهاية بعد جهد بحثي أن يكتشف أن تلك الحادثة مستلهمة من حكايات (ألف ليلة وليلة) وأن الكاتب أعاد إنتاجها واللافت هنا المراد التنبيه إليه أن الباحث في قياسه الاستدلالي يقيس الاستلهام الحاضر في إبداع المؤلف المستلهم للحادثة التراثية ، أنه يقيس الحدث المستلهم على متخلفات تراثية في إحدى حكايات شهرزاد في لياليها الواحدة بعد الألف.
ثانياً : طريقة التغيرات المتلازمة :
يرى "مل" أن هذه الطريقة تستخدم في الحالات التي لا تصلح فيها الطرق السابقة . وتتلخص في أنه عند تغير شيئين بصفة متوافقة ومتلازمة ؛ فإما أن تكون التغيرات الحادثة في أحدها سببها التغيرات الحادثة في الأخرى؛ وإما أن يكون التغير في كليهما قد حدث نتيجة عامل مشترك بينهما. وقد استشهد (مل) على هذا المبدأ بتأثير جاذبية القمر على ظاهرة المد والجزر في الأرض . وبما أنه لا يمكن تناول القمر من الناحية التجريبية ، كإزالته مثلاً من على مسرح الأحداث لمعرفة ماذا سينتج عندما يختفي من الوجود؛ فإن طريقة التوافق أو طريقة التباين لا تصلحان في هذا المجال. وإن الطريقة المثلى لدراسة كهذه هي طريقة التغيرات المتلازمة. وذلك بمقارنة التغيرات في عملية المد والجزر بالتغيرات في موقع القمر بالنسبة للأرض ، يتبعه تغير في وقت المد العالي ، والمنخفض ، ومكانه في جهات الأرض المختلفة ، مع حدوث المد العالي دائماً في ذلك المكان من الأرض ، القريب من القمر ، والذي يقع في الجانب المواجه مباشرة.
ومن هذه الملاحظات يمكن استنتاج ثلاثة أمور :
الاستنتاج الأول : أن المد يؤثر في حركة القمر
الاستنتاج الثاني : أن حركة القمر أو تغير الموقع الذي يمارس فيه جاذبيته يرفع المد.
الاستنتاج الثالث: أن التغيرات الحادثة في موقع القمر وفي المد . متأثرة جميعها بعامل آخر مشترك بين الاثنين"
ولو وقفنا وقفة بحث منهجي عند البناء الدرامي المتوازي في بعض النصوص المسرحية مثل (الملك لير) أو عند مسرحية شوقي الشعرية (مصرع كليوباترا) أو وقفنا عند البناء الدرامي المتوازي في مسرحية ألفريد فرج (سليمان الحلبي) لوجدنا أن المنهج الاستنباطي بطريقة التغيرات المتلازمة هو الأصلح للاستدلال على طبيعة التغيرات الحادثة في مصر إبان سيطرة الحملة الفرنسية على مقدراتها . ففي الحدث الموازي الذي رسمه ألفريد فرج بابتكار شخصية من خياله وهي شخصية (حداية الأعرج) – الذي لقب نفسه بلقب ساري عسكر حداية مجارياً به لقب كليبر ساري عسكر فرنسيس – ليكشف عن تلازم نهب عصابة الداخل (حداية وعصابته) مع نهب عصابة الخارج (كليبر وضباطه) لثروات مصر. فالمحتل الفرنسي يهرب رصيد الذهب المصري إلى فرنسا وعصابة حداية تقطع الطريق على كل عابر سبيل يدخل أو يخرج من الحدود المصرية فهذا الحدث متلازم ما بين النهب الأجنبي المحتل لممتلكات الأمة من ثرواتها النفيسة ذهباً والحرابة الداخلية. فوجود المحتل الفرنسي عامل أدى إلى مقاومة الوطنيين المصريين له أي أنه أوجد عاملاً آخر في مواجهته. ونهب الجيش الفرنسي لذهب الأمة المصرية عامل أدى إلى نهب عصابات الحرابة وقطع الطريق على الآمنين وترويعهم في أنفسهم وفي أموالهم . وكلا العاملين متلازمين في الفعل أو الحدوث ، فإذا أراد الباحث أن يستدل على سبب حدوث حالات الحرابة في الداخل ، لزم أن يرجع إلى حدوث حالات تهريب ذهب مصر وثرواتها إلى خارج البلاد ، فالعامل على نشاط حركة الحرابة هو نهب كليبر وضباطه لرصيد مصر من الذهب ، ذلك الذي افتضح أمره عندما سقط من عمال الميناء صندوق كلفوا بحمله إلى سفينة حربية فرنسية راسية في ميناء الإسكندرية فتفسخت ألواحه وبعثرت حوله على رصيف الميناء سبائك الذهب . فالنهب الأجنبي الغازي أثر في خلق عصابات قطع الطرق. أما العامل على نشاط حركة الشعب المصري بقيادة أزهرية فكان وجود الاحتلال الفرنسي نفسه وضرورة مقاومته ؛ فالاحتلال يفعّل المقاومة الوطنية. والأمر نفسه يمكن قياسه على الواقع العراقي اليوم وما يتلازم فيه من مقاومة للمحتل الأجنبي بقيادة أمريكا .

النظرية السيميولوجية والمنهج الاستنباطي

لكل منهج من المنهجين الاستنباطي والتجريبي عدد من النظريات التي تمثل اتجاه ذلك المنهج فللمنهج التجريبي نظريات تتفرع عنه وللمنهج الاستنباطي نظريات منها :
النظرية السيميولوجية : ومنطلقاتها استنباطية لاعتمادها على كشف حقيقة الغائب عن طريق الدال الجزئي وصولاً إلى الدلالة الكلية أو من البنية الصغرى للمنتج الإبداعي إلى البنية الكبرى لذلك الإبداع نفسه وهو استدلال معياري لأنه تأسس على مقابلة بنية صغرى (دال signifier) ببنية أخرى سواء أكانت المنظومة تنطبق عليها (إشارية أم رمزية أم أيقونية) ثم مقابلة كل منظومة من منظومات العلامات في البنى الصغرى بغيرها من المنظومات العلاماتية المجاورة وضمها في إطار منظومة علاماتية أكبر فيما يعرف بالعلامة الميتاتياترية أو الميتا لغوية ، ليتسنى للباحث بعد ذلك كله أن يصل إلى استنتاج دلالة البنية الكبرى الكلية للإبداع – موضوع البحث- .
وللتمثيل على ذلك نورد هذه الحكاية القصيرة حول إعرابي شرد بعيره فدار يبحث عنه في صحراء معشبة وفي أثناء بحثه الحائر اصطدم بثلاثة رجال فأخذ يسألهم عن بعيره الشارد فسأله أولهم : هل هو أظلع (أعرج) ؟
الإعرابي : نعم . نعم . أين وجدته بحق الله (لا يتلقى إجابة)
الثاني: (يبادره) هل هو أعور ؟
الإعرابي : نعم هو كذلك أين هو ؟ (لا يتلقى إجابة)
الثالث : (يبادره) هل هو أزعر ؟
الإعرابي : نعم يا أخي نعم . هو أزعر بالله عليكم دلوني على مكانه
الثلاثة : لكننا لا نعرف مكانه
الإعرابي: (بدهشة) لا تعرفون مكانه ؟! ولكنكم وصفتموه وصفاً دقيقاً
فكيف أصدق أنكم لا تعرفون أين هو وقد رأيتموه
الثلاثة : ولكننا لم نره !!
الإعرابي : وكيف وصفتموه لي إذن بتلك الدقة ؟
الأول : رأيت آثار ثلاثة أقدام على الرمل ولم يظهر أثر لقدم رابع عليها فعرفت أن بعيرك أظلع.
الثاني : رأيت أن العشب على جانب من الطريق مجتثة بينما العشب على جانبه الآخر على حالها
فعرفت أن بعيرك أكل العشب من ناحية عينه التي يرى بها
الثالث : رأيت البعر منثوراً في وسط الطريق على خط واحد ،
فلو كان لبعيرك ذيل لكان قد حرّكه يمنة ويسرة لينثر البعر على جانبي الطريق" .
إذن فقد استدل ثلاثة الرجال على البعير الغائب عن صاحبه عن طريق علامات رأوها مرأى العين وهو وإن كان استدلالاً بالحاضر على الغائب ؛ إلا أن الحاضر (العلامات) مكتشفة اكتشافاًَ حضورياً ولم تكن متحصلة من قبل ضمن خبرات سابقة للرجال الثلاثة هو استدلال بالمعاينة كاستدلال هاملت على الشبح استدلالا مادياً ، بعد استدلاله الذي أبلغ به عن طريق شهادة الحارسين مرسلس وبرناردو مؤكدة قولاً نقلياً بشهادة صديقة هوراشيو. فشهادة الثلاثة دليلاً نقلياً حاضراً على وجود شيء عاينوه لكنه ما يزال غائباً عند هاملت وبذلك يصبح الاستدلال بالنسبة إليه استنباطياً لو كان قد أخذ به ، على حين أن الاستدلال نفسه بالنسبة إلى كل من هوراشيو ومرسلس وبرناردو هو استدلال تجريبي ، لأنه استدلال الحاضر على حاضر (مستحضر حضوراً ميتافيزيقياً).

ثانياً : المنهج التجريبي
يعالج هذا المنهج مسألة السببية والنتيجة . ذلك أن كل تجربة مهما اختلفت في نوعها إنما تستهدف الكشف عن علاقة نتيجة ما بأسبابها. وهو يتمثل في (النيوتنية) خير تمثيل كما يتمثل في (الفيثاغوراسية) ويتركز البحث بوساطته في المصادر الذاتية لحركة تطور الموضوع المعروض على البحث ودوافع تلك الحركة . كما يرتكز هذا المنهج على نظرية الفروض وسيلة لإثبات حقائق تتحول إلى قوانين حالة تحققها.
نظرية الفروض :
والفروض حلول مؤقتة أو تفسيرات مؤقتة يصطنعها الباحث لحل إشكالية البحث (منطومة مشكلاته) وهو بمثابة إجابة محتملة عن أسئلة البحث أو إشكاليته. وتمثل الفروض علاقة بين متغيرين أحدهما متغير مستقل والآخر متغير تابع إذ أن زيادة ما في أحد المتغيرين تكون مصحوبة بنقص عند المتغير الآخر.
وتنقسم الفروض إلى نوعين : فرض مباشر – فرض صفري
أولاً : الفرض المباشر : تنبع ضرورته عند البحث حالة وجود علاقة غير مثبتة بين متغيرين.
وتمثيلاً لذلك يمكن الوقوف عند البحث عن علاقة فساد صناعة الأغذية في مصر بعد عام 1967 أو بعد حرب 1973 أو انحطاط العروض المسرحية في التسعينات وما تلاها من السنين.
ثانياً : الفرض الصفري : يصطنعه الباحث حالة انتفاء وجود علاقة بين المتغيرين.
كصناعة الغناء أو صناعة المسرح أو السينما أو النقد أو الميديا في مصر – مثلاً – بين الصعود والهبوط – فالعلاقة غائبة في الحالتين فالمنتج الفني تغير علواً أو هبوطاً والمتلقي تغير والعلاقة غائبة هل لتغير الصناعة – موضوعاً – ( من الناحية الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية والثقافية – التفاعلية الجماهيرية ) أو لتغير المبدعين أنفسهم ؟
" والتجريب في مضمونه العام هو تقديم لتأثير عامل أو عدد من العوامل على ظاهرة ما "
ويعتمد المنهج التجريبي على عاملين هما : العامل المتغير المستقل – العامل المتغير المعتمد .
أولاً : العامل المتغير المستقل :
هو العامل المؤثر على غيره من العوامل. ومثاله في المسرح الإخراج المفسر للنص المسرحي فالتغير من متحفية النص المسرحي إلى بعث الشخصيات ليس كما خلفها إبداع المؤلف ولكن وفق رؤية تفسيرية أو تفكيكية لخطاب النص لتعطي الشخصيات عبر الأداء المبدع للممثلين وللمعادل المرئي للرؤية الإخراجية دلالات متعددة لدى الجمهور . ومثاله في النص المسرحي تحول شخصية "ليزي" في مسرحية سارتر من كونها (مومس) إلى إنسانة فاضلة على الرغم من الضغوط الرهيبة وأساليب الجبر الاجتماعي الطبقي الذي مارسه عليها عضو الكونجرس ليرغمها على تغيير شهادتها ليتحول الاتهام بقتل زنجي من ابن أخته إلى زنجي آخر بريء فـ(ليزي) تتغير من حالة جبر اجتماعي طبقي ألقى بها في مستنقع الرذيلة إلى حالة اختيار وحرية في اتخاذ القرار النابع من ذاتها بإزاء موقف ما في مواجهة الآخر الباطش وبذلك جاء تغيرها وفق عامل ذاتي مستقل. ومثاله أيضاً شخصية (سليمان الحلبي) فقراره باغتيال كليبر نتاج عامل متغير مستقل لأنه نابع من إرادته هو نفسه بديلاً عن أمته وحضارتها في مواجهة الآخر ممثل المدنية الغربية . لقد تحول من طالب علم إلى طالب ثائر لكرامة الأمة وللحضارة الإسلامية كلها.
ومثاله شخصية (أنتيجوني) وإنزالها لجثة أخيها (بولينيكس) ونثرها لحفنة تراب على الجثة مخالفة لقرار خالها الحاكم كريون تحقيقاً لشعيرة دينية وسلوك غريزي كوني.
ثانياً : العامل المتغير المعتمد :
وهو الذي يعتمد على العامل المتغير المستقل . ومثاله فرار (أنطونيو) بسفينته أو بنفسه من معركة (أكتيوم) خلف سفينة كليوباترا التي انسحبت ، ومثاله (أوديب) في حادثة قتله لأبيه وزواجه من أمه دون أن يعلم ، ففعله قام على عامل متغير معتمد على ما قررته الآلهة في الغيب – حتى وإن ظن هو في قرارة نفسه قبل أن يصدمه الكاهن تيريزياس بالحقيقة – كذلك فقأه ليعينيه كان عاملاًُ متغيراً معتمداً على عامل آخر هو معرفته لحقيقة كونه السبب الأوحد في الطاعون الذي أصاب (أبناء كادموس) وتفشى في طيبة كلها.
ومثاله (عطيل) فكل أفعاله ردود أفعال لدسيسة (ياجو) فهي عوامل متغيرة معتمدة على عوامل متغيرة مستقلة لياجو فهي أحداث مدفوعة بتأثير من أفعال ياجو أو هي (تغذية راجعة) للتغذية المعلوماتية المغلوطة والمغرضة لياجو. وكذلك أفعال الخادم (جان) مع سيدته (جوليا) في مسرحية سترندبرج لأن تجرؤه عليها وإن كان في أحد أبعاده نابعاً من طموحه الذاتي الزائد عن الحد في التغير من طبقته صعوداً على جسدها إلى الطبقة العليا إلاّ أنه اعتمد على عامل متغير مستقل خاص بها فلقد تغيرت في سلوكهامع الخدم من سيدة القصر إلى مجرد فتاة لاهية متبسطة مع الخدم إلى حد الابتذال ، لذلك اعتمد تغير جان على عامل تغير جوليا المستقل.
تتحصل النتائج بالمنهج التجريبي محمولة على أسبابها من خلال التجربة العملية التي يجريها الباحث وقد عرف هذا المنهج عند الحسن بن الهيثم في مصر قبل أن يمارسه فرانسيس بيكون الذي عاصر شكسبير وتوفى بعده بثماني سنوات (1624م)
ولو رجعنا إلى سقوط (جوليا) سنجده – أيضاً - نتيجة محمولة على عامل الغواية وهو عامل مستقل متفاعل مع عامل خديعة من خادمها معتمد على غوايتها (عبثها غير المسؤول) فالغواية كانت سبباً لتجرؤ الخادم وتعديه ، والعبث نفسه محمول على خلل العلاقة التربوية ؛ فالأم متوفاة والوالد لا يكاد يلقاها والهوة بينهما واسعة والذاكرة فاعلة في حاضرها حيث يتشخص ماضي الأم أمامها متفاعلاً مع الوسط البيئي فتتعمق عزلتها واغترابها وتتكشف حدته على المستويين الذاتي والرمزي حيث يصبح الاغتراب ماثلاً بين نماذج طبقية تتمثل في نموذج طبقة السادة متمثلة في الكونت ونموذج طبقة الفقراء والرعاع ممثلة في أمها – والنتيجة النهائية هي وقوعها بين غربتين – غربتها عن أبيها بصفتيه الأبوية والطبقية وغربتها عن أمها وعن أصولها الطبقية . ذلك أنها فقدت أمها بموتها وأبعدتها حياة السادة في القصر عن جذور طبقة أمها فهي تمد جذورها الطبقية في تربتين طبقيتين متعارضتين ، ولكن دون غوص في أعماق هذه التربة أو تلك ؛ لذلك اقتلعتها رياح الرغبة المدمرة للذات بوصفها طبقة ؛ بأسرع مما كانت تتصور . ولم يعد الأمر مجرد سقوط أخلاقي ، بل تحول إلى سقوط اضطراري من عالم الأحياء نتيجة سقوطها الأخلاقي على مستويين اجتماعيين.
انساقت جولي لاشعورياً نحو تجربة مقاربة انتماء لطبقة أمها ولترد لأمها – بوصفها ممثلة للطبقة الأدنى – اعتبارها الذي داسته قدم طبقة أبيها الحديدية ؛ فأوقعت نفسها بإرادتها تحت قدمي خادمها الطينية.
وإذا كانت أمها قد أهينت حين اغتصبها سيدها الكونت وأنجبت جوليا ؛ فإن جوليا هي التي أهانت ذاتها ؛ لأنها في واقع الأمر قد اغتصبت خادمها علانية.
ولقد اثبتت لنا تجربتها تأثير جينات الوراثة فما حدث من أبيها على أمها – خادمته آنذاك- حدث على خادمها جان؛ فالسيد في كلا الحالتين كان هو الفاعل المتغير المستقل – سواء تمثل ذلك السيد في (الكونت والدها) أو تمثل في جولي نفسها ، غير أن جولي نفسها كانت عاملاً متغيراً مستقلاً وعاملاً متغيراً معتمداً في آن واحد لأن غوايتها المعلنة لخادمها أثرت على غوايته المستترة لها ، فغوايته اعتمدت على غوايتها له. فهي شخصية مركبة، تحمل الصفات الوراثية من الأب والأم من ناحية والصفات الوراثية لطبقة السادة وللطبقة الدنيا في شريحتها المتدنية (عناصر بيئية).

ثانياً : المسرح والتفاعل الاتصالي
بين التوظيف الإبداعي والتوظيف العلمي للمعرفة
بداهة القول أن المسرح شأنه شأن كل وسائل الاتصال وفنونه يستهدف تحقيق أثر ما غير أنه شأن كل فن يتوسل بعناصر الإقناع ؛ متوارياً خلف قناع الإمتاع . من هنا يتفاوت الأثر الاتصالي للتعبير المسرحي communicative effect تبعاً لتفاوت عناصر الإقناع والإمتاع في الحدث الاتصالي الواحد ما بين موقف وآخر ، ولكن يظل لكل حدث آثاره الظاهرة أو المستترة ؛ تبعاً للمعارف التي تأسس عليها التعبير وتبعاً لطريقة إرسالها وطريقة استقبالها . وتتمثل تلك الآثار الاتصالية للتعبير المسرحي وغير المسرحي في (المعرفة والعاطفة والإدراك) وللتعرف على حدود التأثير يلزم التعرف على ماهية المعرفة التي يرسلها النص أو العرض وماهية العاطفة ثم كيفية إرسالها وكيفية إدراكها أو تلقيها . وهنا يمكن الاستعانة بتصورات كيبلر للآثار الاتصالية .
أولاً : الأثر المعرفي cognitive : هو كل اكتساب ذهني لمعرفة أو معلومة أو مهارة أو أداة كنتيجة للتفاعل مع الآخرين أو بسبب التعرض لرسالة اتصالية جماهيرية أو عامة كرسالة شعب طيبة (خطابهم) لأوديب في افتتاحية مسرحية سوفوكليس . ورسالة العلماء في (علماء الطبيعة) لدورينمات ، ورسالة جند أمريكا في فيتنام في مسرحية (ثورة الموتى) للسلطات وللإعلام الأمريكي .
ثانياً : الأثر العاطفي affective : وهو ما يعرف بالمشاعر والعواطف الذاتية الناتجة عن الفعل الاتصالي. مثل مشاعر الحب والكراهية وما يخالج ذواتنا عند التعرض لمضامين الرسائل الاتصالية كرسالة " جولييت" ورسالة "روميو" في خطابي المناجاة الغرامية أو كخطاب "قيس" لليلى وخطابها الغرامي له . وكخطاب "ماكدوف" الدرامي العاكس لمشاعر الكراهية المتبادلة بينه وبين "ماكبث" . أو خطاب الكراهية التي يبذرها "ياجو" في طريق سعادة "عطيل وديدمونه". أو كتلك التي تتأرجح دون أن تبدي حباً أو كراهية كما هي حال هاملت بإزاء كل من في (إليسنور) أو مشاعر كراهية " شايلوك " للبشر في " تاجر البندقية " أو تلك التي تظهرها " ميديا " لجاسون أو مشاعر الاحتقار المتبادل بين كريستيانو وزوجته "كيارا" في مسرحية " القفص " لفراتي " .
ثالثاً : الأثر الإدراكي Perceptual motor skills: ويتمثل في الاستجابة الجسدية واللفظية تجاه الرسائل الاتصالية ومضامينها . إذ تتفاوت استجاباتنا للرسائل الاتصالية بحسب الأثر الذي تخلفه في وجداناتنا كأفراد فقد تكون الاستجابة جزئية محصورة في نطاق المعرفة فحسب كتلك التي نراها في نهاية حوارية (السلطان والغانية) في مسرحية توفيق الحكيم حيث تقتنع (الغانية) بحجة السلطان حفاظاً على هيبة رمز الدولة بضرورة توقيعها لحجة عتقه وفق شرط قبول دعوتها بأن ينزل ضيفاً في بيتها لليلة واحدة حتى مطلع الفجر كحل وسط يرضيه ويرضيها :
" شرفني بقبول دعوتي وكن ضيفي حتى مطلع الفجر
فإذا أذن المؤذن لصلاة الفجر من فوق مئذنته هذه فإني
أوقع حجة العتق ، ويصبح مولاي السلطان السلطان حراً طليقاً "
وكقول (الحكيم الثاني) في مسرحية (مؤتمر غاسلي الأدمغة)
" من سمع بجيش كسب معركة في جو من الحرية الكاملة "
والأثر الإدراكي ماثل أيضاً في موقف التاجر من الدليل ومن الأجير عند بريشت في (القاعدة والاستثناء) وفي موقف "ليزي" عند سارتر في (المومس الفاضلة) .
وقد نتعرض لرسائل اتصالية تحفزنا على الاستجابة على كل المستويات . وهذه الاستجابات الثلاث على اختلافها تبعاً لمضمون كل منها ولطريقة العرض تحرك معارف البعض ثباتاً أو إضافة أو حذفاً وتحرك سلوك البعض إيجاباً أو سلباً وتحرك إدراك البعض قبولاً أو رفضاً ؛ فالاستجابة في مجملها موقف قد يكون إدراكياً سبيله المعرفة أو يكون عاطفياً سبيله الوجدان الفردي
أخلص مما تقدم إلى أن الاتصال عبر التعبير المسرحي شأنه شأن اتصال البشر بعضهم بعضاً ، غير أنه اتصال يجسد حالة من حالات الصراع بحثاًَ عن حاجة أو عن معنى أو تغليباً لقيمة ما أو معنى ما أو حاجة ما على أخرى ؛ فهو اتصال بشري متناقض الأهداف أو متقارب الأهداف ومتقاطع في آن واحد . وقد يكون اتصالاً سلبياً في الغالب حتى تتحقق خاصية الدراما . غير أنه مقيد في كل الأحوال بعدد من المبادئ حيث يتصف بالدينامية وبالحتمية وبالتطور وبالرمزية وبالتفاعلية.

المسرح ومبادئ الاتصال الجماهيري :
أولاً : الدينامية :
إن اتصال البشر في مجمله ليس إلاّ بحثاً عن المعنى Meaning المتأصل في ذواتهم ككيانات واعية، أي عن هوية الذات الفردية أو عن هوية الذات الفردية في إطار الذات القومية . وهو فعل دائم التغيير Dynamic بوصفه نشاطاً حركياً متسلسلاً ضمن منظومة واحدة . ومعنى ذلك أن أي تغيير يحدث في أي عنصر من عناصر تلك المنظومة التعبيرية الاتصالية سيؤدي إلى تغيير في علاقة عناصر تلك المنظومة بعضها بعضاً . وعن طريق ذلك النشاط الحركي المتناغم في تطوره بحكم عدم استقرار عناصر المنظومة الاتصالية تتم المحافظة على هوية التفاعل الاتصالي . فالفعل الاتصالي تعبيرياً كان أم تشكيلياً أم إعلامياً يأخذ أشكالاً وتعبيرات متعددة ذات إيقاعات متناغمة تتوافق مع التوقعات الآنية – غالباً – والخبرات السابقة للأطراف المنخرطة في الحدث نفسه .
إن دينامية الاتصال لا تقتصر على تفاعل ذات فردية بذات فردية أو ذوات اجتماعية حاضرة أو غائبة ، حقيقية أو متوهمة أو متخيلة ولكن دينامية التفاعل الاتصالي قد تقتصر على ذات فردية مع نفسها في المسرح وتتضح صورة ذلك في فن (المناجاة) حيث تعبر الشخصية في موقف انفرادي عن شعور بعينه فبعد وصول الصراع بداخلها إلى منتهاه – قبل ظهورها في المشهد المسرحي منفردة التعبير – بحيث يكون خطابها إعلاناً وجدانياً عن النتيجة التي تمخضت عن صراع ذاتها مع ذاتها خارج الصورة المسرحية المجسدة في المنظر المسرحي – بسبب حدوثها في الماضي – كما تتضح صورة ذلك التفاعل الاتصالي الدينامي أيضاً في فن (المونولوج المسرحي) حيث يتجسد تعبير الشخصية عن صراع مشاعرها مع إرادتها تجسيداً حاضراً (صوتاً وحركة) أمام الجمهور وصولاً إلى انتصار مشاعرها على إرادتها . وتتضح كذلك فيما يعرف بالمونودراما أو مسرحية (الممثل الواحد) حيث يكون على ممثل واحد إعادة تصوير عمليات التفاعل الاتصالي بين أكثر من شخصية درامية بأدواتها التعبيرية بالمحاكاة الصوتية والحركية والشعورية محاكاة جزئية .

ثانياً : الحتمية :
تتسم العملية الاتصالية سواء أكانت تعبيرية أم تشكيلية أم إعلامية بالقصدية Internationality حتى مع وجود حالات قسرية كما في حالة (هاملت) مع عمه (كلوديوس) أو مع أمه ( جرترود) أو مع (بولونيوس) مستشار عمه الملك ووالد حبيبته ( أوفيليا ) أو كما هي حال بطل مسرحية (اغتصاب) الفلسطيني مع الإرهابي الصهيوني (جدعون) في مسرحية سعد الله ونوس
وكما في مسرحية ( قصة حديقة الحيوان) لإدوارد ألبي حيث يفرض شخص ما على شخص آخر نفسه، حينما يجلس إلى جواره على مقعد في حديقة عامة دون أن تكون بينهما أية علاقة ويجبره على التحدث معه ثم يقتله بطعنة سكين في النهاية دون أي مبرر أو دافع واضح أو منطق ما . وكما في حالة ( أنتيجوني) مع خالها الحاكم (كريون) وكما في حالة (إلكترا) مع أمها (كليتيمنسترا) عند سوفوكليس
ومعنى ذلك أن رفض الاتصال ليس إلاّ اتصالاً . ومثال ذلك مسرحية سارتر (الأبواب المغلقة) حيث تجد الشخصيات الثلاث في المسرحية أنفسهم مضطرين أو مجبرين جبراً وجودياً بحكم وجودهم في غرفة واحدة محكمة الإغلاق دون أية إمكانية للخروج ، يجدون أنفسهم مجبرين على الاتصال معاً كل في حدود حفاظه على حريته مع التزامه بالمحافظة على حرية الآخرين ، وإلاّ أصبح الوجود جحيماً لا يطاق.
آنية الاتصال :
في عملية الاتصال سواء اتخذت الألفاظ أو الحركات أو الإشارات والإيماءات وسائل لتجسيد الاتصال ، فإن الاتصال يتحقق أو يتم ويستقبل في آن واحد أي في حالة حضور الرسالة والاستقبال في آن واحد معاً . ففي المسرح يتم عرض المسرحية في جو من التفاعل الوجداني أو الإدراكي والوجداني معاً بين الحدث على المنصة والجمهور في قاعة العرض ، حتى مع أن الاتصال الإعلامي الصحافي أو الإذاعي أو التلفازي والسينمائي يتم عبر وسيط إلاّ أنه اتصال آني أيضاً بمعنى أن الاتصال لا يتحقق إلاّ حالة تلقي الرسالة (شكلاً ومحتوى) إدراكاً وتفسيراً عبر تفاعل حاضر بين الإرسال والاستقبال أو عبر وسيط إعلامي أو سينمائي أو مسرحي – أحياناً عبر التلفاز –
ويحضرني في هذا الخصوص طلباً تلقيته في العام الماضي من قناة النيل الثقافية لنقد عرض مسرحي تجريبي لفرقة مجرية ليذاع ضمن برنامج (المسرح التجريبي) ولم أكن قد شاهدت العرض حينما عرض على أحد مسارح القاهرة في إطار فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الخامسة عشرة (2003) واقترح مخرج البرنامج عليّ أن أشاهده من خلال عرضه عن طريق الفيديو بمبنى التليفزيون قبل الانتقال إلى دار أوبرا القاهرة لتسجيل حلقة نقدية عن تلك المسرحية معي . وقد كان أن شاهدت عرض ( كم أنت أحمق يا حبيبي ) للفرقة المجرية . وأزعم أن نقدي لذلك العرض كان أكثر توفيقاً مما لو كنت شاهدته مباشرة معروضاً على المنصة المسرحية . ذلك ربما لإحساسي أن تلك المسرحية تعرض لي وحدي . ومن ناحية أخرى ربما تكون الأهم وهي قوة تركيزي لإحساسي بالمسؤولية ولإمكان استيقاف العرض وإرجاع لقطة مضت ثم إعادة العرض واستكماله . وأذكر أنني ركزت في نقدي على العلامات وربط بعضها بعضاً لاستخلاص الدلالات الدرامية والقيم الجمالية. فالعرض يكاد يكون بلا مناظر فلا شيء على المسرح سوى مشجب قائم إلى يمين وسط الفضاء المنظري علقت عليه حلة لرجل وطرحة زفاف نسوية وفي خشبة المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية تتدلى ستارتان بيضاوتان متجاورتان من خشبة تعليق المناظر إلى الأرضية وبقعتان ضوئيتان تضاء إحداهما بالتركيز على ممثل أو مؤدٍ صامتٍ يتحرك معبراً بلغة الجسد عن انطلاق شبابي متحرر ومتدفق وحيوي بما يشي بحالة السعادة التي يعيشها وفجأة وهو على تلك الحال تظهر من خلفه فتاة ممشوقة ويافعة متحررة الحركة وتتدفق حيوية وخفه ، لتشاغله فيتحول المونولوج الحركي إلى ديالوج بينهما ، يبدأ متسللاً وناعماً وانسيابياًُ بما يعكس رومنسية الموقف ، لتتدرج الحركة من التلامس عن بعد إلى الاحتكاك والتشابك الجسدي السريع فتبديل الملابس البسيطة إلى ملابس زفاف أمام الجمهور من فوق المشجب المخصص لكل منهما وصولاً إلى الصعود إلى عمق الفضاء المنظري ليفلت كل منهما إحدى الستارتين من عقدتها ويقف خلفها مختبئاً أو متحرجاً فلا يظهر منه سوى وجهه ظهوراً سريعاً لمرة أو أكثر وتلك دلالة احتماء كل منهما في سكنه فالستارة حلت محل سكن كل منهما أي يخرج كل منهما من وحدته ويتقاربان ، ثم يكشف كل منهما نفسه للآخر رويداً رويداً ثم يعقدان الستارتين من طرفيهما السفليين ويجلسها عليها أرجوحة وظهرها نحو الجمهور وهو إلى جوار الستارة المعقودة من أسفلها مع الستارة الأخرى ، بما يفيد حدوث الارتباط بينهما وهنا يدفعها وهي متشبثة في جلستها بطرفي الستارتين بيديها لتتحول الستارة المزدوجة إلى أرجوحة ، ثم يتسلق هو الستارتين بعد أن جدلهما بحركة دائرية سريعة ليصبح جلوس العروس المتأرجحة في سعادة في داخل حلقة وهو مستمر في تسلق الستارة المجدولة ليصل إلى أعلى سقف المسرح حيث بداية ارتباطها بشبكة التعليق (السوفيتا) ومع حركة تسلقه المتتابع وعلوه تتدرج الإضاءة الحمراء من أسفل إلى أعلى بما يشي بدلالة وصوله إلى أعلى درجات الانتشاء أو السيطرة العاطفية أو الجنسية . كذلك لدلالة على أن ارتباطهما متصل بالسمو والشرعية ، إلى جانب كونه في ارتقائه الستار المجدولة أو الموحدة إلى منتهاها دليل على سيطرته كرجل . وما أن يصل إلى قمة الانتشاء والسيطرة ، ينزلق على الستارة لأسفل ليجلس على فخذيها ويتأرجحان مع خفوت الإضاءة الحمراء المتوهجة بأعلى الستارة لتتبادل هي عملية تسلق الستارة المجدولة حتى قمتها مع التدرج المتصاعد للإضاءة الحمراء حماراً قانياً لتشي بالدلالة السابقة نفسها (قمة الانتشاء والتوهج العاطفي ) في حين يجلس الشاب (الزوج) مكانها متأرجحاً ، وحين ذاك تنزلق الفتاة (الزوجة) لتجد نفسها جالسة على فخذيه وتعنف حركة التأرجح وبعد فترة وجيزة يتحرك الزوجان فيغير كل منهما ملبسه إلى الحالة الأولى في ديالوج يجسد الحياة المنزلية اليومية وربما حياة العمل إذ يذهب كل من الزوجين لممارسة عمل ما وتتجسد تلك الدلالة بحركة آلية متكررة إذ يمسك كل منهما بمطرقة متوسطة ويقفان متجاورين كل منهما في اتجاه معاكس لاتجاه الآخر وجهه إلى عمق خلفية المنظر (نحو الستارة المعقود طرفيها ) ووجهها نحو الجمهور ويحرك كل منهما ذراعه بالمطرقة التي في يده حركة آلية متعاكسة وذات إيقاع حركي متناظر دون أن تصطك مطرقة بأخرى . وبعد وقت قصير يبدأ الاصطكاك المتعمد لمطرقتها بمطرقة زوجها ، دليلاً على بداية ظهور المشكلات أو التحرشات البيتية، وبعد قليل تترك للزوج مطرقتها فيحرك يده بالمطرقتين معاً حركة آلية إلى الأمام وإلى الخلف حتى يصيبه الإعياء . ومع تغير الإضاءة يتغير الإيقاع الحركي لنرى الزوج مستلقياً على ظهره على أرضية المنصة ورأسه ناحية الجمهور وهو منشغل بقراءة صحيفة في أوضاع جسدية متنوعة وأشكال جمالية تعكس حالة قلقه – ربما – أو تعبيراته المتغيرة مع تغير الموضوع الذي يقرأه في الجريدة ، كل هذا والزوجة تنغص عليه ذلك الاعتكاف عنها ، فتتحرش هي به وتقلبه ذات اليمين وذات اليسار وأماماً وخلفاً وانبساطاً وانحناء بل كثيراً ما تحط جسدها على جسده ويتقلبان معاً بالتمرغ على الأرض يمنة ويسرة لعله يترك ما ينشغل به ليتفرغ لملاطفتها دون جدوى حيث يعود إلى التكور على أحد جنبيه مرة أو بظهره لأعلى في مرة ثانية .
وهنا لا تجد أمامها غير تمزيق الجريدة. غير أنه لا يبالي حيث يظل راقداً دلالة على إرهاقه الشديد بتحمل العمل وحده بعد أن اعتزلت هي وتركت عملها . وهنا تتركه لتعود محملة بطوابق من الأطباق المصفوفة رأسياً بدءاً من امتداد ذراعيها من أسفل إلى أسفل رقبتها وتضعها على الأرض فينهض الزوج مستعداً لتفادي حرب الأطباق الذي تبدأها الزوجة بقذف الزوج بالأطباق طبقاً وراء طبق كما لو كانت تستخدم مدفعاً أو منجنيقاً من العصور الوسطى وهنا تظهر براعة الفنان المؤدي للأكروبات حيث يلتقط الأطباق المقذوفة ، كما يلتقط الكلب المدرب ما يقذفه سيده في لعبهما معاً . ليصف الزوج الأطباق طبقاً طبقاً في شكل دائري هو في وسطه وبعد انتهاء قذائف الزوجة الشابة يجمع الزوج الأطباق القذائف مصفوفة ليخرج بها . ومع تغير الإضاءة ليبدأ المشهد الرابع تدخل الزوجة وخلفها الزوج وكل منهما يعلق في رقبته حزاماً تثبتت في نهايته قرصاً خشبياً تدلى حتى بطنه ويجلس كل منهما متجاورين جلسة القرفصاء وليشعل شمعة مثبتة على القرص الخشبي ذي المفرش ويستخدم أدوات المائدة في تناول طعام موهوم من طبق فارغ مع رفع الإضاءة المسرحية من المنظر فلا يكون هناك سوى ضوء الشمعتين وهنا تستعمل الزوجة شوكتها في اصطياد بعض الطعام الوهمي من طبق الزوج وعبثاً يحاول منعها ليتحول العبث إلى مداعبة بينهما وهنا ينسحبان مع إظلام المنظر إيذاناً بانتهاء العرض ثم إضاءة المسرح لخروج الممثلة وزميلها لتحية الجمهور . إذن فلم يحل الوسيط التلفازي دون وصول المعنى الكلي للعمل إلىّ حيث استقبلته على شكل علامات عن طريق النظرية السيميولوجية التي أزعم أن العرض نفسه - سواء تلقيته عن طريق وسيط اتصالي إعلامي أو بالتلقي الحاضر في قاعة العرض المسرحي - قد أشار إليها بوصفها أنسب إلى نقده من غيرها من النظريات النقدية .

رمزية الاتصال :
يرى علماء الاتصال أن الاتصال ظاهرة رمزية Symbolic خلقتها المجتمعات البشرية فسواء على مستوى اللغة المنطوقة أو اللغة غير المنطوقة (الجسدية) فإن محتوى الفعل الاتصالي ومضامينه لا تكاد تخرج عن عالم الرموز والإشارات Signs ؛ التي يكمل بعضها بعضاً . وهذه الرموز الاتصالية تعد منظومة متكاملة في الفعل الاتصالي وبإيقاع متناغم .
ففي مواقف الغضب والفرح نجد أن سلوكنا الاتصالي يحتوي على تعابير لفظية وحركات جسدية تجسد هذه المواقف أو تصورها فالسلوك الاتصالي للإنسان يعد كتلة من الرموز التي يكمل بعضها بعضاً للتعبير عن حالات ومعايشات الإنسان لعوالمه الصغرى والكبرى .
فالرسالة اللفظية وغير اللفظية يساند بعضها بعضاً ، وفي إيقاع متجانس يصور الحالة السيكلوجية والفسيولوجية المعيشة بين طرفي العملية الاتصالية الواحدة . والتناقض بين هذه الرسائل يحدث إرباكاً لسلوكنا الاتصالي.
وممثلو الشخصيات المسرحية وكذلك السينمائية والتلفازية شأنهم شأن كل البشر تتناغم وسائلهم اللفظية مع حركاتهم الجسدية وبشكل يسهل عملية تفاعل كل منهم بوصفه مجسداً لشخصية مسرحية أو سينمائية ما مع الشخصيات الأخرى دون إرباك – حسب بناء الشخصية وبناء الحدث الدرامي ، وحسب النزعة المسرحية وأسلوبها الفني – فـ( ديدمونة) – مثلاً – عندما تخاطب (عطيل) في أمر ( كاسيو ) يتحاشى النظر إلى عينيه ؛ تدعوه إلى الشك في أنها تخبئ عنه شيئاً – خاصة وأن (ياجو) قد دس لها عنده بأن علاقة ما بينها وبين (كاسيو) – حامل أعلامه – وكذلك الأمر نفسه عندما يتحاشى (ياجو) النظر إلى عيني (عطيل) وهو يدس سم حقده عليه في أذنه يشعر (عطيل) بأنه مراوغ ، ومن ثم يغير (ياجو) لهجته فيدلف من التخصيص (الكلام عن ديدمونه) وضرورة حرص عطيل عليها إلى التعميم ( الكلام عن ضرورة حرص الأزواج عامة على زوجاتهم ).
فلغة التفاعل ولغة الجسد معاً تشكلان محور الفعل الاتصالي ، الذي من الضرورة بمكان أن يكون ذا إيقاع متناغم وغير متناقض – إلاّ إذا تطلب أسلوب مسرحي ما كما في مسرح العبث غير ذلك – ومثال ذلك (فلاديمير) و(ستراجون) في نهاية الفصل الأول من مسرحية ( في انتظار جودو) حيث يخاطب (فلاديمير) (استراجون) بقوله : " هيا بنا نذهب " ويجيبه (استراجون) : " هيا بنا نذهب" غير أنهما - وفق إرشاد النص – لا يذهبان ، بل يقعدان على الأرض ليغلق عليهما الستار ، فمسرح العبث يريد تصوير عبث المعنى وعبث الفعل البشري في تناقضه مع القول .
ومثال ذلك أيضاً عدم حرص الممثل في المسرح الملحمي وفقاً لنظرية التغريب على عدم الوصول في أدائه للشخصية المسرحية إلى حالة الاكتمال الفني ، إذ يدعوه إلى عدم تجسيد حالة الصدق في أدائه للشخصية بألا يحاول إحلال صوته وحركته ومشاعره ودوافعه محل صوت الشخصية وحركتها ودوافعها وعلاقاتها ، من هنا فلا يعمل على تطابق اللفظ مع الحركة تطابقاً يوهم المتلقي بأنه هو نفسه الشخصية التي يمثلها أو بمعنى أدق يعيد تصويرها – حاكياً لا محاكياً – وذلك بالطبع مقصور على المسرحيات الملحمية التغريبية .


التفاعلية الاتصالية :
لا شك أن التفاعل هو جوهر الاتصال كما يرى الفيلسوف هوسرل Husserl والفيلسوف هيدجر Heidegger . فلا اتصال بلا تفاعل . والعرض المسرحي أو السينمائي ، حتى نشرة الأخبار وتصفح الجريدة أو مجلة أو قراءة كتاب أو الاستماع إلى شريط موسيقى أو غنائي أو مشاهدة مبارة أو رقصة ما كل منها هو عملية تفاعلية قائمة على التأثير والتأثر المتبادل بين أطراف العملية الاتصالية . غير أن ذلك يتحقق طبقاً لمستويات من التفاعل .
المسرح ومستويات التفاعل الاتصالي
تتفاعل الشخصية المسرحية عبر أداء الممثل مع المؤثرات البيئية والاجتماعية عبر بعدها النفسي وخبراتها السابقة التي تعكسها مصداقية التمثيل إذ يأتي الممثل محملاً بموروثاته السيكلوجية والاجتماعية المناسبة للشخصية التي يطمح إلى تجسيدها حتى يؤثر بتلك الموروثات والخبرات في موقف الشخصية الاتصالي مع الشخصيات الأخرى في الحدث المسرحي والتفاعل معها Interaction وذلك بالدخول إلى عالم الشخصية التي يقوم بتجسيدها أولاً ثم الدخول بها إلى عالم الشخصيات الأخرى عبر الحوار والاتصال العفوي المباشر وبذلك تحقق كل شخصية مسرحية معان ودلالات للرسائل التي ترسلها بشكل خاص يختلف عن غيرها وهذا هو ما يمكن أن نطلق عليه المستوى الذاتي Interpersonal في عملية التفاعل الاتصالي للممثل مع الشخصية التي يمثلها أولاً ثم مع الشخصيات المسرحية المشاركة في الحدث الدرامي . ولو نظرنا إلى شخصيات مسرحية (راشامون) – مثلاً – أو لشخصيات (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) لوجدنا أن كل شخصية تعطي رسالة مغايرة بمعان مغايرة لموقف واحد أو قضية واحدة ؛ فكل شخصية تحكي القصة نفسها من وجهة نظرها الذاتية ، وكل شخصية تشخص الموقف الواحد ومن ثم تعطي كل منها رسالة مختلفة ودلالات مغايرة لرسائل الشخصيات الأخرى في موضوع شاهدوه جميعاً أو عايشوه فتصبح الحقيقة هنا نسبية ومن ثم يكون الاقتناع بها نسبياً .
المحتوى الدرامي والبعد العلائقي : الاتصال المسرحي شأن كل اتصال فهو في كل الأحوال ليس إلاّ تعبيراً عن العالم المعيش للشخصيات الدرامية أفراداً وجماعات في إطار الحدث الدرامي بغض النظر عن الفروق الطبقية ؛ فالجميع شركاء في محتوى عملية الاتصال والتفاعل الدرامي content وهذا المحتوى محكوم بالعلاقات التي تحدد طبيعة الاتصال ومستوى التفاعل (نوعه وحجمه وإيقاعه) ويمكن الرجوع إلى مسرحية (روميو وجولييت) حيث تتحكم العلاقات بين عائلة (روميو) وعائلة (جولييت) العدائية في هروبهما نجاة بعشقهما الملتهب، الذي لا تحده العادات والتقاليد ولا يطفئ جذوة استعاره ثأر مبيت بين العائلتين الفلورنسيتين ، كذلك تحدد تلك العلاقات المتحاربة سرعة إيقاع الفعل بين العاشقين إذ سريعاً ما يتقاربان، وسريعاً ما يتحول حلم يقظة كل منهما بالارتباط بالآخر إلى واقع ، تتصاعد نبضاته ليصبح حميمياً وطائشاً وسريع العدو نحو حافة الهاوية على مستوى الواقع إلى مجرد قصة محلقة عبر سماوات رومنسية تحكيها مسرحية شكسبير عبر الأجيال ليحاكيها من شباب المحبين من يحاكي ويحكيها من يحكي . على ذلك تتحدد طبيعة الاتصال بين هذه المسرحية الخالدة وجمهور المسرح نوعاً وحجماً وإيقاعاً وتأثيراً . والأمر نفسه قائم في مسرحية الفرافير حيث العلاقة بين (الفرفور) و(السيد) في أمور تقسيم العمل وحدود كل منهما بوصفه رمز الطبقة الاجتماعية (عليا – دنيا ) وفق الفلسفة الوضعية ، حيث لا يتخطى أي منهما حدوده الطبقية التي وضعه فيها المؤلف (خالقه) فهو جبر دنيوي وجبر أخروي أيضاً وعلى كل منها كذات أن يحقق جوهر وجوده الجبري أو يصنع ماهيته دون أن يتجاوز تلك الحدود التزاماً بحرية الآخر ، فهناك علاقتان إحداهما مثالية (جبرية) والأخرى وجودية مادية اختيارية. فكلاهما يعيش حالة مزدوجة على المستوى النفسي بين الجبر الغيبي والاختيار الواقعي المادي وبذلك يتحقق نوع الاتصال بينهما وحجمه وإيقاعه – وهذا نفسه ما يحدث مع شخصيات (الأبواب المغلقة ) لسارتر والأمر نفسه قائم بين شخصية (البرنس) وشخصية الدكتور في (حتى) في مسرحية (الأيدي الناعمة) وبين (البرنس) وبنتيه وبينه وبين زوج ابنته وهو من الطبقة العاملة ، وما بين الطبقتين من الكراهية ومظاهرها في عملية الاتصال بينهما .

قابلية العملية الاتصالية في الدراما للتجزئ والتفكيك إلى وحدات صغرى :
لو لاحظنا كل من شخصيتي (شمس النهار) و(قمر) في مسرحية توفيق الحكيم سوف نجد أنهما يشكلان طرفي عملية اتصالية درامية ، وأن كل طرف منهما ينظر إلى الآخر باعتباره مثيراً بالنسبة إليه ، بعد أن كانت شمس النهار مثيراً لأبيها الملك وللحاشية حيث ترفض الاقتران بملك أو أمير وتقبل بصعلوك مجهول النسب والموطن والهوية – غير أن عنصر الإثارة التي يستثير بها (قمر الزمان) (شمس النهار) والمملكة كلها وعلى رأسها (الملك) نفسه يتمثل في رفضه الاستقرار والسكن في قصر الملك والرحيل مع زوجته إلى خارج المملكة ، في رحلة صعلكة تعليمية أو استكشافية وما يحدث منه في أثناء تلك السياحة حول مسألة المشاركة الحياتية وتقسيم العمل بينهما، حيث يلزمهما بأمر من أمرين إما أن تصطاد سمكة من النهر بسيفه أو تجمع بعض الحطب وإشعال النار لإنضاج الطعام وغير ذلك من الأعمال التي يتوجب عليهما التشارك في إنجازهما ، وتبعاً لكل إثارة منه لها يكون عليها أن تتكيف نفسياً ومن ثم تكيف تصرفاتها بناء على تفسيرها الشخصي لمثيرات زوجها وهكذا يتم تفتيت الحدث الاتصالي ( الأميرة شمس النهار) و(زوجها الصعلوك قمر الزمان) وهو الأمير المتنكر في هيئة صعلوك تسهيلاً للتفاعل بينهما وتمكيناً لترجمة الموقف الخاص بكل واحد منهما تحقيقاً للاستجابة بنفس القدر منن السلوك كل تجاه الآخر من أجل فهم تسلسل الحدث الكلي وإدراكه ومن ثم مصداقية التعبير الدرامي في عملية الاتصال بينهما ( أولاً ) وصولاً إلى تحقيق الأثر الدرامي في عملية الاتصال (ثانياً) بينهما وبين جمهور العرض .

عملية الاتصال المسرحي
لسنا في حاجة إلى التأكيد على أن النص المسرحي هو حدث اتصالي جماهيري مرجأ تأسس على سياق درامي (محاكي – حاكي) وعلى سياق جمالي ( إيهامي – إدهاشي) وعلى سياق معرفي (يقيني – ظني) بمعنى أنه قد يقوم على المحاكاة أو يقوم على الحكي أو عليهما معاً في امتزاج بنائي درامي محسوب ، كما يقوم على إيهام أو على الإدهاش أو عليهما معاً في امتزاج أسلوبي محسوس ، كذلك يقوم على بنية معرفية يقينية ممتزجة ببنية ظنية ، على اعتبار أن الفصل بين ما هو يقين وما هو مظنون في التفاعلات الإنسانية أمر غير ممكن حيث تسكننا رسوبيات ثقافية تراثية عابرة للعصور وهو اتصال مرجأ لأن الأصل في فن المسرح هو التمثيل أمام جمهور . ومعنى هذا أن عملية الاتصال المسرحي التام لا تتحقق إلاّ بالعرض المسرحي .
النص المسرحي :
حدث اتصالي جماهيري مرجأ ، يستوعب كل مستويات الخطاب الدرامي بملفوظاته الشفوية والكتابية، وهو قابل لاستيعاب مختلف العلامات من (الصورة إلى الحركة إلى الصوت ، والإشارة والإيماءة ) كما أنه قابل لأن يمدنا بمعارف متضمنة فيه ، كما يضطرنا إلى الاتصال بمعارف لم يصرح بها ، بل يكتفي بالتلميح لها ؛ مما يحيلنا إلى إحالات معرفية نستدعيها استدعاء ذهنياً فورياً ؛ لنعمق بها المعارف والأفكار التي صرح بها . وفوق ذلك كله ؛ فإنه لا يحيا بالقراءة ولكن بالتجسيد المتفاعل بالأداء والعرض تفاعلاً حاضراً ؛ لذلك فهو تعبير اتصالي مرجأ إلى أن تتحقق له عملية الاتصال الجماهيري المتفاعل تفاعلاً وجدانياً وإدراكياًُ حاضر الإرسال والتلقي.
العرض المسرحي :
حدث اتصالي تام ، يستوعب كل عناصر العرض والإخراج وتتفاعل فيه مستويات الخطاب بالتعبير الأدائي الصوتي والحركي والتشكيلي والتأثيري مع جمهور مشارك بالحضور في عملية اتصال وجداني وإدراكي في إطار مبادئ ثلاثة هي ( القصد – التنظيم – الإنجاز) بمعنى قصدية الإرسال الإبداعي المتوافق مع قصدية الاستقبال المنصت المشاهد في آن واحد مع انتظام تتابع عرض الرسالة الإبداعية أداء واستقبالاً يتوافق فيهما الوجدان والإدراك . وأخيراً تمام عملية الاتصال وإنجاز العرض لرسالته وصولاً إلى تمام تحقق الأثر الدرامي التطهيري أو التغييري متوائماً مع الأثر الجمالي.

أشكال الاتصال المسرحي بين المسموع والمرئي
الاتصال في جميع أحواله إما أن يكون اتصالاً لفظياً verbal communication وإما أن يكون اتصالاً غير لفظي non-verbal communication وكلاهما يعد لغة باعتبارهما نظاماً اجتماعياً متكاملاً يتهيأ بوساطتها لأفراد المجتمع في كل بيئة الانتماء إلى عالم موحد يحتضنهم وجودياً ويمنحهم هويتهم القومية. فاللغة سمعية أو مرئية هي تخليق إنساني كلامي وغير كلامي. وتتشكل عملية تخليق اللغة في علامات صوتية وإشارية وحركية وإيمائية ورمزية لتوظف في عمليات الاتصال الإنساني عبر الأزمنة واللغة بوصفها نظاماً رمزياً اعتباطياً من ناحية واجتماعياًَ من الناحية الغائية . تعد إحدى أهم السمات التي تميز الإنسان كائناً قادراً على الاتصال وعلى تبادل المعرفة مع الآخرين من أبناء جلدته . لذا فمن بداهة القول أن اللغة أداة توحد ثقافي ، تسهل للأجيال الشابة الارتباط بالأجيال التي سبقتها في الوجود . كما تسهل ارتباط طبقات اجتماعية بطبقات اجتماعية أخرى ، وارتباط أجناس بأجناس بشرية أجنبية عنها . ولعل في انتشار لغة الجسد ولغة السينوغرافيا في العروض المسرحية متضافرين معاً في التعبير عن طرائق حداثية للتواصل بين الشعوب بديلاً عن اللغة الكلامية ما يشيع على المستوى العالمي اللغة بوصفها نظاماً بنيوياً من الرموز لتمثيل شيء معلوم بشيء اعتباطي بتعبير – دي سوسير – حيث أن (الرمز هو ما يحل محل شيء آخر بقصد تمثيله) فالرمز لا يحمل أي سمة من سمات الشيء الذي يرمز إليه والاعتباطية تعني عدم وجود علاقة سببية أو منطقية بين الدال والمدلول signifier – signified ومثال ذلك في العرض المسرحي الحداثي ماثل في عروض المسرح التجريبي وخصوصاً في عروض الرقص المسرحي . فعرض المسرحية الراقصة (حلم نحات) الذي قدمته فرقة الرقص المسرحي بدار الأوبرا بإخراج وليد عوني والذي تمثل الأيقونة فيه العلامة الرئيسية في العرض حيث التماثيل – وهي علامة أيقونية يتطابق فيها الدال والمدلول – تلك التي أبدعها محمود مختار المثّال المصري الرائد ، يبدأ مع ارتفاع إطار فارغ بعرض فتحة خشبة المسرح ليتخذ زاوية ميل من أعلى مع ثبات قاعدته على خط الدروع (مقدمة خشبة المسرح) ليرى المتفرجون عبره صور العرض المسرحي المتتابعة ، حيث تتجسد أمامه تماثيل بشرية ترمز إلى تماثيل مختار الخالدة (نهضة مصر – سعد زغلول – القيلولة – إلى النهر – الفلاحة – أم كلثوم – هدى شعراوي – رياح الخماسين – حاملة الجرار – العودة من النهر .. وغيرها ) وهي تتشكل أمامنا أو يبعث بعضها بعضاً من رقاد على أرضية الفضاء المسرحي مبعثرة بداخل ذلك الإطار وهو ممدد على أرضية الفضاء المسرحي تدب فيها الحياة مع دبيبها في النحات الفرعوني الذي تمدد إلى جوارها متزامناً مع صراخ صوت طفل وليد ومع نهوض مثّال معاصر هو مختار الذي يؤديه وليد عوني نفسه تابعاً لحركة النحات الفرعوني الذي يقبض بيمناه على مطرقة صغيرة ويقبض باليسرى على أزميل نحات بصكهما أحدهما بالآخر لمرة واحدة فتدب الحركة في داخل الإطار وتبدأ رحلة بعث فن النحت المصري على يد مختار التي تكتفي بوضع اللمسات الأخيرة على كل معزوفة نحتية بعد أن سبقه الفنان الفرعوني ( ملهمه) إلى تلك المنحوتة .
فإذا نظرنا إلى التصوير المنظري أو المعادل التشكيلي للبيئة الثقافية التي تفاعل محمود مختار معها ذاتياً وموضوعياً ، سنرى في خلفية الفضاء المنظري جبلاً شاهقاً ، وقف الفنان الفرعوني بأزميله ومطرقته على جزء متوسط الارتفاع منه في ناحية اليمين – من جهة جمهور قاعة مسرح الجمهورية بالقاهرة – وما أن يستقر الإطار مرتفعاً في مقدمة خشبة المسرح حتى ينزل ليقود خطى مختار الذي ولد لحظة نزول النحات الفرعوني من الجبل وهو مصدر المادة النحتية المصرية منذ تاريخ مصر القديم ، ولسوف نرى في يسار مقدمة الفضاء المنظري عند قاعدة الإطار (راكوز المثّال الذي يشيد عليه تمثاله بالصلصال عن طريق الإضافة والحذف مستعملاً كمشجب علقت عليه سترة (جاكيت) مختار وغطاء رأس كشفي بمظلة أمامية وأسفله مباشرة (جرة) تستند إليه. وعلى جانبي الفضاء المنظري أجهزة(stands) مصممة خصيصاً لذلك العرض يحتوي كل منها على طبقة من كشافات الإضاءة المسرحية projectors مختلفة الطاقة الضوئية والألوان وطبقة من المراوح الكهربية التي تسلط تيارات الهواء من جانبي المنظر مع الإضاءات التأثيرية سطوعاً أو ضبابية حسب الحالة التأثيرية المقصودة في كل لوحة أو مع كل ولادة لتمثال أو لمنحوتة جديدة ينزع عنها الفنان مختار الغلالة الشفافة التي تلفها . ومع كل منحوتة أو تمثال يتم تخليقه أمامنا أو يكشف عنه أو يدخل وخلفه الفنان العظيم (خالقه) تشيع في المسرح موسيقى خليطة في تداخل هارموني أو تتابع فيه حسن تخلص ما بين انتهاء مقطوعة وابتداء أخرى ملتحقة بها زمنياً ، بما لا يشعر السامع بأدنى نشوز بين هذه المقطوعة وتلك مع أنهما من قوالب موسيقية متباينة في النغمات والآلات الموسيقية وفي أصول التأليف والتوزيع بل في المنابع الثقافية وخصائص كل فكر موسيقي عند هذي وتلك ؛ لأن المعزوفة البانورامية التي تشكل خلفية تتجسد مع رقصات باليهية لحسناوات في هيئة تماثيل هي أقرب إلى آلهة الموسيقى (الموسا) اليونانية في خلفية بعض التماثيل المفردة للفلاحة المصرية والجرة أو لتمثال (النبع) أو لتمثال (لقاء الأحبة) أو لتمثال (رياح الخماسين) الذي يتوسط الإطار المنظري العام ؛ في حين تجسد معزوفة أو أغنية شعبية مصرية نوبية أو صعيدية الفضاء السمعي الذي يصور المعادل الوجداني السمعي للشعب المصري مستعاداً أو مستحضراً إلى وجدان من شكل ذلك اللون من الغناء المصري الشعبي الخالص ماضي فنه الشعبي الأصيل ومسترجعاً معه عبق تراثه وبصمة هويته القومية .
إلى هنا وما يزال كلامنا مجرد عرض للعلامات المجسدة للعرض المسرحي (حلم نحات أو رياح الخماسين) بوصفها لغة الاتصال التعبيري والمعرفي في ذلك العرض أو المعرض الدرامي النحتي فماذا عن توظيفها توظيفاً مسرحياً ودلالياً ، ماذا عن بنيوية تلك اللغات غير الكلامية ، ماذا عن إخضاع تلك العلامات (الرموز والإشارات والمجسمات اللغوية المرئية والمسموعة) المتفاعلة في منظومة ذلك العرض التي لا تصلح في تجسيد حياة فنان تشكيلي نحات سواها ماذا عن منظومة تلك اللغة غير الكلامية المحددة والتي هي بمثابة قوانين مزج الصور والأصوات مزجاً متناغماً أو مزجاً تكوينياً متوازناً بين الكتلة والفضاء واللون والتدرج والضوء والعتمة والصفاء والضباب والرياح والسكون والغناء الشعبي المصري لأغان تكاد تكون نادرة مع مختارات من مقطوعات موسيقية كلاسيكية ورقص درامي مع رقص كلاسيكي ونحات فرعوني يقود خطوات نحات مصري حديث ولدا معاً في العرض كتوأم فني و "راكوز" نحات يستخدم مشجباً لجاكيت غربي الطراز مع "كاسكيت" وأسفله (جره – بلاص) وجبل شامخ في خلفية المنظر ثابت ثبات كل طود طوال العرض مع إطار أمامي تعرض في فضائه كل الصور ( المجسمات والمجسدات والمؤثرات الموازية) ألا تشكل تلك المفردات الرمزية التي نسقها المخرج المصمم وليد عوني لغة العرض أو بمعنى آخر مخزن حاجاتنا القومية في هذا الزمن الرديء الذي يتعالى فيه خطاب الغطرسة الأمريكية الذي يرفع في وجه العالم شعار موت التاريخ تاريخ القوتين المتوازنتين على مستوى العالم الحديث وميلاد قوة غاشمة واحدة ومنفردة إلى تعظيم رموز أمتنا واستعادة عرض ملامح من تاريخها . إننا مع العرض المسرحي نسترد هويتنا التي أرادت الهيمنة الأوروبية طمسها ولم تفلح ، وها نحن نواجه بها محاولات الهيمنة الأمريكية الغاشمة لطمس لغتنا وهويتنا القومية، نستردها من المستودع القومي التراثي الذي أودع فيه أسلافنا كل تحصيلهم المعرفي والوجداني ، نسترد منه عن طريق ذلك العرض المسرحي ما يحتاج إليه شبابنا لكي يتصلوا بالآخر عبر لغة الأصالة والحداثة معاً وهي لغة الصورة فيما لا يجيد التعبير عنه بغير الصورة السمعية والمرئية المكتسبة والمتفاعلة والمتوالدة والمتنامية النابضة بالحياة على الرغم مما تبدو عليه من سكون أو موات. هكذا كان عرض (حلم نحات) وعاء وجدانياً ومعرفياً حاضناً لمكتسبات الثقافة القومية المتراكمة ولنقلها من جيل إلى جيل بما يحافظ على هوية الأمة. وتتبدى أصالة لغة ذلك العرض ممتزجة بحداثته في هارمونية الامتزاج الثقافي بين لغة التعبير المصرية القومية ولغة التعبير الأوروبي، تلك التي امتزجت في وجدان محمود مختار وفي وعيه وهو ما عبرت عنه الموسيقى الكلاسيكية الموازية لحركة راقصات الباليه في خلفية تجسيد حركي درامي وجمالي لأحد التماثيل مع أغنية نوبية أو صعيدية أو مع موال شعبي، إذ يجسد وليد عوني طبيعة البنية الثقافية والوجدانية للفنان محمود مختار ، والأمر نفسه يتجسد كدلالة على ذلك التزاوج الثقافي عند ذلك الفنان وهو التزاوج الذي يعكس للأجيال الشابة التي تشاهد ذلك العرض أسباب نجاح مختار عالمياً في خلق لغة للتواصل الحضاري دون أن يتخلى عن هويته القومية ودون أن يكتفي بالثبات عند ماضيه والتقنع خلف موروثه الحضاري في وقت تسير فيه الأمم بخطى متسارعة نحو المستقبل المأمول وتلك كانت دلالة ارتباط مفردات المظاهر الأوروبية (الجاكيت – الكاسكيت) بمظاهر الثقافة المصرية (الجرة) وشكل الإطار منظوراً حداثياً يغلف تاريخ مختار أو حلمه في بعث فن النحت المصري في حين كان للتوظيف التكنولوجي (المراوح) تأثير الرياح بوصفها النحات الطبيعي والأبدي وبوصف الرياح (إله النحت) .
لقد دل هذا العرض على أن الترجمة الفنية لعلم من أعلام النحت أو فن التصوير لا يتجسد بغير لغة الصورة أو لغة الجسد متفاعلة ومتناغمة مع لغة السينوجرافيا ، كما دلل على أننا نستطيع التواصل الحضاري مع العالم عن طريق امتزاج أصالتنا الفنية والإبداعية بحداثة لغة الاتصال العالمية . وهو ما يعد إشارة إلى فناني شبابنا العربي وأساتذة علوم الفن العربي المعاصر .

ثالثاً : حيرة الناقد المسرحي أمام جهود العشماوي النقدية
إشكالية الوصول للحقيقة بين العالم والفنان والمؤرخ
العالم يكتشف الحقائق في الظواهر اعتماداً على منهج علمي والمؤرخ يسجل أثرها اعتماداً على الوقائع والتواريخ والأعلام . والفنان يرى الحقائق التي تخفى على العالم بحدسه. وتمثيلاً لذلك نستعيد حادثة اكتشاف الجاذبية الأرضية.
فكر نيوتن في سبب سقوط ثمرة التفاح نحو الأرض وهو جالس في ظل شجرة التفاح ؛ فدفعه وعيه إلى افتراض سبب سقوط التفاحة إلى أسفل وعدم ارتفاعها إلى أعلى. فافترض أن جاذبية ما صادرة لاشك عن الأرض هي التي شدتها إلى أسفل فأخرج للعالم قانون الجاذبية.
معنى ذلك أن نيوتن بسبب سقوط التفاحة نحو الأرض فعّل ذهنه فأنتج وعياً أكثر فاعلية .. أدى إلى وعي العالم عنده. ومن ثم أدت تجربته إلى اختراع التكنولوجيا المقاومة للجاذبية الأرضية - في العصر الحديث – أما علمنا بتوصل نيوتن إلى تلك النتيجة وقيمتها في خدمة الإنسانية فهو مستمد من المؤرخ. وإذا قارنا بين وعي العالم نيوتن ووعي الفنان أو الشاعر ؛ ليكن شكسبير في هاملت ؛ سنجد أن الفرق بين الوعيين هو أن وعي العالم كان وعياً موضوعياً ، لا يعطل الفعل الذي سيحقق النفع للبشرية ؛ بينما فعّل وعي شكسبير الموضوعي وعياً جزئياً بشخصية هاملت أدى إلى وعي هاملت نفسه بضرورة تعطيل وعيه بالنتيجة التي وصلته حول الخطأ الذي وقعت أمه فيه. حيث ربط شكسبير وعي هاملت بقضية خاصة بهاملت نفسه ؛ وثقافته وحالته النفسية ؛ لذلك عطّل وعيه فعله – حتى لا تصدر عنه حماقة (يتروى) – لأن فعله سيوقع الضرر بالآخر (عمه وأمه) دون تحقق وهذا ما رأه الفنان الشاعر شكسبير ، إذ جعل وعي هاملت معطلاً لفعله ، حتى يفعّل ضمائرنا نحن . وبذلك أعطانا حقيقة خاصة بأضرار الوعي. وذلك لاشك مغاير لما رأينا من دور الوعي عند نيوتن . كذلك كشف شكسبير (الفنان) أيضاً عما خفى على العَالِم ، كما تجاوز ما سجله المؤرخون لقصة (الملك لير) ؛ إذ كشف عن دور اللاوعي عند (لير) في تفعيل وعيه ووعينا نحن عند مشاهدتنا لأحداثها ؛ لأن "لير" تعلم من النكبات التي ترتبت على لا وعيه فوعى الدرس – ولكن بعد فوات الأوان – لذلك ينطبق عليه قول سوفوكليس : "تألم تعلم " وقول أونيل: " الألم أسرع دابة توصلك إلى الكمال". فكأن كمال " لير" في موته . أما كمالنا نحن فهو ماثل في وعينا بنتائج لاوعي (لير) مع أخذنا بها.
وما خفى على العالم من الحقيقة ، كشفه فن شكسبير ؛ إذ علمنا أن (اللاوعي يمكن أن يكون سبيلاً إلى الوعي) وهو ما تأسست عليه الرؤية السريالية فيما بعد.
لقد اكتشف العالم حقيقة البارود وحقيقة الذرة وحقيقة تفجيرها ؛ بينما رأى المؤرخ أثر البارود وأثر التفجير الذري وسجل التوظيف الضار والمدمر للذرة على الإنسان وعلى البيئة وعلى الحياة . بينما رأى الفنان خطورة استسلام العلماء للساسة ولأصحاب رؤوس الأموال والاحتكارات ؛ كما في مسرحية (علماء الطبيعة) لدورينمات و(العاصفة) لشكسبير و(جاليليو جاليلي) لبريشت و(القنبلة الثالثة) لمصطفى مشعل ، وخطورة استسلام الإنسان لأهوائه الجامحة المدمرة كما في (فاوست) والأمثلة كثيرة.

منهج قياس الناقد ومنهجية قياس الباحث :
إذا كان الناقد باستناده إلى نظرية نقدية يستدعيها المنتج الإبداعي نفسه يقف عند كيفية وجود ذلك الإبداع ليكشف عن أسباب وجوده على الكيفية التي هو عليها سواء من مدخل نظريات التطفل على الإبداع أو من مدخل نظريات المقصورة على بنيته حتى يتسنى له تحديد نوعية ذلك المنتج الإبداعي وتحديد قيمته الفنية أو الموضوعية أو الجمالية أو مدى تفاعل تلك القيم في تحقيق ذلك الإبداع للأثر الممتع والمقنع. فإن الباحث يستند إلى منهج مناسب لقياس الأثر الإبداعي باعتباره ظاهرة موضوعية أو أسلوبية مستعيناً على ذلك بالعديد من الشواهد النصية والتجسيدية والمقارنات والتحليلات مع الالتزام بالتوثيق والثبت لكل شاهد ولكل نتيجة يتوصل إليها على طريق موضوعية العلم.

المبحث الأول : المقاربات الثقافية في منهج العشماوي النقدي :
أمضى د. العشماوي جل عمره الأكاديمي في البحث عن تحقق الوحدة العضوية في القصيدة العربية مُزْوَرّاً عن أراء اللغويين القدامى والمحدثين من أنصار تغليب اللفظ على المعنى ، أولئك الذين جروا مجرى الجاحظ كابن قتيبه وابن المعتز وقدامه بن جعفر والمنطلقين من العلوم الفلسفية والمنطقية وصولاً إلى القول بأن ( المعاني على قارعة الطريق ) أو المحدثين من شعراء المعاصرة الذين يئسوا من وجود معنى بقى لهم من القدماء الشعراء ، وغير راض الرضا كله عن النقاد الوصفيين كالآمدي والقاضي الجرجاني ولا هو مطمئن إلى ما وصل إليه الجهد النقدي لابن رشيق وابن سنان الخفاجي حول قولهما بارتباط اللفظ بالمعنى ، حتى رست مركبة قناعاته البحثية عند المرفأ النقدي التحليلي الذي أرشده إليه وسط ضبابية المحيط النقدي للقرنين الثالث والرابع الهجريين ، ضوء منارة نظرية النظم التي أشعل ضوءها عبد القاهر الجرجاني وبفطنة الباحث وحاسته التحليلية قارب بين ما توصل إليه عبد القاهر وما توصل إليه بعده بألف السنة نقّاد غربيون مثل ريتشاردز وكولريدج وإليوت .
وقد اجتهد في تلمس آرائهم المتوحدة حول دور السياق في نظم عناصر التعبير الإبداعي في العمل الأدبي الشعري كما هو في اللوحة التشكيلية وكما هو في العمل الموسيقي ، فالمفردة من الكلم أو من النغم أو من اللون لا مزية لها، وإنما يتحقق الاكتمال الفني أو الأدبي ويستوي إبداعاً من خلال تآخي العنصر الفني المفرد مع ما سبقه وما لحقه في سياق العمل الإبداعي الواحد .
ولكن الغريب اللافت للنظر التحليلي النقدي أن يكون للدكتور العشماوي رأي نقدي مختلف كل الاختلاف مع ما بذله من جهد عبر رحلته البحثية الطويلة في سبيل إعلاء راية الوحدة العضوية في القصيدة ورفض النظرة التي تفصل بين الشكل والمضمون أو بين عناصر العمل الأدبي أو الفني الواحد وذلك في إطار تأملاته النقدية في مجال المسرح.
وربما كان الأغرب من ذلك هو أن تجده يلزم الناقد المسرحي بنقد النص والعرض المسرحي مؤكداً على أن المسرحية تكتب لتمثل لأن الأصل في المسرح هو التمثيل ويرى أنه محتم على الناقد المسرحي أن يدرس كل عناصر الإخراج من موسيقى وإضاءة ومناظر وملابس وحيل ومؤثرات دراسة دقيقة ، ثم يختتم مبحثه في النقد المسرحي بالقول بجواز اقتصار الناقد المسرحي على نقد التأليف فحسب أو نقد جزء واحد أو عنصر واحد من عناصر العرض المسرحي . وكأن العرض المسرحي لا ينطبق عليه ما ينطبق على القصيدة أو اللوحة التشكيلية أو اللحن أو المقطوعة الموسيقية وكأن الناقد يمكنه أن يوقف نقده عندما شاهد مسرحية (عطيل ) مثلاً على أداء ممثل دور عطيل دون النظر أو التعرض بالنقد للممثلين الآخرين أو أن يوقف نقده عند مشهد انهيار المنظر على الممثلين في عرض مسرحية الزلزال لمصطفى محمود بإخراج جلال الشرقاوي أو مشهد قتل الأشراف لكاليجولا في نهاية المسرحية دون غيره من مشاهد المسرحية .
صحيح أن هناك اتجاهات مسرحية معاصرة ( حداثية أو ما بعد حداثية ) لا تسعى إلى الوحدة العضوية أو التسلسل المنطقي للأحداث وإنما تقوم على تداخل الأمكنة والأزمنة وعلى الإشراقات وعلى التشظي وألوان السرد الانعكاسي أو السرد التمثيلي كالعبثية والملحمية والدادية والسيريالية وهي بذلك لا ترهق الناقد ولا الباحث بالتحري حول تحقق الوحدة العضوية أو ( الحبكة ) حسب الكتابة الإبداعية التقليدية . غير أن التنظير النقدي لمثل هذه الاتجاهات وأساليبها المتباينة يكون مقبولاً عند الحديث عنها . أما والحديث منهجياً عن مسرح تقليدي على النحو الذي أشارت إليه نظرة أستاذنا العشماوي ، في إلزامه لناقد المسرحي أولاً بحتمية نقده للمسرحية نصاً وعرضاً ثم جوازه له في نهاية المبحث النقدي أن يقتصر على جزء من العرض أو عنصر منه فهو أمر يوقع الباحث والناقد الحديث العهد بالعملية المسرحية النقدية في حيرة .
فالناقد يكون مجيداً في نظر أستاذنا العشماوي إذا وضع نصب عينه الثالثة اشتمال العمل الشعري على الوحدةالعضوية وهو مجيد أيضاً إذا قصر نظرته النقدية فحسب على جزء أو عنصر من العرض المسرحي موضوع النقد. أليست تلك إشكالية ؟.
المبحث الثاني : العشماوي بين أولويات الفن وأولويات المنهج :
إذا كان من أخص خصائص المنهج الأكاديمي في البحث هو ترتيب أولويات العرض حسب أهمية كل عنصر أو جزئية من جزئيات الموضوع محل البحث العلمي ، وصولاً إلى التأصيل والاستخلاص .
ولأن المسرح مطهّراً كان أم مغيّراً ، يتوسل إلى تحقيق أي من هذين الهدفين ( التطهير - التغيير ) بطريق الإمتاع والإقناع وصولاً إلى التأثير الدرامي التطهيري أو التغييري ؛ فإن العشماوي الأستاذ الأكاديمي ، الشاعر والفنان ، حينما يخلص إلى الرأي في قضية تتعلق بدور الجوقة في المأساة اليونانية فهو يرصد كل الوظائف التي تقوم بها الجوقة ؛ إلاّ أنه يرتب عرضه لتلك الوظائف ترتيباً يعطي فيه الأولوية للدور الغنائي الراقص، ويقدم ذلك الدور على وظائفها الأخرى ؛ فيجعل دور الجوقة الأول هو أن (ترفع الحديث الشعري من وقت لآخر إلى مستوى الموسيقى فيقوي بذلك العنصر العاطفي للمأساة)
ويجعل وظيفتها الثانية أن ( تحمل المعاني الفلسفية والدرامية ، التي قد تكون خافية على
الممثلين) - يقصد الشخصيات - ثم يجعل وظيفتها الثالثة هي الأخيرة . أن ( تلعب دور المشاهد المثالي وتهتم بإبراز الموقف الذي عليه المدنية )
والدكتور العشماوي يقدم بذلك حيل الإمتاع على حيل الإقناع ، إدراكاً منه أن كل ما هو فن يجب أولاً أن يكون ممتعاً ، لكي يكون مقنعاً ، وبذلك يحقق الأثر الجمالي مدخلاً تمهيدياً لتحقيق الأثر الدرامي.

المبحث الثالث : منهج العشماوي بين الاستنتاج السلبي والاستنتاج الإيجابي :
قد تدخل الروح الديمقراطي في خطوات التحليل عند التصدي لبحث علمي لكنها لا تطلب عند الاستنتاج العلمي النهائي ، لأن ازدواج الاستنتاج بعد جهد الافتراض ومصاعب التقصي والتحليل أو التفكيك وصولاً إلى نتيجة علمية أو عدد من النتائج العلمية الفرعية التي تصب جميعها في استنتاج جامع يتخذ شكل القانون أو سمة الحقيقة؛ يصل بالبحث إما إلى استنتاج مزدوج ، أحدهما ينفي الآخر، أحدهما سلبي والآخر إيجابي وإما إلى عدد من الاستنتاجات التي ينقض بعضها بعضاً
ولأن الدكتور العشماوي روح ديمقراطي ، يرعى للصوت الآخر حقه ومكانته بحكم تزاوج صفاته مع ذاته ، فإن الفنان في ذاته ، يتداخل مع العالم في صفاته وخبراته ؛ الأمر الذي يتضح خلال منهجه العلمي عند تعرضه لقضايا الشعر ولقضايا المسرح ، حيث ينتهي بحثه لهذه القضية أو تلك محمولاً على التقدير الاستنباطي العلمي والتقصي والمقاربات التحليلية إلى استنتاجين أحدهما ينسبه إلى البعض الذين يفترض لهم رأياً. أما الآخر فهو منسوب إلى العشماوي نفسه ، فهو يفترض رأياً معارضاً لرأيه هو ، الذي لم يدل به بعد، ثم يصدر رأيه هو الذي ينفي به الرأي الأول الذي استنبطه من تلق قارئ أو ناقد مُتَمَثَّل. وذلك أسلوب علمي في باطنه يتوشح بوشاح الفنان الذي يزاحم العالم في داخل العشماوي نفسه ، ولنعط أمثلة على صحة ذلك : من كتابه (دراسات في النقد المسرحي ) إذ يعلق تعليقات نقدية تتدثر بدثار النقد الثقافي *، في وقفات تحليلية وتعقيبية على فقرات من نص مسرحية ( أوديب ) لسوفوكليس فيقول :
" الأحداث الهامة جميعها تقع عند اليونان في مكان عام ، فما كانت تنشأ علاقات الناس الاجتماعية في البيوت وإنما في الأسواق والطرقات "
ونلاحظ في الفقرة الأولى من هذا الاستخلاص الثقافي لفظة ( تقع ) ونلاحظ في الفقرة الثانية (التفسيرية)، لفظة ( تنشأ ) إن وقوع الشيء نتيجة ، أما نشوؤه فهو بداية تكوين . فالأحداث المهمة في حياة اليونان - فيما يرى الأستاذ تقع في مكان عام - وذلك تعميم - أما نشوء العلاقات التي يترتب عليها وقوع الأحداث فتحدث في الأسواق والطرقات - وذلك تخصيص - .
ومن منطلق الروح العشماوية الرحبة التي علمتنا قبول الرأي الآخر نقف لنناقش هذا الرأي ، لأنه فيما رأينا - نقد ثقافي - ولأننا نحب العشماوي ونحب الحق ، لكننا نؤثر ما آثره أرسطو في قالته عن أستاذه ؛ نقول:
أولاً : المسرحيات اليونانية تدور أحداثها الحاضرة بالتجسيد خارج البيوت وفي الساحة العامة .
ثانياً : الأحداث المهمة لا تقع في الساحات أو الأماكن العامة ولكنها تناقش وتتداول نتائجها في الأماكن العامة (أوديب - أنتيجوني - الكترا - الطرواديات - اندروماخي – أجاممنون – حاملات القرابين – برلمان النساء – ميديا - هيبوليتوس) أحداثها وقعت أو سوف تقع بعيداً عن الأماكن العامة لعدد من الأسباب:
أولاً : إن الأحداث مقررة سلفاً في الغيب – وهذا ما جعل أرسطو يقدم الفعل على كل عناصر التراجيديا - وما يعرض في الساحة أو أمام القصر أو المعبد فهو نتائجها وما يترتب على وقوعها السابق الحدوث خارج المنظر المسرحي ( أوديب : كمثال ) فقتله لأبيه وزواجه بأمه وفقأ عينيه - وكلها أحداث مهمة - لا تتم في الساحة بل يحكي عنها .
ثانياً : النص المسرحي يبدأ بعد أن تنتهي القصة والإلمام بأطراف القصة غير المجسدة يتم عرضه سرداً على ألسنة الجوقة أو شخصية مضادة أو ثانوية ( الراعي والخادم والكاهن والجوقة في أوديب )

ثالثاً : مناقشة القضايا المصيرية العامة على مستوى الجماهير سمة من سمات الحكم الديمقراطي وقد كانت اليونان تتمتع بالمظاهر الديمقراطية وهذا اقتضى منها مناقشة أمورها المصيرية في الساحة ، فقد كانت بمثابة دار البرلمان أو المجلس النيابي إذ تتحول إلى دار ندوة ومساجلات عامة تناقش فيها الأحداث ما وقع منها وما لم يقع أو يحتمل وقوعه ، لكنها لم تكن مكاناً تقع فيه الأحداث .
رابعاً : لم تكن مناقشة القضايا المصيرية العامة في الساحات مقصورة على اليونان بل تتداول أخبارها والتعقيبات عليها عند الأمم كلها ، فالأحداث تنعكس مظاهرها على الأسواق وفي الساحات فالأحداث المصيرية كالصراعات الحادة والحروب عند الأمم قديمها وحديثها ومعاصرها تقع بسبب الصراع على الأسواق بهدف السيطرة عليها .
واخلص مما تقدم إلى أن د. عشماوي في استخلاصه النقدي الثقافي السابق . استنتج وقوع الأحداث المهمة في حياة اليونان في مكان عام ثم ثنى باستنتاج أكثر دقة حيث نشوء الأحداث الاجتماعية بعلائقها في الأسواق والساحات . فالاستنتاج الأول سلبي والاستنتاج الثاني إيجابي ، إذ يصوب الاستنتاج الثاني الاستنتاج الأول وذلك الأسلوب إنما هو أثر من آثار اشتباك الفنان فيه مع العالم ، فحيث يكون العلم يكون الحسم وحيث يكون الفن يكون التأرجح وفي اجتماعهما معاً يكون الترجيح وهو استنباط منهجي مرتكن إلى نظرية التقدير.
ونعطي مثالاً آخر على منهج الدكتور العشماوي المتسم بالروح الديمقراطي .
يعرض العشماوي لفقرة من حوار ( كريون ) الذي يخبر فيه ( أوديب ) بأمر الإله ( أبولون ) في مسألة الطاعون الذي أصاب ( كادموس ) إذ يقول كريون :
" .. إن الملك أبولون يأمرنا أن ننقذ هذا الوطن من رجس ألم به ، وألاّ نسمح لهذا الرجس بأن يبقى حتى ينمو ويصبح شفاؤه عسيراً . "
ويعلق الدكتور العشماوي على تلك الفقرة الإخبارية التي يحملها كريون من معبد دلفي فيقول فيها أربعة آراء أو تعليقات نقدية :
التعليق النقدي الأول :
يقول : " مثل هذا الأمر الذي يبعثه الإله قد يساء تفسيره فيظن البعض أن الإنسان في المأساة اليونانية القديمة كان فريسة عزلاء لمجموعة من الآلهة القوية غير المسئولة "
والدكتور العشماوي في تعليقه الأول هذا يفترض إساءة بعض المتلقين لقول كريون فيفهمونه فهماً على غير حقيقته وبذلك يكون الاستنتاج استنتاجاً سلبياً يفترض العشماوي وقوعه من آخرين مشاهدين أو قراء أو نقاد . فيعقب تعقيباً ينفي فيه الاستنتاج الأول الذي وضعه فرضاً على ألسنة الآخر .
التعليق النقدي الثقافي الثاني :
يقول العشماوي على لسان الأنا رداً لاستنتاج الآخر المفترض في التعقيب الأول :
" في الحقيقة إن الأمر أبعد ما يكون عن هذا المعنى ، فليس لهذا المفهوم أثر يمكن اقتفاؤه في المأساة
اليونانية "
واستنتاج العشماوي الباحث هنا هو استنتاج تقصي ، فقد صدر بعد التقصي عن عدم صحة الرأي أو الاستنتاج المفترض عند بعض متلقي هذا الموقف . فالاستنتاج الثاني استنتاج إيجابي ينفي به الاستنتاج الأول السلبي .
غير أن العشماوي البحاثة الموسوعي الثقافة لا يكتفي بذلك ، فإذا به يخرج باستنتاج ثالث يؤكد به الاستنتاج الثاني.
التعليق النقدي الثالث :
يقول فيه : " والفهم الصحيح هو أن أبولون هنا ليس إلاّ رمزاً وتجسيماً لواحد من هذه القوانين العامة التي يخضع لها نظام الحياة الإنسانية . تلك القوانين التي ينبغي على الإنسان أن يحترمها إذا هو أراد أن يتجنب الكارثة."
وأرى أن هذا الاستنتاج الثالث كان صالحاً للرد على الاستنتاج الأول بل كان كافياً للتعليق على ما نقله كريون.
التعليق النقدي الثقافي الرابع :
يقوم على مبدأ السببية : يعلق د. عشماوي على الاستنتاجات الثلاثة السابقات تعليقاً نقدياً ثقافياً . فيقول:" فالإنسان إذا خالف أو اعتدى على القانون الطبيعي أو الأخلاقي لأي سبب من الأسباب ، فإن نتيجة معينة لابد أن تلحق هذا

الاعتداء ، وهذه النتيجة تقع باعتبارها شيئاً تقود إليه الأحداث نفسها . "
إن هذا التعليق النقدي العام ينطلق من نظرية التقدير، فالعشماوي يقرأ النص فقرة فقرة ، ويستنبط فهماً مغايراً لفهمه ( تقديراً لفهم الآخر لا فهم الأنا )
ثم يتقصى من داخل نص الفقرة دليلاً على صحة الفهم الذي استنبطه العشماوي نفسه للآخر فلا يجد ما يساند ذلك الفهم المستنبط . ليخلص أولاً إلى استخلاص عام يقطع الطريق على فهم آخر مغاير لفهمه الذي لم يكشف عنه بعد .
ثم يعاود العشماوي الناقد والأستاذ البحاثة في صبر وتؤدة واستمتاع بعمله التحليلي ، يعاود التقصي المصدري للنص ( للفقرة موضع التحليل ) ليخلص إلى رأيه هو من معطيات المتن نفسه ومن معطياته الثقافية الذاتية .
وتدفعه دقة الباحث ممتزجة بروح الفنان إلى تعليق نقدي ثقافي يرتكز على مبدأ السببية ، توكيداً لاستخلاصه العام الذي يثقفنا بثقافة المسرح اليوناني وخاصيته العامة من ناحية وتثبيتاً لرأيه الذي هو استخلاص منهجي مدعوم بثقافته الموسوعية ، وروحه الديمقراطي الذي يقدر الرأي والرأي الآخر . فالعشماوي إذن يقرن نقده غالباً بثقافته العريضة ويخلص في استنتاجاته إلى أكثر من استنتاج حول القضية الواحدة أحدهما سلبي مفترض والثاني إيجابي محقق وما بعد الثاني ثقافي توكيدي للاستنتاج الإيجابي .
إن قراءة العشماوي ناقداً وباحثاً لهي قراءة محيرة وممتعة في الآن نفسه ، والحيرة معها تتأتى من استنتاجاته المركبة عند مناقشته للقضية الواحدة أما الإمتاع الذي يصاحب قراءته فهو الدافع الرئيسي في فض حيرة القارئ الباحث ، لأن الاستمتاع يؤدي به إلى إعادة القراءة وفي الإعادة إفادة تفضي إلى فض تلك الحيرة .



ثبت المصادر والمراجع

1- أبو الحسن سلاّم ، فنون العرض المسرحي ومناهج البحث، ط. أولى (الإسكندرية ، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر2004).
2- أحمد سليم سعدان ، مقدمة لتاريخ الفكر العلمي في الإسلام ، عالم المعرفة (131) ( الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون، ربيع الأول 1409هـ - نوفمبر 1988) .
3- أحمد شوقي ، مصرع كليوباترا ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1982م.
4- ألفريد فرج ، سليمان الحلبي ، كتاب الهلال ، دار الهلال ، القاهرة.
5- برتولد بريشت ، القاعدة والاستثناء (المسرح) ع الثاني 1964 ،ط. الأهرام ، المؤسسة المصرية العامة للمسرح والسينما .
6- ـــــــ ، توراندوت أو مؤتمر غاسلي الأدمغة،ترجمة نبيل حفّار سلسلة المسرح العالمي
(4) بيروت،دار الفارابي 1981.
7- ـــــــ ، الأم شجاعة ، ترجمة: د.سعد الخادم ( القاهرة ، الدار المصرية للطباعة).
8- توفيق الحكيم ، مسرحية السلطان الحائر ، القاهرة ، مكتبة الآداب بالجماميز 1964م .
9- ذوقان عبيدات – د. عبد الرحمن عدس – د. كايد عبد الحق ، البحث العلمي – مفهومه – أدواته – أساليبه ، ط. الرابعة (عمان ، الأردن ، دار الفكر للنشر والتوزيع 1992م) .
10- روبرت مرتون (1930) مقتبس عند توبي أ. هاف (فجر العلم الحديث – الصين – الغرب جـ2) ت. أحمد محمد صبحي ، عالم المعرفة (112) الكويت ، شعبان 1407هـ - أبريل 1997م .
11- ريونوسوكي أكوثاجا ، راشامون ، مكتبة الفنون الدرامية ع 20 ، القاهرة ، دار مصر للطباعة.
12- سارتر ، الجحيم ، ترجمة : جلال العشري ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
13- ـــ ، المومس الفاضلة ، ترجمة : د. الحفني ، القاهرة ، الدار المصرية للطباعة والنشر 1960.
14- سعد الله ونوس ، اغتصاب ، مجلة (أدب ونقد) القاهرة ، حزب التجمع الوحدوي.
15- سوفوكليس ، أنتيجونا ، ترجمة: د.علي حافظ ، سلسلة روائع المسرح العالمي ، الكويت ، وزارة الإعلام.
16- ــــــ ، أوديب ، ترجمة: د.طه حسين ، (بيروت ، دار العلم للملايين).
17- ــــــ ، إلكترا ، ترجمة: د. طه حسين ، بيروت ، دار الملايين .
18- السيد حافظ ، حكاية الفلاح عبد المطيع ، الإسكندرية ، مركز رؤيا 1989م.
19- السيد حنفي عوض ، في قضايا الفكر ومشكلات المسلمين ، دراسات في اجتماعيات المعرفة (الرياض ، دار المعراج للنشر والتوزيع 1413هـ-1993م).
20- شكسبير ، روميو وجولييت ـ ترجمة : د.محمد عناني (المسرح) القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
21- ــــ ، الملك لير ، ترجمة : د. فاطمة موسى ، من روائع المسرح العالمي ، الكويت ، وزارة الإعلام .
22- شكسبير ، عطيل ، ترجمة : جبرا إبراهيم جبرا ، سلسلة من المسرح العالمي ، الكويت ، وزارة الإعلام.
23- لويجي بيراندللو ، ست شخصيات تبحث عن مؤلف ، ترجمة د. محمد إسماعيل محمد ، ع14 ، القاهرة ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي د/ت.
24- ماجنوس بيك، حدود العلم ، ت. حسن عبد العزيز بدر ، الألف كتاب (671) (القاهرة ، وزارة التعليم ، الهيئة العامة للكتب والأجهزة العلمية . ط. جامعة القاهرة 1968).
25- مجدي وهبة ، معجم مصطلحات الأدب (بيروت ، مكتبة لبنان 1973) مادة Methodology .
26- محمد زكي العشماوي ، دراسات في النقد المسرحي ، الإسكندرية ، دار الكتب الجامعية 1968.
27- محمد زيان عمر ، البحث العلمي – مناهجه وتقنياته–(جدة، دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة 1407هـ - 1987م).
28- محمد مندور ، النقد المنهجي عند العرب ومنهج البحث في الأدب واللغة (القاهرة ، دار نهضة مصر د/ت).
29- يوسف إدريس ، الفرافير ، سلسلة المسرحية ، عن ( مسرح الحكيم) وزارة الثقافة المصرية 1964



مراجع أجنبية :

R. Kibler, L. Barker, and D.Miles, behavioral, objectives and instruction, Boston: Allyn and Bacon. 1970.


فهرس المحتويات
مهاد نظري : 1
المنهج التجريبي الاستنتاجي 2
المنهج التجريبي الاستقرائي 2
المنهج الإحصائي 2
المنهج إذن 2
قياس المناطقة 2
التقدير بالوحدات 2
مقاربة منهجية : علمية الدراسات المسرحية 2
الخاصية الأولى 3
الخاصية الثانية 3
الخاصية الثالثة 3
وأضيف إليها خاصية رابعة 3
الخاصية الأولى 3
الخاصية الثانية 3
الخاصية الثالثة 3
الخاصية الرابعة 3
أولاً : البحث المسرحي بين المنهج الاستنباطي والمنهج التجريبي 5
أولاً : المنهج الاستنباطي 5
نظرية التقدير 5
أولاً : طريقة المتخلفات 6
ثانياً : طريقة التغيرات المتلازمة : 7
الاستنتاج الأول 7
الاستنتاج الثاني 7
الاستنتاج الثالث 7
النظرية السيميولوجية والمنهج الاستنباطي 8
النظرية السيميولوجية 8
ثانياً : المنهج التجريبي 9
نظرية الفروض 9
أولاً : الفرض المباشر 9
ثانياً : الفرض الصفري 9
أولاً : العامل المتغير المستقل : 10
ثانياً : العامل المتغير المعتمد : 10
ثانياً : المسرح والتفاعل الاتصالي 11
بين التوظيف الإبداعي والتوظيف العلمي للمعرفة 11
أولاً : الأثر المعرفي cognitive 12
ثانياً : الأثر العاطفي affective 12
ثالثاً : الأثر الإدراكي Perceptual motor skills 12
المسرح ومبادئ الاتصال الجماهيري 13
أولاً : الدينامية : 13
ثانياً : الحتمية : 13
آنية الاتصال 14
رمزية الاتصال 16
التفاعلية الاتصالية 17
المسرح ومستويات التفاعل الاتصالي 17
المحتوى الدرامي والبعد العلائقي 17
قابلية العملية الاتصالية في الدراما للتجزئ والتفكيك إلى وحدات صغرى 18
عملية الاتصال المسرحي 18
النص المسرحي 18
العرض المسرحي 19
أشكال الاتصال المسرحي بين المسموع والمرئي 19
ثالثاً : حيرة الناقد المسرحي أمام جهود العشماوي النقدية 21
إشكالية الوصول للحقيقة بين العالم والفنان والمؤرخ 21
منهج قياس الناقد ومنهجية قياس الباحث 22
المبحث الأول : المقاربات الثقافية في منهج العشماوي النقدي 22
المبحث الثاني : العشماوي بين أولويات الفن وأولويات المنهج : 24
المبحث الثالث : منهج العشماوي بين الاستنتاج السلبي والاستنتاج الإيجابي : 24
التعليق النقدي الأول : 26
التعليق النقدي الثقافي الثاني : 26
التعليق النقدي الثالث : 26
التعليق النقدي الثقافي الرابع : 26
فهرس المحتويات 30



#أبو_الحسن_سلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإيقاع في فنون التمثيل والإخراج-ج1-
- نهار اليقظة في الثقافة المصرية بين وهج التخريض ولهيب التعريض
- الإرتباك الإبداعي في فن التأليف وفن الإخراج المسرحي
- المسرحيون العرب وغياب فعل الاستشفاف
- سارة وأخواتها والثالث المرفوع
- التجريب في العلم وفي الفن
- قراءة سياسية وقراءة مضادة حول الواقع المصري
- مستنقع الذئاب الجزائري في عمان
- مستنقع الذئاب - في عمانس
- قيمة الحرف في الإيحاء بسيكلوجية اللفظة
- - أيقونة العشوائي - ومعمار البنية السردية
- الكتابة المسرحية من منظور التناص
- مر بي
- فعل الكتابةالمسرحية في عصر الصورة
- المسرح بين أدب السيرة والتراجم الذاتية
- سفر الخروج من -طما- - ج1
- مؤسساتية الظاهرة المسرحية في مصر
- الإيقاع في فن النص المسرحي
- مرات أبويا
- الأطفال في مسرح يوسف عز الدين عيسي بين التربية الجنسية والتر ...


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبو الحسن سلام - حيرة الباحث المسرحي بين نظرية العامل ونظرية المتخلفات والمتغيرات المتلازمة