أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - معمر خولي - اللغة العربية: رمز الهوية ورهان التنمية.















المزيد.....

اللغة العربية: رمز الهوية ورهان التنمية.


معمر خولي

الحوار المتمدن-العدد: 3671 - 2012 / 3 / 18 - 16:59
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


اللغة العربية:رمز الهوية ورهان التنمية
تضع تحديات الهُوية والتنمية العرب أمام سؤال يبدو في ظاهره ثقافياً، فيما هو أكبر من مجرد سؤال ثقافي، هو سؤال اللغة العربية. اللغة، التي هي قوامُ الأمة، وقوام كيانتها التاريخية والحضارية والقومية، ليست أداة تخاطب اجتماعي فحسب، ولا مستودع الأفكار والرموز والقيم الجمالية فحسب، إنما هي المستقبل. من لا لغة له، أو أضاعها لجة الاستلاب وأودعها في المتحف، يصنع الآخرون مستقبله. ولذلك، فالتفكير في اللغة العربية لا ينصرف حصراً إلى بيان اتصالها ببناء هوية الأمة وشخصيتها الثقافية والحضارية وامتداد تأثيرها في محيطها، أي لا ينصرف إلى تناولها وصفاً وعرضاً بأفعال الماضي، وإنما هو ينصرف إلى بيان مشروع نهضوي في المستقبل.
اللغة- حافظة الهُوية:
تعد اللغة العربية إحدى مرتكزات الهُوية، فعند دراسة التاريخ الاستعماري للمجتمعات العربية، نلاحظ من جانب تركيز المستعمر على استهدافها، باعتبارها لغة الدين، وركيزة الثقافة.واعتقد المستعمر أن إحكام السيطرة على الأرض، لا يتأتى إلا بالسيطرة على الثقافة، لذلك شجع المستعمر الانكليزي والفرنسي استخدام اللهجة العامية عوضاً عنها. ومن جانب آخر نلاحظ مساهمتها في على تعبئة قوى الأمة في أقطارها المختلفة للتحرر والاستقلال وإخراج المستعمر، وإجلائه عن أوطانها، واستعادة سيادتها عليها، وأورد هنا عبارة للمستشرق الفرنسي جاك بيرك -عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة-، والذي عاش لفترات طويلة في بلدان المغرب العربي، خاصة في المملكة المغربية.قال:" إن اللغة العربية هي أقوى القوى التي قاومت الاستعمار الفرنسي في المغرب، بل هي اللغة العربية الكلاسيكية الفصحى بالذات، فهي التي حالت دون ذوبان المغرب في فرنسا. إن الكلاسيكية العربية التي بلورت الأصالة الجزائرية، وقد كانت هذه الكلاسيكية عاملاً في بقاء الشعوب العربية".
ويعد تحدي عولمة الثقافة اللغوية من أكبر التحديات التي تواجه اللغة العربية التي تندفع في اكتساح جارف للخصوصيات اللسانية واللغوية والثقافية التي هي القاعدة الصلبة للوجود المادي والمعنوي للأمة العربية، لتشكل خطراً محدقاً بالهوية القومية. باعتبارها وعاء للثقافة العربية وللحضارة الإسلامية، وهناك أخطاراً تتفاقم باطراد، تأتي من هيمنة النظام العالمي الذي يرفض صياغة عالم متعدد الأقطاب والثقافات، ويسعى لفرض اللغة الأقوى، على المجتمعات الإنسانية التي تقصر وسائلها الدفاعية الثقافية والسياسية والاقتصادية عن التصدي لهذه الهجمة اللغوية الشرسة التي تهدد الأسس الثقافية والخصائص الحضارية.
فالعلاقة بين اللغة العربية وبين العولمة، علاقة ذات صلة بمستقبل هذه اللغة. وليس من شك أن مستقبل اللغة العربية في عالم متغير تهيمن عليه آليات العولمة وضغوطها، يقترن بالتنمية الشاملة المتكاملة المتوازنة المستدامة.
إن من غير المعقول أن يدعو امرؤ إلى اللحاق بالحضارة والتقدم عن طريق الإساءة إلى هويته ولغته وإظهارهما بمظهر العجز والتخلف. فلا توجد على وجه الأرض أمة تبدأ مشروعها النهضوي بتحقير ذاتها وزعزعة الثقة بإنجازاتها ومكونات شخصيتها. فالبناء الحضاري يحتاج إلى مخزون كبير من الثقة في النفس والقدرات الذاتية. لقد كثر عند البعض من يدعون إلى الحداثة هذه الأيام ولوم الثقافة العربية واللغة العربية وتحميلها وزر عجزهم عن تقديم برامج للإصلاح والنهضة" تنفع الناس وتمكث في الأرض".

واليوم، تعيش اللغة العربية إشكالات العولمة بكل تعقيداتها فالمتتبع لأحوالها في جميع أقطار الوطن العربي، يستشرف الأخطار الكبيرة التي تحملها العولمة، على وجود العربية لغة حية في جميع مناحي الحياة السياسية والثقافية والعلمية والعملية. فقد أقصيت اللغة العربية عن أن تكون لغة البحث العلمي والتدريس الجامعي في معظم الأقطار العربية، وتستشري هذه السياسة المعادية للغة العربية في معظم الأقطار العربية، وتلجأ كثير من المدارس الخاصة للتدريس باللغة الأجنبية، منذ الصف الابتدائي. في حين لا توجد في" إسرائيل" مدرسة واحدة تدرس بغير اللغة العبرية إلا إذا كانت لأبناء العاملين في السفرات الأجنبية. فالعبرية في حالتهم ليس مجرد تواصل، بل أداة بناء الأمة. إذ يصعب على مواطنٍ ياباني، أو فرنسي، أو حتى " إسرائيلي" أن يفهم كيف يمكن أن يولد أطفال لوالدين فرنسيين أو يابانيين أو ألمانيين أو " إسرائيليين" ينمون وينشأون في بلدهم، ولكنهم لا يتحدثون لغتهم الأم، لا في البيت ولا المدرسة، ولا يدرسون العلوم في بلدهم بلغتهم، فالتحدث بلغة الأم والتعلم بها أمر طبيعي وبديهي في نظر مواطن تلك البلاد، لذا يعد الابتعاد عن اللغة الأم تبعدنا عن المساهمة في المنجزات الثقافية والعلمية للحضارة في عصرنا. والمجتمع الذي لا ينجز ذلك في بلده بلغته، لا يتفاعل مع العولمة في الواقع، ولا يتطور معها، بلد يقلد ولا ببدع،ويكرس تخلفه وتخلف مجتمعه. من لا يتفاعل مع العولمة، ولا يجاري التطور في الاقتصاد والعلم والفنون بلغته من خلال مجاراتها للتطور، يبقى على هامش الحضارة الإنسانية، ولا يساهم فيها، بل أكثر من ذلك أيضا يحجب التطور عن لغته ذاتها. فاللغة، ومعها المفاهيم والثقافة، لا تتطور إذا أقصيت من الاستخدام في المجالات الديناميكية المتطورة والمتغيرة باستمرار، مثل العلوم والفنون والاقتصاد، وإذا اقتصرت استخدامها على الأدب والمقالة والخطابة مثلاً.
ومن ناحية أخرى لا تحاصر اللغة العربية فقط في المؤسسات التعليمية فقط، وإنما أيضا في معظم مناحي الحياة. ، فنرى نفراً من أبناء الأمة يعتقد أن استعمال اللغة الأجنبية أمارة على التقدم والعلم والأناقة، في الوقت الذي يرى فيه أن استعمال اللسان العربي دلالة على التخلف. وها هي الأم في الطبقات الحريرية تخاطب أبناءها باللسان الأجنبي، وها هو ذا الموظف يخاطب زبونه باللسان الأجنبي ليظهر نفوذه، وها هو ذا المثقف يطعم كلامه بالكلمات الأجنبية دلالة على ثقافته العصرية، وها هي الشركات على الأرض العربية تعلن عن حاجتها إلى موظفين يتقنون اللغة الأجنبية، وها هي ذي المراسلات بين المصارف تستعمل في الأجنبية، وها هي ذي الإعلانات في الطرقات وفي الساحات العامة وعلى واجهات المحال التجارية تستعمل الكلمات الأجنبية ويمانع أصحابها إذا ما طلب إليهم استبدال العربية بالأجنبية.
ونلاحظ في الوقت نفسه أن العاملين والعاملات من الجنسيات الأجنبية على الأرض العربية ليسوا في حاجة إلى أن يتعلموا العربية، لأنهم يقضون حاجاتهم وينفذون متطلباتهم باستعمال الأجنبية مع أبناء العربية، الذين تنازلوا عن لغتهم القومية ليتحدثوا مع هؤلاء بلسانهم أو بلسان أجنبي آخر.كما نلاحظ أن المؤتمرات العلمية التي تعقد في وطننا العربي تُستعمل اللغةُ الأجنبية في بعضها، مع أنها تعالج موضوعات عربية والذين يحضرون غالبيتهم من الجنسية العربية لقد تزايد استعمال اللغة الإنجليزية في الوطن العربي. ولم يعد استعمالها محصوراً في مجال التخصصات العلمية مثل الطب والهندسة، لكنها أصبحت بشكل متزايد لغة الإنجاز، فعلى سبيل المثال، عقد في أحد فنادق البحر الميت في شهر شباط 2007 مؤتمراً يبحث استراتيجيات التعليم العالي العربية، وكانت اللغة الإنجليزية لغة المؤتمر المعتمدة مع أن عدد المشاركين الأجانب الذين لا يعرفون اللغة العربية في ذلك المؤتمر لا يتعدى العشرين من أصل أربعمائة مشارك كلهم من العرب، ولمِ نذهب بعيدا أليس ممثلونا في المحافل الدولية يستعملون اللغة الأجنبية في مداخلاتهم ومناقشاتهم وإلقاء كلماتهم؟ مع أن لغتنا العربية هي إحدى اللغات الست الرسمية في هيئة الأمم المتحدة.في حين وصل الاعتزاز عند الآخرين بلغاتهم إلى حد جعل الرئيس الفرنسي السابق يخرج من قاعة مؤتمر لرجال الأعمال الفرنسيين غاضباً ومستاءً لأن أحد رجال الأعمال المشاركين في المؤتمر تكلم باللغة الإنجليزية عوضاً عن لغته الفرنسية.
إذا كانت العولمة تحاول ابتعاث كل القيم السلبية التي تفتت بنية المجتمع، ووأد كل القيم الإيجابية التي تعمل على تقدمه وارتقائه، وكانت اللغة العربية توحد بين أبناء الأمة الواحدة، وفي وحدة العرب قوة لهم، عمل مهندسو العولمة على تفتيت هذا الرابط الموحد وتهميشه واستبعاده، وذلك باعتماد العامية لأنها عامل تفريق حيث بدأنا نشهد توجه ملحوظ نحو استعمال اللهجات العامية بدلا من اللغة العربية الفصحى في مختلف المجالات المجتمعية. فإذا ما قامت العامية مقام اللغة العربية الفصيحة، فإن عقد النظام الفكري الذي شكله الدين والتراث عند الإنسان العربي على مدى قرون طويلة سوف ينفرط دون انتظام. وإذا ما سادت العامية( لا قدر الله)، فإننا سوف نشهد سيادة عدد من العاميات التي سوف تتطور مع مرور الزمن إلى لغات لكل واحدة مها قواعدها وأصولها، و(ربما) حروفها الخاصة بها. وتصبح اللغة العربية الفصحى لغة كتب صفراء( مثل السنسكريتية واللاتينية) لا يستطيع قراءتها وفهمها إلا نفر قليل من المتعلمين. وهكذا يحدث الانقطاع بين الناس وماضيهم، وبين المسلمين ودينهم، وتضيع هوية الأمة، وتستبدل بها هوية جديدة تشكلها وتحدد ملامحها وخصائصها وسائل الإعلام والثقافة الغربية التي تساعدها في عملها هذا مجموعات وقوى تكونت داخل المجتمعات العربية وارتبطت مصالحها مع هذه القوى الأجنبي. وما يبعث على الأسى استعمال العامية في مناقشة الماجستير والدكتوراه في كليات الدراسات العليا في الجامعات الرسمية التي أنشئت حديثاً في بعض الدول العربية مثل المملكة الأردنية الهاشمية.
لقد وصل إهمال غالبية الدول العربية في لغتها، إلى حد جعلت الدراسات اللغوية الشاملة لا تذكرها بين لغات العالم. ولدينا دليلان، أحدهما كتاب ألماني نشره مركز الترجمة في وزارة الثقافة القطرية من تأليف هارالد هارمان بعنوان تاريخ اللغات ومستقبلها، وقد أهمل اللغة العربية إهمالا تاماً، ولم يترك لغة فرعية في العالم إلا تصدي لها مع أنه ألف هذا الكتاب- كما يقول- خلال إقامته في المغرب! أما الكتاب الثاني فهو من تأليف الفرنسي جان كالفي بعنوان حرب اللغات والسياسات اللغوية، وقد نشره في بيروت مركز دراسات الوحدة العربية في العام2008. وكذلك لم يسمع بظاهرة اسمها اللغة العربية.
إن احترام اللغة من احترام الذات، ومن تجليات الاعتزاز بالانتماء، ولغتنا لم تُهزم، لكننا نحن الذين هُزمنا فتخلينا عنها وازدريناها والطلاب الفرنسيون يمثلوا نموذجا في احترام لغتهم حينما ثاروا في وجه في وجه وزير الثقافة عندهم أثناء خطاب له في السوربون فنطق بكلمة انجليزية عفواً فظلوا يصرخون مقاطعين حتى توقف واعتذر.
وعليه؛ فإن اللغة – مهما كانت قوية- لا تستطيع أن تفعل شيئاً في عقول مهزومة، وألسنة معوجة، وعليه أيضاً فإن على أصحاب اللغات أن يبدؤوا هم بالنهوض من عثرتهم، والإيمان بقدرتهم، والثقة بأنفسهم، وأول علامة من علامات النهوض الإيمان بلغتهم، والثقة بأهليتها، والاعتزاز بها، والحرص على إحيائها في مختلف المجالات.
ونشير هنا إلى بعض المشروعات الجديدة الرامية إلى طمس الهوية العربية:
1- المشروعات الرامية إلى استبعاد مصطلح العروبة والعربية والوطن العربي والأمة العربية كمشروع الشرق الأوسط الجديد ومشروع الشراكة الأوروبية المتوسطية .. ألخ.
2- المشروعات العاملة على استبعاد اللغة العربية من بين اللغات العالمية في هيئة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، واستبعادها من امتحانات الشهادة الثانوية على أنها لغة ثانية في فرنسا، واعتماد اللهجات العامية للأقاليم العربية" إقليم المغرب العربي، إقليم مصر والسودان، إقليم بلاد الشام والعراق، إقليم الخليج العربي"
3- المشروعات العاملة على مواد المعرفة باللغة الانجليزية في المدارس الخاصة والجامعات الخاصة في دول الخليج العربي، واللغة الفرنسية في دول المغرب العربي، والعاملة على تعزيز اللهجات الدارجة في القنوات الفضائية وعلى الشابكة" الانترنت"
4- المشروعات الهادفة إلى التعتيم على الحضارة العربية الإسلامية، وتشويه التاريخ العربي وتزويره، والداعية إلى قطع العلاقة مع التراث" قتل الأب على حد تعبير دعاتها".
اللغة- ركيزة التنمية:
كان مفهوم التنمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية عقد الثمانينيات من القرن المنقضي مقتصراً على كمية ما يحصل عليه الفرد من سلع وخدمات مادية. لكن مع تدشين مفهوم التنمية البشرية عام 1990 حينما تبناه برنامج الأمم المتحدة للإنماء، أصبح الإنسان هو صانع التنمية وهدفها؛ فصار الحديث يتناسل عن المؤشرات الجديدة على المفهوم، وكيفية تحقيق حياة جيدة لهذا الإنسان، من خلال الارتقاء بمستويات عيشه المادية والمعنوية، في توازن مع محيطه وثقافته وتاريخه ولغته. فمهموم التنمية البشرية وهدفها هو تنمية الإنسان في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والفكرية في أي مجتمع كان. وإذا كانت التنمية تبدأ بالإنسان وتنتهي به، فإنها يجب أن لا تتجاهل أهم معطى تواصلي يربط هذا الإنسان بمحيطه، ويرسم علاقاته ويحددها، ويختزن خريطته عن العالم والوجود، ألا وهو اللغة.
فاللغة العربية عنصر أساسي في عملية التنمية، فهي ليست مما يُمكن استيراده من الخارج، وإنما هي عملية يقوم بها المجتمع بنفسه، من خلال الهضم والاستيعاب، فكراً وتعبيراً، بفضل أداة التملك الأساسية لدى الإنسان وهي اللغة واللغة العربية بطبيعتها مؤهلة لأن تكون أداة للتنمية الثقافية والمعرفية إذا ما توفرت الشروط الموضوعية التي تحقق ذلك، وما تقدمت الشعوب" وازدهرت إلا بتقدم لغتها وازدهارها، وما تخلفت ألا بتخلف لغتها". فالضرورة الإستراتيجية تحتم علينا ترسيخ التنمية باللغة العربية ذات القدرة على مواكبة العلوم والتقنيات الحديثة، كما أن تطويرها وتجديدها والإبداع فيها وبها، يسهل نقل المعرفة في مجتمعاتنا، لأن الاقتصار على اللغات الأجنبية سيمركز المعرفة بيد فئة قليلة، ما يعرقل إشاعتها وتبادل المعلومة، وبذا سنكون أمام شعوب لم تستوعب عصرها، ولا تستطيع الدفاع عنها، ولا قابلة للتغيير والتطوير.
أما الذي يتهمون اللغة العربية اليوم بالعجز عن مجاراة التطورات الحضارية العلمية إنما يعترفون بعجزهم هم،
نقول لهم، أن لغتنا تتكيء على إرث حضاري، وامتلكت ناصية العلم، فالتفوق الذي أحرزته الحضارة العربية الإسلامية في الميادين جميعها والمجالات الثقافية والمعرفية التي شهدتها تلك العهود، يرجع أساساً إلى اهتمام العلماء أنفسهم بالبحث في اللغة، وذلك لفهم المصطلحات العلمية والفلسفية؛ ما جعلهم يتفوقون على غيرهم من الشعوب الأخرى. يمكن القول، منذ القرن التاسع الميلادي إلى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، عرفت الحضارة الإسلامية العربية الحداثة التي ارتبطت بإرادة التغيير وإملاء دور العقل وحرية الإرادة والقدرة على الإبداع والإنفتاح على الحضارات.
لا تكاد تجد بين شُعوب العالم، صغيرها وكبيرها، أمة تقدم العِلم لدارسيه بغير لغتهم القومية إلا في وطننا العربي المتعثر. فلا صعوبة كتابة اللغة اليابانية أو الصينية أو الفيتنامية، ولا صغر حجم بعض الدول الأوروبية ولا فقر بعض دول آسيا، ولا شح التراثيات في اللغة التركية، ولا موات اللغة العبرية على مدى عشرين قرناً، حالت دون أن تكون اللغة القومية هي لغة تدريس العلوم. أليس تقاعسنا، وأحياناً تفردنا، في شتى أنحاء الوطن العربي، عن عملية التعريب ومواكبة التطور العالمي المُستمر وإنماء لغتنا بالترجمة والتأليف، هو المسؤول عن هذا النقص؟
إن التقدم العلمي والتكنولوجي لن يكتب له النجاح، إذا كان دعاة له ممن يترفعون عن استخدام اللغة العربية، اللغة وعاء الثقافة والعلم والمعرفة، فإذا ضاع هذا الوعاء، فماذا بقي لدى صاحبه من علوم ومعارف؟ ثم إذا كانت لغتنا لغة لها تاريخها الحضاري، واستوعبت علوم الأمم التي سبقتها، وإذا كانت لغة دين سماوي تعهد الله بكتابه العربي بالحفظ، وإذا كانت لغتنا فيها من وسائل متعددة من إمكانية استيعاب ما يرد إليها من ألفاظ، في الاشتقاق والترجمة والتوليد وغيرها، فلماذا نحجم عن إثرائها؟، ولا مانع أن نبحث ونتواصل مع لغات الأخرى، لننقل ما لدينا وننقل ما لدى الآخرين، فالحضارة إنتاج كل شعوب الأرض، وجميعهم شركاء في السلم الحضاري، ولن يكون ذلك إلا بالتفاعل مع كل هؤلاء الشركاء، مع الأخذ بالحسبان أن يكون لنا مكان في هذه الشراكة، ولن يتم ذلك ما دمنا لا نملك القدرة على تبيئة العلم والمعرفة والتكنولوجيا، لتناسب مجتمعاتنا ويفيد منها، ويبنى عليها، حتى تكون فيها خواصنا وسماتنا، التي تحدد هُويتنا الوطنية والقومية والدينية، فهل من مجيب؟
إن عصر المعرفة يضع أمامنا الكثير من التحديات، ويفتح في الوقت نفسه آفاقا واسعة. لذلك، علينا التسلح بكل ما لدينا من إمكانات ووسائل لمواجهة هذه التحديات في ضوء الحرص على ممارسة اللغة العربية. فهي تعد أهم وسيلة اتصال فيما بين كتلة هائلة من السكان في منطقة من أكثر المناطق العالم حركة وحيوية. ومن أكثر بقع العالم طمعاً بها. ماذا يعني الوطن العربي للأجنبي: نفط وقدرة شرائية. ترليار دولار في عشر سنوات على السلاح، على التسلح. فماذا عن التسلح بالعلم والمعرفة؟ ماذا عن صندوق للتضامن مع الفقراء؟ جنوب شرق آسيا؛ ماليزيا تختلف عن فيتنام، وفيتنام تختلف عن سنغافورة، وسنغافورة تختلف عن إندونيسيا، لكنها تتفق على العمل الجمعي ميثاقاً للمواطنة. ذلك هو الاختلاف الذي لا يُذهب للود قضية. ومعايير هذه المواثيق هو: اتقان اللغة الأم، ومعرفة لغة أخرى
خلاصة القول، أن اللغة العربية هي أهم عناصر الهُوية، والتفريط في اللغة هو تفريط في هويتنا التاريخية وقيمنا الثقافية والأخلاقية وسيادتنا القومية، وكلما اهتم الإنسان بلغته كان دليلاً على قوته ونهضته وأصالته، والعكس صحيح.



#معمر_خولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في ضوء ما يجري في سورية: موقف النظريات السياسية في العلاقات ...
- في ذكرى إلغاء الخلافة الاسلامية.... العلمانية والعلماني لدى ...


المزيد.....




- أضرار البنية التحتية وأزمة الغذاء.. أرقام صادمة من غزة
- بلينكن يكشف نسبة صادمة حول معاناة سكان غزة من انعدام الأمن ا ...
- الخارجية الفلسطينية: إسرائيل بدأت تدمير رفح ولم تنتظر إذنا م ...
- تقرير: الجيش الإسرائيلي يشكل فريقا خاصا لتحديد مواقع الأنفاق ...
- باشينيان يحذر من حرب قد تبدأ في غضون أسبوع
- ماسك يسخر من بوينغ!
- تعليقات من مصر على فوز بوتين
- 5 أشخاص و5 مفاتيح .. أين اختفى كنز أفغانستان الأسطوري؟
- أمام حشد في أوروبا.. سيدة أوكرانية تفسر لماذا كان بوتين على ...
- صناع مسلسل مصري يعتذرون بعد اتهامهم بالسخرية من آلام الفلسطي ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - معمر خولي - اللغة العربية: رمز الهوية ورهان التنمية.