بين ربيع بغداد وربيع براغ الأمريكيين خمسة وثلاثون عاما

الكادر الحزبي

الحوار المتمدن-العدد: 249 - 2002 / 9 / 17 - 03:16
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    

معلوم أن الحدث إبن زمنه والزمن يسير بإتجاه واحد فقط. ولا يتكرر الحدث بالشكل والمضمون ذاته مطلقا، وإن تكرر شكليا فسيختلف الجوهر، والعكس بالعكس. لكن هذه المسلمة الماركسية، لم تسلم، كما يبدو، من الإستثناءات. وإستثاؤها مفارقة. فقبل أيام ظهر علينا الأمير المخلوع الحسن بن طلال في إجتماع ما يسمى بالمعارضة العراقية في لندن. وفي إشارة إلى إمكانية منحه عرش العراق، وبسابقة أمريكية تكرر ما حصل مع جده على يد بريطانيا حين سلبته عرش الحجاز ومنت عليه بعرش الشام. وإفترضنا أن أمريكا لن تنجح بهذا تكرار لأن الزمن عدى على هكذا رموز. والظاهر أنها ستنجح والظاهر أيضا أن خطتها تجاه العراق هي تكرار لخطط سابقة وحسب.

فقد نشرت مواقع الإنترنيت بيانا لخمسة وثلاثين مثقفا عراقيا بعنوان (( 500 كلمة لربيع بغداد القادم)). وأشهر جمل هذا البيان الرومانسية هي: (( إن عدم تسليم طاغية بغداد إلى المحاكم الدولية وتناسي قرارات الأمم المتحدة لا يخدم تحقيق الهدف المنشود البتة ،، علينا أن نعد أنفسنا للأحداث المترقبة في المستقبل القريب ،،، يجب أن نستغل العامل الخارجي والظروف الدولية الإقليمية ،، لما في ذلك أمن وإستقرار وسلام المنطقة ،، إننا نبشر بربيع عراقي زاهر نحن على موعد معه ،، سيعيد العراق إلى أحضان الأمة العربية ،، نحن جديرون بأن نتمتع بأرقى قواعد حقوق الإنسان في العالم ))

ونحن إذ لا نشك بدكتاتورية النظام وتسببه بما نحن فيه الآن، لكن رومانسية وصف البيان للعراق المحتل تثير التساؤل. فمن الذي أكد لهؤلاء السادة أن سيكون ربيعا؟ فغزو العراق لن يكون إستثناءً عن أي غزو في التاريخ البشري، إنه غزو وإحتلال وحسب. وبمفهوم أي من الكتبة الموقعين هو ربيع؟ فإثنين منهم كانا وبالأمس القريب مسؤولين كبيرين في صحافة وإعلام النظام، أحدهما عن صحيفة (الشباب) والآخر عن صحيفتي (الثورة) و (الراصد) وهما حصر من أسس للأدب الفاشي في العرق وصوروه وكأنه ربيع ثقافي. وأحد الموقعين لا يجرأ حتى الآن عن تناول القضية الوطنية بإسمه الصريح بل يستنجد بأسماء تافهة وسطحية كجواد كاظم المالموي وإبن دولة كلخستان ،،الخ من السفاسف التي على وزن بيت شعر له وهو: (( ما أحلى الربيع بين أحضان أمي والوطن )) وهو الذي تخطى الخمسين. إم إن ربيع الثقافة هو سطحيتها وحسب؟

فإذا كان هؤلاء الموقعون، المنقلب أكثرهم على ذاته وقناعاته، لا يعبأون بنصف مليون ضحية، بحسب التقديرات، ستقع من أهلهم ومواطنيهم تحت قصف البسط المتفجرة والقنابل العنقودية، وما سيجره هذا الغزو من تأثير على العمران والبيئة التي لم تتخلص بعد من اليورانيوم المنضد،، وإذا كانوا لا يعبأون بمصير السيادة الوطنية وبمآل نفط العراق وخيراته الأخرى، ولا يعبأون بما سيترتب علينا تجاه إسرائيل، وإذا كانوا لا يرون بتقديم السفاح شارون إلى محكمة دولية أمرا يخدم المصلحة، أو يسكتون عنه كبرهان على حضاريتهم وتفتحهم،، وإن كان هؤلاء لا يرون ربيع كابل على وجهه الأكمل بعد، إن كانوا لا يرون كل هذا ولا يعبأون بنتائجة بعد، فلازالت هناك أسئلة عن ربيعهم المعهود لم يوضحوها في البيان. 

فأي حقوق إنسان سيطبقها الغازي على العراق، وهو القادم مسلحا ليس بأسلحة الدمار الشامل وحسب، بل وبقانون من الأمم المتحدة، ينص على إنه من جند الرب ، لا تجوز محاكمته وإن إرتكب المجازر، لا أمام القانون المحلي ولا الدولي. وأي قوانين حقوقية سيطبقها الغازي وهو سلبها من مواطنية وأعلن مكارثية أسوأ من سابقتها على أمريكا؟ ثم متى سيخرج الغزاة وتحت أي عامل؟ ومن هو قرضاي العراق الذي سيعمل ربيعا كربيع كابل؟ فكل البدائل المطروحة أمريكيا، هي دكتاتورات مصغرة، تكفي كلمة واحدة خارج مزاجها لتجعلها تكشر عن أنيابها وأي تكشير. وهي أيضا قوى سياسية مشتتة لا يربطها رابط وليس لها أية برامج. وكل ما تدعيه أنها ستلجأ إلى الشعب. أي أنها ستجعل من العراق حقلا للتجارب التي لن تنتهي إلا بحكم شوفيني مقيت أصولي على الأغلب. أهذا هو الربيع الموعود؟!

المثير أن في البيان عبارة غريبة هي: (( إطلاق حريات الرأي والتفكير للتنظيمات السياسية والحرفية والنقابية بما في ذلك للمعارضة )) ومحال أن تكون هذه غلطة عابرة، لأن بين الموقعين أدباء ومثقفين وكتاب يعلمون أن المعارضة لابد وتنخرط بتنظيمات سياسية. وكل معارضة هي تنظيمات سياسية. هذا إذا لم ننقلب بعد على مفاهيمنا التقليدية أصلا. والأرجح أن كاتب نص البيان ليس عراقي ولا عربي. فلا سلاسته ولا نمط جمله تشير إلى أنه كتب أصلا باللغة العربية. وهو حتما مترجم عن نص ربما إنجليزي الأصل، كتبه المخطط للإحتلال نفسه. وهو إستند إلى ما يريده هو للعراق فقط. وهو أن تحكمه مجموعة الستة فقط والتي لا ولن تسمح إلا لمعارضة هامشية مفبركة، كهؤلاء الكتبة.

وما يؤيد هذا الإحتمال هو الكلمة الروملانسية (( الربيع )) ذاتها، التي قالتها ذات اليد. ففي النصف الثاني من ستينات القرن الماضي حدثت حركة مناهضة للحكم الإشتراكي في جيكوسلوفاكيا، قادتها ووزعت أدوارها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وهي التي أطلقت عليها إسم ربيع براغ، الإسم الذي أجهر به المؤلف المسرحي والمثقف السيد هاشسلاف هابل، وضمن شعار: (( إن ربيع براغ قادم وإن ليلها الطويل سينجلي ونحن على موعد مع شمس الغد )) كما نادت بخصوصية الثقافة التشيكية وتميزها، وأنها تطالب بحقوق الإنسان، حتى إن بعض المتظاهرين حمل شموعا في الليل.

وهذه هي أسس ومحتوى بيان الأخوة الخمسة والثلاثين عراقيا. وقد مر على ربيع براغ كما نعلم 35 عاما بالتقريب. ويا للمغزى!

على إن إشارات ما إضافية يمكن ملاحظتها في البيان، والتي تدعم أن كاتبه ليس عراقيا، أو هو على أتم الإطلاع بما سيحدث. فعنوان البيان وهو: ((500 كلمة ،،)) يوحي برقم الخمس مئة ألف ضحية التي حسب الخبراء أنها ستقع جراء الغزو. والعدد الذي توقف عنده الموقعون وهو 35 نفرا ربما لا يتوقف مغزاه عند التذكير بالوقت الذي مر على ربيع براغ وحسب، وإنما بالإيحاء أن الموعد المتبقي على إتمام هذا الربيع هو ثلاثة أشهر ونصف، أي ليتم هذا الربيع في منتصف شباط القادم. خصوصا وكاتب البيان يستخدم البشرى(!)ذاتها التي وعدنا بها كاتب بيان ما قبل إنقلاب شباط 1963 وهي عودتنا إلى أحضان الأمة العربية. ذلك الإنقلاب الذي إغتال أكبر رمز وطني في تاريخنا الحديث - الزعيم عبدالكريم قاسم. وإنقلاب شباط كما نعلم قادته ذات اليد التي قادت ربيع براغ وتهيئ الآن لربيع بغداد. بل نسأل أحد الموقعين المشهور بحبه لعبد الكريم، نسأله، هل لو كان عبدالكريم حيا لسمى الإحتلال القادم ربيعا أيضا؟!!

وهكذا، فما أعلنته أمريكا قبل بضعة أيام عن إن وكالة مخابراتها المركزية بدأت العمل مع المعارضة العراقية للتمهيد للغزو، هو حقيقة واقعة، وأحد جوانبه هو هذا البيان. الفارق أنها تجرأت على الاعادة الحرفية، إن بموضوع الأمير الحسن أو إعادة نمط أحداث ربيع براغ، تجرأت، أما لأننا لا نقرأ التاريخ، أو لأننا أصبحنا كأحجار الدومينو.

إن الإنقلاب على النظام الدكتاتوري شيء والإنقلاب على الذات والوطن شيء آخر. وإسقاط النظام لا يمر بالضرورة عبر إستعداء الغزاة عليه. والربيع الموعود هو ليس ربيع الشعب العراقي وإنما ربيع أمريكا أو ربيع هؤلاء الكتبة وحسب. لأنه لا ربيع على أشلاء 500 الف ضحية، ولا ربيع على خراب الدار والعمار، ولا ربيع تحت وطأة المحتل. وحتى مصاص الدماء لم يتجرأ على الفرحة والتعم بربيع على رفاة أهله ووطنه، لذا لازلنا على أمل أن يراجع الموقعون ذاتهم!

 

                                           د نوري المرادي   020916

                                           الحزب الشيوعي العراقي - الكادر

 

#الكادر_الحزبي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات