أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حميد الخاقاني - شبح الشيوعيين مرة أخرى















المزيد.....


شبح الشيوعيين مرة أخرى


حميد الخاقاني

الحوار المتمدن-العدد: 3683 - 2012 / 3 / 30 - 07:34
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مرةً أخرى تبعث السلطة رسُـلَها المدججين بالأسلحة والأحقاد السود لمداهمة مقار الشيوعيين، ثم ترسلُ، بعد أيام، من يعتذر عنهم. لم يكن الاعتذار سياسياً، بل عسكرياً، وكأن الأمر ليس ذا دلالات ومعانٍ سياسية، يتحملها الساسةُ، خاصة وأن هذه الحالات لم تكن صدفةً، ولا لمرة واحدة فحسب. وهي لم تتفتق عن خيال العسكر المُسَيَّرين وحدهم قطعاً. هل يتصرف العسكرُ لحالهم، ويقومون بما يعِنُّ لهم، دون مرجعية سياسية ما، وكأنهم يمارسون لعبةً مُحبَّبةً لهم، في أوقات الفراغ؟!

جاء الرسلُ المسلحون، هذه المرةَ، لمداهمة مبنى (طريق الشعب)، مثلما حدث فيما مضى. ومرة أخرى تكذب السلطةُ بألسنة رسلِها المدججين هؤلاء، رغم أن أهلها يُكثرون من أحاديثهم عن "الإيمان" و"الصدق"! ولا بد أن يكونَ رُسُلُ السلطة، من قوة الشرطة الاتحادية الكبيرة، المداهمة،"مؤمنين" كذلك، شأنَ من خطط لفعلتهم هذه، وأمرهم بتنفيذها!
إدَّعت السلطةُ عبرَ رسُلِها، في البدء، أنها بحاجة للصعود إلى سطح المبنى للإفادة منه، مؤقتاً، في إطار إجراءات حماية القمة وضيوفها. ويَسَّر حرسُ المكان لقوى "حفظِ النظام والقانون!" مهمتَهم، عن طيب خاطر، وصدَّقوا زَعْمَ الرسُل هؤلاءِ، بعدَ أن رأوا، كما يبدو، سيماهم في وجوههم من أثر السجود!، وظنّوا أن سيماء ظاهرةً كهذه تمنع أصحابَها عن الكَذِب.
ولكن ما إن ولجَ "حماةُ القانون!" المكانَ حتى بانَ المُبَيَّتُ والمخبوء، وظهر كذِبُ القوم عارياً، لا يستُر عوراته شيئ. توجه القومُ، مباشرة، إلى جثة رشاش عجوز، عاطلٍ، مركونة، منذ سنين، لوحدها في زاوية من زوايا السطح.

فجأةً تصبحُ الجثةُ العاطلةُ "سلاحاً خطيراً"، رغم أن عطلَها وتلفَها الظاهرَين لا يخفيان على اللبيب وغير اللبيب من العسكر وسواهم!.
فجأةً يغتبطُ القوم باكتشافهم هذا. اغتبط اللبيبُ وغير اللبيب منهم. فجأة صاروا يرون في اكتشافهم هذا نصراً على الارهاب، وفتحاً مُبيناً لقلاعه التي ماتزال منتشرة هنا وهناك، ينبغي أن يُثابوا عليه في الدنيا والآخرة.
فجأةً فكّرَ قائدُهم بضرورة إصدار بيانٍ يزُفُّ البشرى للناس الملتاعين بلظى الموت والخراب والفقر، يقول لهم فيه بأنَّ عمليات "حفظ الأمن والقانون" قد أعطت ثمارَها، هذه الأيامَ، بالعثور على سلاحٍ، صحيحٌ أنه عجوز وعاطلٌ، لكنه "خطيرٌ"!
وكيف لا يكون خطيراً، وقد ضبطه "النشامى" متلبِّساً بجريمة النوم وحيداً على سطح مبنى تشغله (طريق الشعب)؟!

فجأةً راودتهم الرغبةُ في أن يعصبوا أعين الرشاش الهَرِم، ويوثقوا يديه، قبل أن يحشروه في مركبات الاعتقال، ذاهبين به إلى زواية معتمة، مجهولة.
فجأة أخذتهم سورةٌ من غضب عارم، حالما عرفوا، بعد جُهدٍ جهيد، كما يظهر، بأن الهرِمَ المسكين مقطوع اليدين، أعمى.
فجأة أصابهم حزن عميق حينما أدركوا أن العجوز خدعهم، وأفسد عليهم بهجةَ التمتُّع بعَصْب الأعين وربط الأيدي من خلفٍ.

فجأة آثروا أن يَصمّوا آذانهم، ويُغلقوا عقولَهم، ويدفنوا حتى مجرد الرغبة في الإصغاء إلى توضيحات حرس المبنى حول أصل العجوز وفصله. فالمسكين من مخلفات نظام الطغيان السابق، حيث كان المبنى في حوزة إحدى مؤسساته الأمنية!

فجأة لم يريدوا أن يعرفوا (وهم عارفون حقا!)، بأن الأمريكان مرّوا على المكان، قبلهم بسنين، وأبطلوا فاعلية الرشاش تماماً، فهو، منذ ذلك الحين، سكرابٌ عاطلٌ وعجوز.
فجأةً تناسوا أن مجموعات عدّة من الجيش والشرطة الاتحادية، أي من ذات المؤسسة التي جاؤوا منها، صعدت السطحَ، أكثر من مرة، في السنوات الماضية. رأتِ العجوزَ التالفَ، فحصته وقلَّبتُه ذات اليمين وذات الشمال، ثم أهملته وتركته يعيش فصول السنة العراقية، وتقلبات طقسها، على السطح وحيداً، يعلوه الصدأ، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا!

ألم تحرر المجموعات التي مرت على السطح، فيما مضى، محضراً، أو محاضرَ، عن وقائع لقاءاتها بصاحبنا العجوز وحيثيات فحوصها له، مثلما هي العادة في مثل هذه المؤسسات؟ أم إن المحاضرَ حاضرة، والمداهمون يعرفون بوقائعها، لكن كشفَ أمرها يفضح مقاصد "غزوهم" الحقيقية لمبنى (الطريق)؟ وهل يخجلون، ومن أمَرَهم، من الفضيحة حقاً؟

من المألوف أن يقود مثل هذه "الغزوات"، ويكون بين أفرادها ضباطٌ متمرسون، ذوو عيون خبيرة تعرف، من النظرة الأولى، فاعلية السلاح من عطله. فكيف إذا كان الحالُ يتعلق بسلاح هشَّم الأمريكان جسده بحرفيتهم المعهودة في تهشيم الأجساد؟
إن كانت الحملة الجديدة على (طريق الشعب) قد خلت من مثل هذه العيون الخبيرة فتلك مصيبة، وإن لم تخلُ (وهو ما كان حقا) يصبح للمصيبة وجهٌ آخر، في تقديري، هو (عار الفضيحة): فضيحة "الديمقراطية"، فضيحة "القانون" وفضيحة التربص بالشيوعيين، والديمقراطيين عموماً، والعداء لهم، دون سبب يُذْكَر!
كلنا نعرف أن مثل هذه الفضائح صارت تتوالى عندنا، وتترى. وهي فضائح يجري ارتكابها مع سبق الإصرار والتعمّد، مثلما تنطق بذلك لغةُ أهل القانون.

توضيح الشيوعيين، وإعلامهم المركزي، لوقائع مثل هذه "الغزوة" التي لم تجد الأجهزةُ التنفيذية لـ"دولة القانون" ضرورةً حتى لاستحضار مُبرّر قانوني مؤَسَّسٍ بأمر قضائي تتوكل عليه، وتُطلق على بركته العنانَ لحملتها هذه، يؤكد طابعَها الفضائحي هذا، ويؤشّر، مرة أخرى، لدوافع الكيد السياسي والفكري فيها لا غير.
كلُّ ما لا يتمّ القيام به في إطار قانوني وقضائي عادل يظل ظلماً باطلاً. يُصبح نوعاً من "الغزو" حتى لو قام به أناس يلبسون الزيَّ الرسمي.
ألم تذكر المادة (15) من الدستور الذي أسهم أهل السلطة في صياغته، وما زالوا يسوقون له آيات الثناء، ما نصّه: "لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية، ولا يجوز الحرمان من هذه الحقوق أو تقييدها إلا وفقاً للقانون، وبناء على قرار صادر من جهة قضائية مختصة"؟

لا يحتاج المرء إلى ذكاء خارق كي يرى في هذه الحملة، وما ماثلَها وطال، قبل مدةٍ، أحزاباً ومنظماتٍ ونواد اجتماعية كذلك، تعبيراً عن السخرية بالديمقراطية والعدالة، والخروج على الدستور والقانون. وهي جميعها أمور أقسمَ الحكام وقادة الأجهزة التنفيذية على الالتزام بها، وصيانتها والدفاع عنها!

وإضافة لما ورد في توضيح الشيوعيين لما جرى، وأشرت لبعضه في هذه السطور، تزوّدُنا الحملةُ، وسلوك من قام بها، بأدلة أخرى على لا قانونيتها، ولا دستوريتها، ناهيكَ عن لا ديمقراطيتها.

لقد قام أصحاب الحملة بالاستيلاء على 15 بندقية (مرخَّصة قانونيا) لـِ 15حارساً، لا أكثر ولا أقلَّ، وصادروها مع عتادها دون قرار قضائي كذلك، ومع المعرفة التامة بالترخيص القانوني بحملها لأغراض الحراسة!.
في اليوم التالي أعيدت 9 منها، وظلت، حتى لحظة كتابتي هذه، الـ 6 الباقية وعتادها في حوزة أفراد الحملة، دونما إيضاح لأسباب الاحتفاظ بها.
هل يُمكن أن نفهم من هذا أن البعض يرى فيها "غنائمَ غزوٍ"، له "الحق" في حيازتها، ربما، وقد أصبحت، والحال هذه، من بعض ماله الحلال؟ كلنا يعرف أن فكرة "الغنيمة" راسخة في موروثنا الثقافي والاجتماعي، في الماضي والحاضر!

وقرّرَ قادة الحملة اعتقال الحراس الـ 12 (أيضاً دونما أمر قضائي!) واقتيادهم إلى جهة مجهولة، لم تفلح اتصالات رفاقهم بالمسؤولين، طوال اليوم، لمعرفة مكانها، حيث قضوا ليلتهم محشورين في غرفة ضيقة، مقيَّدي الأيدي ومعصوبي الأعين، دونما تحقيق معهم، لا عن "أسطورة السلاح الخطير"، ولا عن أي شيئ آخر يتعلق بسبب الحملة الظاهري.
في اليوم التالي فرضت عليهم أجهزة "دولة القانون" التنفيذية التوقيعَ على تعهدات، لم يُسمَح لهم حتى بالاطلاع عليها!

أية سلطة "ديمقراطية" و"مدنية" تلك التي تعصب عيون ضحاياها حتى لا يروا وجهها؟ هل تُدرك بشاعةَ هذا الوجه فتحجبه عن عين الضحية؟

ينبغي على أهل السلطة اليومَ ألاّ يغتاظوا، ويركبهم شيطان الغضب، (الإمام الصادق وصف شيطان الغضب هذا بأنه أكثر أعداء الله شدة)، إذا ما ذكّرناهم بأن الاعتقال والمصادرة، دونما تبرير قضائي لهما، وكذلك تقييد أيدي الناس، وعَصْب عيونهم، ثم إجبارهم على توقيع تعهدات لايعرفونها، أمور كان يفعلها طغاة الأمس بالشيوعيين وغيرهم من المعارضين، وقد تعرّض لمثلها أنصار الأحزاب الاسلامية كذلك!

أيّ عَماءٍ هذا الذي يصيب الضحيةَ، المظلومَ بالأمس، فيأخذه إلى حالٍ يتقمّصُ فيها طبيعةَ جلاده، ويقتفي أثره، خاصة حين يصبح سلطاناً؟
يُفتَرَض فيمن كابد وطأةَ الاضطهاد والظلم، يوماً، أن يزداد حساسيةً إزاء أيّ ظلم واضطهاد، حتى لو طالَ أعداءه أو من يخالفونه. بدون هذا لا يعود لحديث المظلوم عما كابده من صدقيةٍ تُذكَر.

لقد نسي بعض أهل السلطة وأجهزتهم، حتى ما يحلوا لهم ترديده دائماً، وإعلان الإيمان به، من أن الله، وكما جاء في الكتاب، كرَّم بني آدم على غيرهم من المخلوقات.
فهل تقييد أيدي بني آدم وتعصيب عيونهم تكريمٌ لهم؟! أين كانت المادة (35) أولاً، من الدستور، وقتئذٍ، والتي تقول بأن "حرية الإنسان وكرامته مصونة"؟ هل كانت المادة المذكورة لصيقةً بكعوب بساطيلهم، ساعةَ قاموا بفعلتهم السيئة هذه، فلم يقدروا على رؤيتها أو الانتباه إليها!

أم إن أهل السلطة لا يرون أحداً، في هذه الأرض، غيرهم، يمكن له أن يكون من (بني آدم)، فهم وأبناء جلدتهم، وحدهم المقصودون بالتكريم الذي أتت به آيات الكتاب هذه؟ ولا عجبَ أن يخرج علينا، يوماً، مُفسِّرٌ لكتاب الله منهم، ينتهج طرائق التأويل الانتقائي، فيقول بمثل هذا!

لم تكتف أجهزة "دولة القانون" التنفيذية بالاعتقال والمصادرة بالصورة التي ذُكِرَت فحسبُ، وإنما جاء إلى المبنى، فيما بعدُ، رسُل سلطة آخرون، مصطحبين معهم، هذه المرة، أحدَ كلابهم المدربة، المالكة لحاسة شَمٍّ قوية، تفوق قدرةَ الشمّ لديهم.
انتهكوا حرمةَ المكان ودخلوه بعد أن خلا من الشهود، سوى أحد الجيران، وقاموا بتفتيش مكتبين، أحدهما لحميد مجيد موسى (أبي داوود)، والآخر لمناضل آخر معه. بعثروا الأثاث وعبثوا بحاجيات الأشخاص الخاصة، ودونما إذن قضائي هذه المرة أيضاً!
أليس في هذا انتهاك لحرمة المنازل وأماكن العمل الخاصة في غياب أهلها، وهو ما يمنع عنه الدين والقانون معاً؟ ماذا يُمكن لأماكن عمل الشيوعيين، والديمقراطيين عموماً، أن تخفيَ من أمور يخافها أهل السلطة، وهؤلاء الشيوعيون، كما هو معلوم عنهم، لا يُبطنونَ غيرَ ما يُظهِرون؟

أليست منازل الديمقراطيين، من شيوعيين وغيرهم، وأماكن عملهم وملتقياتهم، ميادينَ يجاهدون ويجتهدون فيها، ومنها، لأجل الحق والناس والبلاد، حتى وإن أخطأوا، أو لم يوافق اجتهادُهم ما يراه أهل السلطة في هذا الأمر أو ذاك؟
ألا يقول موروثنا الديني، مثلما يُروى، بأن لصاحب الاجتهاد الصائب عشرَ حسنات، ولغير الصائب حسنة واحدة؟

ثمَّ ألا تنص الفقرة الثانية من المادة (17) من الدستور على أنّ: "حرمة المساكن مصونة ولا يجوز دخولها أو تفتيشها أو التعرّض لها إلا بقرار قضائي ووفقاً للقانون"؟

ما يثير التساؤلَ حقاً، ويبعث على الدهشة والشك في آن واحد، صمتُ مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية، ناهيك عن مجلس النواب وغالبية أحزابه وكتله، عن جميع هذه الانتهاكات لنصوص الدستور والقانون، ليس إزاء الشيوعيين والديمقراطيين وحدهم، وإنما كثيرين غيرهم، ومنذ سنوات أيضاً.
لا أدري ما معنى وجود مثل هذه المؤسسات، وما تكلّفه الناسَ من أموال طائلة، إذا لم ينتصر العاملون فيها للدستور والقانون، وللحقول التي ائتمنهم الناسُ عليها، وصاروا يدفعون لهم أجورَهم لقاء قيامهم بواجباتهم فيها؟ أليس من الجدير بهم أن يصدحوا بما هو حقّ وعدل، ويؤكدوا، بهذا، استقلاليتهم أفعالاً وأقوالاً؟ أم أنهم يرون أن الحقَّ هو حق أهل السلطة وحدهم؟

ذكرَ المعتقلون الاثنا عشر بأن من أخذوهم إلى المكان المجهول لم يكن يعنيهم أمرُ السلاح التالف "الخطير!"، وإنما دور الشيوعيين في التظاهرات التي جرت في ساحة التحرير فقط!

أيُّ كابوس يُقلق نومَ السلطة "الديمقراطية" هذه التظاهرات، رغم محدوديتها وتواضعها؟ هل يُمكن تصور ديمقراطية ما، أو نظام ديمقراطي ما، "نموذجي" خاصة، دون تظاهرات؟ ثم لماذا الشيوعيون وحدهم، وهم لم يكونوا سوى بعض من تظاهر، ولم يلعبوا، مع أهل السلطة وسياساتهم، إلا بأوراق مكشوفة؟ ظلوا يقولون، دائماً، في اللقاءات المباشرة مع أهل الحكم، ما يفكرون به، وما يرون فيه خيراً للجميعز ظلوا يكتبونه في صحفهم، وما زالوا، ويعلنونه للملأ. فلماذا ترى السلطة "الديمقراطية" فيهم "شبحاً" يحومُ في سماواتها، ينبغي مطاردته على الدوام؟ من يطاردُ من؟

أليست هذه الأحوال، ورؤية مثل هذه الكوابيس والأشباح، إشارات لأحوال في النفس وأمراضها يجبُ علينا علاجُها كي نُجَنِّبَ أنفسنا، وأهلنا ووطننا، ما لاتُحمَدُ عقباه، والعياذ بالله من كلّ شر.

هل اغتاظ أهل السلطة، ربما، من دور الشيوعيين في السعي لبلورة تيار ديمقراطي فاعل، وعقد مؤتمر وطني شعبي، ناجح له؟ أليس في قيام مثل هذا التيار، واشتداد ساعدِه، تعزيز للديمقراطية التي يقولون إنهم مبدعوها وحراسها؟

لماذا تجنح سلطة "ديمقراطية نموذجية"، إذن، إلى وسائل بوليسية وقمعية، لا مبرر لها، ولا أغطية دستورية أو قانونية تستر عوراتها المكشوفة، في التعامل مع مواقف سياسية وثقافية وفكرية لشركائها من الديمقراطيين، شيوعيين وغيرهم، لا تُعجبُها؟
أليس الجدل والحوار مع الشركاء، داخل السلطة وخارجها، في البرلمان أو في الشارع، مع من يُصفّق لي ومن يحتج عليَّ، أوعلى بعض ما لديَّ، والتفاعلُ معهم، خيراً للبلاد وأهلها وللديمقراطية كذلك، خاصة إذا أردنا لها أن تكون نموذجية واقعاً، لا وهماً؟

لست أعني هنا (حوار الطرشان) الذي لا يرى فيه كل طرف إلا نفسه وفرقته، وهو الحوار الذي نعيشه، ونتابعه منذ سنين، والذي انتهى بنا إلى ما نحن فيه، وإنما أقصد الحوار والجدل العميق الذي يصغي أطرافُه لبعضهم البعض بإمعان. تُصغي السلطة وأحزابُها للآخرين بإمعان، ويُصغون هم لهاولمتاعبها، ولأحزابها بإمعان كذلك. جدلٌ وحوارٌ يذهب إليهما الجميعُ وقد ركنوا مطامحهم الشخصية والحزبية والعقائدية الخاصة في بيوتهم، قبل أن يلجوا صالةَ الحوار والجدل هذين. لن يأخذوا معهم إليها غير مصالح البلد وأهله جميعاً، وما ينفعهم حقاً.
مثل هذا الحوار كان ينبغي لمن يُمسك بدفة السلطة أن يبادر إليه، وبصدق وجدية. المؤسفُ أن المواقف من فكرة (المؤتمر الوطني) وصيغ التعامل معها تشير إلى نقيض هذا، وإلى أننا لم نتعلم من تاريخنا، وأخطائنا وكوارثنا، البعيد منها والقريب!

ويبدو لي أن تعامل السلطة مع الشيوعيين، والديمقراطيين عموماً، أحدُ تجليات هذه الحقيقة. فالسلطة، مثلما نرى، تعمد إلى تكرار مداهماتها لمقار الشيوعيين، وتسخير مخابراتها لمتابعتهم، واعتقال بعضهم، قاصدةً، من هذا كله، تذكيرَهم بأنهم مرصودون على الدوام، وأنهم يتحركون في مدى مرماها، وأن الساعة آتية لا ريب، فإما أن يُروَّضوا ويجلسوا في "حضن" السلطة، أي أن يكفّوا عن أن يكونوا شيوعيين، أي بمعنى آخر، أن يكفّوا عن الوجود، وإما أن يذهبوا إلى مكان آخر، إن استطاعوا الإفلاتَ، والخروج إليه!

طاغية الأمس سعى لمثل هذا، وخاب في النهاية. فالشيوعيون لم يعتادوا، عبر تاريخهم كله، ترتيلَ قصائد المديح والدعاء لأهل السلطان، مثلما كان يفعل كهنةُ المعابد في الثقافات القديمة، متوسلين رحمةَ آلهتهم ورضاها.
هم يمدحون ما هو، ومن هو، جديرٌ، بالمدح، ويوجهون نقدهم لما ينبغي نقده، ولمن ينبغي نقده، ويعرضون اجتهادهم فيما يرونه صالحاً ونافعاً للناس والبلاد،
ويتحاورون بشأنه مع الآخرين، ويسعون لتحقيقه معهم كذلك.

مرةَ أخرى قد يقول البعض، أو يظن، بأنني أبالغ في الأمر، وأن هذا الذي حدثَ عابرٌ وهامشيٌ. حدثَ مثله الكثير، ويحدث طوال السنوات التسع، وبمديات أوسع من هذه، ثم إن الساسةَ المسؤولين بعثوا عساكرَ يعتذرون عما فعله عساكرُ آخرون!
وقد يقول البعض الآخر إن أحوال البلاد الطارئة والاستثنائية تأخذ "مساكين" السلطة لمثل هذا، من حين لحين، ودون إرادة أو رغبة منهم ربما!

أظن أن خطيئتنا، أو خطيئةَ الكثيرين منا، أننا لا نرى الأشياء بعلاقاتها المترابطة ببعضها، والمؤثرة في بعضها البعض، ولا نعقلها إلا منفصلة عن بعضها، وتلك هي، في اعتقادي، طامة العقل الكبرى عندنا.
الأحداث التي تبدو لنا عابرة، والمشاهد الصغيرة والهامشية، في الظاهر، تتكامل، دائماً، وخلسةً في الغالب، لتشكل صورةَ الطغيان الشاملة، في النهاية. هذه الصورة غالباً ما تفاجئنا. غالباً ما نكتشفها بعد فوات الأوان. وهي صورة لا تصوغُها السياسةُ ومقالبُها وحدها، وإنما تُنتجها، في الأصل، ثقافة تمتد جذورها، عميقاً، في موروثنا الفكري والاجتماعي، وما تزال هي السائدةُ فينا.

طغيان طاغية الأمس الذي عمَّ الجميع، في النهاية، وأسقط البلاد وأهلها في الهاوية، لم يولد، أو يبدا في الأساس، إلا بما كنا نراه عابراً وصغيراً من مثل هذه الظواهر. بدأ بما كنا لا نكترث له، أو نعيره اهتماماً جدياً.
لا ينفرد طغيان طاغيتنا بالأمس وحده بصيرورة السير هذه نحو الهاوية. الطغيان في التاريخ كله، وفي المجتمعات التي كابدته جميعها، يروي لنا، إذا ما تأملناه بعمق، الحكايةَ نفسَها، ويُرينا الخطواتِ ذاتها، حتى وإن اختلفت السياقات، وتباينت الأحوال.
سبيلٌ يبدأ، دائما، بما يبدو عابراً، وطارئاً في ظرف طارئ، ليصبح، بالتدريج، ظرفاً ثابتاً، يأخذ كلَّ شيئ، ويشمل، آخر المطاف، كلَّ شيئ. لا يفلتُ منه، في حالات كثيرة، حتى المقربون.

وتُظهرُ تجارب التاريخ القديم والحديث، في الثقافات والمجتمعات المختلفة، بأن اجتماع سطوة السلطة والسقوط في شغفها، بسطوة العقل التقليدي، المتوقف عند الماضي، والمسكون بعصبيات شتى، يفتح سبيل الاستبداد. وعندها لا يعود من ركب هذا السبيل قادراً على مغادرته، والخروج عليه.

لا أكتب اليومَ، مثلما لم أكتب بالأمس في هذا الشأن، انتصاراً للشيوعيين وحدهم، وأنما أكتب، وأدعو سواي للكتابة وللقول في مثل هذه الظواهر، وقراءة دلالاتها بعمق، والاحتجاج عليها، لأجل أهلنا جميعاً، حتى من لانشاطرهم، أو لا يشاطروننا منهم، الرأي والفكرَ والاعتقاد.

أكتب حتى لأجل أهل السلطة أنفسهم، ولأجل من يُسَيَّرون، بأمر منهم، لمداهمات واعتقالات لا تقوم على حق. أكتب حتى لا تركب النفوسُ الأمارةُ بالسوء أهلَ السلطة، وتركبنا معهم، فيغدون، ونغدوا معهم، مطاياها تأخذهم مطامعها، وتأخذنا معهم، حيث تشاء، فيخلي الانسانيُ فيهم مكانه للوحش الكامن فيهم، وفينا جميعاً، بدرجاتٍ وأشكال مختلفة.

وحش النفس الأمارة بالسوء هذا لم يُفلح في ترويضه وكبحه، ونزعه من دواخلهم، غيرُ الصالحين والزُهاد وأهل التصوف الكبار من البشر، ومن الأديان والثقافات والأجناس جميعها.

أتُرانا ورثنا، نحن بني البشر، وحشَ النفس الأمارة بالسوء هذا من شقيقيْنا الأوليْن، قابيل وهابيل، عندما سوّلت نفسُ أحدهما له قتلَ أخاه، وهما ابنا نبي من أنبياء الله، هو أبينا آدم؟!



#حميد_الخاقاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -ديمقراطيو- السلطة وأشباح اليسار الديمقراطي
- الطيب صالح ومعضلة الهوية
- جدل هادئ ومتأخر مع عبد الخالق حسين


المزيد.....




- انتشر بسرعة عبر نظام التهوية.. لحظة إنقاذ كلاب من منتجع للحي ...
- بيان للجيش الإسرائيلي عن تقارير تنفيذه إعدامات ميدانية واكتش ...
- المغرب.. شخص يهدد بحرق جسده بعد تسلقه عمودا كهربائيا
- أبو عبيدة: إسرائيل تحاول إيهام العالم بأنها قضت على كل فصائل ...
- 16 قتيلا على الأقل و28 مفقودا إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة ...
- الأسد يصدر قانونا بشأن وزارة الإعلام السورية
- هل ترسم الصواريخ الإيرانية ومسيرات الرد الإسرائيلي قواعد اشت ...
- استقالة حاليفا.. كرة ثلج تتدحرج في الجيش الإسرائيلي
- تساؤلات بشأن عمل جهاز الخدمة السرية.. ماذا سيحدث لو تم سجن ت ...
- بعد تقارير عن نقله.. قطر تعلن موقفها من بقاء مكتب حماس في ال ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حميد الخاقاني - شبح الشيوعيين مرة أخرى