أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود روفائيل خشبة - دعوة للعقلانية















المزيد.....

دعوة للعقلانية


داود روفائيل خشبة

الحوار المتمدن-العدد: 3683 - 2012 / 3 / 30 - 15:34
المحور: الادب والفن
    


دعوة للعقلانية

فى الثانى والعشرين من يناير 2012 عُقدت ندوة فى المجلس الأعلى للثقافة لمناقشة كتابى دعوة للفلسفة (الترجمة العربية لـ Let Us Philosophize, 1998, 2008)، وفيما يلى الكلمة التى ألقيتها فى تلك المناسبة:
مساء الخير.
الفلسفة فى أساسها استجابة لحيرة الإنسان أمام لغز الوجود وأحجيات الكون التى تكتنفه وأسرار الحياة التى تتأجج فى داخله. الفلسفة بهذا المفهوم مصاحبة لكينونة الإنسان، وُجِدَتْ فى كل مكان وكل زمان وُجِدَ فيه الإنسان. لكننا نتحدث عن الفلسفة بمعنى خاص، وهذه وُلِدَتْ من إصرار مفكرى اليونان بدءا من القرن السادس قبل الميلاد على إخضاع إجاباتهم عن هذه الأسئلة القصوى لأحكام العقل ومتطلبات العقلانية.
على مدى نحو عشرين قرنا، من القرن السادس قبل الميلاد حتى الخامس عشر الميلادى، تربّعت الفلسفة على عرش الفكر الإنسانى، حتى خلال ما عرف بعصور الظلام، فى المنطقة المضيئة، فى العالم الإسلامى، حيث كانت ترجمات وتطبيقات الفكر اليونانى تتشابك وتتلاقح مع الفكر الإسلامى، وحتى فى العصور الوسطى، فى القلب الأوروپى، حيث ظل السكولائيون يصارعون المسائل القصوى ويتوقعون من العقل أن يتصدّى لأسرار الكون والحياة والخير والشر. إلا أنه، مع التقدم المتسارع فى مجال العلوم الموضوعية منذ مطلع القرن السابع عشر، أخذت مكانة الفلسفة تتراجع، حتى إذا ما وصلنا إلى القرن العشرين وجدنا الوضعية المنطقية لا ترى فى الميتافيزيقا غير لغو وهراء، ورأينا الفلسفة فى أيامنا هذه تتفتّت وتتشرذم فى دراسات تخصّصية لا تستطيع الاقتراب من المسائل القصوى التى نشأت الفلسفة أصلا لتصارعها. وكان الفلاسفة أنفـُسُهم هم من أعطوا كل المبررات لمن أوصلوا الفلسفة لهذا الدرك السحيق؛ ففى إعجابهم بيقينية الرياضيات وفى انبهارهم بمنجزات العلوم الموضوعية أخطأوا طبيعة التفكير الفلسفى وأرادوا من الفلسفة أن تعطيهم معرفة يقينية وأن تعطيهم صدقا عن واقع العالم الموضوعى، فأتاحوا لمهاجمى الفلسفة أن يقولوا صادقين ويُظهروا بجلاء إن الفلسفة لا تعطينا لا علما يقينيا ولا معرفة موضوعية.
فما الذى تعطينا إياه الفاسفة إذن؟ ما تعطينا إياه الفلسفة حدّده سقراط بكل وضوح حين نبذ البحث "فى الأشياء"، إذ تبيّن أن البحث فى ما هو خارج الإنسان لا يعطيه الفهم الذى يسعى إليه، واتـّجه بدلا من ذلك إلى البحث "فى المفاهيم"؛ أوضح سقراط لنا بذلك وظيفة التفكير الفلسفى ومجاله الحق منذ ما يقرب من خمسة وعشرين قرنا، لكننا للأسف نظل نخلط بين العلم والفلسفة فنلحق الضرر بكليهما.
أدرك سقراط أن الإنسان يحيا حياته، التى يتميّز بها ككائن إنسانى، فى عالم من المفاهيم والمُثل والقيم. ليس هذا قولا مجازيا. نحن بالفعل، ككائنات إنسانية، نحيا فى عالم من أفكار يُنشئها العقل ولا مصدر لها غير العقل ولا وجود لها فى مكان غير العقل. وهذه الأفكار وإن تكن من خلق العقل الإنسانى إلا أن القليل منها ما يصنعه الفرد الإنسانى لنفسه وأكثر الكثير منها نتلقـّاه ونتوارثه، وحتى ما يصنعه الفرد لنفسه لا يلبث أن يتشابك ويختلط بغيره. ولكى يملك الفرد الإنسانى إنسانيته يلزمه أن يُخضع مفاهيمه للمساءلة والتمحيص، ليخلّصها من الخلط والتشوّش، ولهذا أمضى سقراط حياته يسأل ويحاور، لا ليصل لتعريفات للمفاهيم كما زعم أرسطو، وإنما ليقود محاوره لأن ينظر فى داخله ليعرف حقيقته. فالإنسان يملك نفسه حين يحتكم لعقله ويتنازل عن إنسانيته حين يقبل الاحتكام لغير عقله. لا بدّ للإنسان من إخضاع كل المفاهيم والقيم والمعتقدات لحكم العقل، فبغير هذا تبقى إنسانية الإنسان فى أحسن الأحوال منقوصة. هذا عمل الفلسفة الأساسى كما فهمه سقراط .
إن من يأخذون على الفلسفة أنها، على مدى خمسة وعشرين قرنا لم تنته إلى يقين وأن الفلاسفة لم يصلوا إلى اتفاق فيما بينهم شأن علماء الطبيعة، يخطئون فهم طبيعة وغاية التفكير الفلسفى. العلوم الموضوعية مجالها العالم خارج الذات وتعطينا معارف عن الواقع، بينما الفلسفة مجالها عالم الذات بما فيه من مفاهيم ومُثل وتعطينا رؤى تضفى على العالم الخارجى وعلى التجربة الإنسانية معنى وقيمة. لكن هذه الرؤى لا يمكن، وليس مطلوبا لها، أن تستقرّ على حال دائمة. فكما أن الحياة ليست حدثا يحدث دفعة واحدة وليست فعلا يُفْعَل ويكتمل فى لحظة محدّدة، بل هى فعل مستدام على مدى الحياة، فكذلك الفلسفة هى فعل مستدام. ليس للفلسفة مضمون خارج الفعل الفلسفى. أن نتفلسف يعنى أن نحيا حياة العقل، أن نعقل حياتنا، ليس فقط بأن نُخضع أنفسنا وسلوكياتنا وأفعالنا للعقل، بل وأيضا أن تكون المعقولية صورة ومبدأ رؤيتنا للحياة ورؤيتنا للحقيقة.
لهذا لا تصل محاورات سقراط أبدا إلى نتيجة، وليس القصد منها أبدا أن تصل إلى نتيجة، إنما هى، أوّلا، تـُظهر تداخل وتشابك كل المفاهيم، وهى، ثانيا، تـُظهر أن كل مقولة محدّدة يعتورها التناقض. وتنتهى بنا هاتان النتيجتان السلبيتان إلى أمرين إيجابيين: الأمر الأول، إننا لا نستطيع أن نعرّف أىّ مفهوم بمفردات من خارج المفهوم ذاته؛ أىّ تعريف خارجىّ، شكلىّ، قد يصلح لأغراض عملية محدّدة، لكنه لا يعطينا فهما للمعنى، إنما نجد الفهم فى الوضوح الذاتى للمفهوم، إذ أن المفهوم الذى يبدعه العقل هو الذى يضفى المعنى على الشىء، فنحن لن نجد الفهم أبدا فيما يحيط بنا بل نجده فى داخلنا، وهذا هو مغزى مقولة سقراط: بالجمال يكون كل ما هو جميل جميلا. الأمر الثانى هو أنه لا يمكن لأىّ صياغة فكرية محدّدة أن تصدق نهائيا. وهذا ما يدعو أفلاطون لأن يقول فى الجمهورية إن الديالكتيك يجب أن يدمّر كل افتراضاته. المقولة الصادقة متى عزونا لها نهائية وثباتا تحوّلت إلى وهم باطل. ولهذا يصرّ أفلاطون على أن أعمق البصائر الفلسفية لا يمكن أن نحبسها فى نص مكتوب. البصيرة الفلسفية تتأبى على البوح بها، ولا يمكن التعبير عنها إلا بالمجاز والأمثولة والأسطورة. الحقيقة الفلسفية لا تكمن فى ما ينتهى إليه التفكير الفلسفى، بل تسطع فى ذات فعل التفكير الديالكتيكى.
لكن العقل يمضى فى المساءلة فيسأل عن سر الوجود وسر الإدراك وسر القيمة ويطلب لنفسه رؤية لهذه المفاهيم المطلقة. بهذه الرؤية يُكسب الإنسان حياته البعد الميتافيزيقى الذى به يحيا فى عالم كلىّ . الحقيقة نطلبها خارجنا فلا نجد إلا سرابا وظلالا دائمة الزوال. الحقيقة الوحيدة التى لا تراوغنا هى حقيقة ذاتنا الداخلية وحقيقة فاعليتنا الخلاقة. لهذا أقول إن هذه هى صورة الحقيقة: صورة الحقيقة القصوى فى فلسفتى هى الأزل الخلاق، وصورة الأزل الخلاق لا نجدها إلا فى فاعلية الخلق فينا. قد نقول إن الله هو الحقيقة القصوى، لكنْ أىّ إله ذاك؟ إله الفلسفة ليس إلها هناك بالخارج نزعم أنه خلقنا إنما هو إله بداخلنا خلقناه نحن، وإذ خلقناه أعطينا كينونتنا كمالا وتكاملا وشراكة فى الأزل، أو بكلمات أخرى، اكتسبنا حقيقتنا الميتافيزيقة، صرنا نحن الحقيقة. لذا قال الحجّاج: أنا الحقّ. هذا هو المفهوم الذى يتيح لنا أن نرى العالم ‘تحت هيئة الأزل’، كما يقول سپينوزا Spinoza.
تلك هى الحقيقة التى يمكن أن يُبلِغنا إياها عقلنا، وهى حقيقة لا يمكن أن نحبسها فى مقولة محدّدة ولا فى منظومة فكرية محدّدة وإنما نستطيع أن نعبّر عنها، كما عبّر أفلاطون، بالأسطورة والأمثولة والمجاز. لكن الرمز والأسطورة يتحولان إلى ضلالة وخرافة متى أضفينا عليهما نهائية المطلق. لهذا يتحتم أن تخضع رؤانا الميتافيزيقية بدورها للمساءلة الدائمة، مساءلة تولّد رؤىً جديدة تخضع بدورها للمساءلة. وهذا ما قصد إليه أفلاطون حين أكّد ضرورة أن ينقض الديالكتيك دومًا كل معطياته. فليست هناك فلسفة واحدة صحيحة، بل هناك فلسفات متعدّدة تقدّم لنا رؤى مختلفة، لكنها كلها، إن تكن فلسفات أصيلة، تتيح لنا أن نلمح البصيرة الفلسفية الحقـّة.
لهذا أقول: رغم أنى أقدّم فى هذا الكتاب وفى غيره من كتاباتى منظومة موحّدة تتلاحم فيها الأبعاد الميتافيزيقية والإپستيمولوﭼية والأكسيولوﭼية لتعطى رؤية متكاملة، إلا أنى لا أطلب من القارئ أن يتبنى هذه المنظومة أو غيرها، بل أن يَعُدّ كل ما أقدّمه له حافزا وتحدّيا يدفعه لأن يسأل ويتساءل ويُسائل ليصنع رؤياه الخاصة، فلا يقبل فكرا جاهزا يأتيه من خارجه زاعما لنفسه حصانة من أن يُساءل وأن يناقش، فالحياة غير الممحّصة، كما قال سقراط، ليست حياة لإنسان.
ختاما، ونحن على بعد ثلاثة أيام أو أقل من 25 يناير، اسمحوا لى بأن أقرأ عليكم كلمات الإهداء الذى وضعته فى صدر خامس كتبى المترجمة، أبو الهول والعنقاء، الذى أرجو أن يصدر قريبا. كتبت فى الإهداء: إلى روح 25 يناير 2011 / إلى الحلم الذى أطلقته نفوس نقية وعقول حرة / حلم، وإن اغتالوه وإن قبروه، / سيظل يعود كالعنقاء ينبعث / ويظل نبراسا نهتدى به / على طريق طويل طويل.



#داود_روفائيل_خشبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - داود روفائيل خشبة - دعوة للعقلانية