أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بشير الحامدي - كتاب الحقّ في السّلطة والثّروة والدّيمقراطيّة قراءة في مسار ثورة الحرية والكرامة . تونس سبتمبر 2011















المزيد.....



كتاب الحقّ في السّلطة والثّروة والدّيمقراطيّة قراءة في مسار ثورة الحرية والكرامة . تونس سبتمبر 2011


بشير الحامدي

الحوار المتمدن-العدد: 3664 - 2012 / 3 / 11 - 08:48
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الحقّ في السّلطة
والثّروة والدّيمقراطيّة
قراءة في مسار ثورة الحرية والكرامة
ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ
المؤلف بشير الحامدي
الطبعة الأولى سبتمبر 2011
ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ
الاهداء
إلى أم جيفارا

« الذين يصنعون نصف ثورة يحفرون قبورهم بأيديهم »
سان جوست أحد قادة الثورة الفرنسية 1789.

المحتوى
الفصل الأول
تونس [ 1987 ـ 2011 ] بلد في قبضة الديكتاتوریة.
1 ـ انقلاب 7 نوفمبر
2 ـ الديكتاتوریة والاستبداد
3 ـ مافیا المال والفساد
4 ـ العائلات النھّابة
الفصل الثاني
الوضع الاقتصادي والاجتماعي في ظل سلطة بن على البولیسیة
1 ـ التبعیة الاقتصادیة
2 ـ البطالة والتّھمیش
3 ـ المدیونیة
4 ـ تواتر الإحتجاجات الاجتماعية
الفصل الثالث
انتفاضة سیدي بوزید تتحول إلى ثورة
1 ـ انتفاضة سيدي بوزيد تطلق شرارة ثورة الحرية والكرامة
2 ـ 14 جانفي الإطاحة بالديكتاتور بن علي
الفصل الرابع
بعض القضایا المتّصلة بالثورة
1 ـ الفاعلون الحقیقیون في الثورة
2 ـ طبيعة ثورة الحرية والكرامة
الفصل الخامس
الوضع بعد 14 جانفي
1 ـ رحیل الديكتاتور وبقاء الديكتاتوریة
2 ـ حكومتا الغنوشي ومخطط الالتفاف على الثورة.
3 ـ جبھة 14 جانفي و مجلس حمایة الثورة والعجز عن بلورة بديل لسلطة شعبية
4 ـ حكومة الباجي قايد السبسي ومحاولات استكمال الالتفاف على الثورة
ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ

الفصل الأول
تونس 1987ـ 2011 بلد في قبضة الديكتاتورية

1 ـ انقلاب 7 نوفمبر 1987
فجر السابع من نوفمبر 1987 أعلن رئيس الوزراء التونسي زين العابدين بن علي، والذي اختاره العجوز بورقيبة، ديكتاتور تونس منذ 1956، قبل ذلك بأيام في خطته السياسية تلك، انقلابه على وليّ نعمته وراعيه في مشواره العسكري والسياسي منذ توليه خطة رئاسة الاستخبارات العسكرية ما بين عامي 1964 و 1974 بعد أن أحضر سبعة أطباء [1] ليعلنوا عجزالديكتاتور بورقيبة عن مواصلة الحكم بسبب تقدمه في السن.
فجر السابع من نوفمبر على موجات إذاعة تونس، وفي الساعة السادسة والنصف صباحا، خرج صوت المذيع ليعلن بداية عهد جديد.
قبل ذلك، كانت قد رُتّبت مسرحية الانقلاب ترتيبا محكما، ليصعد إلى الركح رجل الاستخبارات القوي، رجل العصا الغليظة، ليحسم أمر خلافة بورقيبة قاطعا الطريق على كثير من الذين كانوا يُعِدّون لذلك ويرتّبون .
فجر السابع من نـوفمبر كانت قد انتهت بروفـات مسرحيـة قتـل الأب، وهاهو الابن والذي طالما ركع أمام بورقيبة مذكرا إياه دوما بأنه أباه البارّ يدخل على أبيه الديكتاتور الشيخ المسن المريض بجنون العظمة والذي أصبح لعبة بيد المتصارعين على السلطة من داخل قصر قرطاج ومن خارجه ليزيحه من كرسي الحكم ويجلس مكانه.
فجر السابع من نوفمبر أفاق التونسيون بين مصدق لما يقع ورافض بين مستبشر بالتغيير ومستريب.
"وأخيرا هاهو الديكتاتور بورقيبة يجد من يزيحه". هكذا قال كثير من التونسيين ممن سمعوا الخبر عند إعلانه.
ها هو أخيرا حاكم تونس منذ 1956 يرحل ويتبخر حلمه بالبقاء حاكما مدى حياته.
كانت هذه هي الفكرة الأهم التي تداولها أغلب التونسيين يوم السابع من نوفمبر1987.
وبقدر ما كانت الفكرة تعبر عن رغبة حقيقية لدى عامة المواطنين في التغيير، إلا أنها، وفي نفس الوقت، كانت تحمل في طياتها خوفا من المستقبل. فالصراع على السلطة وخلافة بورقيبة، بين عدة أجنحة من الحكم، لم يكن بخاف على عامة الناس، ولكن، لم يكن أحد يفكر بأن الأمر سيحسم بهذه السرعة خصوصا، وأن هناك شخصيات ومراكز قوى كانت مؤهلة أكثر لحسم هذا الصراع.
يوم 2 نوفمبر 1987 كان بورقيبة قد عين الجنرال بن علي رئيسا للوزراء، ولم تمض أربعة أيام حتى بدأت تراود الديكتاتور العجوز مخاوف وشكوك حول رئيس وزرائه الجديد وصديق إبنة أخته سعيدة ساسي، التي كانت تشرف على رعاية المجاهد الأكبر وترافقه كظله والتي أسرّ إليها بأنه ينوي إقالة الجنرال وتعويضه بمحمد الصياح مزوّر تاريخ بورقيبة ومحرّف تاريخ الحركة الوطنية التونسية.
وصل الخبر الجنرال بن علي، فبدأ يرتب أمر انقلابه على العجوز الذي طالما حقرّ من شأنه واصفا إياه بالذي لا يفقه في السياسة وبرجل الثكنات.
وتخلف الجميع. تخلفوا. فقط رجل الثكنات وحده من حاز على السبق في صراع الخلافة، الصراع على الحكم. إنه الصراع على الكرسي، والذي سيثبت التاريخ فيما بعد، أنه كان صراعا على أكثر من الكرسي: كان صراعا على سرقة بلاد برمتها، وتسليمها لعصابة لصوص ومافيا مال وفساد.
يوم 8 نوفمبر خرجت الصحف التونسية وعلى صفحاتها الأولى صورة حاكم تونس الجديد، وبجانبه بيان السابع من نوفمبر والذي ورد فيه:
«...إنّ شعبنا بلغ من الوعي والنضـج مـا يسمـح لكـلّ أبنائـه وفئاتـه بالمشاركة البنّاءة في تصـريف شؤونه في ظلّ نظام جمهوري يولي المؤسّسـات مكانتـها ويوفّـر أسبـاب الدّيمقراطيّـة المسؤولــة وعلـى أسـاس سيـادة الشعـب كمـا نصّ عليـها الدستـور...».
«...لا مجـال فـي عصرنا إلى رئاسة مدى الحياة ولا لخلافـة آليـة لا دخـل للشعب فيها، فشعبـنا جديـر بحيـاة سياسيّـة متطوّرة ومنظمـة تعتمـد بحقّ تعدّدية الأحزاب السّياسيّة والتنظيمات الشعبية... سنحرص على إعطاء القانون حرمته، فلا مجال للظلم والقهر ... ولا سبيل لاستغــلال النفــوذ أو التســاهل فــي أمــوال المجمــوعة ومكاسبها...» .
لم يكن ذلك البيان غير واجهة براقة لبدء عهد جديد سيعرف فيه الشعب التونسي ألوانا من العسف والقهر والاستغلال والتفقير والتهميش والإقصاء والحرمان والاستبعاد لم يشهد لها مثيلا طيلة تاريخه، عهد من الدكتاتورية والاستبداد والفساد ستتنفّذ فيه عصابة من السراق والفاسدين من المقربين من الجنرال الديكتاتور ومن أصهاره، سيعيثون فسادا في مقدرات البلاد، وسيثرون ويستبدّون دون مراعاة لأي قانون، عهد ستصبح فيه تونس ثكنة محكومة بالقمع والقهر، ثكنة مغلقة الأبواب وسجنا كبيرا.
لئن كان الديكتاتور بورقيبة وطيلة فترة حكمه قد اعتبر أن تونس ملكا له وتصرف على هذا الأساس، مانعا على الشعب التونسي كل حق في ممارسة إرادته وتحقيق حريته إذ تصدق فيه المقولة الشهيرة المتداولة (حاميها حراميها)، فإن الجنرال الذي أزاحه كان حراميها فقط.
بانقلاب 7 نوفمبر، حسم بن علي أمر خلافة بورقيبة دون ضجيج فبيان 7 نوفمبر كان مطمئنا للجميع بما في ذلك المعارضة بكل تلويناتها، عدى بعض المجموعات اليسارية المشتتة وغير المنغرسة في صفوف الشعب والعاجزة عن لعب أي دور فاعل في التأثير في الحياة السياسية وفي مجرى الأحداث.
لقد كان بيان 7 نوفمبر القاعدة السياسية التي على أساسها سترمّم البرجوازية التونسية التابعة أوضاع نظامها السياسي الذي أصبح على شفا الهاوية منذ تفجّر الصراع على خلافة بورقيبة وتحديدا أشهرا قبل انقلاب بن علي، وهو ما يفسّر قبول مختلف مراكز القوى في النظام بهذا التحوّل ودعمه بما في ذلك بعض الرموز ذات النفوذ السياسي أو الاقتصادي الكبير المحسوبة تقليديا على البورقيبية.
كما لاقى أيضا ترحيبا ومساندة رسمية عربية وعالمية، فقد استجاب الانقلاب لرغبة حقيقية قائمة لدى هذه الدوائر، وخصوصا من جانب الفرنسيين والأمريكان والذين كانوا يراقبون الأوضاع في تونس والصراع على خلافة بورقيبة بعين مفتوحة على الآخِرِ وبقلق شديد.
انقلاب السابع من نوفمبر لم يكن بترتيب داخلي فقط من قبل بن علي ومن دبّر معه في خطوته تلك، لقد كان أيضا بعلم مسبق وبموافقة غير معلنة من الأمريكان وكذلك من السلط الجزائرية حسب حديث منشور للسيد كمال لطيف بالمجلة الفرنسية L express F.R [2]. وكمال لطيف هو أبرز من ساعدوا بن علي للوصول إلى الحكم ولكنه أصبح أحد ضحاياه فيما بعد حيث عاداه ولاحقة وضيّق عليه وسجنه .
نال كمال لطيف كل ذلك نتيجة إبداء رأيه في زواج الجنرال من ليلى الطرابلسي والتي اعتبرها لا تليق بمقامه كرئيس جمهورية لأنها إمرة مشبوهة وعلى علاقة بأكثر من رجل وسمعتها معروفة لدى أغلب التونسيين كما حذره من إخوتها.
لم يكن لأمر حسم الصراع على خلافة بورقيبة وبالطريقة التي وقع بها، أن يؤدي إلى ظهور استقطاب سياسي معارض على أرضية سياسية ديمقراطية شعبية.
لم يكن ذلك ممكنا لعدة عوامل موضوعية خاصة بمكونات المعارضة التونسية بأقطابها الثلاثة اليميني الليبرالي والسلفي الرجعي واليساري الديمقراطي، فمجموعات اليسار الناشطة في ذلك الوقت، كانت مجموعات حلقيّة صغيرة سريّة عصبوية فئوية مشتّتة أغلب عناصرها عناصر برجوازية صغيرة معزولة عن الجماهير برغم بعض الإنغراس النسبي لهذه المجموعات داخل الحركة النقابية والطلابية، وقد زادها قمع النظام البورقيبي ضعفا مجموعات منقسمة إلى تيارات متنوعة متناحرة فيما بينها على مرجعياتها التقليدية الستالينية والماوية والتروتسكية ،بعيدة كل البعد عن التأثير في الواقع.
حال التيارات القومية لم يكن بأفضل من حال مجموعات اليسار المتبني للماركسية فهي أيضا تعاني من نفس الأمراض، تشتت وانعزال عن الجماهير، وانقسام على قاعدة الولاء إما لحزب البعث العربي الاشتراكي بشقيه العراقي والسوري أو للتجربة الناصرية.
لم يكن بمقدور تيارات اليسار الماركسي أو القومي العربي أن تلعب الدور الذي كان عليها أن تلعبه إبان انقلاب 7 نوفمبر؛ لقد كانت هذه المعارضة عاجزة عن الوصول إلى الجماهير كما كانت غير قادرة على التشكل كمعارضة لها سياساتها الواضحة وإجاباتها على الوضع في ذلك الوقت.
لقد حكم عليها ضعفها هذا بأن تبقى على هامش الأحداث؛ وهو وضع ساعد كثيرا في نجاح الجنرال بن علي في توطيد دعائم عهده الجديد: عهد التغيير المبارك؛ كما يحلو له أن يردّد في كل خطبه المكتوبة بالخط الغليظ من مقرّبيه ممن تمرّسوا على الكذب على الشعب بالجمل الرنانة و الديماغوجيا الفجّة.
أما حركة الاتجاه الإسلامي "النهضة "الآن فقد ساندت انقلاب الجنرال وباركته؛ ولعل الجميع لم ينسوا إلى اليوم تلك الجملة الشهيرة لراشد الغنوشي زعيم هذا الاتجاه بعد أن أطلق بن علي سراحه من السجن والذي قال " أثق بالله وبن علي ".
موقف زعيم الإسلاميين هذا موقف يكشف ويكثف المنهج السياسي الذي اعتمدته هذه الحركة منذ نشأتها للوصول للحكم وهو المراهنة حتى على الشيطان من أجل بلوغ أهدافها. ولكن موقفهم هذا لن يشفع لهم من حملة القمع الشرسة التي سيشنها عليهم بن على بعد انتخابات 1989 ، والتي تقول بعض المصادر أن الإسلاميين حصلوا فيها على نسبة 14 ٪ من مقاعد مجلس النواب فوقع تزوير هذه النتائج ليعلن عن فوز قائمات الحزب الدستوري بكل المقاعد.
يقول راشد الغنوشي يوم السبت 19 مارس 2011 في مداخلة بمؤسسة التميمي[3] موضحا موقف حركة الاتجاه الإسلامي من عديد القضايا والمسائل المتصلة بتلك الفترة فيذكر أن حركة الاتجاه الإسلامي وقتها رحبت بالإطاحة بالرئيس بورقيبة في 7 نوفمبر 1987 وأن بن علي بدأ مباشرة بعد السابع من نوفمبر حوارا مع الإسلاميين وهم في السجون، وتولت الحركة آنذاك دعم بيان السابع من نوفمبر ومساندته، ويضيف « أطلق سراحي في شهر ماي وفي السادس من نوفمبر 1988، استقبلني بن علي بحضور السيد الهادي البكوش وقال لي أن مسألة الاعتراف بالحركة مسألة وقت ،لكن يجب الانتظار قليلا. وجاءت انتخابات 1989، فحدثت المفاجأة التي أربكت السلطة وفاجأت الحركة نفسها، حيث كنا نعتقد أن القائمات المستقلة لن تحصل على أكثر من 20٪ من الأصوات، لكن تبين أن ما أعلن عنه مخالف تماما للواقع، وأثبتت الوثائق أن النتائج كانت أرفع بكثير ... وقلنا آنذاك بوضوح إن الانتخابات سادها قدر كبير من التزييف، فدعاني كاتب الدولة للداخلية لينقل إليّ احتجاج بن علي واعتبر بيان الحركة حول الانتخابات غير مقبول وأن الرئيس يحذرنا من العواقب.»
لقد كانت انتخابات 1989 المحطة السياسية التي نزعت كثيرا من الأوهام حول طبيعة النظام السياسي الذي يريد بن على إقامته.
لم يكن ما قام به الجنرال من إجراءات مثل تحوير بعض الفصول من الدستور وإلغاء الرئاسة مدى الحياة وتحديد مدة التجديد للرئيس بثلاث ولايات فقط مدة كل منها خمس سنوات وجعل سبعين عاماً الحد الأقصى للترشح إلى الرئاسة وإلغاء محكمة أمن الدولة وإلغاء التعذيب رسميا وإطلاق سراح ما يقارب 2400 سجينا سياسيا ودعوته لتنظيم إنتحابات تشريعية ورئاسية في أفريل 1989 غير الطعم الذي طوّع به المعارضة التونسية حتى يستكمل ترتيب دعائم سلطته الاستبدادية.
حركة الاتجاه الإسلامي والتي ساندت الديكتاتور من موقع انتهازي والتي أمضت على وثيقة الميثاق الوطني التي طرحها الجنرال لتنظيم العمل السياسي في 7 نوفمبر 1988 ستواجه حملة قمع شرسة بعد رفض طلبها بالترخيص لها في النشاط السياسي القانوني تقيدا بقانون الأحزاب.
سنة 1990 انطلقت المواجهة بين سلطة بن علي والإسلاميين فأعلن في ماي 1991 عن مؤامرة تستهدف اغتياله يقف وراءها الإسلاميون، فانطلقت حملة إيقافات في صفوف أعضاء الحركة ومناصريها ومؤيديها، إذ بلغ عدد الموقوفين 8000 شخصا، وفي أوت 1992 حكمت محكمة عسكرية على 256 قياديا وعضوا في الحركة بأحكام وصلت إلى السجن مدى الحياة فيما حوكم بقية الموقوفين أحكاما ثقيلة.
أحزاب المعارضة المعترف بها (حركة الديمقراطيين الاشتراكيين ـ حزب الوحدة الشعبية ـ الحزب الشيوعي ـ التجمع الاشتراكي التقدمي ـ الاتحاد الديمقراطي الوحدوي ـ الحزب الاجتماعي للتقدم) ساندت بدورها انقلاب الجنرال وعبرت عن ارتياحها لبيان السابع من نوفمبر ورأت فيه بادرة لدخول تونس عهدا جديدا من الديمقراطية والتعددية وهو ما سيجعلها فيما بعد تمضي مع حركة الاتجاه الإسلامي والإتحاد العام التونسي للشغل وأمين عام التجمع الدستوري الديمقراطي الحزب الحاكم على وثيقة الميثاق الوطني في 7 نوفمبر 1988 والتي تنص على مبدأ الديمقراطية القائمة على التعددية وحرية تشكل الجمعيات والأحزاب ... إلخ.
لئن كان الديكتاتور بورقيبة والذي أخْضِعَ إلى الإقامة الجبرية بمسقط رأسه المنستير إثر إزاحته عن الحكم، قد أسف على قرار اتخذه طيلة سنوات حكمه، فهو لاشك قد أسف على ذلك القرار الذي بموجبه استدعى سفيره في بولونيا بن علي سنة 1984 ليكلفه بمهام مدير الأمن وهو نفس المنصب الذي سبق له أن شغله سنة 1978 سنة الإضراب العام [4] وخلال أحداث قفصة سنة 1980 [5] .
تسلم بن على مهامه كمدير للأمن ودون أدنى شك فقد كان ماثلا أمامه فشله في مواجهة أحداث قفصة. لقد حانت الفرصة ليعيد الاعتبار لنفسه، وليظهر أمام ديكتاتور تونس بورقيبة أنه عند حسن ظنه.
كان النظام في تلك الفترة في أوج أزمته، وكان واضحا تماما أن المهمة الموكولة لمدير الأمن الجديد هي أن يكون العصا الغليظة ودمويا أكثر ما يمكن، فالأوضاع، وعلى كل الأصعدة، أوضاع أزمة بعد أن كشفت إنتفاضة الخبز[6] فشل السياسة الإقتصادية المتبعة وأظهرت ولو بشكل عفوي خالص رفض الجماهير الشعبية تحملها أعباء هذا الفشل وفجرت جدلا واسعا في صفوف المعارضة الإسلامية والقومية واليسارية حول مواصلة الديكتاتور بورقيبة الرئاسة مدى الحياة.
بدا للجنرال بن على أن يستهل خطته الجديدة كمدير للأمن بقمع الحركة النقابية التي كانت تمثل لدى أقطاب النظام كما لدى أغلب الطبقات والفئات الفقيرة الإطار الأكثر تنظّما وقدرة على فرض تنازلات على سلطة بورقيبة، لا بل أكثر. ففي نظر أغلب الجماهير الشعبية إضافة إلى منتسبي الإتحاد العام التونسي للشغل، كان الحبيب عاشور الأمين العام للمنظمة النقابية يعدّ الشخصية التي يمكن أن تكون البديل للرئيس بورقيبة الذي طعن في السن ولم يعد قادرا على تسيير شؤون البلاد.
سنة 1985، وفي إطار خطة شاملة لضرب المعارضة بكل أطيافها ومكوناتها ومحاصرة كل نفس ديمقراطي، تجرأ بن علي أن يقوم بهجوم على الإتحاد العام التونسي للشغل لتكسيره، فيسجن أمينه العام مع كثير من النقابيين على إثر مؤامرة عرفت وقتها ـ بمؤامرة الشرفاء ـ [7] استولى فيها الحزب الحاكم عبر عصاباته على كل دور الاتحاد إثر معارك كبيرة مع النقابيين الشرعيين.
غداة انقلاب 7 نوفمبر، أفرج الديكتاتور بن علي على الحبيب عاشور والذي سيغادر الساحة النقابية بعد فترة قصيرة، لينعقد في سوسة المؤتمر السابع عشر للاتحاد العام التونسي للشغل أيام 17 و18 أفريل 1989 تحت شعار المصالحة.
شعار المصالحة، كان شعار تلك المرحلة. لم يكن الشعار فقط شعار النقابيين الشرعيين الذين قبلوا باللجنة النقابية الموحدة مع "الشرفاء"[8] إثر انقلاب 1985 ، كحل للأزمة التي عليها الاتحاد بل كان أيضا شعار قيادة الاتحاد التي أفرزها مؤتمر سوسة والتي على رأسها إسماعيل السحباني، الذي ستقع محاكمته سنوات بعد ذلك في إطار مناورة جديدة لنظام بن علي على خلفية ملف عرف بملف الفساد المالي كان أمين عام الإتحاد متورطا فيه بالفعل، من أجل إعادة ترتيب البيت النقابي وتطويق المعارضة داخله لتفادي أي منعرج غير محسوب في علاقة السلطة بالمنظمة النقابية.
لقد كانت المصالحة شعارأغلب مكونات الحركة السياسية التونسية التي أمضت وثيقة الميثاق الوطني.
المصالحة مع الإتحاد العام التونسي للشغل كانت تعني في سياسة الجنرال دفع بيروقراطيته إلى تبني نهج المشاركة والتحالف مع الديكتاتورية ولعب دور الحارس على الطبقة العاملة لصالح الأعراف الرأسماليين والدولة مقابل فتات من الامتيازات المادية. كانت هذه هي استراتيجيا نظام بن على مع الاتحاد العام التونسي للشغل خاصة وأنه مقدم على تنفيذ المشروع المسمى بمشروع التعديل الهيكلي المملى من الدوائر المالية، البنك الدولي والبنك العالمي وكبرى الشركات المالية العالمية، والذي يتطلب عدم معارضة القيادات البيروقراطية للمشروع الذي كان يهدف إلى خصخصة مؤسسات القطاع العام وفتح السوق للاستثمارات الأجنبية، وهي السياسة التي كانت لها نتائج كارثية على الطبقات والفئات الفقيرة من الشعب الذي لم يجن منها غير التفقير والتهميش والبطالة، فيما سيستغلها بن على وعائلته للإثراء والنهب.
وهكذا لم يتطلب الأمر وقتا طويلا ليتبين أن ما ورد في بيان السابع من نوفمبر من وعود بالديمقراطية والتعددية وما أعلن من إجراءات محدودة، لم تكن غير واجهة زائفة و براقة لإعادة ترميم النظام السياسي للبرجوازية التونسية التابعة لتتشكل في زمن قصير ركائز سلطة دكتاتورية مؤسّسة على مصادرة الحريات والقمع والاستبداد والفساد.

2 ـ الديكتاتورية و الاستبداد
سنة 1990 بدأت الصورة تتضح وبدأت ملامح الاستبداد السياسي لنظام السابع من نوفمبر تتشكل.
في هذه السنة وفي الذكرى الثالثة للانقلاب، كان الجنرال بن علي واضحا في خطابه الذي ألقاه بهذه المناسبة حين حمّل المسؤولية للمعارضة واعتبرها المسؤولة عن عرقلة المسار الديمقراطي الذي تحرص سلطته على تكريسه.
بن علي في هذا الخطاب كان واضحا فالمسار الديمقراطي لم يكن يعني غير تكريس سلطة الحزب الواحد حزب بن علي ـ التجمع الدستوري الديمقراطي [9] ويجب على جميع المعارضات أن تسلّم بذلك.
فبعد أن وقع ترتيب الأمور جميعا سنة 1989 بإعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية بنسبة 99,27 ٪ من عدد أصوات التونسيين وبفرض فوز التجمع الدستوري الديمقراطي بكل مقاعد مجلس النواب، وبنسبة 98٪ من مقاعد المجالس البلدية إثر الانتخابات البلدية التي وقعت في جوان 1990، جاء هذا الخطاب دعوة صريحة وواضحة للمعارضة التونسية بضرورة الاصطفاف وراء الجنرال والسير في ركابه، وردّا على مطلب فصل الدولة عن حزب التجمع الدستوري الديمقراطي والذي بدأت ترفعه جل الأحزاب المعارضة والمنظمات والمجموعات و الاتجاهات السياسية بعد افتضاح أمر عملية التزوير السافرة للانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية.
هكذا إذن مرّ الجنرال الذي بدا في أشهر الانقلاب الأولى في أعين الكثيرين حاملا لمشروع مجتمعي ديمقراطي تعددي، إلى حارس على سلطة قمعية قائمة على التزوير وعلى معاداة كل تعددية وديمقراطية ممكنة.
هذا ما تمخض عنه مشروع الديكتاتور وما سيكرّس على امتداد العشريتين اللاحقتين، وهو ما سيجعل المعارضة، وتحديدا تلك التي ساندت بن على أو التي توسّمت فيه خيرا، تقف على خطئها و مدى مراهنتها على السراب؛ فالربيع الديمقراطي الذي جاء به الانقلاب لم يكن غير منعطف قصير كانت الغاية منه ترتيب مرحلة الانتقال من ديكتاتورية العجوز بورقيبة إلى ديكتاتورية رجل الثكنات.
لم يكن بمقدور نظام السابع من نوفمبر أن يغيّر من طابع السلطة التي ورثها عن بورقيبة والقائمة على هيمنة الحزب الاشتراكي الدستوري على الدولة وعلى الإدارة، وعلى هيمنة مؤسسة الرئاسة والسلطة التنفيذية ككل، على كل السلط والمعتمدة على القمع المعمّم وتدجين كل المنظمات، وعلى التبعية للدوائر الإمبريالية.
دكتاتورية رجل الثكنات ستقوم على دعامات مؤسساتية ثلاث هي جهاز البوليس من جهة، وحزب التجمع الدستوري من جهة أخرى ومؤسسة الرئاسة، وبإسناد من جهاز إعلامي ضخم متكون من جيش من المأجورين والكتبة ومرتزقة القلم العاملين في جرائد حزب التجمع وفي عديد المجلات والجرائد الأخرى وفي محطة الإذاعة المركزية وفي المحطات الإذاعية الجهوية وفي القناة التلفزيونية الرسمية تونس7.
لم تكن المعارضة الليبرالية ولا اليسارية والقومية ولا الإتحاد العام التونسي للشغل بقادرين على مواجهة توجه بن على نحو إرساء سلطته الدكتاتورية.
لم تكن المعارضات المذكورة قادرة على ذلك خصوصا بعد أن تمكن الجنرال من جرّ قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل لتبنّي مبدأ المشاركة والنقابة المساهمة وتمكّن من تحييدها في معركته السياسية مع المعارضة التونسية.
فترة قصيرة بعد انعقاد مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري في جويلية 1988 تحت شعار"مؤتمر الإنقاذ" ذلك المؤتمر الذي اتخذ فيه اسما جديدا هو "التجمع الدستوري الديمقراطي"، وبعد إمضاء الميثاق الوطني وإعلان جملة تلك الإجراءات الشكلية المتعلقة بتنظيم الأحزاب ومجلة الصحافة وتحوير الدستور؛ سيعلن نظام السابع من نوفمبر منع حركة النهضة من التواجد القانوني على أساس منع إقامة أحزاب على أساس ديني ومنع صدور جريدتها "الفجر"، كما سيسحب ترخيص جناحها الطلابي "الاتحاد العام التونسي للطلبة".
لم يكن لموقف حركة الاتجاه الإسلامي والذي صرح به حمادي الجبالي أحد أعضاء مكتبها التنفيذي في 28 مارس 1988 في رسالة إلى رئيس الوزراء وقتها الهادي البكوش والذي يقول فيها «نحن حزب سياسي ذو أبعاد حضارية شمولية، ستكون له برامجه وأهدافه المعلنة والواضحة، يخضع لنفس الواجبات ويتمتع بنفس الحقوق مع بقية الأطراف السياسية، ويعمل في إطار الشرعية الدستورية، ويحترم القوانين المستمدة من الدستور. منهجه سلمي وأسلوبه الترفع عن كل شيء، أفكاره مستمدة من روح الإسلام ومبادئه الخالدة، متفاعل مع كل الأفكار، متزود من نتائج حضارات الأمم من علم ومعرفة ومبادئ صالحة ... إن هذه القاعدة الفكرية وهذه المبادئ، هي عينها روح الدستور وإجماع الأمة فكيف تقلب الموازين، فتصبح الدعوة إلى الخير والإصلاح، دعوة للفتنة والتفرقة يجب مقاومتها، أليس العكس هو الصحيح؟.» لم يكن لهذا الموقف أن يثنِيَ السلطة عن مصادرة حق حركة النهضة من التواجد القانوني .
في الحقيقة، إن إجراء منع حركة النهضة من التواجد القانوني، لم يكن غير بداية إعلان الحرب على هذه الحركة وقمعها . ففي ماي 1991، أعلنت السلطة عن كشفها لمؤامرة تخطط لها هذه حركة وتستعدّ لتنفيذها، تستهدف اغتيال بن على والاستيلاء على الحكم وقد كان هذا الإعلان إيذانا للبدء في مخطط تفكيك هذا التنظيم وتجفيف منابعه، فأوقفت عددا كبيرا من ناشطيه وقامت بمحاكمتهم في أوت 1992 ضمن محكمة عسكرية أصدرت في حقهم أحكاما وصلت إلى السجن مدى الحياة، وواصلت على مدار السنوات اللاحقة متابعة وملاحقة كل المنتمين لهذه الحركة، والتي انتقل عملها إلى المهجر بعدما وقع قمعها ومنع نشاطها في تونس.
دوائر سلطة الجنرال كانت واعية تماما أنه لابد من خوض هذه المواجهة وأن ذلك لابد أن يسبق بتحييد بعض مكونات المعارضة التونسية وجرّ البعض الآخر لمساندة السلطة في معركتها هذه.
كان موقف السلطة واضحا تجاه باقي المعارضة التونسية: فإما الحياد وإما التحالف مع السلطة، وهو ما وقع بالفعل. فالقوى الديمقراطية عموما والمطالبة بالحريات السياسية وتكريسها فعلا لم تكن ذات نفوذ أو امتداد جماهيري لتفعيل موقفها من خلق قطب ثالث معارض للاستقطاب الثنائي (الإسلاميون ـ السلطة) الذي بدأ يهيمن على كل مجريات الشأن السياسي التونسي بدءا من سنة 1990، بعد أن تمّ تحييدها وفرض الأمر الواقع عليها.
كما نجحت سلطة السابع من نوفمبر في جرّ باقي المعارضة الليبرالية والإصلاحية وحركة الاشتراكيين الديمقراطيين والحزب الشيوعي التونسي كما باقي الأحزاب الأخرى للتحالف معها وتبني مفهوم "المعارضة المشاركة".
ستتوج فترة التحالف سنة 1994 بمكافأة هذه الأحزاب بمنحها 19 مقعدا في الانتخابات التشريعية لتلك السنة، حيث مُنِحت حركة الديمقراطيين الاشتراكيين 10 مقاعد، والحزب الشيوعي التونسي 4 مقاعد، وتقاسم الاتحاد الديمقراطي الوحدوي وحزب الوحدة الشعبية المقاعد الخمسة المتبقية.
سياسة تشريك المعارضة الكرتونية بالصورة التي تمت بها، لم تكن غير واجهة دعائية لسلطة بن علي القائمة على القمع والاستبداد وهو مسار سيتكرّس طوال سنوات حكمه حتى فراره في 14 جانفي 2011.
بعد إخفات صوت حركة النهضة؛ ترسّخت أكثر فأكثر هيمنة حزب التجمع الدستوري على كل مناحي الحياة السياسية، فعناصر هذا الحزب حاضرة في كل الإدارات والمؤسسات ومنغرسة في كل مكان. لقد كان جهازا يمثل آلة حقيقية للمراقبة، لا فقط مراقبة المعارضين الناشطين سياسيا، أو منظمات حقوق الإنسان، أو النقابيين المعارضين للنّهج البيروقراطي المشارك المتحالف مع النظام؛ لقد كانت مراقبة شاملة لكل المواطنين تحصي عليهم أنفاسهم وتتتبّع كل حركاتهم في أماكن عملهم وفي الشارع وفي المقهى وفي الحي وفي المدرسة وفي المعهد وفي الجامعة وفي المعمل كما في الإدارة.
هيمنة هذا الحزب السرطاني على كل جوانب الحياة لفرض القبضة الحديدية للديكتاتور بن علي، كانت تساعد عليه عدة منظمات أخرى تدين بالولاء للدكتاتور منها الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والاتحاد الوطني للفلاحين ، والاتحاد الوطني للمرأة التونسية وجمعيات أخرى عديدة فرّختها السلطة، إضافة لما تقوم به لجان الأحياء وبعض الأشخاص الآخرين الذين انتدبوا للقيام بمهمة المرشد، وذلك للتضييق إلى أقصى حدّ على كل نشاط معارض لسياسة الديكتاتور، وخنق كل إمكانية لظهور أي نشاط سياسي معارض للنظام.
لقد نمّى ما يقوم به هذا الحزب من نشاط استهدف التضييق على الحريات الأساسية للمواطنين نقمة شاملة من الشعب على هذا الجهاز، وستظهر هذه النقمة صارخة ومدوية لما تجاوزت الجماهير عامل الخوف بعد 17 ديسمبر 2011 وانطلقت لا تهاب إرهاب قناصة بن على ورصاصه، مردّدة شعار"يسقط حزب الدستور يسقط جلاد الشعب" هذا الشعار الذي رددته وظلت تردده حتى بعد فرار الدكتاتور كمطلب رئيسي من مطالبها.
كان عمل هذا الجسم السرطاني المتفشي في جسد المجتمع التونسي يؤمن كمّا هائلا من التقارير والمعلومات اليومية لجهاز البوليس القمعي الذي بلغ عدد أفراد وحداته عشرات الآلاف لـ 10,4 مليون ساكنا.
فهذا الجهاز المتعدد الوحدات، كان الذراع الطولى لهذه الديكتاتورية، ذراع لا رادع لها جعلها بن علي فوق المراقبة.
تورد دراسة نشرتها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان تحت عنوان "دون قواعد، دون شرف" الاعتداءات الجنسية وتلفيق القضايا الجنائية للصحفيين والنشطاء... [10] وفي القسم الخاص بتونس نقرأ: « أورد تقرير صدر حديثا عن المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب والفدرالية الدولية لجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان وفي القسم الخاص بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، إسم تونس في جميع الانتهاكات التي تمارس ضد المجتمع المدني ونشطاء حقوق الإنسان، بداية من التعرض لأعمال عنف ، أو الحبس التعسفي أو عمليات التخويف ، فضلا عن انتهاك الحق في النشاط ، أي أن تونس ، هي الدولة الوحيدة التي تجمع بين كل هذه الانتهاكات التي قد توزع على العديد من الدول! ... وبالنسبة إلى حقوق التنظيم وممارسة النشاط قال التقرير: وفي هذا السياق، تحطم تونس الرقم القياسي في عدد المنظمات المدنية التي لم يعترف لها بحق مزاولة نشاطها حيث عدّد التقرير سبعة منها من بينها المجلس الوطني للحريات بتونس والجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين والجمعية التونسية لمناهضة التعذيب ومرصد حرية الصحافة والنشر والإبداع بتونس».
كما يورد المجلس الوطني للحريات بتونس [11] «...لم يعد أحد في تونس في مأمن من التعذيب، والسجن التعسفي، والعقاب الجماعي والمحاكمات الجائرة، والاعتداء الجسدي، والحرمان من الشغل، وخرق حرمة الحياة الخاصة، والحرمان من حق التنقل، ويجرح مواطنون بسبب استعمال السلاح الناري ضدهم، وبأكثر من ثلاثين حالة وفاة جراء التعذيب وبملاحقة الإسلاميين ومناضلي أقصى اليسار ملاحقة شرسة، وتفكيك الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وفبركة شرائط الفضائح الجنسية واتباع سياسة الأرض المحروقة بهدف تحييد كل العاملين على إيجاد سلطة موازية "الإتحاد العام التونسي للشغل ـ الإتحاد العام لطلبة تونس ـ عمادة المحامين ـ جمعية الصحافيين التونسيين ومنظمات أخرى غير حكومية". »
ويضيف المجلس الوطني للحريات في تقرير آخر[12] «... رغم تبني السلط التونسية لخطاب مناهض للتعذيب ومصادقة الدولة على نصوص عديدة تدينه تبقى هذه الممارسة متغلغلة في صلب الأجهزة الأمنية المختلفة حيث يتجاوز اعتمادها محاربة الذين تعتبرهم السلطة معارضين لها لتصبح تعبيرا عن آلية حكم تعتمد العنف الانتقامي والمجاني وتستهدف المواطنين دون تمييز ليسود مناخ من الرعب على المجتمع بأسره... »
ديكتاتورية بن علي وطابع سلطته البوليسية، تكشفها كذلك الأرقام المخصصة للإنفاق على مؤسسة الجيش والأمن الداخلي من ميزانية الدولة، حيث نجد في تقرير للمعهد الدولي لأبحاث التسلح ونزع السلاح والسلم في ستوكهولم حول النفقات العسكرية السنوية في تونس الجدول التالي.[13]
يبين الجدول أن متوسط الإنفاق الحكومي السنوي على أغراض الأمن الداخلي قد صعد بين الفترة 1986 ـ 1996 من 376,15 مليون دولار أمريكي إلى 745,60 مليون دولار أمريكي، أي بمعدل زيادة سنوية بلغ 132 مليون دولار أمريكي وهو ما يعادل 44,1 ٪ . وتشير معلومات أخرى [14] منشورة أن الميزانية الرسمية لوزارة الداخلية قد بلغت سنة1999 أربعة أضعاف ما كانت عليه سنة 1986. إن زيادة الإنفاق على شؤون الأمن الداخلي في نظام بن علي لم تكن تعكس غير مدى اتساع وتضخم ظاهرة عسكرة المجتمع التونسي وتشديد المراقبة على المعارضة ومنظمات حقوق الإنسان وعلى كل الناشطين السياسيين.
إن تضخم مؤسسة أمن نظام بن علي بهذه الصورة و تعدّد اختصاصاتها ومجالات نشاطاتها، حوّل المجتمع التونسي إلى مجتمع خاضع بالكامل إلى سيطرة وزارة الداخلية ونفوذها، والتي أصبحت مؤسسة إرهابية لا تضاهيها في نفوذها أي مؤسسة أخرى فجميع السلط ليست في الأخير غير ديكور لا نفوذ لها ولا استقلالية ولو نسبية عما يقع تخطيطه في مؤسسة الإرهاب والقمع والفساد هذه.
جهاز القمع الذي أنشأه الديكتاتور، كان يستمد أوامره من الجنرال مباشرة، والذي حول الدستور، وبعد التنقيحات المتتالية، إلى مجموعة نصوص سالبة لكل الحريات تشرّع لتضخم سلطات مؤسسة الرئاسة وسلطات القائم عليها وتمنحه صلاحيات غير محدودة سياسية واقتصادية ، وهي صلاحيات ستساعده هو وأفراد عائلته، كما ستساعد زوجته ليلى الطرابلسي وإخوتها على أن يكونوا طليقي الأيدي في كل شيء، ينهبون ويستولون على خيرات البلاد ويمارسون كل أنواع الفساد المالي والاقتصادي والأخلاقي دون خوف من أي رادع، لتتحوّل هذه العائلة الموسّعة إلى مافيا مال واستبداد وفساد ستكشف عليه الأحداث و بالتفصيل بعد 14 جانفي.
لقد كانت العشرية الأولى من حكم الدكتاتور بن على، عشرية الإكراه والقمع على كل المستويات فقد عرف فيها الشعب ونُخبه، كل أنواع القهر والإقصاء والتسلط.
يتحدث الطاهر بن يوسف، وهو ضابط أمن، في كتاب أصدره بتونس في فيفري 2011 تحت عنوان "ضابط أمن شاهد على نظام بن علي" فيقول «... إن الحديث عن حقوق الإنسان في تونس بن علي موضوع يمكن أن تكتب عنه مجلدات عديدة، فمن خلال الخطب الرئاسية والصحافة، كان يجري الترويج إلى احترام السلطة لتلك الحقوق، إلا أن الواقع عكس ذلك تماما، وما يجري على الأرض ليس في حاجة إلى دليل على أنه مجرد شعار يرفع بين الحين والآخر لمغالطة الرأي العام الوطني والعالمي. » ويضيف متحدثا عن موضوع الاحتفاظ بالأشخاص بالوحدات الأمنية لفائدة البحث، فيشير إلى « أن 99 ٪ من بيوت الإيقاف لا تتوفر فيها أبسط الظروف الصحية الملائمة، وهي لا تصلح حتى لإيواء الحيوانات بها. وقد لفتنا الانتباه إلى خطورة ذلك على صحة الموقوفين، إلا أنه لا حياة لمن تنادي، وفي أفضل الحالات، يشار لنا بالسعي للترميم والتحسين بالتنسيق مع السلط الجهوية والمحلية والمواطنين دون تخصيص أية اعتمادات للغرض».[15]
لم تختلف العشر سنوات الأخيرة من حكم الديكتاتور عن سابقاتها فلقد تواصلت هيمنة التجمع الدستوري على الحياة السياسية وتواصل التنكيل بالمعارضة وبمنظمات حقوق الإنسان واتسعت دائرة التجاوزات والانتهاكات؛ وقد أجمعت كل التقارير التي أصدرتها المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان وعلى امتداد العشرية الأخيرة من حكم الدكتاتور بن علي على تحوّل تونس إلى بلد تمارس فيه كل أنواع القمع والإقصاء والترهيب والتعذيب والفساد.
تقول منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير لها عن الوضع في تونس سنة 2004: « أُعيد انتخاب الرئيس زين العابدين بن علي لولاية رابعة مدتها خمسة أعوام في 24 أكتوبرـ تشرين الأول، حيث فاز بنسبة 94.5 في المائة من الأصوات، بعد أن تم تعديل الدستور في أبريل ـ نيسان 2002 لحذف البند السابق الذي كان يقصر تولي الرئاسة على ثلاث فترات وأتاح التعديل نفسه حصانة دائمة لرئيس الدولة من المحاسبة على أية أعمال ذات صلة بمهامه الرسمية، اثنان من المنافسين الثلاثة على الرئاسة، أيّدا بن علي في الانتخابات، في حين منعت السلطات المرشح المعارض الوحيد الحقيقي محمد علي الحلواني من طبع وتوزيع برنامجه الانتخابي. وحصل الحلواني على أقل من واحد في المائة من الأصوات حسب النتائج الرسمية. وقاطعت عدة أحزاب أخرى الانتخابات معتبرةً إياها غير نزيهة. وحصل الحزب الحاكم على جميع مقاعد الدوائر في البرلمان وعددها 152 مقعداً مما يضمن بقاءه أداةً طيعةً في أيدي الحكومة. وخُصص 37 مقعداً إضافياً لأعضاء أحزاب أخرى...استمر الوضع في تونس في عام 2004 على ما هو عليه من حيث التضييق على المعارضة ورفض تواجدها. ويهيمن "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي" الحاكم على الحياة السياسية، وتواصل الحكومة استغلال خطر الإرهاب والتطرف الديني كذريعة لقمع المعارضة السلمية، وتفرض السلطات قيوداً مشددة تعوق ممارسة الحق في حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات والانضمام إليها. وكثيراً ما يتعرض منتقدو الحكومة للمضايقة أو السجن بتهم ملفقة بعد محاكمات جائرة. » [16] وتتعرض المنظمة كذلك، للأوضاع التي تعيشها أبرز منظمتين لحقوق الإنسان في تونس وهما الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمجلس الوطني للحريات بتونس، حيث تذكر أن الرابطة والتي أسست في سنة 1977 مازالت خاضعةً لحكم قضائي يبطل نتائج انتخاباتها التي أُجريت عام 2000 وأسفرت عن انتخاب لجنة تنفيذية تجاهر بانتقاد انتهاكات حقوق الإنسان، كما أن المجلس الوطني للحريات في تونس والذي تأسس سنة 1998 في الذكرى الخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي مضى على إنشائه ست سنوات مازالت الحكومة ترفض طلب حصوله على الاعتراف القانوني. كما تشير إلى أن منظمات أخرى معنية بحقوق الإنسان أُنشئت في فترات لاحقة وتقدمت بطلبات للحصول على التصريح القانوني، إلا إنها لم تحصل عليه حتى الآن، ومن بينها الجمعية الدولية للتضامن مع السجناء السياسيين، ومركز استقلال القضاة والمحامين وجمعية مكافحة التعذيب في تونس.
وتواصل منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقريرها تشخيص أوضاع الحريات في تونس فتذكر أن المدافعين عن حقوق الإنسان والمعارضين لسلطة بن على وناقديها من الناشطين السياسيين ومن المواطنين عموما يتعرضون للمراقبة المكثفة من جانب أجهزة الأمن وكذلك إلى المنع من السفر والفصل عن العمل وتعطيل خدمة الهاتف كما تتعرض عائلاتهم، الأزواج أو الزوجات وأفراد الأسرة عموما، إلى المضايقة والمراقبة. وتضيف أن أجهزة أمن بن علي لا تكتفي بالمراقبة المكثفة فقط، بل تتعداها إلى القيام بشتى أنواع الاعتداءات في الشارع وهي ممارسة تتكرر باستمرار وأسلوب عمل للتخويف والترهيب يعمد إليه جهاز البوليس السياسي ويقوم به أعوان منه يرتدون الثياب المدنية ويرتكبون مثل هذه الأفعال وهم بمأمن تام من العقاب. و يقدم تقرير المنظمة أمثلة على ذلك حيث نقرأ «...ففي 5 ينايرـ كانون الثاني 2004 تعرضت سهام بن سدرين وهي من مؤسسي "المجلس الوطني للحريات في تونس" ورئيسة تحرير مجلة "كلمة" المعارضة للاعتداء واللكم على أيدي مجهولين أمام منزلها في وسط تونس. وفي 11 أكتوبر/تشرين الأول، أفاد السجين السياسي السابق حمّة الهمامي، الذي دعا حزبه لمقاطعة انتخابات 24 أكتوبرـ تشرين الأول الرئاسية، بأنه تعرض للاعتداء في بن عروس على أيدي رجال يرتدون الثياب المدنية لكموه وحطموا نظارته. وتعرضت ممتلكات تخص بعض دعاة حقوق الإنسان والمعارضين للتخريب، كما تعرضت منازلهم ومكاتبهم وسياراتهم للاقتحام في حوادث مريبة.». الترهيب والمحاصرة ليسا الأسلوب الوحيد الذي تمارسه أجهزة القمع في تونس إذ لها أيضا باع كبير في ممارسة التعذيب سواء في محلات البوليس أثناء الإيقاف أو في السجون والمعتقلات. فقد أورد كاظم حبيب في كتابه دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسان في الدول المغاربية في الجزء الخاص بحقوق الإنسان في تونس ما يلي: « يتعرض السجناء سواء كانوا من السياسيين أو من سجناء الحق العام بشكل دائم إلى التعذيب من قبل أجهزة الأمن وحراس السجون بأمر من إدارتها. ـ يمارس التعذيب على نحو خاص من جانب أجهزة الأمن والشرطة مع الموقوفين والمحتجزين لأغراض التحقيق وهي التي قادت في العديد من الحالات إلى الوفاة. » [17]
ويذكر الدكتور هيثم مناع في كتابه "سلامة النفس والجسد ـ التعذيب في العالم العربي في القرن العشرين " أن البوليس التونسي يعمد إلى استعمال وسائل تعذيب عديدة بحق المعتقلين ويورد أمثلة على طرق التعذيب التي مورست ضد معتقلين من حزب العمال الشيوعي التونسي، فمن التعذيب بطريقة الهيلوكبتر، إلى الصدمات الكهربائية على أعضاء الجسم الحساسة، إلى التعليق من قدم واحدة بالسقف، إلى تعرية الموقوف وصب الماء البارد عليه وحرمانه من النوم بوضعه على كرسي وكلما حاول النوم يتم إيذاؤه بسيجارة تطفأ على جسده العاري أو وخزه بالإبر وبوسائل حادة ،إلى حرمان المعتقل من الغذاء والدواء والمساومة عليه في حال الضرورة القصوى له عند المصابين بأمراض مزمنة كالربو والسكري وأمراض القلب .
لئن كان هدف أسلوب الترهيب والتخويف الذي يمارسه البوليس السياسي في العلن وعلى المكشوف ضد الناشطين السياسيين وكل المعارضين هو محاصرتهم ومنعهم من التعبير عن آرائهم وعزلهم عن التأثير في الجماهير فإنه كان يرمي كذلك إلى إبلاغ رسالة للمواطن العادي وإنذاره بما يمكن أن ينتظره لو يتجرأ ويطالب بممارسة حقوقه السياسية أو غيرها من الحقوق.
أجهزة القمع والتي كانت تُمَوّل من ميزانية الدولة أي من الضرائب التي يدفعها المواطنون، ولم يكن لها من عمل غير قمع هؤلاء المواطنين ذاتهم، كانت تهدف من وراء أساليبها تلك إلى الحطّ من كرامة خصوم بن علي السياسيين وتدمير معنوياتهم وبث الرعب في نفوسهم وجعلهم يشعرون بالضآلة والصغر وأن لا حول ولا قوة لهم عند اعتقالهم أمام سطوة وقوة وغطرسة أجهزة القمع والدولة.
إنها أساليب تهدف إلى بث اليأس في نفوس المعتقلين في محاولة لدفعهم للتسليم بالأمر الواقع والكف عن رفع الصوت والاحتجاج على سياسة الحيف المعممّة ومصادرة الحريات والقمع التي أغرق فيها الديكتاتور البلاد.
القمع المعمّم ومصادرة الحريات والمداهمات والاعتقالات والمحاكمات الملفقة والتعذيب والتضييق على كل نشاط سياسي ونقابي، واستهداف رموز الأحزاب والمنظمات وناشطيها والاختطافات من الشوارع والأماكن العامة وتمشيط الأحياء واعتقال أفراد عائلات المفتش عنهم للمساومة بهم والتنصت على الهواتف وحجب المدونات والمواقع سواء للأحزاب أو للجمعيات أو للناشطين، والتنكيل بهم جراء ما يقومون به من نشاط إعلامي بلغ في أحيان كثيرة الحكم على البعض بالسجن، ومصادرة جرائد المعارضة على قلتها و تجميعها من أكشاك البيع لإغراقها في خسائر مالية فائقة والتسبب لها في العجز عن مواصلة الصدور لمجرد نشر رأي أو موقف أو صورة، وممارسة التعذيب ضد السجناء والموقوفين السياسيين و موقوفي الحق العام كان الوجه الحقيقي لنظام بن علي الاستبدادي. وقد نشرت عديد المنظمات الحقوقية تقارير في هذا الخصوص كما تحدثت وسائل الإعلام الخارجية عن ذلك.
سنة 1991 وفي شهر فيفري تناقلت وسائل الإعلام المحلية والخارجية نبأ الحريق الذي استهدف مقر لجنة تنسيق حزب التجمع الدستوري في باب سويقة بتونس العاصمة والذي ذهب ضحيته أحد الحراس، هذا الحريق نسب وقتها لحركة النهضة وتم على إثره، إيقاف 28 متهما تمت محاكمتهم وصدرت في حقهم أحكام وصلت حد الإعدام لخمسة نُفِّذ في ثلاثة منهم في شهر أكتوبر1991.
ولكن بعد فترة من هذه الحادثة ظهرت شهادات عديدة وكتبت مقالات كثيرة تفيد بأن ما وقع لم يكن في الحقيقة غير مؤامرة وجريمة مدبرة ومفتعلة وقع تدبيرها في وزارة الداخلية وأشرف عليها على السرياطي ووزير الداخلية وقتها بتواطؤ مع حكام تحقيق وقضاة وقام بها رجال وقع تجنيدهم لتنفيذها ولم يكونوا من رجال بوليس بن علي.
بعد هذه الحادثة بأربعة أشهر أي في 22 ماي أعلن وزير الداخلية وقتها عبد الله القلال وفي ندوة صحفية بثتها التلفزة التونسية عن كشف مصالح وزارته لمؤامرة تستهدف قلب نظام الحكم خطّط لها عناصر من حركة النهضة بمشاركة مجموعة من العسكريين من مختلف القطاعات و الرّتب مؤكدا أنهم عقدوا لقاءا في "براكة الساحل" وضعوا بمناسبته خطة للاستيلاء على السلطة.
وقد أفرد المجلس الوطني للحريات بتونس سنة 2002 تقريرا كاملا حول هذه المؤامرة ورد فيه «... في الواقع فإنّ الإحالة على القضاء العسكري التي وزعت صلب قضيتين اثنتين (بالرغم من أنّ أوراق الملف هي ذاتها في القضيتين) كشفت عن وجود ثلاثة قضايا منفصلة تم النظر فيها في آن واحد و هي قضية قياديي حركة النهضة و كوادرها و القضية المتعلّقة بالمجموعة الثانية التي عرفت بـ"طلائع الفداء" و قضية "اجتماع براكة الساحل" والتي أحيل فيها كبار ضباط الجيش بتهمة "محاولة قلب النظام". وما يتعيّن التذكير به هو أنّ المحكمة العسكرية قد برأت ساحة الضباط المحالين عليها صلب ما أطلق عليه اجتماع "براكة الساحل" التي ثبت أنها كانت من محض تلفيق جهاز أمن الدولة الذي تولّى الأبحاث فيها.... كما يذكر أنّ عملية تطهير الجيش هذه والتي طالت حوالي الخمسين من كبار ضباطه، تمّت بالنسبة للعدد الأكبر دون إحالة على المحاكم و إنّما إثر إيقاف لمدة قصيرة و دون توجيه تهم محدّدة إليهم .... و قد كشفت هذه المحاكمة حقيقة تهميش المؤسسات بالبلاد و ظهور جهاز البوليس بمظهر الماسك بزمام السلطة... » [18]
الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان كانت هي أيضا ضحية لاستتباعات هذه المؤامرة لما أصدرت بيانين في جوان وديسمبر 1991 نددت فيهما بموت أربعة من الموقوفين وطالبت بفتح تحقيق في الموضوع، فما كان من سلطة الديكتاتور إلا أن شنت عليها حملة إعلامية لتشويهها متهمة إياها بالتواطؤ مع مؤامرة الإسلاميين وتجاوز اختصاصها حسب القانون الأساسي المنظم لنشاطها وسنت قانونا عُرف "بقانون التصنيف" لاحتواء الرابطة وفتح مجال الانخراط فيها للموالين للسلطة ليقرّر وزير الداخلية وقتها حلّ الرابطة و إخلاء مقرّها بعد أن عبرت هذه الأخيرة في جوان إثر انعقاد مجلسها الوطني في 1993 عن رفضها لهذا القانون الذي اعتبرته لا يهدف لغير ضرب استقلاليتها.
مؤامرات الجريمة السياسية المنظمة طالت أيضا بعض القادة العسكريين، فقد سجل في يوم 30 أفريل 2002 تحطم مروحية عسكرية بعد انفجارها في سماء بلدة مجاز الباب التابعة لولاية باجة وهي تقِلّ على متنها 13 عسكريا من بينهم الجنرال عبد العزيز رشيد قائد أركان جيش البر في ذلك الوقت وخمسة ضباط برتبة عقيد وخمسة برتبة رائد وملازمان وضابط صف. وقد وقع تقديم الحادث وقتها على أنه ناتج عن خلل فني، إلا أن الحقيقة أنه كان مؤامرة دبرت ضد هؤلاء العسكريين لتصفيتهم حسب أوامر من الديكتاتور بن علي رأسا.
الجرائم السياسية لبن علي لم تتوقف على الأحزاب والمنظمات والعسكريين، بل طالت أيضا مواطنين أفرادا، فقضايا محاولات الاغتيال وحالات الموت الناتج عن التعذيب في محلات الشرطة أو في المعتقلات والسجون كلها مسجلة في تقارير وأرشيفات المنظمات المهتمة بحقوق الإنسان سواء في الداخل أو في الخارج.

3 ـ مافيا المال والفساد
اقترن القمع والاستبداد السياسي للنظام طيلة حكم بن علي، بالفساد المالي واستغلال النفوذ واستيلاء أفراد عائلة الدكتاتور و زوجته وإخوتها ومقربيهم، على خيرات البلاد وسيطرتهم على كل شرايين الاقتصاد. وقد تحدثت تقارير عديدة، كما ثبت بعد 14 جانفي، أن هؤلاء كانوا بالفعل مافيا اقتصادية وسياسية بأتمّ معنى الكلمة، فقد راكموا ثروات طائلة عن طريق الابتزاز والاستيلاء والاحتكار والمضاربة والتحيّل.
لقد كان الفساد في عهد الديكتاتور بن علي مؤسسة قائمة الذات كالإخطبوط تنشط في الظل، و لا يمكن أن يطول القانون أعمالها باعتبار أن السلطة البوليسية بزعامة بن علي نفسه هي التي أنشأتها ورعتها وحمتها وسهلت لها لتطيل بقاءه في السلطة.
أعمال الفساد إذًا شملت كل المجالات و مسّت كل مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية، ففي ظرف وجيز منذ تولي بن على السلطة في 7 نوفمبر 2011 صعدت إلى عالم المال والأعمال أسماء أشخاص كانوا قبل ذلك بقليل نكرات، وأصبح التونسيون يتداولون أخبار الثراء السريع والفاحش للبعض من عائلة الدكتاتور ومن أصهاره، كما يروُونَ وقائع وحوادث عن الأساليب التي يستعملها هؤلاء للحصول على الثروة عن طُريق النصب والاحتيال والابتزاز والارتشاء واستغلال النفوذ التي يمارسونها ضد الكل (مواطنون أصحاب أملاك ـ مستثمرون محليون وأجانب ـ مؤسسات بنكية ـ إدارات عمومية... إلخ.)
شبكة الفساد التي أنشأها بن علي وحماها حتى أصبح المستفيدون الكبار منها أسماك قرش تلتهم كل ما يأتي أمامها، كانت مسنودة برجال في السلطة وفي قصر قرطاج و في كل الوزارات والإدارات، يأتمرون بأوامر هذه الحيتان النهمة يسهّلون لأفرادها نهب ثروات البلاد ويقبضون الثمن على ذلك.
سنة 1992 طلّق الدكتاتور بن على زوجته الأولى نعيمة الكافي وتزوج من ليلى الطرابلسي التي كانت عشيقته منذ سنة 1984 والتي تعرّف عليها حين كان مديرا للأمن الوطني. لم تتمّ ليلى دراستها، ولا حتى بلغت مستوى متوسطا، في سن الثامنة عشر تعرفت على رجل الأعمال خليل معاوي وتزوجته لتطلق منه بعد ثلاث سنوات، بعده تعرفت ليلى على فريد مختار وتزوجته ولكن فريد مختار سيموت في حادث مرور منظّم وبتدبير من بن علي لم تعرف تفاصيله إلى اليوم. وتفيد كثير من المعلومات والشهادات أن علاقة ليلى مع الديكتاتور تعود لما قبل تاريخ زواجها من فريد مختار.
ما إن أصبحت ليلى زوجة للديكتاتور، حتى بدأت في التخطيط لتكوين إمبراطورية مالية لها وللأفراد عائلتها، وستكون كل الطرق والسبل متاحة بما لها من تأثير كبير على الديكتاتور، ويمكن القول أنها وبمرور الوقت أصبحت تتقاسم معه السلطة والنفوذ، لا بل جعلته طوع إرادتها ويأتمر بأمرها حتى أصبحت وسائل الإعلام التونسية تلقبها بالسيدة الفاضلة وسيدة تونس الأولى، وتجتهد الجرائد اليومية والأسبوعية على وضع صورتها جنبا إلى جنب مع الديكتاتور على صفحاتها الأولى، كما تمكنت من تجنيد أغلب المقربين من الديكتاتور في قصر قرطاج وفي الحكومة والعديد من المسؤولين الكبار في وزارة الداخلية كعبد الوهاب عبد الله وعبد الله الكعبي ومحمد علي القنزوعي وعبد الرحيم الزواري وعبد العزيز بن ضياء، ومصطفى بوعزيز وعلي الشاوش ومحمد شكري الذي عرف برجل الظل والمؤامرات السياسية لفائدة عائلة ليلى.
الديكتاتور من جانبه أخ لعشرة إخوة بين إناث وذكور أحدهم منصف (متوفي) والذي كان معروفا بتجارة المخدرات، وحوكم غيابيا أمام القضاء الفرنسي بإثنتي عشرة سنة سجنا. لبن علي أيضا ثلاث بنات من زوجته الأولى نعيمة الكافي، متزوجات من رجال أصبحوا بعد وصوله للسلطة أصحاب أعمال أثرياء جدا ومؤثرين وهم سليم زروق وسليم شيبوب ومروان المبروك. كما أن ابنته نسرين من ليلى، متزوجة منذ 2004 من رجل الأعمال محمد صخر الماطري الذي أصبح من كبار رجال المال والنفوذ، وتمكّن وفي ظرف وجيز جدا وبرعاية ليلى، من أن يكون له نفوذ اقتصادي وسياسي كبير.
ورد في وثيقة منشورة من وثائق "ويكيليكس" تحت عنوان "الفساد في تونس ماهو لك هو ملكي " بتاريخ 23 جوان 2008 مصنفة بواسطة السفير الأمريكي بتونس "روبرت غوديك" تفاصيل كثيرة حول فساد العائلة الحاكمة والتي طغى نفوذها وبسطت أذرعها على كافة مفاصل وتفاصيل حياة التونسيين أنه « طبقا للمسح السنوي لمنظّمة الشفافية العالمية والملاحظات المقدمة من مصادر السفارة يتضح أن الفساد المالي في تونس في تفاقم مستمر سواء كان ذلك متعلقا بالجانب المالي أو الخدمات أو الأراضي أو الممتلكات... وبعيداً عن حكايات صفقات فساد العائلة الحاكمة الغامضة، فإنّ التونسيين (النظام التونسي) يقدمون تقارير تشير إلى انخفاض في مستوى الفساد كما هو الحال نفسه في التعامل مع الشرطة ـ الجمارك وعدد من الوزارات. إن التأثير الاقتصاديّ واضح على المستثمرين التونسيين – الذين يخشون الذراع الطويلة "للعائلة"، فهم يفضّلون تجنّب الاستثمار في مشاريع جديدة الأمر الذي يجعل من نسق الاستثمار الداخلي منخفضاً عند أدنى مستوى كما يجعل من نسبة البطالة عالية... هذه الأنباء المنتشرة عن الفساد والمقترنة بتضخّم مرتفع ونسبة بطالة متصاعدة، ساعدت على تغذية الإحباط من الحكومة التونسية... » وتضيف الوثيقة « إن توقّعات الفساد في تونس تزداد سوءا. فقد تراجع ترتيب تونس من 43 سنة 2005 إلى 61 سنة 2007 (متخلفة عن 179 دولة) بحصيلة نقاط 4,2 ... ورغم أنّه من العسير ضبط أرقام دقيقة عن الفساد والتثبّت من نسبه فإنّ مصادرنا جميعها تؤكّد أن الوضع يتطوّر في الاتجاه السيّئ... ».[19]
وسعيا إلى مزيد الإثراء والحصول على المال واستغلالا للنفوذ امتدت أنشطة عائلة بن على وإخوته وأخواته كما عائلة ليلى زوجته وإخوتها ومقربوها، لتشمل كل مجالات الفساد : انتزاع الممتلكات العقارية العمومية وامتلاكها دون موجب حق ـ الارتشاء وتبييض الأموال لفائدة شبكات مخدرات ناشطة في عديد بلدان العالم ـ تجارة المخدرات ـ إقامة المشاريع المشبوهة ـ تهريب الذهب والقطع الأثرية ـ الاستيراد غير الشرعي للمواد المحظورة ـ الوساطة والتدخل في القضاء وفي كل الإدارات والوزارات... إلخ. وكثيرة هي التقارير التي تحدثت عن عائلة بن علي وعائلة زوجته وكيف أصبحتا تتقاسمان مجالات نشاط الفساد مشكلتان نوعا من المافيا الإقتصادية التي لا تتوانى في استعمال كل الطرق لتحقيق غاياتها وأهدافها.
برغم القمع والاستبداد الذين كانا سائدين ،وبرغم أن مسألة الفساد المرتبط بعائلة بن على وبعائلة زوجته وإخوتها وكل العائلات التي تدور في فلكهما كان موضوعا محرّما وممنوعا ومن أخطر المواضيع التي يمكن الخوض فيها ولو بالتلميح، إلا أن المواطن التونسي كان على بينة مما يحدث وكثيرا ما كان موضوع الفساد المالي والإداري محور الأحاديث في الجلسات العائلية الخاصة والمأمونة . لقد خلق واقع الفساد واستغلال النفوذ والتحايل والنهب الذي طال الممتلكات العامة حقدا كبيرا لدى عامة الناس كما لدي كثيرين من أصحاب المال تجاه رموزه من عائلة الطرابلسي وبن على وعائلات أخرى. و« كثيرا ما تذكر عائلة الرئيس بن علي الممتدّة على أنها معقل الفساد. ولأنها غالباً ما تشبّه بالمافيا فإنه وبمجرّد ذكر عابر "للعائلة" يكون ذلك كافيا للاستدلال على أية عائلة تعني. وعلى ما يبدو فإنّ نصف رجال الأعمال التونسيّين يمكنهم إدعاء ارتباطهم بالرئيس بن علي عبر المصاهرة وأن الكثير من هذه العلاقات قيل بأنها استفادت إلى أبعد الحدود من نسبهم.
وتثير زوجة بن علي ليلى وعائلتها الواسعة – آل الطرابلسي – نقمة شديدة لدى معظم التونسيين. وكثيرا ما ترافقت التلميحات بخصوص فساد آل الطرابلسي بشكل دائم مع تعليقات لاذعة حول مستوى تعليمهم المتدني ومستواهم الاجتماعي وجشعهم الشديد...».

4 ـ العائلات النهابة
سنة 1998 نشرت المعارضة التونسية في الداخل في صحيفة فرنسية تحقيقا ميدانيا حول العائلات التي مارست النهب المنظّم لخيرات تونس خلال عامي 1998 ـ 1991 [20] قدمت فيه جردا للعائلات النهابة المكونة لمافيا المال والفساد في تونس وبينت الأضرار وجرائم الفساد المرتكبة من قبل هذه العائلات.
أشار التقرير إلى ثمان عائلات تُكوِّن فيما بينها شبكة مافيا المال والفساد، وتعتبر عائلة لطيف أصيلة منطقة حمام سوسة من أولى العائلات التي بنت ثروتها الطائلة اعتمادا على استغلال النفوذ وهي متكونة من ثلاثة أخوة: كمال وصلاح ورؤوف. وكمال كانت له علاقات واسعة بمراكز القوى السياسية والاقتصادية التي كانت فاعلة خلال المرحلة البورقيبية كما كانت تربطه صداقة متينة بالديكتاتور بن علي منذ ذلك العهد وقد لعب دورا كبيرا في وصوله للسلطة.
كان كمال لطيف شخصية مقربة جدا من الديكتاتور خلال الخمس سنوات الأولى من الانقلاب وكان له نفوذ كبير ودور في كل القرارات التي اتخذت في هذه الفترة وقد استغل مكانته هذه ودوره وعلاقته كصديق لبن على في احتكار معظم عقود مقاولات البناء العمومية لصـالح شركة المقاولات التي كان يملكها وذكرت الوثيـقة التي أشرنــا إليـها أن « كل مدير عام لشركة تابعة للقطاع العام مجبر على منحه (أي كمال لطيف) عقود الأشغال العمومية لشركته تحت طائلة فصله. وحتى الشركات التابعة للقطاع الخاص فإنها تخضع للقاعدة نفسها مثلا لا يستطيع مؤسس فندق أن يحصل على قروض من البنك دون أن يعطي لشركة لطيف مهمة تنفيذ أشغال البناء. وقد جنت هذه العائلة ملايين الدولارات بفضل احتكارها واستحواذها على أسواق مقاولات البناء في القطاعين العام والخاص». إلا أن هذه العائلة فقدت نفوذها الاقتصادي وامتيازاتها ما إن شبّ الخلاف بين الدكتاتور وصديقه المقرب جراء موقف كمال من ليلى الطرابلسي وعائلتها ومن زواج بن علي بها فتعرض أفرادها لعقوبات صارمة وأصبحوا محل مراقبة ودبرت ضدهم مؤامرات عديدة بلغت حدّ حرق مقرات شركاتهم وسجن كمال لطيف وتهديده وإجباره على الخضوع للأمر الواقع والصمت مقابل البقاء على قيد الحياة.
بسقوط عائلة لطيف وبتراجع نفوذها ستتصدر عائلة ليلى الطرابلسي المشهد في نظام الفساد والجريمة الاقتصادية وستحظى بالحصانة التامة في كل ما ستأتيه من أعمال فساد ونهب واستغلال نفوذ بحكم الحماية التي ستوفرها لها ليلى بوصفها زوجة الديكتاتور.
عائلة الطرابلسي تعتبر العائلة الأكثر نفوذا وسيطرة وتورطا في الفساد في تونس طيلة حكم بن على كما الأكثر تأثيرا في رسم التوجهات السياسة لسلطته.
لقد تمكنت ليلى بن على من تكوين شبكة متنفذة من المحيطين بالديكتاتور: مستشارون ووزراء وبعض كبار المسؤولين بوزارة الداخلية وبوزارت أخرى يسهلون لها ولأفراد عائلتها عمليات النهب والابتزاز والاستيلاء.
لقد شكلت عائلة الطرابلسي شبكة مافيا حقيقية للفساد محصنة وقوية ولا يمكن أن يطولها القانون وخارج كل محاسبة.
عائلة الطرابلسي كانت عائلة طليقة الأيدي في كل أعمالها فزيادة على نفوذها الاقتصادي كانت ذات نفوذ سياسي حيث لعب الفريق الذي شكلته ليلى دورا سياسيا بحيث أنه كان يتصرف كحكومة ظل يتخذ القرارات ويقوم بالتعيينات والإعفاءات حسب مصلحة عائلة الطرابلسي.
أعمال التحيّل والنهب التي أتتها هذه العائلة كثيرة وفساد أفرادها متنوع وقد شمل تقريبا كل المجالات والقطاعات الاقتصادية الحيوية وسنكتفي بتقديم عينة بارزة من أعمالها وتجاوزاتها.
يعتبر بلحسن الطرابلسي وهو أخ ليلى المقرب محور النشاط المالي لعائلة الطرابلسي فبلسحن وبعد زواج أخته من الديكتاتور طلق زوجته الأولى وتزوج بنت رئيس إتحاد الصناعة والتجارة الهادي الجيلاني والذي كوفئّ على مصاهرة ليلى بمحو الفوائد المستحقة على ديونه والمقدرة بنحو 54 مليون دينار تونسي أي ما يعادل 45 مليون دولار وهو قرار اتخذه بن على و وافق عليه مجلس الوزراء.
بلحسن الطرابلسي استولى سنة 1996 على شركة الطيران التي عرفت في ما بعد باسم "قرطاج للطيران" وهو معروف كذلك باختلاس جزء من الموروث العقاري للدولة وبالاستيلاء على عقارات تعود ملكيتها لأجانب بطريقة غير شرعية مستخدما التلاعب والتحيّل وتزوير الوثائق.
سنة 1998 منحت الوكالة العقارية للسياحة بلحسن أرضا بعدة هكتارات في رأس قرطاج في المنطقة السياحية قصد إنشاء مشروع سياحي بسعر رمزي قدره ثلاثون دينارا للمتر المربع الواحد ولكن بلحسن، وما أن تسلّم الأرض حتى قسمها إلى مساحات وقام ببيعها للخواص بسعر 300 دينارا للمتر المربع الواحد محققا ربحا كبيرا دون أن يجد معارضة من قيل وزارة السياحة أو من الوكالة العقارية للسياحة.
كذلك قام مراد أخوه بعملية أخرى شبيهة بهذه ولكنها أخطر حيث أنها مثلت تصفية سافرة لجزء من الموروث التاريخي للشعب التونسي. لقد قام مراد بشراء أرض تقع في منطقة مصنفة أثرية منذ ما يقارب أكثر من نصف قرن بسعر رمزي، وبأمر من الرئيس بن علي، قامت الدولة بإسقاط الصفة الأثرية عن قطعة الأرض هذه وتحويلها إلى منطقة حضرية، وهو ما مكّن مراد من تخصيصها وبيعها فيما بعد بقيمة 320 دينارا للمتر المربع الواحد محققا أرباحا مهولة مثل أخيه بلحسن.
كذلك تمكن بلحسن وفي إطار عمليات الخصخصة التي شملت شركات القطاع الخاص والتي نفذت في عهد الديكتاتورتطبيقا لبرنامج التعديل الهيكلي الذي فرضته الدوائر الإمبريالية من تملك شركة نقل عامة ممثلة لشركة "فولزفاقن" Wolkswagen في تونس كشريك مع الهادي الجيلاني بدعم من حمودة بلخوجة الرئيس المدير العام للبنك العربي التونسي ومن جعفر محسن كادر سابق في تلك الشركة. كما كان بلحسن أيضا ممونا لكل مواد الأشغال العامة التي يقتنيها من وزارة التجهيز ويؤمِّن له هذه العمليات حمادي الطويل حيث يضطلع بدله بتبعات كل عمل أو عقد.
عائلة الطرابلسي بنت ثروتها كذلك عن طريق ابتزاز مصارف القطاع العام تقول الوثيقة التي ذكرت سابقا «...لا يتردد بلحسن في أي لحظة عن ابتزاز مصارف القطاع العام. ويوضح المثال التالي الذي كشفه لنا أحد مسؤولي بنك الجنوب"التجاري بنك "حاليا، نموذجاً لهذا الابتزاز.
لقد اشترى عفيف كيلاني الشركة العامة "الرفاهية" Le Confort بفضل قرض بنكي بقيمة 50 مليون دولار وبدلا من أن توضع هذه الأموال في خزينة الدولة، تقاسمها عفيف مع بلحسن من أجل الحصول على حمايته. إزاء هذا الوضع نفذ عمال هذه الشركة إضراباً مطالبين بالحصول على رواتبهم. وبعد ذلك عدل عفيف عن تملكه شركة "الرفاهة" وأعادها إلى الدولة وأوقفت الشركة نشاطها حالياً. وفي غضون ذلك تبخر القرض بقيمة 50 مليون دولار فلا يستطيع البنك استعادته بأي حال من الأحوال،. وقد أكد وزير الشؤون الاجتماعية الشاذلي نفاتي بأنه قدم الملف المتصل بهذه القضية بنفسه إلى رئيس الجمهورية فأمر بحفظه».
ابتزاز عائلة الطرابلسي لم يعرف حدودا فقد شمل رجال الأعمال والشركات الوطنية والدولية والتي تُرغم على دفع مبالغ ضخمة خوفا وتفاديا للتتبعات من قبل وزارة المالية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي أشرف عليه عبد الحميد نويرة وهو شخصية عديمة الذمة مرتش فاسد وأحد العملاء الكبار لعائلة ليلى بن علي وقد حافظ على منصبه هذا بإسناد من ليلى رغم معارضة أربعة وزراء تناوبوا على وزارة الشؤون الاجتماعية.
وثبت كذلك أن عائلة ليلى الطرابلسي ممثلة في أخيها بلحسن كانت تبتز شركة فوسفاط قفصة والمجموعة الكيماوية التي يرأسها رافع دخيل المتواطئ مع بلحسن فقد كانا يقبضان عمولات عن كل ما تبيعه وتشتريه الشركتان المذكورتان. ويذكر كذلك أن عائلة الطرابلسي قد حمت ولفترة طويلة أحد الشخصيات المعروفة بتواطئها وبفسادها وهو منصف كعوش الذي كان يرأس بنك الجنوب "التجاري بنك "حاليا والشركة التونسية للبنك ومنصف هذا كان يمول شؤون وأعمال عائلة الطرابلسي من دون ضمانات ويساعدها على تهريب أموالها إلى الخارج ويمارس الضغوط ويعرقل أعمال الشركات ورجال الأعمال الذين يرفضون دفع الرشاوى لعائلة الطرابلسي.
إلى جانب بلحسن، المافيوزي الأكبر في عائلة الطرابلسي، نجد كذلك أخوه منصف، وهو الأخ الأكبر لليلى بن علي، والمعروف بفضاضته وبعلاقاته بعالم الجريمة المنظمة والتهريب، وباحتقاره للمتعاملين معه وباستغلاله الفاحش لعامة الناس والمواطنين، وهو الذي كان قبل انقلاب 7 نوفمبر يعمل عملا بسيطا كمصور في الأول ثم كعامل في أحد المطاعم تحول إلى رجل أعمال وفرض نفسه في هذه الأوساط واحتكر احتكارا كاملا قطاع استيراد المواد الغذائية ليحصل من وراء ذلك هو وشريكه ياسين هميلة على ملايين الدنانير إضافة إلى إعفائه من دفع الضريبة الجمركية على كل ما يورّده، وكل تلك الأموال المنهوبة والمبتزّة تتحوّل إلى أرصدة في البنوك الفرنسية والسويسرية.
شبكة الفساد شملت أيضا أبناء إخوة ليلى بحيث يمكن القول أنه ليس هناك من فرد من عائلة ليلى لم يكن له نصيب من نهب ثروات البلاد وخيراتها. وعموما فقد سيطرت هذه العائلة على قطاعات عديدة من الاقتصاد التونسي من التصدير والتوريد إلى السياحة إلى الزراعة إلى العقارات إلى الاتصالات والبنوك والسياحة والتعليم الخاص كما نشط أفراد منها في تجارة المخدرات والقطع الأثرية والتهريب.
لقد استعملت هذه الشبكة كل الأساليب القذرة للوصول إلى تحقيق أهدافها: الترغيب والابتزاز والاستيلاء والارتشاء والسرقة ولعل قصة سرقة عماد الطرابلسي ليخت فاخر على ذمة مالكه الفرنسي سنة 2006 والذي هرّبه إلى ميناء سيدي بوسعيد بتونس وكشفته تحقيقات قام بها البوليس الدولي وانصياع القضاء التونسي والذي كان تابعا بشكل مطلق لسلطة الدكتاتور وعائلة زوجته للبحث فيها بعد تدخل فرنسي على أعلى مستوى تغنينا عن فهم مدى قذارة الأساليب والطرق التي يستعملها هؤلاء الفاسدون.
كذلك لابد من الإشارة إلى قضية سها زوجة الراحل ياسر عرفات مع ليلى بن علي وهي قضية لا تقل قذارة عن قضية أخيها عماد. فقد وقع إسقاط الجنسية التونسية عن سها عرفات وعن ابنتها وصودرت أملاكها بتزوير وثائق نقل الملكية وخسرت أكثر من 2,5 مليون أورو بعد أن اختلفت مع ليلى حول مدرسة قرطاج الدولية التي كانت شريكة في بعثها معها لما رفضت سها قرار ليلى إغلاق مدرسة بوعبدلي لمنع المنافسة المحتملة مع مدرسة قرطاج الدولية التي أسستها.
عائلة الحبيب عمار، أحد أبرز مساعدي الديكتاتور في تنفيذ انقلاب 7 نوفمبر، والذي عُيِّن بعد ذلك وزيرا للداخلية، هي أيضا استغلت علاقة رئيسها بالديكتاتور للإثراء والنهب فقد كان دريد ابنه معروفا بالفساد والاحتيال والسلب والنهب، إذ نشط تحت حماية أبيه في الاستيراد غير الشرعي للمواد المحظورة، وفي إقامة المشاريع المشبوهة مع شركاء من خارج تونس.
لم تكن علاقة الحبيب عمار مستقرة مع بن العلي الذي كان يخشاه بوصفه عسكري مثله وتربطه علاقات مميزة مع بعض ضباط الجيش وكوادره كما علاقاته مع المخابرات الليبية. لقد اتخذ بن على من التجاوزات التي كان يأتيها ابنه في كل مرة سببا ليقيله أو ليعيّنه في مسؤولية تبعده عن كل تأثير مباشر في الحياة السياسية.
أما محمد الجري والذي لم يكن غير مجرد موظف وأصبح مديرا لديوان الرئاسة على مدى ثمان سنوات وهو ما مكّنه من أن يصبح شخصية ذات نفوذ تحظى بامتيازات كبيرة راكمت بفضلها عائلته ثروة طائلة.
سنة 1995، حصلت عائلة الجري على ملكية شركة تابعة للقطاع العام تم تخصيصها بقيمة 700000 دولار في حين أن سعرها الحقيقي يفوق 4.5 مليون دولار كما احتكر الجري لسنوات استيراد سيارات الشحن Scania وتمكن من تكوين أكثر من أربعين شركة في مختلف الميادين، وتنشط عائلة محمد الجري كذلك في مجال تصريف العملة بطريقة غير شرعية وخارج نطاق معدلات الصرف الرسمية عبر الحدود مع ليبيا مستفيدا من الحصار الذي كان مضروباً عليها منذ العام 1992، بحيث يقع تصريف أكثر من نصف مليون دولار يوميا.
عائلات أزواج بنات الديكتاتور(مروان المبروك وسليم زروق وسليم شيبوب ) مثلوا أيضا أقطابا كبيرة في عالم الفساد والإثراء عبر النهب والتحيل واستغلال النفوذ.
صيف عام 1994 تزوجت سيرين البنت الثالثة للدكتاتور علي المبروك أحد أغنياء مدينة المهدية وبسرعة انخرطت هذه العائلة في النهب، فقد فرضت سرين نفسها كوكيلة لشركة Alcatel التي فازت بمناقصة تجهيزات الهاتف الجوال في تونس بتدخل منها على حساب متعهدين آخرين قدموا منتوجاً أفضل وبكلفة أقل مما جعل شركة Ericsson تنقل مقرها من تونس احتجاجاً على هذه الممارسات الاحتيالية. وقد مكنت هذه العملية عائلة صهر الديكتاتور من الحصول على 1,9 مليون دولار، وإضافة لذلك بعثت سرين شركة مزود أنترنيت تستغلها تحت اسم Planet وتجني منها أرباحا مهولة وساعدها الديكتاتور بأن أجبر كل المؤسسات العامة على الاشتراك في الانترنيت.
أما سليم زروق زوج البنت الكبرى للرئيس بن علي غزوة فقد ورد بالوثيقة التي أعدتها المعارضة التونسية ونشرتها الجريدة الفرنسية المذكورة سابقا أنه « كان في الأصل موظفا معلوماتياً في وزارة الداخلية ... غير أنه حقق صعوداً ساطعاً وبسرعة وأصبح مالكاً لوحدات تحويل البلاستيك بسبب التسهيلات غير المحدودة لدى قطاع البنوك الخاضع لسيطرة الدولة بنسبة 70٪ وهكذا وضع يده على ثلثي سوق البلاستيك الأمر الذي جعل منافسيه يشتكون من نزعته الاحتكارية.وأصبح سليم زروق وهو من بين القيادات المتنفذة في اتحاد أرباب العمل التونسيين الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية إذ يرأس أحد فيدرالياته. ويتساءل أرباب العمل المنتمون إلى الاتحاد إن كانت مصلحته داخل الاتحاد ليس لها من هدف سوى مراقبته وتقديم تقارير عن نشاطه إلى الرئيس بن علي وتمثلت إحدى عملياته الناجحة بشرائه ...شركة عامة عرضت للخصخصة (سيراميك تونس) بقيمة 17 مليون دولار بعد أن ردع كل المشترين الأقوياء الذين تقدموا لشرائها بواسطة التهديد في أبريل 1996 وقام ببيع هذه الشركة بقيمة 24 مليون دولار في أيلول من العام ذاته محققاً بذلك ابتزازاً مالياً بقيمة 7 ملايين دولار من المال العام. وحين عبر رشيد صفر (ئيس حكومة سابق) عن دهشته بصدد سير هذه العملية أحيل على التقاعد في اليوم نفسه ...من جهة أخرى، أشرك الرئيس بن علي سليم زروق مع سليم شيبوب في عقد الصفقات المحققة من أجل شراء أربع طائرات بوينغ من قبل شركة الخطوط التونسية. وقد استطاع سليم زروق وزوجته أن يحققا ثروة قدرت بقيمة 42 مليون دولار... »
أما محمد صخر الماطري والذي تزوج سنة 2004 بنسرين بن علي بنت الديكتاتور من ليلى الطرابلسي فهو من الشخصيات التي سيصعد نجمها في عالم المال والأعمال بما سيحققه من ثروة ونفوذ في ظرف وجيز.
يملك صخر الماطري أربع شركات عقارية وقد تحصلت شركاته هذه على نسبة كبيرة من مشروع الاستثمار الإماراتي المسمّى سما دبي والمقدّرة قيمته بـ: 14 مليار دولار. كما يمتلك شركة حلق الوادي للملاحة والترفيه التابعة لمجموعة "برنساس الماطري " المملوكة لمجموعة من المؤسسات العاملة في قطاع السيارات الفاخرة وصناعة الأدوية والعقارات كما يمتلك شركة نقل توفر مجموعة متنوعة من عربات النقل الثقيل وتحوز على نسبة 29 ٪ من السوق المحلية. وقد اشترى في أواخر 2010 نسبة هامة من أسهم شركة Tunisiana للاتصالات، كما قام في أفريل 2009 بشراء 70 ٪ من رأسمال مؤسسة دار الصباح للصحافة المكتوبة لمؤسسها الحبيب شيخ روحه، والتي تصدر جريدة الصباح اليومية.
صخر الماطري أنشأ كذلك بنك الزيتونة سنة 2007، وفي نفس العام، أسس إذاعة الزيتونة تحت غطاء ديني.
يتحدث السفير الأمريكي في التقرير الذي نشر في موقع ويكليكس عن صخر الماطري بعد لقاء غير رسمي معه في منزله قائلا « في كل ردهات السهرة كان الماطري كثيرا ما يفاجئ السفير بطلباته كما كان أحيانا مزاجه متقلبا وغاضبا، وأحيانا أخرى يكون لطيفا ومنشرحا، ويظهر بوضوح أثر ثروته الواسعة وسلطانه، ويعكس ذلك حركاته وأفعاله التي تفتقد إلى الكياسة . لقد ذكر مرارا وتكرارا أثناء السهرة، المنظر الجميل الذي يشرف عليه من بيته، وكثيرا ما كان يؤنّب الخدم والموظفين ويصدر الأوامر بصياح وعويل إلى حد التهديد . وكان الماطري مستحضرا تأثيره على من حوله، ويظهر أحيانا اللطف حيث كان خدوما لزوجة السفير المعاقة . وفي بعض الأحيان، كان يسعى إلى تزكية منّا... لقد أصبح ارتباط صخر الماطري في الأشهر الأخيرة بمجموعة السلك الدبلوماسي بارزا أكثر من أي وقت مضى، ومن الواضح أنه قر ر(أو صدرت له تعليمات ) أن يكون همزة وصل قوية بين النظام والدول الغربية الأساسية… من اللافت جدا للانتباه، البذخ الفاحش الذي يعيشه صخر الماطري وزوجته نسرين فبيتهما في الحمامات مثير للدهشة. في حين فاق بيته الذي لا يزال بصدد البناء بسيدي بوسعيد كل مقاييس الترف، حيث يبدو من الخارج وكأنه قصر أقرب منه إلى بيت، وهو ظاهر في سماء سيدي بوسعيد ومن نقاط مختلفة، وقد أصبح حديث الناس وانتقاداتهم اللاذعة . إن البذخ الفاحش الذي يعيش فيه صخر الماطري ونسرين وسلوكهما، يجعل منهما ومن أعضاء بقية عائلة بن علي، غير محبوبين بل مكروهين من طرف العديد من التونسيين . إن تجاوزات عائلة بن علي هي في نمو مطرد».[21]
أما عائلة شيبوب والتي يرأسها سليم شيبوب فهي تعتبر وحسب المراقبين من أقوى العائلات في شبكة الفساد . فسليم والذي كان صاحب مقهى حتى عام 1987 والمتزوج من بنت بن على درصاف والذي أصبح رئيسا لنادي الترجي الرياضي التونسي أقوى الأندية التونسية فقد اختصّ في التوسّط بين الشركات الأجنبية ومؤسسات الدولة التونسية وكان يحصل من وراء عمله هذا على نسبة مئوية ناتجة عن كل الصفقات العمومية الدولية. فقد لعب دور الوسيط عندما اشترت الخطوط التونسية للطيران أربع طائرات بوينغ وأربع طائرات إيرباص. كما كان وسيطا أيضا في صفقة الاتصالات التي انتزعتها شركة نورثرن تيليكوم NorthernTelecom بقيمة 480 مليون دولار وصفقة توربينات الغاز لحساب الشركة الوطنية للكهرباء والغازSTEG التي انتزعتها الشركة الإيطالية Ansaldo بقيمة 200 مليون دولار وصفقة شراء سفن من قبل الشركة الوطنية للملاحة عندما تمت خصخصتها.
سليم شيبوب كذلك مبتز بارع فهو يقبض عمولات عن مسحوق الحليب المستورد من قبل الشركة التونسية لصناعة الألبان بفضل تواطؤ أحد أصدقائه المقربين كمال التليلي حسبما يؤكد أحد مدراء شركة STIL، سليم لم يكن بارعا في الابتزاز فقط بل كان محترفا في الاستيلاء على الأموال العامة.
سنة 1997 غنم سليم مبلغا طائلا عن الشركة التي فازت بصفقة بناء المدينة الأولمبية برادس إحدي ضواحي تونس العاصمة مقابل التوسط لها لربح الصفقة.
يحتكر أيضا سليم شيبوب أسواق تجهيزات وزارة الدفاع كما استولى بالاشتراك مع عزيز ميلاد على مزرعة تابعة لأملاك الدولة تبلغ مساحتها1200 هكتارا .ويمتلك سليم وزوجته فندقاً في مدينة كان الفرنسية وبناية في باريس بقيمة عشرات الملايين من الفرنكات الفرنسية. لسليم أخوان هما عفيف، وهو نائب في البرلمان وصاحب شركة تأمين وقد وضع يده على كل أسواق التأمين ويحصل من وراء ذلك على أرباح تفوق المليون دولار سنوياً كما يقوم بمتابعة أعمال أو عقود مشبوهة عوضا عن أخيه سليم صاحبها الحقيقي.
أما أخوه الثاني إلياس، فهو متخصص في تصدير منتجات البحر ويتمتع بامتيازات كبيرة في هذا المجال.
توظف عائلة سليم شيبوب عددا كبيرا من رجال الأعمال مثل يوسف زروق تاجر السلاح المعروف من قبل أجهزة المخابرات الغربية والذي نشط في توريد الأسلحة إلى العراق وعزيز ميلاد الذي يملك عدة فنادق و أسهما كبيرة في عدة بنوك حصل عليها كلها في ظروف مشبوهة.
تقدر الأموال المسروقة من قبل عائلة شيبوب وشركائها ومنهم الديكتاتور بن علي بعدة مئات الملايين من الدولارات التي وقع تحويلها إلى عدة بنوك أجنبية في أوروبا وبعض بلدان أميركا اللاتينية مستخدمة ظاهرياً في دفع مشتريات الرئيس بن علي في الأرجنتين وفلوريدا في الولايات المتحدة الأميركية كما أكدت ذلك عديد الصحف العالمية.
هذه بعض العينات مما هو معروف من ممارسات شبكة الفساد التي أنشأها بن علي وحماها ولكن بالتأكيد هناك ممارسات أخرى وتجاوزات مازال لم يكشف عليها إلى حدّ الآن. لقد أضرت هذه الشبكة المتكونة من مجموعة عائلات وأشخاص بالاقتصاد التونسي ضررا كبيرا فقد وجدت في سياسة الخصخصة والتفويت في القطاع العام وفي غياب قوانين صارمة ضد الاحتكار ومؤسسات رقابة مستقلة أرضية ملائمة ليستشري فسادها ويطول كل المجالات.
ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ
هوامش الفصل الأول
[1] عز الدين قديش ومحمد قديش والصادق الوحشي وعبد العزيز العنابي و محمد بن اسماعيل والهاشمي القروي و عمارة الزعيمي.
[2] مقابلة في تونس لكمال لطيف مع دومينيك لاجارد نشرت يوم 10 ـ 03 ـ 2011 في L express F.R
[3] مداخلة لراشد الغنوشي في مؤسسة التميمي يوم السبت 19 مارس 2011
[4] الإضراب العام الذي أعلنه الاتحاد العام التونسي للشغل في 26 جانفي 1978 إثر تعطل الحوار مع الحكومة . وقد تم بعده مقاضاة أكثر من ألفي مواطن بتهم التآمر على أمن الدولة، والتخطيط والعمل على قلب نظام الحكم، وتحريض السكان على التسلح ضد بعضهم البعض، والحث على التجمهر المسلح في الطريق العام، ومسك مستودعات من الذخيرة والأسلحة وتوزيعها، وحمل السلاح بدون رخصة، والإخلال بالنظام العام والإضرار بملك الغير وغيرها من التهم. وإلى جانب القيادات النقابية من مختلف المستويات والجهات والقطاعات، شملت هذه المحاكمات أفراد عائلاتهم وعددا كبيرا من العمال. وقد نصبت قيادة غير شرعية للاتحاد موالية للسلطة، ولكن العمال التونسيين تمكنوا من استرجاع المنظمة للقيادة الشرعية سنة 1981 ، بفضل المقاومة الكبيرة التي تبعت الإضراب العام وعزلهم للقيادة المنصبة وعدم الاعتراف بها.
[5] عملية قفصة هي عملية مسلحة جرت في الليلة الفاصلة ما بين 26 و27 جانفي 1980، تولت القيام بها مجموعة من الأشخاص المنتمين للجبهة القومية التقدمية ذات التوجه العروبي – اليوسفي وقد قدر عددهم بحوالي 60 مسلحا هاجموا مراكز الشرطة والحرس وثكنتين بالمدينة قبل أن يوجهوا دعواتهم إلى الأهالي للانضمام إلى الثورة المسلحة والإطاحة بالنظام البورقيبي.
[6] يوم 3 جانفي 1984، انتفضت الجماهير التونسية انتفاضة عارمة إثر إعلان السلطة عن زيادة مشطة في أسعار الحبوب ومشتقاتها، وقد واجه النظام البورقيبي الجماهير المنتفضة بالحديد والنار، فسقط العشرات من الشهداء والجرحى . وتعرف أيضا بانتفاضة الخبز
[7] نسبة للقيادة الموالية للسلطة والتي نُصبت وقتها على رأس الاتحاد العام التونسي للشغل والتي سمت نفسها بالقيادة الشريفة. سنة 1985 تم الاعتداء على مقرات الاتحاد العام التونسي للشغل من قبل مليشيات الحزب الدستوري، ومنعت جريدة الشعب لسان الاتحاد من الصدور، وسجنت قيادة الاتحاد الشرعية بتهم ملفقة في محاولة من الحكومة التي يرأسها وقتها محمد مزالي لشل كل إمكانية لتطور حركة النضال العمالي المطلبي والسياسي.
[8] هي لجنة وقع التوافق عليها بين القيادة الشرعية والقيادة المنصبة للتحضير لمؤتمر للخروج من الأزمة النقابية التي انطلقت سنة 1985 بتنصيب السلطة لقيادة موالية لها على رأس الاتحاد.
[9] هو الاسم الذي اتخذه الحزب الاشتراكي الدستوري بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987 في مؤتمره المنعقد في 27 فيفري 1988 .
[10] الشبكة العربية لمعلومات لحقوق الإنسان. دراسة بعنوان دون قواعد دون شرف الاعتداءات الجنسية وتلفيق القضايا الجنائية للصحفيين والنشطاء ـ مصر تونس البحرين.
[11] المجلس الوطني للحريات بتونس. تقرير حول وضع الحريات في تونس: لتكن سنة 2000 سنه استرداد الحقوق وإطلاق الحريات. تونس في 15 مارس 2000
[12] المجلس الوطني للحريات بتونس. تقرير حول وضع الحريات بتونس. من أجل إعادة تأسيس السلطة القضائية. أفريل 2000 ـ ديسمبر 2001
[13] كاظم حبيب. دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسان في الدول المغاربية .الكتاب الأول. برلين 2000.
[14] المصدر السابق
[15] ضابط أمن شاهد على نظام بن علي ص 71 ـ 72 . الطاهر بن يوسف . فيفري 2011
[16] تقرير منظمة Human Rights Watch عن أوضاع حقوق الإنسان في تونس سنة 2005
[17] كاظم حبيب. دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسان في الدول المغاربية الكتاب الأول. برلين 2000. المبحث الثاني حول ملف حقوق الإنسان في تونس.
[18] المجلس الوطني للحريات بتونس ـ تقرير بعنوان ـ المحاكمة المنعرج ـ انتصاب المحكمة العسكرية ببوشوشة و باب سعدون خلال صائفة سنة 1992.
[19] من وثيقة منشورة من وثائق ويكيليكس تحت عنوان الفساد في تونس ـ ماهو لك هو ملكي ـ بتاريخ 23 جوان 2008 مصنفة بواسطة السفير الأمريكي بتونس روبرت غوديك.
[20] صحيفة الجرأة الأسبوعية التي تصدر في باريس ـ الأعداد ـ 37 ـ 42 ـ 43 ـ لسنة 1998
[21] من وثيقة منشورة من وثائق ويكيليكس تحت عنوان الفساد في تونس ـ ماهو لك هو ملكي ـ بتاريخ 23 جوان 2008 مصنفة بواسطة السفير الأمريكي بتونس روبرت غوديك.
ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ

الفصل الثاني
الوضع الاقتصادي والاجتماعي في ظل سلطة بن على البوليسية

1 ـ التبعية الاقتصادية
سنة 1986 بدأ العمل في تونس ببرنامج الإصلاح الهيكلي الذي فرضه البنك الدولي على إثر الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي كانت مرت بها البلاد والتي أدت سنة 1984 إلى اندلاع انتفاضة الخبز كما إلى الصدام مع الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1985 بعد أن رفض العمال وأغلبية الشرائح الشعبية تحميلهم نتائج فشل السياسات الاقتصادية المتبعة.
كان النظام البورقيبي في ذلك الوقت في أوج أزمته السياسية ولم يكن هناك من مخرج لهذا النظام الذي كان يتآكل من الداخل بفعل الصراع على خلافة بورقيبة غير مزيد إغراق البلاد في التداين ورهنها للبنوك العالمية لعشرات السنين.
في الحقيقة إن علاقة الاقتصاد التونسي بالمؤسسات المالية الدولية وبالدول الصناعية المتقدّمة لم تبدأ في الثمانينات إنها تعود إلى فترة طويلة سابقة، فالدولة التونسية التي تأسست سنة 1956 لم تكن لها سياسات اقتصادية مستقلة عن الرأسمال العالمي بل كانت سياساتها جزء من سياسات هذا الرأسمال. لقد انبنى مشروع التنمية الاقتصادية في ظل سلطة بورقيبة على الارتهان برأس المال العالمي والخضوع لحزمة الشروط التي كان يعتمدها ويفرضها كقاعدة على جميع البلدان المتخلفة، هذه الشروط النابعة من تصوره لطبيعة التنمية في هذه البلدان.
سياسة رأس المال الاحتكاري والمبنية على المزيد من الهيمنة والاستغلال كانت نتائجها كارثية على عموم الطبقات الفقيرة، فقد ضاعفت من الاستغلال والتفقير والبطالة وأغرقت البلاد في الديون وكانت السبب الذي أنتج كل الأزمات والصراعات الاجتماعية التي وقعت خلال تلك الفترة.
بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987 لم يكن بمقدور الديكتاتور بن علي إلا أن يواصل السياسة الاقتصادية المتبعة لا بل و يعمق نهج التبعية فقد التزم ومنذ توليه السلطة في 1987 بالانفتاح على السوق العالمية وخصخصة مؤسسات القطاع العام ورفع القيود الجمركية في وجه الرأسمال العالمي.
سنة 1994 أصبحت تونس عضوا في المنظمة العالمية للتجارة وسنة 1995 وقّعت اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي تهدف إلى إقامة منطقة للتبادل الحر وتكثيف العلاقات الاقتصادية وتفكيك المعاليم الجمركية بين تونس وبلدان الإتحاد الأوروبي لمدة 12 سنة.
« لقد صممت وصفات التكيف الهيكلي أصلا لمعالجة مشاكل ميزان المدفوعات قصيرة الأمد وليس لتصحيح مشاكل بالحجم الذي يواجه أغلب الأقطار خلال فترة الركود العام في التجارة العالمية وتدهور أسعار السلع . فقد صممت إجراءات التكيف في جوهرها لتخفيض الطلب الكلي ولتحسين الموازين التجارية في إطار تقوية السوق وتوسيع المجال للمشروعات الخاصة. وهكذا فهي تتكون من تقليص لنفقات الحكومة خاصة على الخدمات الاجتماعية و الهياكل الأساسية الاقتصادية، وتقليص أو إلغاء الدعم وزيادة في عائدات الضرائب وتقييد عرض النقود و الائتمان المصرفي وزيادة في سعر الفائدة الحقيقي... ومن الأهداف المهمة في حزمة التكيف الهيكلي تحرير التجارة وتشجيع الصادرات. وهي تتحقق من خلال عدة إجراءات، مثل التخفيض في قيمة العملة وتخفيض أو إلغاء الضرائب على الصادرات، وإلغاء تصديقات الواردات و الحصص و القيود الكمية وإدخال معدل تعريفة جمركية متساو. وتشمل العناصر الأخرى من الحزمة زيادة أسعار المنتج وتخفيض في فاتورة الأجور، وتجميد الأجور وتقليل في المرتبات و الأجور الحقيقة وتخفيض أو إزالة الميزات المضافة للأجور ورفاهية العمال وإجراءات الحماية. وأخيرا الإصرار على خصخصة الأنشطة الاقتصادية والتي تضمنت إغلاق أو بيع مؤسسات الدولة في القطاعات المنتجة و المالية، وتقليص أو إلغاء وكالات التسويق الحكومية وإضافة مجموعة من الحوافز للاستثمار الأجنبي، وأصبحت إعادة جدولة الديون وخدمتها بالإضافة إلى تقديم قروض جديدة والمساعدات الأجنبية والتسهيلات التجارية مشروطة بقبول هذه الحزمة وهي بذلك تعبد الطريق لدرجة من التدخل الأجنبي في صنع السياسات الوطنية غير مسبوقة في فترة ما بعد الحرب. » [1]
هكذا إذا انخرطت البلاد التونسية منذ أواخر الثمانينات انخراطا سريعا في الاقتصاد المعولم، فإضافة لقبولها بتطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي، بدأت بتطبيق اتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي فأمضت عليها قبل حتى أن تصادق عليها جميع البرلمانات الأوروبية ، هذه المصادقة التي لم تتمّ إلا سنة 1998 .
ولتسريع عملية الخصخصة وتشجيع الرأسماليين على ذلك منحت الدولة إعفاءات وامتيازات جبائية للمستثمرين فتم حتى شهر مارس 2000 التفويت في 147 شركة منها 136 حسب العمليات التالية:
66 شركة عن طريق بيع عناصر الأصول أي خصخصة كاملة.
27 شركة عن طريق بيع أسهم إي خصخصة جزئية.
01 شركة وقع فتح رأس مالها للعموم.
31 شركة وقع تصفيتها.
نجح نظام بن علي ومنذ البدء في تنفيذ مخططات البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية واتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في إعادة هيكلة الاقتصاد التونسي على المنوال الرأسمالي الليبرالي.
لقد قفز عدد الشركات التي تمت خصخصتها من 147 سنة 2000 إلى 217 شركة سنة 2008 ، وكان للرأسمال الأجنبي الحصة الأكبر منها حيث تشير الدراسات إلى أن حصته بلغت من إجمالي قيمة الخصخصة نسبة 87٪. وهو ما أشّر إلى مزيد تبعيّة الاقتصاد المحلّي للسّوق العالميّة لتبلغ نسبة اندماجه فيها 123٪. وقد بلغ هذا المسار ذروته بداية من جانفي 2008 بعد استكمال إقامة منطقة التبادل الحرّ مع الاتّحاد الأوروبي.
هكذا إذن وقع تفكيك نظام رأسمالية الدولة الذي ساد طيلة الحقبة البورقيبية ليتركز ومنذ بداية التسعينيات نظام اقتصادي رأسمالي ليبرالي تابع مرتبط بنظام العولمة الليبرالية هش وشديد التأثر بتقلبات اقتصاد السوق وأزماته وعدم استقراره. وقد ثبت ذلك أثناء الأزمة الرأسمالية الأخيرة. فقد أوردت دوريّة البنك المركزي التّونسي لشهر سبتمبر 2008 مخاوف الحكومة من تأثر الاقتصاد التونسي بالأزمة الاقتصادية العالمية حيث جاء في هذه الدورية « يوجد احتمال حول تأثّر الاقتصاد التّونسي جرّاء الأزمة الاقتصاديّة الرّاهنة نتيجة انكماش الطلب الخارجي خاصّة منه المتأتّي من الاتحاد الأوروبي الذّي سيشهد انكماشا اقتصاديا خلال 2009. أمّا القطاعات التّي سوف تطالها هذه التّأثيرات فهي الصناعات الميكانيكيّة والكهربائيّة والنّسيج والملابس والنّشاط السّياحي والنّقل الجوّي، مع احتمال أن تطال أيضا الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة في القطاعات التصديريّة وبعنوان المشاريع الكبرى. » [2] مخاوف الحكومة التونسية، والرأسماليين من تأثر الاقتصاد المحلي بالأزمة كان نابعا من معرفتهم مدى هشاشة هذا الاقتصاد، فالرأسمال الأجنبي يتحكم في نسبة54 ٪ من إجمالي صادرات البلاد التونسية وترتفع هذه النسبة في قطاعات صناعية تعد من أبرز قطاعات النّشاط الدافعة للنمو الاقتصادي كقطاع الصناعات الميكانيكية والكهربائيّة التي شهدت نموا لافتا وهي تمثل 27٪ من القيمة الجملية للصادرات والتي بلغت فيها حصة الرأسمال الأجنبي من القيمة الجملية لصادرات هذا القطاع 87٪ كما قطاع النسيج والملابس والجلد والذي يحقق بمفرده حوالي 31٪ من الصادرات التونسية.
لقد تمكن الرأسمال الأجنبي من السيطرة على القطاعات الاقتصادية الأكثر حيوية. فهيكلة الاستثمار الأجنبي المباشر تعكس بوضوح تبعية الاقتصاد التونسي للرأسمال العالمي وبالتحديد للرأسمال الفرنسي الذي يحتكر لوحده ربع الاستثمارات الأجنبية و يتحكم في 1180 شركة تشغل أكثر من 106 ألف أجيرا.
أما إجمالي الرّأسمال الأجنبي المستثمر في تونس فإنّه يتحكم في حوالي 3000 شركة تشغل زهاء 300000 عاملا ويتركز بشكل خاص في قطاع التنقيب واستغلال النفط والغاز الطبيعي و في قطاع الصناعات المعملية وفي قطاعي السياحة والخدمات المصرفية.
اندماج الاقتصاد التونسي باقتصاد السوق ونجاح السلطة في خصخصة أغلب شركات القطاع العمومي وفتح السوق المحلية للاستثمارات الأجنبية كانت له نتائج اجتماعية كارثية على العمال وعلى أغلب الشرائح الإجتماعيىة، الفقيرة كما اقترن بسياسة قمعية واستبداد سياسي واستشراء للفساد ومصادرة للحريات حوّل حياة الملايين إلى جحيم .
لقد أدى تنفيذ مخطط الإصلاح الهيكلي إلى تسريح عشرات الآلاف من العمال كما وقع تغيير تشريعات الشغل لصالح المشغلين وضيق على الحق النقابي، وانتشرت ظاهرة العمل غير القار والعمل بالمناولة وعمّمت عقود العمل محددة المدة وعقود العمل الوقتي في جميع الأنشطة (السياحةـ النسيج ـ الصناعات الغذائية التعليم...) وحصل انحدار رهيب في الطاقة الشرائية للأجراء والفئات الشعبية بفعل الزيادات الجنونية للأسعار وتهاوى مستوى الخدمات الاجتماعية إلى أسوء مستوى منذ عقود.
يقول فتحي الشامخي الأستاذ والباحث بقسم الجغرافيا بكليّة الآداب والفنون والإنسانيّات بتونس في دراسة له « يعدّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي الرّاهن المآل المنطقي للتوجهات الاقتصاديّة والاجتماعيّة اللّيبراليّة الجديدة المعتمدة منذ عقدين...ومن طبيعة هذا النظام بالخصوص أن يلحق أضرارا بالاقتصاد الوطني وبمستوى عيش الطبقات الشعبية. والأدلة على ذلك تؤكدها كل المؤشرات.. » ويضيف مستعرضا بعض مؤشرات تعمق الأزمة الداخلية للبلاد ونتائج ذلك على الطبقات الشعبية «...مما لا شك فيه أن تفكيك الحماية الجمركيّة يعني بطريقة أو أخرى تعريض اقتصاد البلاد والسوق المحلية إلى أخطار مدمرة. فالاندماج صلب السّوق العالميّة والتّبعيّة المتنامية التّي تنجم عن هذا الاندماج تفضي إلى تنامي ثقل المنافسة العالميّة السّاحق داخل السّوق المحليّة إذ يرافق انفتاح الاقتصاد على الخارج، منافسة متزايدة تضغط بثقلها على قطاعات اقتصاديّة أساسيّة" وتشكِّل عبءا على مستوى ميزانيّة الدّولة بحكم ضرورة تمويل "برنامج تأهيل" الشركات وتجهيزات البنية الأساسيّة والموارد البشريّة... فبفضل هذا البرنامج الذّي انطلق سنة 1996 تلقّت 2711 شركة خاصّة إلى حدود شهر مارس 2008 مبلغ 0,609 مليار دينار في شكل منح عموميّة. وقد واكب ذلك ارتفاع حاد لأسعار أغلب الموادّ الأساسيّة منذ سنة 2005 وهو ما أثر بشكل كبير على السوق المحلّية التي رفعت عنها الحماية الجمركيّة بشكل تامّ بالإضافة إلى كونها تشهد تبعيّة متزايدة للسّوق العالميّة بالنّسبة لجزء هامّ من احتياجاتها من الموادّ الأوليّة ومواد التجهيز ومن الموادّ الغذائيّة والطاقيّة... » [3] ويواصل مبينا نتائج ذلك على المقدرة الشرائية للمواطن التي تدهورت تدهورا كبيرا في ظل هذه السياسيات فقد سجلت أسعار التفصيل لمجمل الموادّ الأساسيّة في السّوق المحليّة ارتفاعا كبيرا خاصّة خلال السّداسي الأول من سنة 2008حيث بلغت الزيادة نسبة 8,7٪ لأسعار الموادّ الغذائيّة و17,4٪ للمحروقات و 6,4٪ لمصاريف التعليم.
الآثار السلبية والكلفة الاجتماعية الباهظة للخصخصة والتفويت في مؤسسات القطاع العمومي، وفتح الحدود للاستثمارات الأجنبية تضرّر منها بحدّة سكان المناطق الداخلية التي كانت ومنذ 1956 تعاني من مشكلة انعدام التوازن في التنمية حيث ركزت كل المشاريع سواء التي قام بها النظام البورقيبي أو التي أقيمت في عهد الدكتاتور بن علي على الجهات الساحلية وقرب المدن الكبرى كالعاصمة وسوسة وصفاقس. وفشلت السياسات الاقتصادية المغشوشة والهشة والتي كرست من أجل التخفيض من حدّة انعدام التوازن الجهوي في التنمية بين الجهات الداخلية والجهات الساحلية. لقد بقيت الاستثمارات موجهة أساسا للجهات الساحلية وللقطاعات الخدمية وعلى رأسها السياحة ليبقى النشاط الفلاحي تقريبا هو النشاط الوحيد لسكان المناطق الداخلية والذين كانت أوضاعهم تسوء أكثر فأكثر وسنة بعد أخرى.
تشير دراسات كثيرة إلى أن تحرير الاقتصاد التونسي أدى إلى ازدياد مكانة قطاع الخدمات حيث مرت النسبة من 40 ٪ سنة 1993 إلى 54 ٪ أي بنمو قدره 14 ٪ أثناء عشر سنوات كما أن فتح السوق التونسية للاستثمارات وللبضاعة الأجنبية قد أدى إلى إفلاس آلاف صغار الفلاّحين ودفعَهُم إلى الهجرة نحو المدن وهو ما ساهم في ازدياد عدد المهمشين و العاطلين والذين تكدّسوا في الأحياء الملاصقة للمدن الكبيرة جيشا احتياطيا للعمل خصوصا بعد أن وقعت مراجعة قوانين الشغل لصالح المستثمرين، وساد وضع جديد في العلاقات الشغلية قائم على هشاشة التشغيل .
وهكذا لم يكن تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي وتطبيق الاختيارات الليبرالية إلا في صالح أصحاب رؤوس الأموال محليين وأجانب فجميع الإحصائيات تشير إلى ارتفاع نسب مداخليهم في حين أن نصيب الأجراء من الناتج الداخلي الخام ظل دائما في تراجع مستمر.
إن السياسة الاقتصادية التي طبقها نظام بن علي، والتي انبنت على التفويت في مؤسسات القطاع العام، وعلى فتح السوق المحلية للبضاعة والاستثمارات الأجنبية، والتمادي في سياسة التداين مع انتشار ظاهرة الفساد، قد كلفت المجتمع التونسي ثمنا باهظا على مستوى المقدرة الشّرائيّة والشّغل ومستوى العيش.

2 ـ البطالة والتهميش
تراجع دور الدولة والارتباط المتسارع للاقتصاد التونسي منذ 1987 باقتصاد السوق وخصخصة مؤسسات القطاع العام، وفتح السوق التونسية للبضاعة الأجنبية والذي نتج عن تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي واتفاقيات الشراكة مع الإتحاد الأوروبي، كانت له كلفة اجتماعية باهظة الثمن على العمال وفئات المجتمع الفقيرة. فإضافة إلى تفاقم وضع انعدام التوازن في التنمية بين الجهات وحالة التفقير المعمم ، تجلت سلبيات هذه السياسة أيضا في تعميق معضلتي البطالة والتهميش.
لئن كان المجتمع التونسي وفي العهد البورقيبي قد عانى من هاتين المعضلتين خصوصا في العشريتين الأخيرتين من حكم بورقيبة بحكم تبعية الاقتصاد التونسي لرأس المال العالمي وارتهانه بمخططاته فإن معضلتي البطالة والتهميش قد أصبحتا في عهد الديكتاتور بن على أحد أبرز مظاهر الحيف الاجتماعي الدال على فشل السياسة الاقتصادية المتبعة.
لقد أصبح الحصول على شغل أو وظيفة قارة في عهد الديكتاتور بن على أحد الأمنيات صعبة المنال بالنسبة لأكثر من 520000 ناشط معطل عن العمل حسب الإحصائيات الرسمية والمشكوك في نزاهتها حسب رأي عديد الخبراء والمختصين.
إن الرقم الحقيقي يتجاوز بكثير الأرقام المصرح بها وهي مغالطة يعتمدها نظام بن علي للإيهام بأن خياراته الاقتصادية ناجحة ولا تشكو من خلل.
معضلتا البطالة والتهميش واللتان أصبحتا مزمنتين طيلة حكم الديكتاتور، كانت لهما تأثيرات اجتماعية ونفسية خطيرة خصوصا على الفئة الشبابية ،فقد وصل مستوى اليأس والإحباط إلى ذروته لدى الكثير من الشباب، حيث سجلت عديد الأمراض العصبية في صفوف هذه الشريحة من المعطلين بسبب شدة المعانات من البطالة والتهميش والإبعاد، كما سجلت حالات انتحار كثيرة إضافة للانحراف ودخول عالم الجريمة وتعاطي المخدرات والهجرة السرية والتي أصبحت تعرف في تونس بظاهرة قوارب الموت حيث يُدفع المعطلون الشباب إلى اجتياز البحر في اتجاه أوروبا هروبا من الوضع المزري الذي يعيشونه في بلادهم بحثا عن الشغل. لقد وصل اليأس بالعديد من هؤلاء الشباب إلى حرق أجسادهم كتعبير منهم على اليأس المطلق من مواصلة العيش في الظروف التي هم يعيشونها. ولعل حادثة حرق الشاب محمد البوعزيزي لجسده في 17 ديسمبر 2010 في مدينة سيدي بوزيد والتي اندلعت على إثرها احتجاجات المواطنين على السياسات القائمة، لخير دليل على المستوى الذي بلغه التهميش والإبعاد وعلى عمق الأزمة التي يتخبط فيها المجتمع التونسي طيلة حكم الديكتاتور بن علي.
تفيد معطيات تكميلية للمعهد الوطني للإحصاء قام بها سنة 2010 حيّن فيها معطياته العامة حول السكان، أن عدد سكان البلاد التونسية ارتفع إلى 10 ملايين و 432 ألف و 50 نسمة موفى 2009 أي بزيادة 103 ألاف و 600 نسمة وهو ما يعنى نسبة ارتفاع بحوالي 1٪ مقارنة بموفى 2008 . كما أشارت نفس المعطيات إلى أن 15٪ من نسبة السكان الناشطين معطلون عن العمل وهو عدد في حدود 520 ألفا. وقد جاء في تقرير أصدره البنك الدولي في مارس 2008، أن البطالة في تونس بدأت تسري أكثر فأكثر في صفوف الأشخاص ذوي مستوى تعليمي عـال حيث تضاعف عددهم تقريبا في عشر سنوات فبلغ 336 ألف خلال فترة 2006/2007 مقابل 121,800 في فترة 1996/1997.
وتعتبر الخصخصة من أهم الأسباب التي فاقمت معضلة البطالة في تونس. فالتفويت التدريجي في القطاع العام، مسّ في البداية القطاعات غير الإستراتيجية ليشمل في مرحلة متقدّمة القطاعات ذات الدور الهام في التنمية والذي تمّ وفي حالات كثيرة بشكل مشبوه وغير شفّاف، وكان لمافيا المال والفساد المسنودة من أعلى هرم السلطة دور كبير في تنفيذه والاستفادة منه فأدى إلى تعزيز جيش المعطلين بأعداد كبيرة من العمال المسرحين الذين تمّ الاستغناء عنهم بالطرد أو بالتشجيع على الخروج الإرادي وهو قطع العلاقة الشغلية باتفاق المشغِل والمشغَل أو بالإحالة على التقاعد المُبَكّر أو بصور أخرى كثيرة، هي كلها في الأخير أشكال من الطرد المقنّع.
تشير استمارة قام بها فريق بحث في قسم الدراسات والتشريعات في الإتحاد العام التونسي للشغل سنة 2001 أنه « يرافق عمليات التفويت في المنشآت العمومية عمليات طرد للعمال، إلا أنه لا توجد إحصائيات دقيقة عن عدد العمال المطرودين الذين تم الاستغناء عنهم غير أنه وحسب هذه الاستمارة (التي قام بها فريق هذه الدراسة) تتراوح هذه النسبة حسب المؤسسات إذ تبلغ ما بين 35٪ و60 ٪، وتتم عمليات التسريح إما بصفة فردية أو جماعية لأسباب اقتصادية وهو ما يسمى بالتطهير الاجتماعي للمنشأة العمومية قبل التفويت فيها وعادة يتم تسريحهم حسب آليات ثلاث وهي الخروج الإداري والتقاعد المبكر والطرد» [4].
وتبرز الإحصائيات أن مواطن الشغل بقيت في حدود 52 ألف موطن شغل سنويا كما أن إحداثات مواطن الشغل قد تراجعت من 70 ألف سنويا بين سنة 2005 و 2008 إلى 49 ألف موطن شغل سنة 2009.
لقد كان لتطبيق الاختيارات الليبرالية منذ أواخر الثمانينات تأثير سلبي على أوضاع العمل كما على مستوى التشغيل، تسبب في زيادة البطالة وفي تخفيض شروط العمل وشروط الحياة، كما أدى إلى تراجع عن الحقوق المكتسبة للعمال.
يجمع أغلب الدارسين لظاهرة البطالة في تونس، على أن سلطة بن علي كانت تتعمد عدم نشر الإحصائيات الدقيقة حول هذه الظاهرة وتعتم عليها وتتلاعب بالأرٍقام والمفاهيم والمصطلحات، وتغيّر المقاييس للحد من حجم البطالة ونسبها من جهة، وأيضا من أجل توظيف هذه المعلومات سياسيا لتبرير قراراتها وإبراز مدى نجاح سياساتها.
إن ما كان رسميا لم يكن موجها لغير الشريك الأوروبي وللمؤسسات المالية العالمية المانحة للمعونات والقروض. وحتى إن توفرت بعض الإحصائيات القريبة من الموضوعية ،فهي عادة ما تنشر بعد أن تتقادم وبالتالي لا تعكس صورة الأوضاع وحقيقتها عند نشرها.
تعتبر الفئة الشبابية أكثر الفئات المتضررة من معضلة البطالة وخصوصا أصحاب الشهائد. لقد ارتفع عدد المعطلين من هذه الفئة من 113800 معطل سنة 2008 إلى 131500 سنة 2009 أي بزيادة 18٪ تقريبا في سنة واحدة، وهو رقم يتطور من سنة إلى أخرى نظرا للضعف الذي عليه مستوى التشغيلية عموما في المؤسسات، ولعجز البرامج التي وضعتها الحكومة والتي لم تكن سوى برامج موجهة للدعاية لنظام بن على أكثر منها لمعالجة مسألة البطالة معالجة جذرية.
لقد أدى التفويت في القطاع العام كما برامج التأهيل التي سبقت عمليات الخصخصة وكل الآليات التي اعتمدت لتنفيذ برنامج الإصلاح الهيكلي في تونس، إلى مراجعة القوانين الشغلية التي كانت سائدة لصالح المشغلين وفرض أنماط جديدة من التشغيل والعلاقات الشغلية تتسم كلها بالهشاشة وهي إحدى الإجراءات التي اتخذها الرأسماليون للحدّ من انخفاض معدلات الربح وذلك بالتقليص من تكاليف اليد العاملة . لقد أدى ذلك إلى الإجهاز على بعض المكتسبات الجزئية للعمال كالاستقرار في العمل و تحديد الأجور و الحماية الاجتماعية والحق النقابي...إلخ .
على مستوى الاستقرار في العمل، تشير دراسة أنجزها الاتحاد العام التونسي للشغل إلى أن الدولة قد عملت على تقليص عدد العمال بنسبة تناهز 5,12 ٪ من عمال المؤسسات العمومية عامة أي 57 ٪ من عمال المؤسسات المعدة للتخصيص التي اعتبرت نسبة التشغيل بها أكبر من طاقتها الحقيقة، وهو ما يناهز 20000 عامل بحوالي 205 مؤسسة عمومية، وقد مرّرت الدولة ذلك عبر عدة حلول و آليات أهمها الإحالة على التقاعد المبكر و« شمل هذا الحل حوالي 10٪ من اليد العاملة المسرحة» والإحالة على ما قبل التقاعد المبكر و« ساهم ذالك في امتصاص حوالي 50٪ من المسرحين في المؤسسات العمومية» وكذالك الإحالة على التقاعد و« ساهم بامتصاص حوالي 3٪من العمال المسرحين عند تطهير المؤسسات العامة » وكذالك الانصراف الاختياري الطوعي و« شمل 25٪ من العمال بالمؤسسات» كما التشغيل بمؤسسات أخرى و« شمل 2 ٪ من العمال المسرحين. »
واستعملت الدولة أيضا الطرد التعسفي و« شمل 10٪ من العاملين بالمؤسسات العمومية. وقد مثل معدل تكلفة امتصاص موطن الشغل الواحد حوالي 8000 دينار.» [5]
لقد رافق التفويت في مؤسسات القطاع العمومي عملية تسريح كبيرة للعمال فاقت الأرقام المقدمة بكثير لأن هذه الأرقام لا تشمل إلا فترة محددة وهي الممتدة من بدء تنفيذ برنامج الإصلاح الهيكلي إلى سنة 2000، ولكن العشرية الأخيرة من حكم الديكتاتور بن على شهدت أيضا موجات تسريح وطرد كثيرة، إلا أن السلطة كانت دوما تخفي ذلك ولا تنشر الأرقام الدقيقة حول عدد المطرودين والمسرحين.
أمام هذا الوضع لم يبق العمال مكتوفي الأيدي بل قاموا بكثير من النضالات للتصدي للطرد التعسفي والتسريح، فشهدت البلاد وعلى امتداد حكم الدكتاتور كثيرا من الاعتصامات خصوصا في الجهات التي بها نسيج صناعي كبير كجهة تونس وجهة بن عروس وصفاقس وجهة الساحل، وهناك من الاعتصامات التي امتدت أسابيع ولكنها في الأخير لم تحقق كبير مكاسب نظرا لأنها أولا، لم تتحول إلى حركة شاملة بحيث كانت هذه النضالات متفرقة جغرافيا ولم تحظ بالمساندة اللازمة، كما أن بيروقراطية الاتحاد العام التونسي للشغل لعبت دورا لم يكن في صالح العمال، حيث جرتهم في حالات كثيرة إلى القبول بحلول كانت في الأساس لصالح الأعراف الرأسماليين، كما فرضت عليهم في غالب الأحيان حل اعتصاماتهم دون تحقيق نتائج تذكر وهي سياسة اعتمدتها البيروقراطية النقابية طيلة فترة حكم الجنرال بن على بعد أن روّضها وجعلها تدفع الإتحاد العام التونسي للشغل لتبني سياسة المشاركة لتتحول هذه الشريحة المتنفذة والماسكة بكل دواليب المنظمة إلى حارس على العمال لصالح الرأسماليين والدولة.
توجّهُ سلطة بن على في الميدان الاقتصادي القائم على قاعدة الهشاشة الشغلية، أفرز العمل بالمناولة، وهو نوع من العلاقة الشغلية سمحت به الدولة لمّا سنّت تشريعات تقرّ مبدأ التعاقد المؤقت بين المؤسسات والأعوان بواسطة شركات المناولة. هكذا أقرّ نظام بن على الديكتاتوري المتاجرة باليد العاملة، فانتشرت هذه الشركات والتي يقدّر عددها في السنوات الأخيرة من حكمه بـ: 300 مؤسسة توسطت لتشغيل ما لا يقل عن 150000 عاملا وطالت مختلف الأنشطة من الانتداب للعمل في المصانع والمعامل إلى انتداب العمال للحراسة والتنظيف في الإدارات العمومية كما في الشركات الخاصة.
الحصول على عمل عن طريق هذه الشركات كان يحرم العامل أو العاملة من الأجر الأدنى القانوني ومن جميع المنح المنصوص عليها في قانون الشغل وخاصّة الضّمان الاجتماعي، كما يتيح العقد للمؤجر إمكانية فسخه دون تقديم تعويضات، وإضافة إلى ذلك يحرم العامل من الحصول على نسخة من عقد التشغيل ومن شهادة الخلاص الشهري التي يقع التلاعب فيها بعدم التصريح بالعدد الحقيقي لساعات العمل، وهو ما يمكّن شركة المناولة من توفير أرباح طائلة على كاهل العمال الذين توسطت لهم في الشغل تبلغ مرات أكثر مما يتقاضاه مجموع هؤلاء العمال أنفسهم.
تنفيذ برنامج الإصلاح الهيكلي لم يفاقم فقط البطالة والتهميش وهشاشة الشغل والتفقير، بل أنتج كذلك قطاعا تجاريا هامشيا هو قطاع التجارة الموازية، وهو قطاع طفيلي نشأ نتيجة أعمال التهريب التي كانت تنشط فيه عائلة بن علي وعائلة ليلى الطرابلسي والعائلات الأخرى القريبة منهما.
هكذا يتوضّح أن سياسة بن على الاقتصادية لم تجلب للبلاد وللشعب التونسي غير الخراب، فالبطالة والتهميش مثلا، ولئن كانا من المظاهر الملازمة لنمط الإنتاج الرأسمالي، فقد دعمتهما سياسة بن علي وزادت من حدتهما سواء بتنفيذها لبرنامج التفويت وما تسبب فيه من تسريح لعشرات الآلاف من العمال، أو لعجز الاقتصاد التونسي عن معالجة هذه المعضلة ولو جزئيا في ظل تبعيته المطلقة لرأس المال العالمي وتنفّذ عصابات المال والفساد محليا. لقد أشرت معضلة البطالة ومنذ استفحالها خصوصا في صفوف الفئة الشبابية المتعلّمة كما مسألة التفاوت في التنمية بين الجهات إلى أنه من غير الممكن أن يتواصل نظام بوليسي قائم على القمع ومصادرة الحريات وعلى الفساد المالي والإداري ولم ينتج وعلى امتداد أكثر من عشريتين غير الإبعاد الاجتماعي .

3 ـ المديونية
إن دراستنا للمديونية في عهد بن علي تظهر لنا حجم الكارثة التي ألحقتها سياسات هذا الديكتاتور بالبلاد ومستقبلها ومستقبل شعبها.
لم يكن نظام بن علي فقط نظاما قمعيا بوليسيا ديكتاتوريا فاسدا،صادر حقوق شعب بالكامل لصالح أقلية لا تشبع من تجميع الثروة بكل الطرق، لقد كان أكثر من كل ذلك .لقد تعدى نظام بن على كل هذا ليصادر مستقبل شعب تونس ويرهنه لعقود في قبضة المؤسسات المالية والبنوك الدولية.
قبل 7 نوفمبر 1987، لم تكن تونس بلدا غير مدين، ولكن الدراسات تبين أن حجم المديونية ولئن كان ثقيلا ، في ظل النظام البورقيبي ، فإنه أصبح كارثيا في عهد بن علي، ولعل نظرة لمؤشّر الدّين بحساب السّاكن ونسبة الارتفاع التي عرفها، يعطينا فكرة عما آل إليه الوضع في عهد الديكتاتور. لقد ارتفع هذا المؤشر من 90 دينارا سنة 1986 إلى 383 دينار سنة 2006 وهو ما يعني أن عبء خدمة الدين تضاعف بالنسبة للساكن 4,2 مرّة خلال عشريتين. حسب إحصائيات البنك المركزي التونسي بلغ إجمالي دين تونس 57,8 مليارا سنة 2006 وهو ما يمثل 140,4٪ من الناتج الداخلي الخام.
وتبرز الدراسات أن الدولة في تونس تعتبر أهم مدين في مجال المديونية الخارجية، حيث تختص الإدارة العمومية بنسبة 67,5 ٪ من مجمل الديون والشركات العمومية بنسبة 24,4 ٪ ، في حين تقتصر حصة الشركات الخاصة على 8,1 ٪ « من ناحية أخرى يُبيّن تطوّر هيكلة قائم الدّين الخارجي حسب طبيعة الدّائنين خلال العقدين الأخيرين تَدَعُّمَ مكانة الدّائنين الخواصّ حيث ارتفعت حصّة أسواق رأس المال الدوليّة من 36٪ سنة 1986 إلى 43٪ سنة 2006، كما تراجعت في الوقت نفسه حصّة مصادر الدّين العُموميّة من قائم الدّين الخارجي الإجمالي من 64٪ إلى 57٪. ، كما يضاف إلى ذلك التقدّم الملحوظ لحصّة القروض قصيرة الأمد التّي ارتفعت من 3,7٪ سنة 1986 إلى 18,1٪ سنة 2006.
زيادة على ذلك، يُؤدّى تدعيم مكانة الأسواق الماليّة في إجمالي قائم الدّين إلى الزّيادة الهامّة في حصّتها في خدمة الدّين من 4,7٪ سنة 1997 وإلى 31,2٪ خلال سنة 2006، ممّا يؤكد بدوره نزعة شروط المديونيّة الخارجيّة التّونسيّة نحو التّدهور.
أخيرا، يتحكّم أربعة دائنين لوحدهم بما يقارب 66٪ من قائم الدّين متوسّط وطويل الأمد سنة 2006 وهم على التّوالي: الأسواق الماليّة بنسبة 30,2٪ والدّولة الفرنسيّة بنسبة 13,8٪ والبنك الإفريقي للتنمية بنسبة 11,8٪ وأخيرا البنك العالمي بنسبة 10٪.» [6]
تؤكد تقارير البنك المركزي التونسي وتقارير المؤسسات الدولية حول المديونيّة أن قروض تونس قد بلغت من سنة 1986 إلى سنة 2006 مبلغ 32,4 مليار دولار، في حين أنها سدّدت وفي نفس الفترة وبعنوان خدمة الدين مبلغ 36,2 مليار دولار، وهو ما يعني أنها سدّدت أكثر مما تلقت وهذا ليس له إلا حقيقة واحدة ،وهي أن تونس كانت هي التي تموّل المؤسّسات والأسواق المالية الدولية المانحة للقروض، فهي ولعدم قدرتها على سداد ديونها من محاصيلها الجبائيّة تلجأ للاقتراض دوما من جديد لتسديد هذه الديون التي يكبر حجمها باستمرار.
لقد دفع ذلك نظام بن على إلى الترفيع في مداخيل الدولة عبر إعادة هيكلة نظام الجباية والترفيع فيها محملا الأجراء والطبقات الشعبية أعباء جبائية كانت دوما تكبر، وقد مكنت هذه السياسة من مضاعفة قيمة موارد الجباية بعنوان الأداء المباشر 2,6 مرّة ، لترتفع بذلك من 1109 مليون دينار إلى 3107 مليون دينار ما بين 1997 و2006 ، كما تطوّرت أيضا الضريبة الوسطى على الأجور و التي ارتفعت من 8,2٪ سنة 1995 إلى 10,1٪ سنة 2000 ثمّ إلى 11,1٪ سنة 2004.
لقد أدّت سياسة التداين ومراجعة نظام الجباية إلى تدهور مستمر للمقدرة الشرائية للإجراء وفئات الشعب الفقيرة، وإلى حالة من تعميم التفقير بلغت أعلى درجاتها خصوصا في الجهات الداخلية التي كانت تعاني أساسا من انعدام التوازن في التنمية ومن البطالة والتفقير منذ العهد البورقيبي.
تدحض كل الأرقام والنسب في علاقة بالدين أو بخدمة الدين الزعم الذي ظلت سلطة بن على تردده من أن الاقتراض موجه لتفادي النّقص الهيكلي للادّخار المحلّي، ولهدف تمويل المشاريع التنموية والنهوض بالاستثمار في القطاعات الاقتصاديّة الإستراتيجية وفي قطاعات تحظى بأولوية مثل قطاع الصحة وقطاع التعليم ... إلخ.
لقد تبين أن سياسة التداين لم تساهم إلا في تعميق الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد التونسي الناتجة عن ارتهانه باقتصاد السوق وبنظام العولمة الليبرالية فخدمة الدّين قد اتخذت الأولويّة وطيلة حكم الدكتاتور بن علي على حساب تنمية المجتمع. وتواصل ذلك حتى خلال الثلاثية الأولى من سنة 2011 حيث دفعت تونس مبلغ 135 مليون دولار "وفاء بالتزاماتها الخارجية".
إن ذلك لتؤكده المقارنة لما يتطلّبه تسديد خدمة الدّين مع كُلفة الاستثمار العُمومي. لقد ارتفعت خدمة الدين مُقارنةً بمبلغ الاستثمار العمومي من 2,5 سنة 1986 إلى 4,2 سنة 2006 وهو ما يعني أن خدمة الدّين تُكلف أربعة أضعاف قيمة الاستثمار العُمومي العام . وهو ما يبين إلى أيّ مدى يقع استنزاف المحاصيل المالية العمومية لصالح خدمة الدين وتحويل وجهة هذه المحاصيل نحو الرّأسمال الخارجي.
في الأخير يمكن القول أن سياسات نظام بن علي التي تبنت برنامج الإصلاح الهيكلي ونفذته وفتحت الأبواب للاستثمار الأجنبي إضافة إلى إغراق البلد في الديون وترك المجال واسعا لمافيا المال والفساد للتحكم في التوجهات الاقتصادية من أجل مراكمة الثروات الخاصة بكل الطرق، يضاف إلى ذلك تصاعد النفقات على أجهزة القمع لسلطة بوليسية، كانت السبب الموضوعي الذي هيّأ للاحتجاجات والانتفاضات التي تواترت في نهاية حكمه والتي وصلت إلى الإطاحة به يوم 14 جانفي 2011.

4 ـ تواتر الاحتجاجات الاجتماعية
لم تمنع سياسة القبضة الحديدية والقمع المعمّم التي سادت طيلة فترة حكم الديكتاتور بن على، الحركة الشعبية بمكوناتها السياسية والنقابية والشبابية والمهنية والجمعياتية من معارضة السياسات القائمة، بحيث لم تخل فترة وعلى امتداد ثلاثة وعشرين سنة من النضال على هذا المستوى. وقد خضع هذا النضال بالطبع إلى موازين القوى بين المعارضة بصفة عامة والسلطة.
إننا نؤكد على هذا المعطى، لأننا نريد أن ندحض الفكرة المنتشرة كثيرا وخصوصا خارج تونس والتي لم تكن ترى من معارضة لنظام بن علي غير حركة النهضة .
صحيح أن الفترة الأولى من حكم الديكتاتور تميزت باستقطاب ثنائي (السلطة ـ حركة النهضة)، إلا أن ذلك لا يجب أن يحجب نضالات الأحزاب والمجموعات السياسية الأخرى و الحركة الشعبية ككل والتي لم تتوقف في أي فترة حتى أثناء فترة هذا الاستقطاب.
قمع نظام بن على لم يستثن أي من معارضيه ، فكما تعرضت المعارضة الإسلامية للقمع، فإن كل فصائل المعارضة الديمقراطية واليسارية قد تعامل معها الديكتاتور بنفس الأسلوب وقمعها بنفس الوسائل.
لقد قمع نظام بن على منظمات اليسار الثوري (منظمة الشيوعيين الثوريين ـ حزب العمال الشيوعي التونسي) حيث عرف هذان التنظيمان محاكمات متعددة لمناضليهما تواصلت مع حزب العمال الشيوعي التونسي حتى السنوات الأخيرة من حكم الديكتاتور. كما منع نظام بن علي النشاط على الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في فترات متعددة ونكّل بمناضليها، وكذلك فعل بمناضلي الإتحاد العام لطلبة تونس. قمع نظام بن على امتد كذلك ليشمل عديد الشخصيات اليسارية والديمقراطية الناشطة في المجال السياسي والحقوقي والنقابي والذين لفق لهم التهم والمحاكمات وحاصرهم في آرائهم ونشاطهم كما في لقمة عيشهم.
قد يبدو الحديث عن مقاومة الحركة الشعبية لسياسة بن على خصوصا أثناء العشرية الأولى للانقلاب من قبيل تضخيم الأمور وإعطاء دور مبالغ فيه للحركة الشعبية. إلا أن هذا الرأي تدحضه الوقائع ؛ فمقاومة العمال للخصخصة وللتفويت في مؤسسات القطاع العام، ولئن لم تتخذ طابعا شموليا ولم تتوسع ولم تنخرط فيها الطبقة العاملة ككل انخراطا مكثفا، فإن عديد المعارك قد سجلت في مواجهة برنامج الخصخصة وضد التسريح، وهي معارك كانت متقدمة من حيث الأشكال النضالية.
لقد لجأ عمال عديد المؤسسات والمصانع إلى افتكاك معاملهم والاعتصام بها رافضين عملية التفويت فيها ومدافعين عن حقهم في الشغل، كما لجأ عمال مصانع أخرى إلى الإضراب وقد تواصلت هذه الأشكال من المقاومة فترة طويلة، إلا أنها وبرغم أصالتها، فهي لم تتوسع ولم تتحول إلى حركة شاملة بمقدورها تحقيق نجاحات وإسقاط مشروع الإصلاح الهيكلي. وقد لعبت بيروقراطية الاتحاد العام التونسي للشغل دورا كبيرا لإخفاق هذا التوجه النضالي لصالح السلطة التي استعملت كل الوسائل بما فيها القمع لحل هذه الاعتصامات وفرض الحلول التي خططت لها.
شغيلة القطاع العمومي وعبر نقاباتهم وخصوصا في قطاع البريد والمواصلات وفي قطاع التعليم بأصنافه الثلاثة (الابتدائي والثانوي والعالي ) وقطاع الصحة وقطاع الضمان الاجتماعي كان لهم أيضا دور كبير في خوض نضالات وإضرابات على امتداد فترة حكم الديكتاتور، دفاعا عن أوضاعهم في مواجهة التدهور الحاصل في مقدرتهم الشرائية والناتج عن الارتفاع الجنوني للأسعار وارتفاع نسب الضرائب على أجورهم، كما على سياسة الخصخصة المتبعة في هذه القطاعات وتدهور الخدمات بها.
قطاع الشباب كان له دور أيضا بوصفه أحد مكونات الحركة الشعبية منذ تنامي معضلة بطالة حاملي الشهائد وفشل كل مشاريع السلطة الكاذبة للحدّ من عدد البطالين من هذه الشريحة.
لقد شهدت الساحة وخصوصا في العشرية الأخيرة، نضالات متنوعة للمعطلين عن العمل تحت شعار العمل استحقاق والعمل حق لابد من إفتكاكه، كما تمكنوا من تأسيس منظمة اتحاد أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل سنة 2006، وهو اتحاد منعته السلطة ولم تمكنه من العمل القانوني، ولكنه وبرغم ذلك نظم أكثر من 206 احتجاجا ضد البطالة والتهميش وقمع الحريات، جوبهت كلها بالقمع والتنكيل من قبل جهاز قمع بن علي .
مقاومة سياسة القمع والنهب والاستغلال ومصادرة الحريات التي فرضها بن على لم تتوقف على هذه المكونات، لقد كان أيضا للشبيبة الطلابية والتلمذية ولعديد الجمعيات المهنية والحقوقية دور مهم في الدفاع عن حق التعبير والتنظم ومعارضة نهج الاستغلال والقمع الذي فرضه نظام بن علي على المجتمع ككل.
لقد أدت كل هذه النضالات، إضافة لعوامل أخرى، إلى توسيع دائرة الفراغ من حول سلطة بن على وإلى تنامي الغضب الجماهيري على نظامه الفاسد، هذا الغضب الذي سينفجر في الثلاث سنوات الأخيرة من حكم الديكتاتور في انتفاضات واحتجاجات جماهيرية ستعرفها خصوصا الجهات الأكثر فقرا وحرمانا.
سنة 2008 سيواجه بن علي أقوى وأطول احتجاج على الإطلاق منذ توليه السلطة إثر انقلابه في 1987.
في جانفي 2008، انطلقت الشرارة الأولى لانتفاضة بلدات الحوض المنجمي في الجنوب الغربي للبلاد التونسية، والتي بدأت باحتجاج نظمه بعض شباب بلدة الرديف من أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل، ضد المحسوبية والارتشاء والاستبعاد الذي مورس ضدهم أثناء انتداب للعمل بشركة فوسفاط قفصة، تحول في ظرف أيام إلى حركة اعتصامات متواصلة شملت كل البلدات المنجمية (المظيلة ـ أم العرائس ـ الرديف المتلوي).
لم تمض أيام، وأمام تجاهل السلط المحلية والمركزية لمطالب المعتصمين، حتى تحولت الاعتصامات التي نظمت في دور الاتحادات المحلية للاتحاد العام التونسي للشغل بتنسيق من النقابيين، إلى انتفاضة شاملة انخرط فيها كل مواطني البلدات المنجمية المفقرين ضد سياسات الدولة ورأس المال، وضد الحيف الاقتصادي والاجتماعي الذي ترزح تحته هذه المنطقة والمتواصل منذ الفترة الاستعمارية المباشرة .
إن انتفاضة البلدات المنجمية لم تكن غير الرد الذي يجب أن يكون على نظام بن علي وسياساته التي لم تول اهتماما لهذه الجهة ولسكانها . ولم يكن إلا تعبيرا منهم عن رفضهم لعملية استغلال بشعة ظلت مسلطة عليهم و مستمرة منذ أكثر من قرن من قبل شركة فوسفاط قفصة ومن الشركات التي سبقتها والتي اختصت في استخراج ونقل مادة الفوسفاط، وهي كذلك نتيجة لسياسة الحيف والحرمان الذي سلِّط على هذه الجهة وعلى متساكنيها من قبل الدولة.
منطقة الحوض المنجمي المحرومة من مشاريع التنمية، والتي يعاني أغلب مواطنيها (113452 ساكنا) من وطأة البطالة والتهميش، والتي تمثل نسبة معدل الدخل الفردي لمتساكنيها أضعف نسبة مقارنة بغيرها من المناطق وخصوصا المناطق الساحلية، هي المنطقة التي جعلت من تونس خامس بلد عالميا من حيث إنتاج الفوسفاط، وهي التي مكنت المجمع الكيماوي الذي يحول نسبة 90 ٪ من إنتاج شركة فوسفاط قفصة من تحقيق رقم معاملات سنوي مقدر بـ: 980 مليارا ومرابيح مقدرة بـ: 174 مليارا ، وهي أيضا المنطقة التي تمكّن شركة فوسفاط قفصة من تحقيق 47 مليارا كمداخيل صافية كل سنة.
مواطنو الحوض المنجمي هؤلاء، الذين تناستهم الدولة، والذين بقوا خارج دائرة التنمية، لم يعودوا يستحملون وضعهم بعد أن سدّت كل منافذ الحياة الكريمة في وجوههم، لقد أثقل الحرمان والخصاصة والفقر كاهلهم نتيجة سياسة التغييب والاقصاء والتوزيع غير العادل للثروة الوطنية، فانتشرت البطالة في صفوفهم، وانتشر الفقر والحرمان، ولم يبق لهم من مخرج غير التحرك للمطالبة بحقهم في الشغل وفي الحياة.
22518 عائلة في هذه المنطقة أغلبها لا دخل قار لها، و حتى العائلات التي تحوز دخلا ما، فهو بطبيعته لا يمكّن من تلبية الحاجات الأساسية لهذه العائلة من غذاء وتداوي وغيره. أما عمال شركة فوسفاط قفصة أو عمال البلديات والحظائر فأجرة العامل منهم بدورها، وإن كانت بحدّ ذاتها لا تكفي لتجديد قوة عمل هذا العامل مع من يعوله من أفراد أسرته الذين لم يبلغوا بعد سن العمل والذين هم في كفالته، أصبح جزء منها يذهب أيضا لإعالة بعض أفراد هذه الأسرة الذين أكملوا دراستهم وبقوا معطلين أو ممن انقطعوا عن التعليم ولم يتمكنوا من ولوج دورة الإنتاج .
إن هذا الواقع الصارخ والأليم ترجع المسؤولية فيه إلى السلطة وإلى سياساتها الاقتصادية الكارثية المملاة من البلدان الإمبريالية ومن كبرى الشركات العابرة للحدود، والتي لا يهمّها غير الربح والمزيد من الربح.
إن منطقة الحوض المنجمي رغم ما وفّرته وما توفره من ثروة للبلاد متأتية من عائدات الفوسفاط منذ ما يزيد عن القرن بقيت من أكثر المناطق إهمالا من قبل الدولة. (نسبة بطالة مرتفعة خصوصا في أوساط الشباب ـ فلاحون في الأرياف فقراء معدمون لا دخل لهم ـ عمال المناجم يرزحون تحت وطأة الاستغلال الفاحش لشركة فوسفاط قفصة ـ أرامل لا سند لهن ـ خدمات اجتماعية وصحية دون الحد الأدنى ـ سلط إدارية تتجاهل احتياجات مواطنيها ـ تفقير وتهميش لا مثيل له ـ تلوث حاد...).
كانت هذه هي الأسباب الكامنة لانتفاضة مواطني الحوض المنجمي، لذلك لم يكن إضراب الجوع والاعتصام الذي انطلق فيه بعض شباب بلدة الرديف بمقر الاتحاد المحلي للشغل والذين لم يقع انتدابهم للعمل إثر الإعلان عن نتائج المناظرة التي قامت بها شركة فوسفاط قفصة، إلا القطرة التي أفاضت الكأس لتنتفض كل البلدات المنجمية، ويتحول الاعتصام إلى احتجاج عارم وإنتقاضة استمرت ستة أشهر ضد واقع البؤس الاجتماعي والاقتصادي التي يستفحل يوما بعد يوم، وضد الأوضاع المعاشية المتردية التي تعاني منها الأغلبية الساحقة من مواطني هذه البلدات.
احتجاج مواطني الحوض المنجمي ونضالهم ، ورغم الطابع العفوي الذي كان عليه والذي يرجع إلى عوامل موضوعية وذاتية متعلقة بواقع الحركة العمالية والشعبية في تونس ككل، أبرز وجها لوجه طرفين في الصراع.
الطرف الأول تمثله أغلبية مواطني الحوض المنجمي وعلى رأسهم البطالون بكل أصنافهم شبابا وكهولا رجالا ونساء وعمال المناجم والبلديات و فئة واسعة من الموظفين من معلمين وأساتذة نقابيين. والطرف الثاني على رأسه السلطة المحلية وكل أعوانها وممثلو الحزب الحاكم وإدارة شركة فوسفاط قفصة وبعض الفئات المستفيدة من ارتباطها بهذا اللفيف من "وجهاء" العروش ومن بعض النقابيين الفاسدين وذوي الامتيازات والسائرين في فلك بيروقراطية الاتحاد العام التونسي للشغل.
قطبا التناقض هذا كانا وجه لوجه طيلة أكثر من 180 يوما، لقد كشف هذا الصراع فشل السياسات الرسمية في المجال الاقتصادي والاجتماعي وإخفاق سياسات التنمية المتبعة، والتي لم تنتج غير المزيد من مراكمة الفقر والتفقير والتهميش ومضاعفة الاستغلال في صفوف الطبقات الشعبية ليس في منطقة الحوض المنجمي فقط، بل في البلاد كلها، وهو وضع لا يمكن لسياسة السلم الاجتماعية التي فرضها نظام الدكتاتور بن علي على المجتمع أن تخفيه.
لقد تفاجأت السلطة باستمرار الانتفاضة وإصرار مواطني الحوض المنجمي على تحقيق مطلب الحق في الشغل وفي حياة كريمة، التي لم تكن تقدّر وعند انطلاق الاحتجاجات في الأيام الأولى، أنها ستتطور بذلك الإصرار والصمود.
ولأنها تعرف أن الأوضاع التي أنتجت احتجاجات مواطني الحوض المنجمي هي نفسها الأوضاع السائدة في أغلب مناطق البلاد وخصوصا في الجنوب والشمال الغربي والوسط وفي المدن الكبرى، ولأنها تخشى انتقال شرارة الاحتجاجات إلى هذه المناطق نظرا للتعبئة الكبيرة التي كان عليها الاحتجاج ولسرعة انتقاله حيث شمل كامل بلدات الحوض المنجمي في أيام قليلة، فقد لجأت السلطة إلى التعتيم على الأحداث ومحاصرتها إعلاميا في محاولة لامتصاص الغضب، وراهنت على عامل الزمن وعلى ما يمكن أن تقدمه السلط المحلية والجهوية من وعود للمحتجين لفك الأزمة والخروج بأخف الأضرار.
رهان سلطة بن علي هذا سقط ، لأنه بمرور الوقت وخصوصا بعد أن تبين المنتفضون أن ما قُدّم من حلول من قبل السلطات المحلية والجهوية أو ما اتخذته السلطة المركزية من إجراءات لا يمكن أن يرتقي إلى معالجة حقيقية لأوضاعهم.
وأمام تواصل الانتفاضة وتحذرها وصمود الأهالي لأشهر، لم يكن لسلطة بن على من حل سوى خيار القمع وإخماد صوت المحتجين بالقوة، خصوصا بعد أن ظهر أيضا أن مساندة الانتفاضة من قبل الحركة السياسية بأحزابها ومنضماتها المهنية وجمعياتها الحقوقية بقيت ضعيفة ومحدودة ولم ترتق إلى المساندة المنشودة وبعد الموقف الخياني الذي اتخذته بيروقراطية الاتحاد العام التونسي للشغل والذي ساند سلطة بن على، لا بل أعطاها الضوء الأخضر لبدء مرحلة القمع بتجريد بعض النقابيين الذين أطّروا هذه الانتفاضة، وعوض الاستماع إلى مطالب المحتجين، وطرح ملف التشغيل وملف التنمية الجهوية ونصيب تلك الجهة من خيرات البلاد وتلبية مطالب الأهالي، رفضت السلطة ذلك، وخيرت الحل القمعي والترهيب، فعزلت المنطقة وحاصرتها بأعداد غفيرة من قوات البوليس والجيش، وبدأت في تصعيد المواجهة مع المواطنين المنتفضين شيئا فشيئا إلى أن بلغ هذا التصعيد والقمع والترهيب ذروته في شهر جوان 2008 حيث داهمت قوات البوليس والجيش البيوت ونكّلت بالمواطنين مستعملة كل وسائل القمع بما في ذلك إطلاق الرصاص الحيّ، وأتبعت ذلك بحملة اعتقالات واسعة لرموز هذه الانتفاضة وقياداتها وللعديد من المواطنين الذين أرادت التنكيل بهم ومعاقبتهم، لتبدأ فيما بعد في تنظيم محاكمات جائرة لهم استمرت أشهرا كانت آخرها محاكمة 4 فيفري 2009 التي أصدرت أحكاما ثقيلة في حق قيادات انتفاضة البلدات المنجمية مخلفة موجة استياء واسعة داخل المجتمع المدني والسياسي وطنيا ودوليا.
لئن كانت الاعتصامات العمالية التي وقعت في بعض المصانع ضد التسريح وهشاشة التشغيل وموجة إضرابات الوظيفة العمومية وإضرابات الجوع و نضالات أصحاب الشهائد المعطلين وكل التحركات التي وقعت قبل 2008 ، قد عبرت بشكل محدود عن رفض الجماهير لسياسة الاستغلال الطبقي والتفقير والبطالة والتهميش والقمع بكل أنواعه والذي مارسته سلطة بن على بشكل مكشوف، فإن انتفاضة الحوض المنجمي، كانت الحدث الأكثر دلالة وعمقا على هذا الرفض، ويمكن القول أنها مثلت نقلة نوعية في النشاط الجماهيري منذ تولي بن على السلطة في 1987، سواء من حيث الأشكال النضالية والتعبئة الشعبية وجماهيرية الحركة أومن حيث المطالب والشعارات التي رفعت.
وقد برز ذلك في:
أولا: انتفاضة الحوض المنجمي مثلت سواء من حيث أشكال النضال أومن حيث المطالب التي رفعها المنتفضون، تجاوزا جذريا لأشكال النضال وللأرضية المطلبية التي انصرفت إليها المعارضة اليسارية والديمقراطية التي انكفأت على النضال على واجهة واحدة هي واجهة النضال الحقوقي والإنساني برغم أهميتها.
ثانيا: برغم محليتها وانطلاقتها العفوية، أعادت انتفاضة المناجم إلى الواجهة أهمية المقاومة ضد الاستغلال والتفقير والقمع ومصادرة الحريات عبر الانخراط في أشكال النضال الجذرية والقطع مع الاستكانة والخنوع، وقد لمسنا ذلك لدى مواطني الحوض المنجمي والذين توصلوا بأنفسهم وعن طريق تجربتهم الخاصة وفي غياب أي تأثير من أي حزب أو تنظيم سياسي مهما كانت مشاربه، إلى ما يمكن أن تمنحه هذه الأشكال الجذرية من قدرة للجماهير عندما تنخرط فيها على الصمود والمقاومة. إن هذا الوعي هو الذي جعل من انتفاضة المناجم انتفاضة مستمرة لأكثر من ستة أشهر برغم كل أشكال العسف والترهيب والمحاصرة.
ثالثا: انتفاضة الحوض المنجمي أحيت من جديد راية النضال على المطالب المباشرة للجماهير الشعبية، هذا البعد النضالي الذي غاب خلال عشريتي حكم بن علي بفعل سياسة المشاركة التي أنجرّ إليها الاتحاد العام التونسي للشغل، وبفعل عدم مراهنة المعارضة الديمقراطية بمختلف مكوناتها بما في ذلك جناحها اليساري على طرح الملف الاجتماعي وخوض نضالات على مستوى هذا السقف.
رابعا: التعبئة الجماهيرية والمشاركة المواطنية الكثيفة في الانتفاضة، والدور الذي لعبه العمال والشبيبة المعطلة والفلاحون الفقراء ومستخدمو الدولة، والنساء سواء العاملات منهن أو ربات البيوت، وأشكال النضال المتنوعة التي ابتدعها المواطنون (إضرابات الجوع ـ الاعتصامات ـ المظاهرات ـ نصب الخيام في الساحات والشوارع وفي الطرق وأمام شركة فوسفاط قفصة رمز الاستغلال في الجهة والمرابطة فيها أياما ـ الاعتصام والمرابطة أمام مقرات السلطة المحلية والوعي بضرورة الاستمرار في هذه الأشكال النضالية واندماج النقابات المحلية في الانتفاضة وانخراط النقابيين الكفاحيين في الجهة بكل شجاعة ومسؤولية في وقيادة التحركات الشعبية وتأطيرها...) أسقط ذلك الرأي التبريري السائد في صفوف المعارضة الديمقراطية وفي صفوف مكونات جناحها اليساري بكل تلويناته، والذي مفاده أن هذه المعارضة لا يمكن لها أن تقدّم أكثر مما تقدمه في ظل القمع السائد وسياسة القبضة الحديدية لنظام بن علي وفي ظل غياب الوعي في صفوف الشعب وكأن مهمة توعية الشعب والرقي بأشكال نضاله ليست مهمة ملقاة على عاتقها.
خامسا: بينت الانتفاضة أيضا أن غياب القوة السياسية القادرة على قيادة الجماهير المنتفضة لم يعق نضال مواطني هذه البلدات، فقد تجاوز المنتفضون هذا الضعف الذاتي سريعا وأفرزت الانتفاضة ومنذ أيامها الأولى قواها المنظمة والموجهة (لجنة التفاوض) والتي هي في الحقيقة ليست لجنة تفاوض فقط وإنما كانت لجنة شعبية كفاحية وميدانية نظمت وأطرت معركة أهالي الحوض المنجمي من أجل الشغل ومن أجل حقهم ونصيبهم من ثروات بلادهم ، وهو معطى بيّن وبالملموس أن انتفاضة الحوض المنجمي عمليا وعلى صعيد المطالب التي رفعتها أو على صعيد أشكال النضال التي ابتكرتها وانخرطت فيها الجماهير المنتفضة أو على صعيد قدرة هذه الجماهير على التنظم الذاتي كانت متقدمة أشواطا على جميع الأحزاب والمنظمات وخصوصا تلك التي تطرح نفسها كقوى تغيير جذري و تعتبر نفسها ممثلة للجماهير ومدافعة عنها.
سادسا: نشاط الجماهير في الحوض المنجمي أشّر كذلك لما للجماهير من إمكانات غير محدودة للمقاومة والنشاط عندما تفقد ثقتها في السياسات القائمة وعندما تجد من النخب من يساعدها على التخلص من ترددها وخوفها وينخرط معها وفي طليعتها من أجل تحقيق مطالبها المباشرة. (والكلام هنا موجه عموما للمعارضة الديمقراطية وتحديدا لمكونات جناحها اليساري الذي عجز وعلى امتداد خمسة أشهر عن تنظيم مساندة نشيطة وفعالة لهذه الانتفاضة تتجاوز إصدار البيانات والخطابات في الفضاءات المغلقة). كما بينت الانتفاضة أيضا أن الجماهير يمكن وفي كل لحظة من اللحظات، أن تتحرر من خوفها من جبروت السلطة وأجهزة الدولة القمعية متى آمنت هذه الجماهير بقوتها واتحدت على مطالبها، وهو وعي ليست الجماهير في حاجة لأن تقرأه في الكتب والبيانات، إنه وعي لا يحصل إلاّ بالممارسة الميدانية ولا يكتسب إلاّ في الشارع بالتّمرّس على إفتكاك الحقوق، هذه اللحظة الفارقة في الوعي والممارسة حصلت لجماهير الحوض المنجمي وخصوصا في بلدة الرديف، حيث تحولت الجماهير هناك بالفعل إلى كتلة متراصة يصعب هزمها أو تركيعها.
في الأخير يمكن القول أن انتفاضة الحوض المنجمي، ولئن انحصرت ولم تتوسع لتشمل كامل الجهات لعدة أسباب ووقع قمعها بشدة، فإن تأثيرها كان كبيرا خاصة وأنها قد حظيت بتغطية إعلامية واسعة محليا ودوليا برغم محاولات التعتيم عليها من قبل نظام الدكتاتور . لقد ساهمت في كسر واقع الخوف المستبطن بالجماهير، وقدمت دروسا كبيرة في أشكال المقاومة المواطنية وفي الصمود والكفاحية للحركة الشعبية ستتجلى فيما بعد وبعد مدد قصيرة في انتفاضات محلية ( فريانة ـ السخيرة ـ بن قردان...الخ ) ليتوج المسار في 17 جانفي 2010 بانتفاضة سيدي بوزيد التي تخطت معوقات الانتفاضات المحدودة السابقة بما فيها انتفاضة البلدات المنجمية، وتوسعت وشملت البلاد، كلها في أسابيع معدودة وكانت الشرارة التي ألهبت بركان الغضب الشعبي الذي ظل كامنا سنوات واستفاق لتخطّ الجماهير، وعلى امتداد البلاد، ملحمة نضال وصمود فريدة من نوعها هي ملحمة ثورة الحرية والكرامة التي أطاحت بالدكتاتور بن على وكان لها تأثير كبير في إيقاظ وعي الجماهير العربية (مصر ـ اليمن ـ ليبيا ـ سوريا ) ودفعها للثورة لإسقاط الديكتاتوريات الفاسدة في هذه البلدان.
ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ

هوامش الفصل الثاني
[1] صندوق النقد الدولي وبلدان الجنوب ط1 مركز البحوث العربية القاهرة 1993 ص47
[2] عن دوريّة البنك المركزي التّونسي لشهر سبتمبر 2008 ـ مخاوف الحكومة من تأثر الاقتصاد التونسي بالأزمة الاقتصادية العالمية
[3] دراسة بعنوان تونس: المديونيّة أو التنمية؟ فتحي الشامخي أستاذ وباحث بقسم الجغرافيا بكليّة الآداب والفنون والإنسانيّات بتونس.
[4] أنظر الدراسة التي أنجزها الإتحاد العام التونسي للشغل إشكالية التخصيص والتنمية ـ التجربة التونسية نموذجا تونس 2001 .
[5] المصدر السابق
[6] دراسة بعنوان تونس: المديونيّة أو التنمية؟ فتحي الشامخي أستاذ وباحث بقسم الجغرافيا بكليّة الآداب والفنون والإنسانيّات بتونس.
ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ

الفصل الثالث
إنتفاضة سيدي بوزيد تتحول إلى ثورة

1 ـ انتفاضة سيدي بوزيد تطلق شرارة ثورة الحرية والكرامة
سيكتشف العالم منذ يوم الجمعة 17 ديسمبر 2010 اسمين كانا إلى ذلك التاريخ مغمورين وعلى الهامش.
الأول اسم لمدينة ظلت على هامش الخارطة الاجتماعية الاقتصادية لدولة الاستعمار الجديد دولة الدكتاتورين الحبيب بورقيبة وبن علي، اسمها سيدي بوزيد. والثاني اسم لشاب يدعى محمد البوعزيزي مرتبط اسمه بهذه المدينة وكانت سنوات حياته إلى ذلك التاريخ سنوات من جمر.
سيدي بوزيد ومحمد البوعزيزي كلاهما احترق يوم 17 ديسمبر 2010 .
محمد احترق بإضرام النار في جسده كتعبير منه عن رفضه لواقع البؤس والتهميش والإبعاد. وسيدي بوزيد احترقت غضبا وتمردا ورفضا لسياسة الجنرال بن على سياسة القمع والتجويع والاستبداد والفساد.
احتراق محمد أدّى به إلى الموت يوم 4 جانفي 2011 متأثرا بحروقه حسب ما أعلنت السلطة ليتحول إلى رمز لكل الثائرين والواقفين على الجمر من البسطاء المقهورين المفقرين المهمشين من أبناء الطبقات الفقيرة المستغَلة والمعدَمة المُحاربَة في لقمة عيشها والرازحة تحت وطأة الاستغلال والقمع بمختلف أشكاله ليس في تونس فقط بل في كل العالم.
أما احتراق سيدي بوزيد فقد أدّى إلى إشعال شرارة المقاومة في كامل تونس من شمالها إلى جنوبها ومن غربها إلى شرقها مقاومة كانت رايتها الدفاع عن الحرية والكرامة والحق في الحياة ضد الاستبداد والفساد وسلطة العصا الغليظة التي كان يحكم بها الديكتاتور بن علي.
شرارة المقاومة وتأثيرات ثورة الحرية والكرامة لم تتوقف عند حدود تونس لقد تجاوزت تأثيراتها حدودها إلى أقطار عديدة في المنطقة العربية إيذانا بأن عصر الثورة العربية قد بدأ وأنه ليس بحلم بعيد المنال.
إحراق محمد البوعزيزي لجسده كان الشرارة التي لابد منها كما في كل ثورة، لتعلن أن التراكم قد بلغ أقصاه، وأن مرحلة صعود واحتداد في الصراع الطبقي قد بدأت، وأنه سيُعبَر عن هذا الصراع بشكل مكشوف في معارك فاصلة فتندفع الجماهير إلى خوض معركتها ضدّ مستغليها وقامعيها متخلصة من خوفها المستبطن مدافعة عن حقها في الحياة واعية بقوتها تدريجيا ولا تتوقف في صراعها دون أن تبلغ هدفها المباشر: إسقاط نظام الاستبداد والفساد.
هكذا انطلقت ثورة الحرية والكرامة. فمن حادثة البوعزيزي وانتفاض مدينة سيدي بوزيد، تطورت الأوضاع بسرعة لتتحول الاحتجاجات والمعارك ضدّ نظام بن على الديكتاتوري البوليسي إلى ثورة شاملة أطاحت بالديكتاتور في أيام معدودة.
محمد البوعزيزي المولود في عائلة تتكون من تسعة أفراد أحدهم معوق. توفي أبوه وعمره ثلاث سنوات فتزوجت بعده والدته من عمه المريض وغير القادر على العمل. تلقى محمد تعليمه في مدرسة سيدي صالح القريبة من مسقط رأسه ولكنه نظرا للعوز الذي عليه أسرته اضطر للعمل وهو في العاشرة من عمره وانقطع عن الدراسة في نهاية المرحلة الثانوية. تقدم محمد في فترة من عمره بعد بلوغه العشرين للعمل في الجيش وفي وظائف أخرى ولكن دون جدوى. لم يكن الحظ فقط هو الذي يعوزه، لقد كان محمد كما كان الآلاف غيره من شباب تونس، ضحايا معضلة البطالة، ضحايا سياسة بن علي الفاشلة. بعد كل هذا قرّر محمد أن يمتهن بيع الخضر والغلال على عربة يدفعها بساعديه ويجوب بها شوارع مدينة سيدي بوزيد و أزقتها و أحيائها، ليحصل على القليل من المال يخفّف به وطأ احتياجه هو وعائلته. ولكن الدولة وقوانينها وأعوان بلديتها وأعوان تراتيبها استكثروا عليه ذلك. لقد كان لهم موقف آخر مما استقرّ عليه محمد.
منعوه وأمعنوا في إذلاله وطاردوه في لقمة عيش بسيطة يحصل عليها بمجهوده، بتعلة مخالفة التراتيب والقوانين البلدية، فكثفوا لديه الإحساس بالعجز أمام دولة الاستبداد وأدوات قمعها وذراعها الطويلة قوانينها وموظفوها، فكبرت نقمته وأصبحت بركان غضب قابل للانفجار في كل وقت.
وكانت القطرة التي أفاضت الكأس وفي ردة فعل ناتجة عن كل ذاك المخزون من القهر والحرمان والإذلال، يسكب محمد البوعزيزي البنزين على جسده ويشعل النار في جسمه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد رمز سلطة الاستبداد والفساد جهويا، فيحترق موجها بذلك رسالة لسلطة بن على، فحواها:
قد يبدأ الحريق من هنا، وإن بدأ فلن يكون لك القدرة على إطفائه لأنه سيتوسع وسيحيط بك من كل جانب وسيعصف بك ويكنسك.
وفعلا فقد بدأ الحريق من هناك.
لم تكن جهة سيدي بوزيد وعبر كل تاريخها الحديث بأفضل حال من محمد البوعزيزي. هي "قَمُودَة" كما كانت تعرف في السابق وسيدي بوزيد كما أصبحت منذ سنة 1973 وهي مركز ولاية سيدي بوزيد، يسكنها حسب المسح السكاني لسنة 2007 حوالي 402500 نسمة موزعين على 12 معتمدية، هي ولاية تقع في وسط البلاد التونسية، وتحدها جغرافيا ست ولايات أخرى تمثل في مجموعها عمق الوسط التونسي، حيث تتشابه الأوضاع في هذه الولايات السبع، من حيث النشاط الاقتصادي وأوضاع السكان، إذ يُعدّ هذا الإقليم من أكبر الأقاليم المتضررة من السياسات المتبعة والتي لم تنتج غير المزيد من الحيف سواء في الحقبة البورقيبية أو مع سلطة السابع من نوفمبر.
بالعودة إلى المعطيات الإحصائية نجد أن ولاية سيدي بوزيد تعتبر على رأس قائمة الجهات التي تعاني من لاتوازنات التنمية فكل المؤشرات تبين أنها الأشد فقرا وأمية وبها أرفع نسب البطالة وأضعف النسب في حجم الاستثمار على إمتداد أكثر من نصف قرن. وبها أيضا أرفع نسب المعطلين عن العمل من أصحاب الشهادات العلمية وثلاث من أفقر ثماني معتمديات بالبلاد وهي المكناسي وسوق الجديد ومنزل بوزيان.
لئن كانت نفس الأوضاع قد فجّرت انتفاضة البلدات المنجمية قبل فترة قصيرة من إنتفاضة سيدي بوزيد، ولئن كانت انتفاضة المناجم حوصرت وقمعها الديكتاتور بن علي قمعا أسود فإن الأمر سيكون مختلفا إبان انتفاضة بوزيد.
ظهر 17 ديسمبر، تجمع مئات المواطنين من سكان مدينة سيدي بوزيد أمام مقر الولاية محتجين و مندّدين بالمعاملة التي عومل بها محمد البوعزيزي من قبل السلطات الجهوية والتي أدت به إلى حرق جسده، كما عبروا عن رفضهم لواقع التهميش ولأوضاع البطالة التي يعاني منها شباب الجهة. رابط المواطنون عشية يوم 17 ديسمبر أمام مقر الولاية كما قضى المئات منهم الليل كله هناك.
احتجاج المواطنين وبتلك الصورة، لم تعره لا السلط الجهوية ولا السلطة المركزية كبير اهتمام. لقد اعتبروا أن ما يحدث ليس إلا ردة فعل فورية ومحدودة سرعان ما ستتلاشى بمرور بعض الوقت خصوصا وأن الحادثة لم تكن الأولى التي تسجل في البلاد، لقد وقعت حوادث عديدة مثلها في السنوات الأخيرة .
قوات القمع والتي كانت مرابطة بالمكان تراقب بعين لا تنام اتجاه الأحداث وتطورها لم يسجل عنها عشيتها ولا أثناء الليل أي تدخل عنيف غير محاولات للتهدئة ومجارات للاحتجاج لم يتعود بها المواطنون من بوليس قمعي فاسد بامتياز مرتش و لا ذمة له، إلا أن التعامل مع الحدث وبتلك الصورة سوف لن يستمرّ أكثر من ساعات قليلة وسينقلب من الغد مباشرة إلى قمع لم تشهد له المدينة مثيلا.
يوم 18 ديسمبر كان يوم سبت، يوم السوق الأسبوعية لمدينة سيدي بوزيد، حيث يفِدُ إليها آلاف المواطنين من أطرافها. يوم السبت هذا سيكون يوما فارقا في تاريخ هذه المدينة.
لم يكن مواطنو سيدي بوزيد يرون في ما قام به البوعزيزي مجرد مأساة فردية لشاب بلغ به اليأس درجاته القصوى، فاختار طريق اللاعودة، فحرَقَ جسده، وبالخصوص بالنسبة لفئة الشباب التي تعاني من البطالة والتهميش والإقصاء مثله.
لقد رأى هؤلاء أن ما وقع قد يكون مصير الكثيرين منهم، وأن ساعة الحقيقة قد حانت ولابد من مواجهة الاختيارات الفاشلة للسلطة.
لقد أصبحت المسألة في أذهان الأغلبية من المواطنين في الجهة مسألة دفاع عن الكرامة وعن الحق في الحياة.
بهذا الوعي، تمكنت جموع المواطنين من تجاوز عامل الخوف المستبطن بنفوسهم والذي كبّلهم سنوات طويلة وأقعدهم عن كل ممارسة للدفاع عن حقوقهم ومواجهة قمع السلطة بكل مظاهره.
صبيحة يوم 18 ديسمبر وفي مشهد لم تألفه المدينة غصّ شارعها الرئيسي لأول مرة في التاريخ بطوفان من المواطنين، كلّهم غضب وتحدّ بأياد مرفوعة ملوحة بشارات النصر وبعزيمة من حديد وحناجر لا تكلّ تهتف «كلنا محمد البوعزيزي».
تجمّعَ المواطنون وساروا في مظاهرة حاشدة وجهتهم مقر الولاية مرددين بصوت واحد.
(الشغل استحقاق يا عصابة السراق .ــ لا لا للاستبداد يا عصابة الفساد ـ يسقط حزب الدستور يسقط جلاد الشعب.)
كتب أحد أبناء الجهة على صفحته في الموقع الاجتماعي فايس بوك يصف أحداث هذا اليوم «...مظاهرات اليوم كانت مظاهرات عارمة شاركت فيها أغلب الشرائح الاجتماعية المفقرة في الجهة، وقد جابت مظاهرة اليوم أرجاء المدينة، ورفع المتظاهرون شعارات منددة بالسياسات القائمة والتي لم تجن منها الجهة ومواطنوها غير المزيد من التهميش والتفقير على غرار أغلب جهات البلاد، وقد رفع المتظاهرون أثناء مسيرتهم شعارات أهمها.
ـ الشغل استحقاق يا عصابة السراق .
ــ لا لا للاستبداد يا عصابة الفساد.
واجهت قوات البوليس المواطنين بالقنابل المسيلة للدموع، ودارت مواجهات مباشرة بينهم وقوات البوليس إلا أن ذلك لم يثن المواطنين عن مواصلة مسيرتهم التي استمرت كامل اليوم.» [1]
يوم 18 جانفي، وأثناء محاصرة المواطنين لمقر الولاية على إثر المظاهرة العارمة التي تحولت إلى اعتصام، تدخل أحد شباب الجهة وألقى كلمة في المحتجين موجها رسالة باسمهم إلى السلطات الجهوية والمركزية قال فيها:« من المعتصمين إلى السيد الوالي ... إلى أعوان الأمن...إننا نريد حياة كريمة، نحن نريد الحدّ الأدنى من متطلبات الحياة... سيدي بوزيد تعيش تحت خط الفقر...».[2]
ولئن لم تتمكن قوات القمع في يوم 18 ديسمبر من تفريق المواطنين برغم شدة تدخلها، فإنها في اليوم الموالي، وبعد وصول تعزيزات كبيرة من تونس العاصمة ومن الولايات المجاورة أحكمت السيطرة على المدينة وأغلقت كل الطرقات المؤدية، لها، إلا أن ذلك لم يثن المحتجين عن الخروج للشارع وتنظيم المسيرات، وقد دارت مواجهات بينهم وبين قوات البوليس التي كان تدخلها عنيفا جدا فوقعت مصادمات وإصابات في صفوف المواطنين، ونقل العديد منهم إلى المستشفى، كما سجل إيقاف أكثر من 50 مواطنا من مختلف الشرائح فيهم من النشطاء السياسيين وفيهم من النقابيين وأغلبهم كان من شباب المدينة المعطّل عن العمل.
في اليومين الثالث والرابع، استمرت الاحتجاجات ولكنها كانت بشكل متقطع نظرا لإحكام البوليس الطوق على المدينة.
شباب المدينة تحديدا لم يثنهم القمع على مواصلة احتجاجاتهم فقد تنظموا في مجموعات وخيروا التحرك ليلا، وقد وقعت مواجهات عنيفة بينهم وبين قوات البوليس في كثير من الأحياء وخصوصا ليلة الاثنين 20 ديسمبر 2010 استعمل البوليس فيها قنابل الغاز المخنق وداهم المنازل وأرهب الأطفال والنساء والرجال والشيوخ.
لئن لم تتحرك السلطة الجهوية يوم 17 وليلة 18 ديسمبر لتطويق الإحتجاجات، وظلت تراقب تطورها موهمة بأن الحدث لا يستحق كل هذا الذي يجري، فإن موقفها قد تغير يوم 18 بعد المسيرة والمصادمات العنيفة والاعتصام الذي نظم عقبها في دار الإتحاد الجهوي للشغل، فأوعزت إلى كاتبه العام والذي هو في نفس الوقت نائب عن الجهة في برلمان الدكتاتور عن التجمع الدستوري الديمقراطي، بأن يعلن عن تكوين لجنة نقابية يرأسها مع بعض النقابيين الموالين له و السائرين في ركابه تطرح نفسها مفاوضا باسم المواطنين المحتجين، في محاولة لإيقاف الاحتجاجات في بدايتها وعند الحدّ الذي بلغته والحيلولة دون تطورها. لقد أرعبت التحركات وصمود المحتجين وإصرارهم رموز السلطة الجهوية والحزب الحاكم، وبالتالي فلابد من المناورة.
لقد كانت أحداث انتفاضة الحوض المنجمي ماثلة أمامهم ولابد من التحرك كي لا يعاد نفس السيناريو.
مناورة السلطة هذه سقطت في الماء منذ ساعاتها الأولى، فلقد أعلن المواطنون أنهم لا يعترفون بهذه اللجنة وأنها لا تمثلهم معتبرين أن غايتها ليست إلا تطويق ردة فعلهم القوية، وقطع الطريق أمام تجذر وتطور تحركاتهم المناهضة للسلطة والرافعة لمطالبهم. ودعوا إلى تكوين لجنة مستقلة من مناضلين ونقابيين مشهود لهم باستقلاليتهم وجرأتهم ونضاليتهم، وممثلين عن المعطلين، تتفاوض بكل ندية مع السلطة وتطالب بتتبع الجناة الحقيقيين والذين دفعوا البوعزيزي إلى الانتحار حرقا، كما تفتح ملف التشغيل ولاتوازن التنمية ومطالب أخرى عديدة تعاني منها الجهة.
دعوة المواطنين هذه سينبثق عنها ومن الغد مباشرة أي يوم 19 ديسمبر، وفي تجمع مواطني عام لجنة تحت اسم "لجنة المواطنة والدفاع عن ضحايا التهميش بسيدي بوزيد"، في نفس اليوم قامت هذه اللجنة بقيادة مسيرة تصدى لها البوليس بكل وحشية لتتحول المسيرة إلى مواجهات عنيفة بين قوات القمع والمحتجين استمرت اليوم كاملا وتواصلت في الليل وشارك فيها كل المتساكنين .
يوم 20 ديسمبر ستعلن هذه اللجنة وفي بيانها الأول عن تركيبتها ومهامها وستعمل وطيلة الأيام الموالية على تأطير الاحتجاجات وتنظيمها والضغط من أجل إطلاق سراح الذين وقع إيقافهم أثناء المسيرات.
تواصلت الإحتجاجات يوم 20 ديسمبر بشكل متقطع، فقد انتشرت قوات القمع في كل شوارع المدينة وأحيائها، وحاصرت مداخلها من كل جهة، وأحكمت قبضتها على السكان. لقد كانت السلطة مصمّمة على التّمادي في القمع والترهيب، ولكن ذلك لم يوقف عزيمة الشباب عن المقاومة، بحيث سجلت خلال هذا اليوم مواجهات ومصادمات كثيرة بين الشباب الثائر وقوات القمع وخصوصا في الليل.
اشتداد حالة الحصار وشدّة القمع الذي كان يواجِه به البوليس المحتجين، زادت الوضع احتقانا داخل مدينة سيدي بوزيد وساهمت في دفع الوضع إلى التفجّر في أغلب بلدات الولاية.
لم يبق المواطن في هذه المعتديات محايدا حيال وضع يدور قريبا منه ومن أجل قضايا ومطالب هو نفسه يتبناها ويرفعها.
لم يكن ينقص الوضع في بلدات كمنزل بوزيان والمكناسي والرقاب وجلمة وبن عون والسبالة وسوق الجديد إلا شرارة لتنفجر هي أيضا وتخوض معركتها مع النظام الفاسد جنبا إلى جنب مع مواطني مركز الولاية.
وكان أن انطلقت الشرارة من بلدة منزل بوزيان يوم 21 ديسمبر.
يوم 21 ديسمبر كانت قد مرّت على الإحداث في سيدي بوزيد أربعة أيام حاول فيها نظام بن علي التعتيم عليها كعادته مثلما فعل أثناء أحداث الحوض المنجمي، فلا الجرائد الصفراء ولا الإذاعات والقنوات التلفزية الموالية لمافيا المال والفساد كان يعنيها ما يدور من أحداث هناك في مدينة سيدي بوزيد.
سياسة التعتيم هذه لم تنجح ولم تؤت أكلها كما كان يراد منها، فقد خُرق هذا الطوق وكسره الإعلام الرقمي الفوري بكل أصنافه والذي كان يقوم به أبناء المنطقة على مواقع الإنترنيت في المدونات وعلى شبكات التواصل الرقمية وبالخصوص على شبكة الفايس بوك. لم تقدر السلطة على إيقـــاف هذا المـــدّ الإعلامي الذي واكب الأحــداث لحظة بلحظة، ونقلها لكل العالم بكل وضوح حتى أنه أصبح مصدر الخبر والصورة حول الأحداث حتى في أشهر القنوات التلفزية العالمية.
يوم 21 خرج مواطنو منزل بوزيان والمكناسي والرقاب في مظـــاهرات ومسيرات حــاشدة، مطالبين بحقهم في العمل وفي حياة كريمة مشهّرين بالفساد المالي لعائلة الديكتاتور وزوجته وبالاستبداد السياسي وغياب الحريات، فتصدى لهم البوليس بكل شراسة بالهراوات والغاز السام ولكن ذلك لم يفتّ من عزم السكان فقد خرجوا بالآلاف وداوموا واستمروا في التظاهر ومواجهة البوليس دون خوف ولا تراجع.
بدخول هذه المعتديات إلى المعركة والمواجهة مع السلطة، فُكّ الطوق قليلا على مدينة سيدي بوزيد، فعادت المسيرات والمظاهرات الحاشدة والمواجهات.
لم تكن السلطة تعتقد أن الاحتجاجات ستنتقل إلى أهم بلدات الولاية وبمثل تلك السرعة والجماهيرية والتصميم والإصرار على المقاومة، وهي التي عزّزت حضورها البوليسي هناك لمنع أي تحركات ممكنة.
دوائر القرار في وزارة الداخلية وزارة الإرهاب كما كانت تردّد الجماهير، وأمام تطور الأحداث بتلك الصورة وبأمر من أعلى سلطات الاستبداد، أعطت الضوء الأخضر لقواتها باستعمال الرصاص الحي واستعمال كل وسائل القمع والترهيب أثناء التصدي لاحتجاجات المواطنين، وهو توجه كانت تعتقد أنه سيخمد المقاومة التي عمت كامل مناطق الولاية وبدأت تأخذ طابع الانتفاضة في الجهة كاملة.
المنعرج الكبير الذي ستأخذه الأحداث والذي سيراكم في اتجاه انتقال الإحتجاجات إلى ولايات أخرى مجاورة لولاية سيدي بوزيد سيكون يوم 24 ديسمبر وفي بلدة منزل بوزيان بالتحديد.
يومها وبقيادة بعض الشباب من أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل والطلبة والتلاميذ من أبناء الجهة وبمساهمة فاعلة من نقابيي الاتحاد المحلي للشغل وبعض الناشطين السياسيين والنقابيين، خرج الأهالي في مسيرة حاشدة رافعين الشعارات نفسها التي رفعها المحتجون في سيدي بوزيد لتلتحم بمسيرة أخرى نظمتها ربات البيوت فاق عدد المشاركات فيها 300 امرأة، ولكن رجـــال القمع واجهوهم ومنـذ البــداية بالرصاص الحي، ودارت مواجهات عنيفة في أحياء البلدة استعمل فيها البوليس كل وسائل القمع والترهيب فداهم المنازل وكسّر الأبواب ونهب ممتلكات السكان وأحرق الدكاكين وطارد الشباب وحول البلدة إلى معتقل كبير مستباحة فيه كل صنوف القمع والتنكيل والترهيب.
خلفت أحداث منزل بوزيان شهيدين من المتظاهرين(محمد لعماري أول شهيد في الثورة سقط في ساعته، وشوقي حيدري توفي في المستشفى الجهوي بصفاقس أسبوعا بعد الجريمة) وعديد الجرحى واعتقال عدد كبير ممن شاركوا في الاحتجاج والتظاهر.
في نفس اليوم وفي الأيام التي تلته، امتدت الإحتجاجات والمسيرات إلى بلدة المكناسي وبلدة الرقاب وبن عون وسوق الجديد وجلمة والمزونة وكان البوليس وفي كل بلدة، يواجه المتظاهرين بالرصاص الحي فسقط عديد الشهداء في بعض هذه البلدات وبرغم ذلك فقد واصل الأهالي وفي أغلب معتمديات الولاية مقاومتهم ولم يتراجعوا.
تواصل الأحداث برغم القمع والتقتيل، كان رسالة بليغة من الأهالي للسلطة التي راهنت على قمع التحركات بالترهيب والتقتيل مفادها أن لا تراجع عن المقاومة، وأن خيار العسف والقمع لن يزيد السكان إلا إصرارا على مواصلة المعركة حتى تحقيق المطالب المرفوعة.
بتوسع الاحتجاجات وشمولها أغلب بلدات ولاية سيدي بوزيد وبالمشاركة المواطنية الكثيفة والتي شملت أغلب الشرائح الاجتماعية المفقرة والمهشمة، أخذت الأحداث تأخذ شكل الانتفاضة التي يصعب إخمادها بالحلول التقليدية التي تعودت السلطة اعتمادها . لقد بدت كل المؤشرات تدل على أن الحريق سيتوسع أكثر وسيمتدّ إلى الولايات المجاورة .
توسع الانتفاضة إلى الولايات المجاورة سيكون الحدث الأهم في مجريات إنتفاضة سيدي بوزيد. كان هذا ما تخشاه السلطة لأن ذلك سيمثل بالنسبة لها بداية فقدانها السيطرة على الأوضاع. وما هي إلا أيام قليلة حتى تحوّل ما كان مجرّد افتراض واحتمال ممكن إلى واقع ملموس.
إن ما سيسرّع بتطور الأوضاع في هذا الاتجاه ،هو دخول الحركة النقابية ممثلة في عناصرها الأشد ارتباطا بالحركة الجماهيرية والذين مثلوا وبداية من 25 ديسمبر أحد أهم عناصر المساندة والدعم لانتفاضة جهة سيدي بوزيد، وهو وضع لم يكن بمقدورهم تجسيمه أثناء انتفاضة الحوض المنجمي.
يوم 25 ديسمبر شهدت دور الاتحاد العام التونسي للشغل وخصوصا في تونس والقصرين وحندوبة وصفاقس وسيدي بوزيد والقيروان وفي مدن أخرى عديدة، تجمعات نقابية حاشدة مساندة لمواطني سيدي بوزيد، طالب فيها النقابيون بضرورة تلبية مطالب الأهالي المنتفضين هناك وندّدوا بالقمع الأسود الذي ووجهت به الاحتجاجات، كما نادوا بضرورة إطلاق الحريات السياسية ومراجعة الاختيارات الاقتصادية التي لم توطّن غير المزيد من الحيف الاجتماعي ولم تنتج غير المزيد من تفقير الجماهير الشعبية وتهميشها.
سياسة العصا الغليظة والمحاصرة والقمع من طرف بوليس بن على كانت حاضرة أيضا في هذه التجمعات فقد عمد البوليس وكعادته دوما إلى محاصرة هذه التجمعات ومنع النقابيين من ممارسة حقهم في التظاهر وفي التعبيرعن وقوفهم على جانب مواطني سيدي بوزيد.
التحاق الحركة النقابية ممثلة في بعض قطاعاتها المعروفة تقليديا بنضاليتها (قطاع التعليم الأساسي والثانوي وقطاع الصحة وقطاع البريد)، وفي بعض الجهات المعروفة تاريخيا بدورها النقابي كجهة صفاقس وقفصة وقابس وحندوبة وتونس وسوسة، وبدفع من طليعة نقابية يسارية جذرية، ولئن جاء متأخرا فإنه قدّم دعما مهما للانتفاضة سيساهم في تجذيرها وتوسيع رقعتها وصمودها.
لقد مثل ذلك الدّعم نقلة نوعية في وعي وممارسة قطاع واسع من منتسبي منظمة الاتحاد العام التونسي للشغل ومناضليها ويمكن القول أنه كان العامل المحدّد في التطور الذي عرفته الأحداث فيما بعد.
انطلقت مساندة الحركة النقابية، واستمرت التعبئة التي بدأت تشهدها ساحات الاتحادات الجهوية وساحة محمد على المقر المركزي للاتحاد برغم معارضة القيادة المركزية البيروقراطية لهذه المنظمة المعروفة بولائها للدكتاتور.
لقد أغلقت هذه القيادة أبواب الاتحاد في وجه النقابيين والقطاعات كما سمحت للبوليس بمحاصرة دور الاتحاد والتدخل لقمع النقابيين وتعنيفهم ومنعهم من ممارسة حقهم في التظاهر والتعبير عن آرائهم، وقد دارت مواجهات عديدة بينهم وبين قوات القمع وسجلت حالات اعتداء كثيرة عليهم، كما منعوا مرارا من مغادرة دور الإتحاد.
لم يستمرّ الوضع على ذلك الحال، فبمرور الأيام، وخصوصا لما توسعت الانتفاضة وامتدت إلى مدن أخرى في الجنوب والوسط والشمال الغربي، ستتقوى التعبئة وسيلتحق المئات من النقابيين بهذه التجمعات كما الشباب المعطّل والتلمذي والطلبة وستخاض في تلك التجمّعات معارك حقيقية بين النقابيين وقوات القمع يتمكّن فيها النقابيون من تكسير حواجز المنع البوليسي ونقل المواجهة إلى الشوارع .
تواصلت احتجاجات مواطني سيدي بوزيد يومي 25 و 26 ديسمبر كما استمرت في هذين اليومين تجمعات النقابيين المساندة لهذه الإحتجاجات في أكثر من إتحاد جهوي، ولكن المنعرج الأهم هو الذي سيحدث يوم 27 ديسمبر حيث شهد انتقال المظاهرات والمسيرات إلى أكثر من جهة.
لقد خرج في هذا اليوم المواطنون في صفاقس وقفصة والقيروان والقصرين و تالة ومدنين، في مظاهرات ومسيرات حاشدة منددة بالنظام والقمع و الاستبداد والفساد، ورفع المواطنون شعارات منادية بالحق في الشغل وفي الحريات والديمقراطية، كما تمكن النقابيون في تونس من كسر الطوق البوليسي المضروب على ساحة محمد علي والخروج إلى الشارع رافعين نفس الشعارات ومنادين بنفس المطالب.
في الحقيقة، إن خروج المواطنين في أغلب جهات البلاد التونسية للتظاهر، و رفع الشعارات المناهضة للاستبداد والفساد وغياب الحريات، لم يكن دافعه فقط مساندة أهالي سيدي بوزيد لقد كان كذلك انخراطا فعليا من قبلهم في المعركة مع السلطة، لأنهم يعيشون نفس الأوضاع ويعانون من نفس الظروف التي يعاني منها مواطنو سيدي بوزيد.
المواجهة الأشد بين المواطنين المحتجين وقوات قمع بن على، في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر، عرفتها مدينة القصرين، لما منع البوليس مواطنيها من التنقل لحماية مدينة تالة التي لم تهدأ فيها المظاهرات ولم تقدر قوات البوليس المرابطة بها السيطرة عليها، فوقع تعزيزها بقوات كبيرة من تونس ومن الجهات الأخرى القريبة وهو ما أوحي بأن هناك تخطيطا لمجزرة وإغراق البلدة في حمام من الدماء.
وتدخل البوليس بعنف غير مسبوق وبإطلاق للرصاص الحيّ لمنع هذه المساندة.
لم يعد الأمر متعلّقا بإطلاق الرصاص فقط، لقد تعداه إلى تحويل المدينة إلى ساحة قنص حيث كان الرصاص يوجّه للصدر والرأس وطالت عمليات القنص هذه كثيرا ممن كانوا في بيوتهم ولم ينزلوا للشارع. وسجل سقوط أكثر من 26 شهيدا في القصرين وحدها في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر منهم الطفلة يقين القرمازي ذات الستة أشهر. كما حصلت عمليات مداهمة للبيوت وتنكيل بالمواطنين لم تشهدها المدينة حتى أثناء الاستعمار الفرنسي، إضافة لما وقع من اعتداء على النساء والفتيات تحت أنظار أزواجهن وإخوتهن إمعانا في إذلال المواطنين و الدّوس على كرامتهم وشرفهم.
استبسل مواطنو مدينة القصرين في مواجهة قوات القمع، وواجهوا ترهيبها ومحاولات إذلالهم والدوس على كرامتهم بمزيد تصعيد المقاومة والاحتجاج .
لقد بلغ الوضع نقطة اللاعودة، فلا مجال للتراجع: فإما حياة كريمة وإما استشهاد بشرف والصوت عال والرأس مرفوع.
كان ذلك هو الموقف الذي تبناه المواطنون في كل الجهات، فلم تزدهم سياسة التقتيل والرصاص الحي إلا اصرارا وإيمانا بكنس سلطة بن علي. لم يعد الأمر متعلقا بطلب إصلاحات سياسية واقتصادية من السلطة، لقد اكتشف المواطن بنفسه وأثناء الأحداث الجارية أن سلطة لا تتورّع عن تقتيل الشعب بالرصاص الحيّ لمجرد أنه خرج للاحتجاج والتظاهر، لا يرجى منها خير، ولا يمكن أن تقدّم غير المزيد من القمع والتقتيل إن هي بقيت ممسكة بالبلد.
لقد أصبحت المهمة في وعي الجماهير مكثفة في شعار الشعب يريد إسقاط النظام.
تحوُّل الوضع إلى وضع ثوري، وتوسُّع الاحتجاجات، والتحاق الحركة النقابية بالنضالات الشعبية، واصرار الشبيبة بمختلف أصنافها على المقاومة وعدم الخوف من مواجهة الرصاص والموت، أربك سلطة بن علي التي ستخرج عن صمتها ليظهر الديكتاتور يوم 28 ديسمبر من على شاشات القنوات التلفزية المحلية متوجها بكلمة للشعب التونسي في محاولة أولى للمناورة لإيقاف المسار الثوري.
جاء في كلمة الديكتاتور« لقد تابعت بانشغال ما شهدته سيدي بوزيد من أحداث خلال الأيام المنقضية. ولئن كــان منطلق هذه الأحداث حالة اجتماعية نتفهم ظروفها وعواملــها النفسية، كما نأسف لما خلفته تلك الأحداث من أضرار، فإن ما اتخذته من أبعاد مبالغ فيها بسبب الاستغلال السياسي لبعض الأطراف الذين لا يريدون الخير لبلادهم، ويلجؤون إلى بعض التلفازات الأجنبية التي تبث الأكاذيب والمغالطات دون تحر بل باعتماد التهويل والتحريض والتجني الإعلامي العدائي لتونس، يدعونا إلى توضيح بعض المسائل ... لا يمكن بأيّ حال من الأحوال رغم تفهّمنا، أن نقبل ركوب حالات فردية أو أيّ حدث أو وضع طارئ لتحقيق مآرب سياسوية على حساب مصالح المجموعة الوطنية ومكاسبها وإنجازاتها وفي مقدّمتها الوئام والأمن والاستقرار....كما أنّ لجوء أقلية من المتطرّفين والمحرّضين المأجورين ضدّ مصالح بلادهم، إلى العنف والشغب في الشارع وسيلة للتعبير أمر مرفوض في دولة القانون مهما كانت أشكاله، وهو مظهر سلبي وغير حضاري يعطي صورة مشوّهة عن بلادنا تعوق إقبال المستثمرين والسواح بما ينعكس على إحداثات الشغل التي نحن في حاجة إليها للحدّ من البطالة. وسيطبّق القانون على هؤلاء بكلّ حزم بكلّ حزم.»
بكلمته هذه كان بن على قد خطا خطوة إلى الأمام في طريق نهايته ونهاية نظامه الديكتاتوري الفاسد.
لقد زاد هذا الخطاب ورسخ لدى الشعب التونسي القناعة بأن ليس له ما يقدم غير الوعيد والوعود الكاذبة.
لم يكن بن علي يدرك أن لهجة الوعيد المغلفة بالوعود الزائفة يعرفها الشعب التونسي، وقد مجّها واستهجنها، وأنها لم تعد مقبولة ولا يمكن لها أن تروضه وتوقفه عن مواصلة ثورته التي أصبحت مهمتها الرئيسية إسقاط الديكتاتور والديكتاتورية.
لقد اعتبر الدكتاتور احتجاجات المواطنين، أعمال عنف وشغب تقوم بها أقلّية من المتطرّفين والمحرّضين المأجورين لفائدة بعض الأطراف السياسية من الذين لا يريدون الخير لبلادهم، وفي ذلك رسالة تهديد واضحة لكل القوى التي ساندت أو ستساند الاحتجاجات، كما توعّد بتطبيق القانون بكل حزم و بكل حزم وهي إشارة إلى أنّ لا تراجع عن أسلوب القمع والتقتيل في مواجهة الجماهير المنتفضة.
خطاب بن علي لم يكن موجها للداخل فقط لقد كان يهدف أيضا إلى طمأنة داعميه من القوى الإمبريالية وأساسا فرنسا وأمريكا، كما أيضا الدكتاتوريات العربية، والتي بدت منشغلة مذعورة مما يجري من أحداث في تونس، بأنّ الوضع مازال تحت سيطرته وأن النظام مازال متماسكا ولم يفقد زمام الأمور.
ما كان لخطاب الدكتاتور يوم 28 ديسمبر الصدى الذي كانت تأمله من ورائه سلطة بدا ارتباكها وضعفها وزيف خطابها واضحا مكشوفا للجميع.
كان الخطاب كله زيف وأكاذيب.
كيف سيصدّق شعب منتفض ثائر يواجه بالتقتيل بالرصاص الحي ويتساقط أبناؤه شهداء بالعشرات، أن المظاهرات والمسيرات والاحتجاجات التي يقوم بها هي أحداث شغب وعنف تقوم بها أقلّية من المتطرّفين والمحرّضين المأجورين ضدّ مصالح بلادهم كما سوقت لذلك السلطة؟
كيف سيصدّق الشعب مثل هذه الأكاذيب، وهو يعرف أنّ كل التحركات ومنذ انطلاقها في يومها الأول من سيدي بوزيد كانت بمبادرات مواطنية، وأن من قادها وشارك فيها هم أبناء هذا الشعب من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية التي تعاني من الاستغلال والحيف الاقتصادي والاجتماعي؟
كيف سيصدق شعب ثائر عملت السلطة ما في وسعها مستخدمة كل الوسائل للتعتيم على انتفاضته وعلى جرائمها وقمعها الأسود لهذه الانتفاضة، بأن ما يقوم به النشطاء والمدوّنون والنقابيون والإعلاميون الشرفاء من خرق لهذا الطوق وإخبار على ما يقع من أحداث لكل العالم مواجهة لواقع التعتيم الذي تمارسه السلطة هو أكاذيب ومغالطات و تهويل وتحريض وتجني إعلامي تحركه أطراف معروفة بعدائها لتونس؟
كيف سيصدق الشعب أن ما يقوم به من مظاهرات ومسيرات ضد الاستبداد والفساد ودفاعا عن الحق في الشغل وفي الحياة الكريمة هو عند السلطة لا يعدو كونه أحداث عنف وشغب؟
كيف سيتقبّل شعب يواجَه أبناؤه بصدور عارية، رصاص قناصة السلطة ويستشهدون في الساحات العامة وفي الشوارع وفي بيوتهم وعيدَ الديكتاتور بتطبيق القانون بكل حزم وبكل حزم.
ماذا كان الديكتاتور يعني بهذاالحزم في تطبيق القانون؟
لم يفهم الشعب من ذلك غير أن السلطة ماضية في أسلوب القمع والتقتيل، وأنها عازمة على المضي في نهج المعالجة القمعية إلى الآخر.
لم يفهم الشعب غير هذا من نظام بوليسي دموي مثل نظام بن على.
بعد خطاب الديكتاتور، بدا جليا أن السلطة سائرة في اتجاه التصعد وأن الانتفاضة ستدخل طورا جديدا من أطوارها ستكون فيه المواجهة أشد شراسة مع سلطة تعرت تماما ولم يبق لها من الأوراق الكثير لتلعبه.
وفعلا حدث ما كان متوقعا، ففي الأيام الموالية، أطلقت السلطة العنان أكثر لجهاز البوليس ليقمع بكل الطرق في سعي محموم لوقف الانتفاضة وإجهاضها.
خطاب الوعيد والوعود الكاذبة تلاه يوم 30 ديسمبر تعديل وزاري جزئي حيث عُيّن سمير العبيدي وزيرا للاتصال كما عُيّن وزيران جديدان واحد للشباب والرياضة والآخر للشؤون الاجتماعية.
أظهر التعديل الوزاري وتحديدا تغيير وزير الاتصال بالملموس أن السلطة قد خسرت معركة الإعلام، وأن شباب الثورة من الناشطين في هذا الميدان بمعية كل الأقلام والأصوات الصادقة، قد سجّلوا خطوة أولى في اتجاه النصر.
في نفس اليوم الذي أعلن فيه الديكتاتور عن التعديل الوزاري تداولت وسائل الإعلام المحلية خبر رفع ديكتاتور ليبيا معمر القذافي القيود الإدارية المفروضة على التونسيين للدخول إلى ليبيا للعمل وتأكيده على معاملتهم كمواطنين ليبيين.
خطاب الديكتاتور والتعديل الوزاري الذي أجراه، كما التغيير الجزئي الذي قام به في سلك الولاة والذي شمل ولاية سيدي بوزيد و جندوبة و زغوان، كما تغيير مدير عام الديوانة كلها كانت إجراءات لا معنى لها في نظر الشعب، لأنها لم تكن إلا إجراءات شكلية لا يمكن أن تأتي بجديد، وليست إلا مناورة جديدة لا يمكن أن تخفي عزم نظام الديكتاتور بن علي على التمادي في سياسة القمع والتقتيل في مواجهة الجماهير الشعبية المحتجة والمنتفضة في أغلب جهات البلاد.
هذا الموقف ستبرهن عليه أحداث الأسبوع الأول من شهر جانفي 2011 والتي شهدت فيها الاحتجاجات توسعا شمل كل الجهات، كما انخرطت في التحركات أغلب القطاعات والجمعيات المهنية المستقلة جنبا إلى جنب مع العمال والبطالين المهمشين وكل الفئات والشرائح الاجتماعية التي لم تجن من سياسة بن علي غير الاستغلال والتفقير والتهميش ومصادرة الحريات.
الأسبوع الأول من السنة الجديدة، سيعرف فيه النشاط الجماهيري نقلة نوعية، فستعم المظاهرات والمسيرات و الاعتصامات كامل أنحاء البلاد، وسيبرهن فيها الشعب على أنه مصمّم على المضي قدما نحو الإطاحة بالنظام ولن يثنه عن مهمته هذه لا القمع ولا التقتيل الذي سيواجهه به بوليس بن علي.
هذا التصميم على مقاومة نظام بن علي، والإصرار على إسقاطه سيتجلى في أوضح صورة في تلك المعارك التي خاضها طيلة ذلك الأسبوع النقابيون المناضلون في كل الاتحادات الجهوية وفي الاتحاد المركزي، والحقــوقيون محامون وقضاة شرفاء مناضلون والطلبة والتلاميذ كما النساء المناضلات في الاتحاد العام التونسي للشغل في لجان المرأة العاملة و في جمعية النساء الديمقراطيات كما في الجهات الداخلية وفي بلدات صغيرة كتالة والرقاب ومنزل بوزيان وجبنيانة و تاجروين والرديف والتي برهن سكانها أن حقهم في الحياة بكرامة وعزة هو حق يمكن التضحية في سبيله بالنفس والاستشهاد من أجله.
حزم بن علي جسّمه جهاز البوليس كأحسن ما يكون على أرض الواقع. فقد انطلقت عصابات وزارة الداخلية ومنذ كلمة الديكتاتور في حملات اختطاف وترهيب ومحاصرة ومداهمات طالت الكثير من النشطاء الفاعلين، كما عززت عدّتها وعتادها في مواجهة التجمعات التي أصبحت شبه يومية وفي كل الجهات.
لقد كانت رسالة وزارة القمع في تلك المرحلة من الثورة واضحة وهي أنه لا مجال لافتكاك الشارع، و لا مجال للالتحام بأوسع شرائح الشعب، ولا مجال للتجمّع أو التظاهر أو رفع الشعارات المنادية بإسقاط النظام والمنددة بالفساد .
وكما كانت رسالة السلطة واضحة عبر جهازها القمعي الذي تغوّل كان ردّ الجماهير أيضا واضحا وميدانيا، في الاصرار على المقاومة ومواصلة النضال مهما كان الثمن.
ودوّى في كل تجمع واحتجاج شعار "يا بوليس يا جبان الشعب التونسي لا يهان ـ ويا بوليس يا ضحية إيجا شارك في القضية ـ يسقط حزب الدستور يسقط جلاد الشعب".
كانت المعركة ضد السلطة في تلك الفترة كلها تدور على نقطة واحدة هي السيطرة على الفضاء العام.
الفضاء العام، وإلى حد ذلك الوقت كانت تسيطر عليه السلطة بكل أجهزتها القمعية المكشوفة والرمزية.
لم يكن يعني السلطة كثيرا غضب النخبة ولا الاحتجاج على سياساتها في الفضاءات المغلقة أو بالبيانات التي لا يطّلع عليها إلا القلقة القليلة.
ما كانت تخشاه هو أن تفتكّ الجماهير الشارع. كانت فرائصها ترتعد من مجرد التفكير في هكذا وضع، فلقد وقفت بالملموس وطيلة الأسبوعين الذين مرّا، على بدء الثورة، على معنى إفتكاك الجماهير للشارع.
كان للنقابيين الجذريين المعارضين للخط البيروقراطي المهيمن في الاتحاد العام التونسي للشغل دور كبير في هذه المرحلة من الثورة في تنظيم الاحتجاجات واستمرارها، وفي كسر شوكة جهاز البوليس وتصعيد المقاومة . فقد تحولت دور الإتحاد، وفي أغلب المدن التونسية، مسرحا لمعارك عنيفة من أجل فرض حق التظاهر والتعبير والالتحام بالشارع وبالمواطنين ومواصلة الثورة .
لقد مثلت هذه التجمعات إحدى النواتات الصلبة التي ضمنت استمرار الحراك الثوري وتجذره، كما فعلت في دفع الكثير من منتسبي الاتحاد والذين بقوا إلى ذلك التاريخ متردّدين للالتحاق بالثورة والقطع مع التمترس وراء موقف المركزية المعارض لهذه التحركات والمساند للسلطة.
إلى جانب التجمعات النقابية التي كانت تنظم يوميا في بطحاء محمد علي الحامي في العاصمة، والتي كانت تتحول إلى معارك حقيقية مع جهاز البوليس، ولم تخلُ منها هذه الساحة يوما خصوصا في الأسبوعين الذين سبقا فرار الدكتاتور بن علي ،كانت الساحة الحقوقية هي أيضا تشهد مدّا نضاليا كبيرا بدأ منذ 28 ديسمبر 2010 بتنظيم مظاهرة المحامين أمام قصر العدالة بالعاصمة والتي حاصرها البوليس وقمعها، كما تم على إثرها تسجيل إيقافات في صفوفهم .
انخراط قطاع المحاماة في الثورة تواصل، فقد تلت مظاهرة قصر العدالة وقفة احتجاجية يوم 31 جانفي وإضراب عام قطاعي يوم 6 جانفي، وهو يوم خصّصه المحامون لمساندة أهالي سيدي بوزيد والقصرين و تالة وللتنديد بقمع تظاهراتهم واحتجاجاتهم وأعلنوا فيه أنهم لن يتراجعوا عن الانخراط في مسيرة شعبهم من أجل الحرية والكرامة وأن العسف والقمع لن يثنيهم عن مواصلة التحركات حتي إسقاط سلطة الاستبداد والفساد.
انخراط قطاع المحاماة في الثورة كان أيضا عاملا مهما جدا في دفع المسار الثوري إلى الأمام وفي دفع هيئات وجمعيات عديدة للالتحاق بالثورة.
الشباب الطلابي والتلمذي وأصحاب الشهائد المعطلون عن العمل كان لهم أيضا دور بارز في المقاومة التي أطاحت ببن علي يوم 14 جانفي 2011، لقد كانوا في الصفوف الأمامية في كل مسيرة ومظاهرة واعتصام . لقد انخرطوا في جهة سيدي بوزيد و في القصرين وتالة والرقاب وفي أغلب الجهات الداخلية في المواجهة منذ البداية.
يوم 3 جانفي 2011 كان التلاميذ والطلبة قد عادوا إلى مدارسهم ومعاهدهم وكلياتهم بعد عطلة كانت قد ابتدأت في أواخر شهر ديسمبر. يوم العودة هذا شهدت فيه البلاد أكبر المظاهرات والمسيرات الشبابية والتي تحولت إلى معارك مع البوليس، وتمكّن الشباب الثائر أثناء هذا اليوم وكردّ فعل على القمع الذي تعرّض له وتعبيرا منه على عزمه على مقاومة الاستبداد، من حرق بعض مقرّات التجمّع الدستوري الديمــقراطي و مراكز الشرطة وهو ما جعل وزارتي التعليم العالي والبحث العلمي والتربية تقرران وفي مساء يوم 10 جانفي2011 تعليق الدروس بكل مدارس البلاد وجامعاتها.
لقد واجهت السّلطة تحركات الطلبة والتلاميذ بقمع عنيف ولكن ذلك لم يثنهم عن مواصلة التحركات.
يقول نجيب العبيدي طالب في شعبة الاتصالات في تونس في كلمة له على موقع فرنس 24 يتحدث عن أولى تحركات الطلبة في الأسبوع الأول من شهر جانفي « قامت مجموعة من الطلبة بالدعوة إلى هذا التحرك يوم الأحد على إحدى صفحات فيس بوك. وهكذا اجتمع هذا الصباح منذ الساعة التـــاسعة عدد لا بأس به من الطلاب في ساحة المركــب الجامعي، وما لبثنا أن بدأنا في التحرك عبر الكليات الخمس التي يضمها الحرم الجامعي لمناشدة زملائنا وضم أكبر عدد ممكن منهم إلى المسيرة. بعد ذلك قررنا حمل المظاهرة إلى الشارع، وقد وجدنا الشرطة وأعوان مكافحة الشغب في انتظارنا، كما كان متوقعا، إذ أمروا بمنعنا من الخروج إلى شوارع المدينة، فقاموا بالتعدي علينا ضربا وبرمينا بالقنابل المسيلة للدموع. وما كان جوابنا إلا أن رميناهم بدورنا بالحجارة. بعد هذه الاشتباكات الأولى تفرقت المسيرة، لكننا أعدنا الكرة ظهر اليوم وتواصلت الاحتجاجات لمدة ساعات.
صحيح أن الطلاب لم يكونوا أول المشاركين في هذه الاحتجاجات يعود ذلك لانطلاقها في فترة عطلة وكذلك لفترة الامتحانات التي مررنا بها منذ أسبوع. لكننا اليوم نأبى إلا أن ننظم إلى أفواج المنتفضين، خاصة بعد سقوط قتلى نهاية الأسبوع الماضي. ويبقى أبلغ دليل على النقلة النوعية التي تشهدها الاحتجاجات انضمام طلبة بدون انتماء سياسي أو نقابي فدافعهم بشري قبل أن يكون إيديولوجيا. كما نادينا بنفس الشعارات التي صرخت بها الجماهير المحتجة، فنحن خرجنا كمواطنين وليس فقط كطلبة.»[3]
كذلك اقتحمت قوات القمع يوم 5 جانفي مبيتات الطلبة والطالبات بالحي الجــــامعي الغزالـــي في مدينة سوسة، مستعملة الغازات السامة والهراوات، و لم تستثن أحدا من الطلاب والأساتذة والعاملين، وجرت مصادمات جد عنيفة ومواجهات بين البوليس والطلبة، وقد ألحقت بالطلبة إناثا وذكورا أضرارا جسدية بالغة ونقل العديد منهم إلى المستشفيات، كما وقع اعتقال الكثيرين وإيقافهم. [4]
يوم 5 جانفي أعلنت السلطة عن موت محمد البوعزيزي متأثرا بحروقه البليغة في مستشفى الحروق في بن عروس، وحمل ظهر نفس اليوم في موكب ضمّ الآلاف من مواطني سيدي بوزيد، ليدفن في مقبرة قريته. موكب الدفن منع البوليس مروره من أمام مقر ولاية سيدي بوزيد فتجدّدت المواجهات في الجهة.
في نهاية الأسبوع الأول من جانفي بدأت الانتفاضة التي شملت أغلب الجهات في البلاد تؤكد أن الوضع بدأ يتحول إلى وضع ثوري، وأن الانتفاضة بدورها تتجه لتتخذ طابع ثورة عارمة قادرة على تحقيق هدفها الأول إسقاط الدكتاتور.
استمرت الاحتجاجات في مدن وبلدات الوسط الغربي لا تتوقف وكان كل يوم يأتي بالمزيد من القمع والشهداء.
يوم 8 جانفي كتب حسن الرحيمي وهو ابن تالة وعضو في تنسيقية إتحاد أصحاب الشهائد المعطلين عن العمل على صفحته في الموقع الاجتماعي فايس بوك « مظاهرات في تالة. مدينة تالة تأخذ المشعل عن سيدي بوزيد وتفجر انتفاضة جديدة ضد القهر. كانَ على هذه المدينة المعدمة والمستهدفة أن تنتفض منذ وقت. رجاء لا تخذلوها.»
يومها كانت مدينة تالة وكذلك مدينة القصرين مسرحا لأبشع عمليات القتل المنظّم التي انخرط فيها بوليس بن على. لقد نظمت قوات القمع حملات مداهمة وتمشيط للمدينتين بداية من ليلة 8 جانفي وتواصلت كامل الليل وسقط نتيجتها عشرات الشهداء برصاص القناصة.
لم يستسلم المواطنون وواصلوا تحركاتهم في مواجهات باسلة لقوات القمع، لتنتهي بسحب بن علي لقوات البوليس وتعويضها بقوات الجيش، والذي سينتشر بعد هذا التاريخ في أغلب المدن والبلدات الثائرة ليعم انتشاره كامل البلاد بما فيها العاصمة والمدن الكبرى في أيام قليلة بعد ذلك التاريخ.
نفس حملات المداهمة والتمشيط دارت في مدن وبلدات أخرى واستمرت، ولكنها لم تتمكن من إخماد لهيب الثورة التي بدأت تثبت أن نظام الدكتاتور بدأ يتهاوى ويفقد سيطرته على الأوضاع.
كانت حصيلة الشهداء كبيرة، فقد سقط 35 شهيدا في تالة والقصرين وحدها بين يومي 8 و9 و 10 جانفي، كما سقط عشرات الشهداء في بلدات ومدن أخرى سيدي بوزيد الرقاب منزل بوزيان تاجروين فريانة قبلي... إلخ .
طيلة العشرة أيام الأولى من شهر جانفي، لم تستقر الأوضاع ولم تهدأ كما كانت السلط تريد لها بتكثيفها عمليات القمع والتقتيل وتعزيز قوات البوليس ونشر الجيش في المدن والبلدات الثائرة .
لقد تابع العالم على المباشر وعبر نشرات الأخبار وعلى شبكة الانترنيت الأحداث أول بأول ومنذ يوم انطلاقها في مدينة سيدي بوزيد.
لقد خسر نظام بن على معركة الإعلام، وهاهي الأوضاع تتطور برغم القمع الأسود وتكسب الجماهير الثائرة ثقة في قدرتها ومزيدا من الثبات و الإصرار على المقاومة. لقد زاد نهج القمع والتقتيل الجماهير قناعة بأن الثورة لابد أن تتواصل وأن تبلغ مداها ألا وهو قلب موازين القوى لصالح قوى الشعب وإسقاط نظام الاستبداد والفساد.
لقد ازداد المواطنون قناعة بأن سلطة بن علي ليس لها ما تقدم لهم غير الرصاص والموت، وبالتالي فلا سبيل لهم غير المقاومة والمزيد من المقاومة فليس لهم ما سيخسرون غير قيودهم.
منذ ذلك التاريخ سيدوي في كل مظاهرة ومسيرة وفي كل بلدة ومدينة وحي شعار"ارحل بن علي" "Dégage ben Ali"

2 ـ 14 جانفي الإطاحة بالديكتاتور بن علي
يوم 9 وليلة 10 جانفي، شملت الإحتجاجات عديد الأحياء في تونس العاصمة ولم تعد مقتصرة على تلك التي ينظمها النقابيون والطلبة والمحامون في ساحة محمد على الحامي أو في مقر عمادة المحامين أو في الكليات ومعاهد التعليم العالي، والتي عادة ما يقع محاصرتها وقمعها دون وصولها للشارع. وقبل ذلك كانت هذه الإحتجاجات قد اجتاحت ولايات الجنوب والشمال الغربي وصفاقس وسوسة والمهدية. ومع توسع المقاومة في أحياء تونس الفقيرة ـ حي الانطلاقة ـ حي التضامن ـ الكرم ـ وخرق المتظاهرين للطوق البوليسي في الشوارع القريبة من وسط العاصمة، تسارعت الأحداث لتعطي دفعا حاسما للثورة مما سيقرّب ساعة رحيل الديكتاتور.
وخلال أيام 9 و10 و11 جانفي ستبلغ المقاومة شوطا متقدّما في تونس العاصمة وفي أحيائها، وسيلتحم الشباب المعطل والمهمشون بالنقابيين وبالطلبة وبالتلاميذ وستتحرك بعض الجمعيات وتنخرط في الفعل الميداني وستتواصل المظاهرات والمسيرات والمواجهات مع البوليس. خلال هذه الأيام الثلاثة سقط في العاصمة وفي أحيائها أكثر من عشرة شهداء برصاص الشرطة، التي ظهرت خلال الإحتجاجات فاقدة للسيطرة على الوضع. لذلك تمّ تعزيزها بقوات الجيش التي انتشرت في الساحات وفي الشوارع الرئيسية وسط العاصمة وفي الأحياء المنتفضة، في حركة مساندة ميدانية لقوات الشرطة. وقد تصدت هذه القوات للمظاهرات وفرقت المسيرات جنبا إلى جنب مع قوات وزارة الداخلية وفرقها.
أما يوم 10جانفي فسيظهر الديكتاتور بن على في خطاب جديد يقول فيه «... أتوجه اليوم إليكم على إثر ما شهدته بعض المدن والقرى بعدد من الجهات الداخلية من أحداث شغب وتشويش وأضرار بالأملاك العمومية والخاصة. أحداث عنيفة دامية أحيانا أدت إلى وفاة مدنيين وإصابة عدد من رجال الأمن قامت بها عصابات ملثمة أقدمت على الاعتداء ليلا على مؤسسات عمومية وحتى على مواطنين في منازلهم في عمل إرهابي لا يمكن السكوت عنه.
أحداث وراءها أياد لم تتورع عن توريط أبنائنا من التلاميذ والشباب العاطل فيها. أياد تحث على الشغب والخروج إلى الشارع بنشر شعارات اليأس الكاذبة وافتعال الأخبار الزائفة ... إن هذه الأحداث أعمال قلة من المناوئين الذين يغيظهم نجاح تونس بل يسوؤهم ويحير نفوسهم ما تحقق لها من تقدم ونماء ... إننا نقول لكل من يعمد إلى النيل من مصالح البلاد أو يغرر بشبابنا وبأبنائنا وبناتنا في المدارس والمعاهد ويدفع بهم إلى الشغب والفوضى نقول بكل وضوح أن القانون سيكون هو الفيصل».
ولعل جوهر هذا خطاب لم يكن إلا مواصلة في نهج القمع والتعتيم والمغالطة، إنها سياسة الاستمرار في نهج العنف ومواجهة المظاهرات والاحتجاجات بالرصاص الحي والإمعان في قمع الحريات، مع ما رافقها من وعود كاذبة من الديكتاتور بحل معضلة اللاتوازن الجهوي في التنمية ومعضلة البطالة «... ونحن نواصل الإصغاء إلى مشاغل الجميع ونسعى إلى معالجة الوضعيات الجماعية والفردية وندعم برامجنا من أجل التشغيل والتصدي للبطالة دون المساس بجهودنا من أجل الرفع من مستوى العيش وجودة الحياة ومواصلة الزيادة في الأجور دون انقطاع من دورة تفاوضية إلى أخرى وقد قررنا ما يلي:
أولا : مضاعفة طاقة التشغيل وإحداث موارد الرزق وتنويع ميادينها ودعمها في كل الاختصاصات خلال سنتي 2011 و2012 بمجهود إضافي هام من قبل الدولة والقطاع العمومي وبتضافر جهود القطاع الخاص والقطاع البنكي والتعاون الدولي وسائر الأطراف المعنية. وذلك قصد تشغيل أكبر عدد من العاطلين عن العمل من غير حاملي الشهادات العليا وكذلك من بين فاقدي الشغل من كل الفئات والجهات. وسيستوعب هذا المجهود أيضا كل حاملي الشهادات العليا الذين تجاوزت مدة بطالتهم عامين قبل موفى سنة 2012 نعم قبل موفى 2012 وأتعهد بذلك وبذلك ترتفع طاقة التشغيل الجملية خلال هذه الفترة إلى 300 ألف موطن شغل جديد وكنا أذنا منذ أيام الوزير الأول بالاتصال برجال الأعمال والاجتماع بالاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية لحثهم على المساهمة في دعم هذه الجهود بانتداب ما يضاهى 4 بالمائة من مجموع إطارات مؤسساتهم من بين حاملي الشهادات أي ما يقارب 50 ألف انتداب جديد في الجهات. وقد لبوا مشكورين دعوتنا. وقد أذنا الحكومة بالمساعدة على تنفيذ هذه المبادرة ومتابعتها...» . مثل هذه وعود قابلها الشعب، ومن الغد، بسخرية بالغة من خلال مزيد من التحركات التي جوبهت بالقمع والتصدي لها بالرصاص الحي وبمزيد سفك دماء الشهداء. لقد كشفت التحركات أن الشعب لم يعد يخشى الترهيب والتركيع ، وأن الحل لا يكون إلا بكنس نظام بن علي .
أنّ الثورات لا تحتمل التوقف بعد أن تكون قد خطت خطوات إلى الأمام ... إنه درس التاريخ يبيّنه للمستغِلين والنهابة وللبرجوازية الفاسدة بكل فئاتها وللبيروقراطية المشاركة الجبانة الخائنة وللمعارضات الكرتونية الساقطة وللمعارضة البرجوازية الطامعة في المشاركة والتي أغمضت عينيها عن إنتفاضة الشعب ولليمين بكل تلويناته وللرجعية بمختلف ممثليها... فالوضع اليوم ومن أقصى البلاد إلى أقصاها لم يعد الوضع منذ أسبوع إن إستمرارإنتفاضة الحرية وتجذر شعاراتها خطا بالوضع أشواطا إلى الأمام .
لم يعد النظام يسود تونس، كل تونس رغم دعوة الديكتاتور إلى الحزم ومزيد الحزم، ورغم إقالته لبعض عناصر حكومته الفاسدة ثم إعلانه عن بعض الإجراءات التي فهمها الشعب على أنها مجرد مسكنات لتجاوز وضع الأزمة. فالشعب قد خبر ذلك على إمتداد سنوات الجمر فلا شيء يمكن أن تعطيه هذه السلطة سوى الديماغوجيا والقمع والحلول الوهمية.
ولعل ذاكرة الشعب ليست بقصيرة، فهو يستحضر الأوهام التي سوقها النظام أثناء إنتفاضة البلدات المنجمية، والتي لم تكن سوى ذر للرماد على العيون وربح للوقت وتمهيد الظروف لعملية القمع الشاملة التي أغرقها فيها. لذلك ستتمسك الجماهير بمطالبها وستدعو إلى تحقيقها ولن تتراجع.
الشعب اليوم يريد حلا جذريا .
الشعب اليوم يريد أن يعتلي السلطة أبناء الشعب.
الشعب اليوم يريد أن يختار بكل حرية ممثليه.
الشعب اليوم يريد استرجاع ثروات البلاد المنهوبة من عصابات المال والفساد والاستبداد وإقرار السياسة الاقتصادية التي يرتئيها والتي تكون في صالح الأغلبية.
الشعب اليوم يريد الحرية والعيش مرفوع الرأس.
الشعب يريد اقتسام الثروة ويطالب بالسلطة.
الشعب اليوم يعرف وقدّم في سبيل ذلك الشهداء يعرف أنه لن يتحقق أي مطلب من مطالبه إلا إذا اسقط حكومة الفساد وأسقط الديكتاتورية.
هذه هي المطالب التي ترفعها الجماهير اليوم والتي لا يجب التوقف دون تحقيقها.
الشعب أعلن أن لا مساومة مع الحرية.
الشعب آمن بحقه في الحياة وردّد
لتتواصل التحركات.
لتتواصل المواجهات.
لينخرط "الخدامة" أكثر في المعركة.
لتنخرط ربات البيوت وكل البطالين والشباب أكثر في المواجهة.
لنشلّ حركة الإنتاج ولنحتلّ الشوارع.
لنحتل الساحات ولنرابط في الأنهج ولنستمر في ثورتنا.
سواعدنا يجب أن لا تفل وأصواتنا يجب أن لا تبحّ.
ما عاد النّظام يسود تونس.
ما عاد نظام العسف والقمع و الديماغوجيا يسود تونس.
نظام الحديد والنار لا يجب أن يخيفنا.
الوضع يتطور باطراد وبسرعة نحو كنس الديكتاتورية فلا يجب أن نسلّم.
الحل لا يكون إلا بكنس الديكتاتورية ووقتها فقط سيكون للشعب كلمته.
نعم بكل هذه الثقة صمّم الشعب أن يواصل ثورته ويتحدّى القمع والرصاص.
نعم سيتحدى.
سيتحدى القمع وسيتحدى الرصاص فما عاد يخيفه جبروت الديكتاتور وأجهزته القمعية.
لقد صمم الشعب على إسقاط كل جبروت.
بعد خطاب الدكتاتور الثاني ردّدت الجماهير وفي كل مكان "خبز وماء وبن علي لا ".
إنه الشعار الذي سيدوي في كل مكان على أرض تونس، وسيرعب الديكتاتور وكل رموز نظامه و المستفيدين من سلطة الاستبداد والفساد في الإدارة وفي حزب التجمع الدستوري. في المقابل كانت تعمل كل مراكز القوى في النظام لغاية واحدة وهي وقف الثورة ومهما كان الثمن وفي أسرع وقت. لذلك كان الرصاص الحي بمثابة الوسيلة الوحيدة الناجعة لإخماد الإحتجاجات، ولتصبح المعركة بين إرادة شعب ثائر وقمع وحشي بالرصاص الحي.
أما يوم 12 جانفي 2011 فسيكون يوما مشهودا لأنه سيقدم فيه العمال للثورة ما كان مطلوبا منهم منذ انطلاقتها في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2010. سيشهد ذلك اليوم دخول ثلاث ولايات في إضراب عام هي صفاقس وقابس القصرين الجريحة التي قدمت حتى ذلك الحين أكبر عدد من الشهداء إلى جانب معتمدية تالة التي نشطت فيها عصابات القناصة نشاطها الإجرامي. يومها ستلملم المدينتان جراحهما وتكتبان راياتهما بدماء الشهداء من أبنائهما وبدماء كل شهداء ثورة الحرية والكرامة، وسيخرج مواطنوهما في مظاهرات حاشدة منادين بصوت واحد برحيل بن على وبإسقاط سلطته.
وفي صفاقس خرج يومها وفي مظاهرة هي الأكبر أكثر من خمسين ألف مواطن تلبية لدعوة الإضراب الجهوي في مسيرة انطلقت من المقر الجهوي للإتحاد العام التونسي للشغل وقد تدخلت فرق القمع بالقنابل المسيلة للدموع والهراوات لتفريقها، لكن لم تستطع تطويقها. وحدثت عمليات اقتحام وحرق لبعض مراكز الشرطة وللمقر الجهوي لحزب التجمع الدستوري وانتهي يوم 12 جانفي بتمركز الجيش في كل أنحاء المدينة.
وفي قابس أيضا خرجت الجماهير رافعة الشعارات المنادية بإسقاط بن على ودارت مواجهات كبيرة بينهم وبين رجال الشرطة. في نفس ذلك اليوم خرج المواطنون في أغلب ولايات الجنوب وسقط حينها عديد الشهداء في قابس ودوز والناظور وفي عديد المدن والبلدات الأخرى. وواصل القناصة تصويب رصاصهم للصدور العارية، ليتساقط الشهداء بالعشرات.
في ذات اليوم وفي إجراءات، لا تدل إلا على حالة الارتباك والأزمة في قمة السلطة بدأت تعبّرعن نفسها وتظهر إلى السطح يعزل الديكتاتور بن علي وزير الداخلية رفيق بالحاج قاسم ويعين أحمد فريعة وزيرا جديدا مكانه، ويعلن عن سراح كل الموقوفين على خلفية الإحتجاجات، وعن تكوين لجنة تحقيق في التجاوزات التي حصلت ولجنة أخرى للنظر في الرشوة والفساد وأخطاء بعض المسؤولين.
أما هدف السلطة فكان واضحا من كل هذه الإجراءات، وهو محاولة امتصاص الغضب الشعبي، والخروج من الأزمة.
وبالتوازي مع ذلك كان البوليس و الجيش، ليلا نهارا، في اشتباكات متواصلة مع المواطنين، أستعمل فيها الرصاص الحي في كافة أنحاء البلاد. في حين كانت عصابات القناصة بدورها تواصل عملها الإجرامي ليتجاوز عدد الشهداء المائة وبالمحصلة تصبح تونس تحترق على أكثر من واجهة.
وقد أعلن حظر التجول لأجل غير محدد في ولايات تونس الكبرى في محاولة لمنع التحركات ليلا ولكن دون جدوى. إنها آخر محاولات النظام لوقف قطار الثورة ، لكن هيهات.
وفي نفس الفترة يدعو بن على لاجتماع مجلسي النواب والمستشارين ويجتمع بمحمد الغرياني أمين عام حزب التجمع الدستوري الديمقراطي ويلتقي بعبد السلام جراد كبير البيروقراطيين والأمين العام للإتحاد العام التونسي للشغل ويطلب منه أن يلعب الإتحاد دوره في تهدئة الأوضاع ويعده بتشريك النقابيين في المجالس الجهوية والمحلية.
وقد أدلى عبد السلام جراد بعد لقائه بالديكتاتور لوسائل الإعلام بتصريح قال فيه «تشرفت بلقاء سيادة الرئيس وكانت مناسبة لإجراء محادثة جد هامة تناولت الأوضاع المؤلمة المسجلة ببعض مناطق البلاد وكذلك أفكارا ومقترحات من الاتحاد. وقد وجدت لدى رئيس الدولة النظرة العميقة لأهم المشاكل وأسبابها والحرص على معالجتها.»
وبعد أن أكد ارتياح المنظمة الشغيلة لقرار رئيس الجمهورية بإطلاق سراح الموقوفين أضاف عبد السلام جراد قائلا « أن الاتحاد بقدر ما تألم لسقوط ضحايا فانه يرفض شتى أشكال العنف ولا يقبل أن يقع المساس بالممتلكات العامة والخاصة وبمكاسب البلاد وأعربت لرئيس الدولة عن مساندتنا لتكوين لجنة تحقيق في التجاوزات ولجنة للنظر في موضوع الرشوة والفساد وأخطاء بعض المسؤولين.» كما أكد باسم الإتحاد العام التونسي للشغل على ضرورة الخروج من هذه الظروف الصعبة والدقيقة بما يعيد الأمور إلى نصابها ويمكّن الجميع من التفرغ لتطبيق الإجراءات التي أقرها رئيس الدولة ولاسيما المتعلقة منها بالتشغيل والإحاطة بالعاطلين ومن فقدوا مواطن شغلهم وذلك عبر الآليات الملائمة والتي سينظر فيها. واختتم عبد السلام جراد تصريحه قائلا: « وجدت لدى سيادة الرئيس كل التقدير للطبقة الشغيلة ولمنظمتهم والإحاطة الدائمة بالشغالين وبضعاف الحال.»
وأضاف أن رئيس الدولة سيسدي تعليماته بدعوة ممثلين عن الاتحاد العام التونسي للشغل للمجالس الجهوية والمحلية للمساهمة في المجهود الوطني للتنمية والتشغيل.
رغم ذلك تواصلت الإحتجاجات والمواجهات بعد الخطاب الثاني للديكتاتور، وسيدفع صمود المحتجين وارتفاع معنوياتهم حتى بعد سقوط عشرات الشهداء بن على للظهور مجددا، ولكن ظهوره هذه المرة سوف لن يكون ككل مرة. فسيظهر الدكتاتور الدموي الحازم مرتبكا و في صورة مهزوزة لم يتعود الشعب على رؤيته عليها بعد أن أقال مستشاره السياسي عبد الوهاب عبد الله والناطق الرسمي باسم الرئاسة عبد العزيز بن ضياء.إنه خطاب بن علي الثالث يوم 13 جانفي 2011 و الذي سيكون خطاب السقوط .قال بن علي حينها وهو يخاطب الشعب الثائر منذ 27 يوما والذي قدّم إلى حد ذلك الوقت أكثر من مائة شهيد وسمعه مرتين قبل ذلك أنه لن يترشح لانتخابات 2014 و أن لا رئاسة مدى الحياة، وأنه قد تمت مغالطته وتزويده بمعلومات غير صحيحة من قبل بعض المسؤولين وتعهد بمحاسبتهم بقوله: « لقد فهمت التونسيين وفهمت مطالبهم وتألمت لما وقع بعد قضاء 50 سنة في خدمة البلد و23 سنة على رأس الدولة.» وطالب بوقف إطلاق الرصاص على المحتجين فورا قائلا: « كفى عنفا أعطيت تعليمات حتى نفرق بين مجموعات المنحرفين والناس العاديين. لم أقبل يوما أن تسيل قطرة دم واحدة من دماء التونسيين. أتألم كثيرا لما حدث. أعطيت تعليمات لوزير الداخلية لوقف إطلاق الرصاص فورا.»
ولم يكتف بما سبق بل أضاف:«...أتعهد بدعم الديمقراطية وتفعيل التعددية وصون الدستور. قررت إعطاء الحرية الكاملة لوسائل الإعلام وعدم فرض رقابة عليها هذا بالإضافة إلى حق المواطن في التظاهر السلمي والحضاري.» كما أشار أيضا أنه سيأمر بتخفيض أسعار المواد الأساسية مشدّدا على أنه سيطالب لجنة التحقيق المستقلة في الإحتجاجات التحقيق في مسؤولية كل الأطراف بدون استثناء وأنها ستكون مستقلة.
أما الجماهير المنتفضة فقد ردت على تصريحاته ميدانيا، حيث واصل الشعب بكل إصرار مظاهراته ومعاركه مع البوليس والجيش . فكانت الإحتجاجات على أبواب كنس الديكتاتور. ولأن الشعب الذي خبر قمعه ودمويته لم تعد تعنيه كثيرا وعود السراب من حاكم ساهم نظامه في كل مآسيه حين أعطى الأوامر بقتل المحتجين، وهو الذي تسبب في تدهورالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لأغلبية الشعب المستغل والمفقر والمقموع.
لقد ردت الجماهير على خطاب بن علي بمواصلة الثورة ، فالشعب لم يعد يخدع بكلمة "غلطوني وفهمتكم " ، ولأنه حين كان يعلن في خطابه الثالث عن التوقف عن إطلاق الرصاص قائلا "فهمتكم" و"يزّي من الكرتوش" كانت مليشيات القنص تنشط وتحصد الرؤوس.
فقد كشفت مصادر بعد فرار الدكتاتور أن مدير الأمن الرئاسي علي السرياطي [5] بمعية قيادات من جهاز الأمن الرئاسي أشرف قبل أربعة أشهر من بدء الاحتجاجات الشعبية على تدريب ميليشيات خاصة من خارج أعوان الأمن الرئاسي بأمر مباشر من بن علي. وهذه المليشيات وقع إطلاقها منذ بدء الإحتجاجات لتأخذ طابعا شاملا وتعمّ كامل أنحاء البلاد. إنها عصابات إجرامية مدربة ومسلحة بأسلحة قنص دقيقة وتحوز على أموال وافرة وتتحرّك بسرية مطلقة .
وتذهب بعض المصادر إلى الربط بين العمل الإجرامي الذي كانت تقوم به هذه المليشيات وما ردّده الديكتاتور بن على في خطابه الأول حيث نعت المتظاهرين بالإرهابيين والمأجورين للخارج وبأنهم عصابات إرهابية ملثمة تعتدي على الناس وعلى أمن البلد حتى يتسنى له التسويق لفزاعة الإرهاب وتبرير قمع الاحتجاجات وتشويه صورة الانتفاضة الشعبية.
لقد فهم الشعب من أن خطاب الدكتاتور لم يكن إلا مناورة جديدة خصوصا وأن داعميه الأوربيين فرنسا تحديدا والأمريكان بدا موقفهم ينحو منحى جديدا رافضا للاستخدام المفرط للقوة في مواجهة المحتجين.
من ذلك أن مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان قد ناشدت النظام للتحقيق في قتل الشرطة لعشرات المدنيين وأبدت قلقها من تعرض النشطاء للاحتجاز والتعذيب موضحة أن مكتبها مستعد لمساعدة السلطات التونسية على التحقيق في أي استخدام مفرط للقوة وتقديم المسؤولين على ذلك للعدالة. كما نددت فرنسا بما وصفته بالاستخدام غير المناسب لقوات الأمن التونسية ضد المحتجين.
فشلُ بن على في إقناع الشعب بالإجراءات التي أعلن عنها لم يُبْقِ أمامه الكثير من الخيارات لإنقاذ نظامه الفاسد من السقوط . فحتى تلك المسرحية التي وقع إعدادها بتنسيق بين جهاز البوليس والتجمع الدستوري الديمقراطي والتي صورتها التلفزة التونسية وبثتها ليلة 14 جانفي فإنها كانت أشبه بمسخرة في نظر التونسيين. لقد شاهد التونسيون ليلتها عشرات التجمعيين على متن سيارات في الشارع الرئيسي للعاصمة يحملون صور الديكتاتور ويهتفون بحياته ويشيدون بخطابه. لقد كان المشهد فعلا مثيرا للسخرية.
إنها آخر فصول مسرحية تعود بها الشعب منذ 23 سنة وملّها بحيث مرّ الحدث في الظل ولم يصدقه أحد ولم يكن له وقعٌ على أحد.
وبعد فرار الدكتاتور كشفت مصادر عديدة على أن تلك المسرحية وقع الإعداد لها مباشرة بعد تسجيل الخطاب الأخير لبن على في لقاء بقصر قرطاج جمعه بمحمد الغرياني أمين عام التجمع الدستوري الديمقراطي والذي طلب منه الديكتاتور تنظيم مظاهرة يخرج فيها أعداد من التجمعيين على متن سيارات إلى شارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة مساندة له. وتحدثت نفس المصادر على أن ذلك الاجتماع سبقه اجتماع آخر بين بن على ورشيد عمار وعلى السرياطي تم فيه الاتفاق على أن يعلن في الغد الجمعة 14 جانفي، في صورة فشل خطاب الديكتاتور في إيقاف الإحتجاجات عن حظر الجولان ليلا.
أما ليلة 14 جانفي فقد تواصلت المواجهات بين المواطنين والشرطة في عديد الأحياء في العاصمة وفي المدن الداخلية،وبدأت نهاية بن على تقترب. وفي يوم 14 جانفي كان يوم الإضراب العام في تونس العاصمة.
وفي هذا اليوم خرجت مسيرة حاشدة من بطحاء محمد على من أمام المقر المركزي للإتحاد العام التونسي للشغل في اتجاه شارع الحبيب بورقيبة الشارع الرئيسي في العاصمة والذي احتله البوليس وأغلق كل المداخل المؤدية إليه. يومها كان الإصرار على المقاومة أكبر من كل يوم، ولم تصمد حشود البوليس في إيقاف المسيرة النقابية التي انضم إليها الآلاف وغصّ الشارع الرئيسي بالمتظاهرين الذي جاؤوا من كل الأحياء، ولم تتوقف إلا أمام مبنى وزارة الداخلية رمز سلطة الاستبداد ، حيث اعتصم أكثر من 15 ألف مواطن مرددين كلهم بصوت واحد "ارحل بن على ارحل". في نفس الوقت كانت قد خرجت وعلى طول البلاد وعرضها مسيرات ومظاهرات ترفع كلها نفس الشعار. لقد كان في أذهان كل الذين شاركوا في مسيرات يوم 14 جانفي أن هذا اليوم لابد أن يكون يوم الحسم الكبير. فإما الإطاحة ببن على وإما الموت.ولم يأت مساء 14 جانفي حتى أعلنت وسائل الأعلام عن فرار بن على.
نعم أطاح الشعب بالدكتاتور.
نعم فرّ الدكتاتور .إلا أن أجهزة نظام الديكتاتور ظلت قائمة.
جهاز البوليس ظل قائما .
البوليس السياسي ظل يعمل.
الجيش منتشر في كل البلاد.
برلمان الدكتاتور ومجلس مستشاريه مازالا قائمين.
حزب التجمع حزب الفساد مازال يواصل نشاطه.
عصابات السرياطي مازالت تنشط.
لقد سقط بن على ولكن نظامه بقي قائما .
لقد سجلت الثورة أولى انتصاراتها وأنجزت أولى مهماتها ولكن تحديات كبيرة مازالت ستواجهها: إنها المعركة مع بقيا نظام الديكتاتور الفار.
ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ

هوامش الفصل الثالث
[1] أنظر الرابط على شبكة الانترنيت http://www.facebook.com/video/video.php?v=1602568337856
[2] أنظر الرابط على شبكة الانترنيت http://www.facebook.com/video/video.php?v=1602365172777
[3] أنظر الرابط على شبكة الانترنيت http://observers.france24.com/ar/content-tunisia-students-demonstrations-strike-police-sidibouzid
[4] أنظر الرابط على شبكة الانترنيت http://www.youtube.com/watch?v=uCrkbB36O1M&NR=1
[5] السرياطي هو عسكري برتبة جنرال. تعرف عليه بن علي لما كان يعمل في وزارة الداخلية. لا يُعرف شيء عن تكوينه العلمي أو سنوات حياته الأولى. تم تعينه مديرا عاما للأمن الوطني يوم 18 فيفري 1991 في فترة عبد الله القلال. تولى هذا المنصب وبقي فيه حتى سنة 2002 ليصبح المسؤول عن الأمن الشخصي لبن علي حتى اعتقاله في جانفي 2011 بعد فرار الدكتاتور.
ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ
الفصل الرابع
بعض القضایا المتصلة بالثورة

1 ـ الفاعلون الحقیقیون في الثورة
لابد أن نذكّر في بداية هذا الجزء ونحن نبحث في مسألة الفاعلين الحقيقيين في ثورة الحرية والكرامة، أن الثورة قد حدثت في ظل أزمة شاملة يعيشها المجتمع التونسي نتيجة ارتباطه العضوي باقتصاد السوق، وهي أزمة شملت جميع مناحي الحياة بالنسبة للطبقات والفئات التي يطحنها النظام الرأسمالي الذي يعاني هو نفسه من أزمة هيكلية عامة على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية والإيديولوجية.
لقد قامت ثورة الحرية والكرامة في ظل نظام أصبح وجوده وهيمنته مشروطين بإنتاج المزيد من التفقير والقمع والاستبداد وفي ظل تناقضات أصبحت كل المؤشرات، وارتباطا بالشروط التي تعيش في ظلها غالبية الشعب، توحي ألاّ حل لها إلا من خلال ثورة شعبية واسعة تشنها هذه الأغلبية الشعبية، التي يطحنها النظام الرأسمالي، من أجل تغيير واقع العوز والاستغلال والتفقير والتهميش الذي حوّل حياتها إلى جحيم لا يطاق.
إنّ ارتباط الاقتصاد التونسي بالخيارات الليبرالية في ظل نظام سياسي مستبد وقمعي معادي لأبسط الحريات، وتسيطر فيه، على أهم شرايين الاقتصاد، فئة برجوازية طفيلية برأس متنفذة مكونة من مافيا المال والفساد، وبجهاز إداري بيروقراطي لم ينتج، وعلى مدار أكثر من عقدين، إلا المزيد من الاستغلال والتفقير والتهميش.
كما أن تنفيذ خطط البنك الدولي المتعلقة بالخصخصة وتحرير الأسعار و التداين، وانسحاب الدولة من التزاماتها الاجتماعية والاقتصادية وفتح الحدود للرأسمال الأجنبي للاستثمار لم يؤد إلى مضاعفة استغلال الطبقة العاملة و إفقارها فقط بل أدى أيضا إلى توسيع الكتلة الطبقية المتضررة من هذه السياسات لتشمل شرائح عديدة من البرجوازية الصغيرة .
ولئن حافظ جزء من الطبقة العاملة على موقعه في عملية الإنتاج فإن جزءا كبيرا من العمال فقد شغله بفعل عمليات التسريح والعجز الهيكلي والهشاشة التي عليها الاقتصاد، ليتعزّز جيش البطالين سنويا بأفواج جديدة من أصحاب الشهادات. هكذا وعلى مدار عشريتين، أصبحت الطبقة العاملة التونسية مشكلة من جزء ناشط منتج (عمال القطاع الخاص الصناعي والتجاري والخدماتي والفلاحي)، حيث يعمل أغلبهم في إطار عقود المناولة وفي وضع من البؤس والتفقير المتواصلين نتيجة هشاشة التشغيل. وجزء آخر معطل عن العمل يشمل العمال الذين وقع تسريحهم ومن أصحاب الشهادات الجامعية أو من ذوي التكوين المهني المحدود أو كذلك ممن لا تكوين لهم على الإطلاق.
إن طبيعة الاقتصاد التونسي التابع، والمرتبط بنظام الليبرالية الجديدة وباقتصاد السوق ساهمت إلى حد كبير في الدفع بفئات كثيرة من البرجوازية الصغيرة إلى الحضيض والعيش في وضع اقتصادي واجتماعي شبيه بوضع الطبقة العاملة، مما قلص من الفروق الطبقية بينهما.
أما الكتلة الطبقية الأكثر تضررا من نمط الاقتصاد المتبع في تونس في العشريتين الماضيتين، فإنها لم تقتصر على العمال وفئات من البرجوازية الصغيرة بل شملت أيضا فئات من البرجوازية المتوسطة المدينية والريفية، والتي تراجعت مرابيحها وأفلس جزء منها نتيجة المزاحمة الشرسة واللامتكافئة التي كانت تضعها وجها لوجه أمام الشركات المعولمة العابرة للقارات.
يذهب البعض إلى اعتبار جيش المعطلين عن العمل خارج التصنيف الطبقي ويفصل بين أوضاعهم وأوضاع العمال عموما مما ينفي عنهم أي دور في إنجاز المهام الثورية. في حين أن هذه الفئة تعتبر قوة عمل احتياطية تشترك مع العمال في أوضاع الاستغلال والتفقير والتهميش وانسداد الأفق. لذلك لا بد من التأكيد على أن الثورة قد حدثت في ظل أوضاع اجتماعية واقتصادية تؤهل هذا القسم من الطبقة العاملة (المعطلون)، كما قطاع عريض من المهمشين الذين يشغلون بعض المهن الصغيرة غير المهيكلة، والتي عادة ما تكون على هامش السوق، إضافة إلى الشباب الطلابي والتلمذي، للعب دور محوري في قيادتها ومواصلتها. وقد بينت الأحداث أن هذه الفئة كانت دائما في طليعة النضالات.
لقد شكل هذا القطاع الواسع من الطبقة العاملة إطارا لتجربة التنظم الذاتي المحلي حين ظهرت منذ الأيام الأولى للثورة نواتات للدفاع الذاتي نشطت في حماية الأحياء والتصدي للقمع البوليسي.
فالتحركات التي سبقت 17 جانفي 2011 كانت تؤشر إلى أهمية فئة المعطلين عن العمل و الدور الذي لعبته كفاعل اجتماعي جديد في مقاومة الخيارات الاقتصادية والسياسية والثقافية المكرسة.
ففي انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 ،نجح أصحاب الشهادات العليا والمعطلين عن العمل في تحويل احتجاج على المحسوبية والمحاباة في انتداب للعمل قامت به شركة فوسفاط قفصة إلى انتفاضة محلية استمرت ستة أشهر في عملية مقاومة هي الأولى من نوعها في تونس منذ 1987.
وفي شهر أوت 2010 نجح قطاع عريض من السكان من صغار ممارسي التجارة الموازية في بلدة بنقردان، التي تقع على الحدود الليبية، في جعل البلدة كلها تنتفض لتتحول الانتفاضة إلى مواجهات دامية مع البوليس ضد قرار السلطات الليبية غلق معبر رأس جدير في وجه السلع المتجهة إلى تونس، و بإيعاز من متنفّذين من عناصر مافيا الاقتصاد في تونس.
ولئن كان لهذا القسم من الطبقة العاملة الدور الرئيسي في الثورة وفي قيادة عملية المقاومة ضد نظام بن علي والاستمرار فيها، فإنه وبحكم موقعه الهامشي من عملية الإنتاج كان موضوعيا عاجزا على تطوير ومركزة أشكال التّنظّم الذاتي الجنينية التي أنشأها ومن ثمة تصليب عودها وتحويلها إلى أجهزة بيده للإدارة المحلية مستقلة ومقاومة. كذلك لم تقدر الحركة الجماهيرية أثناء الحراك الثوري على إفراز تنظيم عمالي جماهيري من داخلها يكون قادرا على كسب ثقة الجماهير الكادحة وتنظيمها و تأطيرها وقيادتها، وقد ظهر ذلك جليا أثناء الثورة حين تواصلت دون قيادة سياسية سواء قبل الإطاحة بالديكتاتور بن على أو بعده.
إن ثورة الحرية والكرامة التي انطلقت عفوية كانت ثورة قطب طبقي سحقه الاستغلال والقمع طيلة أكثر من عشريتين، ووحدته موضوعيا مصالحه الطبقية في وجه مستغليه وقامعيه. فالكتلة الطبقية التي ثارت من أجل تحقيق مطالبها الاجتماعية والسياسية هي كتلة دفعت بها الاختيارات الاقتصادية والسياسية للطبقة البرجوازية التابعة والمرتبطة باقتصاد السوق، والمتحكمة بكل دوليب الدولة وأجهزتها، إلى أن تعيش حالة إفقار مطلق وصل في قطاعات منها إلى حد أصبح لا يطاق، وهو ما مكنها إبان الثورة من أن تخوض صراعها بكل إصرار.
فهذا القطب الطبقي الممثل بالعمال والمعطلين وشرائح عديدة من البرجوازية الصغيرة المدينية المفقرة سيشكل الكتلة الجماهيرية أو الشعب الثائر ضد الدكتاتورية .
إنّ ثقل البؤس الذي تعيشه هذه الكتلة الجماهيرية، وحدّة القمع الذي كانت تعانيه وانسداد الأفق أمامها لتجاوز واقعها المتردي، هو الذي دفع بها إلى كل ذلك النشاط الثوري الذي انخرطت فيه والذي تصاعد بوتيرة سريعة وأدى إلى إسقاط بن علي.
لئن بدا تصميم الجماهير كبيرا على الإطاحة بنظام بن علي منذ أن توسعت الاحتجاجات وعمت مختلف أنحاء البلاد فإن هذا الإصرار في مواجهة النظام سرعان ما تراجع وانحدر ما إن سقط رأس النظام، حيث لم تتمكن الجماهير من أن تعي مباشرة أنّ مهامها الثورية لم تكن تستهدف رأس النظام بقدرما كانت تستهدف النظام القائم برمته وأن مصالحها الجوهرية لا يمكن تحقيقها إلا إذا واصلت نشاطها الثوري وربطت مطالبها السياسية بمطالبها الاقتصادية، وهو ما يعني استهداف كامل النظام السياسي والاقتصادي القائم. لم تع الجماهير مسؤوليتها في إنجاز مهمات ثورتها ولم تخلق ومن داخل حراكها أداتها التنظيمية المستقلة وبرنامجها السياسي المتمثل لمصالحها باعتبارهما ضرورة لابد منها لمواصلة الثورة حتى تحقيق أهدافها كاملة.
لقد غاب عن الجماهير أن العامل الذي لابد منه للاستمرار في الثورة، وقطع الطريق على بقايا النظام والقوى البرجوازية والليبرالية والإصلاحية والبيروقراطية النقابية لترميم نظام الدكتاتورية، هو أن تسلّح الجماهير الثائرة نفسها في الأحياء والمصانع وفي كل أماكن تواجدها بسلاح التنظم الذاتي و الإدارة الذاتية لكل مناحي الحياة ، من أجل خلق حالة من ازدواجية السلطة.
إنّ أسباب عجز الحركة الشعبية عن إفراز تنظيمها الجماهيري أثناء الحراك الثوري وتجاوز عفويتها وتحقيق مهام الثورة، أسباب عدة. فالحركة العمالية وتحديدا قسمها العامل في القطاع الخاص ظل مترددا ولم ينخرط في الحراك إلا جزئيا، وفي مرحلة متأخرة نظرا لغياب الوعي لدى هذا القسم بمصالحه الطبقية وبضرورة النضال من أجل تحقيقها، وبالتالي بأهمية التنظم السياسي المستقل عن الأطر الإصلاحية والبرجوازية. فانتساب هذا القطاع للإتحاد العام التونسي للشغل كان يعدّ ضعيفا جدا مقارنة بانتساب قطاعات الوظيفة العمومية الذي يطغى عليه العنصر البرجوازي الصغير. كما أن فئة الشباب من المعطلين والتي كانت أكثر القطاعات كفاحية في الثورة لم تكن مؤهلة للدفع في اتجاه بناء أداة تنظيمية وسياسية جماهيرية لقيادة الثورة، وظلت تنشط بشكل غير منظم وممركز. كذلك ظلت القوى السياسية اليسارية والتي تعتبر نفسها معنية بالثورة وبالتجذر في الأوساط العمالية وقيادة الجماهير الشعبية بعيدة وعاجزة عن الالتحام بالحركة الجماهيرية والارتباط بقوى الثورة، وانساقت وراء ما هو سياسي وأغفلت الجانب الاجتماعي الاقتصادي للثورة ومهمة تنظيم الجماهير، وهو ما جعلها تبقى في عزلة تحول دونها والقيادة السياسية والميدانية للجماهير. كما لا يجب أن نغفل الدور الذي لعبته المركزية البيروقراطية المهيمنة على الإتحاد العام التونسي للشغل في تكبيل كل إمكانية لاستقلالية الحركة العمالية سواء في عهد الديكتاتور أو بعد الإطاحة به.
لقد حدثت الثورة في ظل شروط موضوعية ناضجة ومؤهلة لحصول عملية تغيير جذري، إلا أن الشرط الموضوعي وحده ليس كافيا لضمان انتصار الجماهير وتحقيق كل مهمات الثورة. لقد كان لغياب العامل الذاتي وعيا وتنظيما الدور الحاسم في اكتفاء الجماهير بالإطاحة ببن علي وليس بنظامه ككل، وفي صعوبة أن تأخذ الثورة طابعا صريحا ومعاديا للإمبريالية وأن تتخلى الجماهير عن مطالبها الاجتماعية. كما ساعد بقايا النظام على الالتفاف على الثورة والمناورة لحرفها عن مسارها وتوقيف المسار الثوري دون أن تتمكن الجماهير من إنجاز مطالبها السياسية والاقتصادية التي ثارت من أجل تحقيقها.

2 ـ طبيعة ثورة الحرية والكرامة
منذ 14 جانفي تحولت مسائل مثل طبيعة الثورة والقوى الطبقية التي قامت بها وطبيعة السلطة التي يجب أن ترسيها والمهام المطروحة التي يجب أن تحققها، من مقولات نظرية يتطارحها قلة من النخبة اليسارية إلى مسائل تهم القوى الطبقية التي قامت بالثورة، والإجابات عليها ستحدّد مستقبل الثورة ومستقبل الصراع ضدّ الطبقة البرجوازية وبقايا نظام بن علي، فإما السير بالثورة إلى النهاية أو التعثر والتراجع وإتاحة الفرصة لهذه الطبقة ولممثليها لإعادة ترميم نظامها السياسي.
فعندما أطاحت الجماهير يوم 14 جانفي بالدكتاتور بن علي، كان مفترضا أن تتقدم الثورة على أرضية طبقية واضحة وتبدأ في تحقيق مهماتها التي تكثفها المطالب الجوهرية لأي تغيير جذري (الحق في السلطة ـ الحق في الثروة ـ الحق في الديمقراطية). لقد جسّد رحيل الديكتاتور بداية انهيار سلطة البرجوازية . فيوم 14 جانفي 2011 سقطت شرعية الدولة البرجوازية وشرعية نظامها السياسي والاقتصادي، وتقلص نفوذ جهازها القمعي إلى أقصى درجة ودبت فيه الفوضى. وفي اليوم الموالي لرحيل الدكتاتور بن علي لم يلتحق رجال الشرطة بمراكز عملهم، وخلت منهم الشوارع ولم تبق غير قوات الجيش تحرس الوزارات والإدارات وتتمركز في بعض الساحات والمفترقات. يومها كان الشعب وبكل أطيافه في كل بلدة وبشكل عفوي يمارس سلطة أخرى ومن نوع جديد، إنها سلطة ثورية قاعدية عبر اللجان التي انتشرت في كل مكان لحماية الأحياء وتسيير شون الحياة اليومية. لقد سقطت شرعية النظام وبدأت تظهر للوجود شرعية الثورة والثوار،حين تمظهرت في تلك اللجان الشعبية القاعدية، لتتجاوز عفويتها وتؤسس لشكل جديد من السلطة البديلة .
فقد كان يكفي أن تدعم القوى التي تنسب نفسها للثورة وتحديدا القوى اليسارية هذا الشكل القاعدي الثوري للسلطة الشعبية وتنخرط فيه وتتبناه حتى يتحول إلى سلطة حقيقية لا تقهر، باعتباره الشكل الأكثر ديمقراطية والأكثر تمثيلا للشعب. فمطالب الحق في الديمقراطية و الثروة والسلطة والتي رفعتها الجماهير ومثلت أرضية مطالب الثورة كانت تتطلب سلطة من نوع المجالس الشعبية لتحقيقها. لم يكن بمقدور هذه المجالس، وهي على شكلها العفوي وفي غياب تملكها لرؤية سياسية برنامجية ،أن تتحول إلى سلطة بديلة.
لقد كان موكولا لليسار الثوري أن يعمل من داخل الجماهير ومعها على تجاوز العفوية وتملّك البرنامج، لكن، و للأسف، لم يكن اليسار الثوري يعي أهمية ما يجري أمامه. ولأن الصراع لا يتوقف ولا ينتظر من ليس جاهزا أو من لم يع مهماته في وقتها، ولأن مسألة حاسمة في الصراع كمسألة السلطة لم تكن لتتطلب التأجيل، فقد كان في الجانب الآخر قوة سياسية أخرى، أكثر جرأة في الإعلان عن نفسها رغم لاشرعيتها ورغم سجلها القمعي والإجرامي في حق الشعب، على أنها البديل عن نظام الديكتاتور: إنها بقايا الدكتاتورية.
لقد أطيح بالدكتاتور ولكن بقايا الدكتاتورية عادت وظهرت على الركح من جديد،مستفيدة من غياب رؤية واضحة حول المسائل المتعلقة بطبيعة الثورة وطبيعة السلطة التي سترسيها والمهام الثورية المطروحة للإنجاز في صفوف تيارات اليسار الماركسي التونسي. الأمر الذي أدى به إلى تبني مواقف إصلاحية برجوازية صغيرة ساهمت بشكل أو بآخر في توقيف المسار الثوري بعد 14 جانفي ومكنت البرجوازية من مواصلة سيطرتها الطبقية وإعادة ترميم نظامها.
فالكثير من مجموعات اليسار الماركسي الستاليني والماوي تربت على نظرية الثورة على مراحل، ولم تكن ترى في الثورة في بلد كتونس سوى ثورة وطنية ديمقراطية لا يمكن أن يلعب فيها العمال إلا دورا داعما ومساعدا للبرجوازية الوطنية الموكول لها إنجاز المهمات الديمقراطية. لقد بنوا كل إستراتيجيتهم على برنامج الحد الأدنى الديمقراطي أو برنامج الجمهورية الديمقراطية. لقد كانت هذه المجموعات ترى أن الدور الرئيسي في الثورة سيكون للبرجوازية الوطنية وبنوا كل تصوراتهم البرنامجية حول أولوية المهمات الديمقراطية التي يمكن تحقيقها على أرضية برجوازية. فأطروحاتهم لازالت تعتبر قسما من الطبقة البرجوازية التونسية وطنيا وتوكل إليه مهمات ارساء الدولة الديمقراطية بدعم من العمال وشرائح البرجوازية الصغيرة.
سيطرت في تونس، وفي إطار إستراتيجيا الاستعمار الجديد وفي أغلب البلدان التي خضعت في فترة من تاريخها للاستعمار المباشر، على دواليب الدولة والاقتصاد، طبقة برجوازية مرتبطة عضويا برأس المال العالمي وتابعة له، بنت نفوذها الاقتصادي والسياسي ودعمته على قاعدة هذه التبعية.وقد فرضت الإمبريالية العالمية على هذه الطبقة، وهو نفس الشأن بالنسبة لكل البلدان المتخلفة تقريبا، أن تقبل بإستراتيجيتها الجديدة القائمة على الهيمنة التي تعني الإبقاء على تخلف المجتمع على كل المستويات، وهو الوضع الذي قبلت به البرجوازية التونسية ضعيفة الرأسمال ومحدودة السوق. و هذه التبعية تكرست أكثر فأكثر أثناء عولمة رأس المال في العشريتين الأخيرتين.
لقد عجزت البرجوازية التونسية التابعة المرتبطة مصالحها عضويا بالمصالح الإمبريالية عن تحقيق مهمات التحرر الوطني و بناء الدولة الديمقراطية، ولم تتمكن من إرساء إلا دولة ديكتاتورية أنتجت المزيد من الأزمات الاجتماعية والقمع المعمم والتبعية والاستبداد والفساد. ولم تكن دولة البرجوازية التابعة سواء في عهد بورقيبة أو في عهد خلفه سوى دولة دكتاتورية قائمة على القمع ومصادرة الحريات الديمقراطية. فهي دولة مؤسساتها صورية، لا شعبية وغير ديمقراطية، شرّعت لنظام الحزب الواحد وتضخمت فيها مؤسسة الرئاسة وتعاظم فيها دور الرئيس إلى حد إنتفت فيه أية سلطة خارج سلطاته. وحتى بعض الحريات الجزئية التي وقع التنصيص عليها في دستور 1959 فإنها ظلت مجرد حبر على ورق، لأنه وقع إبطالها بقوانين لاحقة مانعة لكل إمكانية لتحقيقها على أرض الواقع.
ولعل ارتباط البرجوازية المحلية برأس المال العالمي وانخراطها في المشروع الإمبريالي الاستعماري جعلها تتحول إلى وكيل للإمبريالية وعَكَسَ العجز التاريخي الذي أصبحت عليه هذه البرجوازية في علاقة بالمسألة الوطنية والديمقراطية و جردها من أي طابع وطني أو ديمقراطي تقدمي.
وبالرغم من أهمية مسألة الحريات والديمقراطية والتحرر من الهيمنة الإمبريالية وما تطرحه من إشكالات سواء فيما يتعلق بالقوى الطبقية التي ستنجزها أو بموقعها في البرنامج الثوري فإنها بقيت بحاجة إلى نقاش عميق في صفوف تيارات اليسار الماركسي التونسي الجديد والتي بدَت وكأنها متفقة في الجوهر منذ ظهورها في ستينات القرن الماضي بإتجاهيها الستاليني والماوي على أن أمر إنجاز هذه المهمات يتطلب مرحلة قائمة بذاتها منفصلة عن مرحلة الثورة الاشتراكية برغم الدور الذي ستلعبه فيها الطبقة العاملة وفئات البرجوازية الصغيرة وبالتالي فالثورة المطروحة في تونس هي ثورة ذات طابع وطني ديمقراطي سيتم إنجازها في إطار تحالف واسع سيظم العمال والفلاحين والبرجوازية الوطنية وسينجز هذا التحالف مهمة الاستقلال عن الإمبريالية وسيرسي الحريات الديمقراطية. وباعتبار التخلف الذي عليه بنى المجتمع الاقتصادية فإنه موكول لطبقة البرجوازية الوطنية أن تبني اقتصادا وطنيا تتطور على قاعدته علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج في مرحلة أولى قبل المرور إلى المرحلة الثانية التي سيقع فيها بناء الاشتراكية.
مثل هذا الطرح قاد هذه المجموعات اليسارية إلى تبنى مفهوم الثورة الاشتراكية على مراحل وتبني مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية التي تسبق الثورة الاشتراكية، والتي هي بالمحصلة ثورة لا تستهدف قلب النظام الرأسمالي وتغيير المجتمع وإنهاء سيطرة الطبقة البرجوازية بقدرما هي عملية سيقع فيها تغيير السلطة بسلطة تمثل هذا التحالف الوطني الديمقراطي دون المساس بأسس النظام الرأسمالي.
هذا الطرح لم يتبناه الستالينون والماويون التونسيون على أساس تحليل ملموس للواقع بل هو في الحقيقة كان لديهم صدى للأطروحات الاشتراكية الروسية في بداية القرن العشرين وقبل أكتوبر 1917 والتي كانت لا ترى للبروليتاريا أيّ دور في البلدان التي لم تنجز فيها البرجوازية ثوراتها الديمقراطية إلا مساعدة هذه الطبقة على إنجاز المهام الديمقراطية لتسهيل مهمة النضال في سبيل الاشتراكية.
هذه الخلفية النظرية كانت وراء حصر مجموعات اليسار التونسي الستالينية والماوية لنضالاتها طيلة الفترة البورقيبية وكذلك أثناء حكم الديكتاتور بن على في النضال من أجل الإصلاحات الديمقراطية والحريات السياسية، وهو أفق جعلها،وطيلة تاريخها تناضل من أجل الجمهورية الديمقراطية والدولة التعددية، وتعجز عن إدراك أن إنجاز المهمات الديمقراطية أصبح يتطلب سلطة تبنى على أنقاض هذه الجمهورية الديمقراطية البرجوازية نفسها سلطة من طراز جديد يقع إرساؤها في إطار ثورة تنجز فيها القوى الثورية، بقيادة الطبقة العاملة، هذه المهمات عرضا في إطار برنامجها الثوري المعادي للنظام الرأسمالي.
إن أطروحة الثورة الوطنية الديمقراطية تقوم على تناقضات عديدة و فهم وقراءة خاطئة لتاريخ تطور النظام الرأسمالي العالمي والحدود التي انتهى إليها، والأزمة التي أصبح يتخبط فيها كما الوضع الكارثي الذي وضع فيه هذا النظام الإنسانية جمعاء على كل المستويات. لقد ولى ذلك الزمن الذي كانت فيه الرأسمالية قوة طبقية دافعة تقدمية وديمقراطية، فقد ارتدّت منذ بداية القرن العشرين الوظائف التقدمية لهذا النظام أمام اتجاهاته البربرية، والتي تجلت صورها الأكثر دمارا في وقتنا الحاضر: حروب تفقير معمم وبطالة مرتفعة وتهميش إقصاء اجتماعي وتدمير للبيئة ...
ولئن وقع التأكيد على هكذا مضامين منذ بداية القرن العشرين عن طريق مفكرين ثوريين مثل روزا لكسمبررغ وترو تسكي ولينين فإن مقولة "إما الاشتراكية أو البربرية" تجد إثباتاتها التي لا تقبل الدحض اليوم في عصر الليبرالية المتوحشة أكثر من أي وقت مضى. إننا نعيش عصر قمّة الانحدار التاريخي لنمط الإنتاج الرأسمالي عصر زوال الرأسمالية.
لقد فشلت كل أنظمة هذا النمط من الإنتاج ولم تعد تؤدي إلا إلى الأزمة وإقصاء الأغلبية واستغلالها أكثر واستبعادها عن المشاركة في تنظيم وإدارة شؤون حياتها ومحيطها على كل الأصعدة .فمقولة الديمقراطية البرجوازية قد سقطت باعتبارها ليست إلا ديكتاتورية مقنعة للأقلية المتحكّمة والمالكة لوسائل الإنتاج.
وهذا يدحض أية أطروحة مازالت إلى اليوم ترى أنه بإمكان الطبقة البرجوازية قيادة عملية التقدم الاجتماعي سواء في بلدان المركز أو في بلدان الدائرة المحيطة به، لأن اندماج البرجوازية على المستوى العالمي و ارتباط مصالحها في ظل النظام الاقتصادي المعولم يجعل رأس المال فاقدا لأي بعد وطني. لقد اندمجت برجوازيات البلدان التابعة اندماجا كليا بآليات السوق وسقطت كل الحواجز أمام عولمة رأس المال.
إن حاجة الشعوب اليوم في البلدان التي لم تنجز فيها البرجوازية ثوراتها الديمقراطية إلى ديمقراطية حقيقية في الانتخاب الحر للحكومات و حرية الصحافة والتعبير والتنظم و الاجتماع و فصل الدين عن الدولة والمساواة بين الجنسين تعدّ مسألة مؤكدة. وكل هذه المهمات لم يعد بمقدور الشعوب تحقيقها في إطار النظام الرأسمالي وبقيادة البرجوازية، لأن هذه البرجوازية أصبحت هي نفسها المعرقل لإنجازها، وقد ثبت ذلك تاريخيا حتى في أعرق البلدان التي نطلق عليها بلدان الديمقراطية البرجوازية مثل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا و بريطانيا و ألمانيا واليابان و سويرا فكل أجهزة الديمقراطية البرجوازية ومؤسساتها من برلمانات وقضاء وإعلام وأنظمة إدارية محتكرة بصفة كلية في يد الأقلية البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج وموجَّهَة للتحكم في الأغلبية حتى أننا أصبحنا نتحدث عن مجتمع الأقلية المالكة والحاكمة والموجِّهة والمسيطرة على الأغلبية المستغَلَّة والمفقَّرة والمبعَدة. لذلك فمهمة إنجاز الحقوق الديمقراطية سواء في البلدان الإمبريالية المتقدمة أو في البلدان التي تسيطر فيها ديكتاتوريات برجوازية تابعة للإمبريالية تتطلب قوة طبقية أخرى غير البرجوازية. وهي القوة المؤهلة موضوعيا بحكم وضعها الطبقي لإنجاز هذه المهام إلى النهاية. إنها مهام الطبقة العاملة وحلفائها من فئات البرجوازية الصغيرة المفقرة وغير المالكة التي سيكون بمقدورها القيام بذلك. لقد أصبح من البيّن في عصرنا الذي بلغت فيه عولمة رأس المال ذروة وحشيتها أنْ لا طريق لبلوغ الحقوق الديمقراطية إلا عبر الإطاحة بالدولة البرجوازية وبالرأسمالية كنمط إنتاج.فليس هناك من حل وسط ،فإما ثورة تقلب الأمور جميعا بمعنى أن تطيح بالدولة البرجوازية وتتوّصل فيها الأغلبية بقيادة الطبقة العاملة إلى السيطرة على وسائل الإنتاج، وإما ثورات فاشلة لا تغير من الوضع القائم كثيرا، لأن إمكانية ترميم النظام السياسي البرجوازي وكل أجهزته تظل قائمة كما الاستغلال واللامساواة والتهميش والإبعاد طالما ظلت الثروة ووسائل الإنتاج في أيدي قلة من الرأسماليين.
لم يفهم اليسار الماركسي الستاليني والماوي في تونس كل هذا لذلك رأيناه بعد 14 جانفي يسارا مترددا وعاجزا عن الاستقلال عن الأرضية البرجوازية وغير قادر على بلورة برنامج الثورة ومهامها والالتحام بالقوى الثورية وممارسة الصراع ضد بقايا الديكتاتورية من موقع الطبقة العاملة وحلفائها. ولم يكن الستالينيون والماويون في تونس أحزابا ومجموعات قادرين على إدراك أن تحقيق المهمات الديمقراطية للثورة في تونس أصبح يتطلب سلطة عمالية وشعبية وأن الطابع الديمقراطي للثورة ليس إلا طابعا عرضيا أمام طابعها الأساسي المعادي للرأسمالية.
إن عجز اليسار الستاليني والماوي على تجاوز أطروحة الثورة على مراحل وفهم طبيعة الثورة وطبيعة السلطة التي يمكن أن تنجز المهام الديمقراطية للثورة كان حاسما في جعل قوى اليسار لا تطرح على نفسها مسألة السلطة ولا تبني برنامجها على هذه القاعدة وتكتفي بالنضال في إطار الأرضية التي فرضتها البرجوازية عبر بقايا الدكتاتورية، وبدعم من الإمبريالية، وتحصر كل نشاطاتها في الجانب السياسي وتغفل البعد الاجتماعي للثورة وتختزل كل مطالب الثورة في مسألة المجلس التأسيسي الذي سينجز على قاعدة قانونية صاغتها هيئة بن عاشور المسماة بـ"الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" التي نصبتها الحكومة المؤقتة اللاشرعية، وهي ديناميكية لا يمكن أن تفضي إلا إلى ظهور برلمان برجوازي، مثله مثل كل البرلمانات البرجوازية في العالم، عبره ستواصل البرجوازية المحلية المدعومة إمبرياليا سيطرتها الطبقية سياسيا واقتصاديا على الطبقات الفقيرة.
لقد بينت تجارب عديد الثورات في القرن العشرين الخطأ القاتل الذي إرتكبه اليسار الماركسي في حق الحركة العمالية أثناء هذه الثورات عندما قبل بأطروحة الثورة على مراحل واعتبر أن تلك الثورات هي ثورات ديمقراطية ويتطلب إنجاز مهماتها تحالفا بين الطبقة العاملة والأحزاب البرجوازية، والذي لم يكن يعني إلا خضوع الطبقة العاملة للبرجوازية. ولن نذكّر هنا بكل تجارب الثورات التي وقعت في القرن العشرين وأجهضت بسبب أخطاء الأحزاب الماركسية المتعلقة بمسألة طبيعة الثورة وقيادتها ونوع السلطة التي يجب أن ترسيها، وسنكتفي فقط بالإشارة إلى تجربتين نموذجيتين في هذا الباب:
تمثل الأولى خطإ الحزب الشيوعي العراقي، حين أسقطت الحركة الجماهيرية الملك فيصل سنة 1958، وقد كان وقتها الحزب قويا وقادرا على تجذير الثورة وقيادة الطبقة العاملة وحلفائها الفلاحين إلى استلام السلطة، لكنه ونظرا لطبيعة برنامجه الإستراتيجي المبني على إستراتيجية الثورة على مراحل وعلى برنامج الحد الأدنى القائم على اعتبار أن الثورة ثورة ديمقراطية وأنه يجب التحالف مع البرجوازية الوطنية لإنجاز المهام الديمقراطية، خير التحالف مع حزب البعث على أساس أنه حزب يمثل البرجوازية الوطنية. لقد كان لهذا الخطأ الإستراتيجي تلك النتيجة الكارثية التي نعرفها جميعا، حيث لم يؤد هذا التحالف، والذي لم يكن يعني غير سيطرة البرجوازية على الطبقة العاملة، إلا إلى انقلاب حزب البعث على الحزب الشيوعي واستئثاره بالسلطة، وبالتالي سيطرة الطبقة البرجوازية على الاقتصاد والدولة والمجتمع في إطار نظام صدام حسين التوتاليتاري . فاعتبار الثورة إنجازا ديمقراطيا تلعب فيها البرجوازية الوطنية دورا شبيها بالدور الذي لعبته البرجوازية الفرنسية إبان الثورة الفرنسية لم يكن إلا وهما، وهو الخطأ القاتل الذي إرتكبه الحزب الشيوعي العراقي. ففي ظل حكم صدام لم يكن بمقدور البرجوازية أن تبني غير اقتصاد تابع ودولة برجوازية تنعدم فيها أبسط الحريات الديمقراطية.
أما التجربة الثانية، فهي نموذج أيضا من الأخطاء الإستراتيجية لليسار الماركسي، تمثّلت تجربة الثورة الإيرانية سنة 1979، عندما وقع إسقاط شاه إيران. و كان للإضراب العام وللمجالس العمالية التي عمت البلاد دور حاسم في ذلك. وعوض أن يدفع اليسار الماركسي إبان هذه الثورة العمال وحلفائهم من الفلاحين الفقراء إلى إفتكاك السلطة اكتفى بتأييد الخميني كممثل للبرجوازية الوطنية انطلاقا من فهم خاطئ لهذا اليسار الماركسي لطبيعة الثورة وطبيعة السلطة والمهام التي ستنجزها. فكانت النتيجة كارثية أيضا باعتبار المسار الذي تطورت فيه الثورة الإيرانية وطبيعة السلطة التي أنشأها الخميني والمستمرة إلى اليوم ،ولكن على رقاب العمال والفلاحين الفقراء الذين خضعوا ومازالوا إلى استغلال لا مثيل له في ظل انعدام كلي لأبسط الحريات الديمقراطية. إنه الخطأ القاتل نفسه يتكرر في الثورة التونسية . فأحزاب ومجموعات اليسار الماركسي عجزت على أن تلعب دورا فاعلا في الثورة .
لذلك كانت قبل 14 جـانفي مترددة ومراوحة وحتى بعد أن تطور الوضع إلى سياق ثوري، بقيت على انعزاليتها وسلبيتها، لتُواصل هذا الحال حتى بعد الإطاحة بالدكتاتور.
إن غالبية الأحزاب و مجموعات اليسار الماركسي الستالينية والماوية كانت تغفل الدور القيادي للطبقة العاملة وحلفائها من البرجوازية الصغيرة في الثورة ولم تر من أفق للثورة أبعد من مهمة إرساء الجمهورية الديمقراطية .
وبعد 14 جانفي لم تكن هذه الأحزاب والمجموعات جذرية في طرح مسألة النضال ضد النظام ككل كما أنها قد ركزت على المستوى السياسي للصراع وعلى الموقف مما تطرحه الحكومة المؤقتة من مبادرات مع بعض الضغط عليها من أجل الحصول على بعض التنازلات.وحتى إسقاط حكومة الغنوشي الأولى والثانية فإنه كان نتيجة لفعل قوى الثورة التي رأت أن المهام الثورية لم تنجز بعد، وأن الإطاحة بالدكتاتور بن علي لابد أن تستكمل إلى النهاية باستبعاد كل بقايا الدكتاتورية. لقد فرضت الحركة الشعبية ذلك باعتصام القصبة الأول والثاني، لكن، ونظرا لغياب قيادة سياسية لهذه الحركة، فإن بقايا الدكتاتورية، وبدعم من الإمبريالية سرعان ما ناورت وعادت من جديد لمواصلة التحكم في المسار وتنصيب نفسها كسلطة مؤقتة للمرحلة التي ستسبق انتخاب المجلس التأسيسي.
لقد حصرت أحزاب ومجموعات اليسار الستاليني والماوي نضالاتها على شكل السلطة وليس على جوهرها الطبقي. ولم تكن إستراتيجيتها، بعد أن نصبت بقايا الديكتاتورية نفسها، مبنية على مواصلة الثورة والسير بها إلى النهاية حتى استكمال مهامها بقدرما كانت حول الإصلاح السياسي والإقتصاي و حول شكل الدولة وليس حول طبيعتها، وحول الحصول على إصلاحات اقتصادية وليس حول طبيعة النظام الاقتصادي ذاته.
إنّ أوهامهم حول طبيعة المرحلة وتناقضاتها، والحضور الطاغي للعنصر البرجوازي الصغير في تنظيماتهم هي التي قادهم إلى التركيز على التغيير السياسي كبعد وحيد في نضالهم، تُوجِّهُهُمْ في ذلك رؤية تفصل بين السياسي و الاقتصادي وبين شكل النظام وجوهره الطبقي.
ومثل هذه الأوهام قادت إلى اختزال كل استحقاقات الثورة في برامج هؤلاء في انتخاب مجلس تأسيسي وصياغة دستور جديد للبلاد. وجرّاء ذلك تحوّلت هذه الأحزاب والمجموعات إلى قوى تحشيد لانتخابات المجلس التأسيسي لا بعد عمالي أو طبقي في نضالها.
لقد غاب عن هؤلاء أن الجماهير ثارت وأطاحت ببن علي لأنها كانت تعاني من واقع اقتصادي واجتماعي وسياسي كارثي، وأن أي تغيير، لا يكون فعلا مجديا إلا إذا عالج مسألة الوضع الاقتصادي المباشر لهذه الجماهير كما الوضع السياسي. لأن الجماهير لا يهمّها اليوم بالدرجة الأولى تغيير شكل النظام السياسي بقدر ما يهمّها تغيير واقعها الاقتصادي عبر حلول جذرية.
والتأكيد على ذلك ليس لغياب في وعي الجماهير لشكل النظام السياسي الذي يجب أن يكون بديلا لنظام الدكتاتور بن علي، بل لأن المدخل الحقيقي لتجذير نضال الجماهير، هو المدخل الطبقي المتعلق بطبيعة نمط الإنتاج الرأسمالي، أصل كل الأزمات وأساس كل استغلال وتفقير تعاني منه الأغلبية الساحقة من الشعب. فأحزاب اليسار الستاليني والماوي تجاهلت جوهر الصراع مع الطبقة البرجوازية ورأس المال وركزت على النضال من اجل تغيير شكل سلطة رأس المال، لذلك كانت أولوياتها سياسوية وانتخابوية، وأقصى ما يمكن أن تؤدي إليه هو تمثيلية قزمية لهذه الأحزاب في برلمان ستسيطر عليه البرجوازية التابعة وستتخذه مؤسسة تشريعية لمواصلة استغلال العمال وأغلبية الشعب.
إن اليسار الماركسي الستاليني والماوي، وكما رضي بالعمل على أرضية الجبهة اليمينية، أرضية السلطة الانتقالية البرجوازية اللاشرعية، سيقبل بعد انتخاب المجلس التأسيسي أن يكون الديكور الجديد لهذه المؤسسة التي سوف لن تخرج عن نفوذ وسيطرة الطبقة البرجوازية.
إن طبيعة الثورة في تونس تتحدد بطبيعة المهام التي طرحتها الجماهير أثناء المسار الثوري والتي هي الحق في السلطة والحق في الثروة والحق في الديمقراطية. وهي مهام، في الواقع، لا يمكن تحقيقها دون المساس بجوهر النظام الرأسمالي وأجهزة دولته.
فالطابع الديمقراطي والاجتماعي للثورة في تونس وطبيعة القوى الفاعلة فيها وصاحبة المصلحة في التغيير الثوري المنشود هي قوى بالأساس معادية ومناهضة للطبقة البرجوازية، ولا يمكن لها أن تحقق مصالحها إلا إذا أطاحت بالدولة البرجوازية وبأجهزتها على أساس برنامج مناهض في جوهره للرأسمالية. لأن الطبقة العاملة وحلفاءها من الفئات الشعبية لا يمكن لهم مواصلة الثورة إلا على هذه القاعدة. ومهمات هذا القطب الطبقي هو سياسة اقتصادية تحقق بالفعل شعار الحق في الثروة، وديناميكية ثورية بالفعل تتيح الحق في الديمقراطية، و كل ذلك لا يمكن انجازه دون وصول العمال والفئات الشعبية إلى السلطة.
إن سلطة عمالية شعبية ديمقراطية يتمثّل فيها المنتجون وكل فئات الشعب المناهضة للرأسمالية لهي الكفيلة بتحقيق كل المهام التي ذكرنا في إطار برنامج انتقالي، تتحقق فيه المطالب الجماهيرية الديمقراطية عرضا أثناء إنجاز المهمات الأساسية لهذا القطب الطبقي والتي هي بالأساس مهام معادية للرأسمالية .وإنجاز برنامج الحريات الديمقراطية أصبح اليوم من مهمات الطبقة العاملة وحلفائها ولا يمكن إنجازه إلا على أساس مناهض لرأس المال والدولة البرجوازية.
إن القوى الثورية مدعوة إلى تجاوز أطروحة الثورة على مراحل و بلورة رؤية إستراتيجية تستنهض الجماهير لمواصلة المسار الثوري والوصول إلى السلطة. ولعل من مهام القوى الثورية اليوم الاستقلال سياسيا وتنظيميا وبرنامجيا عن الأرضية اليمينية ،التي لم تقدم سوى مشروع انتخاب مجلس تأسيسي، تؤشر كل المعطيات أنه سينجز حسب تصورات وأرضية تحت نفوذ بقايا سلطة بن علي واملاءات حلفائها الأمريكان والفرنسيين.
إن غياب طرح مسألة السلطة لدى أحزاب اليسار الستاليني والماوي و انخراط هذه الأحزاب في التنافس من أجل الجمهورية الديمقراطية هو الإقرار الملموس بأوهامهم حول طبيعة الثورة وطبيعة المهام التي عليها أن تنجزها وبخطأ إستراتيجية الثورة على مراحل.
إن المسار الثوري قد كشف أن الثورة ثورة دائمة وأن قواها هي الطبقة العاملة وحلفاؤها من الفئات الشعبية المناهضة لرأس المال وأن الدولة الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار هذه السلطة البديلة.
ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ
الفصل الخامس
الوضع بعد 14 جانفي

1 ـ رحیل الديكتاتور وبقاء الديكتاتوریة
عشية الإطاحة ببن على وفراره في 14 جانفي 2011، حقّقت ثورة الحرية والكرامة هدفها الأول المباشر، وهو كنس رمز النظام الديكتاتوري الفاسد. ويومها دخلت الثورة طورا جديدا من أطوارها عنوانه هو مواصلة المقاومة للإطاحة بالنظام ككل.
كان هذا هو المطلوب من ثورة قامت ضد الاستبداد والفساد وضد انعدام الحريات وضد التبعية و سياسات اقتصادية لم تنتج غير التفقير والبطالة والتهميش والإبعاد.
لئن كان شعار إسقاط الديكتاتور شعارا واضحا ومهمة التفّت حولها الجماهير وكانت وراء كل تلك الكفاحية والمقاومة الباسلة التي طبعت صراعها منذ 17 ديسمبر 2010 ضد أجهزة نظام بن على فإن الصراع ضد بقايا الدكتاتورية كان يتطلب تجاوز الطابع العفوي الذي سارت فيه الأحداث قبل 14 جانفي،.فالصراع ضد بقايا الدكتاتورية كان يتطلب أن تتجاوز قوى الثورة كل العوائق الموضوعية الخاصة بها تنظيميا وسياسيا وألا ّ تكتفي بالمنجز.
صحيح أن رحيل الدكتاتور كان خطوة مهمة وانتصارا كبيرا للجماهير وللثورة، لكنه لم يكن الخطوة الكافية لتحقيق مطالب الجماهير، بما أن بقايا الدكتاتورية ظلت قائمة. لأن سقوط بن علي يوم 14 جانفي لم يواكبه سقوط لأجهزة دولته الديكتاتورية من بوليس وجيش ومليشيا التجمع ،رغم ما فرضته الثورة من زخم نضالي وتصميم للشعب على الإطاحة بالنظام الفاسد.
ومما لا جدال فيه أن هناك عوامل أخرى داخلية وخارجية تضافرت ودفعت للوصول إلى ذلك الوضع. ورغم أنه لم يكشف إلى اليوم عن الكثير من الحقائق المتصلة بما كان يجري في قمة هرم السلطة في الأيام الثلاثة الأخيرة من حكم بن علي، فإن الكثير من المؤشرات كانت توحي بوجود سيناريوهات عديدة وقع الخوض فيها لتأمين أكثر ما يمكن من الأسباب لإنقاذ النظام،تحاك بين بعض الرموز ذات النفوذ في قيادة الجيش وفي وزارة الداخلية و بعض الشخصيات ذات النفوذ السياسي والاقتصادي و دوائر القرار في الإيليزي وفي البيت الأبيض.
فإنقاذ النظام لم يكن مهمة البرجوازية التونسية فقط، بل كان هدفا إستراتيجيا للإمبريالية والدكتاتوريات العربية، التي أدخل عليها تطور الأحداث في تونس وشدة المقاومة التي أظهرتها الجماهير وتصميمها على الإطاحة بالدكتاتورية، الرعب والخوف من سقوط عروشها هي أيضا القائمة على القمع والفساد والتبعية.
ومهما تكن الخطط والسيناريوهات التي دبرت لدفع الدكتاتور للفرار، فإن المرجح أنه حصل توافق بين الجيش وجهاز البوليس وبعض الشخصيات ذات النفوذ الاقتصادي والسياسي التي كانت عينها على خلافة بن علي، و الأمريكان والفرنسيين، على العمل على إعادة ترتيب الأوضاع بحيث لا تخرج السلطة عن سيطرة بقايا النظام . لقد كانت المهمة في صورتها عموما تقتضي أن يتواصل حكم بن علي دون بن علي. وهي إستراتيجية البرجوازية التونسية وداعميها الفرنسيين والأمريكان. فقد كان المهم للطرفين بحكم مصالحهما، أن تتم التضحية ببن علي والحيلولة دون تطور المسار الثوري. ولتحقيق ذلك لابد من اعتماد الدستور كقاعدة لترميم النظام كخيار أول، أو تسلم الجيش لمقاليد السلطة إن فشل هذا الخيار. لذلك سارعت بقايا الديكتاتورية مساء 14 جانفي لمحاولة إعادة ترتيب البيت فظهر على شاشة التلفزيون فؤاد المبزع رئيس مجلس النواب وعبد الله القلال رئيس مجلس المستشارين ومحمد الغنوشي الوزير الأول في سلطة بن علي، ليعلن محمد الغنوشي عن توليه منصب رئيس الجمهورية بناء على تكليف من الدكتاتور ووفق المادة 56 من الدستور التونسي. [1] التي تنص على أنه بإمكان رئيس الجمهورية إذا تعذر عليه القيام بمهامه بصفة وقتية أن يفوّض الوزير الأول للقيام بهذه المهام وعلى رئيس الجمهورية أن يعلم رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين بتفويضه المؤقت لسلطاته.
إن اعتماد الغنوشي في توليه لرئاسة الجمهورية على الفصل 56 من الدستور أثار جدلا كبيرا وكان محل رفض جماهيري . لقد فهمت الجماهير أن الأمر لا يعدو أن يكون مناورة تهدف لربح الوقت وتهدئة الأوضاع لعودة بن علي، بما أن القاعدة المعتمدة تشير إلى غياب مؤقت للدكتاتور وليس لشغور حاصل في منصب الرئاسة.ولم يكن الاعتماد على الفصل 56 من الدستور، والذي ينصص على وجوب إعلام رئيس الجمهورية لرئيسي مجلس النواب ومجلس المستشارين بأمر تفويضه سلطاته للوزير الأول إلا مناورة تهدف إلى ترميم النظام وقيس نبض الشارع المنتفض ومعرفة مدى تقبل الجماهير والأحزاب والمنظمات والجمعيات لدستور 1959 كقاعدة لمرحلة ما بعد بن علي.
أما يوم 15 جانفي 2011 فقد شهدت تونس العاصمة وكل مدن الداخل مظاهرات حاشدة كامل اليوم تطالب برحيل الغنوشي وبحكومة ليس بها رموز النظام السابق. كما ظهر في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية محلّلون في القانون الدستوري يعلنون لادستورية ما قام به الغنوشي، ويعتبرون ذلك اغتصابا للسلطة ويؤكدون على أن الفصل 57 [2] هو القاعدة التي على أساسها يتم سدّ الشغور الحاصل في منصب رئيس الجمهورية. الأمر الذي جعل الغنوشي يمر بالبلاد إلى الفصل 57. لم يكن المهم أن يكون الفصل 56 أو 57 هو القاعدة كما لم يكن مهما أن يكون الغنوشي رئيسا أو وزيرا أول ،بل الغاية القصوى أن يقع ترميم النظام وإخراجه من الأزمة التي تعصف به. ولم يتطلب ذلك أكثر من تدخل المجلس الدستوري وهو هيئة من هيئات النظام الفاسد لتعود الأمور إلى نصابها من وجهة نظر مغتصبي السلطة الجدد. لذلك ودون تأخير أصدر هذا المجلس، الذي طالما استعمله بن علي للتشريع للاستبداد، بيانا قال فيه « إن المجلس الدستوري وبعد اطلاعه على الرسالة الموجهة من قبل الوزير الأول بتاريخ اليوم وبعد اطلاعه على أحكام النص 57 من الدستور فيما يخص شغور منصب رئاسة الجمهورية وحيث اتضح خاصة من الرسالة المذكورة أن الرئيس زين العابدين بن علي غادر البلاد التونسية دون أن يفوض سلطاته للوزير الأول وفقا لأحكام الفصل 56 من الدستور وحيث إنه لم يقدم استقالته من مهامه على رأس الدولة ... و حيث إن المغادرة تمت في الظروف القائمة بالبلاد وبعد الإعلان عن حالة الطوارئ... وحيث إن غياب رئيس الجمهورية بهذه الصورة يحول دون القيام بما تقتضيه موجبات مهامه وهو ما يمثل حالة عجز تام عن ممارسة وظائفه على معنى الفصل 57 من الدستور نعلن ما يلي:
أولاً: الشغور النهائي في منصب رئيس الجمهورية.
ثانياً: إن الشروط الدستورية توفرت لتولي رئيس مجلس النواب فورا مهام رئيس الدولة بصفة مؤقتة.. ويتم إبلاغ هذا الإعلان إلى كل من رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين».
وفي نفس اليوم أدّى فؤاد المبزع رئيس مجلس النواب القسم الدستوري بمقتضى المادة 57 من الدستور وكلّف الوزير الأول محمد الغنوشي باقتراح أعضاء حكومة وحدة وطنية. ودعا المبزع التونسيين وكل القوى الحية في البلاد ،في كلمة له عقب القسم، نقلها التلفزيون ، إلى تغليب المصلحة الوطنية ومؤازرة قوى الجيش والأمن لتحقيق الاستقرار وطمأنينة المواطنين والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة بما يهيئ الظروف للإعداد للدخول في مرحلة جديدة تتحقق فيها طموحات الشعب وتطلعاته إلى حياة سياسية تكرّس الديمقراطية والتعدّدية والمشاركة الفعّالة لجميع أبناء تونس وقواها السياسية الحيّة في عمليّة إعادة البناء.
وأضاف المبزع أن سير السلطة العمومية الدستورية واستمرار الدولة يقتضي تشكيل حكومة طبقاً لروح الدستور ومختلف أحكامه وحيث أن المصلحة العليا للبلاد تقتضي أن تكون هذه الحكومة حكومة وحدة وطنية طبقا للفصل 50 من الدستور. [3]
هكذا بدأت خطة ترميم نظام بن علي. وهكذا بدأت المناورة السياسية التي تقودها أطراف من بقايا نظامه الفاسد برعاية من الإمبريالية الفرنسية والأمريكية. وهكذا بدأت أولى خطوات الالتفاف على الثورة. فترميم النظام واستمرار الدولة وتشكيل حكومة طبقاً لروح الدستور ومختلف أحكامه، كان لابد أن يوازيه عمل آخر يدفع لفرضه، بحيث تصبح الإمكانية الوحيدة الواردة لتنظيم الأوضاع في وعي الجماهير التي يجب إرهابها و تدجينها و دفعها للتسليم بالأمر الواقع.
أما العمل الآخر فكان يجري بشكل مكشوف وسافر و إجرامي ويتقاسم الأدوار فيه جهاز البوليس والجيش وعصابات السرياطي ومليشيات التجمع، ويهدف إلى إشاعة الفوضى لخلق حالة من الانفلات الأمني وتعميم الخوف وبث الهلع في صفوف المواطنين ومواصلة تقتيل الأبرياء من أبناء الشعب. إنها سياسة فرض الأمر الواقع أو سياسة الفوضى الخلاقة. لذلك رأينا، وبموازاة مع النشاط الإجرامي لعصابات السرياطي، انتشار عمليات نهب وسرقة واستيلاء في كل مكان تقوم بها عصابات ومجرمون وكذلك بعض رجال الشرطة ومليشيات التجمع تحت أنظار مؤسسة الجيش، التي لم تحرك ساكنا في مواجهة هذا الوضع. بهكذا مؤامرة وُوجِهَت الثورة ما أن أسقطت الدكتاتور، وظهر أنها يمكن أن تذهب بعيدا في تحقيق أهدافها، والتي كان على رأسها إسقاط النظام بكل أجهزته.
وأمام حالة الانفلات الأمني والفوضى المنظمة، والتي تديرها مراكز قوى من بقايا نظام بن علي، لم يكن من خيار للجماهير سوى أن تحمي نفسها وتستنبط الأشكال التنظيمية الملائمة.
في هذه اللحظة من مسار الثورة، تشكلت اللجان الشعبية لحماية الثورة بطريقة عفوية وذاتية في التنظم. وفي ظرف وجيز عمت كافة أرجاء البلاد في كل ولاية وفي كل معتمدية وفي كل حي لجان مواطنية من كل فئات الشعب، وقد أخذت على عاتقها مهمة حماية الأحياء والتصدى لأعمال الترهيب والعنف والتخريب ومثيري الفوضى من مليشيا وقناصة.
ويعتبر تشكل هذه الجان الشعبية لحظة تاريخية مهمة في مسار الثورة. فقد عبرت الجماهير بهذه الحركة عن قدرتها على حماية نفسها وحماية الثورة من كل قوى الالتفاف و بقايا الدكتاتورية. وأكدت أن باستطاعتها التصدي لكل هؤلاء ولكل أجهزتهم، لتشكّل هذه اللجان في الأثناء قوة جماهيرية حقيقية يتجاوز عدد المنتظمين فيها أعداد الجيش والشرطة.
ولم تكن الجماهير في حاجة إلى دروس نظرية في التنظم الذاتي بل اختارت أن تبتدع أشكال حمايتها الذاتية عندما تسود الفوضى وتصبح مهددة في حقها في الحياة. لقد كانت الجماهير تعيش هذا التهديد وكان لابد لها من مواجهته، فنظمت نفسها وبشكل تلقائي حيث هي وبالقدرات الذاتية التي بمستطاعها .
وبهذه العفوية التي ظهرت عليها الجماهير في تنظمها أكدت أن ما تقوم به هو المسار الذي يجب أن تتطور في إتجاهه الثورة ، ولم تكن تعي أنها ابتدعت هذه اللجان ضرورة لإرساء سلطتها الشعبية والديمقراطية الجنينية ، وأن عليها أن تتجاوز بهذه الأطر مجرد الحماية إلى الإدارة الذاتية لكل مناحي الحياة بتوسيعها لتشمل كل القطاعات والإدارات والمصالح وتتمسك بها لتضمن مواصلة إنجاز مهام الثورة التي لم تستكمل.
لم يكن بمقدور الجماهير حينها أن تهتدي لكل هذا،رغم حالة بداية انحلال أجهزة الدولة القمعية التي لم يبق متماسكا منها إلا مؤسسة الجيش. فمؤسسة الجيش ومراكز القرار فيها كانت تراقب هذه اللجان، وكان القرار غير المعلن هو أن لا يقع مواجهتها بل يقع دفعها لتتعاون في نشاطها مع قوات الجيش، في أعمال البحث عن القناصة والقبض عليهم وفي حماية الأحياء . وراجت في هذا الإطار أخبار كثيرة عن عمليات إلقاء القبض على أفراد من عصابات السرياطي وعن مطاردات لشخصيات فاسدة من عائلتي بن علي والطرابلسية أو على صلة قرابة بهما. وكان الهدف من كل ذلك بالنسبة للمؤسسة العسكرية، والذي لم تدركه الجماهير، هو إبقاء هذه اللجان تحت رقابتها، فلا شيء يمكن أن يضمن عدم تجاوزها مجال الحركة المسموح به لها، لذلك عمدت إلى إظهار نفسها بمظهر المؤسسة الحامية للشعب والقريبة من طموحات الجماهير وغير المعادية للثورة.
لقد كان قدر ثورة الحرية والكرامة أن تواجه ومنذ نصرها الجزئي الأول قوى ثورة مضادة مسلحة منظمة ومدعومة خارجيا ومتمسكة بالسلطة، وهي عفوية وضعيفة التنظيم ودون قيادة سياسية ثورية أو برنامج سياسي جذري لا يفصل بين السياسي والاقتصادي الاجتماعي، في وضع عام متسم بضعف قوى اليسار وعجزها عن الالتحام بالحركة الشعبية والعمل في صلبها من أجل مواصلة الثورة حتى إنجاز كل مهامها وتحقيق المطالب التي نادت بها الجماهير.

2 ـ حكومتا الغنوشي ومحاولات الالتفاف على الثورة
يوم 17 جانفي أعلن محمد الغنوشي عن تشكيلة حكومة الالتفاف الأولى[4] المدعوة حكومة الوحدة الوطنية، والتي ضمت إضافة إلى أغلبية تجمعية من رموز نظام بن علي وزراء وكتاب دولة والحزب الديمقراطي التقدمي ممثلا بنجيب الشابي و حركة التجديد في شخص أحمد إبراهيم، و التكتل من أجل العمل والحريات بممثله مصطفى بن جعفر، و الإتحاد العام التونسي للشغل عبر حسن الديماسي وعبد الجليل البدوي وأنور بن قدور. وقال الغنوشي حينها وهو يوضح أسباب اختيار هذه التشكيلة الحكومية ،أنه حاول جمع خليط من مختلف القوى داخل الدولة من أجل خلق الظروف الملائمة لبدء عملية إصلاح. و برّر وجود الوزراء التجمعيين بالحاجة إليهم في مرحلة الإعداد للانتخابات التي سيتم تنظيمها بالبلاد خلال الشهرين المواليين، مؤكدا أنهم وزراء يمكن الاعتماد عليهم.
ومنذ أن كلف فؤاد المبزع محمد الغنوشي بتشكيل أول حكومة بعد أن نُصّب لا شرعيا على قاعدة الفصل 57 من الدستور، كانت المظاهرات والاحتجاجات لا تتوقف و تتصاعد يوما بعد يوم في كامل أنحاء البلاد وخصوصا في كبريات المدن. فقد كانت الجماهير مقتنعة أن ما يقع الإعداد له من قبل هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم في أعلى هرم السلطة بطريقة لا شرعية، لا يمكن أن يكون إلا مؤامرة على الثورة والتفافا على مطالبها، ومحاولة لترميم نظام بن علي والإبقاء على أجهزة دولته قائمة بما في ذلك حزب الفساد "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي".
وكان الرد من السلطة أن واجهت قوات البوليس والجيش المحتجين في تونس وصفاقس وقابس والقصرين والرديف وسيدي بوزيد وفي بلدات الجنوب بقنابل الغاز المخنق وبالقمع، لكنّ ذلك لم يمنع الجماهير من مواصلة الاحتجاج والتظاهر،فكان مسارها واضحا وموقفها أكثر إصرارا وتمسكا بشعارات الثورة :" لا لحكومة مشكّلة من رموز النظام السابق ومن التجمع الدستوري".
لقد كانت الجماهير مصمّمة على مواصلة النضال من أجل فرض هذا المطلب، وكانت ترى أن ما يقع الإعداد له لا يمكن أن يخرج عن الحل الذي أعلنه الدكتاتور قبل فراره، و لم تقتنع به الجماهير ورفضته وواصلت ثورتها لتطيح به.
ففترة الإعداد لحكومة الالتفاف الأولى كانت من أدق الفترات التي تلت سقوط بن علي. لأن في الأثناء، بدأت أولى عمليات فرز القوى داخل المجتمع على قاعدة من سيكون مع الثورة ومن سيكون مع أعدائها.
عملية الفرز الأولى هذه ستظهر سياسيا قطبين:
قطب جبهة الشعب المتمسك بمواصلة الثورة حتى إسقاط النظام وقطب الثورة المضادة وقوى الالتفاف مع المكتفين بالمنجز واللاهثين وراء مشاركة بقايا الدكتاتورية من أجل ترميم نظام بن علي.
فقطب الالتفاف المكون من التجمع الدستوري الديمقراطي ورموز سلطة بن علي وبقايا نظام الدكتاتور ككل، بما في ذلك الأحزاب الكرتونية وبيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل والحزب الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد، هؤلاء جميعا سيحاولون إيقاف الثورة وسيدعون الجماهير إلى الكف عن الاحتجاج والتظاهر والتسليم بالأمر الواقع للاشرعية. فالهدف بالنسبة إليهم هو ترميم بقايا النظام.
كشفت هذه الفترة من مسار الثورة عن انتهازية الأحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة اليمينية، على شاكلة الحزب الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد، ووصولية البيروقراطية النقابية ونفاقها. وكل هؤلاء دفعتهم مصالحهم جميعا ومصالح الفئات الاجتماعية التي يمثلونها أن يكونوا في صف بقايا النظام وفي صف البرجوازية. إن تموقعهم إلى جانب البرجوازية ومع بقايا سلطة بن علي كان نتيجة خشيتهم من أن يتقدم المسار الثوري ويعصف بمصالحهم ورهاناتهم وبنفوذ الشرائح الاجتماعية التي يمثلونها سياسيا.
أما قطب جبهة الشعب والتي تظم اليسار ماركسيين وقومين وبعض الجمعيات والمنظمات وكتلة كبيرة من النقابيين الجذريين في الإتحاد العام التونسي للشغل ونسبة كبيرة من منخرطيه في القطاع العام أو في القطاع الخاص والجان المواطنية التي ساهمت مساهمة كبيرة في النشاط الجماهيري وقادته في غالب الأحيان إضافة إلى الشباب الطلابي والتلمذي وخصوصا منه أولئك المندحرون من الطبقات والشرائح الإجتماعيىة المسحوقة، هذا القطب ولئن كانت مكوناته متمسكة في العموم بمواصلة الثورة فإنها لم تكن رافضة للقاعدة الدستورية التي على أساسها تكونت حكومة "فؤاد المبزع ـ الغنوشي" بحيث بدا موقفها غير مستند إلى بديل جذري، فهي من جهة ترفض أن يشرف على المرحلة الانتقالية بقايا الدكتاتورية وضد كل حكومة مكونة من التجمعيين ومن رموز نظام بن علي، ومن جهة أخرى لم تعلن أنها ضد اعتماد دستور 1959 كقاعدة لتنظيم السلطة بعد رحيل الدكتاتور.
لقد اكتفت القوى السياسية لهذا القطب بالمطالبة برحيل حكومة الغنوشي وبالدعوة إلى المجلس التأسيسي دون الاعتراض على القاعدة التي ستُشَكَّل عليها السلطة الانتقالية، التي ستشرف على الإعداد لانتخاب هذا المجلس، كما تغافلت على أن للثورة مطالب اقتصادية واجتماعية مباشرة لا بد أن ترتبط بالمطلب السياسي العام المتمثل في الحريات الديمقراطية.
إن مهمة إنجاز مجلس تأسيسي، يمثل فعلا سلطة شعبية ويعكس إرادة الأغلبية، كانت تفترض حكومة مؤقتة مستقلة عن قوى الثورة المضادة وعن بقايا النظام ولا تستند لدستور 1959. وهي حكومة تفرضها الشرعية الثورية أو شرعية مطالب الثورة، والتي على سلم أولوياتها الحق في السلطة.
لقد عجز هذا القطب عن طرح مسألة السلطة، والتي تعتبر أهم مسألة في الثورة وفي كل ثورة. وهذا العجز عن طرح مسألة السلطة أو فرض الشرعية الثورية ضد اللاشرعية المتمثلة في دستور 59، الذي كانت تستند عليه كل قوى الالتفاف، سيكون أبرز العوامل التي ستسمح للبرجوازية المدعومة إمبرياليا بالنجاح في الالتفاف على مطالب الثورة وإرباك مسارها، كما سيسهل ذلك عليها تضييق حالة الفراغ التي تحيط بها شيئا فشيئا وفرض أرضيتها الانتقالية.
يمكن اعتبار أن حكومة الغنوشي الأولى قد ولدت ميتة : فما إن أعلن عنها حتى انسحب منها ممثلو الإتحاد العام التونسي للشغل وحزب التكتل الديمقراطي. وذلك ليس نتيجة تجذر حصل في موقف المركزية البيروقراطية بل نتيجة لقرار الهيئة الإدارية ولضغط النقابيين ميدانيا على هذه المركزية التي لم يكن أمامها من خيار غير الإذعان ومسايرة الاتجاه العام للأحداث خوفا على موقعها داخل المنظمة.
أما انسحاب ممثل التكتل الديمقراطي فقد كان لحسابات بعيدة عن موقف واضح لهذا الحزب من قوى الالتفاف وقد أملته عليه اعتبارات انتهازية قدرت أن البقاء على الحياد هو الأسلم وقتها. ولم يكن ذلك غير موقف انتهازي من حزب لا بدائل جذرية له في الحقيقة غير البدائل التي تطرحها الجبهة اليمينية سياسيا واجتماعيا.
بعد سقوط الديكتاتور وحتى إعلان حكومة الالتفاف الأولى كان كل ما يُدبّر له يهدد بالرجوع إلى وضع ما قبل الإطاحة ببن علي. كانت البرجوازية تعمل وبكل الطرق على أن تخرج هي الكاسبة من الوضع ،فهي إلى حد ذلك التاريخ لم تخسر شيئا. فالعمال والمعطلون والمهمشون وكادحو المدن والمفقرون عموما هم وحدهم من كانوا مهددين بالرجوع إلى واقع ما قبل الانتفاضة. إن الشعب الذي خرج منتفضا يوم 17 ديسمبر 2010 يردّد "لا للفساد تسقط سلطة اللإستبداد" وقدم مئات الشهداء والجرحى واستمر في النضال في لحمة لا مثيل لها وإصرار وعزم لا يلين حتى فرض وضعا أسقط الديكتاتور زين العابدين بن علي هو المهدّد بسرقة ثورته وتسليم مصيره من جديد لقامعيه.
إن جبهة الشعب هي التي كانت مهددة ،لأن ما تحظر له البرجوازية والليبراليون والإصلاحيون وبيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل والذي عكسته تركيبة حكومة الغنوشي لا يستجيب حتى لأقل من الحد الأدنى من مطالب ثورة الحرية والكرامة.
إن محاولة البرجوازية ترميم نظام بن علي على قاعدة دستور 59 هو المناورة الكبرى التي تريد تثبيتها دوائر المال والسياسة وبقايا النظام البائد للالتفاف على مطالب الشعب.
هذه القاعدة الدستورية والتي تدفع في اتجاه تنظيم انتخابات رئاسية في ظرف شهرين وأتت بأحد رموز النظام البائد إلى سدة الرئاسة المؤقتة هي الإجراء الذي سيجهض كل مطالب الشعب.
الثورة كانت جذرية في موقفها من النظام المافيوزي ومن كل رموزه والشعب طالب بكنس كل النظام وأجهزته ورموزه السياسية.
هل كان البرلمان ديمقراطيا؟ وهل نوابه الذين اختاروا رئيسه الذي بوأه الدستور الرئاسة مؤقتا بعد فرار الدكتاتور جاؤوا إلى هناك عبر إنتحابات ديمقراطية وعبر إرادة الشعب حتى يكون هذا الرئيس أمينا على مطالب الشعب ؟
لا أبدا، فالبرلمانيون ما وصلوا قصر باردو بإرادة الشعب.
إن هؤلاء وصلوا هناك عبر مجلة وقوانين انتخابية قامعة لكل حرية ولكل ديمقراطية وعبر تزييف وتزوير الانتخابات.
إن من وصل ضدّ إرادة الشعب لا يمكن أن يكون أمينا على مطالب الشعب. مطالب ثورة الحرية والكرامة أفقها ليس القاعدة الدستورية لدستور شطبه بورقيبة وغيره كما شاء وسوّده وحوّره الدكتاتور بن على وجعله على قياسه فكيف يكون قاعدة لسلطة يريدها الشعب بديلة عن سلطة اللإستبداد والفساد سلطة شعبية وديمقراطية ممثلوها من أبناء الشعب وأجهزتها تعمل لصالح الشعب لا ضده.
مطالب الثورة تتطلب لتحقيقها حل هذا البرلمان نفسه وإلغاء الدستور الذي لم يعد دستورا إلا بالاسم، وحل الحزب الذي اعتلى السلطة لأكثر من 60 عاما ولم يقدم لهذا الشعب غير الخراب وطرد كل المسؤولين الإداريين المتنفذين في الإدارات وفي مصالح الدولة والتابعين لهذا الحزب من مراكز القرار لأنهم أصل الداء في ما وصلت إليه أوضاع الشعب .
مطالب ثورة الحرية و الكرامة هي :حكومة مؤقتة مكونة من هيئات مدنية وأحزاب تقدمية وديمقراطية ومن اللجان و المجالس الشعبية ومن شخصيات وطنية ونقابية وحقوقية مشهود بنضاليتها ضد سلطة بن علي مهمتها تنفيذ إرادة الشعب في كنس نظام الاستبداد والفساد وتلبية المطالب الإقتصادية والاجتماعية المباشرة للجماهير وإطلاق الحريات ( حرية التنظم وحرية الصحافة وحرية النشر والتعبير وإعلان العفو التشريعي العام وتحرير الإعلام وضمان استقلالية القضاء) للتحضير لانتخابات حرة وديمقراطية يختار فيها الشعب ممثليه بكل ديمقراطية وحرية وينبثق عنها مجلس تأسيسي يقرر شكل نظام الحكم والسياسات التي سيقع إرساؤها.
يوم 17 جانفي، وتزامنا مع الإعلان عن حكومة الالتفاف، أعلن محمد الغنوشي أن حكومته ستفرج عن جميع المساجين السياسيين وستفصل الدولة عن الأحزاب وستعلن عن قانون العفو التشريعي العام، وستقرّ مبدأ الاعتراف بالأحزاب. كما أُعلن عن إحداث لجنة عليا للإصلاح السياسي برئاسة عياض بن عاشور ولجنة للتحقيق في قضايا الفساد والرشوة برئاسة عبد الفتاح بن عمر ولجنة استقصاء التجاوزات برئاسة توفيق بودربالة.
لم يكن الإعلان عن هذه القرارات أن يوقف رفض الجماهير لهذه الحكومة التي رأت فيها مواصلة لسلطة بن علي ومحاولة إجهاض للثورة و مطالب الجماهير.
خروج ممثلي الإتحاد العام التونسي للشغل من هذه الحكومة وإعلان المركزية البيروقراطية عن استقالة النقابيين من مجلس النواب ومجلس المستشارين وتجميد عضوية الإتحاد في المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وفي كل هيئات الدولة الأخرى التي يشارك فيها، ودعوته الصريحة لحل الحكومة وإبعاد رموز النظام السابق من أي تشكيلة حكومية قادمة، والذي جاء عبر الضغط النقابي القاعدي وعبر ضغط الجماهير في الشارع، هو الذي أربك السلطة اللاشرعية وساهم في توسيع دائرة الفراغ من حولها .
فمنذ الإعلان عنها، ودائرة الفراغ والرفض تتوسع من حول حكومة الالتفاف الأولى. لقد اعتبرت وبإجماع شعبي ، حكومة قوى الثورة المضادة. لذلك لم تجد من مساند إلا بعض الأحزاب على شاكلة الحزب الديمقراطي التقدمي وحركة التجديد اللذان تحولا بممثليهما أحمد نجيب الشابي و أحمد إبراهيم إلى مدافعين أساسيين على الحكومة أكثر من كل الوجوه الفاسدة التي كانت تضمها.
لقد قطع هذان الحزبان، بمشاركتهما في حكومة الالتفاف الأولى كل صلة لهما بالثورة وبمطالب الجماهير واختارا الوقوف في صف الثورة المضادة. وبذلك سقطت شعارات كثيرة طالما ردّدها هذان الحزبان في عهد بن علي، كما سقطت أوهام كثيرة لدى الجماهير حول هذين الحزبين الانتهازيين، خاصة بعد الرفض الشعبي لحكومة الغنوشي والذي ازداد تصاعدا إثر تصريحات أحمد فريعة وزير الداخلية المعين من قبل الديكتاتور الفار يومين فقط قبل سقوطه. فتصريحات فريعة بدت استفزازية ومهينة للشهداء والثورة، فرفضتها الجماهير بشدة، و جسدت رفضها ميدانيا بالخروج وفي أغلب المدن التونسية في مظاهرات حاشدة تطالب برحيل الحكومة وتندّد بقوى الالتفاف، وهي تردد شعار "الشعب يريد إسقاط الحكومة" ولم تكتف جماهير الشعب بذلك بل تمكنت وفي مدن عديدة من احتلال مقرات التجمع الدستوري وتحويلها إلى دور للجان الشعبية لحماية الثورة التي تشكلت عفويا منذ البداية.
واستمرت المظاهرات المنادية بإسقاط حكومة الغنوشي الأولى أياما بعد إعلانها، لكن قوى الثورة المضادة تجندت لقمع الإحتجاجات بإطلاق يد جهاز البوليس وزادت في تغذية الانفلات الأمني وظلت تناور لربح الوقت وامتصاص الغضب.
أما المنعرج الحاسم ،الذي سيراكم في اتجاه إسقاط حكومة الغنوشي الأولى سيتأتي من مبادرة الجماهير وشباب الثورة في المدن الداخلية، في كل من سيدي بوزيد و القصرين و تطاوين و صفاقس و قفصة ومن كثير من المدن الأخرى . فيوم السبت 22 جانفي وعلى إثر دعوات قام بها شباب بلدة منزل بوزيان على مواقع الإنترنيت، تجمع شباب و أهالي البلدة وقرروا بدء المسيرة التي نادوا بها تحت لافتة "قافلة الحرية" إلى تونس العاصمة، وناشدوا بقية شباب تونس وقواها الناشطة في كل المدن الانطلاق من جهاتهم والالتقاء في العاصمة، والمرابطة فيها إلى حد إسقاط حكومة الالتفاف.
في يوم 23 جانفي، وصلت "قافلة الحرية" التي كانت تضم أكثر من 2500 شخصا إلى تونس العاصمة بعد أن مرّ منظموها من منزل بوزيان إلى بلدة الرقاب مرورا بالمكناسي ومنها إلى مدينة القيروان. ولم يكتف منظموها بالتظاهر في العاصمة بل قرروا الاعتصام في ساحة الحكومة في القصبة والمرابطة هناك إلى حين تحقيق مطلبهم في رحيل الحكومة. وفي الأيام الموالية، توافدت على ساحة القصبة وفود الولايات الأخرى وبدأ إعتصام القصبة 1.
كان الاعتصام كشكل من أشكال النضال والصراع ضد بقايا الدكتاتورية الشكل المناسب لتلك المرحلة، لجأت إليه الجماهير بعد أن أصمّت الحكومة الأذان عن المظاهرات السلمية وتمادت في محاولتها فرض سياسة الأمر الواقع.
سيدفع إعتصام القصبة الأول، الذي أصبح جماهيريا في بضعة أيام ودعمته أغلب القوى السياسية والجمعيات والمنظمات الديمقراطية وساهم فيه النقابيون مساهمة فعالة في التمويل والتموين والتأطير السلطة اللاشرعية وداعميها الإمبرياليين إلى بدء التفكير في التراجع والخضوع لمطلب المعتصمين.
لم يكن الاعتصام معزولا، لقد غطته وسائل الإعلام المحلية والعالمية تغطية شاملة كما كان مسنودا أيضا بالمظاهرات وتعبئة الشارع في العاصمة والولايات. وقد كان للنقابيين وللشباب التلمذي والطلابي وللمعطلين كما لبعض النخب اليسارية المسيّسة دور بارز في عملية الإسناد وتعبئة الشارع وفكّ الضغط على المعتصمين ودعمهم ميدانيا.
منذ أن أصبح الاعتصام جماهيريا، ومنذ أن أيقنت قوى الثورة المضادة أن لا إمكانية لمواصلة سيطرتها على الأوضاع غير التراجع التكتيكي حتى بدأ الغنوشي في مفاوضات في الكواليس وتحديدا مع بيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل حول مقترح لتركيبة جديدة للحكومة. أسلوب المناورة كان يقتضي أن يلتجئ المبزع الغنوشي ومن ورائهما أجهزة النظام إلى الاعتماد على شريك نظام بن على التاريخي بيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل كوسيط لتحافظ بقايا النظام على السلطة.
كان الاتحاد العام التونسي للشغل بما يمثله من ثقل جماهيري وبما له من قدرة على التعبئة هو الإطار الوحيد الأكثر جماهيرية والأكثر قدرة على قلب موازين القوى لصالح قوى الثورة.
كانت قوى الثورة المضادة تعرف ذلك جيدا وتحسب له ألف حساب وكانت أحرص على أن لا تدع الأمور تفلت من بين يد البيروقراطية النقابية لصالح قوى اليسار النقابي والمعارضة النقابية بكل أطرافها صلب هذه المنظمة، والتي كانت موحدة في تلك الفترة على شعاري إسقاط الحكومة ومن أجل مجلس تأسيسي.
كان هدف السلطة اللاشرعية هو كسب موقف البيروقراطية النقابية وفي نفس الوقت الحرص على عدم تعريضها إلى المواجهة مع منتسبي الإتحاد وبعض هياكله الوسطى خشية فقدان مواقعها داخل المنظمة.
في نفس الوقت لم يكن من متنفس للبيروقراطية النقابية، وهي المدانة داخل الإتحاد وجماهريا بتعاونها وشراكتها مع نظام بن علي، والتي ترتعد فرائصها من التجذر القاعدي الحاصل في الساحة النقابية غيرأن تساير الأوضاع، ولا تقطع في نفس الوقت مع السلطة اللاشرعية.
من هنا يمكن أن نفهم موقفها الذي مرّرته أثناء الهيئة الإدارية التي انعقدت بتاريخ 27 جانفي 2011 والذي ساند وقبل بالتشكيلة الحكومية الجديدة التي أعلنها الغنوشي وهي تشكيلة لم تقص ممثلي التجمع الدستوري كما تطالب بذلك الجماهير ومعتصمو القصبة 1 بل أبقت على العديد من الرموز التجمعية منها بالخصوص عفيف شلبي وزير الصناعة والتكنولوجيا ومحمد النوري الجويني وزير التنمية والتعاون الدولي، دون الحديث عن كتاب الدولة الذين كانوا كلهم تجمعيين ومن رموز نظام بنعلي، برغم معارضة أربعة عناصر من المكتب التنفيذي البيروقراطي للإتحاد وثلاث جهات وخمسة قطاعات.[5]
موقف البيروقراطية هذا سيكون بداية المنعرج الذي ستبدأ فيه البيروقراطية النقابية التآمر بالمكشوف على الثورة.
يقول حسين العباسي عضو المكتب المركزي البيروقراطي للإتحاد في حوار حول حكومة الغنوشي الثانية نشرته جريدة الشروق التونسية «...في التشكيلة الثانية رفض الاتحاد الانضمام إلى الحكومة المؤقتة وفرض أن تكون التركيبة خالية من التجمعيين واستجاب الغنوشي لهذا الطلب وأبقى على وزيرين اثنين وجميعهم تخلوا عن عضوية التجمع...فيما بعد قبلت الهيئة الإدارية للاتحاد بالاعتراف بهذه الحكومة للخروج بالبلاد من عنق الزجاجة لكن الاتحاد بالمقابل لم يعط صكا على بياض للحكومة المؤقتة واتفق معها على الالتزام بتطبيق شرطين أساسيين...لقد اتفقنا مع الحكومة المؤقتة على أن تعترف وتوافق ببعث مجلس لحماية الثورة تحسبا منا على أنه قد تكون هناك عملية التفاف على الثورة وأهدافها أمّا الشرط الثاني فيتمثل في إعادة النظر في تركيبة اللجان الثلاث...نحن لسنا راضون على تركيبة اللجان الثلاث وخاصة لجنة التحقيق في قضايا الفساد ولدينا الكثير من التحفظات على بعض عناصرها لأن لديهم علاقة مباشرة في الماضي بالمفسدين. وطالبنا بإعادة تركيبة هذه اللجان بشكل توافقي...» [6]
تمكنت السلطة اللاشرعية، وحتى قبل الإعلان على التركيبة الجديدة للحكومة الثانية، والتي سميت بحكومة تصريف الأعمال حينا، وبحكومة التكنوقراط حينا آخر، والتي خُطّط لها من قبل فرنسا وأمريكا عبر وكيل الخارجية الأمريكية "فلتمان" من جرّ البيروقراطية إلى صفها. وهي خطوة سيكون لها تأثير كبير على إضعاف الدور الذي كان من المفترض أن يلعبه الإتحاد العام التونسي للشغل في الثورة.
مقابل هذا التراجع عن موقفها السابق الذي كان رافضا لحكومة يكون التجمع الدستوري طرفا فيها، لم تتمكن القطاعات والجهات التي عبرت عن موقف مختلف لموقف البيروقراطية في الهيئة الإدارية الوطنية التي انعقدت في 27 جانفي من تفعيل موقفها والظهور بشكل مستقل، ونقْل الصراع مع الحكومة اللاشرعية إلى الساحة النقابية، وتكريسه ضد الجناح البيروقراطي الذي أعلن تحالفه معها بالمكشوف، ووقف في صفّ قوى الالتفاف ومع الثورة المضادة .
يوم 27 جانفي 2011 أعلن محمد الغنوشي عن تركيبة حكومته الجديدة والتي ضمت 22 وزيرا[7] ولكنه اكتفي بالإعلان عن الوزراء فقط وصمت عن الإعلان عن كتاب الدولة تاركا أمر ذلك لوكالة تونس أفريقيا للأنباء، التي ستعلن في الغد في نبإ مؤكد أن كتاب الدولة المعيّنون في الحكومة الأولى سيواصلون مهامهم في الحكومة الثانية.
هكذا بدت حكومة الغنوشي الثانية حكومة لا تختلف في الجوهر عن حكومته الأولى، وبدأت تفاصيل المناورة تتكشّف. لقد إنضاف إلى جبهة مساندي الحكومة إضافة لحركة التجديد وللحزب الديمقراطي التقدمي طرف آخر هو الإتحاد العام التونسي للشغل عبر قيادته البيروقراطية اعتمادا على قرار لأغلبية واهية استصدرته من الهيئة الإدارية الوطنية.
لم تكن مواقف الأحزاب والمنظمات من الحكومة الجديدة بالوضوح الكافي عدا مواقف بعض الأطراف اليسارية الجذرية التي لم تكن مؤثرة ولا قادرة على خلق قطب سياسي معارض لأرضية الحلول الالتفافية التي كانت تضغط بها جبهة قوى الثورة المضادة. وتعالت في نفس الفترة أصوات كثيرة تنادي بضرورة عدم إغراق البلاد في الفراغ السياسي، والكف عن التظاهر و الاعتصامات والعودة إلى العمل وإنقاذ البلاد من الانهيار ومن السير في اتجاه المجهول.
كان كل هذا يهيئ لتدخل بالقوة وبالقمع لحل إعتصام القصبة1 الذي ظل رافضا لحكومة الغنوشي المعلن عنها باعتبارها لا تختلف عن سابقتها وليست إلا حكومة للالتفاف على مطالب الثورة وتسليم الشعب من جديد لقبضة جلاديه القدامى.
بقمع إعتصام القصبة ستحاول الحكومة إثبات وجودها وسينكشف وجهها القمعي السافر وعزمها على محاصرة كل مبادرة تعبوية رافضة لمسار الالتفاف وإجهاض الثورة.
معتصمو القصبة كانوا واعون بهذا بعد التحول الذي طرأ على مواقف بعض المنضمات والقوى السياسية والجمعياتية المساندة للاعتصام بعد إعلان الغنوشي عن التحويرات الحكومية وعلى رأس هذه القوى بيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل التي بدأت في ذلك الوقت تحركات من أجل تنفيذ الخطة التي وقع الاتفاق عليها بينها وبين الحكومة، والتي بموجبها غيرت موقفها منها وقبلت بها، وهي البدء في التحضير لإعلان مجلس لحماية الثورة ستجتهد البيروقراطية في أن تجر إليه أغلب الأحزاب والجمعيات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وتغرقه في نقاشات لا تنتهي دون الوصول إلى تحقيق مهمة تذكر.
كان هدف الحكومة واضحا من هكذا مبادرة. لقد كانت ترمي إلى ربح الوقت أولا بتجميع أغلب القوى السياسية والجمعياتية على قاعدة أرضيتها منعا لأي تجذر قد يحصل بارتباط بعض القوى بالحركة الشعبية وبقوى الثورة. وثانيا إضعاف أكثر ما يمكن كل مبادرة تعبوية قادمة وعزلها عن الحركة السياسية وإظهارها بمظهر المبادرة التي ليس لها أي أفق أو بديل سياسي، بما أنها ستكون موازية لعمل هذا المجلس. وثالثا شلّ الحركة النقابية عن القيام بالدور المفروض أن تقوم به واستبعاد ضغطها بالإضرابات على الحكومة، وإسقاط دورها المطلبي والسياسي، وعزلها عن الحركة الجماهيرية.
لن تصمت الحكومة طويلا على إعتصام القصبة 1 وستحرّك ذراعها القمعية لفكه وقمعه والتنكيل بالمعتصمين. وستتخفّى وراء ذريعة الانفلات الأمني لإنجاز هذه المهمة.
بدأ التدبير لحل إعتصام القصبة 1 بقوة القمع. فقد وقع حصار المعتصمين وضيقت الحكومة عليهم ومنعوا من الحصول على التموين وسربت داخلهم الوشاة والمخبرين ومليشيات التجمع لبث البلبلة والفوضى، وتدخل المحامون بالتنسيق مع الحكومة لإقناع المعتصمين بفك اعتصامهم، كما دعت بيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل المعتصمين إلى تكوين لجنة وطنية تحت إشراف مكتبها التنفيذي المركزي تتألف من نواب عن الجهات الحاضرة في الاعتصام للتفاوض مع الحكومة حول مطالب المعتصمين وتعهدت بحماية المعتصمين إن وافقوا على حلّ الاعتصام وبدء التفاوض مع الحكومة، كما التزمت بتوفير وسائل نقل لهم للعودة إلى جهاتهم.
بالتوازي مع ذلك تحركت مؤسسة الجيش عن طريق الجنرال رشيد عمار الذي حظر إلى ساحة القصبة وخاطب المعتصمين قائلا:
« أخواتي إخواني أشكركم على شعوركم نحو الجيش الوطني وكل ما أطلبه منكم بكل لطف وأنا صادق في ذلك أن تتركوا الجيش الوطني حتى يواصل حماية العباد والبلاد وحماية الثورة حتى لا تركب عليها أطراف خارجية. مرة أخرى أقول لكم وأنا لست متعودا على هذه الخطابات أنا صادق والجيش الوطني صادق وقوات الأمن الداخلي صادقة بحول الله جميعا. الجيش الوطني حمى ويحمي العباد والبلاد وهو على العهد واتركوه على العهد ساهرا على تطلعاتكم حارسا لطلباتكم...»
أثناء إلقاء كلمته قاطعه المعتصمون مرارا مردّدين
"الشعب يريد إسقاط الحكومة"
"الشعب يريد حكومة مدنية"
"لا لرموز التجمع في الحكومة"
"نريد حلّ التجمع"
واصل رشيد عمار كلمته طالبا من المعتصمين أن لا يضيّعوا هذه الثورة، مذكرا بأنه لابد أن يكون الجميع ملازمين للحذر واليقظة لأن هناك قوى من مصلحتها الوصول بالبلاد إلى وضع الفراغ والفراغ يولّد الرعب والرعب يولّد الدكتاتورية حسب ما قال. وأنهى كلمته بطلب إخلاء ساحة القصبة لتستمرأعمال الحكومة.
كلمة رشيد عمارالتي قاطعها المعتصمون مرات مؤكدين على مطلب إسقاط حكومة الغنوشي وتكوين حكومة إنقاذ وطني لم تكن لتزعزع إرادة المعتصمين أو تدفعهم لفك اعتصامهم.
لقد كانت مؤسسة الجيش على دراية بما يدبر في دهاليز وزارة الإرهاب وزارة الداخلية لذلك بادرت بالظهور قبل تنفيذ خطة قمع المعتصمين للظهور بمظهر غير المسؤول على ما سيحدث من قمع.
كان هذا جزء من الخطة.
بيروقراطية الجيش نفسها كانت تبحث عن طريقة لحل الاعتصام وبأي طريقة. فتعبئة جماهيرية بمثل تعبئة إعتصام القصبة 1 كانت تطرح سؤالا كبيرا عن الدور الحقيقي الذي تلعبه مؤسسة الجيش في فترة ما بعد الدكتاتور، وفي صف من تقف هذه المؤسسة .هل مع الشعب وقوى الثورة أم مع بقايا الدكتاتورية و قوى الثورة المضادة وداعميها من الفرنسيين والأمريكان.
الإجابة على هذا السؤال كانت مباشرة فلحظة بدء تنفيذ الهجوم على الاعتصام انسحبت قوات الجيش التي كانت مرابطة بساحة القصبة لتخلي المكان للبوليس الذي سيطوق الساحة من كل الجوانب ويبدأ في عملية قمع وحشية بمعاضدة من المليشيات التجمعية التي حظرت للمكان دقائق قبل تدخّل البوليس وعناصر البوليس السياسي. وبدأت العملية التي خططت لها (حكومة المبزع ـ الغنوشي) في الظلام. فتهاطلت على المعتصمين ومن كل جهة قنابل الغاز الخانق، كما اقتحمت قوات القمع الساحة و انهالت بالهراوات على كل من كان في ساحة الحكومة وساعدتها في ذلك قوات بوليسية أخرى كانت بزي مدني و جاهزة لهذا التدخل.
خلّف قمع إعتصام القصبة 3 شهداء وعشرات الجرحى. وإنتشر المعتصمون في أحياء العاصمة وأزقتها. ودارت بينهم وبين قوات الشرطة مواجهات عنيفة في الشارع الرئيسي وفي الشوارع المحاذية له استمرت ساعات، وخلفت عديد الجرحى في صفوف المحتجين.
لئن راهنت حكومة الغنوشي المبزع الثانية وشريكيْها الشابي وأحمد إبراهيم وكل المشاركين فيها ومسانديها من الانتهازيين وعلى رأسهم بيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل والتي هندسها مبعوث الخارجية الأمريكية "جيفري فلتمان " بموافقة فرنسية على الحصول على شرعية شعبية، فإن رهانها سقط بعد أقل حتى من يوم واحد على تشكلها، وبان بالملموس أنها حكومة إمتداد وتواصل لحكومة الغنوشي بن علي حين أذنت لقوات القمع بالتدخل بالقوة وفك إعتصام ساحة القصبة.
بقمع إعتصام القصبة 1 أبانت حكومة المبزع الغنوشي الثانية عن وجهها القمعي الإجرامي وأظهرت أنها ليست إلا حكومة بيد مراكز القوى الباقية من نظام بن على تسيرها بتنسيق مع الفرنسيين والأمريكان.
قمع إعتصام القصبة 1 سيدفع حكومة الغنوشي المبزع التجمعية صنيعة فرنسا وأمريكا إلى التقدم خطوة في اتجاه فرض سياسة الأمر الواقع، فإضافة إلى الإبقاء على كتاب الدولة المعيّنين في الحكومة الأولى والذين كلهم من حزب التجمع سيعين فؤاد المبزع يوم 4 فيفري 2011 ولاة كلهم تجمعيون.
أثار هذا الإجراء استياء عاما لدى الجماهير ولدى غالبية الأحزاب والمنظمات والجمعيات، وحتى لدى حلفاء الحكومة حركة التجديد والحزب الديمقراطي، اللذين رفضا تفرّد الحكومة بقرار بمثل هذا الوزن دون استشارتهما.
لم تقبل الجماهير بمحاولات الحكومة الالتفاف على مطالبها وبهذه التعيينات، كما بسكوتها عن محاسبة الفاسدين والذين أجرموا في حق الشعب طيلة حكم بن علي وعن حل جهاز البوليس السياسي وحل التجمع الدستوري الديمقراطي وحل البرلمان ومجلس المستشارين. وانطلقت في أغلب الولايات احتجاجات عارمة ومظاهرات قامت أثناءها الجماهير بطرد هؤلاء الولاة في سيدي بوزيد وفي قابس وفي القصرين وفي قفصة وفي ولايات أخرى عديدة.
لم تنخدع الجماهير بما تقوله الحكومة عن نفسها أو بما يردده عنها مساندوها من الليبراليين والإصلاحيين والانتهازيين والبيروقراطية النقابية الفاسدة والإعلام المتذيّل لبقايا النظام. فلم يكن طابع الحكومة المشكلة من بقايا التجمع الدستوريّ والمملاة من الأمريكان والفرنسيين، لِيَخْفَى على الجماهير التي بقيت متشبثة بمهمة حلّ التجمع وحلّ كل أجهزة النظام السابق.
إن رفض الجماهير لبقايا الديكتاتورية، وإيمانها بأن مهمتها لم تنته عند خلع الديكتاتور، خلق حالة من الفراغ حول حكومة المبزع الثانية، فراغ بدأت دائرته تتوسع منذ قمع إعتصام القصبة 1 وتكبر كل يوم برفض الجماهير لجلّ القرارات التي أصدرتها هذه الحكومة وكذلك للجان التي كونتها. وقد تجلى هذا الرفض في طرد الجماهير للولاة التجمعيين الذين وقع تعيينهم وفي الحملات المتواصلة المنظمة لطرد المسؤولين التجمعيين من الإدارات محليا وجهويا ومركزيا ومن الوزارات.
حملات طرد التجمعيين وإن لم تتعمّم لتشمل كل المصالح الإدارية والوزارات ولم ينشأ عنها خط عام منظّم وممركز يمارس مثل هذا الفعل ويقدم بدائل، كأن تنتخب الجماهير الولاة والمعتمدين مثلا أو تشكل مجالس للتسيير الذاتي في البلديات، فإنها كانت مؤشرا بالغ الدلالة على تصميم الجماهير على استكمال مهمة كنس نظام بن علي وأجهزته بما في ذلك حكومة الالتفاف.
حالة الفراغ التي كانت تتوسع تدريجيا حول الحكومة اللاشرعية كانت تدل على أن الوضع لا يزال وضعا ثورياً و أن الثورة مستمرة وأن وعي الجماهير لم يتراجع للقبول ببقايا الدكتاتورية كما أن إرادة الجماهير ما زالت صلبة وقوية. فمناورات الحكومة وتغذيتها لحالة الانفلات الأمني لم تزيد الجماهير إلا إصرارا على متابعة الاحتجاج. فتواصلت المظاهرات في قطاع الشباب (التلاميذ والطلبة والمعطلين) وكذلك الإعتصامات والوقفات الاحتجاجية المتعددة أمام الوزارات والإدارات الجهوية وتضاعفت الإضرابات المؤطرة من هياكل نقابية قاعدية ووسطى والمقترنة بالتنديد بالبيروقراطية النقابية وبالدعوة لتجاوزها.
لم تكتف الجماهير بالاحتجاج وطرد المسؤولين التجمعين، لقد بدأ التفكير في العودة على ساحة القصبة والاعتصام هناك والضغط إلى حين كنس وإسقاط حكومة الغنوشي .
عاد شعار الشعب يريد إسقاط الحكومة ليدوي في كل مكان ويلفّ حوله كل فئات الشعب. وكثّف إعتصام القصبة 2 موجة الرفض هذه، وتحول وفي أيام قليلة إلى تجمع جماهيري ومركز ضغط قوي أرعب قوى الثورة المضادة ،وهو ما سيدفعها وفي أيام إلى التراجع والتضحية برأس الغنوشي .
مثل إعتصام القصبة 2 والذي فاقت جماهيريته كل الحدود كما الإحتجاجات التي رافقته، والتي واجهتها الحكومة بالقمع والترهيب وترويج الإشاعات ونشر الميليشيات وأعوان البوليس السياسي لتخريبها والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة، تحديا صارخا لقوى الثورة المضادة ولذراعها القمعية جهاز البوليس، وأيقنت الطبقة البرجوازية التونسية ومسانديها محليا كما القوى الإمبريالية أن المناورة التي بدأت بعد 14 جانفي والمتمثلة في إعادة الإمساك بالأوضاع عبر حكومتي الغنوشي قد وصلت إلى طريق مسدود ولابد من التحرك لتطويق الإحتجاجات والغضب الجماهيري قبل أن تتّخذ الأحداث منعرجا يمكن أن يقلب الأمور جميعا ويطيح بالنظام ككل.
تصاعدت الإحتجاجات المطالبة بسقوط الحكومة. ومثلت المظاهرة التي نظمت يوم الجمعة 26 فيفري 2011 والتي شارك فيها أكثر من 500 ألف من المواطنين والذين رددوا " يا غنوشي يا عميل ارحل ارحل وإستقيل" "تونس حرة حرة و الغنوشي على بره" "ثورتنا مستمرة و الغنوشي على برة" "الشعب يريد إسقاط الحكومة" "أوفياء أوفياء لدماء الشهداء" "وزارة الداخلية وزارة إرهابية."، وواجهتها الشرطة بالقمع وباستعمال الرصاص الحي المنعرج الحاسم الذي سيعجّل بسقوط حكومة الالتفاف الثانية .
التحركات لم تقتصر على تونس العاصمة بل كانت مدن كسيدي بوزيد والقصرين والكاف وصفاقس وسوسة هي أيضا مسرحا لتحركات واحتجاجات ضخمة وجماهيرية وقع مواجهتها كلها بالقمع السافر.
تواصلت الإحتجاجات بعد مظاهرة الجمعة، ولكن السلطة سربت عناصر من مليشيا مكونة من البوليس والتجمعين داخل هذه المظاهرات لإحداث أعمال شغب وعنف وتكسير ونهب لتشويهها وإظهارها بمظهر أعمال تخريب وفوضى. وسقط أثناء احتجاجات يومي الجمعة والسبت برصاص البوليس 5 شهداء وجرح العشرات.
كان واضحا أن مراكز القوى من بقايا النظام مصرّة على مواصلة نهج القمع وإشاعة الفوضى وعدم الاستقرار والخوف والرعب في نفوس المواطنين وأنها تدفع بحكومة الغنوشي إلى آخر النفق للترتيب لحل التفافي جديد يضمن لها مواصلة التحكم والسيطرة على الوضع.
يوم 27 فيفري 2011 أعلن محمد الغنوشي عن تقديم استقالته من رئاسة الحكومة خلال مؤتمر صحفي بثه التلفزيون التونسي وأشار فيه لأسباب تقديمه استقالته وانتقد من قال إنها مجموعة ركزت منذ فترة على مهاجمة حكومته واستعرض أبرز المصاعب التي واجهت هذه الحكومة الالتفافية وختم بالقول إنه يغادر وضميره مرتاحا ويرى أن استقالته هي في خدمة تونس وثورة تونس.
تصريحات الغنوشي كانت واضحة. فالتجمعي الفاسد أُجبر على الاستقالة لأنه لم يكن في الأخير غير ورقة بين أيدي قوى الثورة المضادة التي كان يهمها تواصل النظام وحماية مصالحها أكثر بكثير من الأشخاص. لم يعد الغنوشي الورقة الرابحة فلقي نفس المصير الذي انتهي إليه ولي نعمته الديكتاتور بن علي نفسه. كانت لعبة المصالح والتشبث بالسلطة تقتضي ذلك. النظام فوق الأشخاص. المصالح فوق الأشخاص بالنسبة للبرجوازية وأسيادها الإمبرياليين.
ساعات بعد تقديم الغنوشي لاستقالته من رئاسة الحكومة يعلن فؤاد المبزع الرئيس اللاشرعي عن تكليفه لوزير أول جديد هو الباجي قايد السبسي ويصرح لوسائل الإعلام أنه عرض على الباجي قائد السبسي منصب الوزير الأول فقبل به. وأضاف أنه حرصاً على استمرار العمل العام جاء تكليف الباجي قائد السبسي وأكد على أنه شخصية وطنية وطلب من الجميع التعامل بكل لطف وموضوعية مع الأحداث الجارية في البلاد.
مع هذا الوزير البورقيبي ذي السجلّ الحافل بمعاداة الحريات والديمقراطية وبقمع الطبقات الشعبية واحتقارها ستتقدّم قوى الثورة المضادة أشواطا في الإلتفتف على ثورة الحرية والكرامة.

3 ـ جبھة 14 جانفي و مجلس حمایة الثورة والعجز عن بلورة بديل لسلطة شعبية
كان واضحا منذ فرار بن على، أن البرجوازية التونسية وبدعم من الإمبريالية، سوف تبدأ مباشرة في ترميم نظامها الذي أصبح على حافة الانهيار وفقد شرعيته بسقوط الديكتاتور، وأن الثورة ستواجه في طريقها، وهي تتقدم لإسقاط كامل منظومة اللاستبداد والفساد بقايا الدكتاتورية و قوى الثورة المضادة، وأن الصراع معها سيأخذ شكله السياسي الأكثر وضوحا وهو الصراع على السلطة.
لم يكن الاستبداد السياسي والفساد بكل أشكاله والذين سادا طيلة حكم بن علي، محصورين في بن علي وعائلته ومقربيه وزوجته وعائلتها ومن لهم مصالح معها فقط. لقد كانت مؤسسة الحكم بكل أجهزتها مؤسسة فاسدة.
لما انطلقت الإحتجاجات يوم 17 ديسمبر 2010 من مدينة سيدي بوزيد وبشكل مفاجئ لم يكن أحد يتصور أنها ستكون الشرارة الأولى لثورة ستطيح برأس النظام الفاسد الذي جثم على الرقاب أكثر من عشريتين.
لم يكن أحد يعتقد أن دكتاتورية بن علي يمكن أن تتهاوى وتسقط لأن لا أحد كان يضع في حساباته إمكانية هبة مفاجئة لشعب كامل وبذلك الزخم والكفاحية العالية.
هكذا هو الصراع الطبقي، وهكذا هي حركة التاريخ، وهكذا هي الأحداث الكبرى، وهكذا هي الثورات.
فالثورة ليست معادلة رياضية، إنها فعل تراكم وفعل صراع، فقد يصنع حدث صغير إنفجارات كبرى، وقد تسبب حادثة ما قد نراها زمن حدوثها معزولة، ثورة، ولكنها لا يمكن أن تصنع انتصار تلك الثورة، الانتصار في الثورات محكوم بجملة شروط إذا غابت تتمكن الطبقات السائدة المالكة لوسائل الإنتاج والمتحكمة في كل دواليب الاقتصاد والسياسة وأجهزة الدولة من السيطرة من جديد على الأوضاع، وترميم نظامها، ويغيب الانتصار، وتُمنى القوى الثورية بالهزيمة.
أغلب الثورات المجهضة كانت تكمن وراء إجهاضها مسألة السلطة. فالسلطة هي المسألة الأكثر حيوية والأهم في كل ثورة والجماهير التي تثور وتبلغ شوطا في تحقيق أهدافها ولا تضع نصب عينيها مسألة السلطة، تمنى بالهزيمة وتسلم نفسها بعد كل التضحيات التي تقدمها إلى جلاديها وتستسلم.
الثورة لا يغدر بها إلا النكوص عن طرح مسألة السلطة.
والجماهير لا تنهزم وتعود إلى وضع ما قبل الثورة، إلا حين تهمل مسألة حقها في السلطة.
بعد 14 جانفي، لم يكن من خيار آخر أمام الكتلة الطبقية التي قامت بالثورة وأطاحت بهرم النظام الدكتاتوري الفاسد غير إرساء سلطتها البديلة، التي ستحمي بها مصالحها أو تسليم نفسها من جديد قربانا لبقايا الدكتاتورية .
كان الوضع كله محكوم بهذا الشرط، فإما التقدم بالثورة وتحكّم الجماهير بمصيرها وإما عودة الدكتاتورية تحت مسميات وأشكال مختلفة وإجهاض الثورة.
ولمحاصرة قوى الثورة المضادة كان مطلوبا أن تبدأ الجماهير ومباشرة بعد إسقاط الدكتاتور، في بناء سلطتها الديمقراطية المباشرة من القاعدة إلى القمة. فالحق في السلطة إحدى مهمات الثورة كان يفترض أن تنتظم الجماهير محليا وجهويا في مجالس شعبية تتولى مواصلة الصراع وبكل الأشكال مع قوى الثورة المضادة وأن تأخذ على عاتقها إدارة الشأن المحلي على كل المستويات، وأن تكنس بقايا النظام من كل المراكز السياسية والإدارية من القاعدة إلى القمة.
كان ذلك هو الخيار الوحيد للحركة الشعبية وللقوى السياسية التي تعتبر نفسها قوى حاملة لبرنامج الثورة وممثلة لمصالح الجماهير التي قامت بالثورة وأسقطت الديكتاتور بن علي.
بعد 14 جانفي دخلت الثورة الطور الأهم من أطوارها، فإما أن تتقدم وتستمر بعزم وتصميم، وإما ستجهض، وتترك المجال لقوى الثورة المضادة وبقايا الديكتاتورية لإعادة ترميم النظام الديكتاتوري والمحافظة على السلطة في مرحلة ما بعد بن علي.
لا بد أن نوضح هنا مسألة مهمة وهي أن السلطة البديلة التي نتحدث عنها هي تلك السلطة التي تنشئها الجماهير أثناء الثورة، ما أن تبدأ مؤسسات النظام القديم في التحلل أمام الهجوم العاصف عليها من الجماهير، تلك السلطة التي تنشأ في البداية في شكل نواتات تنظم ذاتي جماهيري ثم تتطور في إطار المسار الثوري، وتتوسع وتتحدّد وظائفها تدريجيا لتصبح في وضع محدّد من الصراع مؤسسات حُكم وتسيير ذاتي على أنقاض المؤسسات البيروقراطية البائدة المنحلة للدولة والنظام.
السؤال الذي يواجهنا هنا هو هل أن ثورة الحرية والكرامة وأثناء المسار الثوري منذ 17 ديسمبر إلى ما بعد 14 جانفي، قد تمكنت من إفراز مثل هذه الأنوية الثورية، وهل كان بمقدورها أن تتطور لتتحول إلى السلطة البديلة التي نتحدث عنها.
الاجابة بدون شك هي نعم .
لا نعني بذلك أن مثل هذه النواتات قد نشأت في مسار الثورة التونسية واكتملت. لا أبدا: فما من سلطة ثورية بديلة تنشأ مكتملة إنها تكتمل ويشتد عودها بمرور الوقت، وبالتقدم في مواجهة أجهزة النظام السابق والإطاحة بها.
لقد أنشأت الجماهير الثائرة هذه الأشكال من التنظم الذاتي أثناء تصديها لعنف الدكتاتورية وقمعها السافر. لقد أنشأت الثورة التونسية أنوية سلطتها، ولكن هذه الأنوية لم تتطور بالصورة التي تمكّنها من أن تفرض وضع ازدواجية سلطة، ومن ثم تطرح نفسها سلطة بديلة، لقد ساهمت عوامل كثيرة، وليس فقط قوى الثورة المضادة، في عدم اكتمال هذه السلطة. إن المسار قد بيّن أن هذه الأنوية وكتجربة لم تمت ولم تنحلّ بصفة مطلقة، بل لازالت موجودة، ولكنها في وضع من الضعف والعجز.
قبل14 جانفي 2011 ، وفي المواجهة مع قوات القمع، أنشأت الجماهير أشكال تنظمها الذاتي، وعبر هذه الأشكال كان يقع التخطيط للمواجهة ولإنجاح الاحتجاجات، وقد بينت تلك التجارب قدرات الجماهير الكبيرة على إدارة الصراع مع أجهزة النظام الدكتاتورية والتغلّب عليها .
لقد أنشأت الجماهير مثل هذه الأنوية في سيدي بوزيد وفي القصرين وفي بعض أحياء تونس العاصمة وصفاقس وفي قفصة وسوسة وفي الكاف ومدن أخرى كثيرة.
غداة 14 جانفي وفي الفترة التي عرف فيها جهاز البوليس بكل أقسامه، وضعا من التحلّل، وفقدت مراكز القوى والتسيير في وزارة الداخلية سيطرتها نسبيا على أفراد هذا الجهاز، وبدا الوضع أشبه بوضع فراغ مع انتشار حالة من الخوف والرّعب نتيجة أعمال القنص التي كانت تقوم بها عصابة السرياطي، انتشر الوعي بأهمية هذه اللجان لدي الجماهير الشعبية، التي انطلقت تقريبا وفي كل مكان، في تشكيلها وباشرت فورا ممارسة حماية الشأن المحلي وإدارته.
هي اللجان التي نظمت حملات طرد الولاة والمعتمدين، وافتكت مقرات حزب التجمع الدستوري، ورفعت شعار تطهير الإدارة من المسؤولين التجمعيين برغم عدم توسع هذه الحركة وعدم استمرارها، هي اللجان التي نظمت وشاركت في اعتصام القصبة الأول والثاني والثالث واعتصام المصير وكل اللجان والهيئات التي نظمت وانخرطت في الاعتصامات الجهوية التي حصلت، وكما اللجان التي دعت إلى حالات العصيان المدني التي عرفتها بعض الجهات ومجالس حماية الثورة التي نشأت فيما بعد، كلها كانت دليلا على نشوء جنين هذه السلطة.
حالة عدم الاكتمــال والضعف التي تردّت إليها أشـكال التنـظّم الذاتي جنين السلطة الشعبية، أسبابها متعددة، فإضافة إلى تخريب قوى الثورة المضادة لهذه الهيئات فإنها كانت في حاجة في وضعها ذاك، إلى إسناد من القوى السياسية التي كانت تعتبر نفسها معبرة عن مصالح الطبقات الشعبية التي قامت بالثورة، ونعني بذلك تحديدا منظمات اليسار بشقيها الماركسي والقومي، والجمعيات والمنظمات الديمقراطية التقدمية المستقلة عن بقايا الدكتاتورية إلا أن هذه القوى عجزت عن تقديم هذا الإسناد، كما عجزت عن دفع الصراع على قاعدة النضال من أجل سلطة بديلة عن سلطة بقايا الدكتاتورية، ولنا في هذا الإطار تجربتين تجسدان هذا العجز أحسن تجسيد.
التجربة الأولى هي تجربة جبهة 14 جانفي، والتجربة الثانية هي تجربة المجلس الوطني لحماية الثورة.
يوم 20 جانفي 2011 وفي فترة لا يزال فيها الوضع ثوريا والنشاط الجماهيري صاعدا ولا تزال فيه البرجوازية تتعثر في ترميم سلطتها، وتبحث لها عن مخرج للمأزق الذي أصبحت تتخبط فيه حــكومة محمد الغنوشي الأولى التي كانت محل معارضة شعبية كبيرة، أعلنت ثمانية تنظيمات يسارية هي رابطة اليسار العمالي ـ حركة الوحدويين الناصريين ـ حركة الوطنيون الديمقراطيون ـ الوطنيون الديمقراطيون (الوطد) ـ التيار البعثي ـ اليساريون المستقلون ـ حزب العمال الشيوعي التونسي ـ وحزب العمل الوطني الديمقراطي في بيان سياسي عن تأسيس جبهـــة 14 جانفـــي للقوى الوطنية والتقدمية والديمقراطية في تونس.
الإعلان عن تأسيس جبهة 14 جانفي وفي ذلك الظرف شـكل حدثا مهما في مســـار الثورة، فهو من ناحية كان مبادرة ضرورية وملحة لمثل هذه التنظيمات السياسية لكي يتجاوز كل مكون من مكوناتها بهذه الخطوة، عجزه الذاتي عن الالتحام بالجماهير وبالقوى الفاعلة في الثورة والتأثير في الصراع، ومن ناحية أخرى، كانت المبادرة إجابة ضرورية يتطلبها الواقع الموضوعي للثورة ذاتها والتي ظلت تتقدم دون قيادة سياسية ودون برنامج ملموس ومحدّد.
غياب القيادة السياسية الثورية كان أحد نقاط ضعف الحركة الشعبية، ولئن لم يكن لهذا العامل من تأثير كبير على الحركة وهي تتقدم حتى سقوط الدكتاتور بن علي، فإن تواصل غيابه في الطور الذي ستواجهه فيه قوى الثورة المضادة وبقايا الدكتاتورية سيكون مؤثرا جدا.
من هذه الزاوية كان اعتبر تأسيس جبهة 14 جانفي للقوى الوطنية والتقدّمية والديمقراطية في تونس الخطوة التي لابد منها لثورة الحرية والكرامة، التي لم تستكمل بعد إنجاز مهماتها والمهدّدة بالتفاف قوى الثورة المضادة.
واقع الصراع مع بقايا الدكتاتورية، وجبهة اليمين عموما، كان يفترض أن يكون للحركة الشعبية قيادتها السياسية لمواصلة النضال حتى إسقاط النظام وإنجاز مهمات الثورة.
لم يكن بمقدور حزب أو منظمة بمفردها أن تمثل هذه القيادة، ولكنه كان ممكنا لتحالف يساري واسع أن يلعب هذا الدور.
كان الوضع السياسي قابلا في ذلك الوقت لأن تتحول جبهة 14 جانفي إلى هيئة أركان للثورة فالوضع مازال وضعا ثوريا وحلول الإلتفاف مازالت مرفوضة من قبل الحركة الشعبية، لقد كانت جملة الشروط التي عليها الواقع مساعدة لأن يكون لهذا القطب السياسي اليساري حضور وتأثير جماهيري، كان المطلوب من هذه الجبهة أن تلتحم بالثورة وبالقوى الفاعلة في الثورة ميدانيا، وتخوض الصراع ضد بقايا النظام من أجل استكمال مهمات الثورة من داخل صفوف الجماهير ومعها، وأن تسلك أسلوب العمل الميداني التعبوي لدفع الصراع إلى أقصاه ضد قوى الثورة المضادة من أجل عزلها والإطاحة بها.
كان المطلوب من جبهة 14 جانفي، وكقطب سياسي، العمل من داخل الحركة الشعبية لفصل القوى الطبقية الثورية عن تأثير قوى الجبهة اليمينية بكل مكوناتها الليبرالية والرجعية، والتمسك بمهمة استكمال الثورة، والذي كان يفترض، باعتبار الجبهة قطبا سياسيا منحازا إلى الشعب وإلى الثورة أن تحافظ على استقلالها عن قوى الثــورة المضادة، وانتهاج أسلوب التعبئة والنضال الميداني وتنظيم الجماهير محليا وقطاعيا.
كان هذا هو المطروح على جبهة 14 جانفي في مثل الوضع الذي تأسست فيه.
في ذلك الوقت كان صراع الحركة الشعبية مع بقايا الدكتاتورية يدور حول محورين.
المحور الأول كان حول طبيعة السلطة التي يجب إرساؤها بعد فرار الديكتاتور بن على والمحور الثاني هو حول تحقيق المطالب الإقتصادية والاجتماعية للجماهير، ولإدارة هذا الصراع كانت الحركة الشعبية في حاجة لقيادة سياسية تتجاوز مجرد إعلان برنامج الثورة إلى البدء في تجسيمه عمليا. كان المطلوب تحديدا الإعلان عن حكومة مؤقتة من هذه الأحزاب ومن اللجان الشعبية التي تكوّنت ومن المنظمات والجمعيات والهيئات الديمقراطية المعارضة للحل الالتفافي الذي فرضته بقايا الدكتاتورية والملتزمة ببرنامج الثورة.
كان مطلوبا الدفع في اتجاه وضع ازدواجية السلطة ومعارضة قوى الثورة المضادة القائم على قاعدة الفصل 57 من الدستور، الذي سقط بسقوط الديكتاتور. كان المطلوب دفع الصراع إلى أقصاه ورفض كل حلّ على قاعدة دستور 59 الساقط ورفع راية الشرعية الثورية والتمسك بشعار الحكومة المؤقتة المشكلة من قوى الثورة .
البيان التأسيسي لجبهة 14 جانفي كان وفي خطوطه العريضة مشروعا يجسم هذا التوجه الثوري، وكانت المهمة الرئيسية والمطلوبة في ذلك الظرف من القوى التي أعلنت هذه الجبهة، هي تحقيق وحدة الجماهير وتنظيمها حول هذا البرنامج و تنفيذه.
كان نشاط الحركة الشعبية في ذلك الوضع والذي استمر من 14 جانفي إلى حدود سقوط حكومة الغنوشي الثانية في 27 فيفري 2011، يصعد وينخفض ولكنه لم يتراجع، فقد حافظت أنويتها الثورية والأشد تمسّكا بمواصلة الثورة على نشاطها الثوري والذي تجسم في اعتصامي القصبة الأول والثاني وفي تشكيل مجالس ولجان حماية الثورة محليا وجهويا على إمتداد كامل البلاد.
كان كل ذلك يشكل عاملا مهما في إنجاح مبادرة جبهة 14 جانفي والتي كان برنامجها يتضمن المطالب الأربعة الأساسية التالية.[8]
أولا إسقاط حكومة الغنوشي أو أي حكومة أخرى تضم رموز النظام السابق.
ثانيا تشكيل حكومة مؤقتة تحظى بثقة الشعب وقواه التقدمية السياسية والجمعياتية والنقابية والشبابية.
ثالثا الإعداد لانتخابات مجلس تأسيسي في أجل لا يتجاوز سنة من أجل صياغة دستور ديمقراطي جديد.
رابعا بناء اقتصاد وطني يخدم الشعب توضع فيه القطاعات الحيوية والإستراتيجية تحت إشراف الدولة وتأميم المؤسسات التي تمت خوصصتها وصياغة سياسة اقتصادية واجتماعية تقطع مع النهج الليبرالي.
قوى الثورة المضادة وبقيادة رموز نظام بن علي لم يكونوا ليستسلموا برغم حالة الرفض الشعبي لحكومة الغنوشي الأولى لقد كانوا متيقنين أن هذه الحكومة مآلها السقوط ، لذلك بدؤوا، ومنذ انسحاب ممثلي الإتحـاد العـام التونسي للشغل وممثل التكتل الديمقراطي منها، إلى البحث عن بدائل وإعادة ترميم الصدع الذي حصل في الجبهة اليمينية بخروج البيروقراطية النقابية عن صف شركائها التاريخيين، كان الرهان هو إيجاد صيغة لإعادة ربط البيروقراطية النقابية بعجلة اللاشرعية وقوى الثورة المضادة، قبل إعلان محمد الغنوشي يوم 27 جانفي عن تركيبة حكومته الثانية والتي لم تكن تختلف كثيرا عن الأولى، كانت تجري مشاورات سرية بين بيروقراطية الإتحاد والهيئة الوطنية للمحامين وبقايا الدكتاتورية لضمان أكثر ما يمكن من التأييد للتركيبة الحكومية الجديدة التي سيعلن عنها. وكانت المناورة الكبرى والمنعرج الحاسم والذي سيؤثر في مجرى الأحداث اللاحقة وفي مسار الثورة.
كانت الخطـة تقتضي أن يتـولى الاتحـاد العـام التـــونسي للشغل عبـر قيـادته البيروقراطية، والهيئة الوطنية للمحامين الدعوة إلى تشكيل مجلس وطني لحماية الثورة تتمثل فيه كل الأحزاب والجمعيات والمنظمات النقابية والحقوقية، مقابل أن يمنحا مساندتهما للحكومة الثانية التي سيعلن عنها الغنوشي.
كانت السلطة اللاشرعية ترمي من وراء ذلك إلى إضعاف حركة التعبئة الجماهيرية التي أصبح عليها إعتصام القصبة 1، وبالتالي شلّ كل مسار تعبوي قادم وفي نفس الوقت إرباك الاستقطاب اليساري الذي عبرت عنه جبهة 14 جانفي، وقطع الطريق أمام نموه وتعطيل أي دينامكية قد تنشأ في اتجاه ذلك.
خطة السلطة اللاشرعية كانت تهدف في الأخير إلى إضعاف كل إمكانية حقيقية لنشوء قوة سياسية جذرية مستقلة، مرتبطة بالحركة الشعبية، ومنغرسة فيها، ومتبنية لبرنامج الثورة، ومناضلة من أجل إنجاز هذا البرنامج، لقد كانت غايتها جرّ كل مكونات الحركة السياسية والجمعياتية للعمل وفق أرضيتها اليمينية، وقد تكفلت البيروقراطية النقابية والهيئة الوطنية للمحامين بلعب دور رئيسي في هذه المناورة.
يوم 26 جانفي 2011 وحتى قبل إعلان الغنوشي عن تركيبة حكومته الجديدة، دعت بيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل وهيئة المحامين إلى اجتماع تمهيدي لمناقشة الإعلان عن المجلس الوطني لحماية الثورة، حضره عدد كبير من الأحزاب والجمعيات والمنظمات، ستبلغ 28 هيئة في اجتماع 11 نوفمبر 2011 عند الإمضاء على بيان المجلس الأول.
في هذا الاجتماع، قدمت جبهة 14 جانفي وثيقة بعنوان مبادرة جبهة 14 جانفي لتحقيق الانتقال الديمقراطي: المؤتمر الوطني لحماية الثورة، كما تقدمت الهيئة الوطنية للمحـامين بمشروع ثـان فيما قدمت بيروقراطية الإتحـاد العــام التونـسي للشغل مقترحـات، واتفق المجتمعون على أن يقع مناقشة مختلف المشاريع في جلسة أخرى بعد انعقاد الهيئة الإدارية للاتحاد للخروج بمقترح مشترك.
ورد في مقترح جبهة 14 جانفي أنه « شعورا منها بالمسؤولية تجاه الشعب الثائر ضدّ نظام الاستبداد والفساد والاستغلال الفاحش، والذّي تمكن من عزل الدكتاتور، وهو يواصل الآن ثورته للتخّلص من الدكتاتورية ولإقامة النظام الديمقراطي الذي يحقق، أي الشعب، في ظلّه الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية.
وسعيا منها إلى الانتقال بالبلاد من الدكتاتورية إلى الديمقراطية بطريقة مدنية، سلمية، تجنّب الشعب التونسي مزيد المعاناة وتحفظ له مكتسباته وتفوّت على القوى الرجعية، التي هي اليوم بصدد تنظّيم هجوم مضاد على الشعب وقواه الديمقراطية، فرصة الرجوع بالبلاد إلى الوراء وإجهاض ثورة الشعب ومساومته في حرّيته وكرامته مقابل "الأمن والاستقرار" وتسدّ الباب أمام القوى الأجنبية التي تناور من أجل الالتفاف على الثورة وإفراغها من محتواها الديمقراطي والوطني والشعبي.
تعلن تشكيل "المؤتمر الوطني لحماية الثورة".
1 ـ يضم "المؤتمر الوطني لحماية الثورة":
ـ كافة الأطراف السياسية والجمعيات والمنظمات النقابية والحقوقية والشبابية والهيئات الثقافية والشخصيات المستقلّة التي تتبنّى مطالب ثورة الشعب وتناضل من أجل تحقيقها.
ـ ممثّلي القوى التي أفرزتها الثورة في كافّة أنحاء البلاد عبر المجالس أو اللجان أو الروابط التي شكّلت بمبادرة من الجماهير.
ـ ممثّلين عن الجمعيات والمنظّمات التونسية بالهجرة التي قاومت الدكتاتورية وساندت الثورة في تونس.
2 ـ يتوجّه "المؤتمر الوطني لحماية الثورة"، بعد تشكّله، عبر ممثّلين يختارهم، إلى الرئيس الحــالي المؤقت الذّي يقبل به المــؤتمر لتيسير عمليـة تجــاوز المرحلة الانتقـــالية، لإصدار مرسوم يشرّع وجود المؤتمر.
3 ـ يدعو "المؤتمر الوطني لحماية الثورة" إلى حلّ الحكومة الحالية وتشكيل حكومة جديدة مؤقّتة متركّبة من أعضاء، نساء ورجالا، تتوافق حولهم القوى المشكّلة للمؤتمر ويحظون بقبول الشعب باعتبارهم لا ينتمّون إلى النظام السابق وحزبه.
4 ـ يتولّى "المؤتمر" إعداد النصوص المؤقتة لخلق مناخ من الحريّة التامة للشعب التونسي عبر إلغاء العمل بالقوانين المنافية للحريات وتعطيل العمل ببنود الدستور التي تلغي الحريات ومبدأ السيادة الشعبية في انتظار سن الدستور الجديد.
5 ـ تتولّى الحكومة المؤقتة إنجاز المهام التالية:
ـ تصريف الأعمال اليومية.
ـ حل الهيئات التمثيلية المنصّبة.
ـ حلّ الحزب الحاكم وميليشياته وتصفيّة ممتلكاته ومحاسبة الرّموز الضالعة منه في جرائم اقتصادية وسياسية.
ـ حل جهاز البوليس السياسي.
ـ تعيين مسؤولين وقتيين على رأس السلك الدبلوماسي والولايات والمعتمديات والعمادات لتيسير إنجاز المرحلة الانتقالية.
ـ الإعداد لانتخاب مجلس تأسيسي في مناخ من الحرّية، ويكون هذا المجلس ممثّلا لكل القوى الحيّة بالبلاد عبر التوافق على طريقة التمثيلية فيه (اعتماد النسبية) لاجتناب الإقصاء.
ـ يتولّى المجلس التأسيسي صياغة دستور جديد للجمهورية التونسية المدنية والديمقراطية والعصرية التي تحقق طموحات الشعب التونسي في الحرّية والمساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة.
6 ـ تنتهي الفترة الانتقالية مع انتخاب المجلس التأسيسي وتعيين حكومة وطنيّة جديدة لتسيير شؤون البلاد وإجراء انتخابات حرّة وديمقراطية وفقا للدستور الجديد الذي يمثّل الأساس للشرعية الديمقراطية الجديدة.»
كان من المفروض أن تتعاطى جبهة 14 جانفي مع مبادرة بيروقراطية الإتحاد والهيئة الوطنية للمحامين، من أجل تشكيل المجلس الوطني لحماية الثورة، من موقع الدفع في اتجاه تجذير المبادرة، وكان الموقف يتطلب أن تكون تركيبة هذا المجلس مكونة من قوى سياسية مستقلة ديمقراطية وتقدمية، وأن تكون اللجان الشعبية ومجالس حماية الثورة ممثلة فيه تمثيلية حقيقية، وأن لا يكون برنامجه أدنى من البرنامج الذي طرحته الجبهة في بيانها التأسيسي. كما كان المطلوب أن لا تتواجد في هذا المجلس المرتقب، القوى التي تساند حكومة الغنوشي الثانية، والقوى التي شاركت في الحكومة الأولى، كما القوى الرجعية وتحديدا حزب النهضة لأنه لم تكن له مشاركة ملموسة في الحراك الثوري ولأنه في الأساس قوة سياسية مناهضة للثورة .
مهمة الجبهة في ذلك الظرف، كانت تتطلب منها تجذير المبادرة لا التوافق معها والقبول بتنازلات تضرب في الصميم أرضيتها اليسارية.
كانت الجبهة مطالبة، وانطلاقا من بيانها التأسيس، بالتمسك بأرضيتها السياسية والتصدي للمناورة التي كانت تديرها بيروقراطية الاتحاد العام التونسي للشغل مع هيئة المحامين والتي لم تكن تهدف لغير تمكين الحكومة اللاشرعية من ربح الوقت والترتيب لتمرير أرضيتها الالتفافية .
استقلالية جبهة 14 جانفي عن كل قوى الالتفاف و الثورة المضادة، وعن كل القوى المساندة لحكومة الغنوشي الثانية، كان هو النقطة الأهم التي كان يجب التمسك بها في التعاطي مع مبادرة تكوين مجلس حماية الثورة .
الاستقلال عن جبهة اليمين، والدفاع عن خط استمرارية الثورة والعمل مع قوى الثورة الحقيقية من مجالس ولجان، كان من المفروض أن يكون خطا أحمر لا يجب التنازل عنه.
كان برنامج جبهة 14 جانفي الذي طرحته في بيانها التأسيسي في خط متعارض مع مبادرة بيروقراطية الاتحاد وهيئة المحامين.
برنامج الجبهة كان قائما على الدعوة إلى النضال لإسقاط حكومة الغنوشي أو أي حكومة أخرى تضم رموز النظام السابق، و تشكيل حكومة مؤقتة تحظى بثقة الشعب وقواه التقدمية السياسية والجمعياتية والنقابية والشبابية، كما أن برنامجها يتضمن أيضا المطالب الإقتصادية والاجتماعية الانتقالية للثورة.
تحقيق مثل هذا البرنامج كان يفترض من الجبهة التمسك بخط التعبئة الجماهيرية والنضال الميداني، وتنظيم الجماهير محليا وجهويا لافتكاك السلطة وممارستها قاعديا وبشكل ديمقراطي، كان من المفروض أن تعمل على أن يكون مجلس حماية الثورة مبادرة تفضي إلى الإعلان عن الحكومة المؤقتة التي نادت بها، .بينما كانت مبادرة بيروقراطية الاتحاد العام التونسي للشغل وهيئة المحامين مبادرة فوقية، قابلة بلاشرعية الحكومة، مؤسسة على إقصاء القوى الحقيقية للثورة، رافضة لأسلوب النضال الميداني ليست غايتها الدفع في اتجاه أن تمسك الجماهير بالسلطة، بل أقصى ما كانت ترمي إليه هو الوفاق الطبقي والذي سيعبر عنه بكل وضوح، البيان التأسيسي لمجلس حماية الثورة الذي سيصدر في 11 فيفري 2011 ثم فيما بعد التحاق أغلب مكونات هذا المجلس بهيئة بن عاشور الالتفافية.
خط الجبهة حسب بيانها التأسيسي، وخط بيروقراطية الاتحاد وهيئة المحامين كانا خطين متناقضين. خط الصراع وخط الوفاق.
يوم 29 جانفي التحقت ثلاث قوى سياسية بجبهة 14 جانفي هي:
- حزب الوحدة الشعبية الشرعي
- حركة البعث
- حركة الشعب
مبادرة تأسيس المجلس الوطني لحماية الثورة التي أعلنتها ونظمتها بيروقراطية الإتحاد وهيئة المحامين باتفاق مع السلطة اللاشرعية سحبت البساط من جبهة 14 جانفي ودفعتها إلى التخلي عن برنامجها الخاص وأرضية نضالها الخاصة، لتلتحق بالأرضية اليمينية لهذا المجلس وتكون أحد الذين ستجمعهم سفينة نوح؛ سفينة مجلس حماية الثورة هذه التي تضم أحزابا وجمعيات ومنضمات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لا يمكن موضوعيا أن تجمع بينها جامعة.
لقد تغلبت النزعة البرجوازية الصغيرة الإصلاحية المساومة والمراوحة على النزعة الديمقراطية الثورية، و روح التنازل والوفاق على روح الصراع والثورة لدى كل مكونات جبهة 14 جانفي.
يوم 11 فيفري 2011 ، تفضي المناقشات التي دارت حول تكوين المجلس الوطني لحماية الثورة، إلى نشر بلاغ إعلامي لهذا المجلس أمضاه 28 ممثلا عن الأحزاب والجمعيات والمنضمات والهيئات التي شاركت في النقاشات التمهيدية حول الموضوع، جاء فيه أن الحاضرين قد تدارسوا المقترحات المتعلقة بتأسيس هيأة وطنية لحماية الثورة وفاءا لدماء الشهداء وانتصارا لطموحات الشعب وتكريسا لمبادئ ثورته ودرءا لمخاطر الالتفاف عليها وإجهاضها وتجنيب البلاد الفراغ « وقد اتفق المشاركون رغم اختلاف مواقفهم من الحكومة الحالية قبولا أو رفضا على أهمية تأسيس هذه الهيئة التي أطلق عليها اسم المجلس الوطني لحماية الثورة وفق المبادئ التالية :
1 - أن تكون لها سلطة تقريرية وذالك بأن تتولى السهر على إعداد التشريعات المتعلقة بالفترة الانتقالية والمصادقة عليها. (إلغاء القوانين المنافية للحريات إلخ...).
2 ـ مراقبة أعمال الحكومة المؤقتة التي تتولى تصريف الأعمال وإخضاع تسمية المسؤولين في الوظائف السامية لتزكية الهيئة.
3 - إعادة النظر في اللجان التي تم تشكليها من حيث صلاحياتها وتركيبتها حتى تكون حصيلة وفاق، على أن يعرض آليا ما تطرحه من مشاريع على المجلس للتصديق عليها .
4 - إنهاء المبادرات التي يفرضها الوضع الانتقالي في كل المجالات وفي مقدمتها القضاء و الإعلام
5 - تتركب الهيئة من ممثلين عن الأطراف السياسية و الجمعيات و المنظمات و الهيئات الموقعة أسفله ومن ممثلين عن مختلفي الجهات، على أن يتم ذالك بشكل توافقي
6 - يصادق على بعث الهيئة بمرسوم يصدره الرئيس المؤقت» [9]
في هذا البيان تخلت جبهة 14 جـانفي والتي أمضت بـلاغ المجلس لا كجبهة بل كمكونـات، عن موقفها الأول المنادي بإسقاط حكومة الغنوشي أو أي حكومة أخرى تضم رموز النظام السابق، وعن الدعوة إلى تشكيل حكومة مؤقتة تحظى بثقة الشعب وقواه التقدمية السياسية والجمعياتية والنقابية والشبابية، وتبنت مقابل ذلك صيغة تلفيقية لا تعني في الأخير غير القبول بالحكومة اللاشرعية والعمل مع مسانديها وهي « وقد اتفق المشاركون رغم اختلاف مواقفهم من الحكومة الحالية قبولا أو رفضا على أهمية تأسيس هذه الهيئة التي أطلق عليها اسم المجلس الوطني لحماية الثورة...» كما تخلت عن رفض الحل الالتفافي عندما قبلت باللجان الثلاث التي كونتها الحكومة اللاشرعية، وطالبت فقط بإعادة النظر فيها حتى تكون حصيلة وفاق، إضافة لكل هذا فقد تنازلت مكونات جبهة 14 جانفي عن مقترحها حول تركيبة المجلس، وقبلت بإقصاء ممثّلي القوى التي أفرزتها الثورة ـ المجالس و اللجان و الروابط التي شكّلت بمبادرة من الجماهيرـ وتعويضهم بممثلين عن الجهات، على أن يتم اختيارهم بشكل توافقي، وهو المقترح الذي أصرت عليه بيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل وفرضته وأذعنت له جبهة 14 جانفي .
لقد تخلت جبهة 14 جانفي، بالتزامها بجملة المبادئ التي وردت في البلاغ الإعلامي لمجلس حماية الثورة، والذي يعد بمثابة البيان التأسيسي لهذا المجلس، عن أرضيتها التي أعلنت عنها يوم 20 جانفي، لقد كان ذلك نتيجة طبيعة مكوناتها المؤثرة الإصلاحية الوسطية، وعدم قدرة هذه المكونات على الانفصال عن البيروقراطية النقابية والمنظمات والجمعيات التي لا يتجاوز أفق نضالها ومطالبها أفق المشاركة في السلطة.
بهكذا مواقف حكمت جبهة 14 جانفي على نفسها بأن تظل هامشية كمبادرة سياسية غير قادرة على التأثير في الوضع .
نفس الوضعية سينتهي إليه أيضا مجلس حماية الثورة الذي سيغرق في جدل عقيم لأسابيع مع الحكومة حول الصفة التقريرية التي يطالب بها.
وضعية جبهة 14 جانفي كما المجلس ستنتهيان عمليا إلى الفشل لما ستتقدم السلطة اللاشرعية خطوة في فرض الأمر الواقع، وسيسحب البساط من هاتين الهيئتين بصفة كاملة لما تلتحق كثير من مكونات الجبهة والمجلس بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، هيئة الإلتفاف على الثورة، والتي عبرها ستتمكن جبهة اليمين من ترميم شرعية حكومتها المفقودة وتمرير برنامجها الالتفافي.
في 18 فيفري 2011 أصدر رئيس الجمهورية المؤقت المرسوم عدد 6 المتعلق بإحداث الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي و الانتقال الديمقراطي [10] وهي هيئة كان أعلن عن تشكيلها الديكتاتور بن علي قبل الإطاحة به تحت إسم اللجنة العليا للإصلاح السياسي.
أشار الفصل الأول والثاني من هذا المرسوم إلى إحداث هيئة عمومية مستقلة تدعى "الهيئة العلية لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي و الانتقال الديمقراطي".
وتتعهد هذه الهيئة بالسهر على دراسة النصوص التشريعية ذات العلاقة بالتنظيم السياسي و اقتراح الإصلاحات الكفيلة بتجسيم أهداف الثورة بخصوص المسار الديمقراطي ولها إبداء الرأي بالتنسيق مع الوزير الأول حول نشاط الحكومة، وتحدث الفصل الثالث عن تركيبة الهيئة حيث ورد فيه أنها تتكون من:
ـ رئيس يتم تعيينه بأمر بين الشخصيات الوطنية المستقلة المشهود لها بالكفاءة في الميدان القانوني و السياسي .
ـ نائب رئيس يتم تعيينه من الشخصيات السياسية ومكونات المجتمع المدني المشاركة في الهيئة باقتراح منها .
ـ مجلس متكون من شخصيات سياسية وطنية وممثلين عن مختلف الأحزاب السياسية والهيئات و المنظمات و الجمعيات ومكونات المجتمع المدني المعنية بالشأن الوطني في العاصمة والجهات ممن شاركوا في الثورة وساندوها ويتم تعيينهم بقرار من الوزير الأول وباقتراح من الهياكل المعنية، وتتولى هذه الهيئة ضبط التوجهات الكفيلة بملاءمة التشاريع المتصلة بالحياة السياسية بما يتوافق مع متطلبات تحقيق الانتقال الديمقراطي، ولها اتخاذ ما تراه من اقتراحات لضمان استمرارية المرفق العمومي وتجسيم أهداف الثورة ومطالبها.
ـ لجنة خبراء متكونة من أخصائيين يعيينهم رئيس الهيئة لا يقل عددهم عن العشرة، تتولى صياغة مشاريع القوانين وفق التوجهات التي يتم ضبطها من قبل الهيئة، وتعرض مشاريع القوانين المعدة من طرف اللجنة على الهيئة للمصادقة عليها قبل رفعها إلى رئيس الجمهورية.
ونص الفصل الخامس على أن الهيئة تتخذ قراراتها بالتوافق وإن تعذر بالأغلبية ويكون صوت الرئيس مرجحا عند تساوي الأصوات، وأشار الفصل السابع إلى أن الهيئة تجتمع بدعوة من رئيسها أو من ثلثي أعضائها وتكون مداولاتها سرية . كما تضمن الفصل التاسع أن رئيس الهيئة العلية لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي و الانتقال الديمقراطي يرفع لرئيس الجمهورية وللوزير الأول مقترحات الهيئة وتقرير حول أشغالها، وتسهر الهيئة بالتنسيق مع الوزير الأول على متابعة تنفيذ ما اقترحته لتجسيم أهداف الثورة ولضمان حسن سير المرفق العام وتحقيق الانتقال الديمقراطي.
ضمت هذه الهيئة عند تكوينها 71 شخصية بين ممثلين عن الأحزاب السياسية وعن الهيئات والمنظمات والجمعيات ومكونات المجتمع المدني، إضافة إلى عدد هام من الشخصيات المدعوة الوطنية لتصبح في 5 أفريل 155 شخصية. [11]
مناورة بقايا الدكتاتورية في محاولة إكساب حكومة الغنوشي الثانية شرعية زائفة وتضييق دائرة الفراغ من حولها، ستعمل على استكمالها بعد كسب موقف بيروقراطية الاتحاد العام التونسي للشغل والهيئة الوطنية للمحامين، بالإعلان عن هذه الهيئة التي كانت في الحقيقة بديل الحكومة اللاشرعية عن المجلس الوطني لحماية الثورة، فالحكومة، في الوقت الذي أعطت فيه الضوء الأخضر للبيروقراطية النقابية ولهيئة المحامين بالبدء في تكوين المجلس الوطني لحماية الثورة، من أجل سحب البساط من مبادرة جبهة 14 جانفي وإرباكها وتعويمها، كانت في نفس الوقت تعمل على الإعلان علـى بديل لمجلس حماية الثورة نفسه، حسب تصورها وعلى قاعدة يمينية التفافية، هو هذه الهيئة المسماة بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.
في الوقت الذي انطلقت فيه هذه الهيئة في أعمالها، لم تكن لا جبهة 14 جانفي ولا المجلس بمقدورهما التصدي لخطة الالتفاف هذه فالجبهة قد تخلت عن مطالب أرضيتها التأسيسية واستقلاليتها كقطب يساري مطروح عليه الاستناد إلى الجماهير، والعمل من داخلها ودفعها إلى إنجاز مهمات الثورة، والتي على رأسها مهمة إسقاط النظام بكل مؤسساته وتبنت أرضية مجلس حماية الثورة اليمينية والذي كان بدوره عاجزا، لأنه كبل مبادرته بشرط وضعه لنفسه وهو ضرورة أن يصدر الرئيس المؤقت مرسوما يشرع فيه وجود هذا المجلس.
رد الحكومة كان معروفا مسبقا فلقد رفضت أن يكون لهذا المجلس أي صفة تقريرية ودعت مكوناته للالتحاق بالهيئة والعمل في صلبها.
بهكذا موقف كانت السلطة اللاشرعية قد استكملت عمليا مناورتها وخطت خطوات كبيرة في إغراق المبادرتين مبادرة جبهة 14 جانفي ومبادرة المجلس في الفراغ.
عقب دعوة الحكومة لمكونات المجلس للالتحاق بالهيئة التي كونتها وانطلقت بعد في أشغالها، تعلن بيروقراطية الاتحاد العام التونسي للشغل في بيان صدر في 4 مارس 2011 على أنه من الأولويات في المرحلة المقبلة المشاركة في إطار الهيئة الوطنية لحماية أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وفي إعداد قانون انتخابي انتقالي يضمن الديمقراطية والشفافية بصفة تقطع مع ممارسات الماضي ومع كل أساليب التدليس والإقصاء والتسلط ويلتحق بهيئة الالتفاف.
يتواصل التحاق مكونات مجلس حماية الثورة بهيئة بن عاشور إلى أن نجد فيها في 5 أفريل 2011 كل من الهيئة الوطنية للمحامين ـ الاتحاد العام التونسي للشغل ـ التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات ـ حزب حركة النهضة ـ حركة الوطنيون الديمقراطيون ـ المؤتمر من أجل الجمهورية ـ حزب العمل الوطني الديمقراطي ـ جمعية القضاة التونسيين ـ منظمة حرية وإنصاف ـ حزب تونس الخضراء ـ النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ـ الاتحاد العام لطلبة تونس.
لم تقدر المكونات الباقية من مجلس حماية الثورة على تجاوز حالة الإرباك التي وجدت نفسها فيها، كما لم تتمكن من تجاوز الأرضية الإصلاحية لهذه الهيئة، في حين انفرط عقد جبهة 14 جانفي ولم يعد لها من أثر ولا تأثير على مجريات الأوضاع بتخلي أغلب مكوناتها عن العمل لتفعيل أرضيتها التي تأسست عليها. وسيبقى الهيكلان يراوحان ليعجزا في الأخير حتى على مجرد الاجتماع للتشاور أو التنسيق.
لابد ونحن بصدد الحديث عن الوضع الذي انتهى إليه مجلس حماية الثورة من الإشارة إلى مؤتمر لجان ومجالس حماية الثورة الذي انعقد في مدينة نابل في 9 أفريل 2011.
يومي 9 و10 أفريل انعقد بنابل المؤتمر الوطني للجان و المجالس الجهوية و المحلية لحماية الثورة على إثر مبادرة قامت بها اللجنة الجهوية لحماية الثورة بجهة بنابل ودعمها وانظم إليها مناضلون من حساسيات سياسية يسارية مختلفة ودعوا لها على صفحات الانترنيت بالنداء التالي:
«أمام تنامى محولات الالتفاف على الثورة، و قلة نضج أغلب من نصبوا أنفسهم ساسة للثورة، لنعمل على إرجاع الثورة إلى قواها الفعلية، لنعمل من أجل عقد مؤتمر وطنى للجان المحلية والجهوية لحماية الثورة.»
إثر صدور النداء تبنت المبادرة مجالس كثيرة وانعقد لتفعيل هذه المبادرة يوم 02 أفريل 2011 بنابل ملتقى تحضيري حضره أكثر من 20 مجلسا انبثقت عنه لجنة إعداد للمؤتمر.
كانت المبادرة تهدف في الأساس إلى تنظيم عمل اللجان والمجالس ومركزة وتفعيل التي ظهرت و نشأت كهيئات مواطنية من داخل حركة الجماهير والتي بقيت مشتتة غير موحّدة ولا ينتظم تدخلها ونضالها ونشاطها الثوري تحت رؤية برنامجية موحّدة .
كان الهدف من المبادرة هو دفع هذه المجالس إلى التوحّد حول أرضية سياسية ثورية وبرنامج عمل نضالي لمواصلة الثورة حتى تحقيق مهامها، خصوصا بعد أن خفت النشاط الجماهيري وحوصرت حركة الاعتصامات، وبان تعثر هذه اللجان والمجالس في مواصلة النشاط الثوري مقابل توسع جبهة الالتفاف على الثورة بقيادة الحكومة اللاشرعية وكل من يسير في ركابها من كل تلك الأحزاب والهيئات والشخصيات، التي قبلت بالتواجد في هيئة بن عاشور المدعوة بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.
كان هذا هو الهدف الذي من أجله وقعت هذه المبادرة وهو توجه وقع التعبير عنه في البيان رقم واحد الذي صدرعن الملتقى التحضيري لمؤتمر هذه اللجان والمجالس وفي النداء الأول للمبادرة[12] والذي ينصّص على :لنعمل على إرجاع الثورة إلى قواها الفعلية.
لابد من التأكيد على أنّ لا نصّ الإعلان عن المبادرة، ولا بيانات الملتقى التحضيري أشارت إلى أن المؤتمر هو مؤتمر للجان ومجالس محلية وجهوية منتظمة أو تحت إشراف المجلس الوطني لحماية الثورة والذي يعرف الجميع أن أمر تكوينه وتركيبته وسياساته هي محل خلاف كبير بين أعضاء هذه اللجان والمجالس الجهوية والمحلية والتي تكونت دون مبادرة منه وباستقلال عنه.
إن بيان الملتقى التحضيري كان واضحا في هذه النقطة فقد اعتبر المجلسَ الوطني لحماية الثورة هيئةً ـ تظل في حاجة إلى دعم القوى الحقيقية الفاعلة في الثورة.
لقد كان واضحا وعلى الأقل لدى المبادرين و من حظّروا الملتقى التحضيري، أن مؤتمر 09 أفريل سيؤسس لهيئة لها استقلاليتها عن كل الهيئات الأخرى، وهو أمر تفرضه طبيعتها كهيئة للنضال الجماهيري، ولكن هذا لا يعني أنها مدعوة لا بل أنه من أوكد مهماتها أن تنسق عملها مع كل المنظمات الجماهيرية الأخرى والأحزاب والهيئات التي مازالت ترى نفسها معنية بمواصلة الثورة، وتنخرط جنبا إلى جنب معها في النضال من أجل تحقيق مهام الثورة.
كان هذا هو التوجه الذي من أجله وقعت المبادرة ومن أجله وقع الدفع في اتجاه إقامة مؤتمر لجان ومجالس حماية الثورة، وهو توجه نابع من تصور سليم حول طبيعة عمل المنظمات الجماهيرية.
إلا أن ما حدث أثناء المؤتمر ومن بعض المؤتمرين، كان مخالفا لكل ما تقدم، حيث جاء البعض المؤتمر لتحقيق هدف آخر يختلف تماما عما وقع الإشارة إليه، وهو الانحراف بهذه المبادرة عن هدفها الحقيقي والحيلولة دون أن تعلن هذه اللجان و المجالس أنها هيئة مستقلة بذاتها.
لقد إنطلق هؤلاء النواب ومنذ بدء أشغال المؤتمر في الدفع في هذا التوجه، فطرحوا قضية أحقية لجنة الإعداد للمؤتمر، في الإشراف على أشغاله وتسييره، وطالب البعض بأنه لابد من انتحاب لجنة أخرى من داخل المؤتمر للأشراف والتسيير، وهي في الحقيقة مسألة مفتعلة نادى بها البعض في محاولة لتوجيه المؤتمر الوجهة التي خططوا لها، وهي منع اللجان والمجالس من أن تعلن في آخر أشغال مؤتمرها أنها هيئة جماهيرية ديمقراطية مناضلة ومستقلة عن مجلس حماية الثورة.
لم يكن يعني هؤلاء غير أن يفشل المؤتمر في الإعلان عن تكوّن هيئة شعبية مناضلة جماهيرية وممثلة وديمقراطية ومستقلة، لقد كان هاجسهم طيلة الأشغال الدفع في اتجاه أن لا يخرج المؤتمر عن الجبة التي أحضروها له، و اجتهدوا في إلباسها له وهي جبة المجلس الوطني لحماية الثورة . لذلك نلاحظ الصيغة الغائمة غير الواضحة والتي خرج بها المؤتمر حول هذه المسألة في بيانه الختامي وهي: « تمسكنا بــالمجلس الوطني لحماية الثورة في تركيبته الباقية المكونة من القوى الثورية كإطار يتبنى ويدافع عن مبادئ الثورة وأهدافها، ويحتكم إلى التشاور والتوافق حول التوجهات السياسية والقرارات الوطنية الكبرى، على أن يقع إرساء تنسيقية وطنية تضمن تمثيل وتفعيل اللجان والمجالس المحلية والجهوية داخل المجلس الوطني لحماية الثورة».
في الحقيقة إن كل ما وقع في المؤتمر، وفي علاقة بمسألة استقلالية المجالس واللجان الشعبية ، هو ناتج عن انحراف في فهم هؤلاء لطبيعة عمل المنظمات الجماهيرية وعلاقتها بالأحزاب والمنظمات السياسية.
إن فهم بعض النواب في المؤتمر لضرورة أن تكون المنظمات الجماهيرية تابعة للأحزاب وللمنظمات السياسية، ومسيرة من قبلها وفي واقع الحال، ضرورة أن تكون لجان ومجالس حماية الثورة تابعة ومسيّرة من مجلس حماية الثورة، هو فهم كانت نتائجه كارثية على المنظمات الجماهيرية في تونس منذ ما قبل14جانفي.
لقد أدت هذه السياسة إلى الشلل الذي عاني منه الاتحاد العام التونسي للشغل، كما الاتحاد العام لطلبة تونس، كما منظمات أخرى عديدة كان التدخل فيها يحدّده هذا الفهم الحزبوي الضيّق للعلاقة مع المنظمات الجماهيرية.
إن مثل هذا الطرح لا يستند في الحقيقة لغير دوغمائية وطفولية بائسة في فهم نشاط المنظمات الجماهيرية وعمل الثوريين داخلها.
إن المنظمة الجماهيرية ليست حزبا سياسيا، وطبيعتها هذه وفي واقعنا بالتحديد، تجعلها أدة موضوعيا، مستقلة عن الأحزاب أو توليفات الأحزاب مهما كانت هذه الأحزاب.
إن واقعنا وواقع ثورتنا والتحدّيات المطروحة على الجماهير لمواصلة الثورة وتجاوز عفوية النشاطات النضالية، ليدعو ليس فقط لتكوين منظمة للجان والمجالس الشعبية، إنه يدعو إلى تكوين لجان في كل قطاعــات النشاط، في المؤسسات وفي المعامل وفي الأحياء، منظمات للنساء وللشباب وللمعطلين بكل أصنافهم.
إن تعدّد التنظيمات الجماهيرية وانخراطها في التعبئة على برنامج الثورة، وعدم اكتفائها بالبيان السياسي، وتحولها إلى هيئات نضال ميداني، لهو الطريق الوحيد نحو تجاوز عفوية الفعل النضالي والتصدي الفعلي لقوى الثورة المضادة.
لقد أظهرت مسيرة الثورة بالملموس، أن خفوت النشاط الجماهير ناتج بالفعل عن غياب مثل هذه الأدوات النضالية الشعبية، كما أنه وفي غياب هذه المنظمات، تبقى الأحزاب والمنظمات السياسية معزولة عن الجماهير وعاجزة عن التقدم بالثورة، والتصدي لقوى الالتفاف عليها، هذا إن تمكنت هي نفسها (أي هذه الأحزاب والمنظمات) من ضمان استقلاليتها السياسية عن أرضية جبهة اليمين.
لقد كان لهذا الانحراف بالمؤتمر عن أهدافه التي أقيم من أجلها نتائج كارثية حيث أنّ عجزه عن الخروج بخطة تدخل نضالية لمواجهة قوى جبهة اليمين جبهة الالتفاف على الثورة كما اكتفاؤه بأن تُمثّل وتُفعّل اللجانُ والمجالسُ المحلية والجهوية داخل المجلس الوطني لحماية الثورة دون الإعلان عن تكوّن منظمة مستقلة تدعم وتعمل جنبا إلى جنب مع كل الهيئات الأخرى المعنية بمواصلة الثورة، كان خطأ كبيرا أثر سلبا على الدينامية النضالية لهذه اللجان والمجالس وعلى المسار النضالي لاستكمال مهمات ثورة الحرية والكرامة، حيث لم يكن لالتحاق ممثلي الجهات بمجلس حماية الثورة أي تأثير، بل على العكس فقد حكم هذا التوجه على هذه المجالس نفسها بالشلل والعجز التام .

4 ـ حكومة الباجي قايد السبسي ومحاولات استكمال الالتفاف على الثورة
تولّى الباجي قايد السبسي مهامه كوزير أول إثر استقالة محمد الغنوشي يوم 27 فيفري 2011 ، وقد راج اسمه كبديل لمحمد للغنوشي فترة قبل إعلان هذا الأخير عن استقالته.
كان الوضع وقتها متفجرا على كل المستويات، فاعتصام القصبة 2 متواصل،والمظاهرات المطالبة بحلّ التجمع الدستوري الديمقراطي، وحلّ جهاز البوليس السّياسي، ومحاكمة رموز نظام بن علي في أوج صعودها وكذلك المطالبة بتحرير الإعلام وضمان استقلالية القضاء و بانتخاب مجلس تأسيسي وبصياغة دستور جديد للبلاد وبسلطة انتقالية بدون رموز النظام السابق.
تعيين الباجي قايد السبسي كوزير أول خلفا للغنوشي كان مرفوضا جماهيريا فالجماهير كانت تطالب برحيل كل حكومة الغنوشي وبمواصلة الثورة حتى تحقيق كل المطالب التي تنادي بها وليس باستقالته هو فحسب.
من جانبها، كانت مراكز النفوذ من بقايا الدكتاتورية المدعومة من الإمبريالية مستمرة في خطة الالتفاف على الثورة، و كانت تعمل في الظل على تخريب الحركة الجماهيرية بكل الأساليب، وتدفع إلى جعل الجماهير تسلّم في الأخير بمقايضة أمنها بحريتها وتحررها من بقايا الدكتاتورية.
لم تنجح حكومة الغنوشي الثانية إلاّ في توسيع حالة الفوضى في المجتمع والرّعب والترهيب في نفوس المواطنين، وقد مهّد ذلك الوضع للحكومة الثالثة لتفرض سياسة الأمر الواقع وتدفع المواطنين للتّسليم بمسار الإلتفاف وسيكون على الباجي قايد السبسي هذا القادم من غياهب التاريخ المظلم للعهد البورقيبي، أن يوطّد الوضع القائم المفروض.
مهمّة الباجي قايد السبسي كانت استكمال مخطط الالتفاف على الثورة وإيقاف مسارها،وفرض الأرضية الانتقالية اللاشرعية.
يوم 7 مارس أعلن قايد السبسي عن تشكيلة حكومته المؤقتة [13] التي ضمت سبعة عشر وزيرا من الحكومة السابقة و خمسة وزراء جدد.
هكذا واصلت البرجوازية خطة ترميم نظامها بحكومة لا تختلف عن سابقتها في شيء، حكومة بأغلبية من وزراء الغنوشي التي رفضها الشعب وثار ضدها واعتبرها استمرارا لحكومات بن علي.
كانت مراكز النفوذ من بقايا الدكتــاتورية تدرك أنه لابــد لها من القيام ببعض التنازلات لتمرير مخطط الالتفاف، فأُعلن عن انتخاب المجلس الـتأسيسي في 24 جويلية 2011 وعن حلّ التجمع الدستوري و إيقاف العمل بالدستور وحلّ البوليس السياسي و مجلس النواب ومجلس المستشارين.
كانت الأوضاع وموازين القوى وقتها تقتضي من البرجوازية أن تتنازل وتستجيب لهذه المطالب التي لفت حولها غالبية الشعب والقوى السياسية و تعمل فيما بعد على إفراغها من محتواها عند تنفيذها.
لقد كانت تهدف من وراء القيام بتلك التنازلات إلى تغيير ميزان القوى لصالحها وليس مؤقتا فقط بل وعلى مدى أطول ما أمكن لأن الوضع في آخر أيام حكومة الغنوشي الثانية كان يميل إلى تغليب صوت الشعب والاستمرار في الثورة حتى تحقيق مطالبها.
في أول ظهور له على الشاشات لم يخف الباجي قايد السبسي وهو يخاطب الشعب أن يعلن وبشكل استفزازي عن المهمة الأساسية و الأولى التي على حكومته تحقيقها ألا وهي استعادة هيبة الدولة.
لم يتحدث لا عن الشهداء ولا عن محاسبة القتلة ولا عن محاكمة عصابة الفساد والاستبداد.
لم يتحدث عن تحقيق مطالب الشعب الثائر. كانت عينه مغمضة عن هكذا مطالب.
كانت اهتماماته ومن ورائه قوى الثورة المضادة وأسياده الإمبرياليين، مركزة على شيء آخر. كانت مركزة على هيبة الدولة.
هيبة الدولة ولا شيء غير هيبة الدولة !
لم يكن الباجي يعني في الحقيقة، وهو يتحدث عن استعادة هيبة الدولة، غير أن تستعيد الطبقة البرجوازية هيبتها التي أطاح الشعب التونسي برمزها الفاسد يوم 14 جانفي، لما أطاح بالدكتاتور بن علي.
أطاح الشعب برأس الأفعى ولكن رؤوسا عديدة للأفعى بقيت تتحرك وتنفث سمومها وتعمل بكل الوسائل لترميم الصدع الذي أصاب جهاز الدولة البرجوازية.
رحل بن علي ولكن بقي أعوانه ومؤسسات دكتاتوريته .
سقط بن علي ولكن لم يسقط نظامه.
كانت مهمة حكومة المبزع الباجي وبعد أن فشلت من قبل حكومتي الغنوشي هو إعادة ترميم مؤسسات هذا النظام وإعادة إكساب هذه المؤسسات الشرعية التي فقدتها .
كان هذا هو المطلوب من وجهة نظر الطبقة البرجوازية وداعميها.
لم تكن تعني هيبة الدولة بالنسبة لبقايا الدكتاتورية، و للباجي ممثلها غير محاصرة الثورة وإيقاف المسار الثوري، والتضييق على الحريات المفتكة بالدماء، وتفكيك كل مبادرة ترمي إلى فرض سلطة الشعب.
هيبة الدولة كانت تعني بالنسبة لحكومة المبزع ـ الباجي فرض اللاشرعية على الشعب وعلى الأحزاب والجمعيات والمنظمات والقبول بها كأرضية سياسية للمرحلة الانتقالية.
هيبة الدولة كانت تعني أيضا بالنسبة للبرجوازية وحكومتها اللاشرعية، الإعلان على حلّ التجمع الدستوري ولكن في نفس الوقت السماح لرموزه بتكوين أحزاب سياسية، وحل البوليس السياسي وإلغاء إدارة أمن الدولة، ولكن دون محاسبة كل من أجرم من أعوانها في حق الشعب والحديث عن الحريات، ولكن إطلاق يد البوليس لمنع الإحتجاجات وقمعها وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، والحديث على ضرورة عودة الأمن وفي نفس الوقت إطلاق العصابات المكونة من المليشيات التجمعية والبوليس للاندساس في المظاهرات والقيام بأعمال النهب والتخريب. هيبة الدولة كانت تعني كذلك الحديث عن محاسبة رموز النظام السابق ولكن دون المرور للتنفيذ.
هيبة الدولة كانت تعني وبالمختصر الدال، إعادة ترميم مؤسسات الدولة البرجوازية بالمحافظة أكثر ما يمكن على رموز النظام السابق، و تمهيد الأرضية لعودتهم للسلطة من الباب العريض.
بهكذا رؤية كانت البرجوازية تسعى إلى إعادة بناء أجهزة دولتها للتحكم في كامل المسار الانتقالي، وتشرّع لحكومتها الفاقدة لكل شرعية، التصرف بكل حرية في كل ما يهم الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، كما العلاقات مع الدوائر الإمبريالية والدكتاتوريات العربية بما يستجيب لمصالح هذه البرجوازية وحلفائها الإمبرياليين.
هيئة بن عاشور المسماة بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي هي التي ستكون أداة قوى الثورة المضادة في مخطط الإلتفاف والذي كان يستلزم، إلى جانب هذه الأداة، ضرورة استمرار وضع الانفلات الأمني لاستخدامه دوما كفزاعة في وجه كل التحركات الشعبية الرافضة لمسار الإلتفاف والملتزمة بمواصلة الثورة، والتصدي لبقايا الدكتاتورية، كما أيضا، رفع فزاعة أخرى لا تقلّ تأثيرا عن فزاعة الفراغ الأمني، وهي فزاعة انهيار الاقتصاد وهروب المستثمرين نتيجة تواصل الإحتجاجات والإضرابات، وبالتالي مقايضة الجماهير الشعبية، ليس فقط على أمنها، بل على لقمة عيشها أي على حياتها نفسها.
الطبقة البرجوازية وعبر حكومة المبزع ـ الباجي قايد السبسي اللاشرعية، كانت واعية جدا بأن إيقاف المسار الثوري عند يوم 14 جانفي، وتمرير مخططها لترميم سلطتها يتطلب شركاء سياسيين في الداخل والخارج، شركاء الداخل أفرزتهم التناقضات الطبقية التي أصبحت تتحكم في الصراع مباشرة غداة الإطاحة ببن علي.
لقد كان من الطبيعي أن تغيّر بعض الشرائح البرجوازية التي وقفت على الحياد أثناء الثورة، من مواقعها ومواقفها بعد 14 جانفي وتنحاز إلى قوى الثورة المضادة لأنه كان من مصلحتها إيقاف الثورة حتى لا تعصف بمصالحها من جملة ما ستعصف به.
نقول وقفت على الحياد ولا نقول شاركت لأننا لم نر لهذه الشرائح [14] من مساهمة فعلية ملموسة في النضال ضد نظام بن علي؛ فبقدر ما كانت هذه الشرائح البرجوازية تطمح إلى الإطاحة بالفئة البرجوازية المهيمنة شريكة الدكتاتور بن على وعائلته وعائلة ليلى الطرابلسي، والتي كانت أشبه ما تكون بالمافيا وتتمتع بنفوذ مطلق سياسي واقتصادي كانت أيضا مرتابة من الثورة ومن قواها الطبقية مترددة ومعادية لها في الجوهر.
أما شركاء الخارج، ونعني هنا تحديدا الأمريكان والفرنسيين، فإنه كان يعنيهم جدا العمل من أجل توقيف مسار الثورة عند الإطاحة ببن علي، ومحاصرة تأثير الثورة إقليميا حتى لا يمتد إلى بلدان عربية أخرى، وإسناد البرجوازية التونسية المتشابكة مصالحها بمصالحهم في عملية ترميم سلطتها السياسية بما يضمن تواصل علاقة التبعيّة والهيمنة، والحرص على ألاّ يكون الدّور الذي يقومون به مكشوفا، حتى يُجنّبوا السلطة اللاشرعية تبعات تدخلهم المباشر في الشأن التونسي ولكن هذا الدور فضحته زيارة "جفري فيلتمان" مهندس حكومة الغنوشي الثانية.
قوى الثورة المضادة ومن ورائها الإمبريالية كانت تعلم أن مسار الإلتفاف، يتطلب أن تحوز أرضيتها السياسية على أكثر ما يمكن من الدعم من الأحزاب السياسية والجمعيات والمنظمات ولكن قبل ذلك كان لابد من شريك يمكن الاعتماد عليه لنسج شبكة هذا الدعم والولاء.
ولم يكن هذا الشريك غير بيروقراطية الإتحاد العام التونسي للشغل. وهي الشريحة التي اندمجت بالدولة في عهد الدكتاتور بن علي وارتبطت مصالحها بمصالح رأس المال ومافيا المال والفساد وكانت بدورها تخشى من أن تستمرّ الثورة وتطيح بها بوصفها الشريك التاريخي لديكتاتورية بن علي. كان، عليها إذن وبحكم مصالحها، أن تلعب هذا الدور، وأن تعمل على قاعدة أرضية قوى الثورة المضادة ففي ذلك أكبر ضمانة لبقائها هي نفسها.
كان لابد إذن لجبهة اليمين ولكل قواها، من أن تتبنى شعار المجلس التأسيسي الذي أصبح شعارا جماهيريا، وتختزل فيه كل مطالب الثورة، وتنجزه حسب أرضيتها التي ستعمل على أن تكفل عودة بقايا الدكتاتورية إلى السّلطة لمواصلة نفس التمشّيات السياسية السّابقة وعلى كل المستويات.
إنجاح مخطّط الالتفاف، كان يتطلب حصر الثورة في بعض إصلاحات سياسية ستتكفّل بإنجازها الطبقة البرجوازية ونفي أن للثورة طابعا اجتماعيا، وأن مهماتها لن تتحق إلا بالإطاحة بالنظام ككل.
لذلك ستنطلق الحكومة اللاشرعية في هذه الفترة في مهاجمة الإضرابـــات والاحتجـاجـات، واعتبار كل احتجاج أو نضال مطلبي هو عملية تخريبية للمسار الانتقالي الذي يتطلب حسب رأيها وضعا من الاستقرار، أي من السلم الاجتماعي لإنجاحه.
مساء الأربعاء 30 مارس سيظهر الباجي قايد السبسي ليعلن عن هذا المخطط في الحوار التلفزي المباشر الذي أجري معه، والذي قال فيه أن الأولوية المطلقة في تونس وقتها هي استتباب الأمن والذي بانعدامه يتأثر الاستثمار والاقتصاد والسياحة، وأن الجدية مطلوبة في المرحلة الراهنة إذ لا يمكن أن تتواصل الاحتجاجات والاعتصامات والاضرابات إلى ما لا نهاية له، حتى وإن كان من وراءَها على حق، وأنه سيتم اتخاذ موقف حازم في هذا الشأن فالتسيب مرفوض والحكومة المؤقتة ستنظر في هذه المسائل بكل حنكة وتبصر. وأضاف متحدثا عن تركيبة الهيئة المسماة بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة بقوله أن توسيع تركيبتها وارد إذا كان سيساعد على السير في الطريق الصحيح، لكنه يصبح مرفوضا إذا كانت غاية المطالبين بالتوسيع هي تعطيل هذا المشروع، أما عن إمكانية تغيير موعد إجراء انتخاب المجلس التأسيسي فقد أكد أن لا تراجع عن إجراء الانتخابات في تاريخها الذي وقع تحديده والاتفاق عليه مع مختلف الحساسيات السياسية، مضيفا أن المصادقة على المجلة الانتخابية لن يتطلب وقتا طويلا باعتبار أنه تمّ بعد الإعداد لمشروع هذه المجلة.
تطرق الباجي في حديثه أيضا إلى مطلب الجماهير بحل التجمّع الدستوري معتبرا أن القضاء قال كلمته في هذه القضية وأن المسألة قد حسمت، وأشار إلى أن لا وجود لخلاف بين الجهازين الأمني والعسكري، وأن اللجوء إلى عناصر الجيش الوطني يتم كلما دعت الحاجة إلى ذلك ،وأشار إلى ضرورة أن تعود الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية إلى طبيعتها، مؤكدا وجود مساع من بعض الدول لمساعدة تونس حتى تتجاوز هذه المرحلة الانتقالية.
تصريحات الباجي قايد السبسي هذه كانت إعلانا من قوى الثورة المضادة ومن بقايا الدكتاتورية للأحزاب السياسية والجمعيات والمنظمات وللطبقة العاملة وكل الفئات الشعبية التي قامت بالثورة وربطت مصالحها بها، بأنه لن يسمح لها بالخروج عن هذه الأرضية السياسية والأمنية والاقتصادية والتي ستعمل حكومته على تكريسها كنوع من الميثاق الملزم للجميع لتمرير الالتفاف على مطالب الثورة وتوقيفها.
الأرضية اليمينية هذه ستمكّن قوى الثورة المضادة وحكومتها اللاشرعية، حكومة المبزع الباجي من أن تظمن بها لنفسها نوعا من الشرعية التي تفتقدها، وأن تلفّ حولها جبهة واسعة من القوى والأحزاب السياسية والمنظمات والجمعيات والشخصيات من اليمين كما من اليسار، اللاهثة وراء التموقع في المشهد السياسي والمكتفية بالمنجز وهو الإطاحة بالديكتاتور بن علي، كما أيضا ستمكنها من أن تواصل نفس السياسات السابقة سواء حول المطالب الإقتصادية والاجتماعية المباشرة التي ترفعها الجماهير أو حول العلاقة بالدوائر الإمبريالية وتحديدا حول مسألة المديونية ففي حين كان الشعب يطالب بتوقيف سياسة التداين ورفض خلاص الديون الموروثة عن عهد الدكتاتور، تعمد الحكومة اللاشرعية إلى مزيد إغراق البلاد في صفقات دين جديدة وتصر على مواصلة دفع الديون المتخلدة من عهد بن علي.
الوفاق الطبقي الذي تمكنت قوى الثورة المضادة من النجاح في تمريره، أعاد إلى ذاكرة الشعب و لقوى الثورة الحقيقية، تمشيات قديمة كان الدكتاتور بن علي ومن قبله بورقيبة قد قاما بها.
كان المشهد السياسي في تلك الفترة يعيد، بشكل مهزلي، بعض الفصول من مسرحية قديمة عناوينها الكبيرة ـ الميثاق الوطني ـ السّلم الاجتماعي، الإلتفاف.
هيئة بن عاشور الالتفافيّة جسّدت على كل المستويات، هذا الفصل المعاد الممجوج من المسرحيّة المهزلة.
الليبراليون وحزب النهضة البيروقراطية النقابية وبعض الأحزاب الانتهازية التي تنسب نفسها لليسار بشقيه الماركسي الماوي الستاليني والقومي وقوى إصلاحية برجوازية وبرجوازية صغيرة وبعض شخصيات سمّيت بالوطنية ؛ كل هؤلاء وبقيادة الحكومة اللاشرعية مثلوا الواجهة السياسية للوفاق الطبقي الذي عبره ستعمل بقايا الدكتاتورية وبكل الطرق، لتعود إلى السلطة.
مقابل ذلك كانت جبهة الشعب على مستوى تمثيلها السياسي تشكو ضعفا كبيرا. لقد كانت قواها مشتتة متذررة وهو ما سهّل إلى حدّ كبير، أن يتواصل مخطط الإلتفاف. فجبهة 14 جانفي قد شلّت بعد أن التحقت بعض مكوناتها بهيئة الالتفاف وعجز ما بقي منها على السير بالمبادرة في الاتجاه الذي رسمه بيانها التأسيسي؛ ومجلس حماية الثورة تقوقع بما بقي من مكوناته ؛ وغالبية مجالس حماية الثورة ولجانها بقيت تدور في حلقة مفرغة وإنعزلت عن الجماهير؛ وأصبحت إطار تجاذبات بين الاتجاهات السياسية؛ ولم تتمكّن من إنجاز أية مهمة من المهمات التي طرحتها؛ ولم تقدر على تفعيل برنامج كنس بقايا الدكتاتورية محليا وجهويا لإحداث حالة فراغ من حول الحكومة اللاشرعية؛ ولجان الإعتصامات وبعض اللجان الشعبية استمرت في عفويتها وخفت نشاطها وحوصرت بالقمع؛ و الحركة العمالية مكبلة بتأثير البيروقراطية النقابية؛ في حين عجزت المعارضة النقابية عن نقل الصراع ضد قوى الثورة المضادة داخل الإتحاد العام التونسي للشغل واليسار الذي لم يلتحق بهيئة بن عاشور ضعيف ومعزول عن صفوف الشعب وغير قادر على خلق استقطاب يساري جماهيري؛ ومكبل في شق منه بأوهام نظرية الثورة على مراحل وحول أن المطروح اليوم هو تحقيق برنامج الحد الأدنى؛ برنامج الحريات في إطار جمهورية ديمقراطية.
الوفاق الذي نجحت الحكومة في فرضه؛ أعاق المسار الثوري وأتاح لها مجالا واسعا للتصرف وتوجيه الأحداث الوجهة التي تريدها؛ فقد تمكّنت وفي ظرف وجيز؛ من إعادة ترميم ذراعها القمعية جهاز البوليس؛ كما لعبت على تغذية الصراعات الجهوية والنعرات القبلية لتفتيت وحدة الجماهير وإغراقها في صراعات جانبية؛ ودفعها بعيدا عن مطالبها الحقيقية؛ وعن مواصلة الحراك من أجل تحقيق هذه المطالب.
هذا التوجه تزامن مع عودة التجمعيين إلى الحياة السياسية عبر تشكيل أكثر من عشرين حزبا، كلها تمكنت من الحصول على حق النشاط السياسي من حكومة المبزع ـ الباجي قايد السبسي استعدادا للعودة إلى السلطة من جديد عبر انتخابات المجلس التأسيسي.
يوم 10 ماي 2011 أصدر رئيس الجمهورية المؤقت و اللاشرعي باقتراح من الهيئة المسماة بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي المرسوم المنظم لانتخابات المجلس التأسي بعد جدل ونقاشات طويلة بين هيئة بن عاشور، والحكومة انتهت إلى صيغة وفاقية حو ل الفصل 15 المتعلق بحق الترشح لعضوية المجلس التأسيسي وتحديدا حول الجزء المتعلق بمن لا يمكن له الترشح لهذا المجلس من أعضاء حزب التجمع الدستوري المنحل، ومنع من ناشدوا الدكتاتور بالترشح لانتخابات 2014 قبل الإطاحة به وحول الفصل 8 المتعلّق بتركيبة الهيئة المستقلة للانتخابات.
بعد إصدار المرسوم المنظم للانتخابات، انحصر الجدل بين الأحزاب والحكومة وبين الفرقاء السياسيين في هيئة بن عاشور الالتفافية، تقريبا حول مسائل ترتيبية تهمّ مسألة تمويل الحملة الانتخابية وتركيبة الهيئة المستقلة للانتخابات، و حول تأجيل موعد الانتخابات إلى تاريخ متقدم، وهو ما وقع حيث أعلن عن تأجيلها إلى يوم 23 أكتوبر 2011...إلخ.
بموازاة هذا، انطلقت جل الأحزاب السياسية التي أصبح عددها يناهز السبعين حزبا والتي ستصبح بعد شهرين مائة حزب، في عملية بنائها الذاتي، وفي إقامة الندوات والمنابر والاجتماعات للتعريف بنفسها وببرامجها، و حتى تلك الأحزاب التي تقول عن نفسها أنها يسارية وأن برامجها برامج جذرية، فقد أسقطت بدورها عمليا شعار مواصلة الثورة وإسقاط النظام، واكتفت باستغلال هامش الحريات للاستعداد لانتخابات المجلس التأسيسي على قاعدة الأرضية الالتفافية.
هكذا نجحت الحكومة اللاشرعية ومن ورائها الطبقة البرجوازية وحلفائها الإمبرياليين، من تحقيق إجماع سياسي على القبول بها كسلطة انتقالية، والعمل على قاعدة أرضيتها السياسية، وهو ما سيفتح لها المجال واسعا لتنفيذ إستراتيجيتها في إعادة ترتيب النظام في مرحلة ما بعد بن علي، عبر:
ـ قمع كل التحركات والاحتجاجات والاعتصامات بالقوة، والعودة إلى عسكرة المجتمع بتعلّة فرض النظام، وهي معالجة بدأ تنفيذها مع حلول الحبيب الصيد أحد رموز نظام بن علي على رأس وزارة الداخلية في 27 مارس 2011 إثر إقالة فرحات الراجحي.
ـ إعادة تشكيل السلطة على قاعدة مشاركة مختلف الأحزاب الممثلة لقوى الإلتفاف والظهور أكثر بمظهر الممثل لمختلف القوى الطبقية في الحكم.
ـ مزيد الارتهان باقتصاد السوق و بنظام العولمة ومواصلة نفس السياسات التي أنتجت البطالة والتفقير والتهميش والتفاوت في التنمية بين الجهات، ورهن البلاد و مستقبل أجيالها بالتمادي في سياسة التداين وفي التسهيل لرأس المال الأجنبي للاستثمار.
بدت الأوضاع في شهر جويلية تسير في اتجاه استكمال تثبيت المسار الالتفافي، فالهيئة المسمّاة بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة أنهت أعمالها و أصدرت مراسيمها، و الهيئة المستقلة للانتخابات بدأت في مباشرة أعمالها، وتركيز لجانها الجهوية، والأحزاب انطلقت في مسار التّحشيد للانتخابات.
كانت هذه هي الواجهة الظاهرة للأوضاع لكنها كانت تخفي وضعا آخر لا يمكن طمسه أو إخفاؤه وهو وضع الأزمة العامة المستمرة.
الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تعمقت بعد الإطاحة بالدكتاتور بن علي، وثقل أعبائها على الطبقة العاملة وعموم الفئات الشعبية الفقيرة التي كانت ترى في الثورة حلا لتغيير أوضاعها، لم يكن ليخفيها المشهد السياسي المركب الذي لم يكن يعني الجماهير بالدرجة الأولى، لأنها لم تكن تثق في أنه سيكون الحلّ السحري لمعالجة كل أوضاعها كما تروج لذلك الحكومة وكذلك الأحزاب التي تنشط على قاعدة الأرضية اليمينية.
في نفس الوقت الذي كانت تستكمل فيه قوى الثورة المضادة مخطط الإلتفاف على الثورة وبعد أكثر من ستة أشهر على الإطاحة بالدكتاتور، كانت الجماهير الشعبية تعيش حالة من الذهول وهي ترى الأوضاع تسير في الاتجاه المعادي لمصالحها. لقد أطاحت الجماهير الشعبية بالدكتاتور، ولكنها ها هي ترى أن السلطة مازالت بيد بقايا الدكتاتورية و لا شيء تحقق من مطالبها ومن مهمات الثورة. كل هذا كان يجعلها في وضع إحباط ولكنها وفي المقابل كانت عاجزة عن الاستمرار بشكل مكثف في النشاط والحراك لمواصلة الثورة.
لقد ظل الشرط الذاتي أحد معوقات الاستمرار في الثورة.
لم تتمكن الحركة الشعبية ومنذ انطلقت الإحتجاجات في 17 ديسمبر 2010 و أطاحت بالدكتاتور في 14 جانفي حتى بداية شهر جويلية 2011، من أن تفرز أداتها التنظيمية والسياسية المستقلة التي يمكن أن تقود الجماهير نحو تحقيق أهدافها الثورية وتمكنها من أن تتصدى لمناورات خطة الإلتفاف واستراتيجيا إعادة ترميم النظام، وتطرح نفسها سلطة بديلة. لكن وبرغم غياب هذا الشرط، فإن المسار الثوري متواصل لأن الثورة لم تكن مجرد هبّة عنيفة أو انفجارا يمكن إخماده بسرعة، بل بدت سيرورة ثورية تتصاعد وتخفت بحسب موازين القوى في كل طور، ولكنها مستمرة ولن تتوقف قبل أن تعيد ترتيب التوازنات في المجتمع.
كانت الأوضاع في ظل استمرار نفس العوامل التي سببت اندلاع الثورة، و برغم تقدم مخطط الالتفاف أشواطا تؤشر لانعطافة في وعي الجماهير، كانت عناصره الموضوعية تتراكم بسبب وطأة الأزمة الإقتصادية على الأغلبية من أبنا ء الشعب ويغذيه فشل الحكومة اللاشرعية في معالجة عديد الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
بدأت الأوضاع في شهر جوان تتجه نحو أفق مسدود، وبدا الوضع شبيها بوضع ما قبل 17 ديسمبر، ولئن كانت الغالبية العظمى من الجماهير الشعبية قد بدت سلبيّة بفعل سياسات الضبط والتخويف التي تفننت الحكومة اللاشرعية في تكريسها على إمتداد أشهر والتي بلغت حدّ التهديد بعدم القدرة على صرف الأجور، فإن أعدادا كثيرة وخصوصا من الشباب الذي نظموا وساهموا في اعتصام القصبة 1و 2 من داخل البلاد أو من تونس العاصمة وعن طريق بعض اللجان الشعبية التي كانوا متواجدين فيها، كما بعض المناضلين المعروفين في الساحة النقابية والسياسية، قد نادوا بالعودة إلى الاعتصام من جديد تكرسيا للشعار الذي رفعوه في إعتصام القصبة الثاني "إن عدتم عدنا".
يوم 15 جوان 2011 إنطلق هؤلاء الشباب في إعتصام أطلقوا عليه إسم "إعتصام المصير" في ساحة حقوق الإنسان بشارع محمد الخامس بتونس العاصمة، وقد جاء في بيانهم الذي وضعوا له كشعار "لن نسمح بإجهاض ثورة الشعب" « منذ 14 جانفي 2011 تاريخ الإطاحة بالديكتاتور بن علي وبدعم كامل من قوى الاستعمار والامبريالية والصهيونية تواصل الحكومات المنصبة و اللاشرعية وآخرها حكومة المبزع ـ السبسي سياساتها الهادفة إلى إجهاض ثورة شعبنا وطموحاته المشروعة معتمدة في ذلك على بقايا النظام الديكتاتوري وبقية القوى المعادية للثورة [قوات قمع وبوليس سياسي ـ فلول التحمع ـ الإعلام الموجه ـ الأطراف والقوى والهيئات السائرة في ركاب هذه الحكومة...] فالضالعون في الفساد السياسي والمالي والإداري وقتلة الشهداء لم تتم محاكمتهم، والقضاء لازال فاقدا الاستقلالية وحزب التجمع "المنحل" عاد وتشكل في أحزاب جديدة، والبوليس السياسي كثف نشاطه، وضرب حرية الإعلام والتعبير والحق في التظاهر يشتد يوما بعد آخر. ويمثل إغراق البلاد في الديون ورهن مستقبلها لدى الدوائر المالية النهابة من اخطر ما اتخذته هذه الحكومة من قرارات تستهدف حرية وكرامة الوطن والشعب الذي ثار من اجل الكرامة والحرية. أننا المشاركون في اعتصام المصير "بساحة حقوق الإنسان" بالعاصمة ،وفاء منا لدماء الشهداء،ووعيا بحجم الأخطار والمناورات التي باتت تهدد ثورتنا ، وانخراطا منا في مواصلة المسار الثوري، إذ نعود للاعتصام، فإننا نؤكد عزمنا على مواصلته حتى التحقيق الفعلي للأهداف التالية:
ـ محاسبة الضالعين في الفساد السياسي والمالي وعلى رأسهم المتحملون للمسؤوليات في الحكومة.
ـ الجلب الفوري للديكتاتور ومحاكمته العلنية الجدية مع عصابته .
ـ محاكمة المسؤولين والمتورطين في قتل الشهداء وفي نهب الممتلكات .
ـ ضمان استقلالية القضاء والحق في التعبير وحرية الإعلام بما تقتضيه الشرعية الثورية .
ـ توفير الضمانات الضرورية الكفيلة بانتخاب مجلس تأسيسي يعبر فعلا عن إرادة الشعب ولا يكون مجلسا للمحاصصة السياسية ولعودة عناصر التجمع المنحل
ـ حل كل الأحزاب التي وقع استنساخها عن التحمع .
ـ حلّ هيئة عياض بن عاشور للالتفاف على الثورة ولجنتي عبد الفتاح عمر بودربالة لطمس الحقائق .
ـ إلغاء المديونية واسترجاع أموال الشعب التي وقع نهبها .
ـ ضمان حق التشغيل للفئات المحرومة وضمان التنمية العادلة بين الجهات.
ـ الالتزام بمقاومة وتجريم كل أشكال التقامر والعمالة مع القوى الامبريالية والتطبيع مع الكيان الصهيوني .
ختاما نحمل السلطة مسؤولية كل اعتداء على هذا التحرك السلمي وندعو كل القوى الوطنية الفاعلة إلى الانخراط فيه ودعمه والعمل على إنجاحه!»
في نفس الفترة التي انطلق فيها اعتصام ساحة حقوق الإنسان في العاصمة أعلن أيضا عن تنظيم اعتصامين آخرين تحت نفس الاسم في مدينتي صفاقس و قفصة.
كان اعتصام المصير يهدف إلى تحريك الوضع ولفت أنظار الجماهير إلى أن هناك مسارا آخر لصنع مستقبل تونس غير مسار الإلتفاف. هو مسار مواصلة الثورة. هو العودة إلى الاحتجاج والتظاهر وإفتكاك الحقوق وعدم الاكتفاء برفع المطالب لحكومة أثبتت أنها لا يمكن أن تقدم للشعب غير الوعود الكاذبة والقمع.
اعتصام المصير كان يهدف إلى إعادة تعبئة الجماهير على مهمة إسقاط النظام وكنس بقاياه والدفع في اتجاه إخراج الجماهير من وضع البهتة والتسليم بالأمر الواقع، ومواجهة إستراتيجيا الضبط والإلهاء التي تهيمن بها قوى الثورة على الوضع وتستثمرها في تمرير أرضية الإلتفاف.
بيان المعتصمين الأول كان واضحا في معارضة هذا التوجه، كما كان واضحا في موقفه من الحكومة التي يعتبرها حكومة منصبة ولا شرعية، سياساتها لا تهدف إلا لإجهاض ثورة الشعب وطموحاته المشروعة بالاعتماد على بقايا النظام الديكتاتوري وبقية القوى المعادية للثورة: قوات القمع والبوليس السياسي و فلول التحمع والإعلام الموجه والأطراف والقوى والهيئات المتبنية لأرضية الالتفاف.
لم يجد الاعتصام الدعم المطلوب من أغلب الأحزاب والجمعيات والقوى السياسية والنقابية كما كان الحال في اعتصامي القصبة الأول والثاني إلا من بعض القوى اليسارية التي لم تنخرط في أرضية اليمين الالتفافي (رابطة اليسار العمالي ـ قوى تونس الحرة ـ حركة شباب الكرامة ـ الوطنيون الديمقراطيون "الوطد").
لقد تخلت أغلب الأحزاب والجمعيات عن شعار إسقاط النظام في هذا الطور من الثورة ورضيت بسلطة بقايا الدكتاتورية وبالنشاط على قاعدة أرضية الالتفاف والثورة المضادة.
تزامن اعتصام المصير مع إعلان حزب النهضة تعليق مهامه من الهيئة المسماة الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والناتج عن رفض هذا الحزب لبعض القضايا المطروحة في وثيقة العهد الجمهوري وقانون الأحزاب، كان هذا هو الهدف المعلن لحزب النهضة، إلا أن الهدف غير المعلن هو أن هذا الحزب كان يسعى إلى خلق استقطاب سياسي في المجتمع يبرزه كحزب جذري ومعارض وفي نفس الوقت كان يخطط لاستعراض قواه والضغط على الحكومة للحصول على أكبر ما يمكن من التنازلات السياسية قبل موعد الانتخابات في 23 أكتوبر، وتحديدا حول مسألة تمويل الأحزاب والتواجد في اللجان الجهوية للانتخابات .
لقد سعى حزب النهضة إلى توظيف اعتصام المصير، فقد تواجد فيه أنصاره وكوادره وضغطوا ما في وسعهم لتوجيهه الوجهة التي يريدون، وتحويله إلى مركز ضغط على الحكومة التي كانوا في نفس الوقت، يجرون معها مفاوضات غير معلنة من أجل الوصول إلى اتفاق يحقق لهم أكثر ما يمكن من المطالب التي رفعوها.
لم يتمكن حزب النهضة من توظيف اعتصام المصير ولقيت محاولته هذه معارضة شديدة من قبل المعتصمين فانسحب منتسبوه وأنصاره من الاعتصام.
خروج أنصار حزب النهضة من اعتصام المصير، تزامن مع دعوة عدد من الشباب الناشط على صفحات الانترنيت وعلى الموقع الاجتماعي فايس بوك إلى تنظيم اعتصام القصبة 3 بساحة الحكومة وللتذكير فإن محاولة أولى للاعتصام للمرة الثالثة قد أفشلها البوليس وقمعها في غرة أفريل 2011 ، وقد كان نادى بها جماعة من الشباب سموا أنفسهم ـ شباب الثورة ومشرفو اتحاد الصفحات الثورية ـ
يوم 15 جويلية تجمع مئات من الشباب في محيط ساحة القصبة ولكن البوليس منعهم من دخولها وواجههم بعنف مستعملا كل وسائل القمع من هراوات وقنابل الغاز الخانق، كما أوقف العديد منهم وأحالهم على المحاكم، لم تكتف قوات البوليس بالاعتداء على الشباب المحتج، بل لقد شمل قمعها رجال الصحافة، حيث عنف البعض منهم ومنعوا من ممارسة مهماتهم وهو، ما أثار موجة من الاحتجاج في صفوف الإعلاميين الذين نظموا وقفة احتجاجية ودفْع وسائل الإعلام المكتوبة و المرئيّة إلى توجيه النّقد اللاذع إلى ممارسات الحكومة .
لم تتوقف الاحتجاجات في اليومين التاليين ليوم 15 جويلية، فقد نظمت مظاهرات عديدة كانت كلها تقمع وتفرق بالقوة.
لم تقتصر الإحتجاجات على العاصمة تونس، لقد شهدت عديد المدن الأخرى مظاهرات مماثلة، تحولت كلها إلى مواجهات عنيفة مع البوليس أبرزها كان في مدينة منزل بورقيبة أين وقع حرق مقر الشرطة وسيدي بوزيد أين أستشهد فتى برصاص الجيش.
احتجاجات أيام 15 و 16 و17 جويلية 2011 ، ولئن لم يصدرعنها أي بيان نظرا لغياب هيئة قيادية لهذه التحركات، إلا أنها وحسب الشعارات التي ردّدت في المظاهرات، كانت تطالب بحل هيئة بن عاشور وباستقالة وزير الداخلية وبتحرير الإعلام وجهاز القضاء كما رفع أيضا شعار "الشعب يريد إسقاط النظام".
القمع الـذي واجهت به الحكومـة الاحتجاجات التي أعقبت الدعوة لاعتصام القصبة 3 أظهر مدى تصميم قوى الثورة المضادة على فرض الحل الالتفافي بكل الطرق وعلى رأسها طبعا الحل القمعي لقد عبر عن ذلك الباجي قايد السبسي في خطابه الذي توجه به إلى التونسيين يوم 18 جويلية حيث قال أن هذه الاضطرابات تهدف إلى منع الانتخابات وأن الانتخابات ستُجرى في موعدها المحدّد في 23 أكتوبر، مضيفا أن بعض الاعتصامات تقف وراءها أطراف اكتشفت أنها غير مهيأة للانتخابات القادمة، وباتت خائفة من أن تكشف هذه المحطة السياسية حجمها الحقيقي، فلجأت إلى تعطيل العملية السياسية بكل الوسائل كما أوضح أن أحداث العنف الأخيرة دلّت بما لا يدع أي مجال إلى الشك ،على أن ما يجري ليس مجرد احتجاجات، بل الهدف منه إدخال البلبلة والفوضى حتى لا تتمّ الانتخابات في موعدها. ودعا السبسي الأحزاب إلى ضرورة اعتماد خطاب واضح، وإلى صرف جُل اهتمامها إلى الانتخابات فقط، واختتم خطابه قائلا "نريد أن نرى جميع الأطراف السياسية وهي تشجب هذه الأحداث".
كان الباجي قايد السبسي واضحا في خطابه، فقوى الثورة المضادة وهي في نهاية مرحلة استكمال خطة الالتفاف على الثورة ، لا يمكن أن ترى في أي مبادرة للتعبئة و استنهاض الجماهير من أجل الاستمرار في الثورة حتى إسقاط بقايا الدكتاتورية وأجهزتها، إلا مجرد أعمال لإدخال البلبلة والفوضى.
خطاب الباجي في الحقيقة لا يختلف كثيرا عن خطاب جل الأحزاب من اليمين واليسار والتي حصرت فعلها النضالي كله وعملها ومطالب الجماهير ومهمات الثورة في عملية انتخاب المجلس التأسيسي.
وفعلا، وكما طلب الباجي من جميع الأطراف السياسية شجب هذه الأحداث، سارعت أغلب القوى السياسية والأحزاب إلى التنديد بكل مسار للنضال خارج مسار الإلتفاف.
لقد حسمت كل هذه القوى أمرها ولم يعد يعنيها مواصلة الثورة بقدر ما أصبح يعنيها ما ستجنيه هي كأحزاب من الوفاق.
لم تعد جل الأحزاب، بما فيها أحزاب اليسار الانتهازي التي انخرطت في مسار الالتفاف وأدارت ظهرها للثورة وحصرت مهماتها في مجرد انتخابات نيابية على أرضية فصّلتها قوى الثورة المضادة والحكومة اللاشرعية معنية بالطابع الاجتماعي للثورة لا بمطالب الجماهير.
لم يعد يعنيها أن ثورة الحرية والكرامة قامت من أجل الحق في السلطة والثروة و الديمقراطية وأن الجماهير التي أطاحت بالدكتاتور وبحكومتي الغنوشي، كانت تطالب بإسقاط النظام وحلّ أجهزته وكنس الدكتاتورية، لا بالوفاق مع بقاياه.
تناست أحزاب اليسار الانتهازي، أن ثورة الحرية والكرامة قامت لا لتُتَوّج بانتخابات لمجلس لن يفرز حسب الدينامية التي سينجز على أساسها، إلا برلمانا برجوازيا سيعيد توزيع الأدوار بين بعض القوى لقمع الشعب واستعباده في حريته وفي قوته، وأن الديمقراطية التي قامت ثورة الحرية والكرامة من أجل تحقيقها ليست الديمقراطية التي سترسيها انتخابات 23 أكتوبر، بل إنها ديمقراطية من طراز آخر تلبي حاجات الطبقة العاملة والفئات الشعبية العريضة التي لا تملك لممارسة السلطة، وتحقيق مطالبها في حل أزمة البطالة حلا جذريا، وفي تعليم مجاني شعبي ديمقراطي وعلماني، وفي السكن اللائق والصحة، وفي استرداد أموال الشعب المنهوبة والمؤسسات التي بيعت وفوت فيها للخواص محليين وأجانب بأرخص الأثمان، وفي محاسبة كل من أجرم في حق الشعب من أجهزة دكتاتورية بن علي.
لقد تناست هذه الأحزاب أن الديمقراطية التي يريدها الشعب هي ديمقراطية قاعدية مباشرة يمارسها عبر ممثليه، وعبر لجانه الشعبية المنتخبة قاعديا وديمقراطيا وبكل شفافية، وأن مهام الثورة لا يمكن حصرها في انتخابات ودستور برجوازي وإن هذا التمشّي يضلّل الشعب بتجاهله للجانب الاجتماعي للثورة وبحقّ الشعب في السّلطة .
لقد تناسوا جميعا أن الديمقراطية التي قامت من أجلها الثورة لا تفصل بين السياسي والإقتصاي فديمقراطية الأغلبية لابد أن تكون في تعارض مع شكل الدولة البرجوازي ونمط الاقتصاد الرأسمالي.
ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ
هوامش الفصل الخامس
[1] الفصل 56 من دستور 59 ـ نقّح بالقانون الدستوري عدد 51 لسنة 2002 المؤرخ في 1 جوان)2002 ) لرئيس الجمهورية إذا تعذّر عليه القيام بمهامه بصفة وقتية أن يفوض بأمر سلطاته إلى الوزير الأول ما عدا حق حل مجلس النواب.وأثناء مدة هذا التعذّر الوقتي الحاصل لرئيس الجمهورية تبقى الحكومة قائمة إلى أن يزول هذا التعذّر ولو تعرّضت الحكومة إلى لائحة لوم. ويعلم رئيس الجمهورية رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين بتفويضه المؤقت لسلطاته.
[2] الفصل 57 من دستور 59 ـ نقّح بالقانون الدستوري عدد 88 لسنة 1988 المؤرخ في 25 جويلية 1988 وبالقانون الدستوريي عدد 51 لسنة 2002 المؤرخ في 1 جوان 2002.عند شغور منصب رئيس الجمهوريّة لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تام، يجتمع المجلس الدستوري فورا، ويقرّ الشغور النّهائي بالأغلبيّة المطلقة لأعضائه، ويبلغ تصريحا في ذلك إلى رئيس مجلس المستشارين ورئيس مجلس النواب الذي يتولى فورا مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه ستون يوما. وإذا تزامن الشغور النهائي مع حلّ مجلس النواب، يتولّى رئيس مجلس المستشارين مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقّتة لنفس الأجل.
ويؤدّي القائم بمهام رئيس الجمهوريّة بصفة مؤقّتة اليمين الدستورية أمام مجلس النواب ومجلس المستشارين الملتئمين معا، وعند الاقتضاء أمام مكتبي المجلسين. وإذا تزامن الشغور النهائي مع حل مجلس النواب، يؤدي اليمين الدستورية أمام مجلس المستشارين وعند الاقتضاء أمام مكتبه.
ولا يجوز للقائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة الترشح لرئاسة الجمهورية ولو في صورة تقديم استقالته.
ويمارس القائم بمهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة المهام الرئاسية على أنه لا يحق له أن يلجآ إلى الاستفتاء أو أن ينهي مهام الحكومة أو أن يحل مجلس النواب أو أن يتخذ التدابير الاستثنائية المنصوص عليها بالفصل 46. ولا يجوز خلال المدة الرئاسية الوقتية تنقيح الدستور أو تقديم لائحة لوم ضد الحكومة.وخلال المدة الرئاسية الوقتية يتمّ انتخاب رئيس جمهورية جديد لمدة خمس سنوات.ولرئيس الجمهورية الجديد أن يحلّ مجلس النواب ويدعو لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها وفقا للفقرة الثانية من الفصل 63
[3] الفصل 50 من دستور 59 ـ يعين رئيس الجمهورية الوزير الأول كما يعين بقية أعضاء الحكومة باقتراح من الوزير الأول. رئيس الجمهورية يرأس مجلس الوزراء.
[4] تركيبة حكومة الغنوشي الأولى:
الوزراء: محمد الغنوشي الوزير الأول ـ كمال مرجان وزير الشوؤون الخارجية ـ الأزهر القروي الشابي وزير العدل ـ رضا قريرة وزير الدفاع الوطني ـ أحمد فريعة وزير الداخلية ـ العربي الميزوري وزير الشوؤون الدينية ـ أحمد نجيب الشابي وزير التنمية الجهوية والمحلية ـ أحمد ابراهيم وزير التعليم العالي والبحث العلمي ـ مصطفى بن جعفر وزير الصحة العمومية ـ محمد جغام وزير التجارة والسياحة ـ الطيب البكوش وزير التربية ـ منصر الرويسي وزير الشوءون الاجتماعية ـ الحبيب مبارك وزير الفلاحة والبيئة ـ محمد النوري الجويني وزير التخطيط والتعاون الدولي ـ محمد عفيف شلبي وزير الصناعة والتكنولوجيا ـ زهير المظفر وزير لدى الوزير الأول مكلف بالتنمية الادارية ـ رضا شلغوم وزير المالية ـ مفيدة التلاتلي وزيرة الثقافة ـ ليليا العبيدي وزيرة شوءون المرأة ـ صلاح الدين مالوش وزير النقل والتجهيز ـ حسين الديماسي وزير التكوين المهني والتشغيل ـ محمد علولو وزير الشباب والرياضة ـ عبد الجليل البدوي وزير لدى الوزير الأول ـ عبد الحكيم بوراي الكاتب العام للحكومة.
كتاب الدولة: أحمد ونيس كاتب دولة للشوؤون الخارجية ـ رضوان نويصر كاتب دولة لدى وزير الشوؤون الخارجية ـ نجيب الكرافي كاتب دولة لدى وزير التنمية الجهوية والمحلية ـ فوزية الشرفي كاتبة دولة لدى وزير التعليم العالي ـ رفعت الشعبوني كاتب دولة لدى وزير التعليم العالي والبحث العلمي مكلفا بالبحث العلمي ـ لامين مولاهي كاتب دولة لدى وزير الصحة العمومية ـ عبد الحميد التريكي كاتب دولة لدى وزير التخطيط والتعاون الدولي ـ عبد العزيز الرصاع كاتب دولة لدى وزير الصناعة والتكنولوجيا مكلفا بالطاقة ـ سامي الزاوي كاتب دولة لدى وزير الصناعة والتكنولوجيا مكلفا بتكنولوجيات الإتصال ـ منصف بودن كاتب دولة لدى وزير المالية مكلفا بالجباية ـ أحمد عضوم كاتب دولة لدى وزير المالية مكلفا بأملاك الدولة ـ سليم شاكر كاتب دولة لدى وزير التجارة والسياحة مكلفا بالسياحة ـ أنور بن قدور كاتب دولة لدى وزير النقل والتجهيز ـ سالم حمدي كاتب دولة لدى وزير الفلاحة ـ سليم عمامو كاتب دولة لدى وزير الشباب والرياضة. وعين السيد مصطفى كمال النابلي محافظا للبنك المركزي التونسي
[5] اعضاء المكتب المركزي البيروقراطي هم: المولدي الجندوبي ـ محمد سعد ـ منصف اليعقوبي ـ وحسين العباسي . الجهات هي: صفاقس ـ بنزرت ـ جندوبة. القطاعات هي: قطاع التعليم الثانوي ـ قطاع التعليم الإبتدائي ـ قطاع البريد والإتصالات ـ قطاع أطباء الصحة العمومية ـ قطاع الشباب والطفولة.
[6] جريدة الشروق التونسية العدد عدد 03 ـ 03 ـ 2011
[7] تركيبة الحكومة المسماة بحكومة الوحدة الوطنية التي أعلن عنها محمد الغنوشي يوم 27 جانفي 2011 .
الوزير الأول محمد الغنوشي ـ وزير الشؤون الخارجية احمد ونيس ـ وزير العدل الأزهر القروي الشابي ـ وزير الدفاع الوطني عبد الكريم الزبيدي ـ وزير الداخلية فرحات الراجحي ـ وزير الشؤون الدينية العروسي الميزوريـ وزير التنمية الجهوية والمحلية احمد نجيب الشابي ـ وزير التعليم العالي والبحث العلمي احمد ابراهيم ـ وزيرة الصحة العمومية حبيبة الزاهي ـ وزير التجارة والسياحة مهدي حواص ـ وزير التربية الطيب البكوش ـ وزير الشؤون الاجتماعية محمد الناصر ـ وزير الفلاحة والبيئة مختار الجلالي ـ وزير التخطيط والتعاون الدولي محمد النوري الجويني ـ وزير الصناعة والتكنولوجيا محمد عفيف الشلبي ـ وزير لدى الوزير الأول مكلف بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والتنسيق مع الوزارات المعنية إلياس الجويني ـ وزير المالية جلول عياد ـ وزير الثقافة عز الدين باش شاوش ـ وزيرة شؤون المرأة ليليا العبيديـ وزير النقل والتجهيز ياسين ابراهيم ـ وزير التكوين المهني والتشغيل سعيد العايدي ـ وزير الشباب والرياضة محمد علولو.
[8] البيـــان التأسيســي لجبهـــة 14 جانفـــي للقوى الوطنية والتقدمية والديمقراطية في تونس.
[9] البلاغ الإعلامي الذي صدر عن اجتماع الذي ضم ممثلي الهيئات والأحزاب والجمعيات والمنضمات التي أسست المجلس الوطني لحماية الثورة.
[10] نص المرسوم عدد 6 المؤرخ في 18 فيفري 2011 المتعلق بإحداث الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.
[11] القائمة الاسمية لأعضاء الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي أمضى عليها الوزير الأول الباجي قائد السبسي يوم الثلاثاء 5 أفريل 2011
ممثلو الأحزاب السياسية
حركة الديمقراطيين الاشتراكيين
أحمد الخصخوصي ـ رشيد قرمازي ـ عفاف بوغرارة
حركة التجديد
سمير الطيب ـ نضال السليماني ـ عائدة الخميري
الحزب الديمقراطي التقدمي
منجي اللوز ـ حسام الشابي ـ ماهر حنين
التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات
مولدي الرياحي ـ بلال الفالحي ـ ربيعة بن تعاريت عبيد
حركة النهضة
نور الدين البحيري ـ الصحبي عتيق ـ فريدة العبيدي
الحزب الاشتراكي اليساري
البشير العبيدي ـ نسيم الكافي ـ غزالة القاسمي
حزب العمل الوطني الديمقراطي
محمد جمور ـ إيمان خميس ـ نعيمة الهمامي
حزب تونس الخضراء
عبد القادر الزيتوني ـ فوزي الهضباوي ـ نعيمة قيزة
حزب الإصلاح والتنمية
محمد القوماني محمد الحبيب المستيري ـ عواطف زروق
حركة الوطنيين الديمقراطيين
شكري بلعيد ـ بيرم بلعيفة ـ آسيا حاج سالم
المؤتمر من أجل الجمهورية
طارق العبيدي ـ سمير بن عمر ـ زهور كوردة
حزب الطليعة العربي الديمقراطي
خير الدين الصوابني ـ كريم قطيب ـ حياة حمدي
ممثلون عن الهيئات والمنظمات والجمعيات ومكونات المجتمع المدني
الاتحاد العام التونسي للشغل
منصف اليعقوبي ـ رضا بوزريبة ـ عبيد البريكي ـ حسين العباسي ـ مروان الشريف
الهيئة الوطنية للمحامين
سعيدة العكرمي ـ أحمد الصديق ـ فتحي العيوني ـ رشاد برقاش
جمعية القضاة التونسيين
أحمد الرحموني
الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان
مختار الطريفي ـ أنور القوصري
الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات
سعيدة قراش
جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية
راضية بلحاج زكري ـ العمادة الوطنية للأطباء ـ محمد نجيب الشعبوني
المجلس الوطني للحريات بتونس
عمر المستيري
الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين
سمير ديلو
جمعية حرية وإنصاف
محمد النوري
نقابة الصحفيين التونسيين
نجيبة الحمروني
نقابة الأطباء الاخصائيين للممارسة الحرة
فوزي الشرفي
حركة تحديث الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية
قيس السلامي ـ خليل الغرياني
منظمات المهاجرين
كمال الجندوبي ـ محمد لخضر لالة ـ طارق بلهيبة ـ رياض بالطيب ـ نجيب العاشوري
الجمعية الوطنية لغرف عدول الإشهاد
عماد عميرة
الجامعة العامة التونسية للشغل
حبيب قيزة
اتحاد المعطلين عن العمل
سالم العياري
الاتحاد العام لطلبة تونس
طارق السعيدي ـ منى الوسلاتي
جمعية قدماء المقاومين
علي بن سالم
شخصيات وطنية
العياشي الهمامي ـ جليلة بكار ـ أنور بن قدور ـ محمد البصيري بوعبدلي ـ فرحات القمرتي ـ منير قراجة ـ منجي بن عثمان j محمد الصغير أولاد حمد ـ إبراهيم بودربالة ـ عبد العزيز المزوغي ـ عبد الستار بن موسى ـ عبد الجليل بوراوي ـ منصف وناس ـ عبد الحميد الأرقش ـ سفيان بالحاج محمد ـ هادية جراد ـ علي المحجوبي ـ مختار اليحياوي ـ عبد المجيد الشرفي ـ محمود الذوادي ـ محمد بوزريبة ـ سامي الجربي ـ نورة البورصالي ـ درة محفوظ ـ خديجة الشريف ـ زينب فرحات ـ لزهر العكرمي ـ هالة عبد الجواد ـ محسن مرزوق ـ لطيفة لخضر ـ حسن الديماسي ـ منجي ميلاد ـ عدنان الحاجي ـ سمير الرابحي ـ سامية البكري ـ علياء الشريف ـ عبد الجبار بسيس ـ أحلام بلحاج ـ كلثوم كنو ـ مصطفى التليلي ـ سوفي بيسيس ـ سمير عنابي ـ سفيان الشورابي ـ مسعود الرمضاني ـ مصطفى بن أحمد التليلي ـ احميدة النيفر ـ مهدي المبروك ـ أمين سامي بن ساسي ـ مبروك حرابي ـ زهير مخلوف ـ أحمد الكحلاوي ـ السيدة الحراثي ـ كريمة درويش ـ لمياء فرحاني ـ عبد الباسط بن حسن ـ فرج معتوق ـ نجيب حسني ـ محمد الرحيمي ـ أديب سودانة ـ عبد الروءوف العبيدي ـ محمد علي الهاني ـ عماد الحيدوري ـ صوفية الهمامي ـ منصف مباركي ـ بلقاسم عباسي ـ فتحي التريكي ـ عدنان منصر ـ منية بوعلي ـ نجوى مخلوف ـ عبد السلام العرباوي ـ مصطفى عبد الكبير ـ محمد الهادي الكحولي.
ممثلو الجهات
عبد اللطيف الحداد تطاوين ـ الحبيب غلاب نابل ـ نعمان مجيد صفاقس ـ الفاضل بالطاهر قبلي ـ توفيق الجريدي قابس ـ الهادي بن رمضان جندوبة ـ يوسف الصالحي سيدي بوزيد ـ فوزي الصدقاوي بنزرت ـ عبد العزيز العايب مدنين ـ لطفي اليعقوبي تونس ـ رضا الرداوي قفصة ـ المولدي القسومي القصرين.
ممثلو عائلات الشهداء
المنجي البوعزيزي
علي البوعزيزي
[12] البيان التحضيري والبيان الختامي لمؤتمر اللجان والمجلس الشعبية لحماية الثورة المنعقد في 9 أفريل 2011 بنابل.
[13] قائمة حكومة الباجي قايد السبسي:
الأزهر القروي الشابي: وزير العدل ـ عبد الكريم الزبيدي: وزير الدفاع الوطني ـ فرحات الراجحي: وزير الداخلية ـ المولدي الكافي: وزير الشؤون الخارجية ـ محمد الناصر: وزير الشؤون الاجتماعية ـ جلول عياد: وزير المالية ـ العروسي الميزوري: وزير الشؤون الدينية ـ الطيب البكوش: وزير التربية ـ عز الدين باش شاوش: وزير الثقافة ـ رفعت الشعبوني: وزير التعليم العالي والبحث العلمي ـ حبيبة الزاهي بن رمضان: وزيرة الصحة العمومية ـ مهدي حواص: وزير التجارة والسياحة ـ مختار الجلالي: وزير الفلاحة والبيئة ـ ليليا العبيدي: وزيرة شؤون المرأة
ـ ياسين إبراهيم: وزير النقل والتجهيز ـ سعيد العايدي: وزير التشغيل والتكوين المهني ـ محمد علولو: وزير الشباب والرياضة ـ عبد الحميد التريكي: وزير التخطيط والتعاون الدولي ـ عبد العزيز الرصاع: وزير الصناعة والتكنولوجيا ـ أحمد عظوم: وزير أملاك الدولة ـ عبد الرزاق الزواري: وزير التنمية الجهوية ـ رافع ابن عاشور: وزير معتمد لدى الوزير الاول ـ رضوان نويصر: كاتب دولة لدى وزير الشؤون الخارجية ـ نجيب قرافي: كاتب دولة لدى وزير التنمية الجهوية ـ الامين مولاهي: كاتب دولة لدى وزيرة الصحة العمومية ـ سليم شاكر: كاتب دولة لدى وزير التجارة والسياحة مكلفا بالسياحة ـ سالم حمدي: كاتب دولة لدى وزير الفلاحة والبيئة مكلفا بالبيئة ـ رضا بالحاج: كاتب دولة لدى وزير الأول ـ سليم عمامو: كاتب دولة لدى وزير الشباب والرياضة ـ عادل قعلول: كاتب دولة لدى وزير الصناعة والتكنولوجيا مكلفا بالتكنولوجيا ـ حسن العنابي: كاتب دولة لدى وزير التربية .
[14] نعني ببعض الشرائح البرجوازية ـ الحرفيين وأصحاب المشاريع الصغرى والمتوسطة الخدماتية والصناعية والتجارية والبرجوازية الصغيرة والمتوسطة الريفية التي همّشت وتراجع وانحصر نفوذها الاقتصادي والسياسي بفعل اقتصاد السوق و تحكّم وسيطرة أرباب رأس المال الكبير على القطاعات الإقتصادية ذات الربحية الكبيرة.
ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ ــــــ
بشير الحامدي
تونس . الطبعة الولى سبتمبر 2011



#بشير_الحامدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أشكال تنظم جذرية مقاومة جذرية مهام جذرية
- ما أقرب الواقفين على الربوة للسقوط
- مهمتنا المركزية اليوم: الثورة من جديد
- تونس على فوهة حلف الاطلسي
- حول الموقف الذي اتخذته سلطة الالتفاف على الثورة في تونس المت ...
- سوريا النظام أم سوريا الشعب . سوريا بقاء الديكتاتورية أم است ...
- أية مقاومة نريد
- الديمقراطية والتنظم الذاتي
- من الفصل الخامس من كتاب الحقّ في السّلطة والثّروة والدّيمقرا ...
- هيئات العمل الثوري حركة عصيان: بيان
- أي دور للإتحاد العام التونسي للشعل بعد مؤتمر طبرقة
- تونس العصيان من أجل إسقاط النظام وتكريس سيادة الشعب
- لن نساوم لن نسلّم لن نستسلم ثورتنا مستمرة
- بعض القضايا المتصلة بالثورة الفصل الرابع من كتاب الحق في ال ...
- مكاننا الطبيعي أن نسير على درب الشهيد وأن نجلب الربيع لحديقة ...
- إلى السيد صدى النهضة الأغلبي
- من الفصل الثالث من كتاب الحق في السلطة والثروة والديمقراطية ...
- ما العمل لدفع عملية الصراع ضد قوى اليمين والإمبريالية في الم ...
- تونس من أجل تكتل نقابي ضد التحالف السلفي الليبرالي والبيروق ...
- تونس نعم لفتح ملف الفساد في الإتحاد وعلى النقابيين اليوم عد ...


المزيد.....




- نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية ...
- شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
- دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص ...
- اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
- رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي ...
- الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق ...
- شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
- ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
- وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - بشير الحامدي - كتاب الحقّ في السّلطة والثّروة والدّيمقراطيّة قراءة في مسار ثورة الحرية والكرامة . تونس سبتمبر 2011