أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - الإبداع بين الدراما والسياسة















المزيد.....



الإبداع بين الدراما والسياسة


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 3683 - 2012 / 3 / 30 - 11:17
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



بدأتْ د. لطيفة الزيات ( 1923 – 1996 ) روايتها ( الباب المفتوح ) (1) بيوم من الأيام الخالدة فى تاريخ الحركة الوطنية المصرية ، يوم 21 فبراير 1946 ، اليوم الذى توحّدت فيه إرادة شعبنا المصرى ضد الإحتلال البريطانى وضد الظلم الاجتماعى ، اليوم الذى أشاد به أكثر من مــؤرخ ، ومن بينهم عبدالرحمن الرافعى الذى كتب (( إنّ الأهداف القومية تحدّدت بالجلاء ووحدة وادى النيل . ووضع المواطنون على اختلاف طبقاتهم شارة تُحمل فى عروة الجاكتة ، سُميت ( شارة الجلاء ) وهى عبارة عن قطعة مستديرة من البرونز أو الميناء كُتب عليها ( الجلاء ) وعمّ استعمال هذه الشارة وكانت علامة على انتشار عقيدة الجلاء بين المواطنين . وإتّفقت طبقات الشعب على الإعراب عن تمسكها بالجلاء بتحديد يوم سًُمى ( يوم الجلاء ) يحدث فيه إضراب عام من جميع الطوائف وتقوم مظاهرة كبرى عامة تهتف بالجلاء . وتألّفت لجنة عليا تمثل الطلبة والعمال لتنظيم المظاهرة والإضراب . كان يوم 21 فبراير 1946 سيمر بهدوء وسلام ، لولا ما وقع فيه من اعتداءات دموية صدرت عن الإنجليز . وبلغ عدد القتلى 23 قتيلا والجرحى 21 جريحًا )) (2) .
وهو اليوم الذى تضامن فيه الشعب الهندى مع الشعب المصرى ، وأصبح يُحتفل به فيما بعد باسم ( اليوم العالمى للطلبة ) وذكر أ.طارق البشرى أنه بعد أنْ أطلق الإنجليز المدافع الرشاشة على المتظاهرين ، أشعل المصريون النار فى قشلاق الإنجليز . وكان يقوم فى مواجهة الجامعة الأمريكية بميدان الإسماعيلية ( التحرير ) وظلّت الجماهير هائجة صاحية إلى قرب منتصف الليل . وقصدت بعض المظاهرات إلى ميدان عابدين تُلوّح بالمناديل المخضبة بدماء القتلى والجرحى . وانتشرت المظاهرات فى الأحياء المختلفة بالجيزة وشبرا وباب الشعرية ومصر الجديدة والعباسية وحلوان وغيرها )) هذا غير المدن الأخرى مثل بور سعيد والإسكندرية .. إلخ (3) .
تعمدتُ أنْ أذكر بعض التفاصيل عن هذا اليوم للتأكيد على أهميته ، وبالتالى دلالة أنْ يكون هو مفتتح الرواية . وعن هذا اليوم المهم ، وفى الصفحة الأولى من الرواية ، تترك الكاتبة للشخصيات وصف ماحدث ، فيتكلم أحدهم عن الصدام الذى حدث بين شعبنا وجنود الإحتلال قائلا (( يا سيدى التصادم ماجاش صدفه . التحرش كان مقصود . مظاهره من 40000 شخص (4) فوتك فى الكلام . إحنا برضو بلد الجدعنه . العربيه دهست الواد من هنا والتلاميذ رفعوا قميصه بالدم . والخلق تقول ش إتجننت . هجمت على عربيات الإنجليز فرتكتها وبقوا يرموا جتتهم على مدافع الإنجليز تقول ش مدافع حلاوه )) وقال آخر (( أنا شخصيًا أعتقد أنّ المظاهره دى كانت مرحله جديده من مراحل كفاحنا الوطنى . أول حاجه : اصطدام مباشر مع الإنجليز . تانى حاجه : الجيش ( المصرى ) امتنع عن تفريق المظاهره . دا موش بس كدا . عربيات الجيش المصرى كانت ماشيه فى البلد وعليها شعارات وطنيه . واشترك العمال مع الطلبه والشعب كله . دا حتى النسوان خرجت مـــــــــن بيوتها . شفت النسوان فى باب الشعريه )) وقال ثالث (( شفت يا بنى الطوب لما نزل على الإنجليز زى المطر . ولما ولّعوا النار فى الحواجز اللى الإنجليز مستخبيين وراها . الواد من دول كان يقلع جلابيته ويغرقها فى البنزين ويولعها . النار تشتعل . ح تاكل جتته ولايهمه . يزحف والرصاص نازل عليه زى المطر . أنا شخصيًا لو عشت ميت سنه موش ح أنسى المنظر اللى شفته فى سليمان باشا . أعلام . أعلام من دم . دم اللى ماتوا وانجرحوا عشان مصر ، 23 ماتوا و 122 انجرحوا )) (5) .
فى هذه الرواية يمتزج العام بالخاص ، فهذا المشهد الذى بدأت به الرواية ينتهى فى شقة محمد أفندى سليمان ( والد ليلى بطلة الرواية ) والتوتر على وجوه أفراد الأسرة بسبب غياب ابنهم محمود الذى كان واحدًا من المشاركين فى المظاهرات . وكما بدأت الرواية بأحداث عام 46 ، انتهت بأحداث عام 56 حيث العدوان الثلاثى على مصر . وإذا كان محمود ( شقيق ليلى ) اشترك فى أحداث 46 وهو طالب ( 17 سنة ) فإنّ الرواية تنتهى به وهو مشارك فى المقاومة الشعبية فى بورسعيد .
فى هذا المزيج من العام والخاص تدور أحداث الرواية وتدور شخصياتها حول ليلى . تبدأ الرواية بها وهى فى سن الحادية عشرة . وعندما بلغت السابعة عشرة عاشت قصة الحب الأول مع ابن خالتها عصام . وعندما اكتشفت أنه على علاقة بالخادمة ، أنزلت ستار النهاية على هذا الفصل من حياتها . ثم تلتقى ب حسين صديق شقيقها محمود الذى حكى لها كثيرًا عن هذا الصديق منذ أحداث فبراير 46 . حدّثها عن وطنيته وثقافته ، حتى اقتنعت ليلى بتأثير حسين على أخيها . وعندما حانت لحظة اللقاء الأول ، فإنّ تلك اللحظة سطّرت تجربة حب جديدة . فبعد دقائق من لقائها بحسين الذى جاء لزيارة محمود ، تكتشف ليلى خيانة عصام لحبها . فى البداية تقاوم مشاعرها تجاه حسين ، خشية تكرار تجربتها مع عصام . ويسافر حسين فى بعثة دراسية فى ألمانيا ويراسلها على بريـــــــد الكلية . وفى اللحظة التى تتأكّد فيها من مشاعرها نحوه ، تكبت هذه المشاعر تحت ضغط العرف الاجتماعى ، وتُنزل ستارًا على هذا الفصل ، ولكنه ليس الفصل النهائى .
وتكون قمة التوتر الدرامى فى علاقة ليلى بأستاذها د. رمزى . فهى تُدرك عيوبه النفسية . وأنه يختلف عنها فى المشاعر والتوجهات . ومع ذلك تقبل أنْ يتقدم لخطبتها . فهو مثلا عندما يرى شقيقها مع صديقته وحبيبته سناء يخاطب ليلى قائلا (( ما فى ش حاجه اسمها حب . دى الكلمه اللى الإنسان المتحضر بيقنع بيها الغريزه . واللى إنت شايفاه قدامك اندفاع زى اندفاع الحيوان ورا غريزته )) (ص 268 ) بل إنّ الدكتور الذى يرتدى قناع الجدية والصرامة دائمًا تُعريه ليلى فى لحظة ، إذْ عندما ترى عينيه (( تستقران فى نهم على الخط الذى يفصل بين نهدى جميلة . وشفتاه تتكوران فى ابتسامة كريهة أشبه بتكشيرة حيوان مفترس )) (ص 269 ) بل إنها تراه وتسمعه وهو فى موقف شديد الإنحطاط الخلقى ، عندما حاول إقناع شقيقها بقطع علاقته بحبيبته . وكان مبرره (( يعنى ضرورى الجواز يا محمود ؟ ما فى ش طريقه تانيه ؟ موش يمكن تكون نزوه وتفوت وتدفع تمنها غــــــالى )) ( ص282 ) ورغم أنّ ليلى كزّت على شفتها بأسنانها وصاحت تصفه لنفسها أنــــــــه (( سافل . سافل )) رغم ذلك لم تفكر فى فسخ خطبتها منه . بل إنها ترد على صديقتها سناء التى سألتها عن أحوال د. رمزى قائلة ((سحق نص العالم ولسه قدامه النص التانى )) (ص 301 ) وتشخيص ليلى لشخصية د. رمزى يتطابق مع تشخيص المؤلفة التى كتبت (( كان لرمزى قدرة على تركيز الحديث حول نفسه . حول المؤامرات التى دُبرت ضده وأحبطها . والخطط التى رسمها ونجحت . والكتب التى كتبها وينوى كتابتها . والانتصارات التى أحرزها والانتصارات التى سيحرزها . وكان لرمزى أيضًا القدرة على إحاطة حديثه بأهمية تبلغ مستوى القداسة ، وكأنّ مصير العالم كله يتوقف على الخطوة التالية التى سيتخذها ليسحق أعداءه سحقًا نهائيًا )) ( ص 299 ) .
يتمثل التناقض فى شخصية ليلى ، أنها رغم إدراكها العميق بعيوب أستاذها وخطيبها د. رمزى النفسية والفكرية والعاطفية ، فإنها توافق على الارتباط به كزوج ولم تفكر فى فسخ خطبتها قبل الزواج . ولكنها فى الصفحات الأخيرة من الرواية تخلع دبلة د. رمزى وتتخذ قرارها النهائى بالارتباط بحبيبها حسين (ص 352 ) ولكن هذا التحول يأتى نتيجة عامل خارجى ، هو سفرها إلى بورسعيد للعمل فى التدريس . وهناك تلتقى بحسين الذى اشترك فى المقاومة الشعبية ضد العدوان الثلاثى . وليلى تتطوع فى فرق التمريض . وهذا العامل الخارجى هو ما أضعف البناء الفنى فى شخصية ليلى ، لأنّ السؤال بمفهوم المخالفة هو : إذا لم يتوافر هذا العامل الخارجى ، فما هو مصير علاقتها بالدكتور رمزى ؟ هل كانت ستواصل العلاقة حتى مرحلة الزواج ؟ وبذلك يكون التراجع أشق وأصعب ، أم أنها كانت ستُنهى العلاقة بتطور داخلى ينبع من قناعاتها الشخصية ؟
قدّمت د. لطيفة شخصية ليلى بعناية فائقة فيما يتعلّق بأسباب أزمتها النفسية ، فعندما بلغت مرحلة النضج الأنثوى قال لها أبوها (( إنت ضرورى تدركى يا ليلى إنك كبرتِ . ومن هنا ورايح خروج لوحدك ما فى ش . زيارات ما فى ش . من المدرسة للبيت )) وتصف الكاتبة حالتها النفسية (( فهمت أنها ببلوغها دخلت سجنًا ذا حدود مرسومة . وعلى باب السجن وقف أبوها وأخوها وأمها )) (ص 21 ) ونتيجة إحساسها العميق بسجن التقاليد ، ونتيجة رعبها المترسب داخلها من أبيها ، تنهزم فى لحظة كادت فيها أنْ تنتصر على نفسها . ولكنها تتخاذل وتتراجع بعد أنْ كانت على وشك البوح بما فى داخلها من كراهية واحتقار لخطيبها وأستاذها د. رمزى ( ص 286 ، 287 ) .
تُبرر الكاتبة خضوع ليلى للأمر الواقع هكذا (( لم تنتحر ليلى كما أرادت . ولم تهرب كما انتوت. تبلّدت حواسها وكأنها تحت تأثير مخدر دائم . ولم تعد تنفعل بشىء . حتى رمزى لم يعد يثير فى نفسها هذه الكراهية العنيفة . انكسرت مع الأيام حدة كراهيتها له . وأصبحت تحتمله بنفس الطريقة التى تحتمل بها أوامر أبيها وتأنيب أمها )) ( ص292 ) ويصل بها الاحباط إلى درجة أنّ (( كل شىء يستوى لديها الآن . سواء اشتغلت عقب تخرجها بالصحافة كما أرادت دائمًا أو اشتغلت بالتدريس كما يريد رمزى )) (ص 294 ) وعندما تنصحها صديقتها سناء أنْ تفسخ خطبتها برمزى ، ترد ليلى (( كل واحد بياخد نصيبه يا سناء )) فقالت لها سناء (( ما فى ش حاجه اسمها نصيب . إحنا اللى بنصنع نصيبنا )) ردّت ليلى فيما يشبه الاعتراف بما ارتكبته فى حق نفسها (( وأنا اللى صنعت نصيبى بإيدى )) (ص 301 ) وإذْ تتعمق أزمتها النفسية فإنّ كل شىء (( واضح الآن . واضح وحاد وعنيف . ولا شىء يستوى لديها . حبها لحسين حاد وعنيف . وكرهها لرمزى حاد وعنيف . وكرهها لعجزها ولضعفها أحد وأعنف )) (305 ) .
يبدو التناقض فى شخصية ليلى حيث أنّ هذا العجز والاستسلام للقدر الذى يرسمه لها الآخرون ، يقابله شخصية مفعمة بذاتها . مدركة لكينونتها . تمتلك حسًا نقديًا يرفض الثوابت والقوالب . وتمتلك تفتحًا على الحياة يرفض ما فيها من قبح . فهى فى مادة التعبير العربى (( يمشى عقلها . كلمة تجر كلمة وجملة تجر جملة . وتسرع يدها تلاحق عقلها وهى طائر يُحلّق فى السماء عاليًا فوق كل الطيور ويعود إلى العش بالحب لطيوره الصغيرة يحيطها بجناحيه ويُدفئها . وهى مدام كورى . وبطل يُحطم قضبان السجن لينقذ شعبه من الاستعمار )) (ص 17 ) وفى المدرسة بعد أنْ بلغت السابعة عشرة فهــــى (( تستحوذ على إهتمام الفصل فى الشقاوة . وتخطب فى المناسبات الوطنية وتبرز فى الجمعيات الأدبية وتفوز ببطولة المدرسة فى البنج بنج وتشترك فى فريق الكشافة وكرة السلة وتتزعم شلة تُغرقها حبًا )) ( ص 25 ) وفى يوم 8 أكتوبر 1951 يُعلن مصطفى النحاس إلغاء معاهدة 36 فيخرج طلبة المدارس فى مظاهرات تعبيرًا عن فرحتهم والمطالبة ببدء الكفاح المسلح . تخرج ليلى فى المظاهرات رغم علمها أنّ هذا ضد تعاليم والدها . وتتمرد على الواقع الذى يردد دائمًا كلمة (الأصول) حتى لو كانت هذه الأصول ضد سعادة الإنسان وضد إرادته . اعترضت ليلى على دولت هانم التى زوّجت ابنتها صفاء رغمًا عنها . فكانت النتيجة انتحار صفاء . واعترضت على خالتها التى زوّجت ابنتها جميلة لرجل كريه وفى سن أبيها ، فكانت النتيجة أنْ إتخذت جميلة لنفسها عشيقًا . وفى الحالتيْن كان منطق كل أم (( أنّ الراجل ما يعيبوش إلاّ جيبه )) والأصول أنّ البنت ترضخ وتطيع من هم أكبر منها . ورفضت ليلى عصام لأنه خان حبها . وهكذا نجد ليلى ترفض الثوابت وترفض القبح . ومع ذلك استمر عجزها عن مقاومة الواقع واستمر استسلامها لهذا الواقع . وكانت د. لطيفة بارعة فى تصوير التناقض فى شخصية ليلى . ولكنها لم تستثمره دراميًا . وجاء التحول فى شخصية ليلى من خارجها وليس من داخلها . وهذا الخارج تمثل فى خطاب عبدالناصر عندما أعلن تأميم القناة . وهذا التحول هو ما عبّرت عنه ليلى فى خطاب منها لأخيها قالت له فيه (( منذ زمن طويل . طويل جدًا . لم أشعر بما شعرت به الليلة وأنا أستمع إلى خطاب عبدالناصر . شعرت أنى قوية وأنى قادرة على كل شىء . كل شىء . والشعور بالكبرياء الذى نسانى عاد إلىّ من جديد . والانتماء يا محمود . لم أعد وحيدة . شعرت تلك اللحظة أنى كنت هناك . مع الآلاف التى تهلل فى الإسكندرية . حتى أبى لم يعد غريبًا . لقد كاد يحتضننى ونحن نستمع إلى الخطاب . تصور ؟ وكلنا – حتى أبى – كلنا أممنا القناة . أهذه هى المعجزة التى وعدتنى بها ؟ المعجزة التى ستهزنا وتجعلنا ننفض أكفاننا وننبعث أحرارًا أقويا ءً من جديد ؟ )) (ص 306 ) .
وهكذا اختارت الكاتبة العامل الخارجى ليحل لها مشكلة التناقض فى شخصية بطلتها التى اكتفت طوال الرواية بالاعتراض الصامت السلبى للواقع القبيح الذى ترفضه . ولا تواتيها القوة إلاّ من خطاب تأميم القناة ثم حرب 56 والمقاومة الشعبية ولقاء حبيبها حسين . فتخلع دبلة رمزى وتنتهى الرواية وكفها فى كف حسين . وكأننا نشاهد فيلمًا ميليودراميًا .
والسؤال الذى يفرض نفسه هو : إذا لم يتوفر هذا العامل الخارجى ، فما هو موقف ليلى ؟ هل كانت ستتخذ نفس الخطوة وتخلع دبلة د. رمزى ، نتيجة تفاعل داخلى ( عقلى ونفسى ) وقدرة على مواجهة واقعها وتحديد مصيرها . بغض النظر عن أى عامل خارجى ؟ أم كانت ستواصل طريق الاستسلام حتى تنتقل دبلة خطيبها وأستاذها الكريه من اصبع كفها اليمنى إلى اصبع اليسرى ؟
وبقدر ما كانت د. لطيفة بارعة فى رسم أزمة بطلتها ، بقدر ما جاء العامل الخارجى على حساب التطور الدرامى . وكان أ. يوسف الشارونى محقًا عندما كتب إننا لا نجد أثرًا لتخرج ليلى من الجامعة والتحاقها بوظيفة تتيح لها شيئًا من الاستقلال الاقتصادى . وهل ساعدها هذا الوضع الجديد على اتخاذها قرارها النهائى بالزواج بمن تحب وبفصم علاقتها بالدكتور رمزى ؟ إننا نقرأ من حين لآخر أنّ ليلى كانت تقرأ صحيفة أو كتابًا وأنّ سلامة موسى يعجبها ككاتب . ولكننا لا نجد أية إشارة إلى ما أضافته دراسة ليلى الجامعية إلى تطورها الروحى لا سيما وأنها التحقت بقسم الفلسفة . إننا لا نحس بأى أثر لهذه الحياة الجامعية أو لتلك الدراسة الفلسفية فى عقليتها أو حتى فى تعبيراتها . فشخصية ليلى قبل دخولها الجامعة وتفكيرها وألفاظها لا تختلف عن شخصيتها بعد دخولها هذا المجتمع الجديــد . وهو مجتمع كان لابد أنْ يكون له أثره الكبير فى فتاة مثقفة متفتحة ثائرة مثل ليلى )) (6) .
إذا استثنينا هذا الخلل فى البناء الدرامى لشخصية ليلى ، فإنّ د. لطيفة أثبتت فى روايتها الأولى قدرة واضحة على امتلاك مفاتيح الفن الروائى ، حيث تشد القارىء إليها بقوة سيطرتها على السرد الروائى . وتقديم الحدث العام من خلال الشخصيات والتعرف على البطلة وعالمها .
وتتميز هذه الرواية بوعى الكاتبة بمفردات الشخصية المصرية ، الأمر الذى ساعدها على صياغة لغة فنية راقية من ناحية ولصيقة بالشخصية المصرية من ناحية ثانية . فمثلا عندما عاد محمود من مظاهرة فبراير 46 مصابًا ببعض الجروح ، وعندما رفض الكلام ليُطمئن أسرته ، خاطبتْ أمه ابن أختها عصام وقالت له (( عاجبك الحاله دى يا عصام ؟ آهو من ساعة ما جه وهوّ مكتوم الكتمه السوده دى )) (ص9) وعندما تكلم محمود ووصف ما حدث متأثرًا بعدد الشهداء الذين ماتوا فى المظاهرات قال لأمه (( عارفه لما تدبحى الفرخه . والدم يسيح والفرخه ترفّس دقيقه . دقيقه واحده وتسكت على طول . تخلص . ناس كتير ماتوا . ماتوا بالشكل دا )) ( ص 10 ) .
والكاتبة إيمانًا منها بأهمية أنْ تكون اللغة لصيقة بالشخصية ، امتلكتْ شجاعة عدم التقيد بقواعد اللغة العربية . فمثلا تكتب على لسان أحد الأشخاص (( التحرش كان مقصود )) ( ص1) أى أنها ضحّت بأداة النصب فى كلمة ( مقصود ) ومثال آخر عندما حكت ليلى لشقيقها عن انبهار المدرسات به بعد أنْ عرفن دوره فى المظاهرات ، حيث قالت (( المدرسات مبسوطين منك )) ( ص12 ) لأننا لو كتبنا هذه الجملة باللغة العربية فلابد أنْ تكون هكذا (( المدرسات راضيات عنك أو مسرورات منك أو منبهرات بما فعلته إلخ )) كما امتلكت الكاتبة قدرة بارزة على استخدام تعبيرات مصرية صميمة مثل (( أعمل إيه فى بختى المنيل )) ( ص16 ) حيث أنّ كلمة ( منيل ) توارثها شعبنا عبر التراث الشفاهى كرمز وترجمة لطمى النيل الأسود . وهى كلمة تتقابل مع كلمة ( نيله ) المستخدمة فى التعبير الشائع ( جتك نيله ) بمعنى التمنى أنْ يصاب الشخص المخاطب بكارثة أو مصيبة . بإختصار فإنّ تعبير (( بختى المنيل )) لو نقلناه إلى اللغة العربية يكون ( حظى الأسود ) والإنسان عندما يتكلم بعصبية نصفه باللغة العربية أنه يتكلم بانفعال وبصوت مرتفع خصوصًا لو كان الموضوع لا يستحق هذا الانفعال . ولكن الكاتبة تنحاز للتعبير المصرى عندما تقول أم محمود لابنها (( يا أخى بلا خيبه . حازق نفسك أوى كدا على إيه ؟ )) ( ص28 ) وفى اللغة العربية عندما يشعر الإنسان بالإهانة أو بالسخرية من ذاته ، فإنه يرد على مخاطبه قائلا ( أنت مخطىء ) أو ( أنت سىء الظن ) أو ( أنا لا يُشرّفنى صداقتك ) إلخ ولكن الكاتبة تنحاز للتعبير المصرى الجامع المفحم رغم أنه من كلمتين (( إنت ح تلبخ )) ( ص 78 ) وليلى عندما تشعر أنّ صديقتها سناء تبالغ فى كلامها تقول لها (( آهو إنت كدا يا سناء . تحبّلى البغله )) ( ص 123 ) أو عندما تكتب (( كانت عديله قد قرّرت أنّ سُمعة نوال بطّاله فى الكليه )) ( ص 208 ) فى حين أنّ المعنى فى اللغة العربية أنّ سيرة نوال أصبحت سيئة أو مشينة إلخ . وتكتب أنّ ليلى بعد ضحكات البنات عليها بسبب خطابات حسين الغرامية (( خرجت ملبوخه )) ( ص 212 ) والمعنى فى اللغة العربية أنها خرجت مرتبكة وخجولة إلخ . وبعد هذه الواقعة رأت سناء صديقتيْها صامتتيْن فقالت (( مالكم ؟ مبلمين ليه ؟ )) وهو تعبير مفعم بدلالات عديدة فى الوجدان المصرى . فهو يضم معانى الحيرة والتوهان والقلق والشرود إلخ . وليلى تغضب من نفسها لأنّ رمزى رآها (( متلطّعه تدردش فى أركان الكليه )) ( ص225 ) فكلمــة ( متلطّعه ) يصعب نقل معناها إلى اللغة العربية فى كلمة واحدة . فهى تعنى الإنسان العاطل الذى بلا هدف . وأنه مثل الذباب على الحائط وأنه بلا هوية ومثله مثل الكم المهمل إلخ . وعندما تقول عديله عن د. رمزى (( يكون ش بيحبك يا ليلى ؟ )) فإنّ ليلى ترد عليها (( إتلهى . ح نخرف بقـــــــــى )) ( ص 228 ) فالمعنى المقصود هنا فى اللغة العربية (( هذا غير صحيح . أو غير حقيقى . أو إنّ خيالك ذهب بعيدًا أو إخرسى إلخ )) وفى ص 230 ، 231 تستخدم الكاتبة كلمة ( تتلهى ) على لسان عديله وليلى ولكن فى سياقات أخرى وبالتالى يكون للكلمة فى هذه السياقات معانى مختلفة مما يدل على ثراء التعبيرات التى نتفاهم بها نحن المصريين ، وهو ما وعته الكاتبة بشكل ملحوظ . وليلى عندما تشرح لشقيقها آلام معدتها بسبب سوء الهضم ، فإن د. لطيفة استخدمت المفردة العربية ( تو ) ولكن فى سياق مصرى . قالت ليلى (( تو ما آكل أحس بنار فى صدرى )) (ص 297 ) فالكاتبة هنا انحازت للاستخدام المصرى للمفردة ( تو ) بدلا من ( عندما آكل . أو بمجرد أنْ آكل . أو ما أكاد آكل إلخ ) وسناء تقول ل ليلى فى سخرية محببة (( والله ما مصيبه غيرك . مستموته كدا على الفاضى )) (ص 304 ) فكلمة مصيبة فى اللغة العربية تعنى الكارثة . أما هنا فمعناها الشخص الذى يمتلك قدرات كبيرة رغم مظهره المسالم . وأنّ مظهره الخارجى عكس قدراته الحقيقة إلخ وهو التعبير الشائع والمستخدم بين شعبنا فى سياقات كثيرة مشابهة .
وكما كانت الكاتبة على وعى بمفردات الشخصية المصرية ، كانت أيضًا على وعى بمفردات الطبيعة المصرية . مثل حرصها على أنْ تكون الشجرة فى المدرسة ( شجرة جميز ) وهى شجرة لها قداسة خاصة فى الميثولوجيا المصرية . وظلّت هكذا فى الوجدان الشعبى المصرى ، حتى أواخر الخمسينات من القرن العشرين ، قبل تدمير الزراعة المصرية . ورغم أنّ جماعة الإخوان المسلمين تكوّنت عام 1928 ، إلاّ أنّ المصريين ظلوا يحافظون على خصائص ثقافتهم القومية التى عكست نفسها على فهمهم للدين . فعندما يطلب الأب من ابنه أنْ لا يصطحب أحدًا من زملائه إلى البيت حتى لا يرى أحد منهم ليلى ، يرد محمود (( بس المهم عصام . عصام بيذاكر وياى )) فترد الأم مؤيدة ابنها ((عصام ؟! هوّ عصام غريب ؟! عصام ابن خالتك يا ابنى . هىّ ليلى ح تتغطى على ابن خالتــها !؟ )) أما الأب ( رغم صرامته وشدّته بل وقسوته فى التربية ورغم تدينه الشديد ) فإنه يقول كما كان كل المصريين يقولون (( عصام معلهش . عصام مننا وعلينا )) ( ص 22 ) .
صدرت الرواية عام1960 أى بعد ثمانى سنوات من إنقلاب أبيب / يوليو 52 الذى بدأ حكمه بمذبحة كفر الدوار ، بعد عشرين يومًا من الانقلاب . حيث تم تنفيذ ( الحكم ) العسكرى بالسجن على عدد من العمال وإعدام الشهيديْن مصطفى خميس ( 18 سنة ) ومحمد البقرى ( 19,5 سنة ) وإصرار الضباط على أنْ يكون الإعدام فى النادى الرياضى بكفر الدوار ( ملعب كرة القدم ) أمام 1500 عامل من المصانع المختلفة ومن أهالى العمال (7) أى أنها دنشواى جديدة على أيدى ضباط يوليو الذين حاصروا المصانع وبيوت الأهالى بالدبابات (8) ومن أغسطس 52 ( مذبحة كفر الدوار) حتى العام 60 ( صدور الرواية ) امتلأت المعتقلات بالمصريين من كل ألوان الطيف : من ليبراليين وشيوعيين واخوان مسلمين . وحتى الذين أيدوا النظام وأصدقاء عبدالناصر مثل إبراهيم طلعت ، وشهدى عطيه الشافعى ( كمثال واحد فقط ) والذى قُتل على بوابة المعتقل بعد عدة ساعات من التعذيب . والغدر بأساتذة الجامعة وفصلهم من أعمالهم . ومذبحة الاعتداء على مجلس الدولة إلخ وأنّ التعذيب فى معتقلات عبدالناصر كان أشد بطشًا من أيام الاحتلال البريطانى . وأنّ ذروة الديكتاتورية كانت مع فجر عام 59 وأنّ محترفى الإجرام من ضباط عبدالناصر الذين تدرّبوا فى أمريكا على وسائل التعذيب (9) لم يكتفوا بالتعذيب البدنى وإنما استعملوا أحط أساليب التعذيب النفسى والمعنـــوى . وفى شهادته عن اعتقال الأعداد الكبيرة من الآنسات والسيدات المصريات المنتميات لليسار ، كتب د. فخرى لبيب أنّ نظام عبدالناصر (( استباح سحب المريضة والحامل والمرضع ، حيث لا علاج ولا رعاية . استباح تمزيق الأسرة وتشتيتها . استباح إلقاء الأطفال على قارعة الطريـق . استباح ما لم يجرؤ الاستعمار على استباحته لنفسه ، زمن أنْ كان الحكم للعدو الأجنبى ، وليس للوطنى المصرى) (10) بل إنّ التعذيب والتصعيد ضد القوى الوطنية (( بلغ آفاقًا تجاوزت بعض ما وصلت إليه المعتقلات النازية )) (11) .
رغم كل ذلك تكتب د. لطيفة أنّ ليلى لم تشعر بالقوة ((والشعور بالكبرياء )) ( ص 306 ) إلاّ بعد أنْ سمعت خطاب عبدالناصر . فهل كانت د. لطيفة وهى تكتب روايتها تجهل طبيعة الحكم الناصرى الذى تفوّق على النازية فى وسائل تعذيب خصومه السياسيين ؟ وإذا كانت تعلم فكيف جعلت أهم تحول فى شخصية بطلتها ( القوة والقدرة والكرامة ) يأتى من هذا الحكم الذى يرأسه ديكتاتور لغته الوحيدة مع المختلفين معه هى التصفية الجسدية والفكرية ؟ ( 12 ) هل هى الأيديولوجيا ؟ وهذا السؤال يضع الباحث أمام لغز يحتاج لفهمه إلى علم النفس . ففى عام 46 كانت د. لطيفة فى الثالثة والعشرين من عمرها . وفى أحداث فبراير من نفس العام تم اختيارها سكتير عام لجنة الطلبة والعمال . وامتزج إهتمامها بالعمل الوطنى بتأثرها بالنظرية الماركسية التى كتبت عنها فى مذكراتها (( كنت أراها طريقًا للتحرر والنمو المستقل . وأعجبت بأخلاقياتها التى تساوى بين البشر جميعًا بصرف النظر عن الطبقة واللون والدين )) ( 13 ) وبسبب انتمائها للماركسية ونشاطها الوطنى تعرّضت للسجن عام 49 . بل إنها ارتبطت فى زواجها الأول بمناضل شيوعى ( أحمد رشدى سالم ) الذى حُكم عليه بالسجن سبع سنوات ثم انفصلت عنه (14) فكيف ( وهى الماركسية ) لا تتعاطف مع الماركسيين المعتقلين ؟ وبالتالى ترى أنّ القوة والقدرة والكرامة لا تأتى لبطلتها إلاّ بعد سماع الديكتاتور عبدالناصر ؟
وعن تأميم القناة : هل كانت د. لطيفة فى العام 60 وقد بلغت السابعة والثلاثين من عمرها ، وبعد مرور أربع سنوات على قرار التأميم ، تجهل الكارثة التى أصابت المصريين بسبب هذا القرار ؟ مثلها فى ذلك مثل أى مواطن غير متخصص ، لا فى الإبداع ولا فى السياسة وليس مثقفًا وليس كادرًا سياسيًا ، أو – على الأقل – ليست له صداقات مع المتخصصين ومع الكوادر السياسية ، وهى عوامل توافرت للدكتورة لطيفة . وكيف غاب عنها أنّ عقد امتياز شركة القناة ينتهى عام 68 ، أى بعد 12 سنة فقط من تاريخ التأميم ؟ وأنّ الصين بقدرتها البشرية والتنموية والعسكرية والعلمية الهائلة ، مع امتلاك الحس القومى الذى لا يُفرّق بين سلطة حاكم وشعب محكوم ، رغم امكانات الصين لم يفعل حكامها ما فعله عبدالناصر . احترمت الصين قواعد القانون الدولى واستردت أراضيها فى الموعد المحدد . وإذا كان المبرر هو تمويل مشروع السد العالى ، فلماذا لا يكون التمويل ذاتيًا بدلا من تبديد أموال المصريين على أغراض سياسية فى اليمن والجزائر وسوريا والعراق وإيران ؟ ولماذا لم يستمع عبدالناصر إلى نصيحة د.عبدالجليل العمرى وزير المالية آنذاك الذى رأى أنّ تمويل السد العالى (( ممكن عن طريق تصدير فائض إنتاجنا من الأرز إلى الخارج . مع استخدام الفرق بين سعره العالمى وسعره المحلى فى تمويل المشروع دون أنْ نعتمد على أية دولة أجنبية لتمويله . والفرق بين السعريْن العالمى والمحلى للطن الواحد كان حوالى سبعين جنيهًا )) ؟ وإذا كانت د. لطيفة تجهل هذه الحقائق ، فهل كانت تجهل أيضًا أنّ قرار التأميم ترتّب عليـــــــــــــه (( تعويض حملة أسهم شركة القناة . وأنهم حصلوا على التعويض بقيمة السهم عند إغلاق بورصة لندن فى اليوم السابق للتأميم )) ؟ بل وأكثر من ذلك أنّ قرار التأميم ترتب عليه كارثة أخرى هــى (( تجميد القدر الأكبر من أرصدتنا فى الخارج ، خاصة فى بنوك بريطانيا وفرنسا وأمريكا )) (15 )
وإذا كانت د. لطيفة لم تدرك هذه المعلومات طوال أربع سنوات ( من 56 – 60 ) فهل غاب عنها أيضًا الكارثة التى حلّت بشعبنا بسبب الحرب ؟ الكارثة المتمثلة فى الشهداء الذين ماتوا من مدنيين وعسكريين والجرحى والمشوهين ، وهدم مدن القناة وتشريد أهلها وملايين الجنيهات المنصرفة على تعمير هذه المدن بعد ذلك ؟ وهى حقائق لا يحتاج الإنسان إلى كتب لمعرفتها ، إذْ يعلمها الأمى والمتعلم . وكل هذا الخراب والدمار من أجل مشروع كان – ومازال – محل خلاف بين المتخصصين فى علوم الرى والزراعة والجيولوجيا ، حيث رفض عبدالناصر البدائل المقترحة التى كانت ستُجنّب مصر أهم كارثتيْن سوف تنتجان عن السد العالى ( وقد حدثتا بالفعل ) : الكارثة الأولى حرمان التربة الزراعية من طمى النيل ، والكارثة الثانية ( تطبيل ) الأراضى المصرية المجاورة والقريبة من نهر النيل ( نظرية الأوانى المستطرقة ) الأمر الذى يهدد ( وهو ما حدث ) بانهيار الكثير من المبانى والمنشآت والمعابد والآثار إلخ وبدلا من أنْ يستمع عبدالناصر لرأى الخبراء ، الذين وضعوا أمامه البدائل التى تُحقق الغرض من فكرة السد العالى ، وفى نفس الوقت تُجنّب مصر حدوث الكارثتيْن المشار إليها ، بدلا من أنْ يستمع إليهم ويترك الأمر للعلماء المُتخصصين ، اعتقل بعضهم ونفى البعض الآخر ( 16 ) .
ألم يكن الانتظار 12 سنة تسترد مصر بعدها القناة وفقًا للقانون الدولى ، كان سيُجنّب مصر ذلك البلاء المترتب على وباء الحروب ؟ ويُجنّب شعبا الشعور بمرارة الهزيمة المروّعة التى صوّرها الإعلام الناصرى / العروبى على أنها انتصار ، فى حين أنه لولا الإنذار الأمريكى لما انسحبت الجيوش الغازية من مصر . لأنّ أمريكا لا تريد شريكًا لها فى السيطرة على ضباط يوليو . والحقيقة الثانية أنّ الانتصار الحقيقى كان لإسرائيل ( الدولة المزعومة وفقًا للتعبير الناصرى / العروبى الشائع ) التى سُمح لها بالمرور من مضايق تيران والمرور علنًا من شرم الشيخ ( المصرية ) تحت إشراف الأمم المتحدة التى خضعت لها المنطقة . والحقيقة الثالثة هى حجم الخسائر فى أرواح الجنود والضباط المصريين الذين أستشهدوا فى معركة لم يتوفر لها أدنى درجات الاستعداد . وكانت طائرات العدو لا توقفها أدنى مقاومة لدرجة أنّ (( عدد الطلعات الجوية التى قامت بها الطائرات المعادية فى يوم واحد فوق مدينة بورسعيد وصل إلى 473 طلعة )) (17) أما عن الخسائر فى المعدات ، فإننى أكتفى بأنْ أنقل للقارىء هذا المشهد الذى كتبه عبداللطيف البغدادى وهو يتذكر أيام حرب 56 (( ونحن فى طريقنا إلى الإسماعيلية قال جمال بصورة مؤثرة بعدما شاهد العربات والدبابات محطمة على جانبىْ الطريق (( إنها بقايا جيش محطم )) وأخذ يتحسر على المبالغ التى كانت قد أنفقت على تسليح الجيش قائلا إنّ مائة وثلاثة ملايين من الجنيهات ضاعت هباءً )) (18) وأضاف عبدالطيف البغدادى أنّ عبد الناصر قال بالإنجليزية Iwas defeated by my army أى (( قد هزمت بواسطة جيشى )) أى أنه وفق أبجديات علم النفس ، مشغول بذاته المستبدة وسط الخراب الذى حلّ بمصر .
هل نغفر ل ليلى ( بطلة الرواية ) جهلها بهذه الحقائق ، نتيجة التعتيم الإعلامى الناصرى ، الذى زيّف الحقائق ، وجمّل القبح ، وأنّ هذا التعتيم لم يشمل المدنيين فقط ، بل شمل العسكريين أيضًا ، حيث ذكر عدد كبير من الضباط الذين نجوا من مذبحة بؤونة / يونيو 67 أنهم كانوا يعيشون فى مناخ الوهم والخداع الناصرى . ففى كتاب ( ضباط يونيو يتكلمون ) قال أحد الضباط (( كم مصرى كان يعرف أنّ إسرائيل تمر من شرم الشيخ بعد حرب 56 ؟ وأنّ مضايق تيران تحت رحمة إسرائيل . وأنّ ذلك بموافقة مصر ؟ )) وعندما سأله محرر الكتاب : سيادتك لم تكن تعرف أنّ إسرائيل تمر من شرم الشيخ . وأنّ هناك قوات دولية ؟ أجاب (( أبدًا . أنا ضابط مهندس بالجيش المصرى . وسنى كان 42 سنة . لم أكن أعلم أى شىء عن شرم الشيخ ولا مضايق تيران . وأنّ إسرائيل تمر منها . وعندما علمتُ ذلك حدث تحول خطير ومرير فى كل حياتى . شعرتُ بأنى خدعت طوال 11 سنة من 56 – 67 وكانت نتيجة هذه الخدعة هى الهزيمة )) وفى حوار مع ضابط آخر سأله محرر الكتاب ((هل كنت تعلم أنّ إسرائيل تمر بسفنها من مضايق تيران ؟ أجاب (( لقد صدر لنا الأمر يوم 22 مايو 67 بإغلاق مضيق تيران . وأنا كضابط بالجيش لم أكن أعلم حتى هذه اللحظة أنّ منطقة شرم الشيخ ومضايق تيران منطقة دولية ، وليس لنا أى سيطرة عليها وأنّ إسرائيل تمر بطريقة طبيعية )) (19).
وهل هذا التعتيم الإعلامى الناصرى / العروبى يكفى لقبول التحول فى شخصية ليلى ؟ التحول الذى لخّصته فى رسالتها إلى شقيقها : أنّ القوة والقدرة والكرامة أتتها من خطاب عبدالناصر . والسؤال بصيغة أخرى : إذا انتفى خطاب عبدالناصر ، وإذا انتفت حرب 56 ، هل كانت ليلى ستظل مقيدة بسلسلة أستاذها وخطيبها الكريه د. رمزى ؟ وبالتالى لماذا لم يكن التحول فى شخصية ليلى دراميًا ؟ خاصة وأنّ الكاتبة لم تتعرض لمدى الصدق والزيف فى الإعلام الناصرى / العروبى . أى لم ( تُفكّك ) العامل الخارجى . وأنّ الإعلام الناصرى حدّد ووجّه ميول ومعتقدات وأفكار المواطنين . وأنّ بطلتها كانت ضحية وأسيرة لهذا الإعلام المزيّف للحقائق . فصدّقته رغم أنها (( مدمنة قراءة )) كما وصفتها مبدعتها ( ص 293 ) وإذا كان هذا هو قدر ومصير البطلة ، فهل كانت المبدعة تتخفى وراء بطلتها ؟ أم أنّ ليلى كانت أسيرة شخصية د. لطيفة التى لم تمتلك إرادة التخلص من زوجها الثانى ( د. رشاد رشدى ) إلاّ فى عام 65 ؟ وهو التساؤل الذى صاغه أ.فاروق عبدالقادر بأسلوبه المتميز حيث كتــــب (( تمثلتْ التسوية فى معادلة واضحة الحدود : ليلى سليمان تخلع خاتم الدكتور رمزى . ولطيفة عبد السلام الزيات تُهدى روايتها للدكتور رشاد رشدى . وليس بعد هذا كلمة تقال )) ( 20 ) وإذا كانت ليلى أسيرة مبدعتها ، فهل يحق القول أنّ المبدعة كانت أسيرة الأكاذيب الناصرية / العروبية ؟ وبالتالى تكـــــون ( الباب المفتوح ) فيما يذهب ظنى ، رواية بديعة أضعفتها الأيديولوجيا وألاعيب السياسة ؟
المراجع :
ـــــــــــــــ
1 - د. لطيفة الزيات ( الباب المفتوح ) مكتبة الأنجلو المصرية – ط 1 عام 1960 .
2 – عبدالرحمن الرافعى ( مصر بين ثورة 19 وثورة 52 ) مطابع الشروق – مركز النيل للإعلام – عام 1980 – ص 61 ، 62 .
3 – طارق البشرى ( الحركة السياسية فى مصر 45 / 1952 ) دار الشروق – ط 1 عام 72 ، ط 2 عام 83 من ص 100 – 111 .
4 – هذا الرقم يتطابق مع ماذكره أ.طارق البشرى عن مظاهرة حدثت يوم 18 فبراير 46 فى ميدان عابدين – المصدر السابق ص 100 .
5 – الأرقام المذكورة فى الرواية تتطابق مع الأرقام التى ذكرها أ. عبدالرحمن الرافعى ، مع فارق واحد ، أنّ عدد الجرحى عند الرافعى 121 جريحًا وليس 122 كما ورد فى الرواية – عبدالرحمن الرافعى – المصدر السابق ص 62 .
6 – يوسف الشارونى ( دراسات فى الأدب العربى المعاصر ) المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر – وزارة الثقافة (المصرية) والإرشاد القومى – سبتمبر 1964 – ص 222 .
7 – عبدالمنعم الغزالى ( بعد أربعين عامًا براءة خميس والبقرى ) وصحيفة الأهالى 8 / 9 / 93 وشهادة صافى ناز كاظم – مجلة الهلال المصرية – عدد يوليو 2002 ص 136 وما بعدها . وكتاب (خميس والبقرى يستحقان إعادة المحاكمة) تأليف المؤرخ العمالى طه سعد عثمان – دار الخدمات النقابية بحلوان – عام 93- أكثر من صفحة.
8 – د . فخرى لبيب ( الشيوعيون وعبدالناصر ) شركة الأمل للطباعة والنشر عام 90 ج1 ص94 .
9 – د. فخرى لبيب – المصدر السابق – ج 2 ص 33 .
10 – د. فخرى لبيب – المصدر السابق – ج 1 ص 339 ، 351 ، 439 .
11 – د. فخرى لبيب – المصدر السابق – ج 2 ص 213 ، 233 .
12 – لمزيد من التفاصيل أنظر ( مذكرات عبداللطيف البغدادى ) { أحد ضباط يوليو 52 } المكتب المصرى الحديث عام 77 ج 2 ص 67 ، 68 ، 71 ، 95 ، 122 ، 149 ، 151 ، 162 ، 170 ، 182 .
13 – حملة تفتيش فى أوراق شخصية – د.لطيفة الزيات – كتاب الهلال أكتوبر 92 ومكتبة الأسرة – عام 2004 .
14 – عزالدين نجيب ( فنانون وشهداء ) مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان – عام 2000 – من ص 105 – 108 . وأميرة خواسك ( رائدات الأدب النسائى فى مصر ) مكتبة الأسرة – عام 2001 – من ص 259 – 267 .
15 – عبداللطيف البغدادى مصدر سابق – ج1 ص 312 ، 318 ، 320 ، 328 .
16 – فى دراسة أعدها الباحث فى التاريخ المصرى الحديث ( يوسف كمال محمد الغزالى ) ذكر أنّ من بين المعترضين على مشروع السد العالى المهندس عثمان محرم وزير الأشغال فى حكومة الشعب قبل يوليو 52 . ولما عارض (( المشروع فى عهد الدكتاتورية العسكرية أُلقى به فى السجن بتهمة الفساد كغيره من الوطنيين . وعارضه أيضًا د.عبدالعزيز أحمد ، فنفى خارج البلاد وتم إسقاط الجنسية المصرية عنه كغيره من الوطنيين )) لمزيد من التفاصيل أنظر التحقيق الصحفى والدراسة فى صحيفة الحقيقة عدد 538 – 12 ديسمبر 98 ص 11 .
17 - مذكرات عبداللطيف البغداى – مصدر سابق – ص 356 .
18 – مذكرات عبداللطيف البغدادى – مصدر سابق – ص 353 ، 354 .
19 – عصام دراز ( ضباط يونيو يتكلمون ) المنار الجديد للصحافة والنشر عام 89 ص 72 ، 122 ، 123 ، 129 ، 139 .
20 – فاروق عبدالقادر ( أوراق من الرماد والجمر – متابعات مصرية وعربية ) كتاب الهلال – ديسمبر 88 – ص 95 .
******






#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أوديسا التعددية الثقافية
- مباراة عصرية فى شد الحبل بين الحرية والدكتاتورية
- دستور سنة 23 وموقف الليبراليين المصريين
- قصة (بعد صلاة الجمعة) والفكر الأصولى
- إبراهيم أصلان والكتابة بلغة فن الهمس
- محجوب عمر والترانسفير الصهيونى
- نداء الحرية فى مواجهة بطش العسكر
- العلاقة بين التدين والإبداع الشعبى
- الروائى الأيرلندى جيمس جويس واليهود
- الصحافة المصرية وحجب المعلومات
- الدبلوماسية المصرية بعد يوليو52
- الآثاروالسياحة واللغة المصرية القديمة
- بورتريه لإنسان لا أعرفه
- أخناتون بين التوحيد والتفريط فى حدود الوطن
- فتاة صينية (مشهد واقعى)
- روبابيكيا ( مشهد من الحياة)
- الشروط الموضوعية لتحدى الإدارة الأمريكية
- عادل وحلم الطيران- قصة للأطفال
- صديقان - قصة للأطفال
- من يفتح الباب - قصة للأطفال


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - الإبداع بين الدراما والسياسة