أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - حوار في شأن أصول الثورة السورية وفصولها















المزيد.....


حوار في شأن أصول الثورة السورية وفصولها


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 3681 - 2012 / 3 / 28 - 09:48
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


1. تناولت في كتابك الأخير المحركات الاجتماعية للثورة السورية، فهل يمكن أن تطلعنا علي بعض تلك الأسباب التي جلبت الثورة إلي سوريا؟
الثورة السورية هي ثورة العامة، المتن الاجتماعي السوري الذي كان جرى تهميشه سياسيا وثقافيا منذ مطلع العهد الأسدي، ثم تدهورت مقدراته المادية في سنوات حكم بشار الأسد بفعل لبرلة سلطوية للاقتصاد، استفاد منها "الجيل البعثي الثالث" (الجيل الأول جيل المؤسسين، واكتمل إقصاؤه عام 1966، والجيل الثاني جيل رجال السلطة ورمزه حافظ الأسد)، أو من نسميهم في سورية "أبناء المسؤولين" ومحاسيبهم ومحظييهم، ما يسمى أحيانا "رأسمالية الحبايب". في هذه السنوات تشكلت سوق عمل جديد، متمركز حول الخدمات (بنوك، وكالات استيراد أجنبية، أدوات إعلامية، مشاريع ترفيه...) يوفر وظائف مجزية لنسبة ضئيلة ممن يحوزون مؤهلات أعلى مما توفر مؤسسات التعليم الرسمية. ونموذج النمو والتراكم الجديد محابٍ بوضوح للمدن على حساب الأرياف، وللمدن الكبرى على حساب المدن الأصغر، ولمراكز المدن على حساب الأحياء الطرفية والضواحي، وللشرائح الميسورة والمسيطرة سياسيا على حساب الأكثرية الاجتماعية. لذلك انتشرت الاحتجاجات في المدن والضواحي المهمشة، وظلت بعيدة عن مراكز المدن الكبيرة.
وهذا مع تراجع حاد في وظائف الدولة الاجتماعية، وعجز القطاع الحكومي عن توفير وظائف لخريجي الجامعات. يدخل سوق العمل سنويا في سورية نحو 300 ألف وافد جديد، لا يوفر القطاع المنظم، الحكومي والخاص، أعمالا لغير 62 ألفا منهم.
في عام 2007 كان 37% من السوريين (23 مليون في 2010) يعيشون دون خطر الفقر الأعلى، دولارين في اليوم، و11% دون خط الفقر الأدنى الذي لا يفي بالحاجات الحيوية الأساسية. هذا مع عيش السوريين كلهم تحت خطر الفقر السياسي، محرومين من إمكانية التجمع والتعاون، كما من التعبير الحر عن الرأي في الشؤون العامة. وهذا ربما يفسر مشاركة قطاع متعلم من الطبقة الوسطي مكتف ماديا، لكنه شديد الحساسية للحاجات السياسية والفكرية، ويثير اشمئزازه جشع وعدوانية الطغمة الحاكمة والبرجوازية الجديدة ذات النزعات الفاشية.
وهذا مع افتقار النظام إلى أي قضية عامة أو إيديولوجية مهيمنة يمكن أن تسوغ هذه الأوضاع المتدهورة في أعين السوريين، ومع مستوى متدن من الكرامة والاعتبار العام.
2. كيف تجد المناخ الملائم للكتابة في ظل تلك الظروف العصيبة؟
أنا متفرغ للكتابة وأعيش منها. مساهمتي الأساسية في الثورة هي الكتابة عنها ومحاولة تحقيق قدر من الوضوح الفكري والأخلاقي بخصوص ما يجري. لكن بالفعل أجد صعوبة متزايدة في الكتابة مع تطاول أمد الثورة. من جهة أزداد انفعالا وقلقا، ومن جهة ثانية هناك مشكلة فقدان المنظور من داخل الثورة، أي الموقع الأنسب لرؤية وضع يزداد تعقيدا. لكن لعل كل ما نقوله أثناء سير الثورة لا تعدو قيمته قيمة شهادة شخصية، هي شهادة على النفس أيضا.
3. كيف يبدو المشهد السوري الآن مع اقتراب إتمام الثورة عامها الأول، في ظل هذا العنف المتمادي من جانب النظام؟
يبدو لي مشهدا مفتوحا على احتمالات متنوعة، لا يكاد يكون بينها للأسف تحول هادئ نحو أوضاع سياسية جديدة أكثر حرية وإنسانية. أغرق النظام البلاد بالدم والموت، وقتل أو تسبب بقتل فوق 9000 شهيد، وما قد يتجاوز أربعة أضعافهم من الجرحى، وعشرات ألوف اللاجئين والمهجرين، وعشرات ألوف المعتقلين. هذا كثير على أي بلد، وهو كثير على سورية. هذا فوق أن الاقتصاد يتدهور، ويتعمق الانقسام الاجتماعي، وتشتد الانفعالات الطائفية، وتتعرض البلاد لتجاذب إقليمي طائفي حاد، يهدد بتمزقها. ويتسبب ذلك كله في تمزق المجتمع السوري وتمزق الضمير الوطني السوري، ويحمل مخاطر تمزق الكيان السوري نفسه. ليس من السهل أن يكون المرء سوريا في مواجهة طغمة فاشية إلى هذا الحد.
4. إلام يؤشر وصول المظاهرات إلي قلب دمشق الحديث ؟
لم تكن دمشق يوما بعيدة عن المظاهرات. لكن كان الحي الأنشط يتبدل من وقت لآخر. لذلك لا أعطي دلالة خاصة لمظاهرة المزة التي بالغت وسائل الإعلام في الاهتمام بها. أرى أن الثورة السورية تشق طريقها بدأب يشبه الحياة، تتنوع ساحاتها وأدوات عملها، لكن ليس هناك إطلاقا احتمال العودة إلى الوراء. وفي مواجهة نظام خسيس بهذا القدر الذي بات معروفا عالميا، يبدو أن الوجه الآخر للثورة السورية هو مأساة اجتماعية ووطنية وإنسانية تضاهي كبريات المآسي الإنسانية التاريخية، وقد تتفوق عليها.
5. كيف تنظرون لمؤتمر أصدقاء سوريا الذي عقد مؤخراً، وهل تعتقد بأن سوريا أصبحت ساحة لصراع الجميع ضد الجميع، أقصد ساحة لنزاع السعودية مع إيران وروسيا مع الغرب، كيف تري المواقف الدولية المتضاربة في الشأن السوري ودلالاتها؟
كان المؤتمر محبطا ومولد الشعور بالخذلان عند السوريين. أتى بعد ثلاثة أسابيع من التنكيل المستمر بحمص وبابا عمرو بتشجيع فظ من الروس، عبر الفيتو في 4 فبراير الماضي، ثم عبر زيارة وزير الخارجية ورئيس المخابرات بعد أيام من ذلك، وعبر توريدات السلاح المستمرة. وبعد هذا كله اقتصر المؤتمر على تبادل الخطابات، وعلى ما يشبه طمأنة النظام بأن لا شيء سيئا سيقع له، وأن أسوأ ما يمكن أن يحصل لبشار الأسد هو أن يترك الحكم ويعيش حصينا آمنا في روسيا، أو ربما في تونس نفسها! حين تطمئن القاتل، وتقول للمقتولين إنك لا نستطيع أن تفعل لهم شيئا للأسف، فلماذا تعقد مؤتمرا؟ هذا أسوأ من فشل. هذا إعلان لكل من يهمه الأمر بأنه لا تأثير لنا على سير الأمور في سورية. وأول من يهمه الأمر هو النظام، وقد فهم الرسالة وسعد بها. وهذا ما فهمه الشعب السوري أيضا، وأثار لديه أشد الإحباط.
سورية موضع تجاذب اليوم بين القوى المذكورة في السؤال. اليوم للنظام وحلفائه الإيرانيين والروس اليد العليا عسكريا، ويتطلعون على حسم الصراع مع الثورة لمصلحتهم. قد تتحول سورية إلى ساحة إذا ثابرت روسيا وإيران على دعم النظام لتحقيق النصر في حربه على الشعب السوري، وتحولت السعودية وبلدان عربية وبمساعدة غربية إلى تسليح وتمويل الجيش الحر. أسوأ الاحتمالات على الإطلاق اجتماع شرط الساحة المفتوحة مع بقاء النظام لأمد أطول.
6. كيف ترون رفض الغرب للتدخل في سوريا، هل هم يضعون في اعتبارهم رفض قطاع واسع من المعارضة في الداخل لتلك الخطوة في حسبانهم أن الأمر أوسع من ذلك؟
الشيء الوحيد الذي يبرر تدخلا عسكريا من أي كان في سورية هو الاعتبارات الإنسانية. وليس هناك قوى دولية إنسانية بقدر كاف كي تتدخل هذا التدخل المنزه عن الغرض. أظن القوى الغربية لا تجد لها مصلحة في التدخل العسكري في سورية، فوق أنها تخشى عواقبه الكثيرة. ولذلك يختبئون وراء انقسام المعارضة السورية وافتقارها للإجماع. يناسبهم أن يتردد السوريون في هذا الشأن، لأنهم لا يجدون سببا كافيا من وجهة نظر مصالحهم القومية للتدخل. علما أن السوريين سيبقون مترددين في هذا الشأن الصعب عليهم سياسيا وفكريا.
7. لماذا يستمر الروس والصينيون في دعم نظام الأسد بعد كل هذا القمع الدامي؟
قبل كل شيء بسبب بنية سياسية متشابهة. يضعفون أنفسهم إذا اعترضوا على نظام يشبههم. لكن أهم من ذلك أنهم يقاربون المسألة السورية من زاوية موقعهم في نظام السيطرة الدولي الذي لا يزال الغرب يشغل موقعا متفوقا فيه. وبخصوص روسيا هناك توجس من الإسلاميين فيما يبدو متأثرة بتجربتهم الشيشانية، وهناك أيضا الخشية من فقدان آخر بلد لهم فيه تسهيلات عسكرية ويعتمد بصورة حصرية على سلاحهم.
8. هل أنتم لا تريدون حلاً خارجياً بالفعل، هل سيؤدي التدخل إلي تحويل سوريا إلي ليبيا جديدة أو يوقع البلاد في حرب أهلية؟
نحن في معضلة سياسية وأخلاقية فيما يتصل بهذا الشأن. لا نريد حلا خارجيا طبعا لو توفر حل داخلي على شكل تغيير ديمقراطي الوجهة للنظام، أو على شكل تسوية تاريخية تحقق مكاسب فعلية للشعب السوري على مستوى الحريات العامة وحكم القانون والعدالة الاجتماعية. لكن يظهر أكثر وأكثر أن نظاما احتلاليا يعتبر كل اعتراض عليه أو احتجاجا ضده خطرا وجوديا، مثله في ذلك مثل إسرائيل، يستبعد أن يتغير إلا على يد من هو أقوى منه، تحالف دولي ضده. فإذا طلبنا التدخل جازفنا بالوقوع في مدارات قوى غير ودودة وأقوى منا بكثير، وإذا رفضناه في كل حال كنا كمن يطمئن النظام القاتل.
ثم إن الأمر ليس في يدنا حتى لو أجمعنا عليه نحن، بل بيد تلك القوى القادرة.
لكن عدا أن لا أحد من تلك القوى يعرض أي رغبة في ذلك، ليس من المؤكد أن تدخلها حل لمشكلتنا بالفعل. فالدول الغربية ليست سند من لا سند لهم. ومركزية إسرائيل في رسم سياساتها الشرق أوسطية معلومة. ومعلوم أن هناك أرضا سورية محتلة من قبل إسرائيل، وأن إسرائيل كانت آمنة من جهة حدودها السورية أكثر مما هي آمنة من جهة الحدود المصرية أو الأردنية، أو اللبنانية. ولذلك تفضل النظام الأسدي، ومن المحتمل جدا أن لها دور في دفع القوى الغربية إلى التردد أكثر في شأن التدخل ضد النظام في سورية أو في دعم المعارضة.
المسألة السورية معقدة، وبلدنا ضحية موقعه وتعارض الرهانات الإقليمية والدولية حوله.
9. ما حقيقة الدور الإيراني داخل سوريا، هل هم يمدون الأسد بالسلاح والمقاتلين؟
بالتأكيد بخصوص السلاح. أوقفت تركيا غير مرة شحنات سلاح إيرانية كانت متجهة إلى سورية. وحسب تقرير نشرته واشنطن بوست الأميركية مؤخرا، فإن إيران توفر للنظام خبراء في القمع ومراقبة الاتصالات، وربما يشارك إيرانيون في قمع السوريين مباشرة. وإلى ذلك أيضا دعم استخباري، ومساهمة ما في تمزيق المعارضة السورية وإضعافها. ولا ريب أن هناك دعم مالي للنظام، وإن كنا نفتقر على معلومات موثوقة في شأنه. ثم أيضا الدعم الإعلامي. الإعلام الإيراني الناطق بالعربية يعمل كإعلام حرب إلى جانب النظام، ويعتنق قضيته بالكامل، وبلغة شديدة العدائية.
10. لماذا كان نظام الأسد قادراً علي الصمود دون حدوث انشقاقات سياسية واسعة داخله كل هذه الفترة، وما الذي يكشفه هذا عن طبيعة العلاقة بين الدولة والسلطة بسوريا؟
لم تحدث انشقاقات سياسية مهمة في الواقع. النظام السوري يجمع بين القمع الوحشي الذي لا يقتصر على الأفراد المعنيين، بل يشمل أسرهم وأحبابهم، وبين نشر ضرب من الوطنية الأبوية، تسبغ عليه طابعا شخصيا وتضفي الشرعية عليه، وتعمم أخلاقيات وسيكولوجيا الطاعة والخضوع في المجتمع المحكوم، وتضعف فرص الانشقاق، وقد تثير شعورا بالذنب حتى لدى الأبناء العاقين الذين قد تساورهم نوازع التمرد على الأب. وقد يظهر نوع غريب من المعارضين: يزعلون من الأب لأنه ليس أبا بالقدر الكافي، ليس صارما تماما، ويحصل أن يقمع حتى أبناءه المهذبين الذين يحملون أخلاقه ومفهومه الوطني العائلي، وليس فقط أولئك الأولاد الخونة الذين لا يحلمون بغير قتله والحلول محله. هذا العنصر الإيديولوجي السيكولوجي مهم في تقديري في السياق السوري.
أما الانشقاقات العسكرية فهي مهمة فعلا، وتظهر أن نقطة ضعف النظام هي الجيش العام (تمييزا عن تشكيلات نخبوية ذات وظائف أمنية مثل الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري)، وأنه بعد 40 عاما من التفريغ الوطني والاستتباع السلطاني بقي مؤسسة وطنية بقدر معقول. لكن حتى الانشقاقات العسكرية لا تزال طرفية وليست صُلبية. خلافا لمصر وتونس، جرى استتباع شبه تام للدولة العام من قبل النظام الخاص، الأمر الذي ترك السوريين بلا سند في مواجهة النظام. وأرجح أن يبقى مظهر التماسك مهيمنا إلى ما قبل اللحظة الأخيرة، حيث ينهار كل شيء.
11. كيف تري مسألة الدستور الجديد الذي يضعه الأسد والإصلاحات التي يتحدث النظام عن أنه ماض فيها ويري أنها كافية؟
الدستور الجديد لا حدث بالتمام والكمال. وقيمته ليست في مضمونه بل في وظيفته، أي كخدعة حربية في حرب النظام المستمرة على المجتمع السوري. جرت التضحية بالمادة الدستورية التي تقرر أن حزب البعث قائد للدولة والمجتمع، لكن الحزب كان قريبا لا شيء سياسيا منذ عقود، مجرد جهاز استتباع اجتماعي واسع الانتشار، تابع لنواة النظام السياسية الأمنية، وتحديدا الأسرة الأسدية والمخابرات والتشكيلات العسكرية ذات الوظائف الأمنية (الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري) وميليشيات الشبيحة. ما نسميه "النظام" في سورية هو هذه النواة، ومعها هيمنة برجوازية الحبايب على الموارد الوطنية. وكل الإصلاحات المعلومة لا تطال "النظام" على الإطلاق.
12. هل تعتقد بأن وقت المفاوضات مع النظام انتهي؟
متى كنا في هذا الوقت؟ النظام لا يقر بالأهلية السياسية للسوريين ولا يعترف بهم ولا يفاوضهم. وهو لم يفاوض يوما إلا من هم أقوى منه. بنيته تقوم على أن 100% من السلطة له، ومن الهيمنة على الإعلام وعلى المواد العامة. وبعد عام لم يظهر أي مؤشر على استعداد للتفاوض مع أحد من السوريين أو على التنازل ولو عن 10% من السلطة الفعلية. هذا النظام لا يتفاوض. أما يستعبِد أو يسقط.
13. كيف تري الخلافات بين شقي المعارضة السورية أقصد المجلس الوطني السوري وهيئة التنسيق، وهل من أمل في توحيد المعارضة، وهل تعتقد من الأساس أن توحيد المعارضة هو شرط لها لكي تنتصر؟
ليس سليما وضع تقابل بين المجلس الوطني وبين هيئة التنسيق. عدا أن المجلس مظلة تمثيلية أوسع بكثير، فإن آخره السياسي هو النظام, هيئة التنسيق أضيق تمثيليا، وآخرها السياسي الذي تنشغل به كثيرا هو المجلس الوطني، ومحصلة جهدها توسيع هامش مناورة النظام.، ويتواتر أن يجري اتهام المجلس الوطني بالخيانة من قبل متكلمي الهيئة، مع المثابرة الغريبة في الوقت نفسه على الدعوة إلى وحدة المعارضة وتحميل المجلس المسؤولية عن غيابها. وهذا موقف متهافت. فإذا كانوا خونة فينبغي النضال ضدهم بالأحرى، وليس الدعوة إلى الوحدة معهم؛ وإذا كانت الوحدة واجبة معهم فينبغي التوقف عن تسميم الجو العام بتهم التخوين.
ورأيي أنه ليس مطلوبا أصلا الدعوة إلى توحيد المعارضة. ما يلزم هو حسن الاختلاف والتوافق على مبادئ عامة تترك المختلفين مختلفين، لكن ليس متعادين. ويبدو أن هذا متعذر لأسباب اجتماعية ونفسية لا تقتصر على الوطنية الأبوية الممانعة، وإنما تتجاوز إلى محاولة لفت نظر كل من يمكن لفت نظره. هناك معلومات تقول إن بعض ممثلي هيئة التنسيق قدموا تقارير إلى جهات غربية تعتبر "الجيش الحر" منظمة إرهابية، وتنكر على تلك الجهات الاعتراف بالمجلس الوطني لعلاقته بتلك المنظمة. هذا شديد السوء إن صح، وهو يشبه تقريرا مقدما إلى المخابرات السورية بأن شخصا ما شتم الرئيس أو أنه من "الإخوان المسلمين" في وقت مضي. وهو فوق ذلك غير صحيح بكل بساطة. قد يمكن الاعتراض على الجيش الحر من غير وجهة نظر، لكن ليس بينها أنه منظمة إرهابية.
14. وفي نفس السياق كيف تري الاتهامات للمعارضة بأنها هي التي ترفض الحوار؟
هذا خلط بين الأسباب والنتائج. رفض المتن المعارض الحوار مع نظام لم يتوقف يوما عن قتل مواطنيه منذ بداية الثورة. هل تتحاور مع من يحتل المدن ويقتل الناس ويحرض على الكراهية والقتل؟ سيكون الحوار في هذه الحالة تحايلا، الغرض منه إفقاد المعارضين صدقيتهم دون تقييد النظام بأي شيء. سبب الأزمة الوطنية السورية هو تعامل النظام مع محكوميه بمنهج الحملات الاستعمارية، وليس رفض معارضين لهذا الاستعمار المحلي. علما أن النظام في التكوين والجوهر مضاد للحوار على نحو ما هو مضاد للتفاوض بفعل إنكاره الأهلية السياسية للسوريين.
15. لماذا تراجعت أسهم المجلس الوطني في الشارع السوري رغم استقباله بتفاؤل في البداية؟
لأن أداءه لم يكن مقنعا، وهيكلته الداخلية مترهلة، ولم يستطيع أن يبلور مبادرة سياسية كبرى تعرّف به وتسهم في تغير البيئة السياسية داخل سورية وحولها، وتدفع السوريين إلى الالتفاف حوله، ولأن غير قليل من كادر المجلس دون تاريخ نضالي، ولم يسبق أن سمع بهم أحد حتى شهور قليلة مضت، ولأن إسلاميي المجلس يتصرفون بانتهازية وبما يعود عليهم بالحمد وحدهم. تعامل المجلس باحترام مع الثورة في الداخل، لكنه لم يستطع لا أن يكون مصدر عون منظم لها، ولا قوة قائدة سياسيا. وليس واضحا لي إن كان المجلس قادرا على إصلاح ذاته.
16. هل عسكرة المدنيين حل أم أنها ستزيد مدي العنف وتؤدي لعنف متزايد وغير منضبط؟
لم تكن العسكرة المتسعة فعلا للثورة خيارا كي تكون حلا. انشق عسكريون عن الجيش، وانضم لهم مدنيون، وهم يشكلون مكونا عسكريا للثورة لا يمكن تجاهله أو رفض التعامل معه، وإن كان واجبا ضبط نشاطه تنظيميا وتوجيهه سياسيا.
من المحتمل أن نشوء واتساع المقاومة المسلحة أسهم في تصعيد العنف في البلد ظرفيا، أما من حيث الجوهر فقد مارس النظام العنف من اليوم الأول، وتسبب في نشوء الجيش الحر ذاته، وقدر متسع من عسكرة الثورة. الشيء المهم اليوم هو صون المكون المدني والسلمي للثورة وتوسيعه بقدر الإمكان، بحيث يوسع الشعب السوري طيف خياراته في مواجهة نظام باطش. وهذا محقق بقدر معقول.
لكن من المهم أيضا في رأيي العمل بكل الوسائل على منع النظام من تحقيق نصر على المكون العسكري للثورة، أي الجيش الحر. إن تحقق له ذلك فسيتحول نحو سحق والمكون الاجتماعي والميداني، وسيدين الحكم في البلد للشبيحة.
17. لماذا اتسم نظام البعث تاريخياً بالعنف المفرط ولا يري أمامه سوي الحلول الأمنية ؟
هذا سؤال مهم. وقد يكون موضوعا لبحث مطول أو لكتاب، يتناول الأصول الاجتماعية والثقافية للفاشية في سورية، ويُعرِّف هذه الفاشية ذاتها أو يوضح خصوصيتها. في بالي ثلاثة عناصر في هذا الشأن.
أولها مفهوم العروبة المطلقة البعثي الذي ينكر الانشقاق أو حتى التعدد الداخلي، وينصب بالمقابل حواجز شاهقة في وجه "الخارج"، الكلمة التي تأخذ في الثقافة السياسية السورية معنى خطرا ومشبوها إلى أقصى حد. هناك ضرب من البارانويا العامة، مألوف في الثقافة العربية عموما، لكنه قد يكون أشد حضورا في سورية من غيرها. المقياس المناسب لهذا الضرب من الجنون هو درجة شيوع التفسير بالمؤامرة.
في المقام الثاني هناك ما يحيل على الطائفية والانقسامات الدينية والمذهبية الموروثة. في سورية من المذاهب الإسلامية (سنيون، علويون، دروز، اسماعيليون، شيعة) ما ليس في غيرها من البلدان العربية، فضلا عن مكون مسيحي لا بأس به، وعن نحو 10% من السكان من الكرد. وتتشاطر هذه المكونات كلها سرديات المظلومية وسرديات التفوق على اختلاف في الأسانيد الفكرية والأخلاقية والتاريخية لهذه السرديات. هنا أيضا لكل جماعة خارجها الخطر والمريب والمتآمر، وهنا أيضا تشيع حالة من البارانويا العامة، تفلُّ الحس النقدي والفكر الحر.
وفي المقام الثالث، وبارتباط مع الشرط الطائفي الذي عمل النظام على تنشيطه وتثبيته تشيع في سورية عقيدة حداثية تضع نفسها قبالة الإسلام (السني، في السياق السوري) وتخلو تماما من أي بعد قيمي يحيل إلى العدالة والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية. ضرب من تكنولوجيا فكرية وسلوكية، لا يجد أي شخص أو تنظيم فاشي حائلا دون اعتناقها. وهذه العقيدة مشتركة بين "مفكرين" سوريين معروفين وبين جنرالات المخابرات، ويعتقد الطرفان أن مشكلة المجتمع السوري الأساسية هي جمهور متدين متخلف، بعيد عن التنوير والحداثة والعلمانية، تتصرف معه المخابرات بقسوة، ولا يجد مفكرون ما يقولونه في هذا الشأن، إن لم يثنوا عليهم.
لكن من هذه الأصول الثلاثة، الأول فقط ذي أصول بعثية. يصعب إرجاع الوحشية التي تعرفها سورية اليوم إلى حزب البعث. هذا يشبه اليوم المجتمع السوري في بيئاته المتعددة المنعزلة عن بعضها، أكثر مما يشبه أصلا عقديا بعثيا لم يعد أحد قادرا على تعريفه. وغير قليل من البعثيين اليوم متدينون "متخلفون" لا وزن لهم ولا اعتبار.
18. كيف تري التقارير التي تلقي بالمسئولية علي من هم حول بشار الأسد، وتنفي عنه التحكم بالجيش والعنف؟
أظن هذا النوع من التحليل شائع في المجتمعات التي تقوم السياسة فيها على أسس أبوية وشخصية، لا على أسس قانونية ومؤسسية. سبق أن قيل مثل هذا الكلام في مصر أيام عبد الناصر، ولعله قيل أيام مبارك أيضا. وكان يقال في سورية أيام حافظ الأسد. وبوريس باسترناك بالذات كان يتساءل إن كان ستالين على علم بالجرائم التي كان يقوم بها نظامه. هناك ارتباط عاطفي بأب الأمة أو الوطن، يتملك الأوساط الأقل تسييسا، وبعض الأبناء الذين يتطلعون إلى أن يكونوا آباء.
ومن جانب آخر من الشائع أن حاشية الحاكم هم من يشيعون هذه العقيدة بهدف رفعه فوق السياسة والمنازعة السياسية. وبما أن النظام هو الرئيس أساسا، فإن في اتهام الحاشية لموظفين في الحاشية ما يضع النظام ذاته فوق النقد، وما يندر أن يمس عمليا بنفوذ الحاشية وامتيازاتها. في واقع الأمر بشار هو المسؤول سياسيا وقانونيا وأخلاقيا عن كل ما يقوم به نظامه، وليس هناك مؤشر واحد مهما صغر على أنه اعترض أو تحفظ يوما على ما تقوم به أجهزته وميلشياته.
19. كيف تري حديث بعض أطراف المعارضة عن أن الحل الوحيد هو فترة انتقالية تحدد بمفاوضات مع النظام وتشمل خروجاً آمناً للأسد وعائلته، وحديثهم عن أن الشعب السوري سيقبل بهكذا حلول وسطي؟
رأيي أن هذا الحل الذي يؤمن الأسرة الحاكمة المالكة القاتلة غير عادل وغير أخلاقي، وأن كثيرا من السوريين، ربما أكثريتهم لن يقبلوا به. وفوق هذا فإن أول من يرفض هذا الطرح حتى اليوم هو النظام الأسري ذاته، ولن يقبل به إلا إذا اقتنع أن خيارته الأخرى أسوأ، أي أنه سيسقط وينال جزاءه. لذلك فإن كان هناك من يرغب في هذا المخرج فعليه أن يجبر النظام أولا على القبول به، واليوم قبل الغد. كلما تأخر هذا المخرج غير العادل أصلا سيلقى قبولا أقل، وسيكون جرى تدمير مادي وسياسي وأخلاقي أوسع للبلد.
20. أخيراً، ما الذي يمكن للعالم أن يقدمه دعماً لكم؟
قطع مواد النظام العسكرية والمادية، وإضعاف تأثير القوى الداعمة له.
ويلزم إدراك أن التساهل مع نظام على هذه الدرجة من الوحشية يعطي رسالة سيئة لا إلى الشعب السوري وحده بل إلى أي طاغية قاتل يثور عليه شعبه.
ينبغي أن يكون هناك التزام عربي ودولي بمساعدة الشعب السوري على التخلص من النظام. تبقى أدوات تحقيق ذلك موضع أخذ وعطاء. أفضل طبعا بيدنا لا بيد عمرو.
ثم طبعا الدعم الدبلوماسي والحقوقي.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحكم بالتذكر: من أصول المحنة السورية
- هذا النظام، هذه الثورة، هذا العالم: حوار حول الشأن السوري
- عن الطائفية ما بعد كرم الزيتون
- لا عودة إلى بيت الطاعة الأسدي
- عام من الثورة المستحيلة
- عام من الثورة السورية: فلنسحق الخسيس!
- من الأزمة السورية إلى المسألة السورية
- سورية، إلى أين؟ أسئلة نارين دانغيان
- عناصر أولية من أجل استراتيجية عامة للثورة السورية
- الحزب الذي لم يعد قائدا للدولة والمجتمع...
- -اختراع التقاليد- لإريك هوبسباوم
- ملامح من الوضع الراهن للأزمة السورية
- الحكم بالاحتلال!
- في الطائفية والنظام الطائفي في سورية
- -قتل ذاك الماضي-، حازم صاغية يروي سيرة -البعث السوري-
- المثقف المبادر... في تذكر عمر أميرالاي
- في الشبّيحة والتشْبيح ودولتهما
- حول العسكرة والعنف والثورة...
- ديناميتان للثورة السورية: المستقبل في الحاضر
- المثقفون والثورة في سورية


المزيد.....




- السعودية.. أحدث صور -الأمير النائم- بعد غيبوبة 20 عاما
- الإمارات.. فيديو أسلوب استماع محمد بن زايد لفتاة تونسية خلال ...
- السعودية.. فيديو لشخصين يعتديان على سائق سيارة.. والداخلية ت ...
- سليل عائلة نابليون يحذر من خطر الانزلاق إلى نزاع مع روسيا
- عملية احتيال أوروبية
- الولايات المتحدة تنفي شن ضربات على قاعدة عسكرية في العراق
- -بلومبرغ-: إسرائيل طلبت من الولايات المتحدة المزيد من القذائ ...
- مسؤولون أمريكيون: الولايات المتحدة وافقت على سحب قواتها من ا ...
- عدد من الضحايا بقصف على قاعدة عسكرية في العراق
- إسرائيل- إيران.. المواجهة المباشرة علقت، فهل تستعر حرب الوكا ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - حوار في شأن أصول الثورة السورية وفصولها