أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إدريس جنداري - ما بين الأجندة النيوكولونيالية و النزعات العرقية















المزيد.....


ما بين الأجندة النيوكولونيالية و النزعات العرقية


إدريس جنداري
كاتب و باحث أكاديمي

(Driss Jandari)


الحوار المتمدن-العدد: 3671 - 2012 / 3 / 18 - 01:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


1- الربيع الديمقراطي العربي و المشروع النيوكولونيالي.. في إيضاح مظاهر التناقض
بعد أن كانت الأوضاع السياسية و الاجتماعية تتسم بالجمود و التردي؛ في مجمل دول العالم العربي؛ جاء المد الثوري ليطلق حركية غير مسبوقة؛ حركت المياه الراكدة و أعادت؛ من جديد؛ طرح الأسئلة النهضوية؛ فيما يخص؛ الاستبداد و التخلف و الفساد... و لذلك؛ فإن ما بعد أحداث الربيع العربي يشكل قطيعة مع ما قبلها.
إذا كنا لا نختلف –طبعا- حول الرهان الديمقراطي الذي تؤسس له ثورات الربيع العربي اليوم؛ حتى و لو كان هذا الرهان في بداية طريق الألف ميل؛ فإنه من الضروري أن نكون على تمام الوعي بما يشكله هذا الرهان المنشود؛ من تحديات حقيقية أمام المشروع الاستعماري الجديد؛ بوجهه الرأسمالي البشع؛ و الذي لا ينظر إلى الشعوب و الدول؛ إلا باعتبارها مناجم لا تنضب للمواد الخام؛ و أسواقا لاستهلاك المنتوجات الصناعية.
و لذلك؛ فإن التحدي الذي يفرضه الربيع الديمقراطي العربي اليوم؛ يتجلى بالأساس؛ في نشر قيم الحرية و الاستقلالية و الديمقراطية؛ أي الخروج من وصاية الدولة التسلطية؛ التي توجه المجتمع في اتجاه خدمة مصالحها الضيقة؛ إلى فضاء أفسح حيث يمارس الفرد مواطنته؛ باستقلالية و حرية تامة و بمسؤولية كذلك.
و هذا ما يمكنه؛ على المدى المتوسط؛ أن ينجح في تشكيل جيل جديد؛ يتميز بالحرص على المصالح العليا لوطنه و أمته؛ حيث يشعر بأن مسؤوليته لا تقل قيمة عن مسؤولية رجل الدولة؛ و هكذا يظهر رأي عام جديد؛ يؤثر في صناعة القرار السياسي؛ عبر آلية الانتخاب التي تمنحه فرصة اختيار نخبته السياسية؛ التي تجسد طموحاته في الإصلاح.
من هذا المنظور يمكن أن نؤكد؛ منذ البداية؛ أن الرهان الديمقراطي الذي يسعى الربيع العربي إلى ترسيخه؛ لا ينفصل عن رهان تحقيق استقلالية القرار السياسي الوطني؛ من خلال التمكن من حماية سيادة الوطن و الأمة. و إذا أخذنا بعين الاعتبار؛ الرهان الاستعماري المعارض فإننا يمكن أن نفهم جيدا؛ الصراع الذي يمكن أن يطبع العلاقة بين المشروعين المتناقضين.
لقد بدأت معالم هذا الصراع تبدو جلية الآن؛ رغم أننا في بداية المسار الطويل؛ سواء في علاقة مصر مع الولايات المتحدة؛ من خلال ما أثير مؤخرا حول المساعدات الأمريكية و علاقتها بالقرار السيادي المصري؛ فقد خرجت أصوات تندد بهذه المعادلة التي كانت منطقية في عهد النظام السابق؛ لكن الواقع الجديد يفرض اليوم منطقا جديدا؛ يجب أن يتحكم في نسج خيوط علاقة جديدة؛ قائمة على أساس التوازن و المصالح المشتركة؛ من دون الخضوع لسياسة الأمر الواقع؛ التي توجه السياسة الخارجية الأمريكية؛ في علاقتها بمصر ما قبل الثورة .
كما يبدو أن نفس هذا الصراع؛ هو الذي بدأ يطبع علاقة تونس بفرنسا؛ فبالإضافة إلى الجفاء الواضح الذي أصبح يطبع هذه العلاقة؛ نلاحظ نوعا من التمرد على السياسة الخارجية الفرنسية التي تحكمت؛ لعقود في القرار السياسي التونسي ووجهته لخدمة مصالحها؛ و سواء مع الجناح اليساري/الوطني الذي يمثله السيد منصف المرزوقي؛ أو مع الجناح الإسلامي الذي يقوده المفكر و السياسي الوطني (رشيد الغنوشي)؛ فإن هناك توجها واضحا لفرض استقلالية القرار الوطني التونسي؛ حتى و إن تعارض مع مصالح فرنسا .
إذن؛ و اعتمادا على هذا المنطق؛ هل يمكن أن ننتظر من القوى الرأسمالية الكبرى؛ أن تبارك ربيعنا الديمقراطي؛ و جميع خبرائها أصبحوا يدركون جيدا؛ أن الكلمة الفصل ستكون مستقبلا للشعوب؛ و التي ستسعى لبلورة الإرادة الشعبية انتخابيا؛ من خلال دعم نخبة سياسية وطنية مناضلة؛ تضع مصالح وطنها وأمتها على قائمة اهتماماتها ؟
إن منطق السياسة الذي يقوم على أساس تبادل/صراع المصالح؛ يؤكد أن الدعم الذي تلقته الثورة العربية من طرف الغرب؛ يمكن أن يتراجع في أي حين؛ أو بالأحرى يمكن أن ينقلب رأسا على عقب؛ ليتحول إلى حاجز يعرقل بناء المشروع الديمقراطي العربي المنشود؛ و هذا ما سينعكس سلبا على إيقاع التحول الذي يعيشه العالم العربي.
لقد تميزت الرأسمالية الغربية؛ منذ ظهورها؛ بنزعة كولونيالية ترتبط جوهريا بالبحث عن المواد الخام و عن الأسواق الكبرى؛ لترويج سلعها الصناعية؛ و هذه النزعة هي التي قادت الغرب الأمريكي-الأوربي في علاقته بالشعوب و الأمم الأخرى؛ منذ الحركة الاستعمارية التوسعية خلال القرن التاسع عشر؛ و بعد ذلك من خلال التوجه الكولونيالي الجديد للهيمنة على العالم؛ و محاولة توجيهه لخدمة الاحتياجات الرأسمالية المتزايدة؛ للمواد الخام و للأسواق .
قد نتساءل عن علاقة هذا التحليل بالراهن العربي؛ خصوصا و أن الكيان الرأسمالي الغربي (أمريكيا و أوربيا) أبدى رغبة جامحة في إنجاح المشروع الديمقراطي في العالم العربي؛ و قد يذهب البعض بعيدا؛ حينما يعتبر أن الأنظمة الديمقراطية هي الوحيدة القادرة على تأمين مصالح الغرب؛ في إطار علاقة شراكة؛ تقوم على أساس تبادل المصالح .
لكن؛ يمكن أن نعقب بأن ترسيخ الديمقراطية؛ هو بالأساس؛ حضور متزايد للإرادة الشعبية في صناعة القرار السياسي و الاقتصادي. و هذا ما يدفعنا إلى التساؤل مرة أخرى؛ هل يمكن للشعوب العربية التي أبانت؛ كلما أتيحت لها فرصة التعبير عن رأيها؛ عن التزامها بخصوصيتها الحضارية؛ و بسيادة قرارها السياسي و الاقتصادي؛ هل يمكن لهذه الشعوب أن تتماهى يوما مع إرادة الهيمنة التي تمثلها الرأسمالية الغربية ؟
يمكن أن (نتسرع) و نجيب؛ بناء على المؤشرات التي يمنحنا إياها الواقع العربي ماضيا و حاضرا؛ أن الثقافة العربية/الإسلامية في جوهرها ثقافة مقاومة؛ منذ القديم و حتى حدود الآن؛ و هذه الخاصية هي التي دفعت (هكتنكتون) في تنظيره لصراع الحضارات؛ أن يؤكد؛ بان النموذج الغربي يواجه تحديا ثقافيا كبيرا؛ يمثل فيه العدو الأخضر (الحضارة الإسلامية) تحديا كبيرا. و لذلك فإن نهاية التاريخ التي تحدث عنها (فوكوياما) ليست بالرهان سهل التحقق؛ كما قد يزعم البعض؛ من أولئك الذين يعيدون نسج خيوط الفكر الاستشراقي المتهافت؛ في تنظيره للشرق؛ و لكنها مهمة صعبة جدا؛ بالنظر لما تتميز به الحضارة العربية الإسلامية من عمق تاريخي مكنها دوما؛ في مواجهتها للتحديات التاريخية؛ من المحافظة على تماسكها و قوتها في المواجهة.
و لعل؛ أكبر دليل هو النجاح في مواجهة الهجمة الاستعمارية الشرسة خلال مرحلة القرن التاسع؛ عندما تم طرد الاستعمار الرأسمالي الغربي؛ على وقع ضربات المقاومة؛ التي نجحت بوسائلها البسيطة في تحطيم مشروعه على صخرة الواقع. و لذلك فإني أزعم أن هذه الروح المقاومة؛ ما زالت سارية في شرايين الأمة العربية الإسلامية مشرقا و مغربا؛ و هي مستعدة للانتفاض في أي حين؛ حينما تستشعر خطورة الموقف.
إن ملامح اللا-انسجام؛ التي بدأت تطفو على السطح؛ في علاقة الربيع الديمقراطي العربي بالمصالح الرأسمالية؛ هذه الملامح تؤكد؛ أن الرهان الغربي على استبدال الأنظمة التسلطية المتهالكة التي استنفذت مهمتها؛ في تامين المصالح الرأسمالية؛ بأنظمة ديمقراطية تابعة و خانعة؛ هذا الرهان يبدو خاسرا منذ البداية؛ لان الشعوب العربية حينما ثارت و ضحت بدمائها؛ فهي لم تكن تسعى إلى استبدال (شن بطبقة)؛ لأنهما وجهان لعملة واحدة؛ و لكنها كانت تسعى إلى تأسيس ممارسة سياسية جديدة؛ حيث يستمد الحاكم شرعيته من الإرادة الشعبية؛ و لذلك فإنه مضطر للتعبير عن هذه الإرادة في صياغة قراراته؛ و إلا فإن مصير (ابن علي و مبارك و القذافي ...) في انتظاره .
إن الغربيين؛ بخبرائهم و سياسييهم واقتصادييهم؛ حينما يحذرون من التهديد الذي يمثله الإسلاميون؛ الذين قادتهم لأول مرة في التاريخ العربي الحديث؛ صناديق الاقتراع إلى الحكم؛ حينما يحذرون من التهديد القادم فإن تخوفهم؛ في الحقيقة؛ لا يرتبط بالتوجه الإيديولوجي؛ و لكنه تخوف من المشروع الوطني؛ الذي يمكن أن يمثله الإسلاميون؛ و هو مشروع سيهدد؛ بالضرورة؛ المصالح الغربية المتراكمة؛ لعقود؛ في علاقة بالأنظمة التسلطية؛ التي كانت تحصل على الدعم الغربي كثمن لتامين المصالح الرأسمالية الغربية في بلدانها؛ و لو كان ذلك على حساب مصالح أوطانها. و بما أن الرأسمالية الغربية لا تعترف بغير مصالحها فإنها رمت بشبكة وسائطها في مزبلة التاريخ؛ عند أول اختبار للقوة؛ ما دامت هذه الأنظمة غير قادرة على تأمين مصالحها.
في ظل هذا الواقع الجديد؛ الذي يبدو أنه بدا يتشكل بإيقاع أسرع من المتوقع؛ يمكن أن نتساءل عن رد الفعل الغربي المنتظر؛ و هو قادم لا محالة؛ لأننا لا يمكن أن نتوهم أن الغرب سيفرط في مصالحه الإستراتيجية؛ و سيستسلم بسهولة لموازين القوى الجديدة التي فرضها الربيع الديمقراطي العربي . لكن ما هي طبيعة رد الفعل؛ هذا هو السؤال الجوهري ؟
لا يمكن؛ طبعا؛ أن نتصور تدخلا كولونياليا مباشرا على شاكلة مرحلة القرن التاسع عشر؛ أو على شاكلة العراق حتى؛ لأن العالم بدأ يعرف تعددية قطبية؛ يبدو أنها ستعرقل لا محالة التوجه الأحادي الذي ساد منذ انهيار جدار برلين؛ حيث احتكرت الولايات المتحدة؛ في شراكة مع أوربا القرار السياسي العالمي؛ سواء من خلال العقوبات السياسية و الاقتصادية؛ أو من خلال الضربات العسكرية الاستباقية لشل أي نوع من المقاومة المحتملة .
لكن؛ رغم بروز معالم وضع عالمي جديد؛ يمكن أن يساعد دول الربيع العربي؛ فإن الغرب الرأسمالي يمتلك أوراق رابحة عديدة؛ يمكن أن يستخدمها؛ كلما أحس بأن خيوط اللعبة تنفرط من بين أصابعه؛ و هي أوراق كثيرة سنحاول التوقف عند ورقة منها؛ نعتبرها أخطر ورقة يمكن أن يلعبها الغرب الرأسمالي؛ لإفشال المشروع الديمقراطي العربي المنشود .
2- النيوكولونيالية و الأجندة العرقية .. مصالح مشتركة
منذ الهجمة الاستعمارية على المشرق العربي و مغربه؛ عاشت الحضارة العربية الإسلامية على وقع هزات عنيفة و منظمة؛ استعملت فيها اعتي الأسلحة (المحرمة حضاريا)؛ و ذلك لمحاولة طمس المعالم الحضارية التي أسس لها العرب/المسلمون؛ على امتداد قرون متوالية؛ من آسيا إلى إفريقيا إلى أوربا؛ و هي معالم لم يستطع كل الغزاة و المتآمرين محوها؛ لأنها كانت متجذرة في نفوس الشعوب؛ التي شكلت الامتداد الحضاري العربي الإسلامي.
و لعل قوة العروبة الضاربة التي منحتها الانتشار و التجذر؛ لتتجلى في ارتباطها بالإسلام؛ منذ القرن السابع الميلادي؛ كبداية لتشكل تراث فكري و سياسي و ديني مشترك بين الشعوب العربية؛ أنتجه و طوره العرب المسلمون؛ في المشرق العربي و مغربه. و هذا التراث هو الذي صاغ رؤية مشتركة للعالم؛ بين مختلف الشعوب التي انتمت إلى الحضارة العربية الإسلامية؛ و ساهمت في بنائها.
لذلك؛ كانت الإستراتيجية الاستعمارية واضحة المعالم؛ منذ البداية؛ العمل على تمزيق الوحدة الحضارية التي جمعت ووحدت شعوبا مختلفة. و لا يمكن أن تنجح هذه الإستراتيجية إلا عبر خطط مدروسة؛ تهدف إلى تشتيت التراث الحضاري المشترك؛ دينا و لغة و ثقافة... و ذلك؛ من خلال بعث الروح في النزعات العرقية و القبلية التي سعى الإسلام؛ منذ البداية؛ إلى محاصرتها لأنها تهدد الوحدة الحضارية المنشودة.
إن توجه نابليون بونابرت؛ من خلال حملته العسكرية على مصر؛ إلى بعث الروح في النزعة العرقية الفرعونية؛ لم يكن مصادفة البتة بل كانت خطة مدروسة؛ سعى من خلالها المستعمر إلى فك ارتباط مصر بامتدادها الحضاري العربي الإسلامي؛ ليسهل الاستيلاء عليها و إعادة برمجتها حضاريا؛ من منظور يخدم المصالح الاستعمارية.
و نفس الخطة اعتمدها الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي(المغرب-تونس-الجزائر) من خلال بعث النزعة العرقية الأمازيغفونية؛ باعتماد سياسة مدروسة؛ هي التي أطلق عليها اسم السياسة البربرية la politique berbère ؛ و التي كانت تهدف إلى محاولة فك الارتباط بين الغرب الإسلامي و شرقه؛ باعتبارهما امتدادين جغرافيين؛ نجحا لقرون في تشكيل امتداد حضاري موحد .
الآن؛ و ما أشبه اليوم بالأمس؛ ينبعث المشروع الاستعماري من رماده؛ بعد أن احترقت جميع أوراقه؛ في صدامه مع المشروع الوطني ذي البعد العربي الإسلامي؛ و المناسبة طبعا ترتبط بالربيع الديمقراطي العربي الذي انطلق ليستكمل المشروع النهضوي؛ كمشروع أكمل حلقته الأولى (التحرر و الاستقلال) و بقي ينتظر الحلقة الثانية (الحرية و الديمقراطية).
لكن؛ ما يبدو هو أن لأذناب الاستعمار أجندتهم الخاصة؛ التي لا تنسجم مع الاتجاه العام الذي عبر عنه الرأي العام العربي؛ و هي أجندة لا تنفصل –طبعا- عن الرؤية الاستعمارية الفاشلة و التي حاولت؛ بكل ما أوتيت من قوة؛ زعزعة الوحدة الحضارية للشعوب العربية الإسلامية؛ كمدخل أساسي لفرض السيطرة و الوصاية الاستعمارية .
إن عودة النزعات العرقية اليوم؛ لتطفو على السطح من جديد؛ ليس مصادفة البتة؛ بل تعبر بالأساس عن مشهد قديم؛ حيث تداخلت الأجندة الاستعمارية مع النزعات العرقية لإنجاح وظيفة واحدة؛ تتجلى في تحطيم الأساس الحضاري الذي يشد البناء السياسي و الاجتماعي... و يمنحه قوة مقاومة الرجات الاستعمارية؛ و ذلك تمهيدا لتحطيم كل البناء من الأساس؛ باعتماد خطة (فرق تسد) .
و تعلمنا دروس الماضي القريب؛ أن التدخل الكولونيالي في العالم العربي خلال مرحلة القرن التاسع عشر؛ كان يراهن؛ بالأساس؛ على التنوع العرقي الذي يعيشه العالم العربي؛ و هذا التنوع بقدر ما يمثل عامل إثراء ثقافي و اجتماعي؛ فإنه في نفس الآن؛ شكل ورقة رابحة للمشروع الكولونيالي؛ لأن المستعمر راهن منذ البداية على توظيف هذا التنوع؛ لخلخلة الانسجام الاجتماعي أولا؛ و بعد ذلك توظيف التعدد العرقي و الإثني و الديني و المذهبي و اللغوي ... لتفجير المجتمع من الداخل؛ و بالتالي تيسير مهمة السيطرة بأقل مجهود ممكن.
إن الورقة الرابحة التي يمكن للغرب الرأسمالي أن يلعبها؛ لإفشال المشروع الديمقراطي العربي؛ هي ورقة التعدد العرقي؛ بحيث يمكن في أي وقت أن ينبعث المشروع الاستعماري القديم من رماده؛ بنفس الإستراتيجية و بنفس التخطيط كذلك. و لذلك يجب على النخبة الوطنية أن تكون في منتهى اليقظة؛ في علاقة بالنزعات العرقية التي تخترق المجتمعات العربية مشرقا و مغربا. و هذه النزعات يمكنها في أي وقت أن تتحول إلى مشاريع انفصالية؛ ستلاقي –بالتأكيد- دعما كاملا من طرف القوى الرأسمالية الكبرى لأنها تخدم مصالحها .
و في هذا السياق العربي المضطرب؛ يجب أن نستحضر؛ بقوة؛ مشروع الشرق الأوسط الكبير؛ الذي قام –في الأساس- على خطة تشتيت دول المنطقة العربية (مشرقا و مغربا) إلى قطع دومينو؛ يتلاعب بها المحافظون الجدد و الصهاينة؛ لتشكيل بناء هرمي جديد؛ يستجيب لنزعاتهم الاستعمارية. و يمكن في هذا السياق أن نستحضر المخطط الذي صاغه (رالف بيترز) الضابط المتقاعد في الاستخبارات العسكرية الأمريكية؛ و الذي نشر بمجلة القوات المسلحة الأمريكية في عدد يونيو/حزيران 2006 تحت عنوان:
How a better Middle East would look : Blood borders
Ralf Peters – Blood borders: how a better middle east would look – AFJ (Armed Forces Journal.
في البداية؛ ينطلق بيتزر من مقدمة أساسية؛ سيبني عليها جميع النتائج التي سيخلص إليها في الأخير؛ و هي أن الحدود التي تفصل بين الدول في العالم ليست عادلة, لكن الحدود الأكثر اعتباطية في العالم -في نظر بيترز- هي تلك التي تشكل الدول الإفريقية و دول الشرق الأوسط (العالم العربي) تلك الحدود التي رسمها الأوربيون لحماية مصالحهم. و يستعير (بيترز) مصطلح الحدود غير العادلة من(تشرشل)؛ ليعبر عن الوضع القائم في الشرق الأوسط؛ و هذا الوضع في اعتباره؛ سيحضر كسبب رئيسي في اندلاع الكثير من المشاكل؛ بين الدول و الشعوب في المنطقة.
و يتوقف (بيترز) عند مشكل الأقليات؛ في منطقة الشرق الأوسط و ما لحقها من ظلم فادح –في نظره- و ذلك حين تم تقسيم الشرق الأوسط؛ أوائل القرن العشرين (يقصد اتفاقية سايكس بيكو) مشيرا إلى هذه الأقليات "بأنها الجماعات أو الشعوب التي خدعت؛ حين تم التقسيم الأول" ويذكر أهمها: الأكراد، والشيعة العرب و مسيحيي الشرق الأوسط، والبهائيين والإسماعيليين والنقشبنديين... ويرى بيترز أن ثمة كراهية شديدة؛ بين الجماعات الدينية و الإثنية بالمنطقة تجاه بعضها البعض، وأنه لذلك يجب أن يعاد تقسيم الشرق الأوسط؛ انطلاقا من تركيبته السكانية غير المتجانسة؛ القائمة على الأديان والمذاهب والقوميات والأقليات، حتى يعود السلام إليه !!
و تفوح من هذا المخطط؛ منذ البداية؛ رائحة سايكس بيكو النتنة؛ حيث تمت شرذمة المنطقة العربية؛ على المقاس الفرنسي البريطاني أوائل القرن العشرين؛ و ذلك لفسح المجال أمام إنشاء كيان غريب؛ تحت الرعاية البريطانية التي جسدها وعد بلفور .
إن هذا المخطط بالإضافة إلى مخطط مشابه وضعه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق (هنري كسنجر) ليس سوى قطعة الثلج التي تغطي جبل الجليد؛ و ذلك لان الغرب الرأسمالي تعامل؛ منذ القرن التاسع عشر؛ مع المنطقة العربية باعتبارها منطقة غير منسجمة حضاريا و جغرافيا؛ و لذلك يجب اللعب على أوتار التعدد العرقي و الديني؛ كلما دعت الضرورة إلى إعادة صياغة خرائط المنطقة؛ لخدمة المصالح الغربية .
إن هذه المخططات ليست تنظيرا يصوغه باحثون أكاديميون؛ بل هي بالأساس رؤية إستراتيجية؛ تتحكم في الفعل و الممارسة على أرض الواقع؛ و إذا كنا غير قادرين على استيعاب خطورة هذه الرؤية؛ على المستوى النظري؛ فإننا سنضطر مستقبلا إلى قبولها و التأقلم معها واقعيا؛ إذا فشلنا في مواجهتها .
و لعل ما جرى في السودان من تفكيك و تمزيق للدولة؛ بدعم مفضوح من طرف الحلف الأمريكي-الأوربي؛ و بتغطية من الأمم المتحدة ؛ ليعتبر بداية فقط لشرعنة الانفصال؛ و صياغة نموذج مستقبلي يمكن أن يعمم على كامل المنطقة العربية؛ كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
و هذا النموذج هو الذي يتم تسويقة في العراق؛ حيث يعبر الأكراد عن نزوعات انفصالية في واضحة النهار؛ و في تحد سافر للدستور العراقي؛ الذي شاركوا في وضعه؛ و من المفروض أن يعملوا على حمايته؛ عبر مؤسسة رئاسة الدولة التي يمثلونها في النظام السياسي الجديد؛ لكن الأكراد أنفسهم لا يمثلون قرارهم السياسي الخاص؛ بل ورطوا أنفسهم ضمن مخططات انفصالية موضوعة مسبقا من طرف صناع القرار الأمريكي؛ الذين دخلوا العراق من أجل تطبيق هذه المخططات الانفصالية؛ لتوسيعها فيما بعد على المنطقة العربية ككل.
أما في مصر؛ فإن مشكلة الأقباط بدأت تطرح بقوة؛ لتبرير التدخل الدولي في البداية؛ تمهيدا لزرع بذور الانفصال لاحقا؛ و هذا ليس تخمينا و حسب؛ بل يدخل ضمن مخططات بأبعاد إستراتيجية بعيدة المدى؛ تنتظر الفرصة السانحة فقط؛ للخروج إلى حيز التطبيق.
و ليس بعيدا عن المشرق العربي؛ فإن إيديولوجية الانفصال أصبحت تخترق بقوة دول المغرب العربي؛ سواء في المغرب أو في الجزائر؛ باعتبارهما دولتين قائمتين على أساس تعدد عرقي و لغوي؛ أصبح يستثمر من طرف قوى خارجية؛ لزعزعة وحدة و استقرار البلدين. و لعل آخر ما كشف عنه الستار؛ هو الاختراق الصهيوني للأقلية الأمازيغية؛ بهدف خلق نموذج كردي في كل من المغرب و الجزائر؛ قابل للانفصال في أية لحظة بدعم نيوكولونيالي؛ سياسيا و عسكريا.
و بالإضافة إلى الاختراق الصهيوني للأقلية ألأمازيغية في المغرب العربي؛ يحضر كذلك الاختراق الفرنكفوني؛ الذي يمتلك رصيدا تاريخيا محترما جدا؛ في دعم انفصال الأمازيغ عن العرب في المنطقة المغاربية؛ و هذا رهان كبير بدا في تحقيقه المقيم العام الفرنسي (ليوطي) لكن الوعي الوطني المرتبط بأبعاد عربية-إسلامية أفشل هذا الرهان قبل ولادته؛ لأن الظهير البربري الذي حاول تطبيق هذا المخطط الاستعماري في المغرب؛ هذا الظهير الذي كان يخطط لفصل الأمازيغ عن العرب في المنطقة المغاربية؛ كان المسمار الأخير الذي دقته الحركة الوطنية المغربية في نعش الاستعمار الفرنسي .
لكن ما أصبح يخيف الآن؛ هو أن المخططات الفرنكفونية؛ أصبحت تعود بقوة؛ مستغلة غياب الحس الوطني لدى الناشئة؛ التي لم تعش لحظات التحرر الوطني؛ و آخر بوادر هذا النجاح تم التعبير عنها على أرض الدولة الاستعمارية السابقة؛ عبر تشكيل حكومة أمازيغية صورية؛ ستكون البداية الفعلية لتقسيم الجزائر إلى دويلتين متنازعتين؛ بدعم فرنكفوني؛ يمكنه أن يتحول في أي وقت إلى دعم دولي؛ يطالب بتقرير مصير (الشعب الأمازيغي) الذي لم يكن يوما إلا شعبا جزائريا؛ أو شعب المغرب الأوسط في التاريخ الوسيط؛ باعتباره شعبا موحدا يتشكل من عرب و أمازيغ و أندلسيين و أفارقة؛ حيث تعايشت جميع هذه الأعراق بسلام ووئام؛ إلى حدود دخول الجزائر ضمن الحسابات الإمبريالية؛ لما يزيد عن قرن من الزمان .
إن ما يبدو من انسجام؛ بين الرهان الديمقراطي الذي يفرضه الربيع العربي؛ و بين الرؤية الغربية؛ ليس في الحقيقة سوى وهم سينفضح عند أول اختبار؛ و ذلك نظرا للتعارض الواضح بين الرهانين؛ خصوصا إذا نجح الربيع العربي في تتويج مشاريع سياسية وطنية؛ ستكون بالضرورة بمثابة حواجز حقيقية أمام المصالح الغربية في المنطقة العربية؛ و من ثم يمكن أن نتصور مسبقا طبيعة الصراع القادم؛ و هو صراع نتوقع أنه سيعيد إنتاج استراتيجيات و خطط الماضي؛ التي تم اعتمادها لإعادة صياغة خرائط المنطقة العربية؛ بما يخدم المصالح الرأسمالية. و نحن إذ نحذر من النزعات العرقية؛ فإننا ننطلق من هذه التجارب السابقة؛ حيث عمد المستعمر في كل مرة إلى اللعب على هذه الأوتار الحساسة بهدف حماية مصالحه؛ و هو مستعد لإفشال الرهان الديمقراطي اليوم باعتماد نفس الإستراتيجية و الخطط.



#إدريس_جنداري (هاشتاغ)       Driss_Jandari#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفهوم الكتلة التاريخية .. النقد الابستملوجي لكشف الوهم الإيد ...
- الربيع العربي و قوى اليسار في الحاجة إلى مراجعات من أجل مستق ...
- الإسلام السياسي صوت الربيع العربي .. الخصوصية الحضارية كمدخل ...
- الأطروحة الأمازيغية في المغرب بين المشروع الكولونيالي و الره ...
- الربيع العربي في مواجهة مخططات الاستعمار الجديد - الديمقراطي ...
- الربيع العربي .. في نقد توظيف النزعات العرقية لخدمة الأجندة ...
- الربيع العربي.. في نقد المقاربة القومية/البعثية
- هو الربيع العربي و ليست ثورات شمال إفريقيا !
- الربيع العربي و رهان الوحدة العربية.. مراجعات لابد منها
- دسترة المجلس الوطني للغات و تحديات تأهيل و تفعيل اللغة العرب ...
- اللغة العربية في المغرب .. بين الترسيم الدستوري و تحديات الو ...
- اللغة العربية في المغرب بين الترسيم الدستوري و تحديات الواقع
- بيان من أجل الديمقراطية .. المثقف المغربي يخلق الحدث و يدعم ...
- الإصلاحات السياسية في المغرب و سؤال الدولة المدنية
- إني أتهم .. j accuse
- مخاض التحول نحو الديمقراطية في العالم العربي على ضوء ثورتي ت ...
- رهان الديمقراطية في العالم العربي بين الأمس و اليوم
- مبدأ تقرير المصير بين روح القانون الدولي و التوظيف السياسي ( ...
- مبدأ تقرير المصير: بين روح القانون الدولي و التوظيف السياسي ...
- مبدأ تقرير المصير بين روح القانون الدولي و التوظيف السياسي


المزيد.....




- تمساح ضخم يقتحم قاعدة قوات جوية وينام تحت طائرة.. شاهد ما حد ...
- وزير خارجية إيران -قلق- من تعامل الشرطة الأمريكية مع المحتجي ...
- -رخصة ذهبية وميناء ومنطقة حرة-.. قرارات حكومية لتسهيل مشروع ...
- هل تحمي الملاجئ في إسرائيل من إصابات الصواريخ؟
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- البرلمان اللبناني يؤجل الانتخابات البلدية على وقع التصعيد جن ...
- بوتين: الناتج الإجمالي الروسي يسجّل معدلات جيدة
- صحة غزة تحذر من توقف مولدات الكهرباء بالمستشفيات
- عبد اللهيان يوجه رسالة إلى البيت الأبيض ويرفقها بفيديو للشرط ...
- 8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - إدريس جنداري - ما بين الأجندة النيوكولونيالية و النزعات العرقية