أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فلاح أمين الرهيمي - النظرية الماركسية والعولمة















المزيد.....



النظرية الماركسية والعولمة


فلاح أمين الرهيمي

الحوار المتمدن-العدد: 3670 - 2012 / 3 / 17 - 20:45
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


النظرية الماركسية والعولمة


التمهيد
إن أية ظاهرة في الوجود منذ أن تكونت الطبيعة ونشوء الحياة عليها وتطورها وتقدمها ووصولها إلى ما هي عليها الآن سواء كانت علمية أو فكرية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، تكمن وراء ظهورها أسباب وعوامل، وهذه الأسباب والعوامل تعتبر روافد تصب في تلك الظاهرة وتؤدي إلى تطورها وتقدمها، أما ولادة تلك الظواهر فتكون خارجة عن إرادة الإنسان، لأنها تولد من خلال الحركة والتغيير فتنشأ وتترعرع وتنمو وتولد معها متناقضاتها التي تعتبر بذرة موتها ويولد التناقض بين المولود الجديد والأصل القديم ويتحول إلى صراع حدي بينهما يؤدي إلى انتصار الجديد الذي يمتاز بالقوة والعنفوان والإرادة والشجاعة والجرأة والحركة وفناء القديم الذي يصبح هرماً لا قدرة لديه على المقاومة والحركة في التصدي ومقاومة الجديد، هكذا هي الحياة منذ وجودها إلى الآن وستستمر الحياة إلى أبد الآبدين بموجب هذه القاعدة التي لولاها لما وصل الإنسان إلى ما نحن عليه الآن من تقدم علمي هائل في اكتشافاته واختراعاته العلمية الكبيرة. إن جميع تلك الاكتشافات والاختراعات العلمية والنظريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحركات الفكرية ما هي إلا انعكاس للواقع الموضوعي لطبيعة تلك المرحلة من مراحل الحياة الإنسانية، أي أن طبيعة نمط الإنتاج والتبادل في تلك المرحلة هو الذي يحدد البنية الطبقية في المجتمع من خلال النظام الاقتصادي السائد في الإنتاج والتبادل التجاري والتنظيم الاجتماعي المنبثق عنه، تنشأ وتتكون الطبيعة السياسية والفكرية لكل بلد من البلدان، وكذلك تنشأ الدولة وتتكون كانعكاس لطبيعة ذلك الواقع الطبقي في تلك المرحلة، ومن خلال تلك فإن الأحداث التاريخية وتطور المجتمعات الإنسانية لا تخضع إلى حتميات ميكانيكية في سيرورتها ومصائرها وإنما تنتهج نهجاً عاماً تسير بموجبه يكون مرتبطاً بالتقدم الاقتصادي والإنتاجي في تلك المرحلة من مراحل التاريخ.
لقد حدد كارل ماركس تلك الأحقاب المتسلسلة في المراحل التاريخية على الشكل التالي : 1) المشاعية البدائية 2) مرحلة الرق والعبودية والإقطاع 3) المرحلة البورجوازية 4) المرحلة الاشتراكية.
سوف نشرح المشاعية البدائية التي لم يحدث فيها تناقض وصراع طبقي وإنما حدث في نهايته المنافسة وبروز الذات الشخصية مما مهدت ظهور وولادة مرحلة العبودية والرق والإقطاعي، أما الأنظمة الباقية فنستعرضها بالبحث والتحليل لأن الطبقات الاجتماعية ظهرت فيها وأفرزت التناقض في المجتمع الإنساني والصراع الطبقي فيه الذي خلق ديناميكية الحركة في مسيرة التاريخ وأدى إلى التطور والتقدم في المجتمع الإنساني. فهي ولادة وحركة وتغير متناسقة ومتفاعلة مع الإنسان ووجوده ومستقبله وهذا يعني أن التناقض والصراع يؤدي إلى الحركة والتغير، وهذا يعني أيضاً أن الإنسان ما دام خاضعاً لكابوس الظلم والاضطهاد والاستغلال والحرمان فإن التناقض والصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان يؤدي إلى الحركة والتغير وكما قلنا أن الحركة والتغير تؤدي إلى انتصار الجديد وانتهاء وفناء القديم ومهما تكن القوة والجبروت هو الحاكم المطلق والسلطة العاتية فإن الحسم والانتصار في المحصلة النهائية يكون في جانب الإنسان المجاهد والمبدع والخالق لجميع مستلزمات الحياة الإنسانية المادية والمعنوية.
فلاح أمين الرهيمي









المراحل المتعاقبة للتاريخ
المشاعية البدائية
كان موجوداً هذا النظام الاجتماعي، في أوائل عهود البشرية ما قبل التاريخ، كان قائماً على المشاع في الأرض وما في باطنها وعلى سطحها، وكانت تعتمد هذه المجتمعات البشرية على أدوات الإنتاج البسيطة البدائية التي كانت تستعمل في الصيد أو قطع أغصان الأشجار التي كانت المواد التي يعيشون عليها، وقد انحل هذا النظام مع تطور أدوات الإنتاج وخلقه نظام الرق والعبودية والإقطاع.
كانت هذه المجموعات البشرية تعيش في المغاور والكهوف بشكل جماعي ومشترك وقد اكتشف كثير من هذه الكهوف والمغاور في غابات الأمازون في أمريكا الجنوبية، وغابات روديسيا وغيرها في أفريقيا، وقد امتاز هذا النظام بتدني مستوى القوة الإنتاجية مما أدى إلى ضعف تطور العلاقات الإنتاجية وغيرها من العلاقات الاجتماعية، لأن أدوات العمل وطبيعتها المتدنية البدائية البسيطة لا تسمح لتلك المجايع البشرية في الصراع وتخلق بينهم المتناقضات في استغلال الطبيعة بشكل منفرد، لذا ظهرت ضرورة العمل الجماعي وما نجم عنه من ملكية عامة مشاعة للأرض وما عليها ولباقي وسائل الإنتاج أي تلك الأدوات البدائية البسيطة، وكانت صلات العلاقة والقربى هي الرابطة بين تلك المجاميع البشرية، كما كان يسود بينهم تقسيم طبيعة العمل حسب الجنس والعمر، وكانت طبيعة عملهم لا تعطي من المنتوج أكثر مما يتطلبه سد رمق العيش والجوع كما لم يكن هناك عشيرة ولا طبقات اجتماعية ولا استقلال ولا دولة، وإنما كان هناك مجلس متكون من كبار السن من العاجزين عن العمل واجبه تقسيم العمل بين تلك المجاميع البشرية والنظر في أمورهم وحل مشاكلهم، وقد اعتبرت تلك المجالس بداية نشوء وظهور الديمقراطية في التاريخ.
مع التحسن التدريجي لأدوات العمل الذي أدى إلى ظهور فائض لمنتوج العمل (ظهر ذلك بين الرجال الأقوياء الذين كانوا يصطادون الحيوانات ويجمعون ثمار الأشجار مما أدى بهؤلاء الرجال الأقوياء الاحتفاظ بالحيوانات التي تفيض عن حاجة تلك المجموعات) كما أدى إلى ظهور التبادل في الحيوانات والثمار بين أبناء المجموعة والمجموعات الأخرى وقد أدت هذه الظاهرة إلى تكدس الحيوانات وكثرتها مما دفع بمالكي تلك الحيوانات إلى تشييد مكان خاص بها واستخدام الرجال ضعاف القوة والخاملين من تلك المجموعات البشرية لرعاية تلك الحيوانات وخدمتها، ومع مرور الزمن وازدياد أعداد الحيوانات وحاجتها إلى الغذاء فرضت الحاجة إلى زراعة الأرض وتكونت وتطورت أدوات العمل الخاصة والسكن الخاص وملكية الأرض وزراعتها مما أدى إلى ظهور الملكية الخاصة وانشطار المجتمع إلى فقراء وأغنياء وظهرت معها إمكانيات اقتصادية أدت إلى استغلال الآخرين وامتلاكهم كعبيد وأقتان، وقد أدى ظهور هذه الظاهرة والتطور الاجتماعي إلى تراجع نظام الأمومة الذي كان سائداً في نظام المشاعية البدائية وحل محله نظام السلطة الأبوية الذي أدى إلى قيام وتكوين العائلة الكبيرة القائم على الزواج الأحادي والبيوت الخاصة بها، ثم تكونت العشيرة والقبيلة ومن خلال اتحاد القبائل وتطورها تكونت الشعوب والأمة القومية والتي أدت إلى تفكك وانحلال نظام المشاعية البدائية وقيام تشكيلة جديدة طبقية تناحرية هو نظام العبودية والإقطاع وقبل الانتقال إلى الفقرة الأخرى (مرحلة العبودية والإقطاع) نشير إلى الوضع الاجتماعي في نظام المشاعية البدائية بالنسبة للمرأة، إن المرأة كانت مشاعة أيضاً بين جميع الرجال، إلا أن الرجال كانوا لا يمارسون الجنس مع امرأة تنتسب إلى قبيلتهم وإنما يمارسون تلك العملية مع النساء اللاتي ينتسبن إلى قبائل أخرى وكانت المرأة تعتني وتهتم بتربية ورعاية أطفال القبيلة وتهيئة الطعام والمستلزمات الأخرى للرجال، أما الرجال فكان واجبهم الصيد والقنص للحيوانات وحتى جمع الأثمار من الأشجار لتوفير الغذاء لجميع أبناء القبيلة ولذلك كانت سلطة المرأة هي السائدة في ذلك النظام وعندما حل ذلك النظام أصبحت المرأة والأطفال من ضمن الملكية الخاصة للرجل وتحولت السلطة من ذلك العهد إلى الأب.
مرحلة العبودية والإقطاع
في عهد العبودية والقتانة والإقطاع كانت هذه الطبقة تكتفي بامتلاك الأراضي الواسعة وتكوين الإقطاعيات الكبيرة وتستخدم أعداداً كبيرة من العبيد والأقتان لحراثتها وزراعتها وخدمتها مقابل أجور تدفع لهم أو مقابل لا شيء سوى لقمة العيش السوداء، أو مقابل لا شيء مطلقاً أي السخرة. وكان الإقطاعي يستحوذ على جميع الإنتاج الذي تدره الأرض الزراعية، ويقتسمه بينه وبين الخزينة الملكية من قبيل الجزية عما تمنحه وتخوله إياه السلطة الملكية من حق مطلق بالتحكم والتصرف بالجماعات من العبيد والأقتان المستعبدة له والقاطنة في إقطاعيته، فكان يسوقهم للحرب من أجل اغتصاب أراضٍ جديدة، أو يضعهم تحت تصرف الملك، يجندهم في حروبه ضد الملوك والأمراء لإخضاعهم لسلطته، إضافة إلى الخدمات والأعمال التي كانوا يقومون بها في الأراضي الزراعية التي تعود للإقطاعي، وكان الإقطاعي لا يطمح بأكثر من دوام رضا الملك ما دام يكفل له دوام عبوديته على أولئك العبيد والأقتان في ذلك العهد.
لم يكن في ذلك العهد غير طبقتين، طبقة الإقطاعيين أصحاب الأراضي الزراعية الواسعة وهي القلة العددية من الشعب، وطبقة العبيد والأقتان المستعبدة والمغبونة والمحرومة والمضطهدة التي تمثل الأكثرية الساحقة من الشعب.
مع مرور الزمن حصل تطور تاريخي بما يطلق عليه بظاهرة (المانيفاكتوره) وهي عبارة عن شكل من أشكال الإنتاج الحرفي نشأ في أواخر المرحلة الإقطاعية مع نشوء وتطور التجارة وازدياد الطلب على المنتجات الحرفية البسيطة المصنوعة. كان التجار يشترون من الصناع الحرفيين منتجاتهم ليبيعونها بدورهم في منطقتهم أو المناطق الأخرى القريبة والبعيدة، ثم اتفق التجار مع الحرفيين بأن يقدموا لهم المواد الأولية التي يحصلون عليها من كافة المناطق التي يجوبونها من تجارتهم مع تلك المناطق والتي يبيعون فيها سلعهم وحاجياتهم التي ينتجها الصناع الحرفيين، ثم أخذ التاجر يجمع عدداً من الحرفيين في مكان واحد وتحت سقف واحد ويقدم لهم المواد الأولية وأدوات الإنتاج أيضاً، وقد سمي هذا المكان بـ (المانيفاكتوره). وهكذا تحول الرأسمال التجاري إلى رأسمال صناعي وأصبح الصانع الحرفي عاملاً مأجوراً ليس لديه ما يمتلكه سوى قوة عمله وجهده التي يبيعها للرأسمالي الصناعي، ويعمل مع زملائه تحت إشرافه وسلطته في (المانيفاكتوره). مما أدى إلى ظهور طبقة جديدة في المجتمع هي الطبقة البورجوازية فأصبح الشعب يتكون من ثلاث طبقات الأولى من الإقطاعيين وملاك الأراضي الزراعية والثانية من الطبقة البورجوازية (التجار والصناع) والطبقة الثالثة من الأقتان والعبيد والعمال وعامة الشعب. في هذه الفترة أخذت طبقة الإقطاعيين والملاك الزراعيين الذي كان لها الحول والطول في الماضي تفقد سلطتها وجبروتها شيئاً فشيئاً للأسباب التالية :
1) هروب أعداد كبيرة من الأقنان والعبيد من إقطاعيات الإقطاعيين نتيجة الظلم والقهر والاضطهاد والحرمان ولجوئهم إلى المدن والعمل لدى التجار كعتالين أو تجنيدهم لحراسة وحماية القوافل التجارية التي تحمل البضائع والسلع إلى المدن والمقاطعات المختلفة أو يعملون في المصانع والمعامل التي يمتلكها البورجوازيون، أو تجنيدهم في الجيوش التي أنشأت من أجل السيطرة على المناطق الأخرى واستعمارها من أجل جعلها كأسواق لتصريف البضائع والسلع المنتجة في مصانع البورجوازي واستغلال ما تخزنه أراضيها من مواد أولية، جميع هذه الأسباب والعوامل أدت إلى شحة الإنتاج الزراعي في الأراضي الزراعية التي يمتلكها الإقطاعيون والملاك الزراعيون نتيجة لهروب أعداد كبيرة جداً من الأقنان والعبيد من تلك الأراضي الزراعية وأصبحت بدون حراثة وزراعة مما أدى إلى شحة الأموال وإفلاس كثير من الإقطاعيين والملاك الزراعيين وعجزهم عن تقديم الأموال إلى خزينة الملك حتى يكسبوا رضاه، مما دفع بالإقطاعيين أن يستجيروا بالطبقة البورجوازية ويستدينوا منها الأموال لكي يقدموها للملك من أجل أن يحافظوا على مراكزهم الممتازة من جهة ومن جهة أخرى أن يقدموا للملك أثمان الوجاهة التي يخلعها عليهم. إن هذا التنازل من طبقة الإقطاعيين والاستدانة من الطبقة البورجوازية لم يذهب هباءً بدون مقابل والطبقة البورجوازية تمتاز بالاجتهاد في العمل والأكثر مهارة وذكاء في جمع الثروات واستغلال المواقف مما فرضت الطبقة البورجوازية على الطبقة الإقطاعية لقاء تقديم القروض لها التنازل عن بعض حقوقهم وصلاحياتهم وامتيازاتهم لدائنيهم من التجار والصناعيين لكي يقرضوهم الأموال ويقدموها للخزينة الملكية ثمناً للوجاهة التي يخلعها عليهم الملك.
2) كانت الطبقة البورجوازية أكثر وعياً ودهاءً من طبقة الإقطاعيين، وكانت أكثر اجتهاداً ونشاطاً من طبقة العمال وعامة الشعب، فبينما كانت طبقة الإقطاعيين تلهو وتعبث، والطبقة العاملة وعامة أبناء الشعب مستسلمة إلى حكم القضاء والقدر وقانعة من دنياها بما يؤملها به مستثمروها من وعود وأماني، كانت الطبقة البورجوازية تعمل جاهدة لاستثمار خيرات الأرض والاستفادة منها في تعزيز وتثبيت مكانتها وازدهار معيشتها ورفع مستواها المادي والمعنوي والفكري، حتى إذا ما جاء القرن الثامن عشر أخذت الطبقة البورجوازية تزحزح الطبقة الإقطاعية من مراكز نفوذها وتنتزعها منها كلياً في القرنين التاليين.
3) كانت الطبقة البورجوازية تمتاز عن طبقة الإقطاعيين الأرستقراطية بمزايا عدة سهلت لها سبل السبق والتفوق، فهي أكثر تقدمية منها اجتماعياً وأكثر قابلية للأخذ بسنة التطور وأكثر وعياً واستطلاعاً وإدراكاً وتقديراً للقيم الإنسانية، فلم يغرها التحصن في برج عاجي بل خرجت من قوقعتها المحنطة بالأطياب إلى ميدان الحياة والعمل تصارع وتكافح لاستخراج ثروات الطبيعة من بطون الأرض والاستعانة بالعلم والخبرة والتجربة وخلق جو صالح لحياة تقوم على العمل والإنتاج، فكانت التجارة في المرحلة الأولى والصناعة في المرحلة الثانية العنصر الأهم في توطيد سلطة الطبقة البورجوازية وكانت هذه الطبقة تنهج مختلف السبل من علمية واقتصادية للكسب والثراء.
ظهور التراكم البدائي لرأس المال
لقد أفرزت تلك المرحلة (الملاكين الزراعيين والمانيفاكتوره) ظاهرة التراكم البدائي لرأس المال الذي يعتبر عملية تاريخية لنشوء وتكون تراكم رأس المال. في تلك الفترة تم فصل صغار المنتجين عن وسائل الإنتاج فصلاً كراهياً شاملاً وتجميع هذه الوسائل الإنتاجية في أيدي الرأسماليين، وقد جرت هذه العملية في بلدان أوروبا الغربية في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر من حيث الأساس، وتعتبر عملية التراكم البدائي لرأس المال يقظة الانطلاق في نشوء أسلوب الإنتاج الرأسمالي وظهور مالكي وسائل الإنتاج من جهة، وظهور العمال المأجورين البائعين لقوة عملهم والمحرومين من وسائل الإنتاج من جهة ثانية. إن عملية فصل صغار المنتجين والفلاحين بشكل خاص عن وسائل إنتاجهم فصلاً كراهياً (كالأرض وأدوات الإنتاج) هي بمثابة عشبة الرأسمالية. وتدل على ذلك أن الرأسمال لم يظهر كنتيجة لتغيير فئة ما من الناس كما يزعم البعض من الاقتصاديين البورجوازيين، لأن التاريخ الفعلي يبين أن ظهور الرأسمالية كانت ثمرة عمليات اقتصادية فعلية كانت تحدث في أحشاء المجتمع (كالمنافسة وخراب وتدمير صغار المنتجين للسلع) وقد تسارع هذا التطور عن طريق استخدام أشرس أساليب العنف والنهب والاغتصاب.
لقد ظهرت أكثر صور تراكم رأس المال البدائي كلاسيكية في انكلترا في القرن السادس عشر والسابع عشر حيث استولى اللوردات الأرستقراطيين على أراضي الفلاحين المشاعية وطردوهم منها، وقد حول الإقطاعيون والملاك الزراعيون الأراضي المغتصبة من الفلاحين إلى مراعي للأغنام والبقر والخنازير، كما استحوذوا على الأراضي الزراعية التي كان يستخدمها صغار المزارعين لمعيشتهم عن طريق الاستئجار، أو عن طريق الاغتصاب كما فعلت ذلك الوليدة الجديدة (البورجوازية) كالاستيلاء الاحتياطي على أراضي الدولة ونهب أملاك الكنيسة، مما أدى إلى أن تتحول جماهير واسعة من الناس المحرومين التي أغتصبت وسائل معيشتهم إلى متسولين ومشردين وقطاع طرق، ومما زاد الطين بلة قيام الدولة التي تمثل الطبقات الاجتماعية العالية إلى سن قوانين ضد الذين صودرت أراضيهم أطلق عليها بـ (التشريعات الدموية). وعن طريق التعذيب والسجن والجلد بالسياط والختم بالحديد الساخن عززت الدولة نظام العمل المأجور ودفعت بالفقراء والمحرومين والجياع إلى العمل المأجور في المؤسسات البورجوازية عنوة وغصباً عنهم أي بالقوة والعنف والسجن وقلصت مبالغ الأجور للعاملين وزادت عدد ساعات العمل، وقد رافق ذلك تدمير وخراب صغار المنتجين وتحولهم إلى عمال أجراء، وتراكمت الثروة لدى كبار الملاكين الذين تحولوا إلى رأسماليين.
ظهور الدولة القومية
كان التجار والصناعيون ينقلون بضاعتهم بواسطة القوافل إلى المدن والمقاطعات المجاورة والبعيدة، فكان طريقها عبر إقطاعيات الإقطاعيين، وكانت تفرض على مرورها (ترانسيت) أي ضرائب مما أدى إلى تحمل السلع والبضائع تكاليف كثيرة إلى خسارتها مما أدى ذلك إلى تحمل التاجر والصناعي الأضرار والخسائر بسبب تلك الضرائب. لقد تزامن مع تلك الفترة الزمنية من القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر ظهور أفكار متنورة وتقدمية لدى المفكرين من الطبقة البورجوازية تشجب وتستنكر الظلم والاضطهاد والحرمان والقهر، ويدعون إلى الحرية ومكافحة وإلغاء الرق والعبودية وأصبحوا يقودون الحركات الجماهيرية الواسعة التي تطالب وتدعو إلى إلغاء ذلك النظام الذي يقوم على الاستعباد والظلم والحرمان وتعبئ وتحفز الجماهير الشعبية من أجل ذلك، إن أية ظاهرة تولد في الوجود تحمل معها بذرة موتها ومع مرور الزمن يصبح التناقض والصراع بين المولود الجديد والأصل القديم وطبيعياً يكون النصر إلى الجديد الذي يسير وينسجم مع متطلبات الحياة الجديدة وفناء القديم الذي يلتزم ويتمسك بالقديم وهذه القاعدة تنسجم مع قانون الحركة والتغيير، وبما أن الطبقة البورجوازية ولدت من رحم الطبقة الإقطاعية فهذا يعني أن النصر والحياة جعل الطبقة البورجوازية هي السائدة في المجتمع بعد أن تخلت الطبقة الإقطاعية عن الوجود وأصبحت في عالم الفناء وبما أن الطبقة البورجوازية تحمل الجديد والتطور والتقدم في المجتمع، فهذا يعني ولادة الطبقة البورجوازية التي تحمل في طياته صفة التقدم والتطور للمجتمع، وكان ذلك التحول التقدمي الذي قادته الطبقة البورجوازية والذي كان ينسجم مع مصالحها الاقتصادية قيام الدولة القومية، الذي أدى إلى ظهور الاقتصاد المشترك بعد اندثار النظام الإقطاعي وتوحد المقاطعات المختلفة التي من خلالها تم إنشاء الدولة القومية وتكوين السوق القومية والتكامل الاقتصادي البورجوازي، ويعتبر ذلك بداية متقدمة وصاعدة تاريخية لعصر الرأسمالية الاستعمارية، لقد تزامن وصاحب ذلك توسيع في مفهوم التكوين القومي، فتكونت الدول الكبيرة من خلال توحيد (دولة – المدن) والكيانات الصغيرة والمقاطعات الكبيرة، وأصبحت الطبقة البورجوازية تلج عالماً أوسع هو عالم الأمة القومية، ويعتبر ذلك إنجازاً كبيراً وليس مجرد فكرة، حيث اكتسب هذا التحول في القرن التاسع عشر زخماً كبيراً حيث سارت منذ ظهورها وفي بدايتها عنصر التقدم في المجال الاقتصادي وتحسين ظروف الشعب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي منحتها له الطبقة البورجوازية الجديدة من أجل ترقيد الشعب وتخديره وكسب ثقته وقيادتها له، ومن خلال هذه العلاقة التي تقوم على المصالح في الوصول إلى أهدافها الجهنمية، سعت تلك الطبقة إلى تنمية الفكرة القومية وتأجيج النعرة الشوفينية لدى الشعب بما ينسجم مع مصالحها ومطامعها التوسعية الاستعمارية، مما أدى إلى بروز تلك النعرة الشوفينية وعنفوانها الهجومية التي ألبسها الرأسماليون لباساً جذاباً عنصرياً امتلكت من خلاله نفوس عامة أبناء الشعب واندفاعهم باسم الشوفينية العنصرية إلى خوض الحروب وتحمل ويلاتها وآلامها ومآسيها، واحتلال الأوطان الأخرى واستعباد شعوبها باسم الشموخ القومي والعنصرية الشوفينية الذي يصب في مصلحة مالكي المصانع والمعامل الرأسماليين الذين لجأوا إلى الخذاع والكذب والابتزاز في تحقيق أهدافهم الجهنمية وأصبحوا محتلين للدول الأخرى واستعباد شعوبها والتصرف في شؤونها وسن القوانين والمراسيم باسم الديمقراطية المشوهة التي استطاعت أن تخلق في الدول المحتلة بورجوازية طفيلية تعزز وجود الدول الاستعمارية عن طريق ربط مصالحها بمصالح الدول الاستعمارية وتصبح وكيلة لتسويق منتجاتها في الأسواق الوطنية ومن ثم ترتبط بهم ارتباطاً مصيرياً من خلال العلاقات السياسية والاقتصادية، فتصبح الدول المحتلة سوقاً لتصريف البضائع والسلع التي تنتجها مصانع ومعامل رأس المال في الدول الاستعمارية المحتلة، كما وتصبح الدول المستعمرة مركز تموين للمواد الأولية المخزونة في باطن أرضها وخارجها تذهب بها إلى مصانعها ومعاملها في الدول الاستعمارية لتصنعها من جديد سلعاً وحاجيات تعيدها إلى أسواق الدول المستعمرة. كما لجأت الدول الاستعمارية إلى إقامة المصانع والمعامل في الدول المستعمرة للاستفادة من المواد الأولية والأسواق القريبة منها والاستفادة أيضاً من رخص وانخفاض أجور الأيدي العاملة في تلك الدول، كما تم الاستفادة من انخفاض أجور نقل المواد الأولية إلى المصانع في الدول الاستعمارية وكذلك الاستفادة من أجور نقل البضائع والسلع المصنعة في الدول الاستعمارية ثم نقلها إلى أسواق الدول المستعمرة، ومن خلال أطماع وجشع الطبقة الرأسمالية في مساعيها لكسب المزيد من الأرباح والثروة وتكديسها من خلال سيطرتها على وسائل الإنتاج والتوزيع والاستهلاك تصبح الشعوب لتلك الدول الاستعمارية منقسمة إلى قسمين، أقلية ضئيلة تمتلك المصانع والمعامل وتسيطر على التجارة والأسواق والسلطة، وأكثرية ساحقة تعيش تحت كابوس الجوع والحرمان والاضطهاد والعوز والفقر مما جعل هذا النظام يخلُّ بالتوازن بين حقوق الأكثرية من الشعب في الحياة والعيش الكريم وبين الأقلية الرأسمالية التي تمتلك جميع وسائل العيش والسعادة والرفاه الإنساني مما جعل النظام الرأسمالي يعيش مرحلة من الصراع والتناقض متمثلاً في الإنتاج الاجتماعي والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج مما جعل ذلك النظام مهدداً بثورة المجتمع الذي يعاني من الحرمان والجوع والاضطهاد ضد الأقلية التي تمتلك المعامل والمصانع وتسيطر على التجارة والأسواق وتتحكم بها وحسب المفهوم العلمي لتطور البورجوازية إلى مرحلة الرأسمالية.
في عصر الرأسمالية يصبح رأس المال ليس شيئاً مادياً وإنما يصبح ذا علاقة اجتماعية ويصبح المقولة الاقتصادية الأساسية في أسلوب الإنتاج الرأسمالي ويعبر عن العلاقة الاجتماعية القائمة بين طبقة الرأسماليين والطبقة العاملة وتقوم تلك العلاقة من خلال استغلال العمال المأجورين من طرف الرأسماليين وتقوم هذه العلاقة على أساس أن وسائل الإنتاج هي ملك خاص للرأسماليين في حين تحرم الجماهير العمالية الواسعة منها، وتضطر الجماهير العمالية الواسعة إلى بيع قوة عملها إلى الرأسمالي كي لا تموت جوعاً، ومن خلال ذلك يعرف رأس المال باعتباره تلك القيمة التي عن طريق استغلال العمل المأجور (العمال) تعطي فائض القيمة، ويقوم منظرو الاقتصاد السياسي البورجوازي بتشويه الحقيقة لتبرير الاستغلال من قبل الرأسماليين للعمال في إنتاج فائض القيمة فيعتبرون أن كل أداة للعمل هي رأسمال ومن خلال مفهومهم هذا لرأس المال يقومون بتعتيم الطابع الاستغلالي لأسلوب الإنتاج الرأسمالي أي محاولة إخفاء استثمار واستغلال الرأسماليين للعمال ومن ثم تصوير رأس المال على أنه شيء مادي ومقولة تسمو على التاريخ بينما الحقيقة والواقع تؤكد أن رأس المال مقولة تاريخية لا يمكن أن يكون غير ذلك، فإن مصدر تراكم رأس المال يأتي من فائض القيمة الذي يخلقه عمل العمال المأجورين (المجاني) فيخصص قسمٌ منه لتوسيع الإنتاج وتجديده لأن عملية توسيع وتجديد الإنتاج يؤدي إلى زيادة معدل فائض القيمة الذي يؤدي إلى زيادة تراكم رأس المال وهذا يؤدي إلى زيادة التركيب العضوي لرأس المال، كما أن عملية تراكم رأس المال تفرز تشكيلة واسعة من الجيش الاحتياطي للعمل كما يؤدي إلى رمي أعداد كبيرة إلى البطالة وإلى خراب وإفقار أعداد كبيرة من الكادحين من جهة وإلى زيادة ثراء الرأسماليين من جهة أخرى. وفي عصر الإمبريالية فإن العمال إضافة إلى فقدانهم فائض القيمة التي يغتصبها منهم الرأسماليون تستولي الاحتكارات على جزء من أجور العمال والمستخدمين ومداخيل الفلاحين التي تجنيها الدولة عن طريق مختلف الضرائب والرسوم، كما تستولي على أملاك ومداخيل صغار الملاكين ومتوسطيهم وعلى رساميل أرباب العمل الذين انهاروا تحت ضغط المنافسة الشديدة للشركات الاحتكارية الكبيرة كما يستولي الرأسماليون على أرباح الشركات الاحتكارية الكبيرة الناجمة عن نهب الشعوب للبلدان النامية، وتعتبر في عصر الامبريالية إشاعة العسكرة في الاقتصاد والتحضير وإشعال الحروب من أهم وسائل تراكم رأس المال.
عصر الامبريالية
مرحلة الرأسمالية الاحتكارية التي تعتبر بمفهوم النظرية الماركسية المرحلة الأخيرة في تطور الرأسمالية، حيث تشكل سيطرة الاحتكارات أي التجمعات الرأسمالية الضخمة طبيعتها المميزة، وفي ظل الامبريالية تحتكر حفنة صغيرة من الشركات الاحتكارية إنتاج وتصريف أهم السلع والحاجيات الضرورية في المجتمع، مما يتيح لها تعزيز استغلال الكادحين، كما يؤدي إغراق الأسواق بمنتجاتها إلى إفلاس المؤسسات الصغيرة وإغلاقها لعدم استطاعة منتجاتها مزاحمة المنتجات للشركات الاحتكارية الكبيرة، ونتيجة لاستحواذها واحتكارها للأسواق تفرض الأسعار التي تلائم مصلحتها وتدر عليها بالربح الوفير، فتقوم بشراء المحاصيل الزراعية من الفلاحين بأسعار متدنية، بينما تبيع السلع والحاجيات التي تنتجها شركاتها بأسعار عالية، مستغلة احتكار السوق لمفردها وعدم وجود منافس لها في السوق، وتكون الدولة ومؤسساتها السياسية والاقتصادية متمركزة في أيدي تلك الطغمة الاحتكارية وتصبح انعكاساً لطبيعتها في تشكيل احتكارات دولية عملاقة، ونتيجة لطبيعتها الاحتكارية واستحواذها على الأسواق بشكل منفرد أو مادي فإنها تتحكم في ارتفاع وانخفاض الأسعار حسب طبيعة السوق في العرض والطلب بما ينسجم مع مصلحتها في كسب أكبر كمية من الأرباح حتى وإن أدى ذلك إلى حرمان وجوع وهلاك أكثرية جماهير الشعب المسحوقة، وفي عصر الامبريالية تستخدم المنجزات العلمية التكنيكية وإشاعة أتمتة الإنتاج على نطاق واسع مما يعود عليها بأرباح كبيرة، وفي عصر الامبريالية يصل الإنتاج إلى درجة رفيعة من العمومية، إلا أن الشكل الرأسمالي من الاستئثار في المنتوج يبقى خاصاً بحيث يصبح عائقاً ومعرقلاً في تطور القوى المنتجة من حيث كفاءتها وموهبتها ومقدرتها، لذلك فإن المتناقضات والصراع للنظام الرأسمالي تحتدم إلى الحد الأقصى في عصر الامبريالية وتصبح كافة الظروف مهيأة لثورة العمل على وسائل الإنتاج والإطاحة بالنظام الرأسمالي المحتضر. كما في عصر الامبريالية تكون الرأسمالية متعفنة وطفيلية محتضرة فتسود البطالة الواسعة لأن الأكثرية الساحقة من الكادحين يصبحون عاجزين عن العمل بسبب إشاعة أتمتة الإنتاج واستخدام الأجهزة العلمية التكنيكية المتطورة فيه، كما تتعمق التناقضات والصراع بين الدول الرأسمالية الاحتكارية وبين البلدان الرأسمالية غير الاحتكارية كما تبرز في عصر الامبريالية النزعة العسكرية لأن الحرب تصبح الوسيلة في الصراعات والنزاع بين الدول الاحتكارية الرأسمالية في إعادة تقسيم العالم والاستيلاء على الدول الأخرى وجعلها أسواقاً لتصريف منتجاتها، واستغلال ما تخزنه أراضيها من مواد أولية، وتغدو الحرب غاية في التدمير وطالما بقيت الامبريالية العالمية قائمة تظل أسباب نشوب الحروب ماثلة، كما أن أعباء الميزانية الحربية والكوارث التي تفرزها الحرب تقع على كاهل الطبقات الكادحة والمحرومة من أبناء الشعب، وإن مخاطر الحروب تبقى قائمة ومحتملة ما زالت الامبريالية تتحكم في مصائر الدول والشعوب سعياً وراء مصالحها في الاستحواذ والسيطرة والاستيلاء والابتزاز ونهب الشعوب. وفي عصر الامبريالية كنظام يعيق ويعرقل أي تقدم اجتماعي يصب في مصلحة الشعب ويسود فيه التفاوت الاجتماعي والقومي، وتزداد آلام ومآسي وكوارث الشعوب ليس في الحروب فقط وإنما في الأزمات الدورية في الأنظمة الرأسمالية.
في عصر الإمبريالية تستخدم الاحتكارات الدولة من أجل تعزيز سيطرتها واستخدامها كآلة حرب ضد الدول الأخرى في الاستيلاء والسيطرة على الدول الأخرى وتقسيم العالم، ويتم استخدام الاحتكارات للدولة من خلال اندماج الاحتكارات الضخمة وبين جهاز الدولة البورجوازي، بحيث يصبح ذلك الجهاز تابعاً ومنفذاً لمصالح الاحتكارات ومن خلال ذلك تظهر رأسمالية الدولة الاحتكارية التي تمثل الشكل المعاصر في العصر الامبريالي، وفي هذا العصر أيضاً يتعزز بشكل مطرد تدخل الدولة في الاقتصاد وينمو التكامل الدولي الامبريالي (السوق المشتركة وغيرها من التجمعات الرأسمالية) أن تدخل الدولة يؤدي في نهاية المطاف إلى دعم التجمعات الرأسمالية الاحتكارية لأنها ليس بإمكانها تسوية التناقضات في المجتمع الرأسمالي، أو القضاء على الطابع التي تمتاز بها الرأسمالية الاحتكارية في الأزمات الدورية الاقتصادية، أو إتاحة استخدام المنجزات للثورة العلمية التكنيكية لصالح المجتمع بأسره، وإنما العكس يحدث باعتبار أن الدولة انعكاس للواقع الطبقي الرأسمالي الاحتكاري فيكون انحيازها إلى جانب الرأسمال الاحتكاري فتصبح أداة لتعميق التناحر بين جماهير الشعب الواسعة وبين الرأسمالية الاحتكارية، كما تتزايد حدة التناقض بشكل أكبر بين الطابع الاجتماعي للإنتاج المعاصر وبين الطابع الحكومي – الاحتكاري لعملية تنظيم الإنتاج مما يؤدي إلى تفاقم التناقض بين العمل ورأس المال وتعميق الصراع بين مصالح الغالبية الساحقة لجماهير الشعب وبين الطغمة المالية، كما ينشط في عصر الامبريالية قانون تركز رأس المال في أعمال البنوك كما هو عليه الحال في الصناعة، وفي خلال مسيرة الصراع التنافسي يفلس العديد من البنوك الصغيرة، أما البنوك الصغيرة التي تجاوزت الإفلاس وبقيت محافظة شكلياً على استقلالها فإنها تخضع في الواقع لسلطة البنوك الكبيرة الأكثر قوة، وفي النهاية يدخل الكثير من البنوك الصغيرة تحت خيمة البنوك الضخمة لتصبح مجرد أقسام بسيطة كفروع للبنوك الكبيرة وتصبح تلك البنوك الكبيرة قليلة للغاية، مما يؤدي ذلك إلى تجمع مبالغ ضخمة جداً في حساباتها وتصبح أرصدة حرة تبحث عن استثمار مربح جداً، كما يؤدي تمركز البنوك في تلك الأعداد القليلة إلى انتقال الدور القيادي في أعمال البنوك إلى عدد قليل من البنوك الضخمة جداً التي تسعى بالطبع إلى الاتفاق بينها وقيام تكتل احتكاري أي ترست البنوك مما يؤدي إلى ظهور اتحادات احتكارية جبارة لتلك البنوك التي تنفذ العمليات المالية الضخمة كطرح القروض الحكومية وتنظيم الشركات المساهمة، وهذه العملية تتم بالاتفاق بين عدة بنوك وليس بنكاً واحداً حتى لا تجري المنافسة بين تلك البنوك الكبيرة لأنها تشكل اتحادات ضخمة جداً لرأس المال المصرفي، ويتزايد دور تلك الاتحادات الضخمة من البنوك كنير للاحتكارات في ظل الامبريالية، كما تؤدي هذه الظاهرة في تركيز البنوك وزيادة أحجامها ونمو حجم العمليات وتوسيع دائرة عملائها إلى ظهور دور جديد للبنوك يؤدي إلى تغيير جذري في طبيعة العلاقة المتبادلة بين البنوك والصناعة حيث تتحول البنوك من وسيط متواضع في العمليات المصرفية التجارية إلى مراكز مالية ذات شأن كبير، لأنه عندما تتركز في الصناعة وفي أعمال البنوك تكون أعمالاً كبيرة نسبياً، لأن في تلك الأعمال يكون الشكل الغالب للائتمان هو القروض قصيرة الأجل وتكون فائدتها قليلة كما تكون العلاقة بين البنوك والمشروعات الصناعية لا تكتسب طابعاً متيناً، وحينما يتغير الوضع جذرياً من خلال تركز الصناعة وأعمال البنوك الضخمة مع زيادة أهمية الاستثمار طويل الأجل لأموال البنوك في الصناعة ومن خلال ذلك يكتسب كل بنك دائرة معينة من العملاء كبيرة كانت أو صغيرة يتعامل معها بصفة منتظمة، ومن جهة أخرى يقيم كل مشروع صناعي علاقات أكثر توطداً مع بنك معين، وبتقديم البنك قروضاً ضخمة لآجال طويلة لهذا المشروع أو ذاك فإنه يصبح مهتماً بمصير ذلك المشروع ونجاحه وربحيته مما يؤدي إلى تلاحم مصالح البنوك مع المشروعات الصناعية بشكل أوثق، وعندما يمول البنك عدداً من المشروعات الضخمة في قطاع معين فإن ذلك البنك يصبح مهتماً بأن لا تحدث المنافسة بين الشركات التي مولها بالقروض كي لا تلحق بإحدى تلك الشركات الإفلاس وأن تحصل الشركات الأخرى على أرباح مضمونة مرتفعة ومن خلال ذلك ينبع التواطؤ الاحتكاري الذي تسانده البنوك بين المشروعات الصناعية، وفي عصر الامبريالية تقوم البنوك باستثمار رؤوس الأموال المودعة لديها في الشركات الصناعية وعلى هذا النحو تصبح البنوك من بين المالكين للشركات الصناعية وتستطيع التدخل في شؤون تلك الشركات وتحدد مصائرها، في عصر الامبريالية تصبح في أيدي البنوك الرقابة على الشطر الأعظم من رأس المال النقدي وتستحوذ أيضاً على شطر كبير من وسائل الإنتاج ومصادر الخامات في البلدان المختلفة.
ترتبط البنوك العملاقة بشكل وثيق للغاية بالشركات الاحتكارية المختلفة وكقاعدة عامة فإن عمالقة رأس المال يرأسون البنوك والاحتكارات الصناعية ومن خلال ذلك يجري الالتحام أو التزاوج بين رأس المال الصناعي ورأس المال المصرفي ثم يولد من تلاحم رأسي المال الصناعي والمصرفي رأس المال التمويلي، وتكون سلطة رأس المال التمويلي أحد المعالم الرئيسية للمرحلة الاحتكارية للرأسمالية الامبريالية التي تعتبر عصر رأس المال التمويلي. ومع تطور طبيعة العلاقات المتبادلة بين البنوك والصناعة التي تتجلى في الاتحاد بينهما عن طريق تملك الأسهم وإدخال مديري البنوك أعضاء في مجالس الإدارة أو المجالس الرقابية للمشروعات الصناعية والتجارية، تكتمل الصلة الخاصة للبنوك بالمشروعات الصناعية والصلة الخاصة بينها وبين الحكومة. ويقيم رأس المال التمويلي علاقة وثيقة مع جهاز الدولة والمؤسسات الحكومية وموظفيها في نشاطه من أجل ابتزاز أرباح خرافية، وتشهد على ذلك أمثلة عديدة لقيام الموظفين بالشراء المباشر للحصص المالية وانتقال الموظفين الحكوميين إلى وظائف ذات أجور عالية في الشركات الخاصة، ويثري عمالقة رأس المال التمويلي على حساب الخزينة العامة للدولة على أوسع نطاق، وتدفع المؤسسات الحكومية التي يرأسها صنائع المجموعات التمويلية الضخمة للغاية للاحتكارات أسعاراً مرتفعة للطلبيات والتوريدات وتحصل البنوك على مبالغ هائلة نظير الوساطة عند طرح القروض الحكومية للاكتتاب وتقدم الدولة الرأسمالية لأصحاب المشروعات الكبيرة جداً مليارات الدولارات على شكل إعانات مالية بحجة تشجيع المبادرة الاقتصادية الخاصة، وعندما يهدد الإفلاس شركات الاحتكارات الضخمة تهرع الحكومة إلى مساعدتها بواسطة أموال الخزينة العامة كلها منفقة مليارات الدولارات من أجل علاج وتغطية العجز عن طريق تحميل الخزينة العامة مديونية الشركات الاحتكارية، ولا تقتصر الطغمة المالية على الاستغلال والنهب بهذه الطريقة في بلدها، وإنما تطرح شبكتها على العالم كله مكونة نظاماً عالمياً للتبعية المالية عن طريق تصدير رأس المال الذي يخدم أهدافها ومصالحها في البلدان المتخلفة اقتصادياً، وتقديم القروض لهذه البلدان بشروط مجحفة، وتعد الطغمة المالية في الدول الامبريالية الملهم الرئيسي لأشكال السيطرة الاستعمارية حيث تقوم بدور الرائد في الوقت الحاضر للاستعمار الجديد في أشكاله المختلفة.
وقد قلبت التغيرات التاريخية التي جرت في السنوات العشر الأخيرة مجال سيطرة وإمكانية النهب التي كانت تقوم بها الطغمة المالية في الدول الامبريالية، ومع ذلك فإن طبيعة أشكال الطغمة المالية ظلت تماماً كما هي، ولا تزال الطغمة المالية في أيامنا هذه كما كان عليها الحال منذ نصف قرن تتحكم بلا رقيب في القسم الرأسمالي من العالم وتحريض وتشجيع السياسة المعادية للشعب في داخل كل بلد، كما أصبحت تمثل الوجه القبيح للنهج العدواني في الساحة الدولية.
كما يؤدي ظهور ونمو الاحتكارات إلى التدخل المباشر للدولة في عملية تكاثر الإنتاج الرأسمالي لصالح الطغمة المالية، وتقوم الدولة البورجوازية بإجراءات تنظيمية متعددة الأشكال وتقبض على فروع معينة للاقتصاد لصالح الطغمة المالية، ومع توطيد سيطرة الاحتكارات ورأس المال التمويلي يبلغ تناقض الرأسمالية (بين الطابع الاجتماعي للإنتاج والشكل الرأسمالي المتعفن للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج المستحوذ) درجة عالية تقوم الدولة البورجوازية بعمليات ترقيدية وتخديرية عن طريق تخصيص قسم من أرباحها يفتح مشاريع تخفف من خلالها الظلم والقهر والجوع عن الطبقات المسحوقة كالتقاعد والرعاية الاجتماعية كما يجري كذباً ونفاقاً في (دولة الرفاه) وهذه الطريقة الخبيثة التي تقوم بها الدولة البورجوازية العقل النابض للطغمة المالية تجعل تلك الدولة تصرف جزءاً من أرباحها المغتصبة من الشعوب حتى لا تفقد جميع ممتلكاتها وسلطتها وسطوتها وجبروتها في حالة ثورة الجياع والمحرومين والمظلومين واستيلائها على السلطة كما حدث في الاتحاد السوفيتي وبلدان المنظومة الاشتراكية، ومهما فعلت الدول الرأسمالية من وسائل ترقيدية وتخديرية لأنها ما هي إلا علاجات مهدئة ومؤقتة، لأن المرحلة الامبريالية تمثل أعلى مراحل الاستعمار وأصبحت متعفنة وبالية في طريقها إلى الفناء، وأصبحت عائقاً في مسيرة التاريخ في طريق التقدم والتطور الإنساني مما أوجب عليها التخلي من مكانها للنظام الاجتماعي الإنساني الأرفع والأرقى الاشتراكية الخلاقة.

النظرية المادية العلمية التاريخية
كان التاريخ بالنسبة إلى كارل ماركس سلسلة تنازع طبقي محتوم، وقد استند في ذلك على كنز كبير من التفاصيل والأمثلة ليبين فيه ويشرح كيف هذا النزاع في الماضي وكيف تطور من خلال الحقبات المتعاقبة في التاريخ (المشاعية البدائية ثم نظام الرق والعبودية والإقطاع ثم النظام البورجوازي ثم النظام الاشتراكي).
كان كارل ماركس (1818 – 1883) يستعرض التاريخ بشكل علمي ولذلك سميت نظريته التي استعرضناها في الصفحات السابقة في هذا الكتاب بـ (النظرية المادية للتاريخ) كما أنه نظر إلى التاريخ على أنه سجل تنازع بين الطبقات المختلفة، كما أن تاريخ المجتمع الإنساني بماضيه وحاضره عبارة عن تنازع طبقي والذي يسيطر على المجتمع هي الطبقة المسؤولة عن وسائل الإنتاج التي تستغل الطبقات الأخرى وتثري على حسابها، فالطبقات الكادحة لا تعوض تعويضاً عادلاً على جهدها بل يترك لها ما يسد رمقها ويكفل لها أقل الحاجيات بينما يذهب الربح (فائض القيمة) إلى الطبقة المستغلة ويزيد ثراءها جهاز الدولة والحكومة الواقع في يد هذه الطبقة القابضة على وسائل الإنتاج مما يجعل مهمة الدولة حماية هذه الطبقة (إن الدولة والمؤسسات الأخرى تكون انعكاساً للواقع الطبقي السائد في تلك المرحلة إذا كان الواقع يمثل المرحلة الإقطاعية أو البورجوازية أو الاشتراكية).
ثم يبين ماركس كيف تطور النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي على أثر قدوم واستعمال الآلات وقيام البورجوازية مقام الطبقة الإقطاعية ويعتقد أن المرحلة القادمة سوف يكون التنازع الطبقي كما يجري الآن بين الطبقة البورجوازية والطبقة العاملة (التي تمثل المرحلة الاشتراكية) فالرأسمالية نفسها أخذت بإنتاج الطبقة العاملة وتنميتها من خلال استخدام الطبقة البورجوازية للآلة وتطورها فأنشأت الطبقة العاملة القوة المحركة والعاملة في تلك الآلة التي يمتلكها البورجوازي من أجل إنتاج السلع والبضائع وتصريفها في الأسواق (إن استعراض الطبقات وعملها ونشاطها استعرضت وبحثت في الصفحات السابقة). إن الماركسية طريقة لتفسير التاريخ والاقتصاد والسياسة والحياة والنزاعات البشرية، وهي نظرية ودعوة لعمل ما، وفلسفة تتناول جميع نواحي النشاط الإنساني، ومحاولة لجعل التاريخ بماضيه وحاضره ومستقبله نطاقاً منطقياً يحمل في طياته مصائر محتومة كالقدر، ولاحظ أن الإنسان بدأ منذ وجوده يجاهد في سبيل بقائه ضد الطبيعة وضد أخيه الإنسان، ولذا فإن جهاده يتمحور من أجل الحصول على ما يسد به رمقه، ويكفل له ضروريات الحياة، وكلما مر به الزمن تطورت أساليبه في حصوله على حاجياته، ويعتبر أن وسائل الإنتاج مقومات الحياة وكانت أهم ما يشغل بال الإنسان والمجتمع في كل زمان ومكان.
ويعتبر انتصار الطبقة الجديدة الناحية الاقتصادية والسياسية، وهذا الإنسان يعبر من خلال ذلك عن انتصار وسائل الإنتاج الجديدة مما يؤدي إلى تغيير في نسيج المجتمع بأسره من الناحية الفكرية والسياسية والقانونية والعرفية وغيرها، وتصبح هذه الطبقة الجديدة مستغلة لمن دونها من الطبقات حتى تقوم مكانها طبقة أخرى، ويستمر الكفاح حتى يصل المجتمع إلى المرحلة التي لا تستغل فيها طبقة ما طبقة أخرى، وهذا لا يتهيأ ويكون إلا عندما تزول الطبقات من المجتمع وتبقى طبقة واحدة، فلا يبقى مجال للاستغلال لأن الطبقة الواحدة (الطبقة العاملة الأخيرة في سلم المجتمع الطبقي) لا تستغل نفسها، وهذه هي الوسيلة الوحيدة التي يعتبرها كارل ماركس في خلق التوازن في المجتمع وقيام التعاون مكان التنافس والصراع والتنازع القائم في المجتمع حالياً وعندما يصبح المجتمع شيوعياً ويكون الإنسان في ذلك المجتمع يمتاز بنكران الذات ويتعزز فيه الإخلاص والتفاني والتضحية من أجل أخيه الإنسان والمجتمع الإنساني قاطبة فينصهر في المجتمع ويصبح كل إنسان يعرف ما له وما عليه ويترفع عن كل ما يدنس الإنسان ويحط من كرامته ومنزلته الإنسانية وتسود المحبة والمودة والتعاون بين أفراد المجتمع مما تجعل تلك الطبيعة الإنسانية والصفات السامية بزوال الأسباب الداعية إلى وجود الدولة في فرض سلطتها لأن الطبقة البورجوازية التي كانت تحتاج إلى حماية الدولة من أجل استغلالها وجشعها وأنانيتها قد زالت ولذلك يصبح وجود الدولة غير ضروري.
ماركس ونظرية دارون
اتخذ كارل ماركس من نظرية دارون البيولوجية في النشوء والتحول والارتقاء أساساً لفلسفته الاشتراكية العلمية واستمد منها نظرياته الاجتماعية والاقتصادية وبالتالي السياسية، فالإنسان أخذ بالتدرج صعداً تبعاً للناموس الطبيعي نفسه، الجد الأول للإنسان كان يعيش في الأدغال ويأكل من صيد الحيوان ويسكن المغاور والكهوف ويتكلم بنبرات صوتية، ثم دفعته الحاجة إلى التقرب والاشتراك مع أبناء جنسه كي يشبع فيه رغباته وشهواته، ثم دفعه إدراكه الفطري على أنه لن ينال ما يشبع فيه هذه الشهوات والرغبات إلا إذا سعى بنفسه للحصول عليها، فجعلت تنمو من جراء هذا الإدراك تلافيف دماغية أكثر فأكثر حتى أصبح يمتاز عن أعلى الأنواع الحية بميزته الإدراكية التي تسمى (العقل) المدبر والخالق لجميع المستلزمات المادية والمعنوية، فهذا العقل إذن وليد المادة الدماغية، وهو الذي يستنبط الأفكار تبعاً للحاجة الضرورية ومن خلال ذلك فهو يتطور كلما تغيرت الحاجة وتطورت مع تطور الإنسان وتقدمه، وأصبح هذا العنصر الجديد في الإنسان أي العقل هو الذي جعل منه الكائن الأعلى بين الكائنات الحية، ومن خلال العقل أصبح يستنبط كل فكرة سواء كانت دينية أو اجتماعية أم عقائدية ولذلك أصبح ماركس داروينياً في علمه وفلسفته، فإذا كانت الداروينية تقوم على الصراع بين الفصائل الحية، وإذا كان هذا الصراع هو الذي أوصل الإنسان إلى حالته الحاضرة وجعلت منه الأرقى والأرفع بين جميع الكائنات الحية إذن لماذا لا تسري هذه القاعدة الصراعية الطبيعية على المجموعات البشرية وبين مختلف طبقاتها الاجتماعية بحيث ينتج عنها مجتمع ليس فيه طبقات تتصارع ؟ فما دامت بيولوجية الحياة تقوم على المبدأ الصراعي، فاجتماعية الحياة لابد وأن تقوم على هذا المبدأ، وما هو الصراع الاجتماعي ؟ هو العمل والكدح والخلق والإبداع والنفع الذي يحصل من الكدح والخلق والإبداع، فالصراع الاجتماعي هو صراع عمل وإنتاج وحركة وتغيير وتطور وتقدم ليس فيه جمود ولا حظوظ ولا اتكالية ولا ظروف فوق طاقة إمكانية الإنسان خارجة عن إرادته وكفاحه، والذي ينتصر في هذا الصراع هو الإنسان العامل الكادح، لا فرق بين أن يكون عمله عقلياً أو يدوياً، وليس الإنسان الخامل والمتكاسل والمستسلم الذي يعتمد على الظروف والحظ والبخت وعلى ما يهيئه له الحظ والبخت دونما تعب أو مشقة، وعلى هذا الأساس بنى كارل ماركس فلسفته الاشتراكية في النظرية المادية العلمية.
الطبقات والصراع الطبقي
من خلال تدارس تطورات المجتمع والتدقيق في العوامل والأسباب الدافعة والنتائج الحاصلة يتبين بجلاء أن البورجوازية هي وليدة الإقطاعية كما أن الاشتراكية وليدة البورجوازية وفي كل مرحلة تنشأ في المجتمع جماعات كبيرة من الناس تختلف جوهرياً بعضها عن البعض الآخر من حيث نمط حياتهم وظروف معيشتهم من حيث المصالح والأهداف، ومن حيث الآراء السياسية والصفات الأخلاقية ومن حيث الملابس والسلوك ومن حيث الأحاسيس والأفكار، فسكان الأكواخ يفكرون بشكل مختلف عن سكان القصور وكذلك نمط حياتهم ومعيشتهم، أن سبب ذلك هو الأساس الاقتصادي لانقسام المجتمع إلى طبقات متناحرة هو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ومن هذا المصدر بالتحديد ينتج طبقات سائدة وأخرى مقهورة، والبعض مستغِل والبعض الآخر مستغَل، ويحدد طابع الملكية أسلوب الحصول على الدخول ومقاديرها، ومن خلال ذلك يتبين أن وسائل الإنتاج هي نقطة الانطلاق للتباين الطبقي في المجتمع.
في النظام البورجوازي الذي هو موضوع بحثنا توجد طبقتان تعتبران أساسيتين أحدهما تملك وسائل الإنتاج وتمارس السلطة، أما الأخرى فليست لديها لا ملكية ولا سلطة وتكون الجمهور الأساسي من المستغلين، وفي العقود الأخيرة برزت من بين صفوف البورجوازية فئة قليلة العدد تمثل القمة الاحتكارية التي لا تتناقض مصالحها مع مصالح الكادحين وحدهم وإنما مع مصالح جزء كبير من البورجوازية الصغيرة والمتوسطة، ومع نمو الوعي الطبقي في المجتمع تكونت الأحزاب السياسية التي تمثل الطليعة الواعية للطبقة الاجتماعية والتي تدافع عن مصالحها وتقود نضالها الطبقي وخصوصاً الكفاح من أجل الوصول إلى السلطة ومن أجل قيادة الدولة للمجتمع بأسره، ويعكس ظهور الأحزاب السياسية الدرجة العالية في تطور الصراع الطبقي وفي المجتمع القائم على التقسيم الطبقي يصبح الصراع بين الطبقات المتناقضة صراعاً سياسياً في مرحلة معينة من تطوره، ويعتبر صراع الأحزاب هو التعبير الأكمل والأشمل والأوضح لصراع الطبقات الاجتماعية، وتتخذ الطبقة البورجوازية أسماء مغرية لأحزابها تهدف إلى إخفاء طبيعتها الطبقية مثل الحزب التقدمي والشعبي والديمقراطي والجمهوري، وبخلاف الأحزاب البورجوازية تعلن الأحزاب الماركسية علناً عن طابعها الطبقي باعتبارها أحزاب الطبقة العاملة تعبر وتدافع عن مصالح جميع الكادحين وتتفق أهدافها مع التطور التقدمي الاجتماعي، ويشكل الحزب السياسي الشكل الأعلى لتنظيم الطبقة العاملة.

ظهور الأفكار الاشتراكية
كانت الاشتراكية في بادئ الأمر فكرة مثالية قليلة الوضوح إلا بمقدار ما أوضحها اشتراكيون مثاليون إنسانيون من طراز سان سيمون وفورتيه وبرودون وأوين الذين كانوا يبشرون بنظام اشتراكي مستوحى من مبدأ الأخوة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات بين أبناء الشعب. وكانت هذه الاشتراكية إنسانية مثالية ليس فيها إلا القليل من المرتكزات العملية المادية وكان قصورها في تفهم وتفهيم الحقيقة الاشتراكية سبباً لقيام اشتراكيات متعددة ومتباينة في وجهات النظر المختلفة كالاشتراكية الديمقراطية والاشتراكية النقابية والاشتراكية التعاونية والاشتراكية التبادلية أو الإصلاحية والاشتراكية المسيحية، ومن خلال هذه الفوضى في مفهوم الاشتراكية انبثقت الأحزاب الاشتراكية التي تعكس تلك الأفكار الاشتراكية الطوباوية في الدول ذات الأنظمة الدستورية. وخيل لحاملي تلك الأفكار أن الاشتراكية يمكن تطبيقها ضمن نطاق هذه الأنظمة من الأحزاب دون الرجوع إلى المبدأ العلمي المادي التاريخي ودون المساس بنظام بقاء وسائل الإنتاج في الملكية الخاصة في حيازة الرأسمال وحده، وعلى الرغم من نشوء وتكون الأفكار الاشتراكية إلا أنها بقيت فكرة في الضمير تتجاذبها تيارات سياسية بمختلف اتجاهاتها ويتزعمها زعماء أحزاب سياسية ومنظمات شعبية أمثال لاسال وبيبيل وليبخنت بغية الوقوف والنضال ضد الدكتاتورية والطغيان، ومع أن اشتراكية هؤلاء كانت أكثر عملية من اشتراكية سان سيمون وفوريه وبرودون وأوين، ولكنها لم تكن عملية إلا بمقدار ما توصي به السياسة في هذا البلد أو ذاك إذ أن العنصر السياسي كان غالباً على العنصر الاقتصادي والمعاشي إلا أن التيار التحرري الثوري الذي انبثق من الثورة الفرنسية عام/ 1789 كان بمثابة السماد المغذي لنمو البذرة الاشتراكية وإخراج فكرتها من طيات الضمير إلى نور الوجود، فالحركات الشعبية التحررية التي أخذت في الاتساع وأحدثت تأثيراً فعالاً في النظم القائمة على الرغم من مقاومة السلطات لها وبذلها أقصى الجهود الترقيدية أحياناً والزجرية أحياناً أخرى لوقفها أو الحد من فعاليتها على الأقل، وما كاد القرن التاسع عشر ينتصف حتى أجبرت كثير من الدول على سن قوانين القضاء على العبودية وتحرير العبيد والأقنان تحريراً قانونياً، وكان أكثر أبطال الحرية والديمقراطية إخلاصاً (إبراهام لنكَولن) رئيس الولايات المتحدة الأمريكية فشرع قانون/ 1863 القاضي بإطلاق الحرية إلى جميع أبناء الشعب بما فيهم الزنوج وأضرمها حرباً أهلية دامت عدة سنوات حتى انتصرت قوى الحرية على قوى الاستعباد والعبودية. فكانت ثورة لنكولن التحررية الشرارة التي ألهبت الضمائر لإشعال ثورات أكثر جذرية في تحرر الإنسان، ليس فقط من الطغيان الحكومي والعنصري بل تحرره أيضاً من العوز والفقر والجوع والحرمان، هذه الشرارة والشرارات الأخرى كانت اللهب الذي انطلقت منها الشرارة الأقوى والأعم شرارة (كارل ماركس) للاشتراكية العلمية المادية التاريخية وكان ذلك عندما طرح تلك الرؤيا الماركسية حول المجتمع والتاريخ في البيان الشيوعي عام/ 1848 على شكل قصة مثيرة تصف صعود الرأسمالية والمجتمع البورجوازي وتغييرها الثوري على يد البروليتاريا الصناعية وبناء المجتمع الاشتراكي الذي يقوم على العدل والمساواة.
النظرية الماركسية
تمتاز النظرية الماركسية بقوانينها العلمية وهذه الصفة كما هو معلوم تتصف بالحركة والديناميكية بما ينسجم مع الحركة والتطور والتقدم في الحياة ومسيرة التاريخ إلى الأمام نافية عنها طابع الجمود والتقوقع، كما تمتاز بفلسفتها التي تتمحور وتتحكم في التمازج والاتساق مع الواقع الموضوعي الاجتماعي والفكري والصراعي من أجل تغيير ذلك الواقع تغييراً جذرياً وإقامة المجتمع الحر السعيد حينما يتخلص الإنسان من استغلال أخيه الإنسان ومن الفقر والجهل والأمية والمرض والحرمان.
وتتكون النظرية الماركسية من ثلاثة أقسام هي :
1) النظرية المادية العلمية التاريخية.
2) النظرية المادية العلمية الديالكتيكية.
3) الاقتصاد السياسي والطبيعة والمجتمع والفكر.

1) النظرية المادية العلمية التاريخية : التي هي عبارة عن تعميم للمنهج المادي العلمي على التاريخ حسب المفهوم المتداول قائم على التشكيلات المتعافية (المشاعية البدائية والرق والعبودية والإقطاع والرأسمالية والاشتراكية) إن هذه النظرية قد استعرضنا مكوناتها بشكل مفصل في بداية الكتاب لأن هذه النظرية ومكوناتها ستتمحور حولها فصول الكتاب القادمة من حيث الرؤيا والاجتهاد الشخصي في تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار نظامه الاشتراكي.
2) النظرية المادية العلمية الديالكتيكية : تعتبر النظرية العامة للحزب الماركسي اللينيني وقد سميت بالمادية الديالكتيكية لأن أسلوبها في النظر إلى حوادث الطبيعة وطريقتها في البحث والمعرفة هي ديالكتيكية، كما أن تعليلها لحوادث الطبيعة وتصورها لهذه الحوادث مادية، ومن خلال النظرية المادية التاريخية يتوسع نطاق مبادئ المادية الديالكتيكية فتشمل دراسة الحياة الاجتماعية وتطبق مبادئها على مواد الحياة الاجتماعية أي على دراسة المجتمع وعلى دراسة تاريخه. إن المادية العلمية الديالكتيكية تقوم على أولوية المادة على الوعي وعلى شمولية التناقض الجدلي لهيغل باعتباره الفيلسوف الذي أبان الخطوط الأساسية للديالكتيك غير أن ذلك لا يعني أن ديالكتيك ماركس وأنجلز هو عين ديالكتيك هيغل لأن ماركس وأنجلز لم يقتبسا من ديالكتيك هيغل سوى (نواته العقلية) ورفضا قشرته المثالية ثم وسعاه وأغنياه وأعطياه طابعاً علمياً حديثاً، إن فلسفة هيغل تقوم على أساس مادي وروحي معاً على اعتبار أن الروح شيء مستقل وهو من إبداع الفكرة إن هذه الروح مثالية من فكرة مثالية ومن عقلانية إنسان مثالي أبتدعه هيغل، وإن هذه الفلسفة تنعكس من شيء مثالي مجهول فيما وراء الطبيعة البشرية وماديتها وهو الفكرة، ليس لتطور المادة العلمي، ولا لصقل وتطور المادة الدماغية المنبثق عنها العقل يد في التدرج للوصول إليه مما جعل ديالكتيك هيغل ينتهي عند حاجز لا يدرك ما وراءه إلا بالحدس أو بواسطة فكرة مثالية.
3) الاقتصاد السياسي : ينقسم الاقتصاد السياسي الماركسي إلى قسمين الاقتصاد السياسي الرأسمالي والاقتصاد الاشتراكي، ويعد كتاب رأس المال الذي كتب كارل ماركس أربعة أجزاء منه وأتم رفيقه أنجلز الجزأين اللذين تركهما ماركس بعد وفاته عام/ 1883. فجمع مخطوطات الجزأين ونشرهما باسم ماركس الذي كتبهما، وعندما توفى ماركس وقف رفيقه الحميم أنجلز على قبره يرثيه فنعته بأكبر مفكري العصر وأكثرهم إخلاصاً وأسخاهم خدمة وتضحية للإنسانية.
يعد كتاب (رأس المال) موسوعة لا مثيل لها في علم الاقتصاد والاقتصاد السياسي حيث يبين بشكل علمي وواقعي، كيف أن الناحية الاقتصادية والمعيشية في حياة الإنسان تشكل نقطة الانطلاق في بناء المجتمع الأصلح والسعيد، ويبين بشكل مفصل وواسع كيف أن القيمة الزائدة (فائض القيمة) التي يستحوذ عليها رأس المال في وسعها أن تمتلك الآلات الصناعية والتجارية وكل وسائل الإنتاج بحيث يجعل الطبقة العاملة شيئاً مستأجراً فقط فلا يحصل على شيء من هذه القيمة الزائدة أي الأرباح (فائض القيمة) مما جعل القسم الأكبر من الإنتاج وأرباحه والذي يصنع وينتج بجهود وعرق وجبين الطبقة العاملة من حصة ونصيب مالك وسائل الإنتاج (الرأسمالي) فقط ولا يبقى للطبقة العاملة إلا القسم الزهيد الذي لا يكاد يشبع رمقه وجوع عائلته، وهكذا يخلق في المجتمع الواحد طبقات متباينة الطبقات الخاصة التي تمتلك وسائل الإنتاج والتي تستحوذ على جهود وتعب العمال والطبقات الكادحة الأخرى المهمة التي يستأجرها الرأسمالي بواسطة (فائض القيمة) التي هي بالأساس من جهد وعمل الطبقة العاملة والطبقات الكادحة الأخرى. ويشرح الكتاب كيف يحصل (فائض القيمة). الطريقة التي تحصل فيها عملية فائض القيمة أي الأرباح التي يحصل عليها الرأسمالي على الشكل التالي (يمتلك الرأسمالي معملاً لإنتاج الساعات اليدوية، يعمل في هذا المعمل خمسة عمال، أجرة العامل الواحد عشرة دنانير في اليوم الواحد فتكون مجموع الأجور التي يحصلون عليها 50 ديناراً، بينما يُنتج هؤلاء العمال في اليوم الواحد عشر ساعات، تباع الساعة الواحدة بمبلغ عشرة دنانير، فيكون ما يحصل عليه صاحب المعمل الرأسمالي مئة دينار، يدفع منها مبلغ خمسين دينار أجور للعمال ويستخرج نسبة 10٪ عن اندثار الآلات والمكائن الأخرى عشرة دنانير، ويستخرج أجور الكهرباء خمسة دنانير، ويستخرج مصاريف نثرية متفرقة عشرة دنانير فيكون مجموع ما يصرفه الرأسمالي على الشكل التالي (50 + 10 + 5 + 10 = 75 دينار)، أما المبلغ الذي حصل عليه من بيع الساعات مئة دينار فتكون عملية الأرباح (أي فائض القيمة) التي يستحوذ عليها الرأسمالي على الشكل التالي (100 – 75 = 25 دينار فائض القيمة).
كما يستعرض الكتاب الوسائل والأساليب التي يستعملها الرأسمالي والأسباب التي يتذرع بها للضغط على العمال والكادحين الآخرين كي يبقوا مرتهنين له، ومن أجل أن يبقى العمال في حالة العوز والحاجة يضطر معها إلى أن يبقى مستعبداً لرأس المال خوفاً من الجوع والحرمان فيفقد بذلك حرمته وحريته أو يرضى بالاستعباد لرأس المال ويأكل هو وعائلته، أما إذا اختار الحرية فيموت من الجوع هو وعائلته. وعلى هذا الاستنتاج الواقعي والعلمي الاقتصادي العملي بنى ماركس نظريته الاجتماعية التي تقضي بثورة العمال والكادحين على رأس المال لكي تصبح الحرية أمراً محكماً لا وهماً خيالياً، ولا تكون الحرية مزيفة ومثالية خادعة وكاذبة يوهبها الرأسمالي للطبقة العاملة والكادحين والمضطهدين والجياع والمحرومين، إذ أن حرية الجياع والمحرومين والكادحين والمضطهدين والجياع هي حرية كاذبة وغير قابلة للتحقيق لأنها تؤدي إلى حرمان الرأسمالي من جزء بسيط من أرباحه (فائض القيمة) وهذا يعتبر في عرف الرأسمالي من المستحيلات، لأن جشعه وأنانيته لا تسمح له بالتنازل عن هذا الجزء البسيط من أرباحه إلى العمال حتى يشبعوا بطونهم وعوائلهم، وإنما العكس فهو يسعى ويعمل أن يجعلهم جياعاً ومحرومين حتى يسيرون ويعملون وفق رغباته ومصلحته الجشعة حسب القاعدة التي تقول (جوع كلبك حتى يتبعك). من هنا يستخلص ماركس إلى أن وسائل الإنتاج يجب أن تكون ملكية المجتمع وليس ملكية فئة قليلة خاصة منه، ومن الآن حتى يصبح المجتمع اشتراكياً يجب أن يكون رأس المال ووسائل الإنتاج من ملكية الشعب ممثلاً في جهاز اسمه الدولة المنبثقة من إرادة ورغبات جميع أبناء الشعب.
الاقتصاد السياسي الاشتراكي
تمثل مرحلة الاشتراكية خلافاً لجميع التكوينات الاجتماعية – الاقتصادية التي ظهرت وتطورت بشكل عفوي، بغض النظر عن وعي الناس وإرادتهم طوال المرحلة الماضية للبشرية، فإن الاشتراكية تبنى بشكل واعٍ وتخطيطي، وهذا لا يعني أنها تبنى حسب الأهواء، بل على العكس لأن إنشاءها ونموها اللاحقين يتمان على أساس معرفة القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي والسيطرة عليها.
يخلق تطور الرأسمالية المقدمات المادية للاشتراكية حيث يبلغ المجتمع درجة من السيطرة على قوى الطبيعة تجعل من الممكن ومن الضروري الانتقال إلى مرحلة الاشتراكية، وفي نفس الوقت تلد المرحلة الرأسمالية حفار قبرها ممثلاً في الطبقة العاملة التي تتخلص مهمتها التاريخية في خلع سيطرة البورجوازية وبناء الاشتراكية.
يمثل إحلال مرحلة الاشتراكية محل المرحلة الرأسمالية تحولاً ثورياً عميقاً وكبيراً في مجمل تاريخ البشرية، وذلك لأنه يشمل جميع جوانب الحياة المادية والروحية للمجتمع، ويعني التحول الاشتراكي للمجتمع إعادة البناء الجذري للقوى الإنتاجية وعلاقات الإنتاج والسياسة والاقتصاد والإيديولوجية والثقافة والظروف المعاشية.
لم تمس أي من الثورات السابقة التي حدثت في التاريخ دعائم حياة المجتمع بشكل عميق مثلما فعلت الثورة الاشتراكية، فقد أدت الثورات السابقة إلى تغيير شكل الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بشكل آخر منها، بخلاف الثورة الاشتراكية الاجتماعية التي تؤدي إلى القضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وإحلال الملكية الاشتراكية محلها، كما أدت الثورات السابقة إلى تبديل شكل الاستغلال باستغلال آخر، أما الثورة الاشتراكية فإنها تؤدي إلى القضاء على جميع أشكال الاستغلال والقضاء على العوز والحرمان الاقتصادي لجماهير الكادحين، والقضاء على جميع استغلال الإنسان للإنسان وتصفية جميع الطبقات المستغلة. كما تعمد الثورة الاشتراكية إلى التخطيط في تنظيم الإنتاج الاجتماعي بعكس ما يسود في الرأسمالية الطابع الفوضوي للإنتاج الاجتماعي. ولا يمكن أن يحدث تحول اشتراكي للمجتمع طالما كانت السلطة في يد طبقة الرأسماليين وتحدد الطبقة العاملة مهمتها في إحلال الاشتراكية والشيوعية محل الرأسمالية، ولا تظهر الاشتراكية بشكل عفوي بل تتكون بواسطة الجهود الموجهة للجماهير الشعبية تحت قيادة الطبقة العاملة وفق القوانين الموضوعية للتطور الاجتماعي بانهيار الرأسمالية وبناء الاشتراكية، ويجري بناء الاقتصاد الاشتراكي ثم الشيوعي فيما بعد وفقاً للقوانين الاقتصادية الموضوعية للتكوين الاجتماعي الجديد، وتحتل التحولات العميقة لمجمل الحياة الاجتماعية فترة زمنية تاريخية معينة لإحلال الاشتراكية محل الرأسمالية وتعتبر تلك المرحلة انتقالية من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وحينما تحقق الثورة الاشتراكية انتقال سلطة الدولة من يد الأقلية الرأسمالية المستغلة إلى يد الطبقة العاملة التي تقود الجماهير الواسعة من الكادحين والمحرومين والمضطهدين في المجتمع تصبح الطبقة العاملة هي المسيطرة ويصبح طليعتها الحزب الشيوعي الحزب الحاكم.
حينما تتحقق الاشتراكية تندفع الجماهير الشعبية الواسعة إلى الإبداع التاريخي لأن قيام الاشتراكية وبنائها وترسيخها تعتبر قضية جميع الكادحين، كما أن تعاظم النشاط الجماهيري والإبداع الحي يعد القانون في بناء الاشتراكية، حيث يرى الكادحون بوضوح وثقة أن مصالحهم الجذرية تتفق مع مصالح الطبقة العاملة تماماً وعلى هذا الأساس يتكون التحالف الوطيد الذي لا ينفصم بين الطبقة العاملة والفلاحين والكادحين والمحرومين من أجل بناء الاشتراكية وتطويرها اللاحق في طريق الشيوعية، وهذا الاتحاد يعتبر من نوع خاص حيث أنه لم يهدف إلى الحفاظ على الفروق الطبقية وإنما للتغلب عليها، وتتكون علاقات إنتاج جديدة تحل محل العلاقات الرأسمالية القديمة، كما تتطور القوى الإنتاجية الضرورية من أجل تكوين أسلوب الإنتاج الاشتراكي الجديد وتطويره، ويكون دور الدولة الاشتراكية تنظيم عملية بناء الاشتراكية والشيوعية التي تشمل جميع جوانب الحياة في المجتمع (الاقتصادية والسياسية والثقافية والإيديولوجية والمعيشية) ويقوم الحزب الشيوعي والدولة اللذان يجمعهما هدف واحد بتوجيه نشاط جماهير الشعب الواسعة في حل المهام التاريخية لتكوين المجتمع الجديد وذلك من خلال السيطرة والفهم للقوانين الاقتصادية الموضوعية بشكل عميق ودقيق.
تطرح أمام الثورة الاشتراكية بعد الاستيلاء على السلطة مهمة إضفاء الطابع الاجتماعي على وسائل الإنتاج، أي إحلال الملكية الاجتماعية محل الملكية الخاصة التي هي ملكية الرأسماليين وكبار ملاك الأراضي التي تعتبر ملكيتهم وسيلة لاستغلال الطبقة العاملة والفلاحين وصغار أصحاب الحرف الذين تعتبر ملكيتهم قاعدة للإنتاج السلعي الصغير القائم على العمل الشخصي، كما تقوم الدولة الاشتراكية بمصادرة الأراضي من كبار ملاكها والمعامل والمصانع والسكك الحديدية من الرأسماليين وتحولها إلى ملكية الشعب كله، وعندما تأخذ الدولة في أيديها الصناعة الكبيرة ووسائل النقل والبنوك فإنها تعيد تنظيمها على أساس المبادئ الاشتراكية، وترسيخ علاقات الإنتاج الاشتراكية الجديدة في هذه المشروعات، وهكذا يتكون في الاقتصاد قطاع اشتراكي يلعب دوراً قيادياً في تطوير الاقتصاد الوطني كله اعتماداً على المراكز الحساسة في الاقتصاد تخوض الطبقة العاملة التي تسيطر على سلطة الدولة نضالاً من أجل تحويل اشتراكي لاقتصاد البلد كله.
وفي مرحلة الانتقال إلى الثورة الاشتراكية تتجلى الأشكال الرئيسية للاقتصاد الاجتماعي في ثلاثة أنواع، الاشتراكية للطبقة العاملة والفلاحين والإنتاج السلعي الصغير للطبقة البورجوازية الذي يعد تربة مغذية للرأسمالية، وفي هذه الفترة من مرحلة الانتقال يتطور الصراع بين الطبقة العاملة والبورجوازية حيث تسعى فيه الطبقة العاملة إلى تخليص الجماهير الواسعة من الفلاحين من تأثير البورجوازية، ويخدم هذا الهدف التحالف الوثيق الذي لا ينفصم بين الطبقة العاملة والفلاحين في تعزيز النضال ضد البورجوازية والرأسمالية من أجل بناء المجتمع الاشتراكي، وتستخدم الدولة الاشتراكية طريقة الانتقال التدريجي للإنتاج الزراعي المبعثر إلى الإنتاج الاشتراكي الكبير التعاوني وإضفاء الطابع الاجتماعي على ما يملكونه من وسائل الإنتاج التي تؤدي إلى ظهور الملكية الاشتراكية للجماعات الإنتاجية في القرية ممثلة في المزارع التعاونية في أشكالها المختلفة.
إن تحقيق التصنيع الاشتراكي للبلاد وإدخال التعاونيات في الريف والثورة الثقافية تؤدي إلى تغيير جذري للاقتصاد المتعدد الأنماط في مرحلة الانتقال، كما تجري تغييرات عميقة في الهيكل الطبقي للمجتمع وفي مجال الإيديولوجية والثقافة والمعيشة مما يكفل النمو السريع للقوى الإنتاجية في تكوين القاعدة المادية التكنيكية للاشتراكية، كما يجري تغيير جذري في علاقات الإنتاج مما يؤدي إلى نمو النمط الاشتراكي وتعزيزه وفي الوقت نفسه تزاح فيه العناصر الرأسمالية بشكل منتظم ثم تصفى بعد ذلك تماماً، ويتم ظهور النمط الاشتراكي في الريف نتيجة للاتحاد الاختياري للفلاحين في المزارع الجماعية (الكولخوزات) كبديل للنمط السلعي الصغير بمزارعه المبعثرة، وتؤدي هذه العمليات إلى انتصار الاشتراكية في الاقتصاد كله وإلى سيطرة النظام الاشتراكي في جميع مجالات الاقتصاد الوطني.
إن بناء المجتمع الاشتراكي يقضي قضاءً مبرماً على سيطرة الملكية الخاصة التي تعتبر مصدراً لانقسام المجتمع إلى طبقات متصارعة وسبباً للعداء والفرقة وتصبح الملكية الاشتراكية لوسائل الإنتاج أساساً اقتصادياً راسخاً للمجتمع وتحسم الاشتراكية مهمة اجتماعية عظيمة ألا وهي تصفية الطبقات المستغلة والأسباب التي تولد استغلال الإنسان للإنسان.
إن انتصار الاشتراكية يعتبر المرحلة الأولى للمجتمع الشيوعي كما يعتبر المحصلة الرئيسية لمرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وبإقامة دعائم الاشتراكية يستمر المجتمع في التطور بعد ذلك في طريق البناء الاشتراكي الذي يضمن النمو السريع للقوى الإنتاجية والتحسن المتعدد الجوانب للعلاقات الاجتماعية. وحينما تجري تصفية الطبقات المستغلة التي كانت سائدة في النظام الرأسمالي فإن التصفية تجري في ظل إعادة البناء الاشتراكي بالمعنى الاقتصادي، أي القضاء على الظروف التي يمكن في ظلها لبعض الطبقات المستغِلة العيش على حساب الطبقات الأخرى، وفسح المجال أمام تلك الطبقات غير العاملة في الانتساب والمشاركة في بناء الحياة والعمل في المجتمع الجديد، وأن الهدف من بناء الاشتراكية هو إقامة ديمقراطية عريضة بحيث تشمل الحريات السياسية والحقوق الاجتماعية وحرية الكلمة والصحافة والاجتماع وحق الإنسان بالمشاركة في الانتخابات والإدلاء بصوته، والحق في العمل، والراحة والتعليم، والضمان المادي في الشيخوخة وفي حالة المرض أو فقدان القدرة على العمل. وتعني الاشتراكية مساواة المواطنين من جميع الأجناس والطوائف المختلفة في الحقوق. كما تكون الحقوق المتساوية للنساء مع الرجال في جميع المجالات الحكومية والاقتصادية والثقافية، وأهم ميزة يمتاز بها النظام الاشتراكي في الحرية الحقيقية للإنسان ويتمثل المظهر الأرقى لهذه الحرية في تحرير الإنسان من الاستغلال الأمر الذي يعني العدالة الاجتماعية.
ومع الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية يصبح تطور الاقتصاد الوطني بصفة عامة مجالاً للنشاط الواعي الهادف الذي يمثله العمل البشري في مختلف المشروعات، ويستخدم الناس بشكل واع للغاية في المجتمع الاشتراكي القوانين الاقتصادية من أجل تحقيق الأهداف المطروحة في الخطط الخمسية، وتعتبر الخطط الخمسية التي تضمن معدلات مرتفعة دائمة التطور ويعتبر الاقتصاد الاشتراكي نموذجاً للاستخدام الواعي للقوانين الاقتصادية. ومن أجل الاعتماد بشكل واعي ومناسب على القوانين الاقتصادية ينبغي توافر فهم عميق لطبيعتها وأسلوب نشاطها وجميع الأشكال التي تتجلى فيها، وحينما يتم اكتشاف القوانين الاقتصادية للاشتراكية والتحليل المحدد لكيفية عملها ونشاطها يصبح الأساس المتين للممارسة العملية لبناء الاشتراكية والشيوعية، إن سرعة تغيير ظروف ومهام تطوير الاقتصاد الوطني تتطلب معرفة أكثر عمقاً للقوانين الاقتصادية الموضوعية للاشتراكية، إن تراكم الخبرة والتجربة العملية يؤدي إلى الاستخدام الأمثل للقوانين الاقتصادية للاشتراكية، كما أن الاستخدام الصحيح لهذه القوانين يكفل بدوره الحل الناجح للمهام العملية الاقتصادية، وفي نفس الوقت فإن الجهل بهذه القوانين يلحق الفشل والخسائر بالاقتصاد الاشتراكي.
أما الدور الاقتصادي التي تقوم به الدولة في النظام الاشتراكي، فإنه يتغير تبعاً للتطور الاقتصادي للمجتمع خلال مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية لأن الثورة الاشتراكية تلد دولة من نوع جديد لم توجد من قبل في تاريخ الإنسانية وتطرح أمام هذه الدولة مهاماً لم تطرح أبداً من قبل إمام أي سلطة دولة، لأن هذه المهام لا تنحصر في تحطيم النظام الرأسمالي القديم الذي ولى زمانه فقط، وإنما تبدأ مهام تكوين أشكال جديدة للاقتصاد الاجتماعي في بناء الاقتصاد الاشتراكي، وتحمل هذه الدولة التي ولدتها الثورة البروليتارية على عاتقها مهام جسمية وكبيرة تمتلك جميع الوسائل والإمكانيات الفعلية في إيجاد الحلول الناجحة لها من خلال تنمية وتطوير جماهير الشعب الواسعة بحيث تصبح تمتلك العزيمة والإرادة والإصرار في الإبداع التي تنظمه الدولة والذي يصبح مصدر قوتها الخلاقة في بناء المجتمع الاشتراكي. وتلعب الكوادر العلمية في المجتمع التي تمتاز بالمعرفة الواعية للقوانين الاقتصادية الموضوعية والحساب الدقيق للظروف السائدة دوراً كبيراً في شؤون تنظيم النشاط البناء والهادف لجماهير الشعب الواسعة، وتتحمل الكوادر العلمية مهام ومسؤوليات كبيرة تعمل على تحقيقها بواسطة الدولة الاشتراكية في إنجاز المهام المحددة لبناء الاشتراكية والشيوعية في كل مرحلة، وتشمل هذه المهام مجمل إجراءات الدولة التشريعية والإدارية والاقتصادية التي ترتبط بمجال حياة المجتمع وتطوره وتقدمه، وينكشف المضمون البالغ الأهمية لهذه المبادئ مثل الإدارة المركزية الديمقراطية في إدارة الاقتصاد أي الحساب الاقتصادي الفعلي الكامل والجمع بين الحوافر المعنوية والمادية في العمل، وذلك عند حل المهام العملية المتعلقة بتحسين طرق الإدارة المخططة للاقتصاد، وأيضاً في ظل ظروف نمو نطاقات ومهام الاقتصاد الاشتراكي.
إن الإنتاج في النظام الاشتراكي يقوم في ظل سيادة الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج وهذا يعني أن الإنتاج يصب في مصلحة المجتمع، وفي ظل النظام الاشتراكي يوسع المجتمع ويطور وينمي باستمرار الإنتاج بمختلف أنواعه من أجل زيادة رفاهية جماهير الشعب مادياً ومعنوياً وثقافياً، إن النمو والتطور والتحسن المنتظم والمستمر للإنتاج الاشتراكي يعتبر الشرط الأساسي في عملية الاكتفاء الأكثر إشباعاً واكتمالاً لاحتياجات الشعب، يمثلان أساس حركة المجتمع الاشتراكي في تطوره نحو الشيوعية.
في ظل أي نظام اجتماعي للإنتاج يرتبط عنصران ببعضهما ومن خلال هذا الارتباط يحدد طبيعة النظام الاجتماعي، وهذان العنصران هما قوة العمل ووسائل الإنتاج، وفي النظام الرأسمالي كانت وسائل الإنتاج على امتداد قرون عديدة في أيدي الطبقات المستغلة وتواجه الكادحين كقوة غريبة معادية لهم، أما في ظل الاشتراكية فإن قوة العمل ووسائل الإنتاج يتحقق ارتباطها من خلال القضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وإحلال الملكية الاجتماعية محلها، وفي هذه الحالة أصبحت وسائل الإنتاج لا تواجه الكادحين بالعداء والاستغلال وإنما تصبح في خدمتهم وتحقيق مصالحهم، وهكذا يتحقق في الاشتراكية الارتباط العضوي بين قوة العمل ووسائل الإنتاج على أساس جديد أعدته وأفرزته مجمل المسيرة النضالية التاريخية لتطور المجتمع، وتوجد الملكية الاجتماعية في النظام الاشتراكي الاقتصادي على صورتين :
1) ملكية الدولة التي تشكل ملكية الشعب كله.
2) الملكية التعاونية التي تعتبر ملكية الجماعات الكادحة.

1) ملكية الدولة : تشمل ملكية الدولة القسم الأعظم من الجهاز الإنتاجي للبلد وتشمل المعامل والمصانع والمحطات الكهربائية ووسائل النقل والمواصلات والأقسام المهمة في المشروعات التجارية ومجال التربية والتعليم والثقافة والصحة ودور الحضانة للأطفال ودور رعاية العجزة والمسنين وكافة مجالات الخدمات الأخرى والقسم الغالب من المشروعات الزراعية (الكولخوزات) التي تعتبر الشكل الأرقى للملكية الاشتراكية.
2) الملكية التعاونية لجماعة الكادحين : تحدد سيطرة الملكية الاجتماعية علاقة الإنتاج الرئيسية في المجتمع الاشتراكي والتي تقوم على العلاقة المتكافئة لجميع الكادحين بوسائل الإنتاج الاجتماعية التي تكون الملكية العامة الجماعية المشتركة لهم، وعلى هذا النحو ينمحي الأساس العميق لعدم المساواة والتناقضات والصراعات والعداءات الطبقية وهذا يعني فتح الطريق الرحب نحو التقارب والتعاون بين الطبقات الكادحة وتحقيق التجانس الاجتماعي الكبير في المجتمع. إن سيادة الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج تتوافق وتنسجم مع المصالح المحددة لجميع أعضاء المجتمع مما يدفع بجميع أعضاء المجتمع الاشتراكي الاهتمام والحيوية والنشاط والدعم للنظام السياسي والاجتماعي القائم في ظل الاشتراكية كما يدفع بأعضاء المجتمع إلى الاهتمام والنشاط والحيوية والإخلاص من أجل نمو وازدهار الاقتصاد الاشتراكي، لأن هذا النمو والازدهار يصب في سعادة ورفاهية أبناء الشعب. في ظل المجتمع الاشتراكي فقط تصبح رفاهية الكادحين هدف الإنتاج الاسمي وفي خلال ذلك يكمن الأساس المتين في اتفاق المصالح الجذرية لأعضاء المجتمع والانسجام في الأدوار للمصالح الاجتماعية، كما أن علاقات الإنتاج الاشتراكية وطبيعة تكوين الهيكل الاقتصادي للمجتمع الاشتراكي تستلزم وتفرض وجود مصالح جماعية وأخرى فردية بجانب المصالح العامة. كما يستلزم الاقتصاد الاشتراكي الاستقلال الاقتصادي الفعال للمشروعات والاتحادات في حدود إطار معين محدد، كما يجري تعويض الجهود المبذولة للقوى العاملة في هذه المشروعات ويتم تطبيق مبدأ دفع أجور العاملين وفقاً لكمية ونوع العمل الذي بذلوه في الإنتاج لمصلحة المجتمع حسب القاعدة (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله).
في النظام الاشتراكي توجد مصالح عامة جذرية لجميع أعضاء المجتمع (مصالح جماعية وأخرى فردية) وكما هو معلوم فإن سيادة الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج تفرض مراعاة أفضلية المصالح الاجتماعية إلا أن ذلك لا يعني إهمال المصالح الفردية وإنما تصبح منسجمة مع مصالح المجتمع الاشتراكي بصفة عامة، ومن خلال ذلك تتحقق وحدة المصالح الاجتماعية الجماعية والفردية الشخصية في ظل ضمان الدور الحاسم للمصالح الاجتماعية المعبرة عن علاقة الإنتاج الرئيسية في المجتمع الاشتراكي وفي ذلك تتجسد الأفضلية الهائلة للاشتراكية في سعادة ورفاهية جميع أبناء الشعب.
في النظام الاشتراكي تتغير النظرة إلى العمل في المجتمع من خلال التحول الجذري للحياة الاجتماعية، ولم يعد العمل في المجتمع الاشتراكي يمثل استعباداً للإنسان كما كان سائداً في النظام الرأسمالي الذي يجعل العامل محروماً ومغترباً عن السلعة التي ينتجها، وإنما أصبح العمل حراً تعود ثماره على المجتمع بأسره ولا شك أن ذلك العامل هو من ضمن المجتمع الذي يتكون من العاملين الأحرار، الذي تتمثل عظمته الإنسانية في الإخلاص والتفاني ونكران الذات والتي تمثل الواقع الحقيقي الملموس والتي جعلته الاشتراكية حجر الزاوية في البناء الاجتماعي، وفي ظل الاشتراكية يلقى العمل اعترافاً رحباً من قبل المجتمع وتضفي على العامل الاحترام والتقدير باعتباره المشارك والمساهم في القضية العامة المتجسدة في بناء العالم الجديد للإنسان الاشتراكي، وبما يقدمه من جهد وتضحيات في بناء المجتمع الاشتراكي، مما أصبح ولأول مرة في التاريخ أن يتحقق ذلك الحلم الأبدي للأجيال العديدة من الكادحين في نظام اجتماعي تنتفي فيه البطالة وما يرتبط بها من ألوان الحرمان في فقدان الثقة بالمستقبل وخطر الفاقة وعدم الاطمئنان والقلق والخوف، كما انعدمت في الاشتراكية ظاهرة الأزمات الاقتصادية التي كانت تعصف بالنظام الرأسمالي وتؤدي بالمجتمع إلى ضياع ثمار عمل الجماهير الواسعة وتبديد كميات هائلة من الخيرات المادية، لأن الخصائص المميزة للنظام الاشتراكي إنه يعتمد على التخطيط العلمي للاقتصاد بينما في النظام الرأسمالي تسود قاعدة الفوضى واقتصاد السوق كما وضعت الاشتراكية نهاية للتناقض بين العمل الجسماني والعمل الذهني، هذا التناقض الذي بقي جاثماً على صدر الإنسان منذ عصر الرق والعبودية والإقطاع والذي تعاظم وبلغ أقصى درجات الحدة في ظل النظام الرأسمالي، إن التناقض بين عمل اليد وعمل المخ يُعد أحد المعالم المشوهة للنظام الاستغلالي حيث تعزل جماهير الكادحين عن المصادر الغنية للمعرفة وعن تراث القرون العديدة الماضية، لأن الطبقات المستغلة وأتباعها تغتصب هذه المصادر وتعتبر التاريخ ومصادره حكراً لها وحدها.
في النظام الاشتراكي يصبح ضرورياً أن يعرف أعضاء المجتمع بوضوح وأن يفهموا الصلة بين مساهمتهم في الإنتاج الاجتماعي وبين ما يحصلون عليه، وبما أن في النظام الاشتراكي تسود قاعدة (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله) فإن هذه القاعدة تكفل تحقيق المبدأ الاشتراكي على خير وجه، فإن هذه القاعدة تضمن لكل فرد في المجتمع الاشتراكي الكسب عن طريق العمل حسب طاقته وقدرته في ظل نظام اجتماعي متحرر من استغلال الإنسان للإنسان، وفي نفس الوقت فإن هذه القاعدة تخلق الاهتمام بالمصلحة المادية لدى الأفراد العاملين والجماعات بأكملها في ميدان الإنتاج، ومرجع ذلك يعود إلى إدراكهم ومعرفتهم بأن رفاهيتهم المادية ترتبط بشكل وثيق بكمية ونوعية العمل المبذول وبنتائج عملهم، وفي ظل المجتمع الاشتراكي يوزع ذلك الجزء من الناتج الاجتماعي الذي يدخل في الاستعمال الشخصي للكادحين (أي ناتج العمل الضروري وفقاً لكمية ونوع العمل الذي يبذله كل عامل) وهنا لابد من ملاحظة ضرورية حيث أن القاعدة (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله) تمتاز عند توزيع الناتج الاجتماعي على شيء معين من عدم المساواة بين الكادحين وذلك لأن طاقة العامل وعمله تختلف من فرد وآخر من حيث الشهادة ونوع العمل وإن هذه القاعدة تكون سائدة في النظام الاشتراكي ولكنها في النظام الشيوعي تتغير هذه القاعدة وتصبح (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته) وهذا يعني في النظام الشيوعي يصبح الإنتاج الاجتماعي لجميع أفراد المجتمع ويلبي جميع طلباتهم وحاجاتهم الشخصية.
ويأتي الاختلاف من خلال اعتبار القانون الاقتصادي في التوزيع حسب العمل على نحو أتم وكذلك مبدأ تحديد الأجر لكل عامل على أساس كمية ونوع العمل المبذول فمن خلال ذلك يعتبر الاختلاف قوة محركة للتقدم الاجتماعي في ظل الاشتراكية. على اعتبار أن الأجور حسب العمل تحفز العامل في النظام الاشتراكي على الاهتمام بالإنتاج والتعليم وزيادة المهارة في العمل، كما أن التوزيع حسب العمل يعتبر دافعاً لتربية نظام عمل اشتراكي جديد يتسم بالوعي وينمي الروح الجماعية، وعلاقات التعاون والمساعدة المتبادلة الرفاقية التي تكون السمة المميزة لعلاقات الإنتاج الاشتراكية.
في النظام الاشتراكي لم يقتصر الاهتمام بالمصلحة المادة لكل عامل فيما يتعلق بنتائج عمله وإنما أيضاً تشمل الحوافز المعنوية الهائلة للعمل التي تولد وتتطور وتدعم في ظل الاشتراكية أي أن حوافز العمل المادية والمعنوية في النظام الاشتراكي يكمل كل منها الآخر ويدعمه، مما تفسح علاقات الإنتاج الاشتراكية الآفاق الكبيرة للمساهمة الخلاقة لجماهير الكادحين في زيادة قدراتها وطاقاتها وازدهار مواهبها مما يجد انعكاسه في المنافسة التي تشمل جماهير ضخمة من الكادحين والتي تعتبر قوة جبارة لتطوير الإنتاج، وتؤدي القوة الملهمة للقدرة التي تحتذى، إلى الانتشار السريع للتجربة التقدمية واندفاع واجتذاب المتخلفين إلى مستوى المتقدمين في العمل، كما أن الحرص على الإنتاج يتجلى في طرح اقتراحات الترشيد التي هدف إلى تحسين الإنتاج وارتفاع مستواه. ويعتبر التنظيم الاشتراكي للعمل الاجتماعي وسيلة في تحقيق أقصى إنتاجية عمل بالمقارنة مع الرأسمالية حيث يحرز النظام الاجتماعي التقدمي في العمل في نهاية الأمر النصر على النظام الرأسمالي الذي ولى زمنه بواسطة إنتاجية العمل الأرقى، كما تتحقق زيادة إنتاجية العمل من خلال إحلال الآلات محل العمل اليدوي وإبدال تلك الآلات والأجهزة القديمة والمستهلكة بأخرى جديدة، وفي نفس الوقت فإن الشرط الضروري لزيادة إنتاجية العمل يتمثل في حسن تنظيم العمل والإنتاج وعلاوة على ضمان التقدم التكنيكي فإن أهم مقدمات زيادة إنتاجية العمل تتمثل في زيادة انضباط ومهارات الكادحين وتنمية معارفهم الإنتاجية وتطوير مبادراتهم، أما في النظام الرأسمالي فإن زيادة إنتاجية العمل تدفع بالرأسمالي إلى تشديد استغلال الكادحين، كما أن فوضى الإنتاج الرأسمالي والمنافسة والمزاحمة في السيطرة على الأسواق من أجل الاستحواذ على أكبر كمية من الأرباح وما تفرزها هذه الظاهرة من أزمات وبطالة، فإن جميع هذه الأسباب تؤدي إلى تبذير وضياع للموارد الطبيعية وقوة العمل، عكس النظام الاشتراكي الذي يكفل أكثر الظروف عقلانية وملائمة في الاستفادة من الموارد الطبيعية وتطوير واستخدام جميع منجزات العلم والتكنيك من أجل مصلحة المجتمع بصفة عامة على أكمل وجه وبنحو مخطط من أجل زيادة إنتاجية العمل الذي يعتبر أساس نمو ورفاهية المجتمع الاشتراكي في النظام الاشتراكي ينبع نوع جديد لتنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع الاشتراكي نظام التخطيط. وحتى يمكن تحقيق العملية الإنتاجية فمن الضروري توافر تناسب معين بين قطاعاتها وعناصرها. من أجل إضفاء الطابع الاجتماعي على وسائل الإنتاج يجب تطبيق أسلوب التنظيم المخطط للإنتاج الاجتماعي كله الذي يصبح ضرورة موضوعية، لأن الإدارة المخططة للاقتصاد الوطني تعني تنظيم الحياة الاقتصادية كلها على أساس علمي سليم يتضمن التنبؤ الدقيق بالاحتياجات والموارد الاجتماعية التي يمتلكها المجتمع الاشتراكي في كل مرحلة من مراحل تطوره وتصبح الإدارة المخططة للاقتصاد الوطني أحد الملامح الرئيسية للاقتصاد الاشتراكي.
وتمتاز الإدارة المخططة في النظام الاشتراكي بالحركة والتغيير تبعاً لتطور وتقدم القوى الإنتاجية وتحسن علاقات الإنتاج الاشتراكية، وتعتبر الإدارة المخططة للاقتصاد بمثابة نموذج جديد لا مثيل له لتنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع تولده الاشتراكية فقط. لأن هذا النموذج الجديد للتطور الاجتماعي يطلق جميع الإمكانيات الهائلة الكامنة لدى جماهير الشعب الواسعة، كما يعتبر الوعي والطاقة ودرجة تنظيم الجماهير الديناميكية المحركة الهائلة للتقدم الاجتماعي الذي يعد من أهم الشروط للنجاح في حل المهام التاريخية المطروحة في كل مرحلة من مراحل التطور والتقدم الاشتراكي، كما يعتبر الطابع المخطط للتطور الاقتصادي من المميزات الحاسمة في النظام الاشتراكي، كما يجنب التخطيط في تطور الاقتصاد الاشتراكي البنيان الاقتصادي من المنافسة المدمرة والأزمات الاقتصادية والبطالة وغيرها من الشرور الملازمة في النظام الرأسمالي، كما أن التخطيط يفسح إمكانية تحقيق معدلات عالية لنمو الاقتصاد الوطني وزيادة القدرة الإنتاجية والارتقاء برفاهية الشعب وسعادته.
تعتبر الإدارة المخططة للاقتصاد من المهام الرئيسية في بناء الدولة الاشتراكية كما أن النشاط المخطط للاقتصاد يفسح إمكانية قيادة الحياة الاقتصادية بشكل فعال لأنه يحدد النسب المثلى بكفاءة، ويوزع القوى الإنتاجية بطريقة رشيدة، ويحقق الاقتصاد في الموارد. تنحصر المشروعات الاشتراكية القائمة على الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج بإنتاجها للمواد التي تشبع الاحتياجات المادية والثقافية للمجتمع بشكل أكثر اكتمالاً. وبما أن احتياجات الناس من الخبرات المادية والثقافية على اختلاف أنواعها تنمو باستمرار مما يستوجب على المشروعات الاشتراكية أن تسير بتناسق مع حاجات المجتمع وكلما توسع المجتمع وتطور وتقدم، يستوجب على المشروعات الاشتراكية أن تزيد حجوم الإنتاج وتطورها وتقدمها دونما توقف وأن تنتج منتجات ذات جودة أرقى، ويرتفع الطلب الفعال في المجتمع الاشتراكي بطريقة منتظمة تبعاً لنمو الإنتاج الاجتماعي، وتدفع الحاجة لإشباع هذا الطلب من الإنتاج الاشتراكي التطور والتقدم وتضع أمامه مهاماً جديدة أكثر فأكثر، ولهذا فإن الإنتاج الاجتماعي (الصناعي والزراعي) ينمو بأطراد في البلدان الاشتراكية، ونظراً لوجود التطور للمخطط الاقتصادي فإن خطر البطالة ينعدم في مواجهة الكادحين في البلدان الاشتراكية، وهناك ضمان كامل لفرص العمل والحصول على أجر يكافئ بها العاملين حسب طاقتهم وعملهم.
يقوم التنظيم المخطط وإدارة الاقتصاد الاشتراكي على مبدأ المركزية الديمقراطية، ويكفل هذا المبدأ، التنسيق بين أكبر نمو لتطور الطاقة الإبداعية ومبادرات الجماهير الواسعة من الكادحين وبين الإدارة المركزية التي لا يمكن بدونها تصور الأداء العادي للإنتاج الكبير أو الجهاز الاقتصادي العصري المتقدم في البلد كلها، ومبدأ المركزية الديمقراطية تجد انعكاساً لها في مختلف أشكال مشاركة الكادحين في إدارة الإنتاج لأنهم يعتبرون الأصحاب الحقيقيون للاقتصاد كله، ويشارك العمال والموظفون والمهندسون والتكنيكيون بشكل نشيط في كل معمل ومصنع من خلال المناقشة ووضع الخطط الإنتاجية وإعداد البيانات والقرارات المتعلقة بالقضايا الإنتاجية صغيرة كانت أو كبيرة.
في ظروف المجتمع الاشتراكي المتقدم يتسع نطاق الاقتصاد القومي بشكل مستمر مما يؤدي إلى تعقيد مهام قيادته مما يؤدي ذلك إلى الحاجة لتطوير الأسس الديمقراطية للنشاط الاقتصادي مما يجعل الحاجة إلى الديمقراطية تتزايد وتصبح ضرورة ملحة، وبما أن الديمقراطية تشمل جميع الحياة الاجتماعية في البلدان الاشتراكية وتتطور عند سيادة الملكية الاجتماعية إلا أن ذلك يتطلب مركزية معينة في تنظيم المجتمع وبصفة خاصة في مجال تنظيم الاقتصاد. ولا يمكن أن تظل الأشكال المحددة للجمع بين المركزية والديمقراطية والطرق العملية لتحقيقها وتطورها بلا تغيير أو حركة وإنما يتغير مبدأ المركزية الديمقراطية مع تطور الاقتصاد الاشتراكي وتوسع إمكانياته وتزايد وتعقد مهامه، ويكون هذا الترابط متناسقاً مع تطور وتحسن ونمو الاقتصاد القومي وزيادة تجهيزه بالآلات المتقدمة والمتطورة مع الارتقاء بالمستوى الثقافي – التكنيكي لجماهير الكادحين، لأن وعي الجماهير الكادحة ونشاطها يعتبر أحد الأسس الهامة لأسلوب الإنتاج الاشتراكي ولذلك فإن النشاط المبدع والوعي العالي يعتبر القوة المحركة الهائلة للنمو والتقدم الاقتصاديين.
تكون الأسس الديمقراطية للإدارة شأنها شأن الإدارة المركزية للاقتصاد القومي وهي كذلك الملامح المميزة للنظام الاشتراكي للاقتصاد، ومع تقدم القوى المنتجة وتحسين علاقات الإنتاج الاشتراكية يتعاظم دور الطرق الاقتصادية للإدارة المركزية المخططة.
يرتبط تحسين الأداء الاقتصادي الاشتراكي بشكل مستمر من خلال تزايد دور الطرق الاقتصادية لإدارة الاقتصاد القومي، الأمر الذي يتطلب الاستخدام الواسع للعلاقات السلعية – التقدمية والمقولات القيمية للعبرة عن هذه العلاقات (السعر، النقود، الربح، سعر الفائدة، المكافأة ... الخ) وفي ظل الاشتراكية يستوجب النظام المتطور المجزأ لتقسيم العمل الاجتماعي تبادلاً متعدد الجوانب للأنشطة، ويجد هذا التبادل تجسيداً له في شبكة كثيفة وواسعة للعلاقات الاقتصادية من مختلف الأنواع، ويرتبط تبادل الأنشطة بحركة الأشياء والسلع التي تمثل منتجات المجتمع الاشتراكي، وتتغير طبيعة ومضمون الإنتاج السلعي بشكل جذري على أساس سيادة الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج في ظروف التطور المخطط للاقتصاد القومي، في النظام الاشتراكي يعد الإنتاج وسيلة للتبادل الاقتصادي للأشياء في ظل اقتصاد منظم ومخطط، حيث لا يوجد فيه استغلال الإنسان للإنسان ولا يهدف الإنتاج لكسب الربح وإنما لإشباع احتياجات المجتمع، ومن هنا يتضح الفرق الأساسي بين المضمون الداخلي وطبيعة علاقات القيمة الاشتراكية وبين مضمون وطبيعة علاقات القيمة الرأسمالية في استغلال الإنسان والإنسان ومن أجل كسب الربح.
في النظام الاشتراكي يوجد الاقتصاد السلعي في ظروف يسيطر فيها المجتمع على القوانين الاقتصادية ويستخدمها بوعي في ممارسته بحيث تخلق ظروفاً تؤدي إلى تطور الاقتصاد كله بطريقة منهجية، كما أن هذا الإنتاج يوجد في ظل السيادة السياسية للطبقة العاملة المتحالفة مع جميع الكادحين، وفي ظل نموذج جديد لارتباط قوة العمل بوسائل الإنتاج على أساس الملكية الاجتماعية الاشتراكية وفي ظل الدور الأمثل للتخطيط المركزي. وعلى ضوء ذلك يلعب استخدام أدوات تطوير الاقتصاد من خلال الحساب الاقتصادي والنقود والسعر والكلفة والربح والتجارة والائتمان والتمويل دوراً كبيراً في الانتقال للملكية الشيوعية لجميع أبناء الشعب وإلى نظام توزيع حسب المرحلة الشيوعية الذي يقوم على القاعدة (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته) وفي تلك المرحلة تزول وتفنى القاعدة السابقة في العلاقات السلعية النقدية التي كانت تسود فيها القاعدة (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله) في النظام الاشتراكي.
في المشاريع الاقتصادية للنظام الاشتراكي يبرز ارتباط تلك المشاريع بزيادة دور الربح كمعيار لتقدير نشاط المشروع والجماعة الإنتاجية العاملة في إدارته أيضاً، ومن أجل أن يمكن ضمان التناسب الضروري في الاقتصاد القومي فإنه من الواجب على كل مشروع أن ينفذ الواجبات المحددة المتعلقة بحجم المبيعات وأصنافها الرئيسية وتحت شرط تنفيذ هذه الواجبات وضمان جودة أرقى للمنتجات والمحافظة على الأسعار المحددة فإن الربح يعتبر مؤشراً أكثر عمومية لنوعية ونشاط المشروع، والربح كما هو معلوم يمثل الفرق بين نفقات الإنتاج كلها وبين حصيلة بيع المنتجات الجاهزة أما الربحية فإنها تمثل علاقة الأرباح كلها بالأصول الإنتاجية، وتكمن أهمية مؤشر الربح من خلال انعكاس جميع أوجه النشاط الإنتاجي للمشروع فيه، كما أن أي تحسن في نشاط المشروع (الوفورات في المواد الأولية والاستخدام الأفضل للآلات والمعدات وزيادة إنتاج العمل ... الخ) تجد صداها وتعبيراً عنها في زيادة الربح والعكس بالعكس أي أن تدهور النشاط في المشروع لابد وأن يؤدي إلى تناقص الربح. كما يزيد الربح نتيجة لنمو حصيلة الإيرادات في ظل الحفاظ على الأسعار التي تحددها الدولة وتوسيع الإنتاج، كما يزيد أيضاً نتيجة تقليل المصروفات عند خفض تكلفة الإنتاج، ولهذا فإن الربح يعتبر معياراً أكثر عمومية لتقدير نوعية نشاط المشروع الاقتصادي، كما تزيد الربحية بفضل الاستخدام الأكثر فعالية لوسائل الإنتاج وبخاصة الآلات والمعدات وغيرها.
أما بالنسبة لاقتصاد السوق فإن هناك فرقاً جذرياً بين السوق الاشتراكي والسوق الرأسمالي، حيث أن السوق في النظام الرأسمالي يعتبر مجالاً لنشاط القوى العفوية للنظام الاقتصادي الرأسمالي الخاص الذي يسوده فوضى الإنتاج، أما في النظام الاشتراكي فإنه يعتبر جزءاً لا ينفصل عن الاقتصاد الاشتراكي المنتظم بشكل تخطيطي، وأن السوق الاشتراكي أيضاً مخطط وهذا يعتبر بمثابة عنصر ضروري وانعكاس للاقتصاد المخطط حيث تلعب فيه الإدارة المركزية المخططة للاقتصاد القومي دوراً فعالاً في توازن الاقتصاد الاشتراكي لأنه في ظل النظام الاشتراكي تعتبر الخطط والسوق كعاملين مرتبطين بعضهما ببعض ويتطلب كل منهما وجود الآخر، فالسوق بالرغم من أنه يمثل مجال عفوية الاقتصاد إلا أنه في الاقتصاد الاشتراكي يمثل عنصراً ضرورياً للاقتصاد المخطط، ومن خلال ذلك فإن التخطيط الاقتصادي يلعب دوراً فعالاً وحاسماً في الاقتصاد الاشتراكي من خلال تحديد النسب الرئيسية للإنتاج الاجتماعي، ومن خلال ذلك فإن السوق يكون موجوداً تحت التأثير الحاسم للتخطيط الاقتصادي في عملية بناء الشيوعية فإن الاشتراكية والشيوعية تعتبران مرحلتين متتابعتين لتطور تكوين اجتماعي – اقتصادي شيوعي واحد، وهاتان المرحلتان للنضوج الاقتصادي للمجتمع الجديد فإن الاشتراكية تمثل المرحلة الأدنى، أما الشيوعية فتمثل المرحلة الأرقى، ومن هنا يتضح أنه لا يمكن أن توجد أية حواجز بين الاشتراكية والشيوعية، فالاشتراكية تتحول حتماً في أثناء تطورها إلى الشيوعية، إلا أن المجتمع الاشتراكي في حركته المتواصلة نحو مرحلة الشيوعية يمر بمراحل معينة ومع ذلك فإن الاشتراكية المتقدمة في نفس الوقت هي مرحلة ناضجة تمثل مكسباً ضخماً للتقدم التاريخي وإنه يعتبر مرحلة في حركة المجتمع الجديد نحو الشيوعية التي تتفتح فيها الإمكانيات الخلاقة للاشتراكية بشكل أكثر تنوعاً واكتمالاً في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والإيديولوجية، ويتجلى في مرحلة الشيوعية التعاضد المعنوي السياسي المتقدم لجميع فئات المجتمع، وفي المعدلات المرتفعة والطابع المستمر للنمو الاقتصادي وفي درجة أكثر اكتمالاً في إشباع الاحتياجات المادية والروحية لأبناء الشعب على أساس زيادة كفاءة الإنتاج الاجتماعي وفي الحل الناضج للمشكلات الاجتماعية المعقدة والتطور السريع للعلم والتربية والتعليم الشعبي والثقافة، وإجراء عملية مكثفة لتحسين أشكال وطرق قيادة المجالات الرئيسية للحياة الاجتماعية، كما تجري عملية الارتقاء العلمي بمستوى الإنتاج وكفاءته. ويكون المجتمع الاشتراكي المتطور والمتقدم جميع المقدمات الضرورية في عملية الانتقال التدريجي إلى المرحلة الأرقى للشيوعية وتصبح هذه المرحلة نظاماً اجتماعياً بلا طبقات حيث تسود فيه ملكية الشعب كله لوسائل الإنتاج والمساواة الاجتماعية الكاملة لجميع أعضاء المجتمع، وبجانب التطور الشامل للناس في المجتمع الشيوعي تنمو القوى الإنتاجية على أساس العلم والتكنيك اللذين يتطوران بشكل دائم وتتدفق جميع مصادر الثروة الاجتماعية بشكل كامل لتحقيق المبدأ العظيم (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته). إن الشيوعية هي المجتمع الذي يمتاز بالتنظيم العالي للعاملين الأحرار الواعين وفي ظله تتأكد الإدارة الذاتية الاجتماعية ويصبح العمل في إطار المجتمع حاجة اجتماعية أولى بالنسبة للجميع، ويعد تكوين القاعدة المادية التكنيكية للشيوعية المفتاح. المفتاح لحل المشكلات الرئيسية لبناء المجتمع الشيوعي ويمثل تنفيذ هذه المهمة الأساس الذي تنمو عليه وتتطور جميع المقدمات التي تمثل المرحلة الأرقى من الشيوعية، وعلى هذا الأساس ذاته تجرى عملية تحسين علاقات الإنتاج الاشتراكية وتحولها إلى علاقات شيوعية، وبالرغم من أن القاعدة المادية التكنيكية تعد من أهم المقدمات إلا أنها ليست الوحيدة من أجل تحقيق المرحلة الأرقى للشيوعية إذ يلزم لذلك شروط أخرى مادية وروحية حيث يصبح في مرحلة الشيوعية التوزيع حسب الحاجات وإزالة الفروق بين المدينة والقرية وتوفير ظروف الحياة والعمل والمعيشة وإزالة الفروق بين العمل الجسماني والذهني، وبجانب هذه الشروط المادية عند تحقيق المرحلة الأرقى للشيوعية، لابد من توافر شروط روحية تطور وتدعم وحدة الشعب الفكرية والاجتماعية والسياسية مما تؤدي بشكل منقطع النظير تزايد أهمية التربية الشيوعية لجماهير الكادحين الذين يعتبرون القوة الإنتاجية الرئيسية للمجتمع بحيث يصبح العمل من أولى الحاجات الداخلية للإنسان، ومن خلال ذلك سيتحقق تطور مرتفع لم يسبق له مثيل لتكنيك الإنتاج ونمو ثقافي هائل للناس بحيث يصبح كل عمل يكتسب طابعاً إبداعياً وحينذاك لا يحتاج الأمر إلى تشجيع الناس مادياً لأن الشيوعية تبني إنساناً يمتاز بجميع الصفات الإنسانية في النبل والكمال والسمو والتضحية ونكران الذات ينصهر بالمجتمع والمجتمع ينصهر به، فيصبح العمل من أجل سعادة ورفاهية المجتمع هو السعادة والطموح للإنسان الشيوعي، وعندئذ فإن جميع أعضاء المجتمع سيمكنهم من الحصول على جميع مستلزمات الحياة المادية والمعنوية دون مقابل.
فيما تقدم كانت الفكرة الموجزة للنظرية الماركسية، وقد تجسدت هذه النظرية بشكل رائع في رسالة رئيس وزراء الهند الأسبق الراحل بانديت نهرو إلى ابنته أنديرا غاندي حينما كان سجيناً يشرح فيها النظرية الماركسية فيقول في الرسالة (إن النظرية الماركسية طريقة لتفسير التاريخ والاقتصاد والسياسة والحياة والنزاعات البشرية، وهي نظرية ودعوة لعمل ما وفلسفته تتناول جميع نواحي النشاط الإنساني ومحاولة لجمع التاريخ بماضيه وحاضره ومستقبله نطاقاً منطقياً يحمل في طياته مصائر محتومة كالقدر. ولاحظ أن الإنسان بدأ منذ وجوده يجاهد للحصول على ما يسد به رمقه ويكفل له ضروريات الحياة، وكلما مر به الزمن تطورت أساليبه في حصوله على حاجاته ويعتبر أن وسائل الإنتاج مقومات الحياة وكانت أهم ما يشغل بال الإنسان والمجتمع في كل زمان ومكان. ويعتبر انتصار الطبقة الجديدة الناحية الاقتصادية والسياسية، وهو يعبر عن انتصار وسائل الإنتاج الجديدة مما يؤدي إلى تغيير في نسيج المجتمع بأسره من الناحية الفكرية والسياسية والقانونية والمعرفية وغيرها وتصبح هذه الطبقة الجديدة مستغلة لمن دونها من الطبقات حتى تقوم مكانها طبقة أخرى، ويستمر الكفاح حتى يصل المجتمع إلى المرحلة التي لا يستغل فيها طبقة ما طبقة أخرى، وهذا لا يتهيأ إلا عندما تزول الطبقات من المجتمع وتبقى طبقة واحدة فلا يبقى مجال للاستغلال، لأن الطبقة الواحدة لا تستغل نفسها، وهذه هي الوسيلة الوحيدة لخلق التوازن في المجتمع وقيام التعاون مكان التنازع والتنافس القائمين حالياً).
النظرية الماركسية ومراحلها
كارل ماركس (1818 – 1883) ولد في مدينة (ترير في ألمانيا) يهودي الأصل إلا أنه اعتنق الدين المسيحي، أما أبوه فكان محامياً ترك اليهودية واعتنق الدين المسيحي. أما أمه فكانت ذات أصل هولندي، درس في الجامعات الألمانية حتى حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة، وكانت هذه الجامعات واقعة تحت تأثير آراء وأفكار الفيلسوف الألماني (فريدريك هيغل). كان ماركس قد خطا خطوته الجديدة إثر دخوله الجامعة في السابعة عشر من عمره واقتحم الحياة بنهج ثوري عنيف وجعل يتفحص فلسفة (هيغل) تفحص الناقد المدقق، وما كان يتهيب أو يتردد بالاصطدام مع أتباعها وحاملي لوائها من قبل أكثرية الطلبة، فحمل سيفاً حاداً في محاربة مثاليتها وضربها في النقاط الضعيفة التي بنيت عليها وأخذ من ديالكتيكها سلاحاً ضدها وطلع بديالكتيك جديد مستوحى من الحقائق العلمية المادية، لا من الفكرة المثالية التي تستوحيها فلسفة (هيغل). إذا لم يكن عند ماركس إيمان بشيء إلا بما يدله عليه العلم والواقع التاريخي. كانت فلسفة (هيغل) تقوم على أساس مادي وروحي معاً على اعتبار أن الروح شيء مستقل هو من إبداع الفكرة، فالروح الهيغلية تصبح وإن اختلفت عن الروح (الروحانية) التي يبشر بها الفلاسفة الروحانيين، روحاً مثالية من فكرة مثالية ومن عقلانية إنسان مثالي ابتدعه (هيغل) لأن هذه الفلسفة اعتمدت على شيء مثالي مجهول فيما وراء الطبيعة البشرية وماديتها وهو (الفكرة). إذن كانت فلسفة (هيغل) تقوم على خلق روحية مثالية ليس للتطور المادي العلمي ولا لصقل وتطور المادة الدماغية المنبثق عنها العقل يد في التدرج للوصول إليه مما جعل ديالكتيك (هيغل) ينتهي عند حاجز لا يدرك ما وراءه إلا بالحدس أو بواسطة فكرة مثالية، ومن هنا كان الاختلاف في تفسير فلسفة (هيغل) بين الطلبة الروحانيين وبين الماديين وكان كارل ماركس بين الطلبة الماديين أكثرهم صلابة وأشدهم عنفاً في تخطي فلسفة (هيغل) وديالكتيكها. كان كارل ماركس يعتبر الإنسان أثمن رأسمال في الوجود لأنه يمتلك العقل المدبر والخالق لجميع مستلزمات الحياة المادية والمعنوية لأنه وليد المادة الدماغية وهو الذي يستنبط الفكرات تبعاً للحاجة الضرورية وهو يتطور كلما تغيرت حاجة الإنسان، وإن العقل هو الذي جعل من الإنسان الكائن الأعلى بين الأحياء وبواسطته يستطيع أن يستنبط كل فكرة سواء كانت دينية أم اجتماعية أم عقائدية وهو بالتالي خالق الفكرة لا مخلوقها.
في المرحلة التي عاش فيها كارل ماركس كانت بداية نشوء وترعرع النظام الرأسمالي الذي كان يمتاز بالإنتاج البضاعي الرأسمالي الذي كان يعتبر النمط البدائي الكلاسيكي للرأسمالية أي في عصر الصناعة الحرفية، وفي ظل شكل الإنتاج البضاعي الذي تطور في القرون الوسطى لم يكن من الممكن حتى أن يدور الكلام لمعرفة من ذا الذي يجب أن تعود إليه منتوجات العمل. فعلى العموم كان يصنعها المنتج الفردي من خامات تخصه وكان في أحيان كثيرة ينتجها بنفسه وبأدواته هو وبيديه، أو بأيدي أفراد عائلته. فلم يكن ثمة داعٍ يدعو هذا المنتج إلى تملك منتوجه، لأن منتوجه كان يخصه بطبيعة الحال، ولذا كان حق الملكية للمنتوج يرتكز على العمل الشخصي وحتى حينما كانوا يلجأون إلى معونة الغير، كانت هذه المعونة لا تضطلع على العموم إلا بدور ثانوي وكانت تلقي أحياناً كثيرة علاوة على الأجر مكافأة أخرى لأن المتدرب والصانع كانا يعملان من أجل تحصيل المهنة وإعداد نفسيهما لنيل لقب المعلم، ولكن بعد ذلك بدأ تمركز وسائل الإنتاج في المشاغل الكبيرة والمانيفاكتورات وتحولها من حيث الجوهر إلى وسائل إنتاج اجتماعية. بيد أنهم ظلوا يعتبرون وسائل الإنتاج والمنتوجات الاجتماعية هذه كأنما بقيت كما من قبل، وسائل إنتاج ومنتوجات أفراد. كان قبل ذلك مالك وسائل العمل يستملك المنتوج لأنه كان على العموم منتوجه بالذات ولأن عمل الغير كانت استثنائية، وبعد ذلك أصبح مالك وسائل العمل يستملك المنتوجات رغم أنها لم تكن نتاج عمله هو بل نتاج عمل الغير، وهكذا لم يكن يستملك منتوجات العمل الاجتماعي أولئك الذين حركوا بالفعل وسائل الإنتاج وصنعوا بالفعل هذه المنتوجات، بل أصبح يستملكها الرأسمالي، لقد غدت وسائل الإنتاج والإنتاج بالذات اجتماعية من حيث الأساس، ولكنها ظلت خاضعة لشكل ملكية تفرض وجود الإنتاج الشخصي للمنتجين الفرديين وأصبح فيه كل فرد يمتلك منتوجه ويحمله إلى السوق، وقد خضع أسلوب الإنتاج لهذا الشكل من التملك بالرغم من أنه حطم أساس هذا الأسلوب من التملك، ولكن في هذا التناقض الذي يضفي على أسلوب الإنتاج الجديد طابعه الرأسمالي تكمن بذور جميع التناقضات الحالية، وبقدر ما كانت تزداد سيطرة أسلوب الإنتاج الجديد في جميع فروع الإنتاج الرئيسية.
كما كان في تلك المرحلة الإنتاج الصغير قائماً في كل مكان وأساسه ملكية العاملين الخاصة لوسائل الإنتاج (زراعة صغار الفلاحين، أحرار أو أقنان في الريف والحرف في المدن) كما كانت وسائل العمل (الأرض والأدوات الزراعية والمشاغل والأدوات الحرفية) تخص الأفراد ولم تكن مكيفة إلا للاستعمال الفردي ولذا كانت بالضرورة صغيرة ومحدودة، وكان للدور التاريخي الذي اضطلع به أسلوب الإنتاج الرأسمالي ومخرجته إلى المسرح البورجوازي مركزة وسائل الإنتاج الصغيرة المبعثرة وتكبيرها وتحويلها إلى دوافع جبارة حديثة للإنتاج، أما كيفية الدور الذي قامت به البورجوازية منذ القرن السادس عشر من خلال درجات الإنتاج الثلاث المختلفة (التعاون البسيط والمانيفاكتوره والصناعة الكبيرة) ولكن البورجوازية لم تستطع أن تحول وسائل الإنتاج المحدودة هذه إلى قوى منتجة جبارة دون أن تحولها من وسائل إنتاج يستعملها الأفراد إلى وسائل اجتماعية للإنتاج يستعملها جمهور كبيره من الناس بصورة مشتركة. فأخلى دولاب المغزل والنول ومطرقة الحداد المكان لآلة الغزل وللنول الميكانيكي وللمطرقة البخارية كما أخلى المشغل الفردي المكان للعمل الذي يتطلب عمل المئات والألوف من العمال بصورة مشتركة، كما تحول الإنتاج نفسه من الأعمال الفردية إلى الأعمال الاجتماعية كما تحولت المنتوجات من منتوجات مختلف الأفراد إلى منتوجات اجتماعية، فإن الخيوط والأقمشة والسلع المعدنية التي أخذت تخرج من المصانع والمعامل كانت نتاج عمل مشترك قام به عدد كبير من العمال يبذلون جهودهم على صنعها في تعاقب معين حتى إنجازها، كما ظهر التقسيم العفوي للعمل في المجتمع حيث نشأ تدريجياً بدون أي منهاج، وكان الشكل الأساسي للإنتاج الذي كان يضفي على المنتوجات شكل بضائع يتيح تبادلها بالشراء والبيع للمنتجين الفرديين في تلبية مختلف حاجاتهم. فكان الفلاح يبيع للحرفي المنتوجات الزراعية ويشتري منه المصنوعات الحرفية ومن خلال المنتجين الفرديين للبضائع تسرب أسلوب الإنتاج الجديد في المانيفاكتوره التي تعتبر بداية تقسيم العمل وسيطرة رأس المال.
إن الرأسماليين الأوائل قد وجدوا العمل المأجور حينما أصبحت وسائل الإنتاج اجتماعية وتمركزت في أيدي الرأسماليين حتى تغير كل ذلك، فإن قيمة وسائل الإنتاج ومنتوجات المنتج الصغير الفردي أخذت تهبط أكثر فأكثر، ولم يبق له من مخرج غير أن يعمل أجيراً في خدمة الرأسمالي الذي أصبح قاعدة لكل إنتاج وشكله الأساسي، وأصبح الرأسمالي مستأثراً بكل وقت العمل للمنتج، والأجير غدا أجيراً كل حياته، وقد أدى انهيار النظام الإقطاعي إلى زيادة خارقة في الأيدي العاملة حتى وصلت القطيعة إلى تمركز وسائل الإنتاج في أيدي الرأسماليين، وبين المنتجين الذين لم يبق لهم ما يملكونه سوى قوة عملهم، وهكذا ظهر التناقض والصراع بين الإنتاج الاجتماعي الذي يمثله آلاف العمال في المعمل الذين لا يملكون سوى قوة عملهم والملكية الفردية الخاصة للرأسمالي لوسائل الإنتاج.
يمتاز كارل ماركس بعبقرية فذة في استقراءه للتاريخ مستنداً على تحليل المجتمع البورجوازي وتطوره إلى تصدير رأس المال إلى مجموعة المعالم الاقتصادية الرئيسية لمرحلة الامبريالية وتحدد تلك العوامل طبيعة النظام الرأسمالي للاقتصاد العالمي ويرتبط تصدير رأس المال ارتباطاً وثيقاً بالتقسيم الاقتصادي للعالم وتوزيعه إلى مناطق في عصر الامبريالية، وتتنبأ بأن هذه العملية المعولمة للاقتصاد الدولي ستولد نزاعات عنيفة وأزمات اقتصادية ومظالم اجتماعية على نطاق واسع من العالم، وقد صدقت تنبوءات ماركس قبل 150 سنة منذ صدور البيان الشيوعي عام/ 1848 بطبيعة الاقتصاد العالمي في مطلع القرن الواحد والعشرين، ففي صيف عام/ 1997 حدثت الأزمة الاقتصادية في شرق آسيا وفي عام/ 1999 حدثت الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين وحدثت في عام/ 2006 أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية التي امتدت حتى عام/ 2009 وشملت أكثرية دول العالم والتي وصفها الخبراء الاقتصاديين بحرب عالمية ثالثة لآثارها التدميرية وحدثت أخيراً وليس آخراً في عام/ 2011 في الولايات المتحدة الأمريكية أزمة تسديد الديون المترتبة على الدول الفقيرة التي امتدت آثارها على أكثرية الدول الأخرى التي لا زالت مستمرة إلى يومنا هذا وظاهرة الأزمات الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي ظواهر دورية طبيعية ومن صميم ذلك النظام الذي يقوم على فوضى اقتصاد السوق والمنافسة الذي يولد الصراع بين الدول الرأسمالية في الاستحواذ على الأسواق لجني أكبر الأرباح.
هنالك ملاحظة حول (العولمة) التي تتردد بشكل متكرر في مقولات كارل ماركس إن هذه الكلمة على ما أظن كان القصد منها (عولمة رأس المال) أي رأس المال الاقتصادي ورأس المال المالي الذي هو نتيجة تزاوج رأس المال المصرفي مع رأس المال الصناعي هو امتداده ليشمل العالم كله وليس المقصود به (مرحلة العولمة) التي ولدت من رحم الامبريالية وأصبحت لها فلسفتها وسياستها واقتصادها وسوف نستعرض هذه المرحلة بشكل مفصل في الفصول القادمة. ومن أجل زيادة المعلومات والإلمام بها بما يخص كارل ماركس أرجو النظر إلى كتاب عبقرية ماركس لكاتب السطور.

فريدريك أنجلز : (1820 – 1895) عالم في الاجتماع ولد في مدينة (بريمن) في بروسيا (اسم ألمانيا القديم) زعيم البروليتاريا ومعلمها، شارك في أنشطة ثورية مما جعل الشرطة تطارده فهرب واستقر نهائياً في انكلترا حيث وجد (كارل ماركس) وهو أيضاً نفي نفسه من ألمانيا الرفيق الأمين والحميم المتفهم صوابية الماركسية وأكثر المخلصين لها، وقد اختار أنجلز وماركس انكلترا منفى لهما لأن السلطات البريطانية كانت أقل تعسفاً من غيرها على حركة التحرر الفكري فأصبحت مركز نشاط الرفيقين ولم يكن أنجلز أقل من رفيقه ماركس علماً وإخلاصاً، واستطاع مع رفيقه استمالة الكثير من القوى المناضلة وأسسا من أتباعهما لجنة مركزية هي اللجنة المركزية الأممية ودبج الرفيقان النداء المعروف (البيان الشيوعي) عام/ 1848 وأصدراه نداءً إلى جميع عمال العالم دعيا فيه إلى الثورة العمالية ومحق البورجوازية واستبداله بحكم العمال دون سواهم وختم النداء بالعبارة التاريخية
(يا عمال العالم اتحدوا). كان رفيقه ماركس يمتاز بعظمة الإنسان وسموه ونضاله جعلت هذه الصفات من شخصيته أشبه بالأساطير وعاش فقيراً معدماً إلى آخر حدود الفقر وكان المرض ينهش في جسمه، فلا الفقر ولا المرض أثبطا من همته وإرادته ونشاطه في بث فكرته قولاً وفي سعيه لتحقيق مبادئه عملاً، ويعود الفضل في تحمل فقره ومرضه إلى رفيقه الحميم أنجلز الذي يعتبر المعين الوحيد له في مجابهة عثراته المرضية والمعيشية حيث كان يتحايل على شح أبيه ليوفر شيئاً من المال لماركس وعائلته، لأن أنجلز كان يقدر أكثر من أي إنسان آخر عبقرية ماركس والرسالة الإنسانية التي نذر حياته لها فكان لأنجلز الفضل الكبير في نشر المبدأ الماركسي سواء في سعة علمه أم في حدبه على الأسرة الفقيرة أم في مساعدة ماركس بالكتابة في الصحف والنشرات عن الاشتراكية العلمية في النظرية الماركسية، لقد تفانى وأخلص لها أنجلز كإخلاص وتفاني ماركس فأصبحا كتوأمين يكمل أحدهما الآخر حتى أصبح اسم أنجلز ملازماً دائماً لاسم ماركس، وعندما توفى ماركس بقي أنجلز حاملاً لواء النظرية الماركسية وأتم القسمين اللذين تركهما ماركس من مؤلفه الموسوم (رأس المال) فجمع مخطوطات رفيقه الأكبر عن الكتاب ونشرهما على اسم ماركس، وعندما توفى ماركس وقف على قبره يرثيه ناعتاً إياه بأكبر مفكري العصر وأكثرهم إخلاصاً وأسخاهم خدمة وتضحية من أجل الإنسانية المعذبة والمحرومة. ومن مؤلفاته كتاب مبادئ الشيوعية وكتاب ضد دوهرنيك وكتاب أصل العائلة. كما له مؤلفات مشتركة مع رفيقه الحميم ماركس.
فلاديمير أيلتش (لينين)
إن أية ثورة عظيمة في التاريخ يفكر في تخطيطها أصحاب العقول وفطاحل الفكر والمعرفة، وينفذها الفرسان الشجعان بجرأتهم وإرادتهم وإصرارهم، وبعد انتصارها تكون المحصلة النهائية للقابعين في جحورهم من المصلحين ينتظرون الفرصة المناسبة من خلال الظروف المهيأة لهم مسبقاً لاستسلام السلطة، إلا أن رجالات الثورات العظام في تاريخ الأمم تبقى حياتهم وتاريخهم وأفعالهم محوراً ونبراساً للشعوب المناضلة، لأن أي حدث في التاريخ منذ نشوء البشرية إلى يومنا هذا يبقى محفوراً في ذاكرة الناس ومطرزاً في بطون الكتب وتستعرضها الأجيال أمام منصة التاريخ، لأن مناقب وأفعال أولئك الرجال العظام وتركيباتهم الشخصية تطبع آثارها على منصة التاريخ. لقد كانت شخصية لينين وعبقريته وحياته محوراً لطبيعة أمة خرجت من صقيع السهول الباردة حتى أصبحت لفترة من الزمن (الاتحاد السوفيتي) أحد قطبي القوة العظمى للعالم في القرن العشرين، هذا الرجل العظيم الذي هيأه القدر لكي يكون قائداً لأعظم ثورة في العصر الحديث، فأصبحت حلماً يتحقق على أرض الواقع طالما تمنته الشعوب أملاً ورجاءً للمحرومين والمضطهدين والجياع. (انظر كتاب دور لينين في تطور النظرية الماركسية لكاتب السطور). ولد في اليوم الثاني والعشرين من شهر نيسان عام/ 1870، وتوفى في 21/ كانون الثاني عام/ 1924 بسبب نزيف في الدماغ. كان فلاديمير الطفل الثالث لأسرة بسيطة تنحدر من أصل بورجوازي صغير (الطبقة الدنيا في المجتمع) في إقليم أستراخان في روسيا، كان لينين لم يصنع كفاحاً من عدم وإنما بنى رحلة ذلك الكفاح على أساس كان مشيداً في أسرة مناضلة وامتداداً لكفاح أسلافه. كان الأب نيقولاي فتش يشغل وظيفة مشرف عام على المدارس في إقليم سيميرسك وهي مدينة هادئة تقع على نهر الفولفا في روسيا. وكان الأب موظفاً أميناً معروفاً بين الناس بمبادئه الليبرالية حيث كان يعرف واجبه تجاه كل الناس في الإقليم ويعتبر هذا هو كل هدفه في حياته، إذ كان هو وزوجته مسيحيين مؤمنين يحرصان على تأدية الصلوات وشعائر الدين، وكان أثناء عمله في التدريس يقف إلى جوار التلاميذ الفقراء حتى يجتازوا الامتحان ويقف إلى جوارهم في أزماتهم وظروفهم الصعبة أيضاً ولا يتقاضى أي أجر على ما يقدمه من مساعدة، وكان يجوب الإقليم عبر طرق تغطيها طبقات الوحل والطين في الربيع والخريف وتغطيها الثلوج في الشتاء تستمر إلى عدة أسابيع من أجل وضع الخطط لإنشاء وتشييد المدارس ولحل مشاكل الموظفين. وقد اعتاد على هذه الحياة بنشاط واسع والسعي لحل مشاكل الموظفين وتدريبه للمدرسين الجدد والنوم في أكواخ الفلاحين الفقراء واحتكاكه بشرائح المجتمع والتعامل الإنساني مع مختلف أصناف البشر وأن يدفع الكسل والإهمال والجهل عن ذاته وعمن في الريف الذي تسكنه طبقات فقيرة من الفلاحين مما أدى إلى إشاعة التعليم بين تلك الطبقات المسحوقة، كان وراء نجاح الأب الإصلاحات التي قام بها القيصر ألكسندر الثاني في النظم القضائية والتعليمية التي أتاحت له أن يأخذ مكانه حسب كفائته، كما كان لظهور فكرة تحرير عبيد الأرض في المجتمع الروسي دور كبير في ذلك الذي أعطى الرجال الجادين والمخلصين الفرصة كي يعملوا في مناخ عامة الشعب بحرية مطلقة، كان للإصلاحات التي قام بها القيصر ألكسندر الثاني تأثير كبير في إحداث نهضة في المجتمع الروسي.
أما والدة لينين (ماريا ألكسندر وفنا بلانك) منحدرة من أصول ألمانية، تعتنق المذهب البروتستانتي وكان أبوها يمارس مهنة الطب إلا أنه ترك مهنته بعد أن اشترى مزرعة كبيرة يعيش هو وأسرته فيها، وقد نشأت الأم وترعرعت على التقاليد الألمانية وكانت تمتاز عائلتها بالثقافة العامة والثراء. أنجبت الأم ثلاثة أولاد وبنتان إلا أن أحد الأولاد توفى فبقي الولد الأكبر (ألكسندر) الذي يكبر لينين بأربع سنوات والولد الثاني (فلاديمير الذي أطلق عليه فيما بعد اسم لينين). كان الأبوان يدللان الولدين فأطلقا عليهما اسمين من أسماء التحبب، فأطلقا على الابن الأكبر (ألكسندر) اسم ساشا، وأطلقا على الابن الثاني (فلاديمير) اسم فولوديا.
اعتاد الطفل الصغير فولوديا أن يقلد أخاه الكبير ساشا فكان جوابه حينما يسأل مطابقة لجواب أخيه وكان يقلد أخاه الكبير في كل شيء حتى أصبح مادة للتندر والدعابة في البيت كله. كان تأثر فلولوديا بأخيه ساشا كبيراً وبارزاً حتى في تنظيمه لغرفته فكانت غرفة كل منهما منفتحة على الأخرى، حيث توجد في غرفة فولوديا الكتب المدرسية وأعمال متنوعة، وفي غرفة ساشا الكتب الجامعية ومعها كتب ماركس ودارون وسبنسر وهكسلي وستوارت إلى جانب الأنابيب الزجاجية التي كان يجري فيها تجاربه الكيمياوية. كان ألكسندر (ساشا) الأخ الأكبر للينين (فولوديا) وكان مرتبطاً فيه ومتأثراً به بشكل كبير مما ترك ذلك الانطباع دوره وبصماته على حياته ومستقبله. كان ساشا منطوياً على نفسه، وكان صبوراً في طفولته ومن النادر يبكي أو يتذمر حينما كان طفلاً صغيراً، ولما بلغ أشده وصار شاباً يافعاً بدت عليه علامات حب الهدوء والتأمل وكان يمتاز بجمال الخلق والخلقة وطول القامة، إلا أنه كان ذا نظرة حزينة، كما كان في مدرسته طالباً نموذجياً استطاع أن يمتاز على أترابه.
كان ألكسندر متأثراً بأفكار كارل ماركس وأصبح معتنقاً فلسفته المادية العلمية كما كان مغرماً بروايات دستوفسكي بشكل كبير، وقد كان الطابع الموضوعي الذي تصطبغ به روايات دستوفسكي تلائم طبيعة ألكسندر، وكان من أثر طبيعته الموضوعية هذه ونزعته الفلسفية المادية أن قرر دراسة العلوم.
كان ألكسندر بعد تخرجه من المدرسة الثانوية دخل في جامعة بطرسبرج يدرس علم الحيوان، وكان مجتهداً في دراسته وهادئاً متأملاً في سلوكه، ولقد اعتنق الفكر الشيوعي إذ وجد في كتب كارل ماركس ضالته. في كانون الثاني عام/ 1886 أصيب الأب بنوبة قلبية فارق الحياة على أثرها فكانت النكبة الأولى للعائلة وبعد مرور سنة جاءت النكبة الثانية بسبب اعتقال ألكسندر مع بعض الطلبة لاشتراكه في عملية لقتل القيصر، وكان ألكسندر له إلمام بعلم الكيمياء فعهد إليه بصنع القنبلة التي اكتشفتها الشرطة حينما ألقت القبض على ستة أشخاص في مدينة (نوفسكي بروسبكت في روسيا) وهم يحملون هيكل قاموس طبي يحتوي على الديناميت والرصاص المخلوط بمادة الاستركتين، ومن خلال التحقيق وإلقاء القبض على ألكسندر الذي كان له إلمام بعلم الكيمياء. فعهد إليه بصنع القنبلة، فكان ينتقل بين معمل الكلية التي كان يدرس فيها وبين معمل خاص بتصنيع المفرقعات، حتى أنه رهن (المدالية) التي منحتها له الجامعة عن بحثه الذي قدمه عن الديدان الحلقية من أجل الحصول على المال لكي يشتري به حمض الأزوتيك الذي يستخدم في تصنيع القنبلة. في تلك الليلة المشؤومة ليلة القبض على ألكسندر كانت في زيارته أخته (آنا) فاعتقلوها هي أيضاً بالرغم من أنها لم تكن تعلم شيئاً عن نشاطه السياسي. لم يكن ألكسندر هو رأس عملية اغتيال القيصر ولكنه بشجاعة غريبة عند المحاكمة تحمل كل المسؤولية في تلك العملية، وأثبت التهمة على نفسه حتى يبرئ الآخرين من زملائه، ولقد عبر عن ذلك ببلاغة مؤثرة جداً حيث قال في المحكمة : (ليس لدينا جماهير واعية ومنظمة يمكنها كبح جماح الحكومة، كما أن المثقفين وأهل الفكر غير منظمين أيضاً وعلى حالة شديدة من الضعف، بحيث لم تكن لهم المقدرة في الوقت الحاضر أن يقاتلوا في العلن، وطبقة المثقفين الضعيفة هذه لا تتبنى مصالح الجماهير ولا تجد وسيلة في الدفاع عن حقوقها في حركة الفكر إلا بالإرهاب) كان هذا العمل الجريء والشجاع من ألكسندر ورفاقه يتبع من مطالعاتهم وتأثرهم العميق بالفكر الماركسي، مما جعلهم يشعرون بعدم استطاعة أحد أن يقوم بتحريك العمل الجماهيري بين المسحوقين والمحرومين والمضطهدين إلا بعمل بطولي يؤدي إلى القضاء على النظام السياسي القائم، ومن خلال هذا الاستنتاج كانت العملية الجريئة والشجاعة التي قامت بها جماعة ألكسندر. فكانت عود الثقاب التي أشعلت المظاهرات والإضرابات في جميع أنحاء روسيا وبالرغم من استعمال السلطات القيصرية أقسى أنواع العنف والاعتقالات في صفوف العمال والكادحين، حتى أجبرت تلك السلطات المستبدة والرأسمالية على منح العمال والكادحين حقوقهم وسنت بعض التشريعات لصالحهم وهي : (التفتيش عن المصانع وتحريم تشغيل الأطفال ورفع القيود عن العمال والمراهقين وصغار السن وإلزام أصحاب المصانع بدفع الأجور نقداً في مواعيد منتظمة، بعد أن كانوا يدفعونها حينما يرغب صاحب المعمل بدفعها).
بعد وفاة الأب وإعدام ألكسندر أصبح فلاديمير (لينين) هو الرجل الوحيد في العائلة فكان يلتقي في مطبخ البيت بجوار أمه يتكلم معها ويسليها ويعوض عن أخيه الكبير ألكسندر الذي كانت الأم تحبه كثيراً. كان فلاديمير يقضي فراغه في المطبخ يطالع الكتب الماركسية التي كان يحتفظ بها أخيه الذي أعدم ألكسندر، فالتقت طبيعة فلاديمير (لينين) العقلانية الحادة المقاتلة وميله إلى النقد الخشن الحاد مع أفكار أخيه ألكسندر وآراء رأس النظرية ورأس المذهب الشيوعي كارل ماركس، فكان فلاديمير يجلس في المطبخ على غطاء فرن قديم ويطالع الكتب الماركسية، فدرس الجزء الأول من كتاب رأس المال وغيرها من الكتب. تقول أخته آنا عن فلاديمير : (كان يحدثني في حماسة مشتعلة عن مبادئ نظرية ماركس وما تفتحت أمامه من آفاق حين أجيء إليه من الطابق الأعلى لأدردش معه، فكانت تنبعث منه عقيدة مبهجة مشرقة بالأمل يسري مفعولها كالكهرباء في سامعيه وقد استطاع أن ينجح في كسب الكثيرين إلى جانبه حيث كان يتكلم بحماسة وحيوية ثورية، وفي أحد الأيام حينما كنت في غرفتي في الطابق الثاني سمعت فلاديمير يصرخ ويقول : وجدتها وجدتها فأسرعت إليه فوجدته يمسك بأحد أجزاء كتاب رأس المال وقد ارتسمت على وجهه علامات الفرح والغبطة وهو يكلمني ويؤشر بإصبعه على الكتاب ويقول : وجدتها .. وجدتها).
لا شك أن إعدام أخيه الأكبر ألكسندر قد ترك أثراً كبيراً في حياة فلاديمير كما أن كلمات ألكسندر أثناء محاكمته حفرت في عقله وذاكرته وأصبحت النبراس والهدف في نضاله وعمله، فتوجه نحو مطالعة الكتب الماركسية التي خلقت الوعي والفكر عند ألكسندر ودفعته مع رفاقه إلى اغتيال القيصر وإعدامه. فوجه تلك الطرق والأساليب ورسم خارطة لها وأصبح يسترشد بالأفكار التي وجدها بكتب ماركس (النظرية الماركسية العلمية الاشتراكية) كان فلاديمير (لينين) في السابعة عشر من عمره حينما أعدم أخيه، وتقول أخته (آنا) تصف حالته (إن ما حدث لأخيه ألكسندر قد أكسبه نوعا من الحدة والصرامة بالإضافة إلى ما كان مشهوراً عنه من ذكاء وإرادة وتصميم، وكانت أخته (آنا) تؤكد أن إعدام ألكسندر قد جعل فلاديمير يفكر بجدية في الثورة حتى أنه قال للمدرس الذي أخبره عن أخيه (أن ساشا (ألكسندر) لم يكن باستطاعته أن يتصرف بطريقة أخرى).
كانت فترة الثمانينيات من القرن التاسع عشر التي اعتلى فيها القيصر ألكسندر الثالث عرش روسيا بعد مقتل القيصر ألكسندر الثاني، كانت أياماً سوداء على الشعب الروسي حيث مرت عليه فترة مجاعة شديدة أعقبها انتشار وباء الكوليرا وفي هذا البلاء وقف المثقفون الروس وقفة شجاعة وجريئة وكان على رأسهم الأديب (تولستوي) الذي كان يناهز عمره الثالثة والستين فجمع أفراد أسرته من أجل العمل في خدمة الناس، فأنشأوا مئات المطابخ لإطعام الناس الجياع، ووزع الخيول والحبوب على الفلاحين.
وفي هذه الظروف الصعبة قام القيصر بإلغاء جميع المشاريع الإصلاحية السابقة التي وضعها سلفه والتي اعتبرها القيصر الجديد تنازلاً لطبقة المثقفين مما جعله يتمادى في غطرسته واتبع سياسة رجعية في مسيرته المتطرفة حيث قام بدعم الكنيسة الأرثوذكسية وإضعاف المجالس المحلية، ووضع الفلاحين تحت كابوس الحكم المستبد المطلق، وأقام سداً أمام نفوذ الغرب الأوربي في روسيا، حتى أنه أجبر رعايا تلك الدول من الألمان والبولنديين والفنلنديين وغيرهم المقيمين في روسيا على التكلم في اللغة الروسية فقط ومنعهم من التكلم بلغتهم الأصلية، كما أن هذه القرارات تعني إعادة نظام القنانة إلى المجتمع الروسي الذي ألغي من قبل القيصر السابق وإعادة السلطة المطلقة لكبار الملاكين الزراعيين وكذلك سلطة الكنيسة، مما أصاب رجال الفكر وأصحاب الأقلام الحرة الذين كانت لهم لهفة التغيير للنظام الرجعي في روسيا وتحويلها إلى روسيا حديثة، أصابهم اليأس والإحباط، مما أدى إلى حدوث تيار اندلع بين الطلاب بدأً من موسكو ثم امتد فوصل إلى مدينة (كازان) الذي كان يدرس فيها فلاديمير (لينين). فتجمع الطلاب في اجتماع حاشد وطالبوا فيه السلطات الحكومية والقيصر بالذات إلى إلغاء تلك القرارات الرجعية وإعادة حقوقهم التي كان النظام الرجعي قد سلبها منهم، وحينما علمت الشرطة بالأمر ذهبت إلى بيت فلاديمير وألقت القبض عليه باعتباره المحرض الأول لتلك المظاهرة الطلابية مما أدى إلى طرده من الجامعة ونفيه من مدينة (كازان) التي كان يدرس بها، حاولت أن فلاديمير من خلال طلب التماس إلى رئيس الجامعة بإعادته إلى الجامعة إلا أن الطلب رفض وكتب على هامشه (أليس هذا شقيق ألكسندر ؟). وبعد انتهاء فترة النفي تركت الأم مدينتها السابقة (سيمبرسك) واشترت داراً في مدينة (كازان) في حي يسكنه التتار الفقراء والمسحوقين حيث حدث التحول الخطير لفلاديمير في مسيرته النضالية. فقد التقى مع ماركسي مهم في ذلك الوقت يدعى (فيدوسبيف) كما تعرف على أحد رجالات الحركة الشيوعية (تروتسكي) وأخذ يقرأ ويوزع النشرات التي تصدرها الجماعات الماركسية التي تعرف بـ (تحرير العمل) وهذه النشرة أسسها بعض الروسيين المنفيين في سويسرا.
أعادت الأم محاولة إعادة فلاديمير إلى التعليم، فذهبت إلى بطرسبرغ لتقديم الالتماس بنفسها إلى وزير التعليم وشرحت بالتماسها أنها كأم وتشعر بالعذاب حينما تنظر إلى ولدها وترى أحسن سنوات عمره وهي تمر دون أن يستطيع الاستفادة منها فنجحت في الحصول على إذن لفلاديمير كي يؤدي امتحانه النهائي في كلية الحقوق في إحدى الجامعات، فذهب فلاديمير إلى بطرسبرغ حتى يعرف ما عليه لإتمام دراسته، فالتقى بالجامعة مع أحد معارفه واستطاع الحصول منه على كتاب المفكر الماركسي (فريدريك أنجلز ضد دوهرنج) فقرأه ودرسه بتعمق حتى فهم وجهة النظر الماركسية منه بشكل أعمق. في هذه الفترة أخذت الأفكار الاشتراكية تنشر أفكارها في جميع أنحاء العالم، وظهر في روسيا في تلك الفترة الماركسي الروسي (بليخانوف) رئيس تحرير جريدة العمل الذي ألقى خطاباً في العمال الروس بمناسبة إصدار البيان الشيوعي عام/ 1848 الذي قال فيه (يا عمال العالم اتحدوا) فألهب حماسهم. وفي ألمانيا حصل الحزب الاشتراكي الديمقراطي في الانتخابات على مليون وخمسمائة ألف صوت مما أثار خوف البورجوازية الألمانية ودفعت بالمستشار الألماني حينذاك (بسمارك) إلى إصدار تشريع في عام 1878 يلغي فيه الحزب الاشتراكي الديمقراطي واعتباره خارج القانون، إلا أن جماهير الشعب الواسعة خرجت في مظاهرات عارمة مما دفع بالمستشار (بسمارك) إلى إلغاء ذلك التشريع نزولاً على رغبة الشعب، ونتيجة لتطور الوعي الفكري الشيوعي في روسيا، أصبح العمال الروس يتبادلون مؤلفات ماركس وأنجلز ولاسال سراً فيما بينهم. حينما رأى فلاديمير انتشار المبدأ الذي يؤمن به، ووجد كل القوى تؤازره، فما كان منه إلا أن يزج بنفسه في صراع حام مع حزب الشعب الذي كان يعتنق الفكر الليبرالي حتى وضع الحزب في موضع حرج أمام الشعب، وصارت رجالات الحزب تنظر إلى فلاديمير بخوف وتهيب بفعل طبيعته الثورية الحادة وأسلوبه العنيف.
كان فلاديمير يعتبر الظلم والكبت الذي كان منصباً على الشعب الروسي من صنيعة القيصر، يجب عليه أن يدور حوله بحرص شديد وحذر، بالرغم من أن إيمانه القوي وثقته الكبيرة بإرادته وتصميمه ستمكنه من أن ينال منه مأربه، إن مبعث قوة وإرادة فلاديمير وطبيعته الصلبة ونزعته الفكرية وتربيته العائلية وإعدام أخيه أورثته الصلابة والإرادة والإصرار مع الدقة والإتقان في العمل، على خلاف ما كان مشهوراً عن المثقفين الآخرين، فقد كان ثابت العواطف، ينتمي إلى ظروف خلقتها قسوة الحكم القيصري، فصهرت إنسانيته وأحرقتها في بودقة مع المظلومين والمحرومين والكادحين فأصبح ثورياً لا يرى إلا الهدف الذي يناضل من أجله. كان فلاديمير قد تعلم أن على المرء أن يظل حياً إن كان يريد أن يصارع القيصر رجلاً لرجل، فانطلقت حياته في مسار جديد وتقلد الاسم الحركي الذي عمل به (لينين). سافر لينين من مدينة سمارا في خريف عام/ 1893 وكان في الثالثة والعشرين من عمره وأصبح الآن متخلصاً من هويته الاجتماعية واكتسب صفات الثائر المتمرد. ألقي القبض عليه من قبل السلطات القيصرية عندما حاول الدخول إلى مدينة بطرسبرغ من طريق تسازكو – سيلو، وكان هذا الطريق تحت حراسة مشددة فنفي إلى سيبيريا عند نهر (بنسي) الذي يبعد ألف ميل عن موسكو، كان المنفيون يسعون للبحث عن وساطة تنقلهم من هذا المكان ولكن لينين كان يمتلك الإرادة والتحدي ويصر على البقاء ويتمنى أن يرسل له رفيقٌ ينسجم معه، ولكن يا ترى من سيكون ذلك الرفيق الذي سيتحمل هذه الحياة الشاقة، حياة المنفى؟ ويمتلك تلك الروح الثورية التي تعينه وتساعده على جهد الكفاح، فكانت تلك الرفيقة المناضلة (نادزدا كروبسكايا) التي ما أن وصلت إلى منفاها في سيبيريا حتى تزوجت من لينين، كانت كروبسكايا تنتمي إلى طبقة الأغنياء، لكن تغييراً وتحولاً حصل بأسرتها مما جعلت أمها تعمل مربية للأطفال بعد أن تركت المدرسة، أما أبوها فكان ضابطاً في الجيش، أرسل في عام/ 1863 إلى بولندا للقضاء على تمرد حدث فيها، إلا أنه شعر بالتعاطف مع البولنديين حينما رأى الجيش الروسي يمارس معهم شتى أنواع التعذيب والإهانة، وباعتباره ضابطاً في الجيش ومسؤولاً عن تلك المنطقة فأمر بعدم ممارسة التعذيب والإهانة وبنى لأهل البلد مستشفى، وحينما علمت السلطات الروسية بتلك الأعمال الإنسانية اتهمته بالخيانة وعدم الإخلاص والحكم عليه بالطرد من الخدمة العسكرية، مما دفعه إلى العمل في وظيفة (مندوب للتأمين) مما اضطره إلى الانتقال من مدينة لأخرى، مما أتاح لابنته (كروبسكايا) في التعرف على أنماط كثيرة ومختلفة من الناس، فتوفى والدها وكان عمرها أربعة عشر عاماً ولم يعد لها من معيل سوى راتب ضئيل تعيش به فاضطرت أن تعمل كمعلمة في إحدى المدارس الليلية وفي الصباح كانت تواصل دراستها حتى استطاعت أن تحصل من إحدى الكليات الخاصة بالنساء في بطرسبرغ. كانت كروبسكايا مولعة بالقراءة لتولستوي مما أثر في شخصيتها، فاستغنت عن جميع مظاهر الترف في الحياة، وأصبحت مدرسة لدرس الجغرافية في إحدى المدارس، وكان يوم الأحد الذي هو عطلة رسمية مخصص لتعليم العمال، فأصبحت هذه المدرسة مرتعاً للفكر الماركسي مما أتاح لها قراءة مؤلفات ماركس مما جعلها أن تصبح ماركسية من الطراز الأول، كانت تمتاز بنظرات حادة متمردة وترتدي ثوباً ذا أكمام منتفخة يغطي رقبتها تعرفت على لينين في عام/ 1894 (قبل نفيها إلى سيبيريا والزواج من لينين) عندما كان لينين يتردد على المدرسة في أيام الأحد ويلتقي مع العمال، فأصبحت مرتبطة به في مزاولة العمل السياسي وكانت تقوم بتوزيع المنشورات التي كان يكتبها لينين بخط يده على مصانع العمال، وأصبحت منتسبة إلى جماعة من السياسيين تعرف بـ (جماعة الجهاد في سبيل تحرير العمال) وكان مؤسسها ورئيسها لينين.
في أواخر القرن الثامن عشر ازدهرت النظرية الماركسية في روسيا وظهر لها دور فعال بين الجماهير مما حدا بحكومة القيصر ملاحقتهم وإلقاء القبض عليهم وإلقائهم في السجون مما عرض الفكرة والحركة إلى الخطر مما دفع لينين إلى التفكير في إصدار جريدة تطبع خارج روسيا فقام بجمع المال اللازم وعمل الترتيبات، بعد أن أتم له ذلك سافرا إلى ميونخ في ألمانيا وبعد أن استقر به المقام رحلت إليه زوجته (كروبسكايا)، وبجهودهما تم إصدار صحيفة أسكرا (الشرارة) في يوم 21/12/1900، ثم أصدر مجلة (زاريا) أي الفجر. وكانت الشرارة والفجر تنشر المواضيع باسم لينين الصريح بعد بزوغ نجمه في الظهور في سماء روسيا، وكانتا تهربان إلى روسيا في أكياس ولفائف الأسماك الضخمة وشحنها إلى روسيا وبعد ذلك يتم توزيعها على الشعب في سرية تامة.
التفكير بالثورة
بعد أن ازدهرت وشاعت النظرية الماركسية بين جماهير الشعب الروسي أدرك لينين بأن النظرية الماركسية لا يمكن أن تخلق الثورة بمفردها وإنما يجب بناء حزب يتخذ من النظرية الماركسية نبراساً له ويسترشد بها بحيث يصبح حزباً جماهيرياً واسعاً يمتلك إيديولوجية، وهذا الحزب لا يمكن بناءه وترسيخ أسسه الفولاذية إلا من خلال التنظيم الحديدي الذي يخلق الإرادة ووحدة العمل للطبقات الكادحة ويحقق الأهداف التي يناضل من أجلها، كما يعبر التنظيم عن الانضباط والالتزام الذي يسود بين أعضاء الحزب عن طريق الاصطفاف في تنظيمات منضبطة تسودها وحدة الإرادة والتصميم هذه التنظيمات المنضبطة والملتزمة. ومن أجل أن تكتمل جميع هذه المكونات يجب مد الجسور إلى جماهير الشعب الواسعة التي هي صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة والتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي فتم تأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وبعد انتصار ثورة أكتوبر/ 1917 بقيادة لينين وتحالف العمال والفلاحين تم تغيير اسم الحزب فأصبح اسمه الحزب الشيوعي في مؤتمر عقده الحزب في آذار/ 1918 ونفذ ثورة أكتوبر العظمى عام/ 1917.


قوانين التطور في النظرية الماركسية
إن النظرية الماركسية تمتاز بالعلمية مما جعلها تتصف بالتقدم والتطور والديناميكية مع تقدم وتطور الحياة والمجتمع، كما أن جميع مكوناتها (المادية العلمية والديالكتيكية والاقتصاد السياسي) ترتبط بالإنسان وسعادته ورفاهيته وتطوره مما جعلها تتناسق وتنسجم مع التقدم والتطور الإنساني نافية عنها ورافضة للثبات والجمود وعدم الحركة والتغيير، ولذلك أصبحت تسير في تقدمها وتطورها في مراحل، وبما أن البورجوازية ولدت من رحم الإقطاعية فإن الاشتراكية ولدت من رحم البورجوازية، وبما أن النظرية الماركسية هي الإيديولوجية لنضال الطبقة العاملة والكادحين من أجل تحقيق الاشتراكية، وبما أن النظرية الماركسية تعتبر أن كل شيء في الوجود في حالة تطور دائم ولا يبقى على حاله ثم يفنى لأن ذلك الشيء لا يمكن فصله عن سواه في الحياة أي أن يكون النظر إلى الشيء دائماً لا بمعزل عما يحيط به وإنما في إطار ما يحيط بها وهذا القانون ينطبق على الأشياء والأفكار مما يعني عدم وجود تغيير كيفي في الحياة في أي شيء وإنما تصبح كل التغيرات كمية، وأن التغيرات الكيفية هي في حد ذاتها عبارة عن مجموعة من التغييرات الكمية الصغيرة والمتتالية، ومن خلال هذا القانون يصبح أي شيء في الوجود يحمل بذرة فنائه أي نقيضه وتصبح الطبقة العاملة والكادحين حفارة قبر الطبقة البورجوازية لأن هذه الطبقة حينما ولدت من رحم الإقطاعية ولدت معها بذرة فناءها بخلقها للطبقة العاملة المتمثلة بالمرحلة الاشتراكية حينما أخذت تشيد المصانع والمعامل فأصبحت بحاجة إلى قوة عمل تدير وتعمل في هذه المصانع والمعامل فأصبحت تستغل الطبقة العاملة وتسلب منها حقوقها وامتيازاتها ومع مرور الزمن ونتيجة للحركة والتطور يصبح لذلك الشيء نقيضه وإن هذا النقيض هو الشيء نفسه (أي الطبقة العاملة ولدت من رحم البورجوازية) ولكن في نفس الوقت يصبح عكسه ونقيضاً له فيحدث الصراع بين النقيض والأصل ويكون النصر حسب حتمية التاريخ للنقيض الوليد الجديد (الطبقة العاملة متمثلة بالنظام الاشتراكي) كما أن وحدة المتناقضات تكون نسبية في الأصل ومؤقتة وعابرة، إلا أن الصراع والتناحر بين هذه المتناقضات يعتبر شيئاً مطلقاً كما قال عنها لينين، وفي نزعة الفلسفة الكلاسيكية الألمانية يشير الفيلسوف (نيتشه) في تفسير مجريات الطبيعة والمجتمع بالفعل الحاسم للصراع المؤدي إلى إزاحة الآخر كشرط أساسي في التطور من أجل البقاء للأصلح. ومن أجل المزيد في عرض هذا الموضوع نشير إلى الديالكتيك الماركسي وعلاقته في منطق الحركة على اعتبار أن أية حركة شاملة تميز كل وجود، ولذلك يجب أن نستخلص الملامح للحركة المشتركة بين حركة المادة (الطبيعية) وحركة المجتمع الإنساني وحركة المعرفة للإنسان (العلم والفكر الإنساني، من خلال الديالكتيك المادي الذي بلوره وطوره كارل ماركس ورفيقه فريدريك أنجلز اللذان يؤكدان من خلاله مجرى واقع هذه الملامح المشتركة للحركة الشاملة الذي يتجلى على ثلاثة مستويات :-
1- ديالكتيك الطبيعة : هو ديالكتيك موضوعي كلياً أي مستقل عن الوجود الإنساني وعن مشاريع الإنسان ونواياه وحوافزه، وهو لا يفعل في التاريخ البشري. إلا أنهما لا يستبعدان أن تتمكن البشرية من خلال تطورها باستخدام قوانين تستطيع تكييف بيئتها الطبيعية.
2- ديالكتيك التاريخ : يعتبر هذا الديالكتيك موضوعي إلى حد بعيد حيث يشكل اقتحام الطبقة العاملة والكادحين القاضي بإعادة بناء المجتمع وفقاً لبرنامج معد مسبقاً انعطافاً ثورياً، حتى لو ارتبط وضع هذا المشروع وتحقيقه بشروط مادية موضوعية موجودة مسبقاً ولكنها مستقلة عن إرادة البشر.
3- ديالكتيك المعرفة (الفكر الإنساني) : الذي هو ديالكتيك الموضوع (الذات بامتياز) الذي ينتج عن تفاعل مستمر بين الموضوعات المطلوب معرفتها التي تخص كل فرع من العلوم والتي تسعى وتعمل الذات على فهمها بشروطها ووضعها الاجتماعي ووسائل النقض الموروثة الموضوعة تحت تصرفها مثل وسائل العمل والمفاهيم وتحويلها عبر النشاط الاجتماعي.
إن كل ما هو معروف من خلال البيانات وما له من علاقة بديالكتيك الطبيعة إنما تمت معرفته بواسطة الدماغ والفكر والممارسة الاجتماعية التي تحددها شروط وجودنا الاجتماعي، إلا أن هذا الواقع البديهي لا يحول دون أن نتمكن من معرفة أن الحياة أقدم من الفكر الإنساني وذلك من خلال طريق البراهين العملية المتعددة التي قام بها الإنسان، وأن الأرض أقدم من الحياة، والكون أقدم من الأرض، وأن كل هذه الحركة هي حركة مستقلة عن العمل وعن وجود الإنسان أو فكره، وأن الفكر الإنساني ذاته هو ناتج تلك الحركة، فالفكر هو المادة التي تعي ذاتها، ذلك هو المعنى الدقيق لمفهوم الديالكتيك المادي الذي طرحه ماركس ورفيقه أنجلز. للديالكتيك ثلاثة قوانين رئيسية هي :
1- قانون وحدة وصراع الأضداد.
2- قانون الانتقال من التغيرات الكمية إلى التحولات الكيفية.
3- قانون نقض النقيض.

1- قانون وحدة وصراع الأضداد :
يقصد بالأضداد جوانب خصائص الأشياء وظواهر المجتمع والفكر التي يناقض بعضها البعض، ولكن في نفس الوقت يستلزم وجود بعضها البعض (وجود النقيضين في جسم واحد) أو بعبارة أخرى لا يمكن أن يوجد النقيض بدون نقيضه. ويمثل الأضداد في المغناطيس القطبان الموجب والسالب وفي الكهرباء الشحنتان السالبة والموجبة وفي الذرة البروتون وأنتي بروتون وفي المجتمع مصالح الطبقات المتعارضة، وبناء على هذا فالتناقض الديالكتيكي يعكس العلاقة المزدوجة داخل الشيء الموحد، وحدة الأضداد وتناقضها، ولا يجوز فصل التناقض عن وحدة التناقضات لأن الضد لا يمكن تصوره بمعزل عن ضده وعن صلته الباطنية بهذا الضد، كما لا يمكن أن تصبح في يدك على حد تعبير أنجلز تفاحة كاملة بعد أن تكون أكلت نصفها (على اعتبار أن التفاحة تحتوي على الضد بين المتناقضين فإذا ذهب نصفها فهذا يعني ذهاب أحد الضدين، كاتب السطور).
يعتبر التصادم بين الأضداد القوة المحركة للتطور، لأن التطور نفسه عبارة عن نشوء التناقضات وحلها ثم تنشأ تناقضات محلها وهكذا، وفي الطبيعة دائماً أشياء تولد وتتطور ثم تضمحل وتزول فتولد محلها أشياء جديدة وهذا ينتج من صراع الجديد ضد القديم، يقول لينين (التطور هو صراع الأضداد) فالجديد لا يمكن أن يهادن القديم الذي يصبح عائقاً أمام تطور الجديد مما يؤدي إلى حتمية الصراع بينهما ويكون الانتصار للجديد الذي يمتاز بالحيوية والنشاط والقوة بعكس القديم الذي أصابه الهرم والشيخوخة أن التعمق في التناقضات الداخلية للظاهرة وحده الذي يمكن فهمها فهماً صحيحاً، كما أن النظر إلى الأشياء والظواهر في علاقاتها المتبادلة، في حركتها وفي تطورها وتغيرها من شكل إلى آخر هو الطريق العلمي الصحيح في دراسة الطبيعة والمجتمع، ومجانينه توقع الباحث في التناقضات، ومن خلال ذلك تعتبر الماركسية أن صراع الطبقات في المجتمع هو القوة المحركة للتاريخ في جميع المجتمعات الطبقية، وأن التناقض بين هذه الطبقات لا تحل بطريق المسالمة بل عن طريق النضال، ويفرق الماركسيون بين نوعين من التناقضات، تناقضات تناحرية وتناقضات غير تناحرية، وذلك تبعاً لظروف الحياة الاجتماعية التي يفصل ضمنها قانون وحدة وصراع الأضداد.
ففي المجتمع القائم على الطبقات المتصارعة تميل التناقضات إلى النمو والتعمق والاشتداد مما تؤدي في أثناء تطورها إلى ولادة نزاعات اجتماعية عميقة، لا يمكن حلها إلا عن طريق الثورة الاجتماعية، وعلى سبيل المثال : التناقضات بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج التي تنشأ أثناء عملية تطور أسلوب الإنتاج الرأسمالي، تتعمق شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى درجة تصبح فيها علاقات الإنتاج عائقاً يمنع ويعرقل تطور قوى الإنتاج، عنذ ذلك تندفع قوى الإنتاج في إزاحة العلاقات الإنتاجية عن طريق تطورها وتقدمها فيحل عصر الثورة الاجتماعية التي تحطم هذه العلاقات وتقيم علاقات جديدة محلها تفتح الطريق أمام التطور اللاحق لقوى الإنتاج.
أما في المجتمع الاشتراكي فلا تتخذ التناقضات طابعاً تناحرياً لعدم وجود طبقات متنوعة ومختلفة تخلق التناقضات التناحرية، ولكن يحدث أن تنشأ أثناء عملية تطور أسلوب الإنتاج الاشتراكي عدم تطابق بين قوى الإنتاج وبين علاقات الإنتاج إلا أن هذا التناقض لم يكن تناقضاً تناحرياً وإنما يجرى حلها بشكل سلمي في النظام الاشتراكي وليس عن طريق الثورة الاجتماعية كما يحدث في النظام الرأسمالي.
2- قانون تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية وبالعكس :
الكيفية هي الحد الجوهري، أو مجموعة صفات الشيء الجوهرية التي تجعل منه الشيء المعين ذاته وتميزه عن غيره من الأشياء، وتجد الكيفية تغييرها في الصفات أو الخصائص التي يتميز بها الشيء، فالمعدن يعبر عن كيفيته بخصائص مثل الكثافة ودرجة حرارة الانصهار والتوصيل للكهربائية وما شابه ذلك. أما الكمية فهي نسبة الأشياء المتشابهة كيفياً أو نسبة الأجزاء المتشابهة إلى الشيء ككل، ولذلك فهي تختلف عن الكيفية بكونها نصف الشيء من ناحية تطور خواصه كالحجم والارتفاع والعدد وسرعة الحركة وغير ذلك، فالصوت مثلاً قد يكون مرتفعاً أو منخفضاً، متقطعاً أو مستمراً، والكتاب قد يكون صغيراً أو كبيراً ... الخ. إن كل شيء من الأشياء هو عبارة عن وحدة مكونة من جانبين كمّي وكيفي يمكن للجانب الكمي فيها أن يتغير في حدود معينة تحددها كيفيته، ولذلك فإن تحطيم هذه الوحدة يؤدي حتماً إلى تشويه الشيء ذاته، ويجري التطور وفق هذا القانون عن طريق الانتقال من تغييرات كمية طفيفة، خفية وتدريجية إلى تغييرات جذرية ظاهرة أي تغييرات كيفية، ويختلف هذا الفهم للتطور جذرياً عن الفهم الميتافيزيقي الذي يرى التطور مجرد زيادة أو نقصان كما هو موجود أو بعبارة أخرى يراه مجرد عملية كمية صرفة لا ترافقها تغييرات نوعية، إن التسليم بالنظرة الميتافيزيقية للتطور يجعلنا عاجزين عن تفسير نشوء المادة الحية من المادة غير الحية، وتعليل ترقي الأنواع العليا من الحيوانات والنباتات من الأنواع السفلى وغير ذلك من المسائل التي برهن العلم عليها.
وقد استند كل من ماركس وأنجلز في صياغتهما لهذا القانون على الاكتشافات التي حققتها العلوم الطبيعية وخصوصاً قانون حفظ وتحول الطاقة الذي بَين بأن تطور المادة هو عبارة عن عملية تحول من إحدى صور الحركة إلى أخرى تختلف عنها نوعياً. يقول أنجلز في الفيزياء (كل تغيير هو عبور من الكمية إلى الكيفية، هو نتيجة التغيير الكمي لكمية الحركة كيفما كان شكلها سواء كانت ملازمة للجسم من داخله أو مضافة إليه من الخارج) ويستخدم في هذا القانون اصطلاح (طفرة) للدلالة على الانتقال الفجائي السريع بالمقارنة مع المراحل السابقة من التغييرات الكمية، وذلك مثل تحول الماء الجاري عند تسخينه ببطء فيتحول إلى بخار عند بلوغه درجة حرارة معينة. وقد طبق ماركس وأنجلز هذا القانون على دراسة المجتمع وتوصلا إلى أن تاريخ تطور المجتمع ليس تغييراً كميا لما هو موجود فحسب بل أنه عملية تقطع فيها التغييرات الكمية في مرحلة معينة بطفرة أي الانتقال من وضعية كيفية قديمة إلى وضعية كيفية جديدة، فنمو قوى الإنتاج وإنتاجية العمل في رحم المشاعية البدائية أديا إلى نشوء الطبقات الاجتماعية الأمر الذي لم تعرفه المشاعية البدائية، وكان هذا يعتبر انتقالاً إلى كيفية جديدة في تطور المجتمع، وترتبط التغييرات الكمية والكيفية فيما بينها ويستدعي بعضها البعض الآخر، فكما يحدث انتقال التغيرات الكمية إلى تغييرات كيفية، يحدث فعل كذلك بأن تتغير صفة التغييرات الكمية نتيجة لتغير الكيفية كالانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وهو تغيير كيفي يجر وراءه تغييراً كبيراً من المؤثرات الكمية تؤدي إلى الإسراع في وتائر التطور الاقتصادي والثقافي نحو الدخل القومي وأجور الشغيلة ... الخ.
هذا ويعتبر كلا النوعين من التغيرات نسبية، إذ يمكن اعتبار بعض التغييرات كيفية إذا ما قيست بصفات أكثر عمومية، فانتقال مرحلة الرأسمالية من مرحلة ما قبل الاحتكارية إلى مرحلة الاحتكار لا يعتبر تغييراً جذرياً في كيفيتها، لأن جوهرها لم يتبدل وإنما الذي تبدل بعض صفاتها.
3- قانون نقض النقيض (أو نفي النفي) :
مفهوم فلسفي يعبر عن أحد جوانب عملية التطور، استعمله لأول مرة في تاريخ الفلسفة المفكر الألماني الكبير (هيجل) وعني به التطور من الأدنى إلى الأعلى مع الاحتفاظ ببعض الجوانب والخصائص الإيجابية للقديم، وتخطيط عملية التطور كلها عند هيجل تتمحور في ثلاثة محاور (الموضوعية، ونقيضها، ونقض النقيض) أي المرحلة الأولى تنقض بالثانية والثانية تنقض بالثالثة، ويعتبر التطور الذي يحدث في المرحلة الثالثة كما لو كان عوداً إلى نقطة الانطلاق إلا أنه يعتبر انطلاقاً إلى مرحلة أعلى، وقد استخدم هيجل هذا القانون لاستخلاص مفاهيم مثالية، في حين أصبح النقيض يكتسب عند كل من ماركس وأنجلز محتوىً مادياً.
إن الفعل القانوني للديالكتيك يبين أن التطور يتضمن في ذاته مرحلة حتمية قانونية هي مرحلة النقض، فالتغيير الكيفي يعني قبل كل شيء نقض الكيفية القديمة الذي لا يمكن بدونها الانتقال إلى كيفية أخرى، كما أن انتصار أحد الضدين في عملية الصراع يعني نفياً لأحدهما وتحققاً للآخر. ويلعب النقض دوراً هاماً في جميع العمليات الجارية في المجتمع والطبيعة والفكر، ويظهر في العمليات المختلفة بصورة متنوعة. فتحول اليورانيوم إلى راديوم هو شكل من أشكال نقض أحد العناصر الكيمياوية وتكون آخر منه، كما أن نقض الزهرة بالثمرة يشكل مرحلة ضرورية في تكاثر النباتات، وإن النقض لا يعني نبذ القديم وتحطيمه وإنما يؤدي إلى تغيير وتطور القديم إلى نوع جديد يمتاز بالإيجابية، ولو كان الأمر كذلك لما أمكن التطور مطلقاً، فالاشتراكية مثلاً وإن كانت نقيضاً جذرياً للرأسمالية لكنها تحتفظ بكل ما هو ثمين وإيجابي موجود في مرحلة الرأسمالية كقوى الإنتاج التي تمثل الطبقة العاملة والكادحة والثقافة الطليعية التقدمية وغيرها، إن هذا بالذات هو الذي يفسر لنا الطابع التصاعدي للتطور، لأن الانتقال من الكيفية القديمة إلى الكيفية الجديدة إنما يجري دائماً على أساس ما تم إحرازه سابقاً، وإن الجديد باعتماده على كل ما هو إيجابي في مراحل التطور السابقة يصبح مرحلة أعلى بالمقارنة مع القديم، كما لا يسمح مفهوم (الطابع التصاعدي) بالنظر إلى التطور من خلال حلقة مقفلة، كما أن التطور لا يجري بخط مستقيم، فمفهوم نقض النقيض يعبر عن الشكل الحلزوني المتعرج الذي يسير فيه التطور، لأن النقيض المنتصر في صراع الأضداد يعتبر هو النقيض الأول وهذا نفسه يتعرض إلى نقض جديد بمرحلة أعلى من التطور فيلغي لدرجة معينة النقض السابق له ويعيد جزئياً بعض العلامات التي سبق أن نقضت بالنقض الأول وتعتبر هذه المرحلة نقطة انطلاق إلى أمام وليست عودة إلى الوراء كما في الرياضيات عندما تنقض الكمية السالبة فتكون النتيجة كمية موجبة ولكنها بالرغم من أنها عودة إلى بعض علامات الوضعية السابقة إلا أنها تمثل شكلاً أعلى.
لقد بين كارل ماركس في كتابه الموسوم (رأس المال) أن الملكية الرأسمالية الخاصة هي النقض الأول للملكية الشخصية لوسائل الإنتاج القائمة على أساس العمل الخاص، بيد أن الرأسمالية بفعل قوانين تطورها الخاصة تهيئ ظروف فنائها فيصبح انتزاع رأس المال نقض النقيض (المستغلون يستغلون) هو إعادة الملكية الشخصية ملكية الكادحين أنفسهم لوسائل الإنتاج ولكن على أساس أعلى على أساس تعاون الشغيلة الأحرار، وعلى أساس ملكيتهم الجماعية للأرض ولوسائل الإنتاج التي ينتجونها بأنفسهم.
الظاهر والباطن
الظاهر والباطن الخارجي والداخلي يعبران عن جانبين مختلفين من الأشياء أو الظواهر، فالظاهر الخارجي يدل على صفات ومؤشرات الشيء التي ترصدها حواس الإنسان، أما الباطن الداخلي فيعني ماهية ذلك الشيء ويكون عادة مخفياً عن الملاحظة والمباشرة ويتعذر مشاهدته وإبرازه إلا من خلال التحليل الذهني والنظري، وتستخدم مقولتا الظاهر والباطن لوصف مضمون النفس البشرية، فيكون الظاهر الخارجي النشاط النفسي للإنسان، أما الباطن والمقصود به مضمون النفسية الذاتية للإنسان كالانفعالات والتوجهات والبواعث العاطفية. أما الجانب الآخر في الظاهر والباطن عند مشاهدة هيكل من البناء أو كتاب فلا يمكن معرفة ذلك الهيكل أو الكتاب بالرغم من أن الإنسان يدركها من خلال حواسه، وهذا يعني لا يستطيع إطلاق حكمه على ذلك الهيكل من البناء أو الكتاب ما لم يطلع على باطنه ومضمونه. فالبناء إذا لم يدخل فيه ويطلع على مكوناته ومشتملاته ونوعية البناء والمواد المشيّد منها ذلك البناء ومكوناته الأخرى مثل الأبواب والتأسيسات الكهربائية والمائية وغيرها وكذلك الكتاب يظهر إلى حواسه من حيث شكله فقط وليس من خلال مضمونه من أفكار ومواضيع والاطلاع عليها، عند ذلك يستطيع أن يطلق حكمه ويعطي رأيه، إن ذلك ليس المقصود منه تفسير وشرح معنى الظاهر والباطن، وإنما القصد منه ما نشاهده ونلمسه عند كثير من الناس يطلق العنان للسانه ليندم ويمدح ما ليس له علم ومعرفة به سواء كان فكراً أو ديناً أو مذهباً أو نظرية أو أي شيء آخر يجب معرفتها من جميع جوانبها بشكل صحيح ومن ثم الحكم عليها.
الجدلية
تقوم الجدلية على ظاهرتين، الأولى إيجابية والثانية سلبية، ومن خلال التقاء الأولى بالثانية يولد الحوار الفكري الذي يؤدي إلى ظهور موضوعات جديدة تفرزها المحاورة، ثم تؤدي إلى ظهور أفكار جديدة، أيضاً، ومن خلال هذه الآراء والأفكار تنشأ مشاعر ورغبات جديدة يمكنها أن تخلق رؤيا وأفكار جديدة أيضاً. وحينما تحدث المحاورة بين فئة وأخرى أو إنسان وآخر يقتضي أن يكون هنالك اختلاف محدد يجري الحوار بشأنه، كما يفترض أن تكون لدى المتحاورين قناعة وشفافية ومعرفة كاملة وواسعة بالموضوع الذي يدور حوله الحوار، لأنه ما الفائدة إذا كان أحد المتحاورين يجهل الموضوع ؟ كما يجب على المتحاورين أن لا يشعر أحدهما ويعتبر نفسه يمتلك الحقيقة المطلقة وإنما توجد لديه حقيقة نسبية، وأن يقتنع كل منهما بأنه يمتلك آراءً مختلفة صائبة وخاطئة، ومن خلال الحوار الهادئ والشفاف يمكن التقارب بين وجهات النظر والأفكار المختلفة حتى يتم الوصول إلى رؤيا مشتركة يتم الاتفاق عليها، ومن خلال الحوار يفترض الانفتاح الذهني والاستعداد التام لاحترام الرأي الآخر والتعايش معها بشفافية ورحابة صدر. وهنالك ظاهرة عير صحية تحدث أثناء المحاورة يجب تجاوزها، عند الحوار يوجه أحد المتحاورين سؤالاً أو استفساراً إلى الطرف الآخر وبدلاً من الاستماع والإصغاء إلى الجواب يشغل فكره بسؤال أو استفسار آخر أو مقاطعته مما يؤدي إلى عدم استيعاب الموضوع الذي يجري حوله الحوار. كما يجب على المتحاورين عدم الانفعال والخروج عن موضوع الحوار مما يؤدي إلى إثارة الحساسية والبغضاء بينهما، لأن الحوار فكري ويمتلكه إنسان، وكما هو معلوم ليس هناك في الوجود إنسان يشبه إنسان آخر من حيث التكوين النفسي والتربية والبيئة والثقافة والفكر مطلقاً وإنما هنالك نسبية في هذه المكونات تؤدي إلى الصداقات والتقارب في الأمزجة والهوايات والأهداف. يقول مؤسس الفكر الاقتصادي الرأسمالي (آدم سمث) : (لو توحدت الأفكار لبارت السلع) ومن خلال ذلك نلاحظ في حياتنا اليومية، البزاز يجلب إلى محله أقمشة ذات نوعية وأشكال وألوان مختلفة لأن أمزجة الناس وأذواقها مختلفة، وكذلك بائع الأحذية يجلب إلى معرضه أنواعاً وأشكالاً وأحجاماً وألواناً مختلفة لنفس السبب.
من خلال ما تقدم يجب أن لا يؤدي الاختلاف في الفكر إلى خصومة وبغضاء لأن الإنسان عند المحاورة يطرح فكرة ووجهة نظره وهو لا يمتلك المطلق في ذلك وإنما ينطلق من النسبية، لذلك حينما يختلف أحدهما مع الآخر أو يتفق معه يجب في كلا الحالتين أن تسود العلاقة الطبيعية المقرونة بالاحترام والتقدير بين المتحاورين، فمثلاً حينما يقول لك المتحاور معك أن قميصك أبيض فتقول له كلا إن قميصي أزرق فإن ذلك لا يؤدي إلى الزعل والبغضاء ونفس الشيء في المحاورة وطرح وجهات النظر المختلفة بين الناس.
جدلية الفكر الماركسي
تنطلق جدلية الفكر الماركسي من جدل الفكر مع الواقع الموضوعي من حيث الزمان والمكان والفردانية الشخصية، ويرى أن المطلق الوحيد في هذا المجال هو نسبية الأفكار، ويعتبر الفكر الأكثر فاعلية للحياة والحيوية والتأثير هو الفكر الذي تكون متغيراته وحركته أكثر من ثوابته. حينما ننظر للمجتمعات البشرية نلاحظ عدم وجود تصور كامل وتام وثابت من جميع النواحي بحيث يمكن تطبيقه على تلك المجتمعات في كل زمان ومكان، لأن لكل عصر متطلباته ولكل مجتمع احتياجاته المتغيرة والمتجددة باستمرار مما يحتم على المفكرين والباحثين دائماً تقديم رؤى وتصورات تلائم وتنسجم مع تطور المجتمع وتقدمه.
لنسبية الفكر ثلاثة أبعاد :
1- نسبية زمانية : حيث أن ما نعتبره اليوم صحيحاً قد يكون العكس غداً، بسبب تبدل الواقع (أي الأمس لا يشبه اليوم، واليوم لا يشبه غداً).
2- نسبية مكانية : حيث أن ما يصح في مجتمع ما، قد لا يصح في مجتمع آخر في الزمان ذاته، وذلك بسبب تغيير الواقع الذي يعيشه المجتمع (أي ما موجود في المجتمع البريطاني، يختلف عما موجود في المجتمع العراقي).
3- نسبية شخصية أو فردانية : حيث أن كل فرد في المجتمع سواء كان مفكراً أو باحثاً أو مجتهداً يفهم الفكر ويتعامل معه وفق خصائصه الشخصية من حيث تكوينه العقلي والنفسي والبيئة الاجتماعية التي نشأ وترعرع فيها وهذا يعني عدم وجود إنسان يشبه إنسان آخر في الوجود مطلقاً.
دور الجدلية الديالكتيكية في التطور والتقدم
في مطلع القرن التاسع عشر تقدم الفيلسوف الألماني الكبير (هيجل) بنظريته عن التطور الديالكتيكي التي صورت العالم في حالة من الحركة المستمرة، في حالة من التغيير والتطور والتحول مصدرها التناقضات الداخلية. وقد طبق (هيجل) ديالكتيكه هذا في نظريته عن المفاهيم إلا أن (هيجل) كان مثالياً مما أدى أن يقع أسلوبه الديالكتيكي في تناقض مع نظريته التي استوجبها ضيق أفقه الطبقي، لأنه لم يعترف بأن الفكر نتاج المادة وانعكاساً لحركتها في دماغ الإنسان، بل أعتقد بأن الفكرة المطلقة هي التي صنعت المادة وبناء على هذا الفهم للمسألة، بأن الوعي ليس هو الذي يجب أن يوافق الواقع الموضوعي، بل على الواقع أن يخضع إلى التراكيب الذهنية التي تستخلصها فلسفة (هيجل) عن طريق التأمل، إلا أن نظريته هذه لم تجعل الديالكتيك أن يصبح علماً عن القوانين العامة لتطور الطبيعة والمجتمع والفكر إلا على يدي ماركس وأنجلز، حيث أقام هذان الفيلسوفان ديالكتيكهما على أساس الاكتشافات العلمية الثلاثة في القرن التاسع عشر، وهي اكتشافات الخلية الحية وقانون حفظ وتحول الطاقة ونظرية دارون عن النشوء وارتقاء الأنواع، كما أنهما أخذا من ديالكتيك (هيجل) لبه العقلي بعد أن أزالا عنه قشور المثالية، فعلى الضد من (هيجل) لم يتخذ ماركس وأنجلز الفكرة المطلقة عن الديالكتيك الهيجلي فحسب بل بشكل يعارضه من حيث الأساس.
إن الميزة الأساسية للديالكتيك الماركسي هي النظرة الموضوعية للظواهر والسعي لفهمهما كما هي في الواقع، والنظر إليها في علاقاتها المتشابكة وفي حالة حركتها وتطورها. وبتطبيق هذه الطريقة الديالكتيكية على دراسة الظواهر الاجتماعية يكون ماركس وأنجلز قد حققا انقلاباً في علم الاجتماع، وقد ظهرت دراسة وصياغة الديالكتيك الماركسي في المؤلفات الأساسية (رأس المال) لماركس، وانتي دوهرنك ولورفيك فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية لأنجلز.
لقد هبط لينين بالفلسفة المادية من سماء العلوم الطبيعية والمعرفة العلمية المجردة والافتراضات الفلسفية الصرفة إلى أرض الواقع في ثورة أكتوبر الاشتراكية عام/ 1917. وأصبحت المعركة معركة الجماهير بين الطبقات المضطهدة والمحرومة والكادحة والمستغَلة وبين الطبقات المستغِلة، ليست عراكاً فلسفياً وإنما حولت الأفكار والقوانين العلمية من مجال الفلسفة إلى صراع ونزاع طبقي من خلال الظواهر والتطورات والفوارق الاجتماعية وانتقلت النظرية الماركسية من أفقها النظري إلى الممارسة الواقعية التأسيسية، فتحولت من ممارسة ثورية لانتصار الثورة إلى سلطة ثورية منتصرة في سياق أوضاع سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية عالمية مضطربة ومعقدة، وأصبحت النظرية الماركسية هي النبراس ومصدر المشروعية لهذه الثورة ومرجعيتها الفكرية والعملية الأساسية وقد اتخذت من قوانين الجدلية الديالكتيكية (قانون وحدة وصراع الأضداد وقانون تحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية وبالعكس وقانون نقض النقيض) في الطبيعة والمجتمع والاقتصاد، أساساً في تطورها اللاحق حتى تفوقت من الناحية الاقتصادية على أكثر الدول الأوروبية تطوراً وتقدماً والثانية في العالم بالنسبة لمستوى الإنتاج الصناعي وأصبح بلداً صناعياً وزراعياً قوياً.
من خلال مقارنة بين روسيا قبل الثورة حينما ألغى القيصر ألكسندر الثالث الإصلاحات التي قام بها سلفه القيصر الثاني وأعاد سلطة الإقطاع وعصر القنانة إلى المجتمع الروسي، ونذكر نبذة من كتاب عالم الاجتماع الفرنسي (جورجيس فريدمان) الذي نشره عام/ 1938 عن وضع روسيا السياسي والاقتصادي والاجتماعي قبل ثورة أكتوبر عام/ 1917 فيقول (كانت روسيا القيصرية في عام/ 1913 أبعد من أن تكون بلداً غنياً، وكان ثمة تطور صناعي حقيقي منذ عام/ 1880 ولكنه كان لا يزال محدوداً، فإنتاج الطاقة المنتجة للمواد الخام (النفط والفحم) فاقت الإنتاج الصناعي الفعلي، وإن هذا التصنيع لم يغير بالعمق البنى الريفية لهذا البلد الشاسع، إذ كانت الصناعة مركزة في مناطق قليلة (بطرسبرغ وموسكو ودويناس وباكو ومناطق الأورال) أما الزراعة فقيرة وقديمة الأسلوب بسبب المعدات القديمة، والاستخدام الضئيل للأسمدة الكيمياوية والاستعمال البدائي غير العلمي في الزراعة، بحيث أصبحت المردودات واطئة جداً وكان عدد سكان الريف أكبر بالقياس إلى حجم الأرض المزروعة، وكتب يقول : إن قوى الظلام مسيطرة على روسيا المقدسة، وإذا حكمنا إلى العديد من ملامح روسيا وأغلب سماتها في الحقيقة فإنها كانت لا تزال في القرون الوسطى، وهذا يبدو أكثر صدقاً لو أن المرء يدرس وعي سكانها وعقليتهم وأيديولوجيتهم، ويواصل حديثه فيقول : واليوم عليك أن تذهب إلى أقطار فقيرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية أو الشرق الأقصى لتفهم هذا التخلف، ولتدرك في ظل أي ظروف بالتحديد كان على الاشتراكية أن تبنى، كانت الدولة القيصرية متميزة بالنزعة الاستبدادية والممارسة التعسفية للسلطة الأتوقراطية، ولم تكد ثورة/ 1905 تغير الوضع والحقوق الأساسية، مثل حرية الكلام وحرية الصحافة وحرية عقد الاجتماعات وتكوين الأحزاب والمنظمات الاجتماعية، ولم تكن موجودة عملياً، ولم تكن ثمة مؤسسات تمثيلية ولا انتخابات عامة، ومجلس دوما (مجلس النواب) لم يكن أكثر من جمعية استشارية منتخبة وفقاً لنظام معقد يُحابي ويصطف بجانب الملاكين الزراعيين على حساب الفلاحين وكذلك العمال، ولم تكن هناك مؤسسات ولا ثقافة ديمقراطية أو سلوك ديمقراطي، والصحافة شأنها شأن الأدب والفن مكبوتة وملاحقة من قبل الشرطة السياسية، وكان القيصر عاهلاً شرفياً مؤلهاً يحيط به النبلاء والأرستقراطيون المنتسبون إلى الصفوف المختلفة للبيروقراطية القيصرية.
إن الحرية الشخصية لم تكن موجودة لأن الشرطة القيصرية كانت تستطيع اعتقال من تريد حينما تريد، وكان المرء يحتاج إلى جواز سفر كي يستطيع أن يسافر ضمن الإمبراطورية، وإلى عدد كبير من التأشيرات من أجل الخروج حتى يستطيع السفر خارج الإمبراطورية الروسية، وكانت الإدارة المدنية غير كفوءة وفاسدة بممارساتها وقبول الرشاوي، وكان القيصر يعظم مثل الآلهة ويحكم بالحديد والنار ولدينا صورة من سلوك وطبائع ذلك الحكم (يوم الأحد الدموي والمأساوي ففي يوم 22/ كانون الثاني عام/ 1905، عندما أعطى القيصر أوامره إلى الشرطة بإطلاق النار على جمع كبير من الناس العزل جاءوا يلتمسون منه تلبية مطالبهم المشروعة إليه في قصر الشتاء). كان القيصر يعتبر نفسه على رأس دولة كلية الحضور والجبروت، أشبه ما تكون بالمماليك الإغريقية المبكرة والإمبراطورية البيزنطينية أكثر منها بالدولة الحديثة في أوائل القرن، ذلكم هو ميراث الماضي، وكان ممكناً إزالته في الواقع وإصدار القوانين، ولكن لم يكن بالإمكان اجتثاثه من وعي الناس، وكان يمكن تحطيمه بالقوة، ولكن لم يكن بالإمكان إبعاده فوراً من الروح الإنسانية ولا من السلوك اليومي، وهذه هي الحقيقة المزعجة التي تأكد منها البلاشقة في عام/ 1922، وقد أضيفت إلى هذه الظواهر عواقب الثورة والتدخل الأجنبي والحرب الأهلية في عام/ 1917.
بعد ثورة أكتوبر / 1917
واجهت لينين بعد انتصار الثورة ظروف عصبية جداً، حيث كانت الحرب العالمية الأولى مندلعة وفي سنواتها الأخيرة، فتدخلت دول الحلفاء ومعها دول أوروبية حتى ألمانيا التي كانت من دول المحور المعادي لدول الحلفاء بكامل أسلحتها ومعداتها الحديثة ضد الثورة الوليدة من أجل القضاء عليها، وكان الامعة العجوز (تشرشل) وزيراً للمستعمرات في الحكومة البريطانية آنذاك، يصرخ من لندن ويحرض دول العالم الرأسمالية بالقضاء على الشيوعية التي ما زالت في البيضة، وفي عام/ 1918 استطاع الجيش الألماني من احتلال أوكرانيا، وفي نفس العام بعد فشل الجيوش الأوروبية الرأسمالية من القضاء على الثورة، نظم الحرس الأبيض الذي كان يقوم بحراسة القيصر جيشاً حاولوا فيه استرداد مدينة بتروغراد من الثوار البلشفيين (الشيوعيين)، وفي آذار/ 1918 تمرد ثلاثون ألف عسكري تشيكي كانوا أسرى لدى الحكومة القيصرية في الحرب العالمية الأولى/ 1914، وحينما استلمت الدولة السوفيتية السلطة في ثورة أكتوبر/ 1917 أطلق سراجهم، وبدلاً من أن يعودوا إلى وطنهم، تمردوا بإيعاز من أعداء الثورة وتحريض من حكومتهم. وقام الملاك الزراعيين (الكولاك) بحرق إنتاجهم الزراعي من الحبوب وذبح ماشيتهم من البقر والخنازير والأغنام ورميها مع الحليب ومشتقاته في نهر الفولغا.
أما الوضع الاقتصادي والزراعي والاجتماعي الذي تزامن مع تلك الظروف الصعبة، كان الأسوأ، حيث اختفت في الواقع الصناعة باستثناء إنتاج الأسلحة التي كان يحتاجها الثوار في الدفاع عن ثورتهم ووطنهم، وهبوط الناتج الزراعي والحيواني إلى النصف وكان نتيجة ذلك تفشي المجاعة والأمراض في الشعب، ففي شتاء عام/ 1920 – 1921 حدثت مجاعة من أسوأ المجاعات في التاريخ حيث أصابت أربعة وعشرين مليون إنسان في مساحة قدرها اثنين مليون كيلومتر مربع تمتد من منطقة الفولغا حتى حدود الأورال والقفقاس وجنوب القرم، وكان وباء التيفوس والكوليرا يفتك بأبناء الشعب إضافة إلى الجوع حيث عانى منه أكثر من عشرين مليون بين عامي/ 1917 – 1921. وقتلت المجاعة أكثر من سبعة ملايين إنسان يضاف إلى مليون ونصف المليون قتلوا في الحرب العالمية الأولى ومليوناً واحداً قتلوا في الحرب الأهلية، وهاجر مليوني إنسان، وراح ثلاثة ملايين إنسان ضحايا للأوبئة والأمراض، إضافة إلى كل ذلك كان يجوب الريف والمدن أكثر من خمسة ملايين من الشحاذين والمشردين والأطفال الأيتام.
إن الثورة أحدثت تغييرات أساسية في موقع الطبقات الاجتماعية وكان التغيير الأكثر جدية هو اختفاء طبقة البروليتاريا، وقد اعترف لينين بذلك في خطاب بالمؤتمر الثاني لأقسام التثقيف السياسي الذي عقد في 17/ تشرين الأول/ 1921 حيث قال : (أن البروليتاريا الصناعية في بلادنا انتزعت من طبقتها نتيجة الحرب والفقر المدقع والخراب وبما أن المصانع والمعامل متوقفة عن العمل الآن، فهذا يعني أن البروليتاريا اختفت). كان حوالي ثلاثة ملايين ونصف عامل يعملون في الصناعة الكبيرة عام/ 1913 (وهو عدد صغير بالنسبة لعدد سكان البلاد الذي يبلغ 174 مليون إنسان) وقد بقي منهم عام/ 1922 مليون ومئة وعشرين ألف عامل إضافة إلى وجود عمال في صفوف القوات المسلحة والمنظمات المهنية ولكن البروليتاريا كطبقة اختفت كما عانت الفئات المختلفة للبورجوازية المصير نفسه، كما كانت الخسارة في الميدان الفكري كبيرة جداً، كما غادر البلاد بالجملة وبإعداد كبير من الصناعيين والممولين والتجار نتيجة الدعايات المغرضة والمسمومة والتحريض من قبل أعداء الثورة، ولم يكد يبقى في البلاد سوى أعداد قليلة من المهندسين والأطباء والمعلمين، وقد عانى كثير من الفلاحين نتيجة التغييرات التي أحدثتها الثورة في تأميم الأراضي التابعة للملاكين العقاريين والكنيسة الأورثودوكسية بالرغم من أن هذه الأراضي وزعت عليهم.
إن ثورة أكتوبر لم تخرب الاقتصاد وتقلب المجتمع على عقب، وإنما خلقت دولة جديدة بكافة مكوناتها ومستلزماتها اكتسبت من خلالها مظهراً كان يمكن أن يدهش أي إنسان حيثما يقارنه أو يتصوره في عشية الثورة، وأصبحت تتجاوز الماضي نحو مستقبل مشرق جديد.
لقد عمل وجاهد ذلك الرجل العظيم لينين بعبقريته الفذة وشجاعته وشهامته وجرأته منذ قيام الثورة حتى عام/ 1922 بيني ويشييد ويتجاوز الماضي ما قبل الثورة وما بعدها ويتصدى للمحرفين والمنحرفين ويذهب إلى المصانع والمعامل والمؤتمرات من أجل بث الوعي الفكري لدى جماهير الشعب والعمال والكادحين ونشر الثقافة العقائدية بينهم حتى وافته المنية عام/ 1924 وهذا يعني أن لينين قد توفى عن عمر يبلغ أربعة وخمسين عاماً قضى أكثر من 90٪ منه في العمل والنضال من أجل الثورة والشعب وقد قالت رفيقته المخلصة وزوجته الفاضلة (كروبسكايا) (أن لينين ذاب واحترق من أجل الشعب وكان يقضي وقته في العمل والكفاح وما كان يذهب إلى النوم إلا نادراً وفي بعض الأحيان ينام ساعتين أو أكثر قليلاً، لقد أرهق نفسه كثيراً فأصبح نموذجاً ومثالاً للإنسان المضحي والمتفاني من أجل قضية شعبه ورفاهيته وسعادته) لقد استطاع لينين أن يخترق باب التاريخ ويخلق دولة للعمال والفلاحين والكادحين وتصبح أمل ورجاء كل المقهورين والمضطهدين والمظلومين في جميع أنحاء المعمورة. لقد استطاع الاتحاد السوفيتي أن يحقق مستوىً معيشياً مادياً مرتفعاً للشعب السوفيتي بين العامين 1928 إلى 1955 حيث زاد معدل النمو في الاقتصاد السوفيتي بمعدل 3,6٪ ثم زاد إلى معدل النصف، وبالمقارنة بعام 1922 فقد تضاعف حجم الدخل القومي المنتج في عام/ 1971 إلى 105 مرات وفي تنفيذ الخطة في عام/ 1972 بلغت الزيادة (112 مرة) وقد زاد الدخل القومي للفترة من عام/ 1950 حتى عام/ 1971 بمقدار 6,5 مرات، وتبلغ ثروة الاتحاد السوفيتي في تلك الفترة بما يربو على أكثر من (تريليون روبل) وقد ضاعف الحجم العام للمنتجات الصناعية في عام/ 1972 بالمقارنة مع عام/ 1922 بـ (321 مرة) من ضمنها وسائل الإنتاج (822 مرة) وبلغ مجموع الاستهلاك (102 مرة) والواقع أن النمو الهائل يعد سمة مميزة لجميع قطاعات الاقتصاد القومي، وعلى هذا فإذا كانت محطات توليد الطاقة الكهربائية تنتج في الاتحاد السوفيتي في عام/ 1922 (8 مليار كيلو وات/ ساعة) فإنه في عام/ 1972 سيتحقق إنتاج (863 مليار كيلو وات/ ساعة). كما أن استخراج النفط سيبلغ (404 مليون طن) وبهذا فإنه سيكون قد ازداد (87 مرة) عما كان عليه الحال في السنة التي تشكل فيها اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، وقد كان الإنتاج الصناعي عام/ 1922 يمثل 1٪ فإنه في عام/ 1972 قد بلغ 5٪، وقد أصبح الاتحاد السوفيتي في عام/ 1971 ينتج من المواد الصناعية 75٪ وعند المقارنة مع عام/ 1922 فإن يزيد بمقدار ستة مرات. وعند المقارنة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية فكانت المنتجات الصناعية التي ينتجها الاتحاد السوفيتي في السنوات 1951 حتى 1971 تكون 10٪ أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية، وبالنسبة لإنتاج الحديد الزهر ما يزيد عن 20٪ مما تنتج الولايات المتحدة الأمريكية عام/ 1971، ومن الاسمنت بـ 43٪ والأقمشة القطنية بـ 14٪ والمنسوجات الصوفية بحوالي أربع مرات والسكر بـ 56٪ كان الاتحاد السوفيتي في بداية إعادة إنشاء الاقتصاد القومي يستورد الآلات والمعدات حيث لم يكن لديه بالفعل قاعدة ذاتية لبناء الآلات والمعدات، وقد كان ينتج في عام/ 1922 في البلاد ثلاثة آلاف ماكنة لقطع المعادن، وحسب خطة عام/ 1972 أصبح ينتج (208 ألف ماكنة) وقد كان المجموع العام لمعدات قطع المعادن المصنعة في بداية عام/ 1972 أكثر من 5,4 مليون وحدة. أما بالنسبة لإنتاج المنتجات الزراعية فقد أنتج عام/ 1971 بزيادة قدرها 8,4 مرات مقارنة مع إنتاج عام/ 1922، كما ازداد الإنتاج الصناعي لسلع الاستهلاك عام/ 1971 مقارنة مع إنتاج عام/ 1922 بـ 8,32 مرة وقد استطاعت دول المنظومة الاشتراكية بمساعدة الاتحاد السوفيتي التخلص من التخلف التكنيكي – الاقتصادي الذي أحدثه التدمير في الحرب العالمية الثانية في تلك الدول في خلال خمسة عشر سنة وأن تصبح دولاً متقدمة صناعياً وزراعياً وقد حققت البلدان الاشتراكية الأعضاء في مجلس المساعدات الاقتصادية المتبادلة التي يقطنها 10٪ من سكان الكرة الأرضية من إنتاج حوالي 33٪ من الإنتاج الصناعي العالمي وتتفوق بأكثر من ثلاث مرات على المستوى العالمي المتوسط للإنتاج الصناعي محسوباً على أساس نسبة الفرد الواحد من السكان، وفي خلال الفترة من عام/ 1950 حتى عام/ 1969 كانت معدلات زيادة الناتج الاجتماعي الإجمالي في هذه البلدان تكون 7٪ سنوياً بصفة عامة و 5,5٪ بالنسبة للفرد الواحد من السكان، في الوقت الذي كانت هذه المؤشرات في البلدان الصناعية المتقدمة في أوروبا تبلغ 6,4٪ و 8,3٪ على التوالي، وحينما يجرى الكلام على المنافسة بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي بالنسبة للاحتياجات المادية والثقافية للجماهير الواسعة من السكان وللمجتمع بأسره ولكل فرد على حده فإن النظام الاشتراكي هو الأفضل والأحسن. إلا أن الاقتصاد السوفيتي شهد انخفاض معدل النمو الاقتصادي في الفترة بين عامي 1975 و 1985 بمقدار 2٪ إلى 3,2٪ وذلك بسبب وقوع القادة السوفيت في الشرك الذي نصبته المخابرات المركزية الأمريكية عن مشروعها الفضائي الحربي (حرب النجوم) مما جعل قادة الاتحاد السوفيتي يندفعون إلى بناء ترسانة حربية متطورة ضخمة جداً من التكنولوجيا الحربية والصواريخ والأقمار الصناعية التجسسية على حساب الاقتصاد ومعيشة الشعب السوفيتي. (وهنا لابد من مداخلة في الموضوع، تمسك الدولة قوتان واحدة قوة عسكرية وأخرى قوة اقتصادية، فإن أي خلل في توازن القوتين يؤدي إلى خلل في قوة تلك الدولة لذلك يجب التوازن بين قوة الاقتصاد أي توفير جميع مستلزمات الحياة المادية والمعنوية للشعب يقابلها توفير مستلزمات القوة العسكرية والذي حدث في الاتحاد السوفيتي هو عدم التكافؤ بين القوتين مما أدى إلى هذا الخلل الذي جعل الولايات المتحدة تستغل ذلك الخلل وتستعين برجلها غورباتشوف في تنفيذ مؤامرته التي اعتبرها أحد الأسباب التي أدت إلى تفكك الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية وانهيار النظام الاشتراكي، أما السبب الرئيسي في الانهيار والسقوط سوف نستعرضه في المواضيع القادمة).
والآن نعود للموضوع. حينما انخفض النمو الاقتصادي في الفترة بين عامي 1975 – 1985 بنسبة 2٪ إلى 3,2٪ انخفض أيضاً المعدل السنوي لدخل الفرد في الاتحاد السوفيتي من 4,3٪ إلى 2,2٪، كما جرى خلل كبير في الميزان التجاري للدولة إذ أن الصادرات السوفيتية التي تمثل 60٪ من موارد الميزانية السوفيتية والتي تشتمل على صادرات (النفط والغاز والخشب والاسمنت وغيرها) قد انخفض بشكل كبير، مما أفقد الميزانية السوفيتية وإرادات أساسية في دعمها، وبالمقابل ازدادت الواردات من السلع الاستهلاكية الغذائية كالحبوب وغيرها وذلك لتردي الإنتاج الزراعي في البلاد، وهذا الخلل دفع بالاتحاد السوفيتي إلى الاقتراض من الدول الأخرى لسد العجز الذي حدث في الميزانية، وقد بلغت هذه القروض عام/ 1984 أكثر من أحد عشر مليار دولار ثم ارتفع عام/ 1985 إلى خمسة عشر مليار دولار، واستناداً إلى الدراسات الاقتصادية السوفيتية فإن معدل النمو الاقتصادي السوفيتي للفترة من عام/ 1981 – عام/ 1985 وصل إلى الصفر، كما أن معدل نمو الإنتاج الزراعي تدهور بشكل كبير، الأمر الذي جعل الدولة السوفيتية تتحمل أعباء دعم المواد الغذائية الضرورية للشعب بنسب عالية جداً فوصلت عام/ 1985 إلى 50 مليون روبل، كما انخفض معدل النمو الصناعي في عام/ 1985 إلى 3٪ بالمقارنة مع عام/ 1984 الذي كان معدل النمو 5,4٪ كما انخفض إنتاج الحبوب إلى 195 مليون طن عام/ 1985 مقارنة مع عام/ 1984 الذي كان 295 مليون طن.
مع هذه الحالة المأساوية برزت ظاهرة البيروقراطية بأسوأ مظاهرها السيئة في حالة من الفساد والتعسف والمحسوبية والأنانية في كبار مسؤولي الحزب وأجهزة الدولة الذي لا يتجاوز عددهم نصف مليون إنسان مقارنة مع عدد سكان الاتحاد السوفيتي الذي يبلغ أكثر من 250 مليون إنسان، هذه القلة من المسؤولين أخذت تستحوذ على السلع الاستهلاكية ذات المناشئ الأجنبية فضلاً على امتلاكها السيارات الفارهة والسكن الأنيق والخدمات الخاصة لهم ولأفراد عوائلهم والمقربين إليهم في المستشفيات والمدارس والمرافق الترفيهية مع دخل شهري محترم يساوي أضعاف ما يحصل عليه المواطن العادي. أدت تلك الظاهرة إلى هدر الموارد وتضخم أعباء الدولة فضلاً عن خلق حالة الاستياء والرفض الشعبي الكامل، كما أن ذلك أدى إلى حرص هؤلاء القلة من المنتفعين والمصلحين على طبيعة نظام المركزية والعمل على ترسيخه والمحافظة عليه حرصاً على امتيازاتهم الكبيرة، لقد استشرى الفساد والنهب المنظم لموارد الدولة على أعلى المستويات نتيجة لغياب حلقات المراقبة الرسمية أو الشعبية فضلاً عن مركزية السلطة والابتعاد عن الأساليب الديمقراطية في إدارة الدولة، وقد شهد عهد (بريجنيف) في الفترة (1964 – 1982) أعلى وأسوأ نسب الفساد الإداري والذي كُشف عنه بعد وفاته، وقد طالت المساءلة كبار المسؤولين من أمثال (رومانوف) الرجل الثاني في الحزب الشيوعي فضلاً عن عدد من القادة المقربين من بريجنيف وعدد من أفراد عائلته، إن هذه التدابير والإجراءات اتخذت بعد فوات الأوان واتساع الفجوة البيروقراطية بين السلطة السوفيتية والحزب الشيوعي من جهة والشعب السوفيتي من جهة أخرى مما فسح المجال لغورباتشوف بالتدخل ولعب دوره التآمري في تفكك الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية وانهيار النظام الاشتراكي بأكمله، لقد مهدت تلك التصرفات وذلك السلوك الغريب والبعيد عن الخلق والتربية الشيوعية استلام غورباتشوف المسؤوليات الكاملة في الدولة مما فسح له المجال أن ينفذ مخططه القذر في التفكيك والتهديم.
لقد ترافق مع هذه الظواهر الغريبة تدهور شامل في مجالات الحياة الثقافية والعلمية من خلال اتساع الفجوة التكنولوجية مع دول أوروبا الغربية وعلى سبيل المثال، فإن استخدام جهاز الكومبيوتر في مؤسسات الدولة لا يتعدى نسبة 30٪ واستعماله في ساعات محددة وليس كل وقت، بينما في الولايات المتحدة واليابان وقسم من الدول الأوروبية فإن نسبة استعماله بلغت 100٪ على مدار الوقت كله، مما أدى ذلك إلى انعكاسه على مستوى معيشة الشعب حيث أصبح الشعب يصطف بطابور كبير وطويل من أجل الحصول على رغيف خبز أو سلعة وغير ذلك، إن التأخر في إنجاز الإيجابيات تؤدي إلى إفراز السلبيات، وبدلاً من إيجاد الحلول لتلك الأوضاع المأساوية، بدأت خيوط المؤامرة تظهر في تنفيذ المخطط المرسوم والمعد مسبقاً في دوائر المخابرات الأمريكية والغربية حينما بدأت الدعوة للمساعدة الدولية من مستشار غورباتشوف الاقتصادي وبشكل خاص من سفراء الاتحاد السوفيتي في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ودول غربية أخرى ودعوة دول العالم الأخرى لتقديم المساعدة لشعوب دولة الاتحاد السوفيتي ..!!.
في هذه الظروف كانت المؤامرة تنفذ بدقة من خلال مراحل متلاحقة، لقد اعتمد غورباتشوف لمواجهة شحة المواد الاقتصادية والمعاشية وفقدان السلع الضرورية الأساسية من السوق إلى الاعتماد على توزيع تلك المواد بالبطاقة التموينية. وما زاد الطين بله ارتفاع نسبة البطالة والعاطلين عن العمل إلى نسبة كبيرة ومخيفة ففي عام/ 1985 وصلت البطالة إلى مليوني عاطل ثم تصاعد بشكل مخيف إلى 13 مليون إنسان بدون عمل في عام/ 1989، وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية ترسل خبراءها ورجالها من المخابرات والمخربين بناء على طلب المساعدة منهم من خلال نداء من غورباتشوف إضافة إلى طلبه بمساعدة عاجلة بـ (10 مليارات دولار) لشراء ملايين الأطنان من الحبوب تفادياً لكارثة إنسانية، وفي أوائل تشرين الأول عام/ 1991 وجه غورباتشوف نداء عاجلاً لدول العالم في خطاب متلفز يطلب فيه المساعدة إلى بلاده لأنها تواجه كارثة وإن برنامجه الإصلاحي مهدد بالخطر..!!. أخذت الأمور تتصاعد نحو الأسوأ حسب المخطط التآمري المرسوم لها حيث أخذت هذه الأوضاع المأساوية تنعكس سلباً على أوضاع البلاد المختلفة ومن أهمها تخلخل الاستقرار الداخلي لجمهوريات الاتحاد السوفيتي، كما أن هذه الظاهرة بدأت تؤثر على قدرات البلاد الدفاعية كما أصبحت الدولة غارقة بالديون الخارجية. حتى وصلت المؤامرة إلى مراحلها الأخيرة عندما حدد غورباتشوف بأن الإصلاح الاقتصادي لا يمكن أن يأتي ثماره إلا من خلال الإصلاح السياسي، وإن هذا الإصلاح السياسي لا يتم إلا من خلال الهرم وهو الحزب الشيوعي، وأطلق على سياسته الإصلاحية الجديدة (البيريسترويكا) أي (إعادة البناء) والتي يقوم الإصلاح فيها على صعيد السياسة الداخلية والخارجية.
على الصعيد الداخلي فقد عمل غورباتشوف على تغيير هيكلة السلطة السياسية في الاتحاد السوفيتي، إذ أجريت انتخابات مؤتمر نواب الشعب في بداية عام/ 1989 وهي الانتخابات الأولى التي جرت في عهد غورباتشوف الذي استطاع الحصول من مجلس النواب على مجموعة من القرارات التي تخفف من سلطة الحزب الشيوعي على جميع مؤسسات الدولة وخاصة العسكرية منها، كما استحصل موافقة منح رئيس الدولة السوفيتية صلاحيات واسعة، ووفقاً لهذه التعديلات في بنية الاتحاد السوفيتي، فقد فاز غورباتشوف كأول رئيس يتمتع بهذه الصلاحيات الواسعة، كما جرت انتخابات لاختيار رئيس لجمهورية روسيا الاتحادية في ظل الاتحاد السوفيتي في شهر تموز/ 1991 وقد فاز فيها (بوريس يلتسن) وهو يهودي روسي ذو ميول سوفيتية تميل إلى الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي، حيث أشار في خطاب تنصيبه (أن روسيا العظمى تنهض من جديد من كبوتها وستصبح دولة مزدهرة وذات سيادة) مما اعتبر كلامه هذا دعوة صريحة وجريئة للانفصال، والذي كان البداية لانفصال جمهوريات أخرى آلت إلى تفككه وانهيار نظامه ورمي في أحد رفوف متاحف التاريخ. أما ما يتعلق بسياسة غورباتشوف الخارجية، فقد بدأت بتوطيد العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية الذي اعتبرها تشكل انعكاساً إيجابياً على الواقع الاقتصادي السوفيتي، وعلى ضوء ذلك اتخذ مجموعة من الإجراءات العسكرية لتخفيف المواجهة معها في سياق التسلح، وقد أشار غورباتشوف في خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 7 تشرين الثاني/ 1988 فيما يخص هذا الموضوع عن تخفيضات في القوات المسلحة بمقدار نصف مليون جندي أي 10٪ من إجمالي تلك القوات، وبالنسبة للمعدات العسكرية بواقع (10 آلاف دبابة) و (1500 وحدة مدفعية) و (800 طائرة مقاتلة) كما أعلن عن تخفيض ميزانية الدفاع بمعدل (5,14٪) وتخفيض ميزانية الصناعة العسكرية بمعدل (5,19٪) وسمح غورباتشوف للمفتشين والمراقبين العسكريين من حلف الناتو بمراقبة المناورات التي يجريها حلف وارشو، وقد اعتبر الخبراء والمحللون العسكريين في العالم مبادرة غورباتشوف لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحلف، كما حرص على تنسيق المواقف مع الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق في العالم وبشكل خاص في الشرق الأوسط ولبنان وغيرها، وعدم التصدي والوقوف ضد مصالحها، كما قرر إلغاء إجراء التجارب النووية تحت الأرض وتفكيك منصات الصواريخ قصيرة المدى وغيرها من القرارات العسكرية التي وجدت ترحيباً بالغاً لدى الإدارة الأمريكية بشكل خاص والغرب بشكل عام. وعلى ضوء هذه العلاقة الجديدة بدأ الاتحاد السوفيتي بإعادة علاقاته مع إسرائيل ولبيان وتعزيز عمق هذه العلاقة سمح الاتحاد السوفيتي بهجرة اليهود السوفيت إلى إسرائيل حيث بلغ عدد المهاجرين بأكثر من (22 ألف مهاجر). وحينما طلبت الدول العربية من غورباتشوف إيقاف هذه الهجرة، قال في شهر شباط/ 1990 : (أنه من غير الوارد فرض قيود للهجرة اليهودية، ودعا الدول العربية إلى التخلص من عقدة المواجهة مع إسرائيل وتركيز جهودها إلى حلول وسط).
لقد أدت سياسة غورباتشوف إلى زيادة النفوذ الغربي في الاتحاد السوفيتي من خلال تبادل الوفود وفتح أبواب القروض الأجنبية، ومع مرور الوقت بدأ الغرب بإيقاف تقديم القروض وأخذ يفرض شروطاً مذلة وتعجيزية على الاتحاد السوفيتي، تفرض إصلاحات جوهرية على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الأمر الذي أبعد الاتحاد السوفيتي عن منهجه الماركسي وتعميق أزمته الداخلية. وكانت أكبر وأعمق هذه الأزمات التي أفرزت الاضطرابات الداخلية العرقية والمذهبية والشوفينية في جمهوريات الاتحاد السوفيتي وانفصالها بعضها عن بعض في أجواء صراعات وحروب بينها وأصبحت كتلاً وقطاعات مشتتة ومفككة ضعيفة، وهكذا سارت الأمور (في ذلك الطود الشامخ اتحاد الجمهوريات الاشتراكية العظمى) باتجاه التشظي والصراعات والحروب الداخلية مدعوم برعاية أمريكية وغربية من خلال الدعم الإعلامي والسياسي الكبير لسياسة غورباتشوف الإصلاحية المزعومة، وما أن حل عام/ 1991 حتى وصلت الأمور إلى حالة من التأزم وسط احتجاجات وتذمر شعبي الأمر الذي دفع عدداً من العسكريين السوفيت للقيام بانقلاب في 19/ آب/ 1991 ضد غورباتشوف وسياسته الإصلاحية الكارثية المدمرة، ومن أجل إيقاف عجلة الانهيار والكارثة والتدمير للدولة السوفيتية، إلا أن هذا الانقلاب فشل بعد ثلاثة أيام من قيامه واعتقال المشاركين فيه نتيجة الموقف الأمريكي والغربي المناوئ له. وبذلك انطوت صفحة الاتحاد السوفيتي وأصبح حدثاً من أحداث التاريخ محفوظاً في ذاكرة الناس وفي بطون الكتب.
في أواخر عام/ 1991 أعلنت جمهورية تركمانستان استقلالها، وبعد أيام أعلنت أوكرانيا استقلالها وفي 9/ كانون أول/ 1991 اجتمع رؤساء كل من روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء وأصدروا بياناً أعلنوا فيه : (أن جهود غورباتشوف قد فشلت في استمرار الاتحاد السوفيتي على حاله القديم وإن تفتته أصبح أمراً واقعاً) وقرر القادة الثلاثة الخروج من الاتحاد السوفيتي وإقامة دولة مستقلة واتفقوا على الإبقاء على قيادة مشتركة في المجال العسكري لاسيما موضوع السلاح النووي، كما أشار الرؤساء الثلاثة إلى أن الاتفاق مفتوح لانضمام جمهوريات الاتحاد السوفيتي الأخرى. وفي 12/ كانون الأول/ 1991 أعلن غورباتشوف رغبته بالاستقالة، وأكد أن مهمته الرئيسية انتهت !! وفي محاولة من الولايات المتحدة الأمريكية لتعميق وتشجيع هذا النهج الذي أدى إلى تفتيت الاتحاد السوفيتي وجعله كتلاً متناثرة لا عودة إليها أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش (الأب) اعترافه بالدول المستقلة ووعد بتطوير العلاقات معها، وفي 17/ 12/ 1991 أصدر يلتسن مرسوماً أدمج فيه وزارة الخارجية السوفيتية مع وزارة الخارجية الروسية، كما أعلن رسمياً عن انتهاء وجود الاتحاد السوفيتي عندما وقعت الجمهوريات السوفيتية المستقلة اتفاق (الماآتا) في عاصمة كازاخستان حول إقامة كومنولث للجمهوريات المستقلة وإلغاء المؤسسة الرئاسية التي كان غورباتشوف يرأسها مع تقديم الشكر والثناء على الجهود التي بذلها وعلى مساهماته الإيجابية !!.
وفي 25/ كانون أول/ 1991 قدم غورباتشوف استقالته بشكل رسمي وتم إنزال العلم السوفيتي الأحمر من فوق بناية الكرملين ورفع العلم الروسي بدلاً منه. يشير المراقبون إلى دور المخابرات الأمريكية والغربية في إنهاء التجربة السوفيتية وتجنيد الأشخاص اللازمين لتحقيق الهدف منذ بداية القرن العشرين واشتراك أطراف متعددة داخلية وخارجية لإنجاز هذه المهمة المثيرة للقرن العشرين.
بعد أن أنجز أبطال (البيروسترويكا) مهمتهم على الوجه الأكمل وتواروا عن المسرح لا خجلين من فعلتهم بل فرحين بما حققوا من انتصار مذهل في تفكيك السلطة والمجتمع في بلدان المنظومة الاشتراكية بعد أن عجزت عقود من الحصار والتطويق الرأسمالي عن الوصول إلى ما هو أقل من ذلك بكثير، لقد عملوا ما في وسعهم بالتعاون والتنسيق المباشر مع الغرب الرأسمالي، لا لإزالة آخر مظاهر الدولة الاستبدادية في الاتحاد السوفيتي بل من أجل أن تنحل أواصر الدولة الكبيرة وتعود أجزاءً مشتتة ومتفرقة، ولتسود فيها على مستويات مختلفة من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مافيات من القتلة واللصوص والمجرمين العاديين ، هل من المعقول أن تنتهي هذه الثورة العظيمة التي هزت العالم من أقصاه إلى أقصاه .. وفتحت أوسع أبواب التاريخ بالأمل والرجاء للمظلومين والمحرومين والكادحين والمقهورين .. ثورة أكتوبر/ 1917 ؟ لقد وصف الغرب الرأسمالي غورباتشوف بكونه رجله في الكرملين، ونشرت مجلة نيوزويك الأمريكية، وهي الناطقة باسم الرأسمالية الأمريكية والمعبرة عن وجهة نظر الحكومة الأمريكية تعليقاً جاء فيه (إذا كان غورباتشوف يعمل من أجل بناء نظام اشتراكي اقتصادياً وسياسياً وديمقراطياً ينبغي عدم مساعدته في مسعاه، أما إذا كان يقصد تغيير هذا النظام كلياً وبكامله فعلينا أن نرمي بجميع ثقلنا وراءه) وهكذا وبكل بساطة انتهى الصراع وحل السكون في معادلة نافية لآلية التطور التاريخي، وناهية الصيرورة للتحولات الاجتماعية من أجل أن تنعقد المصالحة بين التاريخ ومبتغاه الرأسمالي المتمثل بالسيطرة المحكمة من مفاهيم ومقولات ما يسمى بالنظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية، باعتبار أن هذه المصالحة تعبر عن طبيعة الإنسان المتعطش للاتساق مع ذاته المفتقدة في كل هذه الأنماط الاجتماعية السابقة، وخاصة النظام الاشتراكي غير المتلائم مع طبيعة البشر الساعية بدورها إلى الاستقرار من خلال صيغة مجتمعية تتوافر فيها حرية الفرد وتتحقق بها مصالحه المتعارضة والمضاربة مع ما ترمي إليه القوانين ومبادئ المنظومة الاشتراكية، وهذا ما تسبب بحسب ما تطالعنا به النظريات الجديدة للنظام العالمي الجديد بالثورة والتمرد من أجل الإطاحة بهذه الأنماط والأنظمة وذلك لتبديلها بصيغة نظامية أكثر انفتاحاً. بعدما كانت الاشتراكية خياراً وهدفاً رئيسياً لمعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية العالقة عند تلك الشعوب التي تعيش الآن مخاض تغيير أن لا يتخذ منحىً رأسمالياً الواعد بمفاجآت أقلها ما نشهده على الساحة الدولية من أزمات وبطالة وجريمة منظمة واغتراب الإنسان التي بها ترتسم معالم النظام الرأسمالي.
مراحل النظرية الماركسية
كارل ماركس (1812 – 1883) فريدريك أنجلز (1820 – 1895)
لقد سبق واستعرضنا في فصول الكتاب المرحلة التي نشئا وترعرعا فيها والظروف التي تزامنت مع حياتهما من حيث طبيعة الإنتاج الذي يحدد طبيعة النظام الاقتصادي في تلك المرحلة والتبادل التجاري والتنظيم الاجتماعي المنبثق عنه والذي من خلاله تنشأ وتتكون الطبيعة السياسية والفكرية لتلك المرحلة التي تعتبر انعكاساً للواقع الاجتماعي، ومن خلال دراستهما العميقة للتاريخ والمجتمعات البشرية والاعتماد على كنز كبير في بحث أصول وتكون المجتمعات البشرية الحديثة طور كارل ماركس وفريدريك أنجلز نظرية مادية جديدة للتاريخ والمجتمع من خلال تقديم مفاهيم نمط الإنتاج وقوى وعلاقات الإنتاج وتقسيم العمل والصراع الطبقي والإيديولوجيا بوصفها مداخل أساسية لفهم المجتمع والتاريخ وكونا رؤيا عنه بوصفه تعاقباً لأنماط الإنتاج، ووضعا خارطة واقعية وملموسة من خلال مخطط لنشوء المجتمع البورجوازي الحديث وتحوله مستقبلاً إلى مجتمع شيوعي في نظريتهما (النظرية العلمية المادية الاشتراكية).
حينما ننظر إلى عبقرية كارل ماركس نلاحظ ما من رجل في العصر الحديث حظي باهتمام أكثر منه، وما من ثوري بعث من الآمال أكثر منه، ولن يثري أي صاحب مذهب من الشروح والتعليقات أكثر منه، وما من إنسان أحدث تأثيراً كبيراً في نضال الشعوب من خلال وعيها وإدراكها في القرن العشرين، وكان يتنبأ ويستقرئ التاريخ منذ صدور البيان الشيوعي عام/ 1848، كان يفسر ويحلل طبيعة النظام الاقتصادي العالمي للرأسمالية من خلال تطوره في مطلع القرن الواحد والعشرين وذلك من خلال عبقريته وحدسه في تحليل المجتمع البورجوازي، فأكد ولادة الاقتصاد الدولي الذي ينشر كابوسه على كافة أنحاء المعمورة من خلال تطور الإنتاج الرأسمالي وتنبأ بأن هذه العملية ستولد نزاعات عنيفة وأزمات اقتصادية ومظالم اجتماعية على نطاق واسع، ففي عام/ 1997 حدثت الأزمة الاقتصادية في شرق آسيا، وفي عام/ 1999 حدثت الأزمة الاقتصادية في الأرجنتين، وفي عام/ 2006 حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية أزمة الرهون العقارية التي استمرت حتى عام/ 2009 والتي وصفها الخبراء الاقتصاديين بحرب عالمية ثالثة لآثارها التدميرية، وفي عام/ 2011 حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية أيضاً أزمة الديون وتسديدها وفي عام/ 2011 حدثت أزمة في اليونان ولا زالت آثارها لحد الآن (أي أواخر عام/ 2011) وتتناقل وسائل الإعلام المختلفة عن تخوف الدول الرأسمالية من حدوث أزمات اقتصادية خطيرة تزعزع الاقتصاد الرأسمالي. إن ظاهرة الأزمات صفة طبيعية وملازمة للنظام الرأسمالي الذي يقوم على المنافسة والصراع والتطاحن في فوضى الإنتاج وفوضى السوق، ومن عبقرية ماركس واستقرائه للتاريخ كان يتردد عليه ويزوره حينما كان يسكن في أحد أحياء لندن في شارع سوهو القديم والفقير كبار المفكرين والعلماء والباحثين للاستماع إلى أقواله وأفكاره الفذة، وكانت ملكة بريطانيا (فكتوريا) تطلب من بناتها إقامة علاقات صداقة مع بنات كارل ماركس والذهاب إلى شقته للاستماع إليه وهو يستقرئ التاريخ، وفي أزمة الرهون العقارية عام/ 2011 نفذت كتب كارل ماركس في مكتبات ألمانيا وغيرها من الدول لقراءتها والاطلاع على أفكار ذلك الرجل الفذ الذي تنبأ بتلك الأزمات منذ أكثر من قرن ونصف من الزمن، كما نود أن نستعرض مقولته المشهورة (إن التاريخ سوف يعيد نفسه مرة على شكل تراجيدي (مأساوي) وأخرى على شكل كوميدي (مهزلة) لقد بينا في الفصول السابقة من الكتاب، كيف أن البورجوازية في بداية نشوءها اقتضت مصلحتها توحيد المقاطعات ودولة – المدن وتكوين الدولة القومية، والآن في مرحلة العولمة اقتضت مصلحتها بتفكيك الدولة القومية إلى كتل ومقاطعات صغيرة وذلك
1) لعدم استطاعة هذه الدول المفككة من الوقوف في وجه العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة. 2) في الدولة القومية من الممكن أن تكتفي ذاتياً، أما إذا تفككت الدولة القومية فإن أجزاءها من الدول المفككة لا تستطيع أن تكتفي ذاتياً من السلع والحاجيات، فتضطر إلى شرائها من الأسواق التي تغزوها دول العولمة الرأسمالية. وعند المقارنة بين الواقع بكل تناقضاته الذي عاشه ماركس في عصره نجده في الواقع بعد حياته حتى عصرنا الراهن، فكما كانت آسيا تهيمن على العالم ديمغرافياً. فإن اليوم يهيمن (الانكلو سكسون) على العالم اقتصادياً، وكما اليوم كانت الديمقراطية وآليات السوق تحاول السيطرة على العالم، وكما اليوم كانت التقنيات تحدث ثورة في إنتاج الطاقة والأدوات والاتصالات والفنون والإيديولوجيات، وتؤدي إلى تخفيف شديد في مشقة العمل. وكما اليوم ما من أحد كان يعلم ما إذا كانت الأسواق تشرف على موجة نمو لا سابق له أم أنها في ذروة تناقضاتها، وكما اليوم كانت الفوارق ضخمة في المجتمع بين الأقلية الأكثر قدرة، والأكثرية الأكثر بؤساً وحرماناً، وكما اليوم كانت مجموعات بشرية تضغط بعنف حتى اليأس في تصديها لعولمة الأسواق وصعود الديمقراطية والعلمنة. وكما اليوم كان الناس يأملون في حياة تمتاز بالأخوة وتحرر البشرية من البؤس والحرمان والاغتراب والعذاب، وكما اليوم كان العديد من الكتاب والأدباء والمثقفين يتنازعون من أجل شرف العثور على السبيل الذي سيقودن عبره الإنسان طوعاً أو كرهاً، وكما اليوم كان رجال شجعان يقتلون من أجل شرف الكلمة وحرية التغيير والفكر، وكما اليوم كانت الرأسمالية هي السيد، تربض بكابوسها المدمر في كل مكان من العالم. هذا هو ماركس، هل يحتاج أن يلبس تاج العظمة لكي يكون عظيماً ؟.
فلاديمير ايلتش لينين
ولد عام/ 1970 وتوفى عام/ 1924، وقد عاش هذا الرجل العظيم بعد ثورة أكتوبر/ 1917 العظمى سبع سنين، إلا أنه بعد خمس سنوات أي في عام/ 1923 أصيب بنزف دموي في الدماغ فأصيب بشلل جزئي، إلا أن ذلك لم يضعف إرادته ويشل همته فواصل نشاطه مما أدى إلى إرهاقه وإصابته مرة ثانية بالنزف الدموي في الدماغ، وبالرغم من توصيات ونصائح الأطباء والطلب منه الخلود إلى الراحة، إلا أن نشاطه وهمته لم تهدأ من توطيد أسس الثورة العظيمة ومن أجل سعادة شعبه ورفاهيته، فأصيب بالجلطة الدماغية الثالثة التي شلته وأقعدته عن العمل، فأصابه الهم والكدر والمعاناة النفسية عندما وجد نفسه عاجزاً عن تحقيق طموحه وأمانيه في إنجاز مهمته المناضلة الشريفة. حينما أنجز كارل ماركس النظرية الماركسية قال: (لقد انشغل الفلاسفة في تفسير العالم، أما الآن فالمهم تغييره). فكان ذلك الفارس الشجاع والهمام الجريء (لينين) تعلو يمينه شمساً أفقها رحب، وباليد اليمنى يحمل الراية الحمراء مطرزاً عليها المطرقة والمنجل شعار الكادحين من العمال والفلاحين مترجماً فلسفة ماركس المجردة وعلومه الصورية من كلمات مطبوعة في الكتب إلى واقع ملموس. فكان وجوده وقيادته على رأس دولة العمال والفلاحين متزامناً مع تطور البورجوازية إلى مرحلة الامبريالية (شرحت في الفصول السابقة من الكتاب) فسمي عصر لينين بعصر الامبريالية، فعاجله الموت ولم يستطع من إنجاز مهمته في القضاء عليها وتحقيق طموحه وآماله التي ناضل وعمل من أجلها في قيام النظام الاشتراكي في تلك الدول التي كانت تحت كابوس الامبريالية، ولولا الموت الذي عاجله وأصبحت الساحة خالية من عبقريته وإخلاصه وتفانيه ونكران ذاته لكان من المحتمل أن لا تكون النتيجة والمحصلة النهائية لدولة الاتحاد السوفيتي ونظامه الاشتراكي هذه النهاية المؤلمة والمأساوية المدمرة لطموح وأماني وتطلعات الملايين من أبناء المعمورة، ولما آلت إليه الأحزاب الشيوعية في العالم إلى هذا المستوى من الضعف والتفكك واليأس والإحباط.
وقبل أن أغادر تلك الشخصية العظيمة والعبقرية الفذة، أستميح أحبتي الأعزاء بالعودة وتكرار مواضيع أحاور وأناقش بها أولئك (النيولبراليين) من الذين اصطفوا مع المطبلين والمهرجين في طابور العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة محاولين إزاحة إنجازات ذلك الرجل العظيم (لينين). وهنا أتساءل .. إذا كان هؤلاء يريدون إزاحة إنجازات لينين من النظرية الماركسية .. إذن ماذا يبقى من تطبيقات واقعية وعملية للنظرية الماركسية؟ لقد استعرضت في الفصول السابقة من الكتاب، حينما أدرك ذلك الرجل النظرية الماركسية وهتف بأعلى صوته (وجدتها وجدتها) ففكر بالثورة وأدرك أن النظرية لا يمكن تطبيقها بدون حزب ثوري وهذا الحزب لا يمكن أن يبنى ويصبح قادراً على إنجاز الثورة بدون تنظيم حديدي، وهذا التنظيم لا يبنى بدون جماهير واسعة تستطيع أن تمد جسوراً إلى الشعب وتحول مفردات النظرية الماركسية الطوباوية وتحولها إلى برنامج ثم يحول هذا البرنامج إلى شعارات مطلبية جماهيرية. يقول لينين في الجزء التاسع من مؤلفاته الكاملة ص393 (إن السياسة بكل معنى الكلمة لا يمكن ممارستها) إلا بواسطة الجماهير، حيث الجماهير بدون حزب يعني أنها بدون قيادة، والجماهير التي لا تتبع حزباً قوياً هي جماهير مشتته وغير واعية وعاجزة عن الحزم وتكون لعبة بيد الساسة الانتهازيين الذين يظهرون دائماً في الوقت المناسب للطبقات البورجوازية كي يستغلوا الفرص السانحة لمصالحهم.
والآن نعود إلى أولئك الذين حفروا القبور بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار نظامه الاشتراكي ليخرجوا من تلك القبور أفكار بليخانوف وتروتسكي وكاوتسكي وغيره من المحرفين والمنحرفين الذي كان لينين قد فند آراءهم والذين الآن يشنون حملة ظالمة على لينين باعتباره انحرف عن الماركسية وعن التاريخ وحرق المراحل الرأسمالية في روسيا وفجر ثورة أكتوبر عام/ 1917.
لقد بينا من خلال استعراض فصول الكتاب وضع روسيا قبل ثورة أكتوبر/ 1917 حيث كان في المجتمع الروسي طبقتان الأولى تتكون من الأرستقراطيين والنبلاء والملاكين الزراعيين ورجال الكنيسة والأخرى من العمال الذين يعملون في المصانع والمعامل التي تعود إلى الدولة والأقنان والفلاحين والشحاذين وغيرهم من المحرومين والمسحوقين، أما الطبقة الوسطى والصغيرة من البورجوازية تنحصر بالحرفيين وأصحاب محلات بيع السلع والحاجيات المستوردة والأدباء والفنانين والمثقفين وموظفي الدولة، أما البورجوازية الصناعية الوطنية بالمفهوم الاقتصادي تكاد تكون معدومة، إن هذه الظاهرة تفرض علينا أن نسأل السادة الكرام، من أين يأتي لينين بالبورجوازية حتى يستطيع أن ينجز مرحلة البورجوازية الديمقراطية ؟ وإذا لم توجد البورجوازية هل يتطلب ذلك من لينين تأجيل الثورة حتى نضوج البورجوازية وإنجازها مرحلتها ثم الانتقال إلى الرأسمالية ومن ثم القيام بالثورة ؟ إن هذا الكلام يعتبر من الأمور البديهية التي لا تستند على حقائق ملموسة ووقائع ثابتة موضوعية، فتصبح مع مرور الوقت مادة للشك، ونتيجة لاستمرار هذا الشك والتأكيد عليه واستمرار الجدل والنقاش حوله تصبح الأحكام والشك عرضة للتسخيف والاستهزاء، لأن من السهولة أن يتقمصها كل إنسان ويقولها ويتهم بها الآخرين، لأنها هي حالة لا تمثل يقيناً أو التزاماً أو حقاً أو وجوباً لأنها تصدر من عناصر سبق لها وأن اعتنقت تلك المبادئ وسارت معها وصفقت لها ولذلك إثارتها تعتبر في مجال الفكر صانعة للمغالطات وفي مجال الإجماع تعتبر أسلوباً للابتزاز وفي مجال الأخلاق يعتبر منافياً لها وفي مجال السياسة تعتبر وعاءً حاوياً للمغالطات والكذب وتشويه الحقائق. إن الأقوال والأفعال والمواقف لا يبقى أثر لعلها وتأثير حفرياتها إلا عندما تكون فاعلة وذات تأثير ينبع من منهل الأعماق الوجدانية المتلظية بشواظ العنف الذاتي المتولدة من الواقع المؤلم والحقيقة المرة، فتتحول إلى هتاف ينطلق من الضمائر الحية فيكون صداها صراخاً مدوياً يغوص في منعطفات الأعماق الإنسانية، ويتمرد على المألوف ويخترق الظلام الدامس نحو فجر جديد.
ماركس ولينين
لقد واصل لينين بشكل رائع التعاليم الثورية لماركس وأنجلز. ولينين يعتبر هو المؤسس للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، وهو القائد العبقري لأعظم ثورة اجتماعية وسياسية واقتصادية في التاريخ الحديث، وهو المهندس البارع في تشييد وبناء أول دولة اشتراكية في العالم، وهو القائد الملهم والهمام للطبقة العاملة والمظلومين والمسحوقين والمضطهدين والجياع في العالم. وأصبحت مرحلة ثورية كاملة في تاريخ البشرية في العصر الحديث ترتبط باسم ونشاط لينين، ذلك الرجل الذي قدم للإنسانية الخريطة الواضحة والصحيحة الفاعلة في الخلاص من الاستبعاد والذل والحرمان والجوع والقهر وظلم الإنسان لأخيه الإنسان. ذلك الرجل الذي أعطى الإجابات الصائبة والثاقبة لأكثر المشاكل إلحاحاً في المجتمع والسياسة والاقتصاد التي وضعها التاريخ. ذلك الرجل الذي خلق وطور الثورة من مرحلتها شبه الإقطاعية والرأسمالية إلى المرحلة الاشتراكية. ذلك الرجل الذي مد الحركة الثورية الروسية والعالمية بإستراتيجية وتكتيكات ترتكز على العلم. ذلك الرجل الذي تصدر نضال الطبقة العاملة وقاد أعظم ثورة في العصر الحديث. ذلك الرجل الفارس الهمام والشجاع الجريء الذي استجاب ونفذ مقولة معلمه العظيم ماركس (لقد انشغل الفلاسفة في تفسير العالم، أما الآن فالمهم تغييره). فحول الاشتراكية من طوباوية إلى الواقع العملي الملموس، إلى علم وزادها ثراءً من خلال الاستنتاجات والاكتشافات الجديدة من خلال معرفته للغات الانكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية واللاتينية، وحينما كتب بحثه المشهور (المادية والنقد التجريبي) استعان بعدد كبير من المصادر الانكليزية والفرنسية والألمانية. كما أنه درس علوم الفيزياء والكيمياء وطورها وطبقها من خلال الجدلية المادية الديالكتيكية في قوانين (وحدة وصراع الأضداد وقانون تحول التغيرات الكمية إلى تغييرات كيفية وبالعكس وقانون نقض النقيض) مما ساعد على تجاوز الاتحاد السوفيتي على مراحل تأخره التي ذكرناها في الفصول السابقة من الكتاب.
كان لينين يتمتع بعبقرية فذة من عبقريات النظرية الماركسية إلا أنه ظل يكن التبجيل العظيم والكبير لمؤسسي النظرية العلمية (ماركس وأنجلز) ويتخذ منهما موقف التلمذة، وكان يردد دائماً أنه كان يراجع ويسترشد بأفكار ماركس، وكان حينما يكتب بحثاً يراجعه عدة مرات ثم يعرضه على رفاقه من المفكرين والباحثين. لم يقف لينين النظري الملهم من النظرية الماركسية موقف المتعبد في محرابها بل كان متمسكاً بالحياة والواقع الموضوعي مسترشداً من خلال ارتباطها الجدلي بالواقع الملموس وقد وصفها بأنها (كلية الجبروت) وقد قال عنها (إننا لا ننظر إلى نظرية ماركس باعتبارها شيئاً كاملاً ومقدساً وإنما على العكس لأننا مقتنعون أنها قد وضعت فقط حجر الأساس للعلم الذي يجب على الاشتراكيين تطويره في كل الاتجاهات إذا ما أرادوا أن يلاحقوا الحياة). لقد جاء لينين ليواصل رسالة ماركس وأنجلز، لقد تناول وعالج في كتاباته ومؤلفاته الكثيرة التي جمعت في أربعة وخمسين مجلداً ضخماً تحتوي على حل المشاكل التي تجابه المجتمع البشري في العصر الحديث.
كان الانعطاف الكبير في حياة لينين النضالية مقترناً بالانعطاف الكبير في التاريخ الحديث من خلال اكتشافه لخصائص تطور الرأسمالية إلى الامبريالية وإطلاقه استنتاجه التاريخي العظيم عن إمكانية انتصار الاشتراكية في بلد واحد بعد اكتشافه قوانين تفاوت التطور الاقتصادي والسياسي للرأسمالية في مرحلتها الامبريالية واستخلص من ذلك الاستنتاج عن قدوم بلدان مختلفة إلى الاشتراكية في أوقات مختلفة، وأن جبهة الامبريالية يمكن تحطيمها في بلاد ليست رفيعة التطور الاقتصادي في الضرورة، وكان هذا الاستنتاج يعتبر جديداً في علم النظرية الماركسية.
هذا هو لينين الذي يمثل النموذج الفريد والرائع الذي جمع في نسيج متلاحم بين عظمة القائد وعظمة الإنسان فعاش خالداً في قلوب الناس.
لينين والنظرية الماركسية
لقد استطاع لينين أن يحول النظرية الماركسية من حروف وكلمات مسطرة في بطون الكتب إلى نظرية الثورة الاشتراكية على الواقع الموضوعي الملموس. فخلق للإنسانية طريقاً مجرباً في الخلاص من عذاباتها وآلامها من خلال تراث ضخم من الأفكار والتعاليم، وإن من يقرأ أعمال تلك الشخصية العبقرية الفذة يلاحظ أن ذلك الإنسان لم يتصرف كعالم أكاديمي، بل كقائد ومعلم ثوري لأن جميع أعماله العظيمة دون استثناء كانت معالجات ملموسة وواقعية لمهمات ملحة فرضتها التطورات والانعطافات للحركات الثورية في عصره. وأود هنا أن أقتطف لأحبتي الأعزاء بعض الفقرات من الموضوع الموسوم (القوانين ما زالت صحيحة وإن تغيرت أشكال تجليها) للدكتور قدري جميل المنشور في كتاب الماركسية والماركسيين في عصرنا).
ما معنى النظرية الماركسية ؟ إنها ظاهرة تاريخية .. فقد عالج ماركس في ظروف تاريخية محددة رأسمالية القرن التاسع عشر ورأسمالية المنافسة الحرة التي لم تعد موجودة فعلياً اليوم في أي مكان بالشكل الذي كانت عليه، لذلك يجب أن ينظر إليه في ظرفه التاريخي، فكثير من المعالجات التي قدمها ماركس ما زال أساسها النظري صحيحاً لأن الاستغلال ما زال قائماً، وتكلم ماركس عن (فائض القيمة). إلا أن لينين لم يعالج الموضوع كما عالجه ماركس وهي (فائض القيمة) لأنها تختلف في المرحلتين، فلينين تجاوز تفسير ماركس ولكنه استند إليه ولم يقطع معه قطعاً مطلقاً، بل استلهم مفهوم (الربح الاحتكاري) لأن التطور جاء ضمن الظرف الملموس وضمن ما تقدمه الحياة، إلا أنه استند إلى الجوهر الذي بقي صحيحاً، فعرض لينين اعتبار الربح الاحتكاري هو الذي يمثل فائض القيمة + هوامش الربح التي يحققها العرض والطلب من البضائع وقوة العمل والرأسمال، في ذلك الحين كفر لينين من قبل البعض لأنه خرج عن تفسير ماركس، إلا أن هذه الظاهرة تغير شكلها كثيراً لأن ماركس لم يضع وصفة شاملة للنضال ضد الرأسمالية بالرغم من أنه اكتشف 67 قانوناً في النظام الرأسمالي وحده وما زالت صحيحة لقد تكلم ماركس عن انتصار الثورة البروليتارية في الغرب وربما دفعة واحدة، إن ماركس وضع فرضية تغيرت شروطها فيما بعد ولم تتحقق، لينين اكتشف قانون التطور المتفاوت واستنتج مستنداً إلى رؤية ماركس، إمكانية انتصار الثورة البروليتارية في الحلقة الأضعف، حينما رأى لينين أن التركيب العضوي للرأسمال تغير، المادة الخام تغيرت، فاقترح عام/ 1912 استناداً إلى التركيب العضوي للرأسمال في أوروبا، وإلى وضع روسيا، فتوصل إلى استنتاج بأن الحلقة الأضعف هي روسيا، وقد استخدم هذا الاستنتاج ووصل إليه من خلال الإحصاء والأرقام وظهرت صوابية استنتاجاته وأثبت بالتجربة العملية صحة نظرية التطور المتفاوت واحتمال انتصار الثورة في بلد واحد).
جوزيف ستالين
سادت في مرحلة ستالين التي استمرت من عام/ 1924 حتى عام/ 1953 ظاهرة سميت بظاهرة ستالين والتي استمرت (29 عاماً) تعتبر أحد الأسباب الرئيسية في تفكك دول النظام الاشتراكي وانهيار نظامه، لأن هذه الظاهرة بدلاً من أن تتواصل مع مرحلة لينين وتطور النظرية الماركسية في صراعها مع المرحلة الرأسمالية الامبريالية، أدت إلى العكس والارتداد فأفرزت السلبيات (البيروقراطية التي كانت موجودة في عصر لينين وكان المفروض أن يقضى عليها في مرحلة عصر ستالين إلا أنها تطورت وأصبحت مرضاً عضالاً ينخر في جسم الدولة السوفيتية. وبرزت معها عبادة الشخصية والتأليه والاستبداد والدكتاتورية وفقدان الديمقراطية والرأي الجماعي المشترك وساد تسلط الفرد وطاعته مما أدى إلى الجمود الفكري والعقائدي، وهذه الظاهرة تفشت في جميع أنظمة الحكم في الدول الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية). إن هذه الظاهرة الغريبة عن طبيعة وأخلاقية النظرية الماركسية ومكوناتها ليست وليدة يومها ولم تنتهي بوفاة ستالين لأنها كظاهرة تكمن وراء نشوئها وتطورها أسباب وعوامل، وهذه الأسباب والعوامل أصبحت روافد سلبية تصب بها، فأدى ذلك إلى تراكمها فأصبحت أمراضاً مزمنة لا يمكن علاجها مما أدى إلى موتها (على يد الدكتور غورباتشوف ..!!). من خلال هذه المسلسلة الدرامية التي أدت إلى ظهور (ظاهرة ستالين). يجب التوقف عندها واستعراضها من خلال السرد الواقعي الملموس التاريخي من أجل الوصول إلى معرفة الأسباب والمسببات ومن خلال البحث والتحليل التي أدت إلى تلك النتيجة المدمرة والكارثية.
ولد جوزيف ستالين عام/ 1879 من أصل جورجي، من أسرة فقيرة حيث كان والده حتى عام/ 1861 من طبقة الأقنان (العبيد). ودرس في مدرسة تديرها الكنيسة الأرثوذوكسية، وحينما بلغ من العمر خمسة عشر عاماً دخل في مدينة تبليسي المدرسة الكهنوتية الأرثوذوكسية وكانت هذه المدرسة مركزاً للنزعة الشوفينية للقومية الجورجية الليبرالية، وفي هذه المدرسة أخذ يكتب الشعر في المجلة التي تهتم وتنشر النعرة القومية الجورجية (أبييريا) وكان ستالين ينشر شعره تحت اسم مستعار هو (سوسيلو). وقرأ مجموعة كبيرة من الروايات الروسية والفرنسية والانكليزية، وفي التاسعة عشر من عمره انضم إلى مجموعة اشتراكية معتدلة سرية، ونشط سياسياً في تلك الفترة وطرد من المدرسة الكهنوتية بسبب نشاطه السياسي، وبعد فصله من المدرسة عمل لمدة قليلة في وظيفة متواضعة في مرصد تبليسي وفي عام/ 1901 اضطر إلى الاختفاء عن أنظار الشرطة بسبب نشاطه السياسي في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الذي أسسه لينين، ومنذ عام/ 1901 أصبح محرراً في صحيفة (النضال) السرية، وانحاز إلى لينين وانسجم مع أفكاره التي كانت تنشرها صحيفة الشرارة (ايسكرا) التي أسسها لينين خارج روسيا، وأصبح ثورياً محترفاً ومندفعاً بإخلاص وتفاني، صحفي ومنظم بلشفي، حتى أصبح مناضلاً محنكاً اضطلع بدور هام في القفقاس وفي جورجيا وفي أذربيجان، وقام بدور فعال في ثورة / 1905، وكان يمتاز بالشجاعة والجرأة والإقدام، فأصبح عنصراً صدامياً لا يهاب أو يخاف أو يتراجع، وأصبح قائداً للألوية المقاتلة البلشفية التي كانت تقوم بأعمال جريئة في الغارات المسلحة على البنوك الحكومية من أجل توفير الأموال للبلاشفة ودعم الحزب مادياً من أجل استمراريته وديمومته في النضال والكفاح، مما جعله عرضة للملاحقة والاعتقال والتعذيب والسجون ونفيه إلى سيبيريا حيث عاد منها في ثورة أكتوبر عام/ 1917، كان يشارك بالكونفرسات الوطنية للحزب في فنلندا ومؤتمر ستوكهولم عام/ 1906 وفي مؤتمر لندن عام/ 1907، وفي عام/ 1921 اختير مع آخرين أعضاء في اللجنة المركزية للحزب البلشفي وكان عددهم سبعة أعضاء، وأعطي مسؤولية كمنظم للحزب في روسيا، وقام بنشر جريدة (البرافدا) بصورة علنية، وفي السنة نفسها طلب منه لينين أن ينضم إليه في مدينة (كراكوفا في بولندة) للنضال والعمل لأنها كانت تحت الاحتلال النمساوي، وفيما بعد أرسل إلى النمسا ممثلاً عن الحزب الشيوعي، وقد قضى فترة ستة أشهر في خارج روسيا، فأصبحت خبرة ستالين قبيل الثورة غنية في جميع أنواع المهمات، وبعد عودته من الخارج إلى روسيا اعتقل ونفي إلى سيبيريا وبقي هناك حتى أطيح بالقيصرية في ثورة أكتوبر عام/ 1917. كان ستالين يمتاز بالتواضع والإصرار والتصميم والإرادة وكان يمتاز أيضاً بحس أمني كبير وحذر شديد، ونتيجة لتفانيه وكفاءته وصل إلى قمة الهرم الحزبي، كان يمتاز بالصفة المتوهجة للأسماء المستعارة التي اختارها مثلا ايفانوفيتش الذي كان بطلاً أسطورياً من أبطال جورجيا في العصور القروسطية، واسم كوبا التي تعني (الذي لا يقهر) وأن يتخذ اسم ستالين عام/ 1913 الذي يعني (الفولاذ) الذي من خلاله دخل التاريخ على قدم المساواة مع الإسكندر المقدوني ويوليوس قيصر ونابليون، كان ستالين يمتاز بالصمت والهدوء فقد كتب عنه سفيردلوف حينما كان معه في المنفى (سيبيريا) فقال : (كان شاباً ظريفاً ولكن سلوكه في الحياة اليومية فردي وانعزالي بشكل طفيف، وفي بعض الأحيان تصيبه ما يشبه الكآبة والحزن، أعيش معه في قسمين منفصلين ونادراً ما نرى بعضنا). كان ستالين يعيش بحياة شخصية فارغة جداً، فليس لديه أصدقاء ولا زوجة وبقي وحيداً في أثناء سنوات نفيه الطويلة في سيبيريا الشمالية، حيث كان يقضي وقته في القراءة، وكان لا يعرف من اللغات سوى الجورجية والروسية، وكانت أذواقه بسيطة حيث لم يكن يعتني بالطعام عناية خاصة ولكنه كان يحب شراب الفودكا، ولم تثر النقود والنساء اهتمامه الحقيقي، والشيئان الوحيدان اللذان اعتني بهما بشغف هما الثورة والسلطة، وكانت الأولى جلبت له الأخيرة وقد جسدت حياته سمات برهنت على أنها حاسمة في المستقبل، ولما كان انحداره الطبقي من خلفية متواضعة مما يسرت له معرفة الشعب وردود فعله، وكانت جذوره عميقة في الماضي المتأخر حينما كانت مرحلة الإقطاع والقنانة الذي كان أبوه ينتسب إليها. وقد ذكر المؤرخ الفرنسي في دراسة عن الشعب الروسي (ليروي بيليو) : (كانت القرون الوسطى بالنسبة لجماهير الشعب الروسي لا تزال موجودة). وكان ستالين قد عرف ذلك ليس بالنظرية حسب، بل بالملموس من خلال البيئة الاجتماعية .. الثقافية التي نشأ وترعرع بها، وبما أنه كان طالب لاهوت حتى سن التاسعة عشرة، فقد احتفظ من أيام دراسته برؤية علمية للتراث الأرثوذوكسي، مجرداً من صفاته الصوفية والدينية وهذا ما قربه أيضاً من الشعب. إن أسلوبه الذي كان ممثلاً للطقوس الدينية الأرثوذوكسية كان بسيطاً وفي متناول أكثر الفلاحين تخلفاً وكان ستالين يعاني من ضعف بسيط في ذراعه اليسرى.
عندما سقطت القيصرية كان عمر ستالين في الثامنة والثلاثين، فكانت على حياته أن تتغير، بعد أن جعلت تلك الحياة في محنة حينما كان في منفاه في سيبيريا أصبح جسده أكثر نحافة من السابق، وكان نحيلاً وأقرب إلى القصر (67,1م) وكان وجهه يحمل ندوب مرض الجدري، ومظهره غير جذاب جداً.
في عام/ 1917 كانت الثورة تسير للأمام، ونظام القيصرية يتهاوى ويسقط وقد أطلق سراح ستالين وعاد من سيبيريا إلى بيتروغراد بقطار محمل بالمنفيين الذين كانوا يقابلون بالتصفيق على طول الطريق وفي يوم 27/ آذار/ 1917 وصل إلى بيتروغراد مع كامينيف، قبل وقت طويل من وصول جميع قادة الثورة المعترف بهم تاريخياً، وقام بدور هام وفعال، ولكنه في ذلك الوقت لم يكن يشغل موقعاً هاماً في الدولة وإنما أشرف مع كامينيف على صحيفة البرافدا. وكانت مواقفة وسطية في المناظرات التي كانت تجري حول مستقبل الثورة ذاهباً إلى حد قبول فتح مفاوضات مع تيار المناشفة حول الوحدة الاشتراكية ومتخذاً موقفاً انتقادياً محايداً إزاء الحكومة المؤقتة بقيادة كيرنسكي، وكان هذا الموقف التوفيقي من جانب ستالين ينسجم مع موقف لينين الذي دعا إليه وشجعه حالما وصل من منفاه إلى بيتروغراد في 16/ نيسان/ 1917. ويعتبر موقف ستالين تراجعاً وتغييراً عن مواقفه السابقة وأصبح مؤيداً ثابتاً للينين، وفي شهر أيار من تلك السنة انتخب ستالين عضواً للجنة المركزية للحزب المكونة من تسعة أفراد، وفي شهري تموز وآب أصبح ستالين على رأس قيادة الحزب لأنه الشخصية الوحيدة الذي استطاع الإفلات من الاعتقال من قبل رجال حكومة/ كيرنسكي المؤقتة، أما باقي أعضاء القيادة فقد اعتقلوا ولينين استطاع أن يختفي ويفلت من الاعتقال، وعندما اقترح لينين على اللجة المركزية أن تعد للانتفاضة ضد حكومة كيرنسكي/ المؤقتة كان ستالين من المؤيدين والمندفعين نحوها، وفي 20/ أكتوبر انتخب عضواً بالمكتب السياسي الذي تم تشكيله من دزرجينسكي إلى جانب لينين وزينوف وكامينيف وتروتسكي وسوكولنيكوف وبوينوف (إن جميع هؤلاء جرت تصفيتهم أو إعدامهم باستثناء تروتسكي الذي نفي خارج الاتحاد السوفيتي بأوامر من ستالين أثناء القمع الواسع في زمن ستالين في الثلاثينيات). وكان عضواً في اللجنة العسكرية الثورية للسوفيت في بيتروغراد (سميت فيما بعد ستالينغراد). ونتيجة لأعماله الجلية ونضاله وكفاحه أطلق عليه لينين لقب (الجورجي الرائع) وفي تلك الفترة توفت زوجته وكان لديه طفل واحد فأرسله إلى والديه لرعايته من أجل أن يتفرغ كلياً للحزب والثورة. وكان نحيفاً متوسط القامة وشواربه كثيفة. بعد ثورة أكتوبر/ 1917 أصبح مفوض الشعب للقوميات، ويعتبر هذا المنصب مهماً، إنه انتخب لهذا المنصب بسبب تأييده والانحياز إلى جانب لينين أثناء المناقشات الصعبة التي كانت تجرى في الفترة التي أعقبت الانتفاضة، وكانت تلك اللجنة التنفيذية مؤلفة من أربعة أشخاص (لينين وستالين وسفيردلوف وتروتسكي) وكانت مهمة تلك اللجنة قيادة الحزب، وكذلك انتخب إلى عضوية مجلس مفوضي الشعب المحدودة مع (لينين وتروتسكي) وأصبح دور ستالين مهماً وكبيراً جداً، غير أنه عانى من شهرة تروتسكي الذي أصبح منذ عام/ 1918 مفوض الشعب للحرب ومسؤولاً عن النصر الذي تحقق الذي عاد عليه بالمجد والفخر وأصبح في أعين الشعب الرجل الثاني بعد لينين في سدة الحكم، كما كان تروتسكي يظهر في الصور مع لينين على مستوى واحد وكان يظهر خلفهما (كالينين) رئيس لجنة السوفيتات التنفيذية. كان ذلك يثير في قلب ستالين الحقد والكراهية والبغض ضد تروتسكي مما جعله يتصرف بمكر عند الضرورة في هذه الفترة، كما تعلم كيف يجذب أنظار الشعب إليه ويسيطر عليه فمثلاً : في أحد اجتماعات لجان المفوضين للقوميات، غادر الاجتماع حينما سئل عن موضوع محرج وأن يعطي رأيه حتى يتجنب المواقف الصعبة أمام الآخرين من الأعضاء. ولكنه لم يتردد في استخدام العنف والإرهاب على نطاق واسع عندما يكون ضرورياً وممكناً. كما كان جوابه للينين الذي كان قلقاً حول خطورة اندلاع انتفاضة يسارية متطرفة في مدينة (تسارتيسين) : (لتكن متأكداً أن أيدينا لن ترتعش وأن أعداءنا سوف يعاملون كأعداء). وفي نفس الوقت كان قادراً على التراجع لو كان يعلم أن الوضع في غير صالحه. ومثل آخر، عندما واجه تروتسكي في مناقشة حول إدارة العمليات العسكرية كان تفسيره للموقف تكتيكياً بارعاً أكثر منه استراتيجياً. في شهر آذار/ 1919 انتخب عضواً بارزاً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي الذي أعيد تكوينه مع لينين وتروتسكي وكامينيف وكريستنسكي. ومع أنه لم يكن معروفاً جيداً خارج دوائر السلطة القائدة في الحزب، فإن سلطته أخذت بالتنامي أكثر فأكثر حينما أصبح عضواً في المكتب السياسي للحزب ومفوض الشعب للقوميات والمسؤول الأول للتفتيش العمالي والفلاحي عام/ 1921. فأصبح يجمع في يديه نفوذاً وصل من خلالها إلى كل ممر من ممرات السلطة. وكان يكشف أفكاره بالتعبير عنها علناً، فإنها لا تبدو مختلفة عن أفكار أغلبية القادة البلاشفة، وكان يمتاز بالحساسية القليلة إزاء النفوذ الغربي، وكقفقاسي مسؤول عن قضية القوميات كان ينظر نحو الشرق. وثمة مقالتان نشرهما في صحيفة البرافدا بعد ثورة أكتوبر/ 1917 تحملان العنوانين التاليين تعبر عن ذلك الشعور والمغزى (لا تنسوا الشرق). (وضوء من الشرق). وفي خلال المناقشة حول توقيع معاهدة (بريست – لينوفست) (اسم المدينة التي عقدت فيها اتفاقية الصلح بين ألمانيا والاتحاد السوفيتي عام/ 1918 وقد سميت المعاهدة على اسم المدينة، وفي هذه المدينة التي احتلتها القوات الألمانية حينما تدخلت مع دول أوروبية غريبة بعد ثورة أكتوبر عام/ 1917 وكانت تلك القوات الألمانية تزحف نحو بتروغراد للقضاء على الثورة الوليدة، وقد استغلت ألمانيا بعد استسلامها في الحرب العالمية الأولى تلك المنطقة في الأراضي الروسية فشيدت فيها قاعدة عسكرية ومصانع للسلاح فاستطاعت أن تدرب الجنود فيها وتنتج السلاح المختلف الأنواع الذي مهد وساعد ألمانيا في زمن هتلر بشن الحرب العالمية الثانية). وضعه لينين الذي كان يدعمه بصفة عامة في مكانه من خلال تعابير ليست غير مؤكدة تعبر عن شكه (بستالين) في الطاقة الثورية للبروليتاريا في البلدان الرأسمالية الغربية المتطورة، وهذا الشك لا يجعل ستالين موضوع اختلاف واضح بينه وبين القادة البلاشفة الآخرين، هنالك مصدر قلق عبر عنه لينين من خلال ملاحظاته في أيام (23 و 25/ كانون الأول/ 1922 وفي 4/ كانون الثاني/ 1923، كان قلق لينين يعبر عن خوفه من احتمال حدوث نزاع بين ستالين وتروتسكي يمكن أن يؤدي إلى حدوث انشقاق في الحزب الشيوعي، وقد يؤدي إلى الحرب الأهلية وهلاك الثورة، وقد أصبح لينين يخشى من خلال العلاقة بينهما تُكوِن القسم الأعظم من خطر قيام انشقاق في صفوف الحزب (المؤلفات الكاملة، المجلد 36 صفحة 596) وقد أصبح هذا القلق مشروعاً عند لينين ويمثل أكثر خطورة لديه، بسبب وجود عناصر بالحزب الشيوعي تتربص بالحزب مُؤيدة وساعية إلى خلق الانشقاقات في الحزب من أجل خلق أحزاب عديدة ومختلفة، وكان قلق لينين سببه بشأن السلطة المتنامية لستالين والطريقة التي كان يستخدمها بها، وفي 3/ نيسان/ 1922 كان كامنيف قد اقترح بأن يشغل ستالين منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي. وقد انتخب لهذا المنصب في اجتماع اللجنة المركزية للحزب في نهاية المؤتمر الحادي عشر، وكان هذا المنصب قد استحدث في عام/ 1918 وكان سفيردلوف أول من شغل هذا المنصب حتى وفاته في آذار/ 1919 وتبعه في ذلك كريستنسكي وفي عام 1921 شغل هذا المنصب مولوتوف، وفي الأصل كان هذا المنصب إدارياً أكثر منه سياسياً ولكن بتراكم مهمات ومسؤوليات الحزب ونمو دوره، أصبح منصب السكرتير العام هاماً جداً، لأنه كان مسؤولاً عن الكادر الحزبي وجميع نشاط الماكنة الحزبية، تلك الماكنة التي أصبحت أكثر وزناً واتساعاً. كما أصبح ستالين أيضاً عضواً في (اللجنة المسؤولة عن توزيع الأملاك). وعند تعرض لينين للجلطة الدماغية بسبب نزف دموي في الدماغ تعزز دور ستالين باعتباره السكرتير العام للحزب ويصبح بشكل أكبر، وأصبح هو الوحيد من بين قادة الحزب الشيوعي الذي يمتلك تلك المسؤوليات الواسعة (السكرتير العام للحزب وعضواً في المكتب السياسي للحزب، وعضواً في اللجنة السياسية المسؤولة عن توزيع الأملاك، ورئيساً وسكرتيراً لمفوضتين مهمتين من مفوضيات الشعب). وهكذا كانت ملاحظة لينين (إن للرفيق ستالين سلطات غير محدودة مركزة بيده) (المؤلفات الكاملة المجلد 36 صفحة 594) وكان لينين يدرك ويلاحظ موقفاً فعلياً كان يبدو مثيراً للاضطراب حينما يقول (إنني لست متأكداً من أنه سيكون دائماً قادراً على استخدام ذلك النفوذ بحذر كاف) (المؤلفات الكاملة المجلد 36 صفحة 594 – 595) من خلال هذه الوقائع استند لينين في تصريحه الذي أصبح حقيقة مؤكدة بعد أيام أي في 4/ كانون الثاني/ 1923 حيث قال (ستالين فظ جداً) مما أدى به أن يقترح بالتفكير بطريقة لإزاحة ستالين من هذه المناصب، ولكنها أصبحت من الواضح مهمة صعبة جداً، وأصبح لينين مهتماً بالعمل اليومي لستالين، الذي كان مسؤولاً عن مفوضيتين الشعب ومفوضية القوميات، والتفتيش العمالي والفلاحي، كما انتقد لينين ستالين فيما يتعلق الأمر بمسألة القوميات بسبب خطته العامة التي أفضت به إلى أن يطرح دستوراً تصبح فيه الجمهوريات السوفيتية غير الروسية جزءاً من الجمهورية الروسية الاتحادية الاشتراكية السوفيتية، مما اضطر لينين في النهاية إلى التدخل في نهاية عام/ 1922. وأصبح اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، كما انتقد لينين بعنف الموقف الذي تبناه القادة البلاشفة بتأثير من ستالين (كان ستالين من أصل جورجي وكان يمتاز بالنزعة القومية الشوفينية) وكان المعنيون (دزرجينسكي وأورجو نيكدزه وستالين). وقد انتقد لينين بعنف تصرفات الشيوعيين الجورجيين لأنهم شتموا وتعاملوا بقسوة مع القادة البلاشفة لمعارضتهم تأسيس جمهورية ما وراء القفقاس ودعوا إلى استمرار وجود جمهورية جورجيا الاشتراكية ضمن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية، السوفيتية، وكان النقد موجه (ضد ستالين) الذي وصفه لينين بالرجل الشوفيني المنادي بروسيا العظمى وافتتانه بالأسلوب الإداري المحض (المؤلفات الكاملة المجلد 36 صفحة 606) كما انتقد لينين ستالين من طرف خفي حينما قال (إن الناس الذين يصبحون متروسين يغالون في إطار هذه العقلية الروسية) وكان القصد سياسة ستالين ذات نزعة شوفينية روسيا العظمى وأصبح ستالين روسياً أكثر من الروس.
لقد اختار لينين ألفاظاً فظة جداً بما يستحقه الجيورجي المهمل لهذا الجانب من المسألة القومية والذي كان يلقي الاتهامات بـ (الاشتراكية القومية) جزافاً بينما هو الاشتراكي القومي حقاً وصدقاً، ومن دعاة روسيا العظمى المبتذلين وينتهك بذلك جوهر مصالح التضامن الطبقي البروليتاري (المؤلفات الكاملة، المجلد 36 صفحة 608) (كبوريس يلتسن) رئيس جمهورية روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي يردد ذلك الشعار (روسيا العظمى) في خطاباته وربما كان متأثراً بستالين ومن أنصاره ..!!). ورأى لينين الخطر الحقيقي الذي شكله نشاط ستالين والسمة الحقيقية لهذا الخطر حيث وجه له أعنف الانتقادات فيما يتعلق بقضايا (التفتيش العمالي الفلاحي) الذي كان يشرف عليه ستالين. وكان يقول : (لنقل صراحة أن (مفوضية الشعب للتفتيش العمالي والفلاحي) لا تتمتع في الوقت الحاضر بأبسط نفوذ، ويعرف كل إنسان أن ليس ثمة مؤسسات أخرى أسوأ تنظيماً من مؤسسات التفتيش العمالي والفلاحي، ولا يمكن توقع أي شيء من هذه المفوضية في الظروف الراهنة (المؤلفات الكاملة المجلد 33 صفحة 490)). وفي نفس الوقت اقترح لينين وجوب إصلاح نشاطات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي والمكتب السياسي والسكرتارية، وكانت هذه الانتقادات أكثر عنفاً في مقال لينين (أفضل أقل شرط أن يكون أفضل). وكان انتقاد لينين لستالين انتقاداً جذرياً مثل (يمتلك سلطة غير محدودة) (إنه فظ) (استعجاله يضطلع بدور مشؤوم) (سياسته سياسة شوفينية روسيا العظمى) (انتعل أحذية جهاز الدولة السابق (القيصري) (إنه بيروقراطي). والحوادث ذات الطابع الشخصي لستالين طالت زوجة لينين (كروبسكايا) وطور الوضع إلى أكثر سوءاً، ولم تكن مثل هذه المسائل على مستوى العلاقات الشخصية بين القادة البلشفيين، وكانت هذه الأخطاء على الضد مما يقال في أغلب الأحيان، ليست عرضية ولا صغيرة، وإنما كانت عميقة وطويلة المدى وجدية وذات مضامين أكثر من مجرد اعتبارها مضامين شخصية، ومن أجل تجاوز الماضي قام لينين بمصالحة مع تروتسكي عند معارضته الضارية لأطروحات تروتسكي حول عسكرة العمل ودمج النقابات في الدولة كجزء منها التي كان يعتبرها تروتسكي هي الأساس الذي لا غنى عنه لتنظيم قوة العمل وقد طرد من العمل قادة نقابة العاملين في السكك الحديدية وحاول أن يفرض سياسة مركزية مما دفع بلينين والحزب إلى انتقادها، وفي النهاية قبل تروتسكي قرارات الحزب وبدأ يتفق مع لينين على الكثير من النقاط، وفي نفس الوقت كان لينين ينتقد تروتسكي على شعوره المفرط بثقته بنفسه، وانشغاله في الجانب الإداري من العمل.
من خلال هذه النصوص المهمة تنكشف أمامنا أمور يجب أن نعرفها ونفهمها عن كيفية ظهور ظاهرة ستالين إلى الوجود، وليس لتمجيد تروتسكي أو للحط من قدر ستالين وإنما المهم هو طبيعة القضايا التي أثارها وكشفها لينين، والتي لم تمس الأشخاص التي شملتهم. في عصر لينين كانت توجد أخطاء وبيروقراطية في الماكنة السوفيتية، وأدرك لينين خطورتها، إلا أن ذلك لا يعني أنه رأى كل عواقبها الممكنة وتأثيرها على مستقبل الاتحاد السوفيتي. إن البيروقراطية والسياسات القومية الشوفينية لروسيا العظمى لم يكن من المستطاع مكافحتها إلا بديمقراطية واسعة، وهذه الديمقراطية لم يكن لها قاعدة أو إمكانية التعامل معها في روسيا عام/ 1922، وبسبب الافتقار لهذه القاعدة أدت إلى تراكم البيروقراطية وظاهرة ستالين وغيرها من السلبيات، إن الظروف التي أحاطت بثورة أكتوبر/ 1917 التي هددت الثورة والتي استمرت حتى عام/ 1922، أدت إلى عدم إفساح المجال لظهور قاعدة الديمقراطية، كان هذا البلد لا تتوفر فيه حرية الكلام ولا حرية عقد الاجتماعات، ولا التنظيم في جمعيات ولا انتخابات وكانت السلطة في يد حزب واحد، وفي أيدي مجموعة صغيرة من الرجال ضمن ذلك الحزب، ولا توجد التقاليد الديمقراطية ولا المؤسسات الدستورية ومن تلك الأسباب ذاتها انتصرت ثورة أكتوبر/ 1917. كانت توجد في مدينة (سمولنيسك) خمسمائة أرشيف عن مرحلة ما بعد ثورة أكتوبر سيطرت عليها القوات الألمانية عند غزوها للاتحاد السوفيتي عام/ 1941. وقد حصل عليها الأمريكان عند احتلالهم لألمانيا وأخذت هذه الأرشيفات إلى واشنطن، وقد استخدمها المؤرخ الأمريكي (فينسود) ونشرها في كتاب صدر عام/ 1958، في سنة 1920 كان سكان منطقة سمولنيسك مليونين وخمسمائة ألف نسمة وكان للحزب (128 عضواً) انضموا إلى الحزب قبل سقوط القيصرية في عام/ 1917 و (366 عضو) انضموا إليه في عام/ 1917 وفي عام/ 1919 وصل عدد أعضاء الحزب إلى (2566 عضواً) وفي عام/ 1921 (5629 عضواً) وفي عام/ 1924 (5655 عضواً). وفي منطقة الغرب بالرغم من أنها واحدة من أكثر المناطق ريفية كان الحزب عام/ 1924 لا يزال قطرة من الماء فقط في البحر الروسي، ومن هنا نبعت الصعوبات في بناء الاشتراكية وظهور ظاهرة ستالين، ولا يمكن مقارنة هذه الفترة بالزمن الذي كان فيه لينين حياً. وبالرغم من أن ردة الفعل التي أحدثت القمع ضد الجيش الأبيض وأنصارهم السياسيين والاجتماعيين أنجبه إرهاب الجيش الأبيض الحرس الخاص للقيصر، إلا أن القمع الذي حدث ضد الجيش الأبيض لا يمكن قياسه بالقمع الستاليني الواسع من حيث الكمية ومن حيث النوعية حيث ذهب ضحيته حوالي 750 ألف إنسان.
بعد موت لينين عام/ 1924، حل ستالين محله وفي نفس السنة عقد الحزب مؤتمره وخطب ستالين فيه باعتباره السكرتير العام للحزب، فقدم اعتذاراً عن الأحداث في جورجيا، وتحدث عن مكافحة البيروقراطية بحيوية، ووعد بأن يكون أكثر تهذيباً وأقل وحشية ولذلك بقي في منصبه واستخدم صلاحياته للسيطرة على ماكنة الحزب، واستطاع بمهارة فائقة إزالة الموظفين الذين يشك بولائهم له واستبدالهم بموظفين موالين له والتعيين القانوني للآخرين، وقبل صعود ستالين تشكلت مجموعة معارضة داخل الحزب وفي تشرين أول عام/ 1923 في عهد لينين ناشد (46 عضواً قيادياً في الحزب اللجنة المركزية للحزب) أن تقوم بسرعة بتصنيع وتوسيع الديمقراطية داخل الحزب وكان من بين الموقعين الاقتصادي البارز بريوراجنسكي سكرتير سابق للجنة المركزية، وبياباكوف وأوفسيتكو وأنطونوف ومارلوف وبيونوف وغيرهم من العلماء والاقتصاديين والمفكرين والباحثين وجميعهم جرت تصفيتهم على يد ستالين في الثلاثينيات.
في صيف عام/ 1923 اتخذ زينوفيف مبادرة لاجتماع سري في منتجع كيسلوفودسك مستغلاً وجود مجموعة من قادة الحزب في ذلك المنتجع، وشارك في الاجتماع بوخارين وغورشيلوف وعدد آخر من القيادات السياسية والغرض من هذا الاجتماع للحد من سلطة ستالين بتحويل سكرتارية الحزب المحصورة بيد ستالين فقط إلى هيئة سياسية من مجموعة من الأشخاص وقد أخبر أوجرنيكيدزه ستالين بذلك الاجتماع، فأحبطت المناورة وأجريت تصفية جسدية لهم، في المؤتمر الرابع عشر للحزب قام قسم من أعضاء اللجنة المركزية بنقد ستالين، وبعد المؤتمر تم عزل جميع الذين وجهوا نقداً لستالين ومن ثم أعدم قسم منهم وشرد الآخرون. عزلت المعارضة لستالين داخل الحزب في البلاد، وعلى الرغم من القرارات التي اتخذت في المؤتمر العاشر في عهد لينين، إلا أن ستالين استطاع أن يلتف حولها براية وحدة الحزب والاشتراكية في بلد واحد وأن يقضي على جميع من شارك في وضع تلك القرارات.
في تشرين أول/ 1925، أزيح تروتسكي (العدو الخفي) من المكتب السياسي للحزب، وفقد كامنيف منصبه كرئيس للأممية الشيوعية، وفي مناسبة الذكرى العاشرة لثورة أكتوبر نظمت مظاهرة بالمناسبة، إلا أن ستالين اعتبر تلك المظاهرة تحريضاً ضده من جانب تروتسكي وكامينيف وسميليفا وراديك وبياتكوف ولاشيفيتش وراكوفسكي وانتخريوغا الذي كان سفيراً للاتحاد السوفيتي في برلين احتجاجاً على طرد تروتسكي من الحزب، وجرت تصفية وهروب جميعهم، وبذلك خلت الساحة لستالين ونمت سلطته ونفوذه بفضل هذه الأحداث وأرسيت قاعدته السياسية والأيديولوجية بثبات كبير من جوانب متعددة. لم تظهر الديمقراطية داخل الحزب، ويعزى ذلك إلى ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية التي كانت سائدة قبل ثورة أكتوبر/ 1917 وظروف خارجية وداخلية بعد قيام الثورة، ولذلك لم يكن هنالك مجال في نشوء وتطور الديمقراطية، لأن الديمقراطية مجموعة مناهج وأسس وتنظيمات وهي بالأساس تربية وتكوين وبناء الذات الإنسانية لأنها تفرض على الإنسان أن يجلس مع إنسان يختلف معه في الرأي ويتحاور معه بشفافية واحترام وتقدير ولذلك فإن الديمقراطية تحتاج إلى ركائز ترتكز عليها وترسخها وتنميها من الثقافة والوعي الفكري والمعرفة الواسعة، ولذلك فإن الديمقراطية ليس بالقميص نرتديه حتى نصبح ديمقراطيين ولا التجديد سكر نضعه مع الشاي ونشربه فنصبح مجددين كما أن الطبيعة الاجتماعية من حيث التقاليد والعادات لا تتغير بسرعة لأنها مغروسة بالعقل الباطني للإنسان بعكس الحالة المعاشية فإنها تتغير بسرعة لأنها تتبع لظروف الإنسان الاقتصادية، فمثلاً إنسان مورده الشهري كان يبلغ ألف دينار فإذا أصبح المورد عشرة آلاف دينار فإن ذلك التغيير يظهر بسرعة على الإنسان من حيث المسكن والمأكل والملبس بعكس الطبيعة البشرية حينما تمسك الإنسان فهي تحتاج إلى ممهدات ومكونات وأسس سابقة وحينما يحدث التغيير في المجتمع من خلال الانتقال من مرحلة متأخرة إلى مرحلة أكثر تقدمية فإن مكونات الديمقراطية تتطور مع تطور المجتمع ولم يفاجئ الإنسان بمولدها لأنها تصبح حالة من حالات التسيب والتجديد يصبح حالة من حالات الانفلات. وخلاصة الموضوع فإن الديمقراطية تبدأ حينما نتعلم أن نقول أنت وأنا وليس أنا وأنت، لأن الديمقراطية ليست وهماً وإنما خياراً ضرورياً صعباً وفي ذات الوقت ليست حلاً سحرياً ينزل علينا من السماء، وإنما هي سيرورة ثقافية من الممكن أن نعيها وأن نتعلمها ومن ثم نمارسها إذا ما توفرت الظروف والشروط والآليات المناسبة لتطبيقها، ما فائدة الحديث عن الديمقراطية وحرية الرأي والعقيدة، إذا كنا لا نطبق أقوالنا مع الواقع العملي، وإذا فعلنا ذلك فإننا نستغله لمصالحنا الخاصة، إن الديمقراطية تعتبر الإنسان لديه حقوق وعليه واجبات وهذا يعني أن الديمقراطية قانون توازن بين الحقوق والواجبات الإنسانية مما يعني أيضاً أن الديمقراطية تعمل من أجل الحق والحقيقة، فما الفائدة من الديمقراطية إذا كان الإنسان يستخدم سلاح الحق من أجل مصالحه الشخصية وليس كهدف يقصده لذاته ؟ وإذا تنازع الناس حول حق من الحقوق إنما هم ينشدون به مصالحهم الخاصة، وإذا تناقض الحق مع المصالح الخاصة كانت المصلحة الخاصة أولى بالإتباع، والإنسان حينما يسعى وراء مصلحته الخاصة يغطي سعيه ببرقع من الحجج المثالية ويأتي بالأدلة العقلية والنقلية ليدعم به موقفه، نلاحظ أن البعض يتشدق ويتفلسف بمفاهيم الديمقراطية ويدعو إلى تطبيقها ولكنه لا يمارسها في بيته وعمله وفي علاقاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إن الديمقراطية ثقافة وسلوك اجتماعي ينبغي أن تبدأ ممارستها من البيت أولاً ثم المدرسة والشارع والعمل ثانياً، وثالثاً تنتهي بالمؤسسة السياسية والأمنية والعسكرية.
بعد هذه النبذة المختصرة عن الديمقراطية، نعود إلى الظروف والأوضاع الاستثنائية التي أفرزتها قيام ثورة أكتوبر عام/ 1917. كانت دكتاتورية البروليتاريا أحد الأسس التي يتم تطبيقها بعد ثورة البروليتاريا ضد الطبقة البورجوازية وهذا ما جرى عمله بعد ثورة أكتوبر/ 1917، إلا أن ظروف التدخلات الخارجية والتمردات الداخلية سارت الدكتاتورية البروليتارية في منحى آخر من العنف والإرهاب حتى أصبح عنفاً وإرهاباً خارج مفهومه الواقعي والعملي وقد استغله ستالين في تصفية خصومه ومن أجل تثبيت حكمه وترسيخ سلطته الدكتاتورية. حيث جعل من مؤسسات الدولة وسائل في تنفيذ سياسته، إن المديرية السياسية للدولة وهي المنظمة الأمنية التي حلت محل اللجنة الاستثنائية أصبحت تضطلع بدور متزايد ومهمات كبيرة من خلال قانون العقوبات الذي ينص على مبدأ (الجرائم ضد الدولة) بحيث أصبح يشمل أي نقد مكتوب أو شفوي لنظام الحكم السوفيتي، كما نص على ترحيل الناس ونفيهم دونما محاكمة لمدة تصل إلى ثلاث سنوات إذا شاركوا في نشاط مضاد للثورة، ومنحت صلاحيات واسعة للجنة خاصة في مفوضية الشعب للشؤون الداخلية (مؤسسة أمنية) وامتد عمل ونشاط هذه المفوضية إلى معسكرات العمل والصحافة والأدب والسينما والمسرح وجميع الأماكن العامة حتى الحزب الشيوعي نفسه، كما صدر قرار من المكتب السياسي للحزب عمم على جميع أعضاء الحزب يفرض عليهم إبلاغ هذه المفوضية الأمنية عن أي نشاط معادي للحزب والسلطة. وقد كانت هذه الظاهرة خطرة جداً، لأنها تدفع بالإنسان الانتقام من الإنسان الآخر حتى من الأسباب الشخصية إلى الوشاية عليه لدى تلك المفوضية، ومن يستطيع أن يحدد النشاطات المعادية للحزب والسلطة ؟ ومن الذي يقرر ذلك ؟ مما أدى إلى فسح المجال أمام كثير من التصرفات والسلوك الخاطئة والمتطرفة والجرائم شملت كثيراً من الناس الأبرياء، وكان ستالين مسؤولاً على هذه المفوضية التي ارتكبت أفضع وأشنع الأعمال التي يندى لها جبين الإنسانية، وقد اعترف ستالين بأنه (اقترف غلطة) بكونه مسؤول عن هذه المفوضية، إلا أن هذا الاعتراف كان مكيدة لأعمال أشنع وأفضع فشن حملة قمع ضد الصحافة التي كانت تنتقد بعض الأعمال التي تقوم بها تلك المفوضية، كما قامت المفوضية باختراع (الحرس الأبيض) الخاص بحماية القيصر والذي وقف ضد الثورة واتهام الأشخاص المشكوك بولائهم لستالين بالتعاون مع ذلك الحرس عن طريق الافتراء والكذب، ففي عام/ 1927 شنت ضد مجموعة من القادة البلشفيين (تشامبرلن وتروتسكي وغيرهم) بحجة تشكيل جبهة موحدة ضد ستالين، ثم قامت تلك المفوضية بحملة اعتقالات وملاحقات بحجة (التهديدات للمجتمع) وفي أكتوبر/ 1934 شددت العقوبات بموجب قوانين من أجل (الدفاع عن المجتمع) وحمايته من المجرمين والمذنبين الذين يعملون ضد النظام السوفيتي كما نصت (المادة 22) بأن أي امرئ يشخص على أنه يهدد المجتمع يمكن أن يحرم من العيش في مكان معين وينفى إلى مكان آخر، وكان (كريليتكو المدعي العام لجمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية والذي أصبح أحد ضحايا ستالين لاحقاً) قد أسس نظام المعزولين (للأعداء الطبقيين). وفي تشرين أول/ 1934 شرعت اللجنة التنفيذية قانون العمل الإجباري واستخدام السجناء في بناء السكك الحديدية وبلغ في تلك الفترة عدد المرحلين من مناطقهم بـ (185 ألف شخص). إن هذه المفوضية أصبحت المديرية السياسية الموحدة للدولة وأصبحت بالتدريج تستخدم ضد الشيوعيين من الذين يشك بولائهم لستالين بحجة مواقفهم ضد السلطة السوفيتية، وقد أدت تلك الأعمال بالاستعاضة عن جميع البلاشفة القدماء الذين شاركوا في ثورة أكتوبر/ 1917 والحرب الأهلية في الدفاع عن الثورة، بعناصر هزيلة وجاهلة. ونتيجة لهذه الأعمال والتصرفات انحسرت أهمية البلاشفة القدامى وأصبحت الأغلبية العظمى في الحزب الشيوعي من الأعضاء الجدد من العمال الفتيان (الشباب كما يحدث الآن في الأحزاب الشيوعية) وكان ستالين يشرف على تنظيمهم وتثقيفهم، وقد ألقى في أولشك الشباب محاضرة عن (الأسس اللينينية) وطبعت منها ملايين النسخ، وكانت (الأسس اللينينية) التي اخترعها ستالين تشكل أساساً مغرياً بصورة مرعبة في تشويه الأفكار اللينينية وانعكاساً لأفكار ستالين الذي يمثل عبادة الفرد والجمود العقائدي وتشويه الفكر الماركسي الخلاق إذا ما عوملت على أنها عمل من أعمال البحث النظري الماركسي. وفي تلك الفترة نجح الحزب تحت قيادة ستالين ضمن الحدود التي فرضتها الدكتاتورية الستالينية بالقيام بالدعاية الجماهيرية المطلوبة في تعليم جماهير الشعب التي لا تزال غير مثقفة ولا تمتلك مبادئ أولية في البحث النظري الماركسي. كما أن النظرية الماركسية التي أصبحت فلسفة الدولة الرسمية جرى تعليمها بطريقة جامدة عقائدياً أكثر فأكثر. وهكذا فإن أسس الستالينية وجدت بالفعل في زمن (النيب) وعلى الرغم من بعض الجهود لإعادة تنشيط السوفيتات على المستوى المحلي، والديمقراطية لم تحقق سوى تقدم بسيط، إلا أن الوضع تردى بالرغم من أن الحرب الأهلية كانت قد انتهت منذ أكثر من خمسة سنوات، إلا أن الحقيقة كما قال عنها تروتسكي ومن ثم ستالين (الاتحاد السوفيتي قلعة محاصرة) وكان خطر الحرب ضده لا يزال قائماً والتآمر عليه مستمراً، ولكن هذا لم يبرر ما كان يحدث من افتقار للديمقراطية داخل الحزب وظروف البلد تخلق وضعاً خطيراً، والبنية الاستبدادية الستالينية أكثر عرضة لتشكيل نوع من السلطة أكثر دكتاتورية ودموية وفردية، من خلال هذه الأوضاع ازدهرت ظاهرة ستالين.
يشير جورج هورفات أديب وكاتب شيوعي مجري من مواليد 1908 في كتابه (أقوى من الهزيمة) اعتقل من قبل ستالين عام/ 1949 بتهمة تعاونه مع صحفيين انكليز وأمريكان، وقد احتوى كتابه على قصص الإعدامات والاعتقالات وتصفية قادة شيوعيين وفلاسفة وأدباء ومفكرين بمجرد الشبه والشك بهم من قبل قوات الأمن الستالينية، وقد نشر في كتابه صورة عن سلوك وتصرف ستالين (كان ستالين يستدعي رئيس البوليس السري (باجودا) ويلقنه حرفياً السلوك الذي يتعامل به مع المتهمين وماذا يجب أن يعمل وكيف عليه أن يتصرف مع الشيوعيين القدامى إذا ما امتنعوا من الاعتراف فيقول له : (ثبت نظرك بعينيه وقل له : لقد قدمت حياتك من أجل الحزب، وضحيت بكل شيء في سبيل ذلك أليس كذلك ؟ فإذا ما هز رأسه موافقاً وهذا ما سيفعله حتماً، ارفع يدك اليمنى إلى الأعلى واضرب بها الطاولة التي أمامك بقوة وقل له : حسناً إذا كنت كذلك .. ضح بحياتك الآن .. ضح بها من أجل الحزب) وكان باجودا يتصرف بهذه الحركة وهذا الكلام مع أولئك القادة (ليجوف ومنشينسكي وبيريا وكورغلوف وايموكوف وغيرهم) وجميعهم من أبرز المناضلين الشيوعيين وكثير منهم شارك في الحرب الأسبانية عام/ 1936.
ثم يطرح المؤلف الطريقة التي كان بها ستالين يختار العملاء السريين وأي نوع غريب من البشر الذين يكلفون بمهمات القتل والتعذيب والتصفية الجسدية. فيتكلم عن ذلك العميل الذي يعمل خياطاً بسيطاً للقمصان يدعى (بيتر) ليصبح رئيس القسم السري في المجر نقلاً عن الأشخاص الذين كانوا لهم علاقات مع ذلك الشخص (إنه من مواليد 1935 في مدينة بكسايا المجرية، كان عصبي المزاج، ذليل النفس أمام من هم أقوى منه وكان ذميم الخلقة إلا أنه يمتاز بسحر الكلام ولباقة اللسان أمام معارفه وزبائنه، وكان قد انتسب للحزب الشيوعي المجري (السري) قبل الحرب العالمية الثانية وأسندت إليه مسؤوليات خطيرة جداً في دائرة (سلامة الحزب) فراح يتجسس بعد الحرب العالمية الثانية على قيادة الحزب الشيوعي المجري، وحظي باهتمام ورعاية ستالين. أما في قضايا التصنيع والتجميع الزراعي فإن ظاهرة ستالين كانت موجودة وتمتد بجذورها منذ بداية الثورة والحرب الأهلية وظهر بعضها أثناء فترة (النيب) يضاف لها التقاليد لروسيا القديمة المقدسة والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصراع بين ستالين والمعارضة التي انتهت بفوز ستالين، جميع هذه المكونات السلبية تجمعت كلها لتجعل من ظاهرة ستالين تربة خصبة في نموها وتطورها. كانت أحداث فترة 1928 – 1934 التي اتسمت بتصفية وتنظيف الحزب والمؤسسات الحكومية المهمة من معارضي ستالين مما جعلت حضوره محسوساً بطريقة ساطعة وإن لم تكن كاملة، وأسفرت عن معضلات أدت إلى قلق الفلاحين من القرارات التي اتخذت حول النضال ضد الكولاك (الملاكين الزراعيين) بتأثير من ستالين في المؤتمر الخامس عشر للحزب، وشعر عدد كبير من الفلاحين المتوسطين أن هذه الإجراءات كانت موجهة ضدهم، وكانت الإجراءات من الناحية النظرية انطوت على زيادة في الضريبة على الأغنياء وإلقاءها على الفقراء وتكثيف المساعدة للمزارع الجماعية ومزارع الدولة (الكلخوزات والسوفخوزات) ولم تكن السلطة تساعد الكولاك، وقد ذكر ريكوف رئيس مجلس مفوضي الشعب وكذلك مولوتوف في اجتماع خاص لم يكن فيه ستالين حاضراً (إن الناس بحاجة إلى الحذر) وهذه المقولة عكسها إنتاج الحبوب لعام 1927 الذي لم يكن جيداً جداً، والذي شجع وحفز ذلك الهبوط في الإنتاج أعداء نظام الحكم السوفيتي الذين كانوا موجودين في البلاد ويعملون بالخفاء وكذلك الكولاك الذين انحازوا لهم بسبب موقف الحكومة الأخير ضدهم. كان حاصل الإنتاج فقيراً مقارنة مع سنة/ 1926 فكان (300 مليون طن جمعت في نهاية شهر كانون أول/ 1927 بينما كان الرقم في شهر كانون أول عام/ 1926 هو 428 مليون طن). وبسبب النقص المتنامي في الحبوب في عام/ 1928 جعل الحزب والقيادة تتملكها الرعب من احتمال حدوث أزمة اقتصادية عامة على النطاق الوطني تهدد بالانفجار وأصبح لدى اللجنة المركزية للحزب التي يرأسها ستالين خياراً واضحاً جداً، أما التراجع في المستقبل القريب (أي العودة إلى التيب الذي تكون في عهد لينين، وألغي في عهد ستالين) وأما الاندفاع إلى أمام، وقد اتخذ الخيار الأخير بتأثير من ستالين والذي يعني اتخاذ إجراءات حاسمة ومفرطة في العنف والقسوة ضد الكولاك وقد ترافقت تلك الإجراءات مع عدم كفاءة الحزب ووجود البيروقراطية وضعف الحزب من الناحية العددية في الريف حتى تستطيع القيام بدور هام، وأصبحت الإجراءات القمعية والإدارية الأسبقية تدريجياً على الحوافر الأيديولوجية، بالرغم من أن الحزب كان لبعض الوقت متردداً ومتراجعاً في بعض الأماكن، ومندفعاً إلى أمام في أماكن أخرى، ودفعت تلك التطورات بالحزب في عام/ 1927 إلى تطبيق (المادة 107) من قانون العقوبات والتي تنص على أن كل امرئ يحاول المضاربة يمكن معاقبته بالترحيل من منطقته لمدة بين ثلاث سنوات وخمس سنوات ومصادرة أملاكه. وقد أدت هذه الإجراءات إلى انحياز الفلاحين المتوسطين إلى جانب الكولاك وتحولوا إلى ضد الحزب والسلطة السوفيتية، كما أدت هذه الإجراءات إلى حدوث تمردات بين الفلاحين مما دعا الحزب إلى إيقاف تلك الإجراءات وقرر رفع أسعار الحبوب التي يشتريها من الفلاحين، وفي نفس الوقت أدان تلك الانتهاكات، ونتيجة للنقص الكبير في إنتاج الحبوب، قرر الحزب والسلطة شراء الحبوب من الخارج للتعويض عن ذلك النقصان. إن تلك التصرفات من جانب الفلاحين أغاضت ستالين وبقي متربصاً ينتظر فرصة ملائمة ومواتية، فتبنى موضوع بريوبراجنسكي الذي طرحه في اجتماع اللجنة المركزية للحزب في 9/ تموز/ 1928 لما دعاه (التراكم الداخلي). وبما أن الاتحاد السوفيتي ليس بالدولة الاستعمارية حتى تستطيع نهب المستعمرات، كما لا يستطيع اللجوء إلى القروض الأجنبية لذلك فإن التطور الصناعي لا يمكن أن يقوم إلا من خلال (التراكم الداخلي). فكان على الفلاحين أن يدفعوا ثمن هذا (التراكم الداخلي) الذي يُكوِن التصنيع، وأصبحت هذه القاعدة تقوم على ما يلي (يدفع الفلاحون أسعاراً عالية في شراء البضائع المصنعة وطنياً وفي نفس الوقت تدفع الدولة أسعاراً واطئة إلى هذا الحد أو ذاك للمنتوج الزراعي) وإذا استثنيت الضرائب (المباشرة وغير المباشرة) التي يدفعها كل فرد، فإن الفلاحين أصبحوا خاضعين لدفع (أتاوة) أي ضريبة إضافية في الوقت الحاضر، وقد أيد ستالين هذه الطريقة التي أطلق عليها (بالنقص). وبالرغم من أن ستالين يمتاز بالعجلة والوحشية وفي أغلب الأحيان يتصرف بمفرده دون استشارة الأجهزة الحزبية، إلا أنه بذل جهداً لتبني إجراءات جديدة بالكامل والتي يمكن تلخيصها فيما يلي (تصنيع معجل باطراد وتخطيط، وتجميع الأرض ثلاثة جوانب لخطة واحدة كي يجري التصنيع بسرعة أكبر، وإجراءات تخطيط مركزي وشامل بغرض عملية التركيز الضروري للموارد المنتجة (الرجال ورأس المال والمكائن في قطاعات اقتصادية وجغرافية معينة، ومن ثم كان من الضروري تحويل الأرياف ولتبتعد نهائياً عن النفوذ الرأسمالي لتحقيق جبايات متزايدة من رأس المال) وهكذا كان على التجمع الزراعي أن يحدث، وكان على ظاهرة ستالين أن توسع القاعدة الأولية في أثناء العملية التاريخية نفسها، وإن التاريخ يولد التاريخ من الوضع الفعلي. وبما أننا يمكن أن نلاحظ إلى حد كبير بأن ظاهرة ستالين أفرزت تحليلات كثيرة بشكل صحيح، إلا أنها أدت إلى استنتاج متطرف وعنيف نتيجة للوسائل التي استخدمها في تحقيق أهدافها، فمن كان يستطيع الجدال والحوار مع ستالين حول الحاجة إلى التصنيع في عام/ 1928 ؟ ومن كان يستطيع انتقاد ستالين حول مبدأ التجميع الزراعي في اقتصاد ومجتمع اشتراكيين ؟. لأن المناظرة التي تحدث مع ستالين في الحزب بعيدة عن الديمقراطية مما جعلت القرارات تفرض على الحزب والدولة، وقد وضع ستالين خصومه في الحزب في مأزق قاس، لأنه كان يسير وفق قاعدة ميكافلي (أما أن تدعموني وأما أنكم أعداء للحزب وأنكم من أنصار الكولاك وضد تصنيع البلاد والتخطيط وكذلك أنتم ضد الاشتراكية) نكتفي بهذه النبذة المختصرة عن مرحلة ستالين، لأن المقصود من هذا الكتاب هو تسلسل المراحل للنظرية الماركسية في الصراع مع النظام الرأسمالي منذ نشوء البورجوازية وتطورها إلى مرحلة الامبريالية التي كانت تعتبر آخر مراحل الرأسمالية إلا أن ذلك كان مخالفاً للواقع التاريخي من خلال انتقال الامبريالية إلى مرحلة العولمة.
النظرية الماركسية ومرحلة العولمة
هنالك مقولة رائعة لأنجلز يصف فيها النظرية الماركسية بأنها (علم) والعلوم كما هو معروف تتصف بالحركة والديناميكية بما ينسجم مع الحركة والتطور وتقدم الحياة الإنسانية في مسيرة التاريخ إلى أمام، نافية عنها طابع الجمود والتقوقع، ولولا علميتها وصواب فكرها لما أصبحت مادة تدرس في الجامعات الأوروبية والأمريكية ويحسبون لها ألف حساب. فمن يستطيع أن ينكر أو ينفي ماديتها العلمية التاريخية ؟ ومن يستطيع أن ينكر أو ينفي قوانينها العلمية والاقتصادية (قانون تراكم رأس المال) . (وقانون فائض القيمة) ؟ يقول الفكر الماركسي :تتمحور جميع مكونات النظرية الماركسية حول الإنسان ومن أجل الإنسان ووجوده ومستقبله وحركته وعقله ومحيطه السياسي والاجتماعي والاقتصادي ولذلك تعتبر النظرية الماركسية غير جامدة ولا ثابتة، وإنما تمتاز بعلميتها من خلال الحركة والتغيير من حيث الزمان والمكان لأنها مرتبطة بالإنسان وتطوره وتقدمه وهذا يعني أن النظرية الماركسية أصبحت كالظل للإنسان ترافقه في جميع نشاط حياته المادية والمعنوية، وهذا يعني أيضاً أن الإنسان ما زال في الوجود يناضل ويكافح ضد الطبيعة وضد استغلال الإنسان لأخيه الإنسان والظلم والاضطهاد والحرمان فهي موجودة وترافقه وتلازمه ما زال هو يعيش في الحياة الدنيا ولا تفارقه فقط إلا عندما يركب راحلته في رحلته الأخيرة إلى القبر، وهذا يعني ويدلل بالبحث والبرهان أن الإنسان ما زال موجوداً في الحياة، فإن النظرية الماركسية باقية ومتى ما زال الإنسان من الوجود عند ذلك تزول النظرية الماركسية وهذا الاحتمال يعتبر من المستحيلات في مفهوم الحياة الإنسانية في المنظور العلمي للإنسان.
أما العولمة فإنها تعتبر مرحلة متطورة للمرحلة الرأسمالية التي تعقب مرحلة الامبريالية وقد أشار إليها ماركس حينما قال (إن الرأسمالية لم تستنفد طاقاتها على التطور) وتصبح منظومة عالمية، لأنها ظاهرة موضوعية من حيث التوظيف السياسي والاجتماعي والاقتصادي ومن حيث شكلها في الإنتاج وعلاقات الإنتاج. وتعتبر مرحلة العولمة جزءاً من التطور التاريخي لما بعد مرحلة الامبريالية. وظهرت للوجود بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية في أوربا وانهيار نظامهم الاشتراكي. إن العولمة ليست ظاهرة كما يقول عنها المفكر والباحث الأستاذ عبد الأمير شمخي الشلاه في كراسه الموسوم (للعولمة وجه آخر) حيث يقول في الصفحة 6 : (والعولمة بهذا المعنى ليست حتمية تاريخية كما يروج مريدوها ومنظروها وليست قدراً ولا نهاية للتاريخ، وقد أكد ذلك العالمان الاقتصاديان (جيفري وليامسون) الأستاذ في جامعة هارفارد و (كيفن أروك) الأستاذ في الكلية الجامعة بدبلن، حيث صدر للاثنين كتاب ضخم مطلع عام 2000 بعنوان (العولمة والتاريخ) وقد أوضح هذان العالمان (إن ما يقال عن حتمية العولمة ليس إلا خطأً كبيراً، وإن انتصار العولمة وشمولها أكذوبة، ويشير المؤلفان إلى أن العالم قد مر بظاهرة العولمة في أواخر القرن التاسع عشر على سبيل المثال ... وتسببت في حدوث ردة فعل عنيفة معاكسة لكبح جماح تدفق البضائع والأفراد والمال عبر الحدود بين الدول، وأن الشيء نفسه قد يحدث مرة أخرى).
أتفق مع أستاذنا الفاضل في فقرة واحدة وردت في الموضوع بأن العولمة لا تشكل نهاية للتاريخ وأختلف معه بالفقرات الأخرى، إلا أنني سأناقش إحدى فقرات الموضوع التي تقول (أن العالم قد مر بظاهرة العولمة في أواخر القرن التاسع عشر على سبيل المثال، وتسببت في حدوث ردة فعل عنيفة معاكسة لكبح جماح تدفق البضائع والأفراد والمال عبر الحدود بين الدول، وأن الشيء نفسه يحدث مرة أخرى).
إن أية ظاهرة في الوجود تكمن وراء ظهورها أسباب وعوامل سواء كانت سلبية أو إيجابية وأن أغلب الظواهر تتكون خارج إرادة الإنسان كما أن بعضها تكون مؤقتة وأخرى تكون دائمة حينما تصبح لتلك الظاهرة ركائز من المكونات تسبب لها الاستمرارية والديمومة إلى أن تنمو وتتطور ثم تشيخ وتفنى مثل بخار الماء الذي يسببه ارتفاع حرارة الماء والخسوف في الشمس والكسوف في القمر والأزمات الاقتصادية التي تحدث في النظام الرأسمالي بالرغم من أن هذه تعتبر ظاهرة طبيعية في الأنظمة الرأسمالية إلا أنها تكمن وراءها أسباب وعوامل مثلاً الأزمة التي تجتاح العالم الرأسمالي (أزمة الديون) سببها الدول المدينة لا تمتلك الأموال لتسديد تلك الديون فحدثت تلك الأزمة وحينما تتوفر الإمكانيات لدى تلك الدول المدينة فتسدد الديون فيزول السبب وتنتهي الظاهرة أي أزمة الديون، إن جميع هذه الظواهر مؤقتة، إلا أن هنالك مسببات وعوامل تخلق الظاهرة ثم تنمو وتبني لها قاعدة ترتكز عليها. فالعولمة هي ظاهرة إلا أنها لم تكن مؤقتة وإنما شيدت لها أسس وركائز فلسفية وسياسية واقتصادية واجتماعية وأصبحت مرحلة ما بعد مرحلة الامبريالية. إن ما يشير إليه أستاذنا الفاضل بظهور العولمة في القرن التاسع ثم زالت من الوجود، لم تظهر في ذلك الوقت العولمة كما هي الآن من حيث الشكل والخصائص الفلسفية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية حسب مفهومها العلمي في الوقت الحاضر كما أن هذه العبارة ذكرها ماركس، إلا أن المفهوم الصحيح على عولمة القرن التاسع عشر كان المقصود منها عالمية رأس المال من خلال سعي الدول الرأسمالية في استعمار الدول من أجل استغلال ما تخزنه أراضيها من ثروات كمواد أولية لمصانعها ومعاملها ومن ثم تصنيعها وتحويلها إلى سلع وبضائع تم تصديرها إلى الدول المستعمرة التي أصبحت أسواقاً لتصريف بضائعها وسلعها التي تنتجها مصانعها.
في القرن الثامن عشر أزاحت الطبقة البورجوازية الوليدة الطبقة الإقطاعية من مراكز نفوذها وانتزعته منه كلياً في القرنين التاسع عشر والعشرين، فكانت التجارة في المرحلة الأولى والصناعة في المرحلة الثانية العنصر الأهم في توطيد سلطة الطبقة البورجوازية وكانت هذه الطبقة تنهج مختلف السبل العلمية والاقتصادية لاستدرار الكسب والثراء مما أدى إلى الصراع والمنافسة بين الدول الأوروبية الصناعية من أجل الحصول والكسب على أكبر كمية من الأرباح فطمعت في خيرات القارات غير الأوروبية، فدفعها طمعها هذا إلى القيام بمغامرات توسعية استعمارية، فبنت الأساطيل التجارية كي تحمل إليها ثروات البلدان المستعمرة وترسل لها مصنوعات معاملها، وبرزت انكلترا التي جعلت من التجارة أساساً لسياستها الاستعمارية وانطلقت ثورة الانكليز على البحار فأخضعوها لبواخرهم حتى امتدت تجارتهم إلى أقاصي المعمورة يقايضون ويتقايضون مع سكان الأقطار البعيدة، أحياناً بشرف وأحياناً بالاغتصاب والقرصنة مما أدى إلى قيام منافسة حامية وصراع عنيف في هذا المضمار بين انكلترا وفرنسا والبرتغال وأسبانيا كل منها تسعى في التفوق على الآخرين في استعمار واستثمار البلدان البعيدة والغربية وتم تأسيس شركات وتكتلات استثمارية كبيرة، وضعت لها قوانين وقواعد تتماشى مع مصالحها الاستعمارية، إن هذه الظاهرة أفرزتها طبيعة الظروف الذي رافق العصر الرأسمالي الاستعماري إضافة إلى التقدم العلمي والصناعي الذي أدى إلى ظهور الثورة الصناعية والاختراعات العلمية ولكي تزدهر الرأسمالية ويصير بإمكانها أن تتوسع وتربح وتستعمر فأصبح عليها أن تخلق الصناعات الحديثة وتسهيل المواصلات بين الأقطار البعيدة والغربية وتؤسس الشركات العملاقة والتكتلات الاستثمارية. هذه الظاهرة الرأسمالية التي ظهرت في القرنين التاسع عشر والعشرين التي كان يشير إليها الموضوع ويعتبرها ظاهرة عولمة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، أما ردة الفعل العنيفة المعاكسة لكبح جماح تدفق البضائع والأفراد والمال عبر حدود الدول. فإن المقصود به هو نهب المواد الأولية من الدول المستعمرة وتصنيعها في المصانع والمعامل في الدول الرأسمالية الاستعمارية وإعادتها إلى أسواق الدول المستعمرة على شكل سلع وبضائع، كما كانت الدول الاستعمارية تستغل تواجد المواد الأولية في البلدان المستعمرة ورخص الأيدي العاملة فتستغلها وتقوم ببناء المصانع في تلك البلدان مستغلة توفر المواد الأولية والأيدي العاملة الرخيصة، وهذا هو المقصود بتدفق البضائع والأفراد والمال عبر الحدود بين الدول، أما الفقرة التي تشير إلى كبح جماح تدفق البضائع والأفراد والمقصود به النضال الجماهيري ضد الاستعمار وأساليبه الاستغلالية الجهنمية، أود أن أشير إلى مقولة للمفكر الدكتور محمد عابد الجابري يقول فيها : (كيف كانت الثقافة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ... فقد كانت الثقافة ثقافتين : ثقافة استعمارية امبريالية، وثقافة وطنية تحررية، أما اليوم فالتصنيف الذي يريد تكريسه الواقعون تحت تأثير أيديولوجية العولمة، هو ذلك الذي يجعل الثقافة صنفين، ثقافة الانفتاح والتجديد، وثقافة الانكماش والجمود أي أن الأولى ثقافة التبيعة، والثانية الثقافة الوطنية). من خلال هذه الصورة يتبين لنا أن العولمة ليست ظاهرة طارئة وإنما مرحلة أعقبت المرحلة الامبريالية وتعتبر إحدى مراحل الرأسمالية المتقدمة، وحينما اعتبرت اللينينة هي ماركسية عصر الامبريالية باعتبارها أعلى مراحل الرأسمالية، فهذا لا يعني أن الامبريالية هي نهاية النظام الرأسمالي، ولولا الموت الذي عاجل لينين وأبعده عن تلك المرحلة المتقدمة من الرأسمالية لكان بالتأكيد أن تكتشف عبقريته الفذة جميع المسالك والطرق التي تواكب تطور الامبريالية وانتقالها إلى مرحلة العولمة التي تمتاز بالمكونات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفلسفية.
نهاية الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية
تعتبر النظرية الماركسية هي النبراس التي تسترشد به الطبقة العاملة للوصول إلى الاشتراكية وكانت إحدى مكوناتها (النظرية المادية العلمية للتاريخ) تنظر إلى التاريخ على أنه سجل لتنازع بين الطبقات المختلفة، كما تنظر إلى تاريخ المجتمع الإنساني بماضيه وحاضره عبارة عن تنازع طبقي، والذي يسيطر على المجتمع هي الطبقة المسؤولة عن وسائل الإنتاج التي تستغل الطبقات الأخرى وتثري على حسابها، والطبقة العاملة والكادحين لا يعوضون تعويضاً عادلاً على جهدها التي تبذله في عملية الإنتاج بل يترك لها ما يسد رمقها ويكفل لها الحصول على أقل الحاجيات الضرورية، بينما يذهب الربح إلى الطبقة المستغِلة التي تمتلك وسائل الإنتاج (الطبقة الرأسمالية) وهذا الربح يزيد ثراءها وجهاز الدولة والحكومة تمسكه بقبضة حديدية الطبقة الرأسمالية، مما جعل الدولة ومؤسساتها مهمتها حماية تلك الطبقة. وتبين النظرية المادية العلمية التاريخية كيفية تطور المجتمع من المشاعية البدائية إلى نظام الإقطاع والرق والعبودية، وكيف تطور النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، وفي هذه المرحلة يجري التنازع الطبقي بين الطبقة البورجوازية والطبقة العاملة.
إن الطبقة العاملة ولدت من رحم الطبقة البورجوازية وعملت على تنميتها وتطورها من خلال امتلاكها لوسائل الإنتاج من المكائن والآلات وورشات العمل وأصبحت الطبقة الرأسمالية المالكة لوسائل الإنتاج بحاجة إلى عناصر بشرية تقوم بإدارة العمل والإنتاج بوسائل الإنتاج، وكما بينا أن هذه الطبقة التي تقوم بإدارة العمل والإنتاج للسلع والحاجيات لا تعوض تعويضاً عادلاً مقابل الجهد والعمل الذي تبذله في إنتاج تلك السلع والحاجيات وإنما يعوضوهم بما يساوي ربح الربح الذي يحصل عليه من بيع السلع والحاجيات التي تنتجها الطبقة العاملة بينما هو يستحوذ على ثلاثة أرباع الربح بينما هذا الربح يعتبر نتيجة جهود وعمل الطبقة العاملة. إن هذه الظاهرة خلقت تناقضاً وصراعاً بين الطبقة العاملة التي تمتلك الجهد والعمل التي من خلاله تحصل على ما يسد رمقها من الأجور ويشكلون أعداداً كبيرة من البشر لا تمتلك إلا قوة عملها، بينما وسائل الإنتاج يملكها شخص واحد أو عدة أشخاص وهو الذي يستحوذ على أكبر كمية من الربح، ولذلك أصبح نضال الطبقة العاملة والكادحين من أجل السيطرة على وسائل الإنتاج حتى تستطيع الحصول على تعويض عادل عن الجهد الذي تبذله في الإنتاج (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله) وأصبحت السيطرة على وسائل الإنتاج مقويات الحياة وأهم ما يشغل بال الإنسان والمجتمع في كل زمان ومكان، ويعتبر الطبقة التي تسيطر على وسائل الإنتاج انتصاراً لها من الناحية السياسية والاقتصادية مما يؤدي إلى حدوث تغيير في نسج المجتمع بأسره من الناحية الفكرية والسياسية والقانونية والعرفية وغيرها وتصبح هذه الطبقة الجديدة مستغلة لمن دونها من الطبقات في المجتمع حتى تقوم مكانها طبقة أخرى، ويستمر الكفاح حتى يصل المجتمع إلى مرحلة التي لا تستغل فيها طبقة طبقة أخرى، وهذا لا يتم إلا عندما تزول الطبقات من المجتمع وتبقى طبقة واحدة فلا يبقى مجال للاستغلال، لأن الطبقة الواحدة لا تستغل نفسها والمقصود الطبقة العاملة التي هي الطبقة الأخيرة في المجتمع، وهذه هي الوسيلة الوحيدة في المجتمع لخلق التوازن فيه وقيام التعاون مكان التنافس والنزاعات القائمين في المجتمع الرأسمالي حالياً ويصبح المجتمع اشتراكياً هذه الفكرة المادية العلمية التي وضعها ماركس في نظريته، وبالرغم من أن ماركس قد ولد (1818 – 1883) ونشأ وترعرع في بداية تكوين الطبقة البورجوازية أي في العصر البضاعي الذي كان يعتبر النمط البدائي الكلاسيكي للرأسمالية في عصر الصناعة الحرفية، إلا أن هذا الرجل كان يتمتع بعبقرية فذة حيث كان يستقرئ التاريخ من خلال تطور البورجوازية كما بينا ذلك في الفصول السابقة.
أما مرحلة لينين فكان النظام الرأسمالي أكثر تطوراً وتقدماً من مرحلة ماركس، حيث كانت تسود فيه مرحلة الرأسمالية الاحتكارية الذي كان يطلق عليه بـ (عصر الامبريالية) التي تعتبر حلقة جديدة ومتطورة في مرحلة الرأسمالية وتكونت فيه (الرأسمال المالي) الذي يتكون من اتحاد الرأسمال الصناعي مع الرأسمال المصرفي، كما سمي بعصر الماركسية الامبريالية، كان لينين يعتبر الامبريالية مرحلة متطورة ومتقدمة من المرحلة الرأسمالية، لأن كانت تسود تلك المرحلة يقظة نضالية عارمة لدى الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية الاستعمارية، كما كانت حركات التحرر لدى الشعوب في البلدان المستعمرة تزعزع الأرض تحت أقدام قوات الاحتلال الاستعمارية الرأسمالية ومنها ثورة العشرين في العراق ضد الاحتلال البريطاني وفي سوريا ضد الاحتلال الفرنسي وفي مصر وفلسطين والمغرب العربي والهند وغيرها من الدول المستعمرة وشعوبها المستعبدة، فكانت حركات التحرر الوطني واستقلال الدول المستعمرة تعني أولاً قطع المواد الأولية عن الدول الصناعية الرأسمالية الاستعمارية، وثانياً غلق أسواقها بوجه المنتجات المختلفة للدول الصناعية الرأسمالية وهذا يؤدي إلى كساد السلع المنتجة من قبل المصانع في الدول الصناعية الرأسمالية، وشحة المواد الأولية يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والبضائع المنتجة في الدول الصناعية الرأسمالية لأن تلك المواد الأولية ستضطر الدول الصناعية بعد انقطاعها واستقلالها من الدول المتحررة وبدلاً من أن تقوم الرأسمالية بغلق مصنعه يضطر شرائها بأسعار مرتفعة مما ينعكس ذلك على السلع المنتجة برفع أسعارها، ومن أجل المحافظة على أسعارها يخفض أجور العمال أو يسرح بعضهم، أو يقوم الرأسمالي بغلق مصنعه وتسريح عشرات ومئات العمال في الدول الرأسمالية، يضاف لها الوعي الطبقي لدى أولئك العمال مما يؤدي إلى قيام حركات ثورية تؤدي إلى إسقاط الأنظمة الرأسمالية في تلك الدول واستبدالها بسلطة الطبقة العاملة. بعد وفاة لينين عام/ 1924 ومجيء ستالين إلى قيادة الحزب والسلطة وكان المؤمل والمعول عليه استكمال مسيرة لينين وتطويرها بحيث تتناسق وتلاحق الامبريالية إلا أن ظروفاً جديدة استجدت على الساحة الدولية أولاً الأزمة العالمية عام/ 1929 والتي كان ستالين يخشى أن تقوم الدول الرأسمالية بشن هجوم على الاتحاد السوفيتي، وثانياً صعود هتلر إلى سدة الحكم في ألمانيا عام/ 1932 وهو العدو اللدود للشيوعية إضافة إلى أن الدول الرأسمالية كانت تتغاضى عن أعماله وتحرضه ضد الاتحاد السوفيتي، إضافة إلى أن ستالين كان يعتبر تنظيف وتطهير الداخل من الخصوم والأعداء أهم من الخطر الخارجي وقد بينا الأعمال والأفعال التي قام بها ستالين في تصفية كل شخص يشتبه به أو يشك منه حتى بلغ عدد من قام بتصفيتهم حوالي (750 ألف إنسان) معظمهم من المفكرين والباحثين والعلماء وقادة الجيش. مما أدى إلى سيادة الدكتاتورية والإرهاب والخوف والرعب التي أفرزت الجمود الفكري والعقائدي والبيروقراطية وتأليه وعبادة شخصية ستالين.
إن فترة حكم ستالين للاتحاد السوفيتي استمرت مدة (29 عاماً) وهذه الفترة الزمنية ليست بالقليلة وليس من المعقول أنها لم تترك آثارها السلبية على المجتمع، كما كانت سياسة ستالين تمتاز بالازدواجية، فالسياسة الداخلية ذات طابع يساري متطرف بعكس السياسة الخارجية التي تمتاز باليمينية وقد اعتبر الخبراء والمحللون السياسيون أن فترة حكم ستالين كانت البداية لتفكيك الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي وانهيار النظام الاشتراكي.
إن العنف الذي استعمله ستالين كان يمتاز بالشك والشبهة ومن أجل المحافظة على السلطة بقبضته الحديدية فَجَرَت التصفية لمعارضيه بمجرد الشك والشبهة مما أدى إلى جمود الوعي الفكري الخلاق الذي يعتبر من العوامل المهمة للتفاعل الاجتماعي والتأثيرات المتنوعة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً مما أدى إلى خلل في النظرية الماركسية نتج عن تجميدها وعدم تجديدها والإبداع بها في التجربة بسبب فقدان الوعي الفكري الخلاق في فهم النظرية فسادت القاعدة (إذا عجز التطبيق في متابعة النظرية فلابد من وجود خلل في التطبيق).
لقد كان العنف الذي استعمله ستالين في سلطته يختلف عن العنف الذي استعمله لينين في بداية ثورة أكتوبر عام/ 1917 لأنه كانت أسبابه ودوافعه تبرر استعماله لأنه أصبح من الأمور الضرورية والملازمة لسلامة المجتمع والثورة والتطور التاريخي ويعتبر هو الأداة التي تفرضها ظروف المرحلة وضرورة وواقع الحركة الاجتماعية الجديدة من أجل أن تشق لنفسها طريقاً جديداً يحطم كل العوائق التي تقف في طريق مسيرتها وتطورها وتقدمها.
إن طبيعة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي يتأثر ويتغير من خلال سياق التطور الاجتماعي، ويأتي من خلال القوى المادية الفعالة المحركة لعملية التغيير في المجتمع من خلال ترجمة أفكار النظرية النظرية الماركسية إلى واقع مادي ملموس يساعد على تطور المجتمع وتغييره، من خلال جوهر الإنسان المدرك والواعي للواقع المؤلم والحقيقة المرة الذي يعيشها مجتمعه وليس تجريداً ملازماً للإنسان المنعزل البيروقراطي لأن الإنسان هو في حقيقته مجموعة من العلاقات الاجتماعية التي تعتبر جوهره التي تجد ترجمتها وحلها العقلاني في الممارسة الإنسانية مع الجماهير التي هي الأساس في جوهر الإنسان في هذه الحقبة الزمنية الجامدة والمضطربة وظروف المرحلة الحساسة والدقيقة التي تشابكت فيها الأوراق وأصبحت فيها الرؤيا ضبابية بسبب ظاهرة ستالين وكانت تنتظر زخة مطر تنعشها وتعيد للشعب السوفيتي الشجاع الحياة والأمل والرجاء الذي أشرقته شمس أكتوبر الخالد (زخت جراد) حيث استلمت السلطة السوفيتية (شلة) من أولئك الذين نشأوا وترعرعوا وتربوا في أحضان ظاهرة ستالين. يقول عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي : إن أي إنسان يعيش فترة زمنية معينة في بيئة اجتماعية فإن تقاليد وعادات وسلوك تلك البيئة تنغرس في عقله الباطني).
أما فرويد السيكولوجي النمساوي فإنه يعتبر العقل الباطني واللاشعور بالمنطقة المظلمة في النفس الإنسانية تتراكم فيها العقد والرغبات الخفية والغرائز المقموعة، وتشكل هذه المتراكمات خزيناً لا ينضب يتسرب بأشكال شتى إلى الأخلاق والسلوك والكلام، ويمتاز بسمتين هما التبعية للماضي وخفوت الحس التاريخي ويبقى ينازع مبدأ الواقع (الأنا – الوعي – العقل – النظام الاجتماعي) فيخزنه أحياناً ويتكسر أمامه أحياناً أخرى.
كان بريجنيف الذي استلم قيادة الاتحاد السوفيتي بعد تنحية خروتشجيف عام/ 1964 وتوفى عام/ 1982 آخر من حكم الاتحاد السوفيتي من تلك (الشلة) ومن أسوأها حيث كان يمتاز بالشدة والعنف والقسوة وقد بينا في فصول سابقة كيف تطورت البيروقراطية في عهده إلى أعلى مراحلها المرضية المأساوية حيث كانت تلك القيادة تعيش في أبراجها العاجية بينما الشعب السوفيتي يصطف في طابور طويل وكبير من أجل الحصول على رغيف خبز يسد به رمقه وجوع عائلته، وفي نفس الفترة كانت ستة بواخر تحمل الحبوب من كندا إلى الاتحاد السوفيتي حتى تستطيع أن تسد بعض أزمة المجاعة التي انتشرت بين أبناء الشعب، فيصدر بريجنيف أوامره إلى البواخر المحملة بالحبوب بالتوجه إلى ميناء الإسكندرية في مصر (تبرع بها السلطان) لمساعدة مصر.
وقد أشار الباحثون والمفكرون عن تلك المرحلة فقالوا (إن الفكر الاشتراكي وسياسة الدولة التي تبنته بعد مرحلة ستالين كان يخيم عليه الجمود وفشل في اللحاق بتطورات عصر التكنولوجيا وحتى التخطيط في بناء سياسات عسكرية واقتصادية وحتى إعلامية مناسبة، الأمر الذي أدى إلى تخلفه (الاتحاد السوفيتي) في مرحلة الثمانينيات وفشله في إيجاد التفسيرات اللازمة وفق المنطق الماركسي لكيفية مواكبة التطورات المعاصرة الأمر الذي جعل الفكر الماركسي مجرد شعارات خاوية من المصداقية.
من خلال تلك الظروف والتطورات أخذ الشعب السوفيتي يشعر بأن حكومته لم تعد تلبي وسائل معيشته أو تتواصل مع أمانيه وقضاياه وطموحاته مما أدى إلى خلق فجوة واسعة وكبيرة بين السلطة السوفيتية والشعب واعتبر تلك الحكومات العاجزة والخائبة والمفروضة مجرد كيانات تفتقر إلى الشرعية من جهة ومن جهة أخرى لم تعد تمثل انعكاساً لرغبات الشعب وطموحاته وقد لاحظنا ذلك عند تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار نظامه الاشتراكي لم يعلن ولا إنسان واحد عن احتجاجه واستنكاره على تحطم وتدمير ذلك الطود الشامخ حتى الجيش الأحمر الذي سجل أسطورة النصر العظيم على النازية الهتلرية لم يبادر على نصرة الكرملين ضد مؤامرة غورباتشوف وإنقاذه من الانهيار الذي تهاوى مثل الثلج مما فسح المجال والفرصة أمام غورباتشوف وأعداء الاتحاد السوفيتي أن تطلق عليه رصاصة الرحمة وتفككه وتفتته إلى كتل ودويلات وتقضي على نظامه الاشتراكي فرمي مع مارس وأنجلز ولينين والنظرية الاشتراكية العلمية في أحد رفوف متحف التاريخ وانطوت معها تلك الراية الحمراء المطرز عليها شعار المظلومين والمسحوقين والمشردين والجياع (المطرقة والمنجل) بعد أن كان ذلك الجبل الذي لا تزعزعه العواصف والرياح والذي كان مالئ الدنيا وشاغل الناس.
هل انتهى دور النظرية الماركسية ؟
إن الذي حصل بانهيار المعسكر الاشتراكي، هو انهيار النموذج في التطبيق وليس الفكر الماركسي والقيم والمفاهيم الاشتراكية، إنه انهيار نتيجة انحراف عن محتوى الاشتراكية العلمية الصحيحة وجوهرها الإنساني الديمقراطي، بالاعتماد على عبادة الفرد والجمود العقائدي وترسيخ نهج الركود الفكري والنزعة البيروقراطية والأوامر الإدارية الأنانية، وإغفال الخصوصيات التاريخية والثقافية والاجتماعية لكل بلد.
تكونت النظرية الماركسية في القرن التاسع عشر كأيديولوجية ونبراس تسترشد به الطبقة العاملة في نضالها من أجل بناء النظام الاشتراكي الذي ولد من رحم البورجوازية، وتمتاز النظرية الماركسية عن جميع النظريات لأنها عامة وشاملة وتتكون من ثلاث نظريات (النظرية المادية العلمية التاريخية والنظرية الديالكتيكية الاقتصاد السياسي) ويعتبر المنهج الديالكتيكي والاقتصاد السياسي المنطلق الأساسي للمنهج المعرفي لدراسة الظروف للبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما يتلائم مع الواقع الملموس لذلك البلد، بالرغم من عالمية الفكر الماركسي إلا أنه يبقى وليد محيطه الجماهيري لأنه ولد من رحم ثقافتها ويبقى مرتبطاً بها ووعيها ومعرفتها وتقاليدها وعاداتها.
النظرية الماركسية ليست كل ما قاله ماركس بالرغم من أنه عالج قضايا متعددة وواسعة وبمستويات مختلفة عبر مراحل وأزمنة متنوعة ومختلفة، إلا أن النظرية لم يتم تشكيلها دفعة واحدة بل تمت وتحددت عبر خبرة طويلة وتجربة واسعة من المعرفة العلمية والفلسفية والممارسات النضالية والعملية ولذلك جاءت النظرية الماركسية الموضوعية متناسقة ومتابعة للتطور الفكري والمواقف المنسجمة مع السياق الاجتماعي والتاريخي والثقافي الذي نشأ وعاش فيها وتأثر بها ماركس، ولذلك تعكس النظرية الماركسية القراءة الوصفية والوضعية للواقع الآتي في عصره من خلال التحديد العلمي والفلسفي والتوجيه العملي المستخلص من الواقع الموضوعي والذي يعتبر رؤيا شاملة وفاعلية في حركة الواقع في عصره وفي تغييره تغييراً جذرياً، وهذا يعني أن النظرية الماركسية ليس لها حدود أو سدود مكانية وزمنية وإنما ذات طابع مستقبلي شامل للإنسانية باعتبارها نسقاً متجانساً ومترابطاً وموحداً من الأفكار التي تسعى لتفسير وحل جميع المشاكل الأساسية التي تعاني منها الإنسانية. إن النظرية الماركسية تستند على أسس علمية ثابتة لأنها تستمد عناصرها ومعطياتها وقوانينها من العلمية الواقعية الملموسة للواقع الاقتصادي والاجتماعي والفكري الذي يقوم على الصراع والمتناقضات في المجتمع إضافة إلى ما تفرضه حتمية التاريخ وحركته وديناميكيته. كما أن هذه النظرية تمتاز بطابع التغيير للواقع الموضوعي تغييراً جذرياً الذي يؤدي إلى إقامة واقع مغاير يتخلص فيه الإنسان من الظلم والاضطهاد والاستغلال والفقر والجهل والأمية والمرض، وتتفجر فيه الإبداعات الإنسانية المكونة حينما تتوفر له الحرية الحقيقية. إن المادية الجدلية والجدلية المادية التاريخية هما توءمان نظريتان أساسيتان في الفلسفة الماركسية لا يمثلان مقدمات مجردة تفرض على الواقع فرضاً أو تستخلص منها القوانين في هذه الوقائع المجردة وإنما تستخلص منها القوانين المتحكمة في دراسة الطبيعة والتاريخ، يعرف لينين الجدلية بأنها علم القوانين العامة للحركة في العالم الخارجي والفكر الإنساني تستخلص منها أيضاً القوانين المتحكمة في دراسة الطبيعة والتاريخ.
والنظرية الماركسية هي نظرية ومنهج، وكل نظرية يجب أن يكون لها منهج مستمد منها. إن النظرية الماركسية ليست قوانين علمية مجردة أو فلسفة صرفة، وإنما قوانينها العلمية وفلسفتها تتمحور وتتحكم في التمازج والاتساق مع الواقع الاجتماعي الموضوعي الفكري والصراعي، فضلاً عن حركة التاريخ عامة من أجل التغيير لذلك الواقع تغييراً جذرياً وإقامة المجتمع الحر السعيد.
تعتبر النظرية الماركسية مفهوماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفلسفياً، فهي تعتبر مفهوماً سياسياً لأنها تحدد مفهوم دور الطبقة العاملة والدولة والتغيير في بناء المجتمع الأفضل والسعيد. ومن الناحية الاقتصادية فهي تسعى إلى التخطيط والبرمجة وتنظيم حياة الناس وسعادتهم ورفاهيتهم واستقرارهم وطمأنينتهم، وإلغاء فوضى الإنتاج في اقتصاد السوق، واستبدالها بالإنتاج الاجتماعي والملكية العامة لوسائل الإنتاج والعلاقات الإنتاجية الاشتراكية، وتعتبر الاقتصاد هو المحرك الوحيد في التاريخ. ومن الناحية الاجتماعية تعتبر هي الطريق للاسترشاد به عن طريق معرفة قوانينها الاجتماعية. ومن ناحية اعتبارها مفهوماً فلسفياً، لأنها تعتبر فكراً نقدياً ضد الانغلاق والجمود ومنطلقاً نحو الحرية من خلال الممارسة وتطوير الفكر الماركسي على ضوء معطيات التطبيق العملي للفكر الماركسي من خلال القوانين الموضوعية العلمية في كشف ومعرفة الرابط والتغيير في أي طرف بما ينسجم مع تغيير الوعي الفكري وتحرير الإيديولوجيا من جمودها وانطلاقها من الأسر الذي يحيط بها نحو الفكر الإنساني الخلاق بروح نقدية تتطلع نحو رحاب أفق تحرري شامل والاعتماد على روح جدلية الفكر بما يطوره وينميه في مجال العلم والمعرفة. لأن الفكر الماركسي أدرك أن الإنسان وجد في هذا الكون ليتعلم فيُعلم ويعمل ولم يوجد جاهلاً كسولاً ومهملاً.
إن النظرية الماركسية تعتبر النبراس الذي تسترشد به الطبقة العاملة والكادحين في نضالها وصراعها مع النظام الرأسمالي والقضاء عليه وبناء النظام الاشتراكي. إن النظام الاشتراكي ولد من رحم الرأسمالية كما استعرضنا ذلك في الفصول السابقة وبما أن الطبقة العاملة تسترشد بالنظرية الماركسية في صراعها ضد الرأسمالية والوصول إلى أهدافها في بناء النظام الاشتراكي، فهذا يعني أن النظرية الماركسية هي الموجه والمحفز في هذا الصراع، وبما أن الطبقة البورجوازية التي تطورت منها الطبقة الرأسمالية قد ولدت من رحم الإقطاعية في أواخر القرن السابع عشر، ثم الطبقة البورجوازية خلقت الطبقة العاملة التي تمثل المرحلة الاشتراكية في القرن الثامن عشر، فهذا يعني أيضاً أن النظرية الماركسية قد بدأ تناقضاتها وصراعها مع البورجوازية ثم الرأسمالية من تلك الفترة الطويلة مما جعل النظرية الماركسية تكتسب الخبرة والتجربة والطرق المختلفة في معرفة أعماق الرأسمالية وطرقها الملتوية والمختلفة، ولذلك قال ماركس إن النظرية الماركسية في مسيرتها النضالية تسلك طرقاً حلزونية وملتوية في الوصول إلى أهدافها على شرط أن لا تنحرف بقوانين النظرية ولا عن أهدافها، لأنها أثناء مسيرتها النضالية ضد الرأسمالية تجد في طريقها العوائق والمطبات فتنحرف عنها وتسلك طرقاً أخرى للوصول إلى أهدافها. ومن خلال ذلك يتبين لنا أن النظرية الماركسية تعتبر من أعمق وأكثر النظريات والأفكار في معرفة طرق ومسالك وأساليب الرأسمالية. وقد استمدت هذه المعرفة من خلال الخبرة والتجربة الطويلة من التناقضات والصراعات التي امتدت من القرن الثامن عشر حتى عام/ 1991 الذي انهار فيه النظام الاشتراكي وإن هذا الانهيار للنظام الاشتراكي هو ناتج عن الانهيار في أسلوب التطبيق (إذا عجز التطبيق في متابعة النظرية فلابد من وجود خلل في التطبيق) وهذا يعني أن الفكر الماركسي والقيم والمفاهيم الاشتراكية سليمة وصحيحة مثلاً نعتبر النظرية الماركسية كعربة، فإذا كان الذي يقودها ويسير بها في الحفر والمطبات والطرق الوعرة وأدى ذلك إلى تحطيمها وتدميرها هل يعني أن سبب ذلك أن العربة غير جيدة وإنما السبب يعود إلى قائد العربة الذي سلك بها طريقاً وعراً مملوءاً بالحفر والمطبات، وهنالك مثل آخر نقارن فيه علم الجراحة بالنظرية الماركسية مثلاً إذا توفى شخص أثناء إجراء العملية الجراحية بسبب خطأ من الدكتور الجراح، فهل يعني ذلك أن علم الجراحة غير جيد.
لقد استند ماركس عند تأسيسه النظرية على كنز كبير من المعلومات التاريخية منذ وجود الإنسان حتى قيام الحضارات الحديثة، وقد اعتمدت النظرية الماركسية على ثلاثة مصادر هي المعالجات النقدية لإنجازات الفلسفة الكلاسيكية الألمانية (هيغل). والاقتصاد السياسي الانكليزي (آدم سميث). والاشتراكية الطوباوية الفرنسية (سان سيمون). وأول ما طرحت الرؤية الماركسية حول المجتمع والتاريخ في (البيان الشيوعي عام/ 1848) على شكل قصة مثيرة تستعرض فيها صعود وتطور المجتمع البورجوازي إلى الرأسمالية والامبريالية، وتغييرها الثوري على يد البروليتاريا (حفارة قبر الرأسمالية). كما استطاع ماركس أن يستعرض تطور الرأسمالية من خلال استغلالها للطبقة العاملة من خلال (فائض القيمة) الذي يؤدي إلى (تراكم رأس المال) والطرق والأساليب التي يستعملها رأس المال في ربط الطبقة مصيرياً في عجلة الرأسمالية وتصبح مستعبدة له من خلال الأجور وغيرها من الأساليب التي رسمها ماركس وأصبحت مشروعاً للثورة الاشتراكية. من خلال هذه الصورة العامة والشاملة للنظرية الماركسية يتبين لنا بجلاء أنها وجدت للإنسان ومن أجل الإنسان وسعادته ورفاهيته ومستقبله المشرق السعيد. أما أن اتخاذ ماركس للطبقة العاملة كنموذج في الصراع مع الطبقة الرأسمالية لأن هذه الطبقة تكون وجودها وتنمي ثروتها من خلال العمل والجهد الذي تبذله الطبقة العاملة وهي الطبقة المستعبدة لرأس المال والمقتربة أي المحرومة من السلع والحاجيات التي تنتجها بجهدها وعرق جبينها بعكس الطبقة الكادحة والمسحوقة (الفلاحين) بالرغم من أنها أيضاً مستغلة ومستعبدة للإقطاعيين إلا أنها غير محرومة ولا مغتربة مما تنتجه وإنما تحصل على ما تزرعه من الحبوب وتستفاد منه في غذائها، ولذلك جعل ماركس من الطبقة العاملة النموذج الأكثر استغلالاً ومعاناة وحرماناً، كما أن ماركس حينما ركز وأشار في نظريته العظيمة بأن البروليتاريا هي التي تقوم بالثورة وهي التي تقوم ببناء صرح الاشتراكية، لأنها بالثورة لا تخاف من شيء تفقده سوى فقدان أغلالها التي يقيدها بها رأس المال كما أنها تمثل الطبقة الأخيرة في التسلسل الطبقي في المجتمع، كما تمتاز بالوعي والمعرفة والإدراك لأن عملها مرتبط بالآلة وتطورها وحركتها فتنمو مدارك ومعرفة وإبداع البروليتاريا عكس طبقة الفلاحين الذي يسيطر على وعيهم ومداركهم الجمود وعدم التطور لأنهم يعيشون في الريف في مجتمع مغلق، فالفلاح في جميع أيامه التي يعيشها في الريف يشاهد نفس النهر ونفس العمل ونفس الشجرة ونفس المكان مما يجعل حياته ومعيشته روتينية وتقليدية، كما أن ماركس حينما وضع نظريته المادية العلمية الاشتراكية استند على دراسة وبحث وتحليل علمي للتاريخ من عصر المشاعية البدائية حتى عصر الرأسمالية وحينما انتقلت المشاعية البدائية وتكونت أنظمة الرق والعبودية والإقطاع ساد في ذلك التحول التناقض والصراع الطبقي كما استعبد الإنسان من قبل أخيه الإنسان وكان الأقنان والعبيد أقل منزلة ومكانة من الحيوانات من حيث الظلم والقهر والحرمان، وفي زمن أفلاطون وسقراط وأرسطو ولوتس وكونفوشيوس ونضالهم وجهادهم من أجل الأرقاء والعبيد أي من زمن الإغريق الذي بدأ قبل أكثر من خمسة آلاف سنة للميلاد حتى القرن السابع عشر بعد الميلاد لم يكن هناك طبقة عاملة وإنما تزامن من وجود هذه الطبقة مع وجود ماركس وأنجلز ولذلك حينما وضع ماركس وأنجلز النظرية كانت تعتبر الطبقة العاملة نموذجاً لمظلومية الإنسان منذ بداية الصراع الطبقي بعد انتهاء مرحلة المشاعية البدائية وقد أشار ماركس وأنجلز في كتبهما إلى تلك المراحل الغابرة.
إن النظرية الماركسية تعتبر أن المسألة المركزية التي تبحثها وتعالجها هي مشكلة وجود الإنسان ككائن فردي واقعي وحقيقي، يتحدد وجوده من خلال عمله الذي تتجسد طبيعته وتحقيق ذاتها من خلال الصيرورة التاريخية، وتعتبر أن التحرير الكامل لإنسانية الإنسان هي عملية انعتاقه من القوى الاجتماعية التي تقيده وتستعبده، وأن تحرره وتطويره وتنمية وعيه لا تتم إلا عن طريق التغيير الاجتماعي.
صحيح أن النظرية الماركسية ظهرت للوجود تزامناً مع ولادة ونشوء وتطور الطبقة العاملة وإن الدوافع التي حفزت ماركس وأنجلز على كتابة النظرية هي انعكاس الظروف والأوضاع المأساوية التي تعيشها الطبقة العاملة وتتعرض لها من ظلم واضطهاد واستغلال وحرمان إلا أن ذلك الشعور والإحساس عند هذين المفكرين لم يكن وليد تلك الظروف والأوضاع فقط، وإنما كان انعكاسه يمتد إلى أعماق طويلة من التاريخ الإنساني إلى (المادية العلمية التاريخية) من أول وجود الإنسان في الطبيعة وتَكَوُّن مداركه العقلية إلى تكوين المجتمعات البدائية وتطورها إلى عصور ظهور الطبقات في المجتمع وتناقضها وصراعها بين القوي والضعيف الذي أدى إلى ظلم واضطهاد وحرمان واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، إذن .. كانت الدوافع الإنسانية هي التي حفزت ماركس وأنجلز على كتابة النظرية الماركسية مجسدة ومعكوسة بالطبقة العاملة ومعاناتها مما يعني أن النظرية الماركسية عامة وشاملة تتمحور حول الإنسان وليس محصورة فقط بالطبقة العاملة وإن أي إنسان في الوقت الحاضر يغوص ويتعمق في شخصية ذلك الرجل العظيم في العصر الحديث (ماركس) يجد أنه يختلف بشكل كبير عن علماء الاجتماع والنفس المعاصرين في نظريته عن طبيعة الإنسان، فهو يتعارض معهم حينما يفسرون ويعتقدون بأن طبيعة الإنسان غير موجودة وأن الإنسان عند ولادته صفحة بيضاء من الورق تقوم الثقافة بتحبيرها وكتابتها، إن ماركس يتعارض مع هذه النزعة النسبية في علم الاجتماع (السوسيولوجية). لأن الإنسان بوصفه إنساناً فهو كينونة قابلة للمعرفة والإدراك أي أن الإنسان باعتباره ككائن فليس من الممكن تحديده فقط من الناحية البيولوجية والفيزيولوجية وإنما يجب تحديده أيضاً من الناحية السيكولوجية، إن ماركس لا يعتبر من حيث الافتراض بأن الطبيعة البشرية تتطابق من حيث التعبير الخاص والمحصور للطبيعة البشرية ويمثل ذلك بالمنفعة الإنسانية التي تمثل مجمل السلوك والحركات والعلاقات الإنسانية من خلال الحقب التاريخية المتغيرة منذ وجود الإنسان إلى يومنا هذا. وقد اختلف ماركس مع هيغل من حيث هذا المفهوم لأنه يعتبر الطبيعة البشرية تجريداً في جوهر الإنسان في تغايره عن الأشكال المتنوعة لوجوده التاريخي بخلاف ماركس الذي يعتبر أن جوهر الإنسان ليس تجريداً متأصلاً في كل إنسان على حده وإنما يتحول في كل مرحلة من مراحل التاريخ، كما أن ماركس يميز بين نوعين من الدوافع والميول الإنسانية أحدها ثابتة وتمثل الجوع والدافع الجنسي، والأخرى نسبية كالبنى الاجتماعية المحددة وأوضاع إنتاج معينة، وشروط الإنتاج والتواصل الاجتماعي. وهو يعتبر الثابتة جزءاً مندمجاً بالطبيعة البشرية بينما النسبية ليست مندمجة بالطبيعة البشرية، ويعتبر ماركس أن طاقة الإنسان هي طاقة معطاة وأن الإنسان بوصفه مادة بشرية خام لا يمكن تغييره تماماً كما ظلت بنية الدماغ هي ذاتها منذ فجر البشرية، إلا أنه يتغير في مجرى التاريخ، أنه هو الذي يطور نفسه وهو الذي يحول نفسه وهذا يعني أن الإنسان نتاج وانعكاس للتاريخ فمازال الإنسان له دور في التاريخ فيستطيع أن يخلق ذلك التاريخ فهو إذن نتاج ذاته وهذا يعني أن التاريخ عملية تحقق ذات الإنسان ومن هذا فإن التاريخ ليس سوى عملية الخلق الذاتي للإنسان عبر تطور عمله وإنتاجه. وإن مجمل التاريخ ما هو إلا عملية خلق الإنسان بواسطة الجهد والعمل وعملية انبثاق الطبيعة الإنسانية. إن هذا يعني أن الإنسان في مفهوم ونظرية ماركس هو الإنسان المعطي والخلاق والعامل والمنتج وليس الإنسان الخامل والمتوكل، ولذلك إن هدف ماركس هو هدف متمثل في الانعتاق الروحي للإنسان وتحريره من قيود الحتمية الاقتصادية، لإعادة بنائه في كليته الإنسانية ولتمكينه من إيجاد الوحدة والتوافق مع المجتمع الإنساني ومع الطبيعة، وإن هدفه الأساسي هو تحرير الإنسان من ضغط الحاجات الاقتصادية بشكل يستطيع فيه تحقيق إنسانيته بكل أبعادها إضافة إلى اهتمامه الرئيسي بانعتاق الإنسان كفرد يستطيع أن يتجاوز الاغتراب وبالتالي تأمين قابلية الإنسان على توفير جميع حاجاته المادية والمعنوية، إن تفسير ماركس وتصوره للمادية قد استغلت من قبل خصومه في الإساءة إلى النظرية الماركسية، إلا أن ماركس كان يؤمن بأن الدافع السيكولوجي النفسي الأعظم في الإنسان هو ميله للراحة والكسب المادي وأن سعيه هذا من أجل الفائدة المادية القصوى، يشكل الحافز الرئيسي في حياة الإنسان الفردية وفي تطور الجنس البشري. إن الأشخاص الذين يتهمون النظرية الماركسية وبشكل خاص مؤسسها العبقري ماركس بالمادية، هم أنفسهم الذين يتهمون الاشتراكية بعدم الواقعية لأنها لا تقر أن الدافع الفعال الوحيد الذي يدفع الإنسان للعمل بتركيز في ميله للربح المادي، إنها نفس الحجج التي تشير إلى أن أفكار ماركس غير متوافقة مع تقاليدنا وعاداتنا الاجتماعية، هي نفسها التي يجري استخدامها في دعايتهم المغرضة التي تقول أن الرأسمالية تلبي الطبيعة البشرية وبالتالي أنها أكثر سمواً من الاشتراكية الواقعية إن فلسفة ماركس تشكل مذهباً وجودياً روحياً أي إشباع حواس الإنسان في الحياة الدنيا المادية والمعنوية وإن هذه الخاصية تتعارض مع التجربة المادية العصرية وتتفارق كثيراً عن الفلسفة المادية السائدة هذه الأيام (عصر العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة) إن هدف ماركس من اشتراكيته المتمحورة والمستندة حول الإنسان هي بالأساس مبدأ خلاص الإنسان من القيود والعبودية والظلم والاضطهاد والاغتراب والحرمان، والجهل والأمية والمرض التي يعاني منها.
يقول الأديب والمفكر الألماني يوهان غوته في تعبيره الأكثر قوة وشاعرية عن فكرة الإنتاجية الإنسانية في مؤلفه الموسوم (فاوست) حيث يبين فيه، لا الأملاك ولا السلطة أو الإشباع الحسي، يمكن أن تحقق رغبة الإنسان في اكتساب حياته معنى، وإنما يظل في كل هذه الحالات منفصلاً عن الوجود أي غير سعيد، إلا أنه من خلال أن يصبح ويكون فعالاً ومنتجاً يستطيع أن يعطي لحياته معنى، وفيما هو يستمتع بالحياة، لا يكون مشدوداً إليها بالطمع والأنانية ويجب عليه أن ينبذ الجشع والامتلاك، وأن يكون منجزاً بكينونته، إنه ممتلئ لأنه فارغ وأنه كبير لأنه يمتلك القليل.
إن الثورة المعلوماتية في الاتصالات والتقدم العلمي الكبير في التكنولوجيا، أحدث الأول تسهيل ظهور مرحلة العولمة، والثاني أحدث خللاً كبيراً في النظرية الماركسية، فالأول حول العالم الكبير والواسع إلى قرية صغيرة مزدوجة ومتقاربة بمجرد حدوث خلل في أحدها تنتقل عدواها إلى جميع الدول المجاورة كما نشاهد الآن من شمول أكثرية الدول في الأزمات حينما تتعرض إحدى تلك الدول بأزمة سياسية أو اقتصادية وهذا أحد نتائج العولمة التي هدمت الحدود والسدود مما أدى إلى اختراق وتسرب ودخول رأس المال والأفراد والسلع وخروجها وانتقالها إلى الدول الأخرى بكل حرية حسب قاعدة (دعه يدخل ودعه يخرج) وجعل العالم يخضع لطبيعة عولمة اقتصاد السوق وقسّمه إلى دول غنية وأخرى فقيرة، والظاهرة الثانية التقدم العلمي والتكنولوجي الذي أحدث خللاً كبيراً في النظرية الماركسية بعد اختراع الكومبيوتر والرجل الآلي والأتمتة مما حول طبيعة الإنتاج الاجتماعي إلى إدارة مجموعة صغيرة من المهندسين والفنيين يضع الخيوط أو المواد الأولية الأخرى في إحدى فتحات الآلة ثم يبرمج نوعها وشكلها في الكومبيوتر فتخرج من فتحة أخرى حاجة كاملة سواء كانت بدلة أو قميصاً أو مواد أخرى، وهذه الظاهرة كان يقوم بعملها وإنتاجها مئات أو آلاف العمال من خلال تقسيم العمل، مما أوجد خللاً في طبيعة القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج التي كانت تعتبر أحد التناقضات والصراعات بين الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية وقضت نهائياً على أمل استيلاء الطبقة العاملة على السلطة وإقامة الدولة الاشتراكية، وكان هذا الخلل من إفراز ظاهرة ستالين التي سببت كما بينا في فصول سابقة الجمود الفكري والعقائدي مما جعل النظرية تراوح في مكانها وعدم استطاعتها من متابعة واللحاق في التطور الرأسمالي مما أدى إلى جمود وتأخر النظرية الماركسية وتقدم الرأسمالية والانتقال من مرحلة الامبريالية إلى مرحلة العولمة، إن ذلك الخلل سببه التطبيق من قبل المنظرين والمفكرين الماركسيين وليس الخلل في النظرية الماركسية (إذا عجز التطبيق عن متابعة النظرية فلابد من وجود خلل في التطبيق). إن ذلك لا يؤدي إلى فناء ونهاية النظرية الماركسية لأنها وجدت من أجل الإنسان وسعادته ورفاهيته واستقراره ومستقبله المشرق السعيد ومن أجل تحرير ذلك الإنسان من الظلم والاضطهاد والحرمان والعوز والقهر والحاجة. وهنا يبرز سؤال : هل أن النظرية الماركسية مرتبطة بالطبقة العاملة فقط، حتى تزول وتنتهي النظرية الماركسية ؟ هل أن الاستغلال والاضطهاد والحرمان والاغتراب والجوع والقهر والجهل والأمية والمرض وغيرها من الآفات والمظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية زالت ومحيت من الوجود حتى تزول وتنتهي النظرية الماركسية ؟ كلا .. إن الإنسان موجود والآفات والمظالم الاجتماعية موجودة وسوف تزداد وتتضخم في مرحلة العولمة التي سوف نستعرضها في الفصول القادمة.


مرحلة العولمة وإفرازاتها ومتناقضاتها
تعتبر مرحلة العولمة مرحلة متقدمة من مراحل الرأسمالية الاستعمارية العالمية، وهي كمرحلة تمتاز بطابعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، برزت للوجود بشكل واضح بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار النظام الاشتراكي وظهور الثورة المعلوماتية في الاتصالات والتقدم العلمي الهائل في الأتمتة والتكنولوجيا، فجعلت العالم بسعته وضخامته ما يشبه القرية الصغيرة، وانفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالعالم سياسياً بعد أن أصبحت القطب الأوحد فيه، ومهدت مرحلة العولمة لمشروعها هذا بنشر كتاب (نهاية العالم واليوم الأخير) لفرانسيس فوكوياما، وكتاب (تصادم الحضارات) لصاموئيل هنغتون، فكتاب فوكوياما الياباني المولد والأمريكي التجنس (يعتبر العالم أصبح من الآن حتى نهايته ونهاية الإنسان الأخير فيه ليبرالياً، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي وسقوط جدار برلين عام/ 1989 مما أدى إلى زوال وفناء النظرية الماركسية). أما الكتاب الثاني (تصادم الحضارات) لهنغتون يقول فيه (فرضيتي هي أن العالم الجديد لن تكون للصراعات في الأساس جذور أيديولوجية أو اقتصادية وإنما ستكون انقسامات بشرية كبرى، ومصادر للصراعات الرئيسية ثقافية وستستمر الدول القائمة على القومية تلعب الدور الأول في الشؤون العالمية، ولكن الصراعات السياسية العالمية ستجعل في حلبة الصراع أمماً وجماعات تنتمي إلى حضارات قومية ودينية مختلفة، وستهيمن تصادم الحضارات على السياسة العالمية). وهنالك كتاب ثالث (نهاية الماركسية) للباحث والمفكر العراقي (فالح عبد الجبار) مع مجموعة كان بينهم الأستاذ رضا الظاهر الذي ترجم أحد مواضيعه وهذا الكتاب ليس مؤلفاً وإنما لمجموعة من الأفراد الذين كانوا في يوم من الأيام عناصر فعالة في الأحزاب الشيوعية في دول أوروبا الشرقية لكنهم طردوا من الأحزاب الشيوعية وقسم منهم استقروا في لندن، وقد اجتمعت تلك النخبة في ندوة حاقدة وظالمة ضد الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية في إحدى قاعات لندن وقد قام الأستاذ الفاضل والنخبة المحترمة بترجمة مواد تلك الندوة إلى اللغة العربية في كتاب تحت عنوان نهاية الماركسية.
إن مرحلة (العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة) انتقلت من مرحلة (الامبريالية المتعفنة) ومن أجل أن تدخل على العالم بظاهرة جديدة أصبحت كالأفعى فخلعت رداءها الرأسمالي الامبريالي المتعفن وارتدت رداءها الملون الجميل الخداع واتخذت أسلوباً سياسياً واقتصادياً وثقافياً وفلسفياً : فطرحت فلسفة سياسية واقتصادية جديدة هي (الديمقراطية الليبرالية) سلوكاً ومنهجاً. فقد أخذت العقيدة الجديدة من الديمقراطية مفهوم الحق في الانتخاب ومفهوم المساواة ومفهوم مرجعية الشعب، وأخذت من الليبرالية الاقتصادية مفهوم الفردانية الاقتصادية بعد نقلها من الحقل الاقتصادي الاستهلاكي إلى المجتمع لتأخذ شكل فردانية اجتماعية، ومفهوم حق الاختيار ذي الطابع الاقتصادي الاستهلاكي فتحوله إلى حق اختيار سياسي، ومفهوم التعددية السلعية لتحوله إلى تعددية سياسية من الناحية التاريخية يتحقق ذلك حسب العديد من المصادر، كان الفيلسوف الانكليزي (جون لوك) يشدد على الملكية الخاصة وعلى الفردية وعلى ضرورة إبعاد الدين عن السياسة وعلى تعظيم حرية الاختيار ومن ثم تحولت الليبرالية على يد الفيلسوف (عمانوئيل كانط) إلى فلسفة سياسية تنادي بالحداثة والحرية والسلام والتنوير.
إن مرحلة العولمة، تمثل امتداداً وتطوراً من مرحلة البورجوازية إلى الرأسمالية الامبريالية الاحتكارية ومن ثم مرحلة العولمة، وحينما أصبحت في هذه المرحلة أصبحت تمتاز بطابعين واحد داخلي الذي يمثل الطبيعة الرأسمالية بجميع مراحلها من استغلال وحرمان واضطهاد وإنما أكثر تدميراً وكارثياً لأنها تدمر الإنسان والطبيعة، فالإنسان يصبح في عصر العولمة كالسلعة التي تعرض بالسوق حسب العرض والطلب فيفقد إنسانيته ووجوده أما بالنسبة للطبيعة فإن رأس المال المعولم الذي يهدف ويسعى في الحصول على نسبة كبيرة من الربح (وهذا ما نستعرضه في الفصول القادمة) تسعى إلى استغلال الطبيعة بشكل كارثي وتدميري وهذا ما نلاحظه من تلوث البيئة وحرارة الأرض وغيرها، كما أنها تعتبر ذات مفعول قسري فكري اختزالي وضار ومدمر إلى أبعد الحدود، ويطرح المفكر ديريدا في كتابه الموسوم (بيان الأطياف) التجليات العامة لهذا النظام حتى يتحسس الإنسان نزف الجروح الدامية المتعشعشة تحت المظاهر اللماعة في جلده أو غطاءاته :
1) البطالة عن العمل.
2) الإقصاء الجمعي لمواطنين بلا مأوى.
3) الحروب الاقتصادية المخفية.
4) عجز السيطرة على التناقضات في المجتمع وفي السوق.
5) تفاقم الديون الخارجية للبلدان الفقيرة.
6) صناعة الأسلحة والاتجار بها.
7) التوسع في نشر الأسلحة الذرية.
8) الحروب العرقية.
9) نمو سلطة أشباح المافيا المتخفية تحت خيمة الرأسمالية.
10) القانون الدولي وفبركته حسب ميول صناع القرار.
يضاف إلى هذه التجليات تدمير الطبقة البورجوازية المتوسطة والصغيرة (القطاع الخاص في الإنتاج الوطني) وظهور طبقة بورجوازية طفيلية تمثل العمل والوكالات لرأس المال المعولم وبذلك يصبح المجتمع مقسماً إلى أغنياء وفقراء فقط.
أما الشكل الثاني لمرحلة العولمة الذي يتجسد في ظاهرها وكما شبهناها بالأفعى تحمل في داخلها السم الزعاف ولكن في ظاهرها حينما تنزع ثوبها القديم وترتدي ثوبها الجديد بالألوان الزاهية (الفلسفة الديمقراطية الليبرالية) وتعطر جسمها بالأطياف وتضع باروكة من الشعر الذهبي على رأسها وتصبغ وجهها القبيح بالألوان الجميلة والمغرية وتظهر بلباسها وشكلها الجديد في المرحلة الجديدة. يقول الفيلسوف الألماني (بيتر لونريديك) في كتابه الموسوم (مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة) : (النظام الرأسمالي في الدولة الديمقراطية الليبرالية المعنية ليس غبياً حتى يكون أحادي التوجه حتى يسود نمط واحد من الفساد والارتشاء، إنه يمتلك مقابل احتكاره للسلطة والمعرفة فيصوغها في بودقة واحدة ويحولها إلى مبدأ ثاني يتمثل فيه تجديده لنفسه وتنويع سلطته ومعرفته عن طريق سعيه الحثيث والدائم إلى اكتساح السوق واحتكارها حتى يصير بالإمكان التآمر ضد لعبة الاحتكار وتحويرها بتأليب أنماط فساد ضد أخرى، وهذه لعبة تعددية لا أخلاقية.
إن العولمة تعمل على تحطيم الحدود السياسية للدولة القومية من أجل تسهيل انتقال السلع ورؤوس الأموال وسهولة حركة الناس والمعلومات وتقنيات الإنتاج وأشكال السلوك والتطبيقات الاجتماعية بين دول العالم مما يؤدي إلى إشاعة أنماط حياة وسلوكيات غربية من الأخلاقيات التي تتعارض مع أنماط الحياة والسلوكيات والعادات التقليدية الشائعة في المجتمعات الأخرى تستهدف الثوابت من القيم الاجتماعية للشعوب من خلال سيطرتها على وسائل الإعلام المختلفة، وتعتمد على أسلوب الإبهار والتشويق والإغراء وبشكل خاص الموجه للشباب بهدف فرض ثقافة عالمية تفضي بالنتيجة إلى تراجع وانحسار الثقافة الوطنية والقومية. كما سيكون الإنسان في مرحلة العولمة منشغلاً فقط بالأمور والمفاهيم الاقتصادية، ويتراجع لديه الاهتمام بالأمور السياسية والثقافية والروحية الأمر الذي يؤدي نفسياً إلى شيوع الأنانية والانطوائية بين الناس حتى داخل الأسرة الواحدة، كما يشيع الاهتمام والصراع بين الدول في دائرة المصالح الاقتصادية مما تجعل الدول لا تعير اهتماماً للقيم الأخلاقية. ومن خلال ذلك برزت ثلاثة مواقف مضادة للعولمة من التيارات الاشتراكية والأصولية والقومية فالاشتراكيون يرون في العولمة بأنها خدعة امبريالية من صنع الولايات المتحدة الأمريكية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وفرض سيطرتها على العالم.
أما الأصوليون فإنهم يرون في العولمة بأنها تسلخ الإنسان المسلم بشكل خاص من قيمه الدينية والأخلاقية وتجعله بعيداً عن قيمه الأصلية وعن الدين الإسلامي الحنيف بشكل خاص وذلك من خلال تهجينه بالأفكار والتقاليد والعادات الغربية.
أما القوميون فإنهم يرون في العولمة إنها تعمل على إلغاء الهوية القومية والوطنية والخصوصية المحلية وفرض نموذج ثقافي غربي على جميع الشعوب. وتتفق هذه التيارات الثلاثة على أن العولمة في جوهرها لا تحترم الإنسان ولا تحافظ على جذوره وحضارته وتجاربه وثقافته.
لقد جندت العولمة في غزوتها واقتحامها عالمها الجديد بالمؤسسات الكبيرة الصناعية والمالية والفكرية، عن طريق منح القروض للدول الفقيرة وربطها في عجلتها وتبعيتها، وعن طريق الشركات العملاقة ومنتجات مصانعها التي أغرقت واحتكرت الأسواق العالمية بجودتها ورخصها مما أدى إلى فناء وإفلاس البورجوازية الوطنية وصناعتها الوطنية وحولتهم إلى طبقة مسحوقة تحت شعار اقتصاد السوق والعرض والطلب في ظل حرية انتقال رؤوس الأموال والسلع بين الدول متجاوزة الحدود والسدود، ومن خلال الثورة المعلوماتية في الاتصالات والتقدم العلمي والتكنولوجي والحرية المنفلتة والسائبة التي اخترقت الحدود القومية وحتى جدران البيوت وغزت واستحوذت بفكرها وثقافتها الكارثية المدمرة لشخصية الإنسان وقيمه وتراثه.
إن مرحلة العولمة كالحادلة جرفت وسحقت التراث والتقاليد والعادات الوطنية، كما سحقت ودمرت الطبقة الوسطى من الصناعيين والتجار وأصحاب المهن والحرف والفلاحين والموظفين والمتقاعدين وأصبحت هذه الفئات الاجتماعية مسحوقة تعاني من البطالة والعوز والجوع والفاقة والأمية والجهل والمرض وكل ما له علاقة لائقة بالحياة الإنسانية لأنهم ما يملكونه من أموال وقدرة واعتبار لا تستطيع أن تقف بوجه تلك (الحادلة) المدمرة وبوجه ما تقوم به المؤسسات العملاقة في الفكر والثقافة والصناعة الحديثة المتطورة وما تنتجه من سلع وحاجيات ومعدات مختلفة عالية الجودة والمتانة إضافة إلى رخص ثمنها وهي الطريقة المدمرة في احتكار السوق وتدمير الصناعة الوطنية وفنائها بسبب عدم استطاعتها منافسة تلك الصناعة الأجنبية بسبب حرية السوق وعدم قيام الحكومات الوطنية بحماية الصناعة الوطنية بسبب شروط وقيود صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عند تقديم القروض لتلك الدول، كما أن تلك الفئات الوطنية لا يمتلكون المهارة في الصناعة الحديثة فإنهم يصبحون عمالاً وشغيلة لدى شركات ومؤسسات العولمة ما عدا فئة قليلة من البورجوازية الوطينة الطفيلية تصبح وكيلة وممثلة لتلك الشركات والمؤسسات في البلد. أما الموظفون والمتقاعدون فإن شحة رواتبهم لا تستطيع أن توفر لهم مستلزمات الحياة الضرورية لهم ولعوائلهم مما يدفع كثيراً من هذه العوائل أن تلجأ إلى سحب أولادهم من كراسي الدراسة ورميهم في سوق العمل كعتالين أو عمال وقد شاعت بين أولئك الأطفال والشباب الحسرة والألم والإرهاق والتعب والأمية والجهل والمرض التي انحرفت بأخلاقهم وسلوكهم عن الحياة الإنسانية، ويضاف إلى أولئك الأيتام والأرامل مما دفع الكثير منهم إلى الإدمان على المخدرات والنركيلة والسكائر والتسول وحينما يسأل أحدهم عن هذه الظاهرة يجيب (نمارس هذه الأعمال بسبب الجوع ومن أجل الهروب من الواقع).
إن معظم المفاهيم الحديثة التي يكثر الحديث عنها ونطالعها من خلال ما يطرحه المفكرون والمنظرون في وسائل الإعلام المختلفة (المسموعة والمقروءة والمرئية). تشير مرحلة العولمة وبشكل واسع جداً إلى مجموعة من الإجراءات التي تجعل العالم أكثر اندماجاً واعتماده بعضاً على بعض من خلال دمج الشركات والمؤسسات العملاقة في شكل من الإنتاج العالمي من خلال سيطرة نخبة سياسية واقتصادية جديدة غير خاضعة للسيطرة والمحاسبة إلى حد بعيد في صنع وإصدار القرارات وهي (وول ستريت (التي هي الآن تتعرض إلى مظاهرات واحتجاجات ضدها والهجوم عليها وتدمير مكاتبها في جميع أنحاء العالم) والخزانة الأمريكية ومجموعة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) وهي في الحقيقة ليست عملية دمج اقتصادي وإنما سيطرة مركزية متجانسة. وقد كتب علماء الاجتماع من معهد (ماكس بلانك) عن هذه الظاهرة ووصفوها بأنها (تقسيم عالمي جديد للعمل) حينما قامت الشركات العملاقة بغلق مصانعها ومعاملها في الدول الرأسمالية، وتفتحها في الدول الفقيرة المتواجدة فيها المواد الأولية والأيدي العاملة الرخيصة، وإن هذه العملية قد أفرزت نتائج اجتماعية مدمرة وكارثية في تلك الدول الفقيرة (المزيد من الناس يفقدون وظائفهم ويلقى بهم إلى سوق العمل حيث يضطرون إلى بيع قوة عملهم كعمال غير مهرة في أوضاع أسوأ من ذي قبل إلى حد كبير وأصبحت هذه الأعمال سريعة ومرهقة نفسياً). كما تعاني حكومات تلك الدول أزمات مالية طويلة الأمد بسبب ارتباط هذه الحكومات بديون من البنك النقدي الدولي والبنك العالمي، كما تصبح تلك الحكومات خاضعة لشروط هذين البنكين التي تؤدي إلى تقليص قاعدة الضرائب على السلع والبضائع المصنعة في تلك المصانع والمعامل الأجنبية العائدة للشركات العملاقة،وإلى تخفيض الأجور للعمالة الوطنية، ومن طرف آخر تعاني تلك الحكومات الوطنية من ارتفاع متطلبات البطالة وتقديم مساعدات مرحلة التقاعد للموظفين ومساعدة العجزة والمسنين، وفي نفس الوقت أصبحت مدن الدول الفقيرة في العالم غاصة بملايين المهاجرين الريفيين الذين لا يملكون أرضاً يزرعونها ويعيشون منها فأصبحوا مجبرين على الهجرة في أرض الله الواسعة في البحث عن لقمة العيش التي تسد رمقهم وتملأ بطون عوائلهم وأطفالهم الجائعة.
وكان الرأسماليون أصحاب المعامل يختارون العمال حسب النوع والعمر والمهارة وغالباً ما كانوا يختارون النساء الشابات كونهن يعملن بجد ولا يرغبن ترك عملهن أو الانتساب لنقابات العمال، كما كانوا يستغلون الصبيان والأطفال في العمل لأنهم يرضون بأي أجر يدفع لهم، ولم يجد منظرو الحداثة تفاؤلاً في تحسين محتمل لشروط حياة ومعيشة الطبقة العاملة في ظل ظروف العمل المجحف، وخاصة أولئك العمال في المصانع التي أنشئت من أجل إنتاج السلع والبضائع التي تصدر إلى خارج تلك الدول، كما يرى منظرو الحداثة، أن مشاركة النخبة المحلية من البورجوازية الطفيلية المرتبطة بالرأسمال الأجنبي في تلك الجريمة الإنسانية مسؤولة إلى حد بعيد عن تكريس الاعتماد على الأسواق العالمية، والفقر المدقع الواسع الانتشار والمتناقض مع تقسيم العمل في القوانين العالمية. ويرى بعض المفكرين والمنظرين والباحثين بعدم استطاعتهم أن يصفوا العولمة ببساطة على أنها دمج اقتصادي بخلاف ما يحدث والذي يعتبر على الأغلب بأنه نقلة نوعية في شكل التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يمثل تحولاً تاريخياً في النظام الرأسمالي (هذا ما يؤكده هؤلاء المفكرين والمنظرين والباحثين على أن العولمة ليست ظاهرة وإنما مرحلة من مراحل تطور رأس المال. كاتب السطور). بحيث يستخدم رأس المال المضارب مؤشرات موحدة عالمياً (للجدارة الائتمانية) لتقدير أي الشركات أو حتى الحكومات يمكنها الوثوق بها لاقتراض الأموال، وبأي شروط يضع هذا التوحد العالمي السلطة الهائلة في أيدي (طبقة حاكمة عالمية جديدة). ويصنف هؤلاء المفكرين والمنظرين والباحثين هذه النخبة في ثلاث فئات (المديرين البيروقراطيين والسياسيين الراغبين في حفظ الإنفاق الحكومي. والعمل بمقتضى القواعد العالمة الجديدة التي تعتمد بلا رحمة على الكفاءة ومالكي الشركات العملاقة والبنوك الدولية ومديريها التنفيذيين أولئك الذين يديرون منظمات متعددة الأطراف مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ومنظمة التجارة العالمية) واليوم لا تستطيع هذه الشركات أو الدول وضع سياسة تخدم مصالحهم من دون أن تأخذ بعين الاعتبار كيف يمكن أن يرى الدائنون العالميون قراراتها، لأن مثل هذه القرارات المجحفة والشروط المذلة تغرس التعاسة والبؤس بسرعة من خلال وضعهم في ترتيب ائتمان منخفض، أو الامتناع عن تقديم المساعدات إليهم والاستثمار لديهم أو يقبلوا بالشروط المجحفة والمذلة التي تفرز المضاربة الوحشية على قيمة عملاتهم الوطنية وتفرض عليهم الشروط الاقتصادية والتدخل في شؤونهم الداخلية من الناحية السياسية الداخلية والخارجية بحيث يصبحون سلطة في وسط السلطة الوطنية. إن هذه القضايا من التناقضات والصراع الطبقي والاستغلال المجحف للشعوب تصبح قضايا أساسية بصورة متزايدة في عصرنا هذا في ظل سيادة مرحلة العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة بقيادة الرأسمالية العالمية. لقد أصبحت هذه القضايا أساسية بصورة متزايدة بعد أن اختلطت فيها الأوراق وأصبحت الرؤيا مظلمة بحيث أصبح من الصعوبة تحديد من هو المشارك والمسؤول، بسبب التداخل والاندماج بشدة مما جعل الوضع يصبح أكثر شدة وتعقيداً بسبب قيام الثورة المعلوماتية للاتصالات وانتشار المعلومات وسرعة نطاق تبادلها التي جعلت خطى التغيير الاقتصادي والأسواق المالية أسرع من أي وقت آخر.
لقد لعبت الديون التي يمنحها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي دوراً أساسياً ومهماً في الإسراع بظهور وبروز مرحلة العولمة، بحيث كانت تفرض على الدول المستدينة شروطاً تسهل وتفرض عليها الدخول إلى مرحلة العولمة كفتح حدودها أمام رأس المال والسلع والأفراد كما كانت تفرض عليها أن تستخدم هذه الديون في تعبيد الطرقات وإنشاء الجسور والمباني وغيرها من المشاريع غير المنتجة، كما فرضت على تلك الدول عدم تقديم الدعم إلى المواد الاستهلاكية التي تقدم للشعب، كما فرضت عليها بعدم دعم الصناعة الوطنية وفرض رسوم قليلة على السلع والحاجيات والمواد المستوردة، مما جعلت من تلك الدول ذات طابع (ريعي) تبيع ما تنتجه الأرض من خيرات معدنية وزراعية وتشتري بها المواد الاستهلاكية. لقد تكبدت الدول المستدينة ديوناً ثقيلة نتيجة عجز تلك الدول من تسديدها في أوقاتها المحددة مما أدى إلى تراكمها نتيجة للأرباح المترتبة عليها والتي أضيفت على تلك الديون، وسرعان ما ازدادت أعداد الدول العاجزة عن دفع الديون (وفي هذه الفترة تسود أزمة في الدول الأوروبية وأمريكا والتي سببها عجز اليونان عن دفع ديونها. كاتب السطور) وبالرغم من ذلك فإن هذه الدول بحاجة إلى الأموال والقروض وليس هنالك (بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية الذي كان يقدم المساعدات للدول الفقيرة والنامية بدون شروط أو قيود. كاتب السطور) سوى مؤسسات العولمة المتوحشة مثل الصندوق النقدي الدولي والبنك العالمي التي تعتبر هي الممول الوحيد لهذه القروض. والتي سوف توافق على منحهم القروض كالمعتاد، ولكن وفق شروط جديدة أكثر تدميراً وتخريباً، وليس هنالك من وسيلة أخرى أمام الدول الفقيرة المثقلة بالديون سوى الخضوع والخضوع لشروط وبرنامج كاسح ومدمر تفرض على تلك الدول أن تسلكه والذي يؤدي إلى الاقتطاع من الإعانات الخاصة بالسكن والغذاء والنقل الحكومية وخصخصة الشركات والمؤسسات التي تديرها الدولة وتخفيض الحواجز الجمركية أمام السلع والبضائع الأجنبية التي تؤدي إلى تدمير وفناء الصناعات المحلية بعد أن تصبح عاجزة عن مواجهة المنافسة مع تلك السلع والحاجيات الأجنبية. وقد أطلقت البنوك والمؤسسات الممولة والمقرضة على هذه الظاهرة المدمرة (برنامج التعديل الهيكلي لمدة عقدين من الزمن). لقد أصبحت مرحلة العولمة كالسفينة الفاخرة بحجم قرية صغيرة وتحمل البشر المختلف الأشكال والأنواع ورأس المال الكبير والسلع والحاجيات المختلفة الحجم والأنواع والأشكال، تمخر مياه البحار والمحيطات باتجاه موانئ متفرقة هنا وهناك حيث يعيش الناس في بيوت خربة مزدحمة بأهلها الجياع والعراة والحفاة في أكواخ مشيدة من أغصان الأشجار وسعف النخيل أراضيها ترابية ومجهزة بحفرة تستعمل كمراحيض في كل منطقة من المناطق التي يسكنها التعساء والبائسون تقف تلك السفينة وينزل منها قسم من البشر ورأس المال والمكائن والآلات والسلع والبضائع المختلفة، ويصعد إليها أيضاً بشر ورأس مال وسلع وبضائع، وهكذا في كل مناطق وموانئ أرض الله الواسعة. في تلك المناطق تنتشر السدود الهيدروليكية الضخمة التي تغرق مياهها الحقول الواسعة لكي تزود المعامل والمصانع المنتجة للسلع والبضائع المعدة للتصدير بالطاقة الكهربائية، وتنتشر في المناطق البعيدة عن الأكواخ وبيوت الطين، القصور الشاهقة والعامرة والمرفهة للملاكين والرأسماليين الأثرياء تنور وتضيء بيوتهم وتشغل مكيفاتهم التي تحميهم من حرارة الصيف وزمهرير الشتاء، تمر أسلاك الطاقة الكهربائية من المولدات الهيدروليكية الضخمة وخطوطها من فوق رؤوس أولئك التعساء والبائسين الساكنين في تلك الأكواخ والبيوت الخربة وهم يعيشون في ظلام دامس ويتصبب العرق من أجسامهم في الصيف ويرتجفون في الشتاء من البرد القارص، رجال الأعمال والصناعيون يأتون من دول بعيدة يزورون مصانعهم ومعاملهم وفي طريقهم يزورون الآثار التاريخية للحضارات التي تعود لماضي أولئك التعساء والبؤساء، كما يزورون الجوامع والكنائس والمعابد المنتشرة في تلك المناطق للتسلية والترفيه، فيهرع الأطفال الحفاة والعراة والجياع وكل واحد منهم يحمل قطعة قماش أقذر منه نحو السيارات الضخمة من المرسيدس والبي أم دبليو يمسحون تلك السيارات الواقفة خارج الكنائس والجوامع والمعابد من أجل الحصول على بعض النقود التي يتصدق بها أولئك الرجال الكبار. إن هذه المناظر المفجعة التي أفرزتها الرأسمالية وكلما تتطور تتطور معها حياة الشعوب وأحوالهم بصورة عكسية حتى أصبحت في مرحلة العولمة الأسوأ والأردأ وقد تبدو هذه المناظر والصور المتناقضة والمختلفة في عالمين أحدهما المتقدم والآخر المتخلف. وهذه الفوارق والاختلافات ضمن نوعين من الدول غنية مرفهة ومتخمة تكاد لا ترى في شوارعها الواسعة والجميلة حتى القشة والذبابة وأهلها خدودهم حمراء من الصحة والعافية والسعادة والرفاه، وأخرى فقيرة تسكن في بيوت خربة وينخر أجسامهم الخاوية الجوع والمرض والجهل والأمية، وجوههم صفراء ذابلة محفور في كل واحد منها وادٍ من المآسي والآلام والقهر يخاف من غده لأنه قد يكون أتعس من يومه.
في مرحلة العولمة تظهر بعض الاهتمامات في تلك المناطق من حيث تنميتها الاقتصادية والاجتماعية، وهذه الدوافع ليست إنسانية ولا صادرة من قلوب رحيمة ودينية وإنما من أجل أن تصبح تلك البلدان سوقاً مزدهرة لمنتجات مصانعهم وبعض المفكرين والباحثين يرى فيها مصدراً للواردات الرخيصة التي تبقي التضخم منخفضاً، وبعضهم يرى رخص وكثرة الأيدي العاملة، وغيرهم يرى أن الاهتمامات بتلك المناطق خوفاً من انتشار الأوبئة والأمراض بينهم مما ينعكس ذلك على الأيدي العاملة من أبناء تلك المناطق وعجزها عن العمل أو من خوف انتقال تلك الأوبئة والأمراض إلى السلع والحاجيات مما يؤدي بها إلى الكساد ولعدم شرائها حينما تصدر هذه المواد المصنعة في هذه الدول الموبوءة بالأمراض إلى أسواق دول العالم الأخرى، وعلى كل حال فإن الرأسمال العالمي يسعى ويركض ويفتش ويقصد في كل الأحوال الوسائل والطرق التي تؤدي إلى الحصول على أكبر كمية من الربح، وليس ينطلق من نواحي إنسانية أو دينية حينما يهتم في بعض الأحيان في تنمية الأمور الصحية والاجتماعية. يقول الشاعر :
وللمستعمرين وإن ألانوا قلوب كالحجارة لا ترق
وهنالك مقولة لكارل ماركس يقول فيها : (إن الرأسمال ينفر من فقدان الربح أو من الربح الزهيد كما تنفر الطبيعة من الفراغ، إن الرأسمالي يبدي من الجرأة والإقدام حين يتعلق الأمر بربح يوافقه، فهو يرضى بكل شيء في سبيل 10٪ من الربح المضمون، وفي سبيل 20٪ يصبح شديد الحيوية وفي سبيل 50٪ يصبح مغامراً جريئاً، وفي سبيل 100٪ يدوس بالأقدام على جميع القوانين البشرية وفي سبيل 300٪ لا تبقى ثمة جريمة لا يكون مستعداً للمغامرة على ارتكابها ولو كلفه ذلك مجابهة المشنقة). ولذلك فإن أهدافهم الرئيسية تتمحور في السيطرة على كل العالم، ولذلك فإنهم حينما يعملون ويسعون ويفتشون كي تشمل السيطرة الأوروبية والأمريكية بشكل خاص بالحصول على سيناريوهات جميع بلدان العالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لماذا عجل تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار نظامه الاشتراكي بظهور مرحلة العولمة ؟ إن تأسيس الاتحاد السوفيتي بعد انتصار ثورة أكتوبر/ 1917 كان البداية لقيام النظام الاشتراكي الذي تكون وتعزز بعد الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945. بعد انتصار النظام الاشتراكي في دول أوروبا الشرقية وآسيا. مما جعل العالم أن ينقسم إلى نظامين اشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، ورأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية مما أدى إلى خلق التناقض والتنافر والصراع بين النظامين كل منهما يسعى ويعمل من أجل تقويض وفناء النظام الآخر. فأصبح في العالم كفتين واحدة اشتراكية وأخرى رأسمالية، وبما أن ثورة أكتوبر/ 1917 رفعت شعار الثورة العالمية لتطبيق الاشتراكية وربطت نجاحها بانتصار ونجاح الاتحاد السوفيتي ومن ثم قيام النظام الاشتراكي في دول أوروبا الشرقية وآسيا، فإن ذلك يعني أن النظام الاشتراكي سوف يقضي على النظام الرأسمالي من خلال تحريض الشعوب في الدول المستعمرة وشبه المستعمرة من قبل الدول الرأسمالية على الثورة والنضال ضد الاستعمار المتمثل بالنظام الرأسمالي مما يؤدي إلى فقدان الرأسمال العالمي من مصدرين الأول الأسواق التي تصرف بها منتجات المصانع والمعامل الرأسمالية. والثانية فقدان الرأسمال العالمي المواد الأولية التي كانت تستغل وتنهب من الدول المستعمرة، وهاتان الظاهرتان تؤدي إلى خلق الأزمات المميتة في النظام الرأسمالي وأولها تكدس السلع والبضائع التي تنتجها المصانع الرأسمالية مما يؤدي ويدفع الرأسمالي صاحب المعمل إلى تسريح العمال الذي يبلغ أعدادهم بالمئات وحتى بالألوف فيصبحون بدون عمل أو تخفيض أجورهم وكلا الحالتين تؤدي إلى التذمر والجوع والثورة، كما أن الرأسمالي يعمل على زيادة أسعار السلع والبضائع بسبب انقطاع المواد الأولية الرخيصة التي كانت تستغل وتنهب من الدول المستعمرة، ومن أجل أن لا يتوقف معمله من العمل والإنتاج فإنه يلجأ إلى شراء المواد الأولية من مصادر أخرى وبأسعار مرتفعة، وهذه الظاهرة تؤدي أيضا إلى الأزمات في النظام الرأسمالي بسبب تكدس البضاعة لعدم إقبال الناس عليها بسبب ارتفاع سعرها، وبما أن النظام الرأسمالي يعتمد على فوضى الإنتاج والمنافسة الحرة في السوق حسب قاعدة العرض والطلب، فإن هذه الظاهرة تؤدي أيضاً إلى خلق الأزمات الاقتصادية في النظام الرأسمالي.
كان الاتحاد السوفيتي هدفه وغايته بناء نظام اشتراكي في العالم على أنقاض العالم الرأسمالي فأخذ يقدم المساعدات المادية والمعنوية إلى الشعوب المناضلة ضد الاستعمار الرأسمالي من أجل استقلالها وحريتها وبعد تحررها واستقلالها يقدم لها المواد والمهندسين والفنيين من أجل بناء اقتصادها الذي يساعدها على الاكتفاء الذاتي وليس الحاجة والطلب والمساعدة من الدول الأخرى وبشكل خاص الدول الرأسمالية.
وكما قلنا أن العالم أصبح يمتاز بكفتين واحدة اشتراكية وأخرى رأسمالية فهذا يعني أن أية دولة تخرج وتنسلخ من كفة النظام الرأسمالي فتنحاز إلى النظام الاشتراكي فتصبح كفته هي الراجحة ومع مرور الوقت تؤدي هذه الظاهرة إلى خلق الأزمات في النظام الرأسمالي والتي تفرز التذمر والإضرابات والمظاهرات والثورة في الأنظمة الرأسمالية.
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي وانهيار نظامهم الاشتراكي ظهرت مرحلة العولمة بمؤسساتها بنك النقد الدولي والبنك العالمي هي الممول وتقدم القروض للدول الفقيرة وقد استعرضنا ذلك في الموضوع السابق. وكيف أن تلك القروض وما ترتب عليها من فتح حدود تلك الدول وأصبحت أسواقاً لسلع وبضائع ما تنتجه المصانع والمعامل في الدول الرأسمالية وإن هذا الإخطبوط في إغراق أسواق تلك الدول بالسلع والحاجيات، كما أن وجود الطبقة العاملة وتأثيرها ودورها في عملية إنتاج السلع والحاجيات الذي كان يثير قلق وخوف النظام الرأسمالي، فظهرت الثورة المعلوماتية للاتصالات والتقدم الهائل في الأتمتة والتكنولوجية الصناعية واختراع الرجل الآلي. وقد استعرضنا في موضوع سابق هذه الظاهرة التي استغنت عن ملايين العمال. وأن هاتين الظاهرتين أهم قاعدتين في مرحلة العولمة التي أدت إلى ظهورها.
التناقضات والصراع في مرحلة العولمة
تعتبر العولمة مرحلة متطورة ومتقدمة من مراحل النظام الرأسمالي، وهي تعتبر امتداداً للمراحل الأخرى، وهذا يعني أنها تولد نتيجة ظهور أسباب وعوامل سياسية واقتصادية جديدة ثم تنمو وتترعرع وتشيخ وتفنى، نتيجة قانون الحركة والتغيير، وهي كأي ظاهرة في الوجود تكمن وراء ظهورها أسباب وعوامل تعتبر روافد تصب في تلك الظاهرة وهذه الأسباب والعوامل هي بذرة الموت التي تولد مع الظاهرة، ومع مرور الزمن تنمو وتكبر هذه البذرة وتصبح النقيض للأصل وتدخل في صراع ونزاع معها وتحل محلها بعد القضاء وحينما تفنى تفنى معها الأسباب والعوامل والتي تصبح أيضاً في مرحلة الشيخوخة والعجز والتي كانت تصب في تلك المرحلة أو الظاهرة وتمنحها الاستمرارية والديمومة وهذه الأسباب والعوامل والنتيجة هي الأساس في تكوين كل ظاهرة في الوجود سواء كان جماداً أو حياة (له أكسباير) ينتهي معه. وكما قلنا العولمة كمرحلة واحدة من هذه الأشياء في الوجود تولد معها بذرة موتها ولكل منهما أسباب وعوامل ترافقها بعد أن تكون سبباً في ظهورها وتفنى معها فتظهر أسباب وعوامل جديدة تكمن وراء ظهور تلك الظاهرة.
والآن نستعرض قسماً من هذه المتناقضات التي تفرزها ظاهرة مرحلة العولمة :
1) يمتاز نظام (العولمة المتوحشة) بتحطيم الحدود السياسية للدول الوطنية وسلبها سيادتها واستقلالها، بحيث تستعمل مع تلك الدول مختلف الأساليب الشريفة وغير الشريفة حينما تتمرد بعض الدول في وجه العولمة المتوحشة وترفض الارتباط بشبكة الرأسمالية المعولمة وبشكل خاص رأس المال الأمريكي، وليس فقط على الصعيد الاقتصادي وإنما السياسي والثقافي، وإن هذا الصراع والتناقض لم يظهر بين الدول الرأسمالية والدول الوطنية فقط، وإنما بين الدول الرأسمالية الكبرى أيضاً، حينما يسيطر الخوف والحساسية على تلك الدول صاحبة رأس المال المتوحش الأوسع قدرة والأكبر والأكثر إمكانية من خلال التفاوت في القدرات والإمكانيات عند المنافسة والصراع فتبرز الكلفة الأكثر تفوقاً ومقدرة التي تكون هي الراجحة والحاسمة في الصراع، وهنا تبرز الولايات المتحدة الأمريكية التي تملك هذا الامتياز فتصبح العملية كما يقول المثل (السمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة) لأن الفوز والنصر في المنافسة والصراع من الناحية السياسية والاقتصادية والعسكرية يكون إلى جانب الدول الأقوى وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وبما أن الاقتصاد يسير بوتيرة أسرع في مرحلة العولمة المتوحشة من الطابع السياسي، فإن الخوف والقلق والحساسية يستحوذ على الدول الرأسمالية الأخرى مما يؤدي إلى تحفيزها وتحذيرها الذي يدفعها إلى التمرد والوقوف بوجه الولايات المتحدة الأمريكية من أجل أن تحافظ تلك الدول على كياناتها وسيادتها الوطنية وحدودها الإقليمية.
2) في مرحلة العولمة المتوحشة تنشأ تناقضات مستعصية بين الاقتصاد المعولم والسياسة غير المعولمة، ويتجلى ذلك من خلال الاقتصاد الذي يصبح بنية عالمية في المقام الأول في حين أن النشاط السياسي يتم أساساً في حدود الدولة الوطنية ومن خلالها. وهذا يبين وينبغي ابتداءً التمييز بين العولمة كعمليات موضوعية، ويذهب مذهب العولمة في التفسير الأيديولوجي في هذه العمليات من خلال البرامج السياسية المشتقة منها، بينما تشير الدراسات إلى أن العولمة هو الاصطلاح الذي يطلق على كل العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تجري خارج سيطرة الدولة الوطنية بوصفها وحدة للتحكم بعد أن كانت هذه العمليات تنطلق أساساً من الدولة الوطنية باعتبارها المرجع والإطار المقرر في إدارة الحكم والفعل.
3) يوجد في الفكر الماركسي قانون يقول : (أن معدل الربح يميل نحو الهبوط كلما تقدمت وسائل الإنتاج والتكنولوجيا كلما ازداد توسع الاستثمار الرأسمالي).
ومن خلال الموضوع يأتي تفسير هذا القانون، لقد أدى التطور التكنولوجي الحديث إلى إيجاد وسائل تكنولوجية متطورة من شأنها أن تسرع في عمليات الإنتاج وتقلل من عدد العمال الذي يحتاجه كل معمل أو مصنع لإنتاج نفس الكمية والعدد من السلع والحاجيات أو حتى إنتاج كميات أكبر وأكثر. وقد أدى هذا التطور التكنولوجي المستخدم في عملية الإنتاج إلى الاستغناء عن الكثير من الأيدي العاملة اللازمة في عملية الإنتاج، وتقوم بجميع العمليات اللازمة لإنتاج تلك السلعة، وأصبح ذلك المعمل الذي كان يعتمد في عملية الإنتاج على آلاف العمال، أصبح يديره عدد قليل من المهندسين والفنيين يشرفون من خلال الكومبيوتر على عملية وسائل الإنتاج المتطورة تكنولوجياً. وحينما ننظر إلى هذه العملية المتطورة نجدها تتركز في زيادة رأس المال الثابت بالقياس إلى رأس المال المتغير في كامل عملية الإنتاج الرأسمالي، وبما أن رأس المال المتغير يعتبر المصدر الوحيد لفائض القيمة (الأرباح) فإن ذلك يعني انخفاض مجموع فائض القيمة (الأرباح) المنتج بسبب الفرق بين رأس المال الثابت المصروف على ارتفاع أسعار وسائل الإنتاج التكنولوجية المتطورة، ورأس المال المتغير الذي أصبح قليلاً مما عكس ذلك على الأرباح التي تعتبر الدافع الأساسي للنظام الرأسمالي، مما أدى بهذه الظاهرة إلى خلق حالة من التنافس المستكلب والصراع المرير بين الدول الرأسمالية بسبب قلة مردود فائض القيمة (الأرباح) مما دفعها ذلك من أجل الحصول على أكبر كمية من الأرباح من خلال السيطرة على الأسواق ونتيجة لذلك ظهرت الحرب الباردة المخفية بين الدول الرأسمالية من أجل الاستحواذ على الأسواق. وقد أفرزت هذه الظاهرة كثيراً من السلبيات مثل تخفيض تكاليف الإنتاج من خلال تخفيض الأجور وزيادة ساعات العمل والتلاعب بالمواد الأولية في صناعة ونوعية وجودة السلعة. مما أفرزت ظاهرة الأزمات الحادة والفوضى الاجتماعية، وهذه الإفرازات السلبية تعتبر أحد الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى انهيار مرحلة العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة ونهايتها.
4) الأزمات الدورية صفة ملازمة ومرتبطة بالنظام الرأسمالي والتي تعتبر مرحلة العولمة امتداداً له ونهاية ذلك النظام المتعفن، بالرغم من الجهود التي يبذلها ذلك النظام في التجاوز على تلك الظاهرة واستعماله المنشطات وحقن التقوية والتجديد من خلال تطوير وسائل الإنتاج والتغيير في نوعية السلع، إلا أن الأزمات والكساد تعتبر من مكونات بذرة موت ذلك النظام وتصبح من الحتميات كالقضاء والقدر.
تنطلق الأزمات في النظام الرأسمالي من خلال تحليل طور الإنتاج والتغييرات التي تحدث وتجرى في البنية الإنتاجية للاقتصاد الرأسمالي، ومن خلال هذا التحليل لهذا الطور يمكن تعميم صيغة من النتائج التي يمكن الحصول عليها كأداة معرفية تحليلية لدراسة التطورات في مجال التداول دعت العلاقات ذات الطابع الجدلي العام، ليتم الوصول في نهاية الأمر إلى تشخيص الأزمات في النظام الرأسمالي، إنها أزمات ذات طابع بنيوي مرتبط بالعولمة وحياتها الاقتصادية، من خلال تدويل عملية إعادة الإنتاج الرأسمالي وعلاقته بالدور المتعاظم للرأس المال المالي الحقيقي والوهمي للشركات الاحتكارية الدولية ذات النشاط في الاقتصاد الرأسمالي والأسواق المالية، وما نشهده من تذبذبات واضطرابات وعدم الاقتصار على تحديد الأسباب للأزمة الاقتصادية الراهنة على المخطط الكلاسيكي لتراكم رأس المال وارتباطه ومتابعته لمسار تطور النظام الرأسمالي العالمي الذي خلق المقدمات لنشوء هذه الأزمات وتفاقمها.
إن التراكم الفائض لا يقتصر على وجود قدرات إنتاجية لا تعمل بكامل قدرتها وطاقاتها في قطاع السلع والحاجيات التي تصيبها الأزمات فحسب بل تشمل وبشكل فائض الرأسمال النقدي في الفروع النامية بصورة ديناميكية وبنفس الطريقة تتشابك أزمات الإنتاج السلعية الدورية مع الأزمة المالية في مجال التسليف يجب ربط أية ظاهرة في المجتمع بالتطور التاريخي وتحرير المجتمع من كل أشكال الاستغلال والاضطهاد، وذلك من خلال التحليل العلمي الدقيق لقوانين تطور المجتمع والجذور التاريخية لأية ظاهرة في الوجود.
5) لقد أفرزت مرحلة العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة التفاوت والاغتراب واللامساواة بين عالمين موجودين على كوكبنا في التنمية الاقتصادية والتفاوت الاجتماعي الذي لا يقتصر على منطقة معينة وإنما يشمل أقطاراً عديدة من العالم، أحدهما المتقدم والآخر المتخلف ويشمل البلدان الفقيرة في العالم الأول والثالث أما العالم المتقدم فيشمل البلدان الغنية، إن الإحصائيات التي تصدر من منظمات إنسانية عالمية تقدر عدد الأفراد الذين يعيشون دون مستوى المتوسط خمسة بلايين إنسان من أصل سكان العالم الذي يبلغ عدد سكانه ستة بلايين إنسان وحتى بمستوى الفقر أو دون مستوى الفقر حيث يبلغ متوسط دخل الفرد الواحد أقل من ثلاثة دولارات يومياً ويصل مع بعضهم إلى أقل من دولار في اليوم الواحد، بينما يعيش الإنسان في البلدان الغنية ذات الدخل العالي على مستوى أكثر من ثلاث وعشرين مرة يحصل عليه الفرد في البلدان الفقيرة وأن الفجوة ما زالت تتسع وتزداد قهراً بين الفريقين كلما ازدادت سيطرة وقوة واتساع إخطبوط عصر العولمة المتوحشة حتى أصبح الإنسان في البلدان الفقيرة بالكاد يستطيع أن يوفر قوته وعائلته الضروري لمعيشته وديمومته في الحياة، مما أدى إلى انتشار ظاهرة سوء التغذية والمجاعة وفقر الدم الذي أدى إلى إعاقة النمو والتطور لنحو 40٪ من كل أطفال العالم اعتباراً من عمر سنتين فما فوق. لقد أفرزت هذه الظاهرة أساليب العنف والتطرف والجريمة المنظمة والانفلات في الأخلاق مما أصبحت تهدد حياة وسلامة الناس الأبرياء والمصالح التجارية والمشاريع والمؤسسات في مختلف الدول الفقيرة والغنية وإلى زعزعة الأمن وعدم الاستقرار والاطمئنان.
وبما أن مرحلة العولمة تقتصر على الجانب الاقتصادي وحده، كفتح الأسواق للسلع والمال وفتح عمليات الاستثمار والتبادل التجاري بحيث يتجاوز السلطة السياسية والحدود القومية كما أن نظم الاتصالات عبر الأقمار الصناعية وتدفق المعلومات تجعل من العولمة دكتاتورية شمولية تستمد قوتها من رأس المال والقوة العسكرية تفرض على الإنسان أن يعيش على هذه الأرض دون النظر إلى قوميته وإلى طائفته وإلى قبيلته وإنما ينظر فقط إلى أهليته العقلية والفكرية والإنسانية بشكل عام بوصفه مواطناً يعيش على سطح الكرة الأرضية.
6) في مرحلة العولمة تصبح للسلطة قوة رأس المال المركزية من قبل حفنة من الرأسماليين تتنامى للشكل الصناعي على نطاق واسع في العمل، ويكون الاستعمال والتطبيق للتقنية العلمية أكثر اتساعاً وأكبر عملاً وإنتاجاً. وعن طريق مركزية رأس المال من خلال الدول الثمانية الكبرى والمنظمات والمؤسسات المالية التابعة لها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، فتصبح وسائل الإنتاج التي تعمل لكل دولة على حدة وبصورة منفردة، ويصبح إنتاجها بشكل متكامل ومتناسق بعضها مع بعض بشكل جماعي، وعن طريق قوة وجبروت هذه الدول وسيطرتها على الاقتصاد العالمي، تضطر كل البلدان في الدخول تحت خيمة شبكة السوق العالمية الواحدة التي تخضع للدول الثمانية الكبرى، مما يؤدي إلى توقف الإنتاج في المصانع والمعامل في الدول النامية لعدم استطاعتها من منافسة إنتاج المصانع والمعامل في الدول الثمانية الكبرى لامتيازها بجودة نوعية الإنتاج وانخفاض أسعارها، مما يؤدي إلى رمي الكثير من أبناء الطبقة البورجوازية في مستنقع البطالة (لأن تلك الطبقة تكون هي المالكة في الدول النامية للمصانع والمعامل التي تنتج السلع والحاجيات الوطنية والتي تمتلك رأس المال الخاص وتعمل من أجل تنمية الصناعة الوطنية وتطوير الاقتصاد الوطني) مما تدفعهم مع مرور الوقت الحاجة إلى وسائل المعيشة إلى العمل كموظفين أو عمالاً في الشركات والمؤسسات المرتبطة بالرأس مال الأجنبي (المعولم) وينخرط هؤلاء وغيرهم في الاصطفاف في طابور القوى المتضررة من مرحلة العولمة المتوحشة والمدمرة ومع مرور الوقت تزداد الفجوة وتتسع من خلال الأعداد الكبيرة للقوى المضطهدة والمحرومة والفقيرة كلما أوغلت وتوسعت العولمة في إفرازاتها المدمرة في الاستغلال ومن أجل كسب أكبر كمية من الربح، وكلما مضى الوقت كلما تزداد الحاجة للمصانع الكبرى للمواد الأولية والطاقة والسوق لتصريف منتجاتها، وبالنظر لشحة تلك المواد الأولية والتكالب في السيطرة على الأسواق، تفرز تلك الظاهرة أيضاً المنافسة والمتناقضات والصراع بين الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى وهي إحدى الظواهر التي تفرزها مرحلة العولمة المتوحشة.
7) مرحلة العولمة تؤدي إلى تدمير الإنسان والطبيعة، فالإنسان يصبح كالسلعة في السوق خاضع للعرض والطلب مما تجعله في حالة لا إنسانية فيلجأ إلى طرق ووسائل يبحث فيها عن وجوده كإنسان كائن ومعطي في هذا الوجود الرافض والمدمر لإنسانية الإنسان وكذلك تتعرض الطبيعة إلى التدمير بسبب الاستغلال غير العقلاني والفوضوي والمدمر التي أفرزت ظاهرة تصحر الأرض وارتفاع حرارة الكون وتلوث البيئة وانقراض الحيوانات وهلاكها وانتشار الأمراض والأوبئة والفقر والتقلبات المناخية وتأثيراتها على الإنسان والطبيعة والحيوان فتكونت في كثير من دول العالم الجمعيات والمنظمات الإنسانية التي تقود المظاهرات والاحتجاجات من مختلف طبقات الشعب السياسية والاجتماعية بالرغم من تفاوت مصالحها وأهدافها ولكنها متفقة من حيث شمول المشاكل وطابعها المدمر للإنسانية جمعاء، وتوسعت مطاليبها وأهدافها ونضالاتها فشملت البنية الاقتصادية والسياسية لمرحلة العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة والنظام الرأسمالي بشكل عام وفقاً بما ينسجم مع مصلحة الشعوب المقهورة والمحرومة، ومن أجل المساواة والعدالة الاجتماعية والنفع المتبادل بين الإنسان وأخيه الإنسان ومن أجل الحياة الحرة والكريمة للشعوب في أنحاء المعمورة كافة.
إن هذه الظاهرة المدمرة للإنسان والطبيعة (العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة) نفرض بناء وتكوين أممية جديدة لمواجهة هذه الظاهرة المتمثلة بعالمية رأس المال، لأن الضغط الناشئ من إفرازات تلك الظاهرة وانعكاساته ومخاطره يشمل قاعدة كبيرة وواسعة من البشرية مختلف الأطياف القومية والدينية، فهي تتناقض قولاً وفعلاً مع جميع القيم والتعاليم والمعتقدات الإنسانية لجميع الديانات السماوية حينما تدمر الإنسان وتجعله كالسلعة في السوق وتجرده من جميع قيمه ومعتقداته الإنسانية، كما تقوم بتدمير الطبيعة التي وجدت لسعادة ورفاهية الإنسان، لذلك يجب إنضاج قيام أممية جماهيرية قادرة على تنظيم مواجهة ناجحة ضد التحالف الرأسمالي المعولم ومغامراته العسكرية التي تهدد الكون بالتلوث (اليورانيوم المخصب) والدمار، إضافة إلى نهبها الكارثي لجماهير الشعوب بمختلف طبقاتها ومعتقداتها.
إن الطبقة البورجوازية التي كانت البداية في نمو وتطور النظام الرأسمالي جعلت من مصلحتها الغاية والهدف الأساسي في علاقاتها السياسية فكانت من أجل الوصول إلى ما يحقق مصلحتها الأنانية أن تجعل من الازدواجية والتذبذب واللعب على الحبلين والتناقض في أفعالها وأعمالها. ففي بداية تكوينها عملت من أجل بناء الدولة القومية ونشر الفكر التنويري التقدمي، واستعانت بجميع القوى الوطنية والأفكار التقدمية عندما كانت تحت سيطرة وسلطة النظام الإقطاعي ومن ثم تحت حكم الاحتلال الأجنبي، وحينما تطورت البورجوازية وتحولت إلى نظام رأسمالي وتطورت مراحله إلى الامبريالية ثم العولمة اقتضت مصلحتها أن تعمل بشكل يتناقض مع الأعمال والانجازات التي قامت بها في بداية تكوينها ووجودها، فنلاحظها الآن تضطهد وتستغل وتستعبد الشعوب وتقوم بتفكيك الدولة القومية وتكوين الدويلات والمقاطعات كما جرى في الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا ودول أفريقية وآسيوية وغيرها، في بداية تكوينها حينما كانت الدول الملكية مجموعة مقاطعات في المرحلة الإقطاعية، ودولة المدن في عصر الإغريق والرومان، وكنت البورجوازية في بداية تكوينها تقوم بالتجارة قبل نشوء الصناعة وحينما كانت قوافلها التجارية تمر وتعبر من تلك المقاطعات ودولة – المدن كانت تفرض عليها ضرائب (ترانسيت) من قبل أمراء تلك المقاطعات ودولة – المدن، ولكثرة الضرائب التي تفرض على السلع والبضائع تؤدي إلى خسارتها مما دفع بالبورجوازية إلى توحيدها وتكوين الدولة القومية، والآن اقتضت مصلحة العولمة المتوحشة تفكيك الدولة القومية وتحويلها إلى مقاطعات ودويلات حتى لا تستطيع أولاً الوقوف بوجه مصالح وقوة العولمة وثانياً باعتبار تلك الدويلة أو المقاطعة أصبحت أُحادية الإنتاج أي لا تستطيع أن توفر لشعبها جميع مستلزمات الحياة المادية والمعنوية مما يفرض عليها ذلك الاعتماد على السلع والبضائع المستوردة من الدول الرأسمالية المعولمة. وهذا السلوك والتصرف لمرحلة العولمة هو امتداد لطبيعة البورجوازية وقد زادت وأضافت عليه العولمة من خلال تجاربها وخبرتها الطويلة. ولذلك ليس بإمكان منظمات وطنية صغيرة أن تواجه أخطار وإخطبوط منظمة عالمية كبيرة متعددة الإمكانيات والمقدرة وأصبحت هي القطب الأوحد في السياسة الدولية وجعلت من المنظمات الدولية كَهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمؤسسات التابعة لهما دوائر تابعة لوزارة الخارجية الأمريكية. وإنما يجب تكوين وإقامة منظمة أممية موحدة للعالم تستطيع مواجهة عولمة رأس المال وإفرازاته من التكتلات والاضطرابات، وحتى تستطيع أن تمتاز بالحيوية والنشاط والإمكانيات الواسعة وممارسة نضالاتها وتحديها لمرحلة العولمة والقضاء عليها. إن نضال المنظمات الوطنية تخوض مواجهات غير متكافئة ومتوازنة مع العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة، لأن هذا القدر الكبير والإخطبوط الواسع سوف يحطم تلك القوى الوطنية الصغيرة وعقولها مما يؤدي إلى اثباط الهمم وفقدان الاتجاه الصحيح، لأن المواجهة الآن مع العولمة تختلف عما كانت عليه المواجهة مع الامبريالية في العقود الماضية من القرن العشرين لأن الاتحاد السوفيتي ودول النظام الاشتراكي هي المؤيد والداعم لحركات التحرر الوطني ونضال الشعوب ضد الاستعمار والامبريالية والآن تختلف المواجهة مع العولمة بعد تفكك النظام الاشتراكي وانهياره مما جعل العولمة والرأس المال العالمي يمتاز بأحادية القطب في العالم، وهنا تحضرني مقولة المفكر الدكتور محمد عابد الجابري الذي يقول فيها (كيف كانت الثقافة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي .. فقد كانت الثقافة ثقافتين .. ثقافة استعمارية امبريالية، وثقافة وطنية تحررية .. أما اليوم فالتصنيف الذي يريد تكريسه الواقعون تحت تأثير أيديولوجية العولمة .. هو ذلك الذي يجعل الثقافة صنفين .. ثقافة الانفتاح والتجديد وثقافة الانكماش والجمود أي الأولى ثقافة التبعية والثانية الثقافية الوطنية). إن الدكتور الجابري يقارن في مقولته هذه بين مرحلتين، الامبريالية والعولمة وتأثير كل واحد منهما في العمل الجماهيري ولا يمكن أن نجرد ونعزل هاتين المرحلتين عن الفترة التي كان فيها الاتحاد السوفيتي (مرحلة الامبريالية) وبين الفترة الثانية التي ظهرت فيها العولمة المتوحشة (تفكك وانهيار النظام الاشتراكي). وإنما على الأحزاب السياسية الوطنية التي أصابها القنوط والاضطراب الذي أفرز اليأس والإحباط فانعزلت عن الجماهير التي أصبحت بدون قيادة مما جعلت العولمة أن تستغل هذه الفجوة بين جماهير الشعب والأحزاب السياسية الوطنية وتقوم بتدجين الجيل الصاعد من الشباب عبر العديد من البرامج والأفلام المؤثرة بإغرائها وجاذبيتها في منحى التكوين العقائدي للشباب وهم في طور التفتيش عن ملاذ تكتمل به شخصيتهم الموجهة كي تتطابق وفق هذه السياسة الإعلامية من نماذج أبطال الأفلام ذات مضمون يحثهم على الانخراط في دائرة الاستهلاك السوقي المنسجم مع الجاذبية البراقة لوجه العولمة المقنع بأيديولوجيتها (الليبرالية – الديمقراطية) التي لها فعل التنويم المغناطيسي والتخدير، وقد استطاعت العولمة أن تنجز صياغة هذه الأيديولوجية على وجه الهدف والغاية المنشودة في مقولة الدكتور الجابري (أما اليوم فالتصنيف الذي يريد تكريسه الواقعون تحت تأثير أيديولوجية العولمة .. هو ذلك الذي يجعل الثقافة صنفين .. ثقافة الانفتاح والتجديد وثقافة الانكماش والجمود .. أي الأولى ثقافة التبعية والثانية الثقافة الوطنية). لقد عملت أيديولوجية رأس المال على تكريس مفاهيمها لتصبح سيدة الموقف في العالم أجمع بعد مساهمتها الفعالة في انهيار نقيضها الأيديولوجي (النظام الاشتراكي) ولم تنتهي الكارثة .. بل إنها ما زالت تمعن في التغلغل إلى الأذهان المتأثرة بزخرفة مفاهيمها المبطنة بخبث من أجل استكمال سيطرتها على عقولنا المشلولة التي أصبحت عاجزة عن التمييز بين الحق والباطل وبين الخطأ والصواب نتيجة اليأس والإحباط والآن نقف عاجزين أمام هذه العاصفة الهوجاء (العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة) التي اقتلعت معها قدرتنا التجريدية وحسّنا الموضوعي بما يجب أن نقوم به ونناضل من أجله.
إن العولمة مرحلة من مراحل النظام الرأسمالي وهي كظاهرة تكمن وراء ظهورها أسباب وعوامل وهذه الأسباب والعوامل تخلق المتناقضات والصراعات التي تؤدي إلى الحركة والتغيير. والتناقضات والصراعات التي تعتبر الحركة الدافعة في الارتقاء إلى مستوى تطور الشروط الجدلية التي لها تمفصلاتها نتيجة تراكم عوامل ومؤثرات تؤدي بدورها إلى الانتقال من مرحلة إلى أخرى بشروط جديدة لصراع جديد وهذه العملية هي التي تُحرك عجلة التاريخ وتطوره من خلالها. فالعولمة مثلما خلقتها أسباب وعوامل ومؤثرات تراكمت فخلقت التناقضات والصراع فإن نفس هذه الأسباب والعوامل والمؤثرات سوف تقضي عليها وتفنيها وتزيلها من الوجود. وبالرغم من أن هذا يتم ويجري خارج إرادة الإنسان، إلا أن للإنسان دور مهم وفعال في حركة التاريخ وتطوره، ممثلاً ذلك الشاب الجريء التونسي (محمد عزيزي) الذي انتحر من خلال إشعال النار في ملابسه بسبب اليأس الذي أصابه وعجزه من توفير لقمة العيش له ولعائلته وهو الخريج الأكاديمي أشعل عود الثقاب في قيام ثورة عارمة زعزعت كراسي الطغاة وأدت إلى سقوط رئيس جمهورية تونس (علي زين العابدين) وسقوط رئيس جمهورية مصر (حسني مبارك) وسقوط سلطان ليبيا (معمر القذافي) والنار التي أشعل ثقابها ذلك الشاب الجريء لا زال أوارها وحركتها في سوريا واليمن.
لقد ذكرنا في الفصول السابقة المآسي والكوارث والدمار الذي أفرزته مرحلة العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة كما استعرضنا أيضاً المتناقضات والصراعات التي خلقتها مرحلة العولمة، وكما قلنا أن كل شيء في الوجود له (أكسباير) يولد ويترعرع ويصبح شاباً قوياً ثم يبدأ بالعد التنازلي فيشيخ ويهرم ثم يركب راحلته في رحلته الأخيرة إلى القبر، وهذا يعني أن العولمة مثلما ولدت فإنها تموت، وهنا سنذكر أولئك الذين سوف يحملون نعشها ويلقون بها في متحف التاريخ. هؤلاء هم (البورجوازية الوطنية أصحاب القطاع الخاص الذين رمتهم العولمة في مستنقع البطالة وحتى العمال وكل الكادحين ومعهم أهل الفكر والمعرفة والجماهير الواسعة من أبناء الشعب ستكنس في مسيرتها العارمة مرحلة العولمة وتزيلها من الوجود وستسود المجتمع العدالة الاجتماعية في ظل مختلف الطبقات الاجتماعية وستدير إدارة الدولة حكومة من التكنقراط تخلق السعادة والرفاه والاستقرار والاطمئنان لجميع أبناء الشعب.
الفكر الماركسي والمرحلة الراهنة والمستقبلية
عصيت هوى نفسي صغيراً وعندما رماني زماني بالمشيب وبالكبر
أطعت الهوى، عكس القضية، ليتني ولدت كبيراً ثم عدت إلى الصغر
من أشق الأمور على الإنسان ليس باستطاعته أن يحلل ويفسر الأمور، ولكن كيف يستطيع أن يطرحها إلى الآخرين، أن، أنا العارض وغيري المعروض، وأنا الواصف وغيري الموصوف، أعتبر أحبتي الأعزاء الآخرين مرآة أنظر إلى نفسي من خلالها هم الذين يُقيّمون ما أطرحه وأستعرضه، بينما الإنسان حينما ينظر إلى المرآة فإن عينه لا ترى سوى ذلك الإنسان، وكما هو معروف فإن الشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته وتحليله. وإن النفس كم قلنا لا ترى شخصاً إلا من خلال الآخرين، ناظر ومنظور وحاكمة ومحكومة وما أشق ذلك وأضناه على الإنسان الذي يندفع بكل طاقته المادية والمعنوية من أجل الحقيقة والمصداقية، والنفس تعكس فكرها ورأيها فأما أن تغلو في تقدير ذاتها فتسبب إليها ما ليس تتمناه وتطمح به، وأما أن تغمطها حقها في التعبير عما يجيش في النفس من رؤيا وأفكار، مما يحملها حب العدالة على تهوين شأنها فتسلبها مالها. فكيف يكون الإنصاف ؟ من خلال التقدير والاعتراف بأن ليس هنالك إنسان يشبه إنساناً آخر، والناس على قدر عقولها.
لقد ذكرت في فصول الكتاب أن النظرية الماركسية ومؤسسيها ومطبقيها على الواقع الملموس حسب واقع وظروف روسيا لينين. لأن النظرية الماركسية بالرغم من عالميتها إلا أنها تمتاز بالخصوصية الوطنية لأنها تولد من رحم المجتمع لذلك البلد وتطبق حسب ظروفه وتقاليده وعاداته وثقافته، وإن الفكر الماركسي ليس محصوراً في رقعة معينة أو حكراً على فئة دون غيرها، بل هو نتاج إنساني شاركت فيه مختلف الثقافات البشرية عبر العصور التاريخية، إن هذه النظرية ومؤسسيها ومطبقها قد شيعت جنازتهم جميعاً إلى متحف التاريخ، فلا يوجد الآن وفي المستقبل اشتراكية علمية صحيحة ولا نظرية ماركسية، وإن النظرية التي تطبق الآن قد أضيفت إليها أفكار جديدة استخرجت من خلال نبش القبور مما أدى إلى تشويهها وعجزها وهذا ما لمسناه في الوقت الحاضر من النهج الذي يستوحي هذا التوجه والسلوك على الصعيد العملي، وهذه الأفكار التي شوهت النظرية الماركسية سبق للينين أن دحضها وفندها من خلال مؤلفاته التي بلغت بـ (54 مجلد ضخم).
هل فنيت وماتت وانتهت النظرية الماركسية ؟
كلا .. إنها أزيحت فقط من السلطة، ولو تجمع ظلام الدنيا كله لما استطاع أن يمحي ويطفئ انجازاً واحداً من انجازاتها العظيمة. وبالرغم من أن العولمة ونخبتها من (نيولبراليين) باستطاعتهم أن يسببوا لملايين البشر البلايا والشرور والتدمير والعذاب، إلا أنهم ليس بمقدورهم أن يمسخوا وينفوا المكاسب العظيمة التي حققتها للإنسانية وذلك :
1) إن المسألة المركزية للفكر الماركسي هي مشكلة وجود الإنسان ككائن فردي، واقعي حقيقي، يتحدد معنى وجوده من خلال عمله الذي تتجسد طبيعته وتحقيق ذاته في الصيرورة التاريخية، كما يرى ماركس أن الإنسان في حسيته الكاملة ككائن موجود في مجتمع معطي وفي طبقة اجتماعية معطاة، حيث يجري تطوره من خلال تطور المجتمع، كما يكون في الوقت نفسه أسيراً لمجتمعه ومتعلقاً به، لأن الإنسان يمتلك إحساساً وشعوراً يجعله جزءاً لا يتجزأ من مجتمعه لذلك فإن إنسانية الإنسان وعملية انعتاقه من القوى الاجتماعية التي تقيده غير منفصل عن عملية وعي وإدراك وجود هذه القوى، وعن التغيير الاجتماعي الذي يتأسس على هذا الوعي والإدراك، لذلك فإن الفلسفة الماركسية تعتبر احتجاجاً وتمرداً متشرباً بالإيمان في الإنسان وبقدرته على تحرير ذاته وتحقيق طاقاته من أجل تغيير واقعه المؤلم والمزري.
2) كما يصف رفيق ماركس في تأسيس النظرية أنجلز، أن النظرية الماركسية (علم) والعلوم بشكل عام تمتاز بالديناميكية والحركة بما ينسجم مع حركة وتقدم الحياة وتطورها في مسيرة التاريخ إلى أمام، نافية عنها الجمود والثبات والتقوقع، وأن الذين يحاولون النيل من علمية النظرية الماركسية الخلاقة والتشكيك بها هم أدعياء ولا يستندون في ذلك على أسس علمية واقعية، وكما هو معلوم بأن الوعي لا يؤتمن لأنه لا يحمل صفة الموضوعية لأن النظرية الماركسية لولا علميتها وصواب فكرها، لما أصبحت مادة تدرس في الجامعات الأمريكية والأوربية ويحسبون لها ألف حساب.
3) قال ماركس بعد انجازه مع رفيقه أنجلز النظرية الماركسية : (لقد انشغل الفلاسفة في تفسير العالم، أما الآن فالمهم تغييره). فكان البطل الهمام والفارس الشجاع لينين الذي انتزع النظرية الماركسية من بطون الكتب وحول كلماتها إلى واقع ملموس بما ينسجم مع خصوصية وطبيعة وتقاليد وعادات وظروف الشعب الروسي وحول العلوم الطبيعية والمعرفة العلمية المجردة والافتراضات الفلسفية الصرفة إلى أرض الواقع ووضع للنظرية برنامجاً وأدرك أن ذلك البرنامج لا يمكن تطبيقه وتنفيذه إلا بواسطة حزب جماهيري ثوري، وهذا الحزب يجب أن يقوم على تنظيم حديدي، والبرنامج والحزب والتنظيم لا يمكن عملها وقيامها إلاّ عن طريق قاعدة جماهيرية واسعة، فأنجز كل ذلك بعبقرية فذة وحول مشاكل الشعب وحاجاته ومعاناته إلى شعارات مطلبية جماهيرية واسعة، فأصبحت المعركة معركة الجماهير الواسعة بين الطبقات المضطهدة والمسحوقة والمحرومة المستغَلة وبين الطبقات المستغِلة، فأصبح العراك والنزاع ليس فلسفياً ولا نظرياً، وإنما تحولت الأفكار والقوانين العلمية من مجال الفلسفة إلى صراع ونزاع طبقي من خلال الظواهر والتطورات والفوارق الاجتماعية، فانتقلت النظرية الماركسية من أفقها النظري إلى ممارسة واقعية، وتحولت من ممارسة ثورية جماهيرية حققت الانتصار للثورة، إلى تأسيس سلطة ثورية يقودها العبقري الفذ لينين المظفر بما يتلائم مع طبيعة وظروف المجتمع الروسي، وأصبحت النظرية الماركسية هي المصدر والمشروعية لهذه الثورة ومرجعيتها الفكرية والعملية الأساسية.
4) لقد تأسست النظرية الماركسية في القرن الثامن عشر، وطبقها لينين في بداية القرن التاسع عشر، ونحن الآن في القرن الواحد والعشرين، وجدلية الفكر الماركسي تقوم على النسبية وعلى اختلاف الفكر مع الواقع من حيث الزمان والمكان والفردانية الشخصية أي أن الأمس ليس مثل اليوم، وما في لندن ليس مثل ما في بغداد، وليس هنالك إنسان يشبه إنساناً آخر من حيث التكوين النفسي والتربية البيئية والثقافة والرؤيا والاجتهاد وهذا يعني أن الاختلاف موجود في النظرية الماركسية من حيث الزمان والمكان من خلال تأسيسها وتطبيقها والمرحلة الحالية، مثلاً دكتاتورية البروليتاريا والثورة لا تنسجم مع المرحلة الحالية بسبب التغيرات والتطورات التي حدثت في العلوم والثقافة وغيرها، إلاّ أن ذلك لا يعني أن النظرية الماركسية قد فقدت جميع مكوناتها ومستلزماتها العلمية والفلسفية النضالية مع الظروف الوطنية والعالمية، فالاستغلال موجود والتفاوت الاجتماعي موجود والظلم موجود والاضطهاد والحرمان موجود متمثلاً في مرحلة العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة التي تجثم بإخطبوطها المدمر للطبيعة الإنسان، وبما أن مرحلة العولمة المتوحشة هي امتداد لمرحلة البورجوازية وبما أن الطبقة المسحوقة والمضطهدة التي اتخذت من النظرية الماركسية نبراساً لها في النضال ضد البورجوازية التي ولدت من رحمها تلك الطبقات المسحوقة وقد واكبتها منذ ولادتها، وهذا يعني أيضاً أن النظرية الماركسية تمتاز بالمقدرة في مواجهة العولمة المتوحشة نتيجة الخبرة والتجربة الطويلة التي تمتد إلى مرحلة العولمة.
كيف تستطيع الأحزاب السياسية التي ازدحمت برامجها بالوطن المذبوح والشعب المستباح تنفيذ برامجها التي وعدت بها جماهير الشعب ؟
إن المرحلة الحالية كما بينا لا تسمح لقيام ثورة أو قيام دكتاتورية مهما كان نوعها بسبب الظروف الدولية والتغييرات الليبرالية التي حدثت في العالم، وما اتخذته الدول في الوقت الحاضر من سياسة (ديمقراطية – ليبرالية) الذي فسح المجال في الصعود السلمي للسلطة عن طريق الانتخابات أي عن طريق صندوق الاقتراع الذي يحمل بطاقة الفوز به المواطن. وبما أن الأحزاب السياسية لديها برنامج انتخابي، إذن .. كيف يستطيع الحزب تطبيق وتنفيذ برنامجه ؟ يكون ذلك عن طريق فوزه بالانتخابات واستلامه للسلطة حتى يستطيع تنفيذ برنامجه وهذا يستوجب على الحزب أن يمد جسوراً متينة وعلاقات وطيدة مع جماهير الشعب التي تحمل بطاقة الانتخاب ويتم ذلك من خلال تنظيمها وارتباطها بالحزب السياسي.
إن هذه المستلزمات التي يحتاجها الحزب السياسي في صعوده إلى السلطة حتى يستطيع تنفيذ برنامجه الذي يؤمن به والذي يهدف إلى سعادة الشعب ورفاهيته، إن هذه المستلزمات والأساليب والتعاليم في تبني مطاليب جماهير الشعب وتحويلها إلى شعارات جماهيرية مطلبية، هي من مكونات ومحتويات وتجارب النظرية الماركسية وهذا يعني أن النظرية الماركسية لا زالت حية وتتمتع بحيوية ونشاط وعنفوان لأنها وجدت من أجل الإنسان وسعادته ورفاهيته.
وهنا لي عودة وإعادة وتكرار لبعض النصوص والكلمات، فأوافق أن تطلق علي صفة (صقال) إذا كانت معاني هذه النصوص والكلمات تنسجم مع غايتي وهدفي في استيعابها وفهمها من قبل أحبتي المتلقين الأعزاء، فأكون مرتاحاً وسعيداً لأن هذه الصفة كانت تطلق على أستاذنا الكبير الراحل الدكتور علي الوردي، وأرجو في نفس الوقت من أحبتي وتعزيزاً للموضوع أن يقدروا كم قضيت من سهر الليالي وتوتر النفس وأنا المريض العليل أبحث عن كلمة تنسجم مع النص، وأفتش في الكتب عن مصدر ينسجم مع نصوص الموضوع، والآن أرجو أن تسمحوا لي بالعودة إلى ذلك الرجل العظيم الذي زعزع أركان الرأسمالية العالمية (تعلو يمينه شمساً أفقها رحب وباليد الأخرى ترفرف الراية الحمراء مطرزاً عليها شعار المظلومين والمحرومين والمستغَلين والمضطهدين (المطرقة والمنجل). ذلك الرجل الذي نذر نفسه من أجل إنقاذ الإنسانية المعذبة وفتح أمامها فضاءات الحياة الرحبة في الحياة الحرة والكريمة بعبقريته الفذة (لينين).
إن الرأسمالية العالمية وعملاءها من (النيولبراليين) ليس هدفهم إزاحة لينين وإنما إزاحة منجزات لينين، وبالرغم من أني إنسان بسيط ومغمور أمام ذلك الإخطبوط الجبروت الكبير، إلا أني أكتب للتاريخ فقط وليس لغيره الذي سوف تستعرض أمام منصته الأجيال القادمة وسوف ينطق حكمه الذي لا يرحم فيذم هذا ويمدح ذاك.
إذا أزيحت منجزات لينين من النظرية الماركسية، ماذا يبقى في النظرية ...!!؟
هل يمكن إنجاز عملية النضال والانتصار بدون خارطة ؟ فاللينينية هي خارطة النظرية الماركسية على الواقع العملي الملموس. لقد قال ماركس بعد إنجاز نظريته : (لقد انشغل الفلاسفة في تفسير العالم، أما الآن فالمهم تغييره) فنزل لينين العظيم بالفكر المجرد والفلسفة الصورية المسطرة كلماتها على صفحات الكتب إلى أرض روسيا وشعبها المضطهد والمحروم والجائع فحولها إلى لهيب أحرق فيه كل الماضي بمآسيه وجبروته وشيد مكانه دولة عظيمة يحكمها (الرعاع) من العمال والفلاحين والكادحين. لقد قال ذلك العبقري إلى نقاده من المحرفين والمنحرفين : (إن الذي يطبق النظرية الماركسية يجب أن لا يقف من النظرية موقف المتعبد في محرابها، بل يجب أن يترجم نصوصها ويتمسك بالحياة والواقع قبل كل شيء مسترشداً بالنظرية العلمية من خلال تناوله إياها بارتباطها الجدلي بالواقع الموضوعي ومقدار تطابق نصوصها وموضوعاتها وتعاليمها على الواقع التاريخي الملموس) وقد علق الشاعر الألماني الكبير جوته على ذلك فقال : (أن النظرية الماركسية رمادية اللون .. ولكن شجرة الحياة خضراء إلى الأبد) وقبل الخوض في الموضوع أود أن أطرح سؤالاً إلى أحبتي من الأكاديميين (هل أن الذي قرأوه في دراستهم الجامعية طبق بشكل حرفي بعد تخرجهم وممارستهم الحياة العملية ؟).
إن الظروف القاهرة والمصيرية التي واجهت لينين أثناء وبعد ثورة أكتوبر العظمى فرضت عليه أحكام الضرورة أن يتصرف، لقد أصبح بين حالتين، أما انهيار الثورة وفشلها، وأما المضي إلى أمام بالثورة ونجاحها .. وكما يقول الشاعر :
إذا لم تكن غير الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلى ركوبها
وقال الشاعر أيضاً :
وفــي الــشـرّ نـجـاةٌ حـيـن لا يـنـجيك إحسان
وإذا كان الآن يتحجج (النيولبراليين) بتلك الأعمال والتصرفات التي فرضتها أحكام الضرورة لها ما يبررها من أجل الدفاع عن الثورة .. وأن تلك الأعمال والتصرفات انتهت بانتصار الثورة. إن أن أولئك الصعاليك الصغار يثيرونها الآن وينبشون القبور عن أقوال (كانت وبليخانوف وبرنشتاين وتروتسكي وكاوتسكي ومدرسة فرانكفورت وما دُون في الماركسية الغربية) التي ظهرت الآن بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار نظامه الاشتراكي. إن جميع هذه الأفكار لأولئك المحرفين والمنحرفين قد فندها لينين وكشف جذورها البورجوازية التخريبية والآن أقول وكأن لينين ينطق بها من قبره (جنت أعدكم سدرة بظهاري الكيظ تجويني الشمس وأكعد إبفيكم .. جنت أعدكم صرة بليالي العوز أفلّنْكم وأشِدكم .. جنت أعدكم ربع التنشف الدمع من عيني وأعدكم .. يالصبحتوا أجناب لا أنشِد ولا أنشّد عنكم).
والآن تتعالى الصرخات الكاذبة والمشوهة ضد لينين .. وتذرف الدموع الخداعة والمنافقة على النظرية الماركسية .. ليس من أجل النظرية الماركسية المظلومة، وإنما من أجل وضع الملامة والأسباب في انهيار المعسكر الاشتراكي على لينين، ومن خلال هذا التشويه للحقيقة والتاريخ يراد به ليس التشويه والإساءة إلى لينين العظيم وإزاحة شخصيته فقط وإنما إزاحة جميع انجازاته النظرية والعملية، والخوض الآن في تجربة جديدة أدت إلى الفشل والتراجع والخذلان.
وقد صدق من قال :
يا دار ما فعلت بك الأيام ضامتك والأيام ليس تضام
الماركسية اللينينية
ليس هناك أي خلاف بين جوهر الماركسية وجوهر الماركسية اللينينة، وإنما هناك فرق في طريقة تطبيق الفلسفة الماركسية بما يتلاءم مع المراحل التاريخية وظروفها وملابساتها ومشاركاتها، الديالكتيك الماركسي والديالكتيك اللينيني الماركسي واحد لأنه ينبثق من جوهر واحد، الإنسان وليد التطور المادي البيولوجي والوجدان وليد ونتيجة هذا التطور، القوى الإدراكية العاملة والصفات والأخلاق هي أيضاً وليدة هذا التطور، إن المعرفة ليست وليدة فكرة مثالية مطلقة، بل هي وليدة تطور المادة الدماغية وصقلها وتهذيبها وقد عبر لينين عن جوهر الفلسفة المادية العلمية التاريخية بثلاث نظريات هي :
1) إن الأشياء وجدت مستقلة عن الإنسان وعن شعوره ووجدانه.
2) لا فرق بين الأشياء وما ينتج عنها. الاختلاف مرهون بما يعرف عن الحقائق، وما لم يصل الإنسان إلى معرفته.
3) المعرفة بنت الجدل وهي كغيرها من العلوم ليست محدودة ولا مطلقة بل نسبية وقابلة للبحث والاستكشاف. لا عصمة في المعرفة، الجهل بالشيء لا ينفي وجوده ولا صحته.
وعلى هذه الأسس بنى لينين فلسفته، وعلى هذه الأسس بنى ثورته الشاملة في المجتمع والاقتصاد والسياسة والسلطة. كل هذه الأمور تتطور حتماً بتطور المعرفة والزمن والحاجة. لا إطلاق في الحياة، ما كان حسناً في القرن الثامن عشر قد ظهر فاسداً وخطأً في القرن الواحد والعشرين الحقيقة نسبية، الطبيعة مستمرة في ناموسها التطوري، الجمود والثبات محال.
هذا هو جوهر الفلسفة الماركسية اللينينة وجوهر الفلسفة الماركسية على السواء. ومن هذه النظرية وضح لينين قاعدة النقد والنقد الذاتي مدللاً على أن النظرية الماركسية شأنها شأن الماركسية اللينينة ليست عقيدة حكمية، وأن النقد والنقد الذاتي يجب أن يكونا عنصرين صميميين فيها من أجل التوصل إلى معرفة الحقيقة. إن عنصر النقد يدخل في صلب كل فلسفة ولكن لم يسبق لفلسفة غير الماركسية أن أدخلت في صلبها عنصر النقد الذاتي وأصرت على إحلاله عنصراً صميمياً فيها، وهو الدليل الواضح والأكيد على أنها الأكفأ بين كل الفلسفات التي سبقتها لاستطلاع الحقيقة والكشف عنها. كما أنه هو الدليل الواضح والأكيد على أن هذه النظرية العملاقة هي الوحيدة القابلة للتطور والتقدم مع تطور الإنسان ومع تطور العلم والمعرفة والفلسفة، كما أنها الوحيدة التي في وسعها حل مشاكل الناس.
إن لينين استمد فلسفته ومعرفته من خلال طبيعة الحياة وقوانين الحركة والتغيير التي تسير إلى أمام، والتي ليس من طبيعتها الجمود والثبات والتقوقع، لأن ذلك يخالف قانون الحياة ولا ينسجم معها، ومن خلال هذه الحركة والمسيرة نلاحظ ونلمس أشياء جديدة غير معروفة لدينا وغريبة ومستقلة عن حياتنا ومشاعرنا ووجداننا، وأننا نجهل حقائق وطبيعة هذه الأشياء التي ترتبط بقوانين الحياة، إلا أننا نستطيع معرفتها عن طريق البحث والاستكشاف، بواسطة الوعي الذي يعتبر الحافز الذي يحرك الإمكانات المتاحة ويدفعها للتفاعل مع الواقع، من خلال البحث عن القوانين التي تتحكم بتلك الأشياء ورؤية خواصها الحقيقية، ومن خلال العلاقات السائدة بينها، نستطيع الوصول إلى معرفة تلك الأشياء وأسبابها ومسبباتها والوصول إلى الحقيقة. إن جميع الحقائق موجودة في الكون بصرف النظر عن صورها الذهنية عندنا، إلا أننا لا نعرف هذه الحقائق، إلا على طريقتنا الخاصة، أي حسب حواسنا التي هي الوسيلة الوحيدة التي نملكها للمعرفة وأن هذه الحواس يمكن تنميتها وتطورها عن طريق المعرفة والثقافة والبحث والاستكشاف التي تؤدي إلى تنمية مداركنا العقلية. حينما تدفعنا أحكام الضرورة على القيام بعمل ما عن قناعة وإرادة واعتقاد بأن ذلك العمل يعبر عن الحقيقة والعدالة الإنسانية، التي هي قيمة للعطاء، وامتثال لنداء التكليف على ما طاقة لنا لرفضه وعدم قبوله، لأنه يمثل استجابة للقيم الروحية والموضوعية التي توهب الحاضر حضوره الذي يتجسد في النداء الحي والاستدعاء الصارخ للماضي والحاضر والمستقبل.
تشويه النظرية الماركسية
لقد استعرضنا في الفصول والنصوص السابقة من الكتاب النظرية الماركسية العلمية الاشتراكية وقد بينا من خلال البحث والتحليل والاستدلال أنها شاملة وكاملة من حيث سعتها وعلميتها وتطبيقاتها التي تتناسق وتنسجم مع كل زمان ومكان، لأنها بالرغم من عالميتها إلا أنها تمتاز بالخصوصية الوطنية، لأنها وليدة محيطه الجماهيري باعتبارها تُولد من رحم ثقافته وتقاليده وعاداته وتبقى المرتبطة به والمعبرة عنه من خلال وعيها وإدراكها ومعرفتها، وحينما تقول أنها كاملة وشاملة وتنبثق وتنسجم مع الخصوصية الوطنية لأنها تعتبر مفهوماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفلسفياً. فهي تعتبر مفهوماً سياسياً لأنها تحدد مفهوم دور الشعب والدولة في بناء المجتمع الأفضل والسعيد، ومن الناحية الاقتصادية فهي تسعى إلى التخطيط والبرمجة وتنظيم حياة الناس وسعادتهم واستقرارهم واطمئنانهم وإلغاء فوضى الإنتاج والسوق واستبدالها بالإنتاج الاجتماعي الذي يلبي ويستجيب إلى حاجات الشعب المادية والمعنوية من خلال الملكية العامة لوسائل الإنتاج والعلاقات الإنتاجية الاشتراكية، ويعتبر الفكر الماركسي الاقتصاد هو المحرك الوحيد للتاريخ.
ومن الناحية الاجتماعية تعتبر هي النبراس والطريق الذي يسترشد بها عن طريق معرفة قوانينها الاجتماعية والتحليلية ومفاهيمها وضرورة التمييز بين ما هو نظري وما هو واقع موضوعي اجتماعي. ومن ناحية اعتبارها مفهوماً فلسفياً، تعتبر فكراً نقدياً ضد الانغلاق والجمود، ومنطلقاً نحو رحاب الحرية الواسع من خلال الممارسة والتطبيق وتطوير الفكر الماركسي على ضوء معطيات التطبيق العملي والنظرية الماركسية العلمية الاشتراكية من خلال القوانين العلمية الموضوعية في الكشف ومعرفة الروابط والتغيير في أي ظرف من حيث الزمان والمكان، بما ينسجم مع تغيير الوعي الفكري وتحرير الأيديولوجيا من جمودها وتحريرها من الأسر التي حبست بها وانطلاقها بما ينسجم مع كل ما أنتجه الفكر الإنساني بروح نقدية تتطلع نحو أفق رحب تحرري شامل، والاعتماد على روح جدلية الفكر الماركسي الخلاق بما يطوره في مجال العلم والمعرفة، لأن الفكر الماركسي أدرك الواقع الإنساني ولذلك فهو يعتبر أن الإنسان وجد في هذا الكون ليتعلم فيعلم ولم يوجد جاهلاً وخاملاً وكسولاً ومهملاً.
من خلال هذه النبذة المختصرة وما استعرضناه من خلال فصول الكتاب يتضح أن أية أفكار غريبة تم أو يتم إضافتها إلى النظرية الماركسية يعتبر تشويه لتلك النظرية العملاقة. لأن في النظرية الماركسية ما هو ثابت ومتحول وأن ما يصيبه التغيير والتجديد والأفكار الغريبة ليس الثابت وإنما المتحول، لأن المتحول عند الانتقال من القديم إلى الجديد يقصد مستجدات الحياة التي تتحول بتحول المكان والزمان، وقد يؤدي هذا التحرك والانتقال غير المدروس إلى الانحراف عن الخط والمنهج الذي تسير بموجبه القوانين العلمية للنظرية الماركسية والمساس بها من خلال المفاهيم الجديدة وحقائق تؤدي إلى قلب الواقع الموضوعي ومدخل جديد يشوه النظرية الماركسية مما يؤدي إلى الارتداد واختلاط الأوراق واضطراب الرؤيا الذي يخلق النقيض الذي يفرز الجمود الفكري وانقلاب العقل والإبداع.
إن النظرية الماركسية تستند على أسس علمية ثابتة، لأنها تستمد عناصرها ومعطياتها وقوانينها من العلمية الواقعية للواقع الاقتصادي والاجتماعي والفكري الذي يقوم على الصراع والمتناقضات في المجتمع، إضافة إلى ما تفرضه حتمية التاريخ وحركته وديناميكيته، ولذلك فإن النظرية الماركسية ليست قوانين علمية مجردة أو فلسفة صرفة، وإنما قوانينها العلمية وفلسفتها تتمحور وتتحكم في النماذج والاتساق مع الواقع الاجتماعي الموضوعي الفكري والصراعي، فضلاً عن حركة التاريخ عامة من أجل تغيير ذلك الواقع تغييراً جذرياً وإقامة المجتمع السعيد حينما يتخلص الإنسان من استغلال واضطهاد أخيه الإنسان ومن الفقر والجهل والقهر والأمية والمرض.
إن استنباط فكرة جديدة تتناسق وتنسجم مع الواقع الموضوعي لفلسفة مرحلة العولمة (الديمقراطية الليبرالية) وصهرها بالفكرة الماركسية على اعتبار أنها تشكل مطامح جماهير الشعب بالمساواة والعدالة الاجتماعية وربط النشاط الديمقراطي الليبرالي بالنشاط الماركسي الاشتراكي، فإن ذلك يشكل تشويهات وتحريفاً للفكر الماركسي الخلاق. لأن الديمقراطية الليبرالية فلسفة من نتاج مرحلة العولمة، وبما أن مرحلة العولمة هي امتداد للنظام البورجوازي المستغل والمضطهد ومصاص دماء الشعوب ونهبها وتدميرها، وبما أن هذه الطبقة الكادحة لها فلسفتها ونبراس كفاحها ونضالها من أجل الخلاص والتحرر من ظلم واضطهاد البورجوازية، فإن دمج وانصهار الفلسفة البورجوازية مع فلسفة الطبقة العاملة والكادحين والمظلومين تعني صهرهم جميعاً في بودقة واحدة والاصطفاف في طابور واحد تحت خيمة العولمة المتوحشة وربيبتها الخصخصة المتعجرفة مما يعني ذلك تجريد المضطهدين والمستغَلين والمظلومين من سلاحهم في التخلص من ذلك الكابوس لأنه يؤدي إلى تخديرهم وترقيدهم وإلى نفي التناقض والصراع الطبقي وهذا هو التحريف بعينه وأصله وهنا أود أن أشير إلى إحدى هذه التشويهات للنظرية الماركسية بما يحدث الآن في الصين من خلال الموضوع (أهم التغيرات التي قامت بها الصين في العقدين المنصرمين) المنشور في الصفحة 115 في الكتاب الصادر عن لجنة العمل الفكري المركزية في العدد 10 شهر تشرين أول / 2009 للحزب الشيوعي العراقي، والذي يقول فيه (تحول الاقتصاد الصيني خلال العشرين سنة في الممارسات العملية من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق الاشتراكي، تم تحويل الآلية الإدارية للمؤسسات الحكومية، وبدأ تشكيل منظومة سوقية متسمة بالمنافسة المنتظمة، وتم تحويل الصلاحيات الحكومية وإكمال نظام السيطرة الكلية على الاقتصاد، وأنشئ نظام معقول لتوزيع وضمان الإيرادات الفردية.
ظلت الأمة الصينية تسعى لتحقيق الكساء والغذاء الكافيين كحلم استمر آلاف السنين، أما الآن فيعيش الشعب الصيني وتعداده (3,1 مليار نسمة) عيشة جيدة. هذه القفزة التاريخية من المرحلة المتسمة بندرة السلع إلى المرحلة المتميزة بوفرة السلع ظهرت كمعجزة في مجرى الإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي، وفي عملية البحث لإقامة نظام اقتصاد السوق الاشتراكي، (تجدر الإشارة إلى أن إنشاء نظام اقتصاد السوق الاشتراكي في الصين هو ممارسة عملية للإصلاح لم يسبق لها مثيل) انتهى الموضوع.
إن جدلية الفكر الماركسي تقوم على النسبية أولاً وتقوم على الاختلاف بين الفكر والواقع من حيث الزمان والمكان والفردانية الشخصية، وبما أن الجدل يفرز حالتين سلبية وإيجابية فيولد هذا التناقض الحوار الهادف والبناء، إنني أتفق مع كاتب المقالة من حيث الزمان والمكان، إلا أني أختلف معه من حيث الفكر والرؤيا والاجتهاد على اعتبار عدم وجود إنسان يشبه إنساناً آخر بشكل مطلق لأن لكل إنسان في الوجود رؤيا واجتهاد وفكر، وكما يقول المفكر أب الاقتصاد الرأسمالي آدم سمث (لو توحدت الأفكار لبارت السلع) ومن خلال ذلك نجد بائع الأقمشة وصاحب معرض الأحذية وغيرهم يعرضون في معارضهم مختلف الأنواع والألوان لأن أمزجة الناس مختلفة ومتنوعة، ولذلك سوف أدخل في حوار هادئ وشفاف مع الموضوع فيه نداء حي واستدعاء صارخ للماضي والحاضر والمستقبل سأترك من خلاله العنان لقريحتي لتقول ما يفيض به فكري من واقع المعرفة والتجربة من آراء مثقلة بالمسؤولية الإنسانية التاريخية. بعد أن استعرضنا النظرية الماركسية وقوانينها العلمية وفلسفتها وسياستها واقتصادها وتغييراتها الاجتماعية الإنسانية المادية والمعنوية، فنستعرض الآن ماذا يعني إحلال النظام الاشتراكي محل النظام الرأسمالي ؟
يعتبر النظام الاشتراكي نوعاً جديداً يقوم على تخطيط وتنظيم الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمجتمع، وسينحصر موضوعنا في هذا البحث عن الناحية الاقتصادية الذي يقوم فيه النظام الاشتراكي إلى تحقيق أقصى إنتاجية للعمل الاجتماعي مقارنة بالرأسمالية بحيث يؤدي إلى زيادة إنتاجية العمل على أساس إحلال الآلات محل العمل اليدوي وإبدال الآلات والأجهزة القديمة والمتقادمة بأخرى جديدة، وفي نفس الوقت فإن الشرط الضروري لزيادة إنتاجية العمل يتمثل في حسن تنظيم العمل والإنتاج، وعلاوة على ضمان التقدم التكنيكي فإن أهم مقدمات زيادة إنتاجية العمل تتمثل في زيادة انضباط ومهارات الكادحين وتنمية معارفهم الإنتاجية وتطوير مبادراتهم. بينما تعني زيادة إنتاجية العمل في النظام الرأسمالي تشديد استغلال الكادحين، كما تسود ذلك النظام فوضى الإنتاج والمزاحمة والأزمات والبطالة مما يؤدي إلى التبذير غير المعقول للموارد الطبيعية وقوة العمل الحية ومنتجات العمل الاجتماعي. بينما النظام الاشتراكي يكفل أكثر الظروف ملائمة لتطوير واستخدام جميع منجزات العلم والتكنيك من أجل مصلحة المجتمع وإشباع حاجاته المادية والمعنوية بصفة عامة من خلال استخدام موارد العمل الحي المتاحة على أكمل وجه وبنحو مخطط ومبرمج، مما يؤدي تطور الاقتصاد الاشتراكي بالاهتمام الجماهيري الواسع بالنمو لإنتاجية العمل في جميع قطاعات الاقتصاد القومي، لأن زيادة إنتاجية العمل يعتبر أساساً لنمو ورفاهية جميع أبناء الشعب.
في النظام الاشتراكي يسود طابع التخطيط والبرمجة للاقتصاد الوطني، التي تعني تنظيم الحياة الاقتصادية كلها على أساس علمي سليم يتضمن التنبؤ الدقيق بالاحتياجات والموارد الاجتماعية التي يمتلكها المجتمع في كل مرحلة من مراحل تطوره، وتكون الإدارة المخططة للاقتصاد الوطني أحد الملامح الرئيسية للاقتصاد الاشتراكي، الذي يستهدف إشباع الاحتياجات المادية والمعنوية والثقافية للمجتمع بأسره وجميع أعضائه، إن النموذج المخطط للتطور يعد سمة داخلية خاصة بالنظام الاشتراكي للاقتصاد في جميع مراحل تطوره، كما أن الأشكال المحددة للقيادة المخططة للاقتصاد لابد وأن تتغير مع تطور القوى الإنتاجية وتحسن علاقات الإنتاج الاشتراكية. تعتبر الإدارة المخططة للاقتصاد القومي بمثابة نموذج جديد لا مثيل له لتنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع يمتاز به النظام الاشتراكي فقط، وهذا النموذج الجديد للتطور الاجتماعي يؤدي إلى إطلاق القوى الهائلة الكامنة في جماهير الشعب الواسعة، كما أن وعي وطاقة ودرجة تنظيم الجماهير محركاً هائلاً للتقدم الاجتماعي الذي يعد شرطاً هاماً للنجاح في حل المهام التاريخية المطروحة وينتمي الطابع المخطط للتطور الاقتصادي إلى عداد الميزات الحاسمة للاشتراكية عن الرأسمالية وترى الماركسية اللينينية في التخطيط والبرمجة على المستوى الاقتصادي الوطني، أحد الإنجازات العظيمة للاشتراكية، وتنتمي الإدارة المخططة للاقتصاد إلى عداد المهام الرئيسية للدولة الاشتراكية، باعتبار النشاط المخطط للاقتصاد يفسح إمكانية قيادة الحياة الاقتصادية بشكل فعال ويحدد النسب المثلى بكفاءة، ويوزع القوى الإنتاجية بطريقة رشيدة ويحقق الاقتصاد في الموارد. وهنا نطرح مثالاً عبر التخطيط على مستوى الاقتصاد الوطني في الاتحاد السوفيتي الذي شكل سلوكاً وأسلوباً وطريقاً في تطور وتقدم الاتحاد السوفيتي التي طبقت من خلال تحديد واجبات لبعض القطاعات وباكورة التخطيط طويلة الأجل (خطة كهرية الاتحاد السوفيتي التي وضعها لينين في عام / 1920) حتى التخطيط الشامل والكامل الذي يكون نتيجة لانتصار الاشتراكية في جميع مجالات الاقتصاد، وبمقدار نحو الأشكال الاشتراكية للاقتصاد وإزاحة العناصر الرأسمالية نهائياً فيما بعد بالكامل، تتوسع قاعدة التخطيط على مستوى الاقتصاد القومي، كما أن الخطط تصبح أكثر اتساعاً وشمولاً.
والآن بعد أن عرضنا نبذة موجزة عن القانون الاقتصادي الاشتراكي العلمي أود أن أفترش طاولة المحاورة والنقاش مع أستاذي الفاضل (المعجب بتجربة الصين في توفير وسائل الحياة إلى (3,1 مليار إنسان صيني) وغزوها العالم .. !!) كما أن أستاذنا الفاضل استعمل فذلكة الكلام والمنطق المغري الجميل عن تلك الإنجازات والمنافسة والتغييرات في هيكلة الدولة والسوق الاشتراكية والخروج عن قاعدة الاقتصاد المخطط ... !! وهنا أود أن أسأل عن ماهية المحصلة النهائية لهذه الانحرافات والتشويهات التي تلصق بالاشتراكية ؟
إن الصين الآن دولة امبريالية ليس بقوة عسكرية وإنما بقوة اقتصادية استغلت تفكك وانهيار النظام الاشتراكي والثورة المعلوماتية والتقدم التكنولوجي الهائل الذي جعل العالم ما يشبه القرية الصغيرة وظهور مرحلة العولمة وفلسفتها (الديمقراطية – الليبرالية) في حرية اختراق الحدود القومية ودخول وخروج رأس المال والسلع والبضائع وغيرها فغزت البلدان النامية والفقيرة بسلعها وبضائعها وأدواتها المختلفة والمتنوعة (من الإبرة إلى السيارة) وأفرزت هذه العملية المتوحشة المدمرة الظواهر التالية :
1) نتيجة عدم وجود قوانين حماية الصناعة الوطنية وفق الشروط التي تفرضها مؤسسات العولمة بالحرية المطلقة واقتصاد السوق غزت المنتجات الصينية الصنع التي تمتاز بالجودة ورخص أسعارها الأسواق الوطنية، ولعدم استطاعة الصناعة الوطنية منافستها ومزاحمتها أدى إلى كسادها وانسحابها من سوق المنافسة الذي أدى إلى فقدان وتدمير الصناعة الوطنية.
2) أدت هذه الظاهرة إلى هروب الرأس مال الوطني إلى خارج حدود الدولة القومية أو إلى إفلاس أولئك المالكين للمصانع والمعامل التي كانت تنتج السلع والبضائع الوطنية وتحولهم أما إلى بورجوازية طفيلية كوكلاء للشركات الأجنبية في الأسواق الوطنية أو تحولهم إلى موظفين أو أرباب عمل من أجل توفير لقمة العيش لهم ولعوائلهم.
3) إغلاق المصانع والمعامل المنتجة للسلع والبضائع الوطنية مما أدى إلى تسريح آلاف العمال والفنيين ورميهم في مستنقع البطالة والعوز والجوع والحرمان.
4) أصبحت شعوب تلك الدول التي غزت أسواقها المنتجات الصينية تعيش حياة ريعية أي على ما تنتجه الدولة وتصدره من مواد أولية مثل النفط والمعادن الأخرى إلى الدول المصنعة لتلك السلع والبضائع، أما الدول التي لا تملك البترول والمواد المعدنية فإنها تلجأ إلى صندوق النقد الدولي والاقتراض منه بشروطه المجحفة والمذلة من أجل توفير لقمة العيش لشعوبها (من خلال عجز هذه الدول عن تسديد ديونها ظهرت في الآونة الأخيرة أزمة تسديد الديون في العالم).
5) إن الصين لن تغزو أسواق الدول النامية والفقيرة بالعدد والأدوات الصناعية والزراعية والملابس والأحذية المختلفة والمتنوعة وإنما أصبحت تغرق الأسواق بالفواكه والخضروات والمواد الغذائية الأخرى مما أدى إلى كساد المنتجات الزراعية في تلك الدول وتصحر أراضيها.
6) إن الاعتماد بهذا الشكل وهذه الصورة على منتجات الدول الأخرى يشكل خطراً حقيقياً على الدول والشعوب المستهلكة لتلك المنتجات المستوردة في حالة انقطاعها بسبب الحروب وغيرها من الأسباب، كما أدت تلك الظاهرة إلى عوامل ضغط وفرض شروط من قبل الدول المصدرة لتلك المنتجات على الدول المستهلكة.
7) إن هذه العملية اعتبرها فخاً وخديعة تدبرها المخابرات الأمريكية إلى الصين حينما تركت لها المجال في غزو سلعها وإغراقها أسواق العالم وهي القطب الأوحد في السياسة الدولية، وأشبهه بالفخ والخديعة التي نصبتها ودبرتها المخابرات الأمريكية للاتحاد السوفيتي في مسرحية (حرب النجوم) التي دفعت بالاتحاد أن ينفق ميزانيته على بناء ترسانة ضخمة من الصواريخ والأقمار الصناعية وغيرها من الأسلحة المتطورة على حساب غذاء ورفاهية الشعب السوفيتي والتي أدت إلى خلق فجوة كبيرة بين الشعب السوفيتي والكرملين والذي كان أحد الأسباب الرئيسية في انهيار الاتحاد السوفيتي ونظامه الاشتراكي. وهنا أود أن أشرح اللعبة التي سوف تؤدي إلى انهيار الصين التي أصبحت الدولة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية من الناحية الاقتصادية كما أصبحت المنافسة والمزاحمة للولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما يدعو إلى الشك والظن من صمت الولايات المتحدة الأمريكية وسكوتها تجاه الصين وهي الدولة العظمى والقطب الأوحد في العالم.
8) أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تمثل القطب الأوحد على الساحة السياسية الدولية، وهي الآن تسعى للسيطرة على منابع البترول في العالم حتى تستطيع أن تمسك وتستحوذ على رقاب العالم سياسياً واقتصادياً بقبضة حديدية، فليس من المعقول أن تترك العنان لعدوتها الأيديولوجية (الصين) بالتصرف والحرية والسيطرة على الأسواق العالمية، وإنما هنالك ما هو مخفي الآن وسوف تكشفه السنين القادمة من فخ ومؤامرات ودسائس وكمائن تؤدي بالصين إلى التدهور والانهيار.
9) لقد ذكر أستاذنا الفاضل بأن الصين خلقت السوق الاشتراكية، وهذا المفهوم يتناقض مع الواقع لأن السوق الاشتراكية على السوق في الدولة التي تنتج السلع والبضائع والحاجيات المختلفة إلى شعوبها وليس لغزو العالم وهو ما يجري في الدول الاشتراكية، أما النسبة إلى الصين فإنها تقوم بعملية الدولة الامبريالية الاحتكارية عن طريق إغراق الأسواق في الدول النامية والفقيرة بمنتجاتها الرخيصة والجيدة مما يؤدي إلى منافستها للمنتجات المماثلة والشبيهة لها من الصناعة الوطنية والأجنبية حسب اقتصاد السوق (العرض والطلب) مما يؤدي إلى ضعف الطلب على المنتجات غير الصينية وهذا يعني كسادها وإزاحتها من السوق المنافسة وبالنهاية يصبح عرض السلع والبضائع والحاجيات مقتصرة على المنتجات الصينية فقط وهذا يعني الاحتكار بعينه وصفته الذي أفرزته سياسة الإغراق الصينية وهنا أسأل أستاذنا الفاضل .. هل هذه هي الماركسية العلمية التي تخلف المجتمع الاشتراكي المرفه والسعيد للشعوب، أم هذا قهر واستعباد وامتصاص دماء الشعوب ؟ إن الولايات المتحدة الأمريكية أفعى تخزن السم الزعاف في جوفها تقتل به الشعوب وحينما انتقلت الولايات المتحدة الأمريكية والامبريالية العالمية إلى مرحلة العولمة خلعت ثوبها القديم وارتدت ثوباً جميلاً زاهي الألوان تخدع به الشعوب، إلا أن السم الزعاف بقي في جوفها سوف ترميه وتنفثه حينما تقتضي مصلحتها بذلك، أما الصين تلك الدولة المنحرفة والمحرفة للفكر الماركسي منذ العقد الخامس من القرن الماضي فإنها تخلع ثوبها المحرف المنحرف وترتدي ثوب الاشتراكية، ما أشبه الترابط والتلاقي بين الولايات المتحدة الأمريكية حينما ارتدت ثوب العولمة وأصبحت تطالب بحقوق الشعوب بالديمقراطية وتذرف دموع التماسيح على اضطهاد الشعوب وحرمانها من حرياتها، بالضبط والتطابق مع ما تقوم به وتفعله الصين في تدمير الاقتصاد الوطني للشعوب وتعيش بشكل (ريعي) على ما تخزنه أراضيها من خيرات أو الذهاب إلى مؤسسة العولمة (صندوق النقد الدولي) والاستجداء منه بشروط مجحفة ومذلة.
يقول الشاعر : لا تنهى عن خلق وتفعل مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
10) إن القفزة الكبيرة في تطور وتقدم الاقتصاد الصيني وأصبح اقتصاد معولم من خلال اختراقه الحدود القومية للدولة الأخرى ودخوله اقتصاد السوق، ما هي إلا فخ وخدعة نصبتها المخابرات المركزية الأمريكية التي تؤدي في نهاية الأمر إلى انهيار الاقتصاد الصيني ونظامه وتشييعه في جنازة إلى مثواه الأخير في أحد رفوف متحف التاريخ، وذلك وفق اجتهادي واستنتاجي الذي يقوم على ما يلي :
أ‌) بعد تفكك المعسكر الاشتراكي وانهيار نظامه، وقيام الثورة المعلوماتية في الاتصالات، والتطور الهائل في التقدم التكنولوجي والعلمي، أصبح العالم يشبه القرية الصغيرة، أي دوله وبلدانه أصبحت متداخلة بعضها مع بعض ومترابطة فيما بينها اقتصادياً كالجسم الواحد إذا شكى منه عضو تداعى جميع أعضاء الجسم بالألم والحمى وهذا يعني كما نشاهده الآن أن أية دولة تصيبها أزمة اقتصادية تنتقل إلى جميع الدول بعيدة وقريبة وبما أن الصين اخترق اقتصادها حدود الدول الأخرى ودخل في منافسة في اقتصاد السوق الذي يقوم على العرض والطلب وهذا يعني أن الاقتصاد الصيني دخل في حلقة فوضى الإنتاج الذي يخضع عرضه وطلبه من قبل المستهلك إلى المنافسة من حيث الجودة والسعر مما تؤدي هذه الحالة إلى إفراز عدم استقرار الاقتصاد الصيني ويعرضه للأزمات وتكدس البضاعة واحتمال توقف المعامل عن الإنتاج وتسريح العمال ورميهم إلى مستنقع البطالة والجوع مما يؤدي إلى التذمر وتمرد والثورة.
ب‌) إن التطور التكنولوجي والتقدم العلمي واختراع الرجل الآلي قد دخل في الصناعة والإنتاج، وبما أن أي إنتاج يرتبط برأس مال ثابت وآخر متغير، وبما أن التطور التكنولوجي والتقدم العلمي أدخل الآلات والأتمتة المتطورة في التصنيع والإنتاج التي تعتبر من ضمن رأس المال الثابت، فإن هذه الآلات والأتمتة أصبحت مرتفعة الأسعار التي هي من رأس المال الثابت، فهذا يعني أن هذا الارتفاع الكبير في أسعارها سوف يكون على حساب رأس المال المتغير الذي يخلق الأرباح التي تؤدي إلى تراكم رأس المال الذي من خلاله يتم شراء الآلات والأتمتة الحديثة وقيامها بعملية الإنتاج، وبما أن رأس المال المتغير الذي يدر الربح أصبح قليلاً فهذا يعني أن الأرباح أصبحت قليلة ولا تستطيع أن توفر وتؤدي إلى تراكم رأس مال تستطيع شراء مكائن وآلات وأتمتة جديدة، مما تدفع هذه الحالة بصاحب المعمل سواء كان فرداً أو دولة بالبحث عن مصادر تدر عليه بالأرباح فيدخل في صراع ومنافسة مع مالكي المصانع الأخرى في البحث عن الأسواق لتصريف إنتاج مصانعه فيها أو اللجوء إلى ما هو مخصص لحياة الشعب فيقطع منه. كما أن اقتصاد السوق تسوده المنافسة ويعتمد على العرض والطلب من حيث جودة السلعة وسعرها وهنالك حالات تؤثر في الطلب على السلعة، مثلاً إذا شحت المواد الأولية في أحد المصانع فيضطر لشرائها بأسعار مرتفعة كي لا يتوقف مصنعه عن الإنتاج فيضطر صاحب المصنع إلى رفع سعر السلعة التي يعرضها في السوق وبما أن هنالك سلع مماثلة لسلعته لكنها أرخص من سلعته فيضطر المستهلك إلى طلب السلعة البديلة الأرخص سعراً مما تؤدي هذه الظاهرة إلى تكدس البضاعة وتلفها وخسارتها، وفي هذه الحالة يضطر صاحب المعمل إلى تخفيض أجور العمال أو تسريح بعضهم وتمديد ساعات العمل على الآخرين، وهنالك حالة أخرى تفرض على صاحب المعمل الذي يعرض إنتاجه في السوق وهو (الكتلوك والمودة) أي التجديد في الشكل والنوعية وهذا يتطلب زيادة في رأس المال الثابت لشراء قوالب أو ماكنات تتلائم مع المنتجات الجديدة مع المودة والمزاج والذوق لكي تستطيع منافسة المنتجات الأخرى وزيادة الطلب عليها التي تؤدي زيادة الكسب في الربح الذي يؤدي إلى زيادة تراكم رأس المال مما يجعل صاحب المعمل يمتاز بالقدرة على الإنتاج والمنافسة في السوق مع المنتجات الأخرى. وهنالك حالة تفرز سلبياتها في اقتصاد السوق عندما تصبح المنافسة بين الدول، فمثلاً تقوم إحدى الدول بتقديم رشوة أو مغريات أخرى إلى مسؤولي بعض الدول بفرض ضرائب كبيرة على بعض المنتجات مما يؤدي إلى خسارتها في سوق تلك الدولة ومن ثم عدم عرضها في تلك السوق بينما تعفى من الضرائب منتجات تلك الدولة التي تقدم المساعدات والمغريات لتلك الدولة، إن جميع هذه السلبيات تفرزها فوضى الإنتاج واقتصاد السوق بما فيها الصين وهذه الظاهرة تؤدي إلى الأزمات الدورية والتضخم والعجز في ميزانية الدولة وعدم الاستقرار في السوق وغيرها من السلبيات أما كيفية وقوع الصين في الفخ فإن ذلك يكون على المخطط الآتي :
الآن تقف الولايات المتحدة الأمريكية موقف اللامبالاة من إغراق الصين للأسواق بمنتجاتها التي تمتاز بالجودة ورخصها مما جعل الطلب يزداد عليها مما يدفع بالصين من أجل زيادة إنتاج مصانعها بما ينسجم مع الجديد من حيث النوعية والشكل فإنها تضطر إلى تزويد مصانعها بالمكائن والآلات المتطورة الأتمتة المرتفعة الأسعار، تبدأ الولايات المتحدة الأمريكية بلعبتها القذرة وبوسائلها المتعددة في تهديم وتحطيم الصين عن طريق الضغط بشرف أو غير شرف على الدول التي تزود الصين بالبترول والمواد الأولية، وعلى الدول التي تعرض في أسواقها المنتجات الصينية بالامتناع عن عرض وفرض الضرائب الكبيرة عليها وتقوم الولايات المتحدة بتزويدها وتعويضها بمنتجاتها وغيرها من الأساليب الجهنمية، مما يؤدي ذلك إلى تكدس المنتجات وتلفها مما يؤدي إلى إغلاق المصانع والمعامل وتسريح ملايين العمال مما يؤدي بالدولة الصينية إلى المعاناة والعيش في دوامة من الأزمات التي تؤدي إلى تدميرها ونهايتها.
















المصادر
اسم الكتاب اسم المؤلف
1) الاقتصادية الامبريالية فلاديمير لينين
2) مفهوم الإنسان عند ماركس أريك فروم
3) الأغنياء والفقراء بوغوسلوفسكي
4) النظرية اللينينية في الثورة وعلم النفس الاجتماعي لورشنيف
5) المادية والمثالية في الماركسية سلامه كيله
6) مخطوطات/ 1844 الاقتصاد السياسي والفلسفي كارل ماركس
7) تاريخ العلاقات الدولية من كندي حتى غورباتشوف د. موسى محمد آل طويرش
8) دور الأفكار التقدمية في تطوير المجتمع ف. كونستانتينوف
9) المعجم الفلسفي للنظرية الماركسية دار التقدم – موسكو
10) الليبرالية الجديدة جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية د. أشرف منصور
11) الماركسية الغربية دوغلاس ملتر
12) بؤس الفلسفة كارل ماركس
13) حق الأمم في تقرير مصيرها فلاديمير لينين
14) عصر رأس المال أريك هوبزباوم
15) الاقتصاد السياسي. أسئلة وأجوبة ل. ليونتيف
16) الرأسمالية والنظرية الاجتماعية الحديثة أنطوني غيدنز
17) تواطؤ الأضداد على حرب
18) الأممية الرابعة فرانسوا مورو
19) للعولمة وجه آخر عبد الأمير شمخي الشلاه
20) الماركسية والماركسيون في عصرنا نون 4 للنشر والطباعة
والتوزيع/ سوريا
21) خالد إلى الأبد/ ذكريات معاصري لينين عنه مجموعة من معاصري لينين
/ دار التقدم موسكو
22) مذاهب ومفاهيم في الفلسفة والاجتماع د. عبد الرزاق مسلم الماجد
23) فلاديمير لينين محمد صلاح الدين
24) الاشتراكية الخيالية في القرن التاسع عشر بليخانوف
25) مشكلات الماركسية في الوطن العربي سلامه كيله
26) ما العولمة ؟ د. صادق جلال العظم
27) كارل ماركس / فكر العالم جاك أتالي
28) الإدارة العلمية للبناء الاشتراكي ق. ء. أفاناسييف
29) فوضى الأفكار سلامه كيله
30) ظاهرة ستالين جان ايلينشتاين
31) أقوى من الهزيمة جورج هورفات
32) نهاية التاريخ والإنسان الأخير فوكوياما
33) صدام الحضارات هنعتون
34) أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية سيبركين وياخوت
35) الاشتراكية والبلدان النامية محمود الجندي
36) في نقد الحاجة إلى ماركس د. سالم حميش
37) ماركس ونقده للسياسة ترجمة جوزيف عبد الله
38) من هيغل إلى ماركس سلامه كيله
39) تاريخ الملكية فيليسيان شالاي
40) دراسة البيان الشيوعي هرمان دونكر
41) أنجلز والاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية دار التقدم موسكو
42) مبادئ الشيوعية فريدريك أنجلز
43) من تاريخ الحركات الاجتماعية والفكر الاجتماعي أكاديمية العلوم السوفيتية
44) مجموعة مجلات وصحف عربية.



#فلاح_أمين_الرهيمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرفاق الأعزاء
- الى من يهمه الأمر .. مع التحية
- رسالة حب إلى صديقي الدكتور عدنان الظاهر
- حوار مع مشروع بول بريمر الجديد
- التغيير والتجديد في الفكر الماركسي الخلاق
- حديث الروح(30)
- حديث الروح(29)
- حديث الروح(28)
- حديث الروح(27)
- حديث الروح(26)
- لمن تنادي . . . و بمن تستغيث !! ؟
- ما هي الحقيقة (1-2)
- ما هي الحقيقة(2-2)
- العلاقة الجدلية بين المجتمع و الانسان
- ذكرى العيد الميمون الرابع و السبعين للحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع و حاجاته الضرورية
- حديث الروح(24)
- حديث الروح(25
- حديث الروح(23)
- حديث الروح(22)


المزيد.....




- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فلاح أمين الرهيمي - النظرية الماركسية والعولمة