أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 14 المثقفون وادوارهم 3 مخطط تقسيم مصر















المزيد.....



قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 14 المثقفون وادوارهم 3 مخطط تقسيم مصر


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 3654 - 2012 / 3 / 1 - 14:28
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
14
المثقفون وأدوارهم 3 مخطط تقسيم مصر
تَذْكِرَة :
أرى بداية أن لا بأس من إعادة تذكير القارئ بدواعي موضوعات هذه الحلقات – المثقفون وأدوارهم - . لقد صُرِف جهد كبير ، وجرى حديث طويل ، عن الثورة المضادة ، أدواتها وفعلها . وأشرنا أن من بين تلك الأدوات ، المؤثرة والفاعلة ، إطلاق إشاعات ، أو طرح قضايا ، أو بث أفكار ، تستهدف بداية زعزعة اليقين ، داخل جبهات الثورة ، تليها إثارة بلبلة ، تعمل على فك الحلقات الملتفة حول الثورة ، واحدة بعد أخرى . وأخيرا الوصول إلى نواتها الصلبة ، تخوينها ثم ضربها . وأشرنا كيف أن الأنظمة في بلدان الثورات العربية ، وكأنما باتفاق مسبق ، طرحت ذات القضايا ، ومنها ما وصف بوجود مؤامرات ومخططات ، لدى الأعداء ، سرية ونائمة في الأدراج ، تنتظر سنوح الفرصة للانقضاض وتمزيق هذه البلدان . وأخيرا الزعم بأن الثورات ، خصوصا من اضطر منها للبحث عن عون خارجي ، هي من يوفر هذه الفرصة ، ومن يفتح الأبواب على مصاريعها ، لتطبيق تلك المؤامرات ، التي ستعصف بوحدة تلك الأوطان . وأشرنا إلى أنه لم يكن على قوى مناهضة الثورة ، غير إطلاق تلك الشائعات ، فترك المجال لجمهور من المثقفين والإعلاميين ، كان النظام الساقط قد نجح في تدجينه ، لتلقفها ، ثم الخوض فيها ، بكل العك واللوك الذي أتقنوا صناعته ، حتى يتحقق المراد . وكنا قد ختمنا الحلقة السابقة ، التي خصصناها لسوريا ، بالسؤال : وماذا عن مصر ؟ وجوابا عليه نقول :
غدا الحديث عن مؤامرة ، فمخطط ، لتقسيم مصر ، إلى أربع دويلات أحيانا ، وخمس أحيان أخرى ، مثل لازمة في نشيد ، تتكرر إذاعته صباح مساء ، في دوائر مصر السياسية والإعلامية . والمتابع للإعلام المصري ، لا بد أن يلاحظ ، كيف أن إيقاع أنغام هذا النشيد ، تعلو وتهبط في تناسب طردي مع صعود وهبوط حدة الخلاف بين طرفي الثورة ، الميادين والحكم ، ممثلا في المجلس العسكري بالأساس . وهو الخلاف الذي يبرز في صورة نقد ميادين الثورة ، في مدن مصر ، لأداء المجلس العسكري الحاكم ، وانعكاس هذا الأداء ، على أهداف الثورة ، ما تحقق منها ، وهو قليل ، وما ينتظر التحقيق وهو كثير .
وكما حدث ويحدث في بلدان الثورات العربية ، ما أن ينطلق تحذير عن المؤامرة ، من المجلس العسكري ، أو من الحكومة ، أو من طرف خفي قريب منهما ، حتى يتلقف الإعلام هذا التحذير ، ويقدمه على أنه حقيقة واقعة ، وعلى مبعدة خطوات قليلة من بدء التطبيق . والمتابع للإعلام المصري ، وهو ما أفعله ، يلاحظ كيف يتحول التحذير ، أو الشائعة ، بأقلام المثقفين ، وألسنة المحللين والمحاورين السياسيين ، إلى نوع من كرة ثلج ، تكبر مع كل دحرجة ، فتدهم الجمهور الذي قد يبدأ التساؤل عن هذا البلاء الكبير، الذي ربما تجلبه الثورة على البلاد والعباد . والمثقفون الذين وفر لهم التدجين ، قدرة هائلة على العك واللك ، دائما ينسون أن يسألوا أصحاب التحذير ، عما اتخذوه من إجراءات ، يفرضها عليهم واجبهم ، لإفشال المخطط المؤامرة . ومثله يتجاهلون تنبيهات زملاء لهم ، عن بطلان مزاعم القول بهكذا مؤامرة ، ببساطة لحقيقة استعصاء مصر ، بتكوينها البشري والجغرافي ، وبتاريخها الطويل المديد ، على التمزيق أو التقسيم .
وقفة مستحقة :
وصل حال كرة الثلج تلك ، أن مثقفين ثوريين ، مدير تحرير جريدة الشروق ، عماد الدين حسين ، على سبيل المثال ، وقعوا في فخ ما يوصف بمخطط المؤامرة . كتب في عموده اليومي ، 1 / 2 / 2012 ، وفي تعقيبه على قضية مداهمة مقرات لمنظمات غير حكومية ، يقول : " هناك تسريبات تقول أن هذه المنظمات الأمريكية –المعهدين الجمهوري والديموقراطي وفريدم هاوس – لا تعمل لا لوجه الله ولا لوجه حقوق الإنسان أو نشر الديموقراطية ، بل هي مجرد واجهات لأجهزة مخابرات وتجسس وأن درجة الجرأة والفجور والتحدي وصلت إلى حد وجود خرائط داخل هذه المراكز تقسم مصر إلى أربع مناطق ، جزء يذهب لدولة نوبية في الجنوب وآخر لدولة مسيحية في أسيوط ودولة إسلامية في الدلتا ، وضم سيوة ومطروح لليبيا " .
وبعد أيام خرج علينا قضاة التحقيق في القضية ، وإحالة 43 متهما ، منهم 19 أمريكيا وألمانيا للمحاكمة ، ليقول أن الخرائط المشار إليها ، وضعت عليها خطوط بقلم ، وباليد ، وكتبت عليها أحرف بالانجليزية ، وفي إيحاء بأنها مستمسك مادي على مخطط التقسيم المشار إليه ، لكن المتمعن في كلام القاضيين ، لا يرى في هذا المستمسك ، أكثر من إشارة لبرنامج عمل لموظفي المعهد ، لا أكثر ولا أقل . لكن الأستاذ عماد ، وهو المحسوب على الثورة ، لم يتوقف ليراجع نفسه ، أو ليقف على الأثر المدمر لما كتب ، ليس على جمهور قرائه فقط ، ولكن على الجمهور المشكل لدروع الثورة قبل ذلك .
ولم يتوقف الأمر على المثقفين ومن لف لفهم ، إذ تعداهم في الآونة الأخيرة ، إلى جمهور الدعاة والوعاظ . وغدا لازما أن لا يقف منهم أحد على منبر ، إلا واحتل التحذير من خطر المخطط المؤامرة ، صدارة ومتن وظهر عظته ، أو خطبته . وككل من سبقوه يشير إلا أن مواصلة الثوار لاحتجاجاتهم ، ومناوشاتهم مع المجلس ، هي ما يوفر الفرص ، لتنفيذ المؤامرة . ومثل غيرهم يتجاهلون الإشارة إلى ما فعله المجلس ، بصفته رأس الحكم ، أو ما اتخذ من خطوات ، في إطار ما يتوجب عليه فعله ، لدرء المؤامرة المزعومة وإفشالها .
هنا نصل إلى السؤال : بافتراض صحة القول بوجود مخطط مؤامرة ، هل مصر قابلة لتمزيق من أي نوع كان ؟ وهل هناك أرضية ما ، يمكن أن يستند إليها مخطط ما لتقسيم مصر ؟
يعرف أي مبتدئ في قراءة تاريخ المنطقة ، أن مصر صمدت ، بكيانها الحالي ، الذي تشكل قبل أكثر من خمسة آلاف سنة ، على يد الفرعون مينا ، المعروف باسم موحد القطرين – مصر العليا ومصر السفلى ، أو قبلي وبحري – في وجه كل ما مر عليها من محن وخطوب . وهذا القارئ المبتدئ لا بد يعرف أن أدوار مصر في التاريخ ، البعيد منه والقريب ، لعبت أدوارا مختلفة ، تجاوزت فيها حدودها إلى باقي الإقليم أحيانا ، وانكمشت داخل حدودها في أحيان أخرى . وفي كل الأحوال احتفظت بوحدة كيانها ، الذي سبقت إلى تشكيله أكثرية أمم العالم . والمثير للانتباه ، أنه ورغم ما مر عليها من أهوال ، ظلت وحدة هذا الكيان ، الذي اسمه مصر ، بعيدة ، وفي منأى ، عن أي خطر يحتمل أن يهددها . وهنا قد يتبادر إلى ذهن قارئ سؤال : كيف كان ذلك ؟ ونجيب :
سبقت مصر ، كما أشرنا ، أكثرية أمم العالم ، في تكوين مجتمعاتها ، ثم في تحديد أرض وطنها ، وأخيرا إقامة صرح دولتها . بدأ هذا قبل سبعة آلاف عام خلت . وبداية تشكلت فيها دولتان ، في نصفيها الشمالي والجنوبي ، أو مصر العليا ومصر السفلى ، كما عرفتا آنذاك . ثم توحدت الدولتان على يد الفرعون مينا ، موحد القطرين كما عرف ، قبل 5200 عام . وتعاقبت على حكم مصر أسر عديدة ، شكلت امبراطورية ، ظلت تتسع وتضيق ، طبقا لأحوال الأسرة الحاكمة ، وقوة وضعف الصراع مع جيرانها في الإقليم . ومثل امبراطوريات زمانها ، مرت عليها أزمان تمددت فيها شرقا وغربا ، جنوبا وشمالا ، مصطدمة بالامبراطوريات التي كانت قائمة آنذاك ، وبانية حضارة مصر التاريخية ، قرنا بعد آخر . ومر عليها زمن كان البحر الأحمر كله بحرا داخليا في امبراطوريتها . يعني هذا أن تأثير مصر في محيطها ، أو خارج حدودها ، أو في إطار العالم المعروف آنذاك ، كان حاضرا دائما . وحتى حين قفز إلى حكمها غرباء ، الهكسوس في فترة ، والبطالسة الإغريق ، في فترة أخرى ، احتفظت مصر بدورها ، مركزا للحكم من ناحية ، ومؤثرة في المحيط من ناحية أخرى .
ومثلما وقع لغيرها ، جاء وقت أنهكتها فيها الصدامات مع الامبراطوريات المنافسة ، خصوصا في الشرق ، الحثية ، والأكدية ، البابلية والآشورية ، والفارسية ...الخ . وكان مثلا أن هزمت في الصراع مع الامبراطورية الفارسية ، وفقدت استقلالها بسقوطها تحت الاحتلال الفارسي الذي استطال ، ليعقبه الاحتلال الإغريقي – دولة الإسكندر فخلفاؤه البطالمة من بعده – ثم الاحتلال الروماني ، الذي استمر حتى الفتح العربي ، أيام الخليفة عمر بن الخطاب . وفي كل هذه الحقبة التي استمرت أكثر من ألف سنة ، انكمشت مصر داخل حدودها ، فاقدة دورها المركزي ، ومن ثم تأثيرها على المحيط . ولم تستعد هذا الدور إلا بعد أن غدت مركزا للخلافة الفاطمية ، لتعود إلى التمدد ، وجودا وتأثيرا ، إلى المحيط ، وليستمر هذا الدور مع الدولة الأيوبية ثم المماليك ، ولتفقده مجددا بعد وقوعها في أسر الامبراطورية العثمانية ، التي تحولت إلى الخلافة العثمانية ، في أواخر عهدها .
من جديد استعادت مصر دورها ، في بداية القرن التاسع عشر ، مع بدء عهد أسرة محمد علي ، ولتفقده مرة أخرى قرب نهاية القرن ، بوقوعها تحت وطأة الاحتلال البريطاني الذي استمر حتى بعد منتصف القرن العشرين بقليل ، وليعيدها عهد عبد الناصر ، إلى بهاء دورها ، ليس داخل حدودها فقط ، بل وإلى خارجها في الإقليم المحيط .
يلفت انتباه المتابع ، في كل هذه الأدوار التي لعبتها مصر ، وفي كل التقلبات التي وقعت لها ، احتفاظها بوحدة كيانها ، كما ترسمه حدودها الآن ، سواء كانت مركزا للامبراطوريات المتعاقبة ، أو واقعة في أسر سلطة خارجة عليها . ويلفت انتباهه أكثر ، أن الذين حكموا مصر ، أدركوا كلهم ، أن تقسيمها هو الأسلوب الأمثل لتلافي خطرها من جهة ، ولتقزيم دورها ، خصوصا خارج محيطها ، من جهة أخرى . لكنهم جميعا اصطدموا بواقع انعدام قابلية تطبيق هكذا حل من حيث الأساس ، ليس فقط بسبب امتداد وحدتها أرضا وشعبا في عمق التاريخ ، وأن اللحمة التي صنعها التاريخ باتت غير قابلة للكسر ، بل ولحقيقة أن مصر تمتلك ميزة ، يتعذر وجود مثيل لها بين شعوب العالم الأخرى ، تتمثل في تجانس شعبها ، في كل من العرق والدين على حد سواء . تتميز مصر بأنها بلد من عرق واحد ، لا وجود لتعدد عرقي ، على أساس قومي فيها ، يمكن أن يسبب الصراع بين القوميات فيها ، صدعا في وحدتها . والطريف في الأمر أن الاستعمار ، الذي يشار إلى أنه صاحب مخطط مؤامرة التقسيم ، وحين جثم على صدر مصر ، أبقى على وحدتها مع السودان ، بدل أن يُفَعِّل مخطط التقسيم ذاك ، رغم أنه هو صاحب مؤامرة سايكس – بيكو التي مزقت الهلال الخصيب ، ورغم أنه هو من صد جيوش إبراهيم باشا ، في توسعها إلى الشرق والجنوب الشرقي ، على حساب الخلافة العثمانية ، قبل ذلك . وهنا نصل إلى السؤال مجددا : علام يستند أصحاب الزعم بوجود مخطط مؤامرة التقسيم المشار إليها آنفا ؟
تقسيمات جغرافية :
مثل أي من البلدان ، هناك في مصر فروق في اللهجات المحكية بين محافظاتها . وهناك فروق اجتماعية ، بدو ، فلاحين وحضر . وفي مصر ، منذ الفتح الإسلامي ، مسلمون ومسيحيون . وإلى هذه الفروق يستند أصحاب الزعم بالمخطط المؤامرة . يقولون أن الخلافات الطائفية ، بين المسلمين والمسيحيين ، والأخيرون هم الطرف الضعيف والمغبون فيها ، تشكل رأس السهم لاستدعاء التدخل الخارجي ، فالبدء في تطبيق المخطط . والسيناويون ، كما النوبيون ، يشكون من الإهمال ، وعدم الإنصاف في التنمية ، وضعف المساواة في الحقوق . وأهالي محافظة مطروح ، والصحراء الغربية عموما ، قبائل تربطها صلات دم وقرابة بالقبائل الليبية ، على الجانب الآخر من الحدود ، وكل ذلك يشكل العوامل المؤسسة للمخطط المؤامرة . وإذن دعونا نتوقف عندها ، واحدا بعد آخر ، لنستكشف ما إذا كان هناك أساس فعلي لما يقال من مزاعم ، ولنبدأ ، وعلى أساس جغرافي ومن الشرق .
سيناء والسيناويون :
هناك شكاوى محقة لأهل سيناء لما يتعرضون إليه من إهمال ، أكدت تقارير لجان تقصي حكومية كثيرة ، على وجوده . لكن هذه الشكاوى لم تصل يوما إلى حد المطالبة بالانفصال عن الوطن الأم ، رغم أن سيناء ، بصفتها البوابة الشرقية لمصر ، شكلت ، وعلى مدار التاريخ ، هدفا لكل امبراطوريات الشرق الطامعة في القفز على وادي النيل الخصيب . فسيناء بموقعها الجغرافي ، وظلت فلسطين تلازمها في هذه الناحية ، كبوابة شرقية للوادي ، تشكل نوعا من منصة قفز على الوادي ، يتطلع للسيطرة عليها كل طامع فيه . ورغم ذلك لم يحدث في كل العصور أن شكلت سيناء كيانا منفصلا عن مصر . والسبب أن السيناويين لا يشكلون عرقا مغايرا لباقي المصريين . و بقاؤهم ، وعلى كل هذا المدى الطويل ، على حالتهم البدوية ، لم يشب بشيء هذه الحقيقة .
في التاريخ الحديث عرضت سيناء ، ضمن المقترحات المتعددة ، لإقامة وطن لليهود عليها ، بديلا لفلسطين . ولما كانت مصر تخضع للاستعمار البريطاني ، جاءت بعثة مسح ، متعددة التخصصات ، درست صلاحية سيناء لذلك . وبغض النظر عما قالته تقارير البعثة ، التي طالت فترة دراستها ، عادت بريطانيا وسحبت العرض ، وانتهت الفكرة .
ورغم أن بريطانيا بكرت في إعلان انحيازها للمشروع الصهيوني ، وذلك في مؤتمر انعقد في لندن ، العام 1907 ، على اسم رئيس وزرائها آنذاك ، كامبل بنيرمان ، فقد كانت قد سبقته بالإملاء على الإدارة العثمانية تخطيط الحدود مع فلسطين في العام 1906 ، ولتبقى على ما هي عليه الآن . وبعد بضع سنوات قامت جمعيات ، وأفراد ، يهود ، بعقد صفقات شراء أرض في محافظتي رفح والعريش الحاليتين ، بغرض الاستيطان اليهودي ، حققت فيها نجاحا أكبر مما تحقق لها في فلسطين . لكن لورد كرومر ، حاكم مصر البريطاني ، تدخل بمنع تسجيلها ، مما نتج عنه إلغاء تلك الصفقات ." راجع كتابنا إطلالة على القضية الفلسطينية (1 ) المنشور على نفس هذه الصفحة من الحوار المتمدن " .
المنطقي إذن أن يشكل موقع سيناء الاستراتيجي هذا ، ومسار الأطماع على مر التاريخ فيها ، حافزا مستديما لدى السلطة المركزية في القاهرة ، للاهتمام بإعمارها ، بدل حالة الإهمال الشنيع التي تعانيها . والمنطقي أيضا أن يلتفت مرددو المزاعم عن مخطط مؤامرة لفصلها ، إلى الضغط على الحكومة المركزية ، لوضع توصيات اللجان الكثيرة المشكلة لدراسة أوضاع سيناء ، وحل مشاكل سكانها ، من خلال إعمارها وتطويرها ، موضع التطبيق .
هنا قد يشار إلى أن هناك بالفعل أصواتا كثيرة ، في إسرائيل والغرب ، ترى أن حل مشكلة اكتظاظ قطاع غزة ، وفي المقدمة مشكلة لاجئيه ، وضغطها ، ضمن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ، وقضية حق العودة ، وسدها لأفق التسوية السياسية ، وإقرار سلام في المنطقة ، أصواتا ترى أن اقتطاع جزء من سيناء ، رفح والعريش ، هو ما يوفر هذا الحل ، برحابة الأفق للضائقة الفلسطينية . وقد وصلت شطحات الخيال ببعض هؤلاء ، حد الزعم بأن سيناء لم تشكل ، وعلى مدى التاريخ ، جزءا من الأرض المصرية . لكن الرد على شطحات الخيال هذه لا يكون بترديد المزاعم عن المخطط المؤامرة ، وإنما بمعالجة هموم السيناويين ، وبإنصافهم بالمساواة ، من خلال إقرار المواطنة ، وبالبدء الفوري في تطبيق الخطط القومية الكبرى ، حسب توصيات لجان تقصي الحقائق ، للإعمار من جهة ، ولسد فراغ الكثافة السكانية من جهة أخرى .
النوبة :
وفي انتقال إلى أقصى الجنوب ، يقع القارئ على مشكلة مشابهة . فمع بناء السد العالي ، وتكون بحيرة ناصر ، صمام الأمان في مواجهة احتمال عطش مصر ، وقع لأهل النوبة ، ما يقع لأهالي المناطق التي يختارها القدر ، لتكون أرض ، أو موقع ، مشروعات التطوير القومية الكبرى ، في مختلف أنحاء العالم . اضطر النوبيون إلى الرحيل عن قراهم التي غمرتها مياه بحيرة السد العالي . قدمت الدولة لهم بدائل . لكن البدائل كان يتوجب إرفاقها ، أو إقرانها ، بجملة إجراءات ، تعويضات ، وحتى امتيازات ، تساعد النوبيين على التغلب على حنين الماضي ، والتأقلم المعيشي في المكان والواقع الجديدين . قدمت الدولة هذه البدائل في البداية ، ليعقبها حالة من الإهمال الشديد ، على مدار العقود الأربعة التالية ، انعكست في شعور النوبيين بحالة من الغبن الشديد .
ورغم أن النوبيين واصلوا التظلم ، ومطالبة الدولة الوفاء بالتزاماتها ، فإن هذا التظلم لم يرتق أبدا إلى حد المطالبة بالانفصال . وملفات المؤسسات الدولية ، رسمية وشعبية ، لم تعرف ، وهي لذلك تخلو من ، مطلبا قوميا نوبيا بحق تقرير المصير ، الأمر الذي يتطلب تفعيل الرأي العام ، لتبني هكذا مطلب ، فالضغط على الحكم في القاهرة لمنحه ، ثم التمهيد لتدخل خارجي لفرضه ، في حال تصاعد النضال للحصول على هذا الحق ، وتواصل تعنت الحكم المركزي برفضه . لو حدث هذا فقد يتوفر أساس لمخطط مؤامرة ، لاستحداث دولة نوبية في جنوب مصر . لكن حقائق الواقع تنفي هذا الأساس ، ببساطة لأن النوبيين لا يرون أنفسهم قومية مختلفة عن النسيج المصري العام ، بل يرون أنفسهم جزءا لا يتجزأ منه . والنوبيون لا يرون أن لمشكلتهم جذورا قومية ، وإنما تنحصر في إهمال المركز للأطراف ، كما الحال مع باقي الصعيد ، ومع سيناء والصحراء الغربية .
والتاريخ أيضا ينفي وجود قومية نوبية تتعارض مصالحها مع قومية مصرية . وهو ، أي التاريخ ، يشير إلى أن أسرة نوبية على الأقل ، حكمت مصر ، ضمن الأسر الفرعونية الحاكمة . وأن المنطقة لم تشهد انتفاضات نوبية ضد المركز . مع ذلك يشير تاريخ الفتح العربي ، وتعريب مصر ، إلى أن الفاتحين العرب اصطدموا بعناد أهل النوبة ، الذي أعجزهم عن فتحها وضمها إلى ملكهم الجديد . لكنهم مع ذلك عقدوا ، مع من وصفوه بملك النوبة ، معاهدات ، فرضت عليهم الجزية ضمن شروط مجحفة أخرى . ومع ذلك لا تشير هذه الحادثة ، وهي صحيحة ، إلى أن النوبيين يشكلون قومية ، تناقضت أو تصارعت في يوم ما مع قومية مصرية . ولا ينفي ذلك أن النوبيين ، وبعد التعريب الذي طال مصر كلها ، احتفظوا بلغة محكية خاصة بهم . كما احتفظوا بتراث فولكلوري خاص ، يماثلهم في ذلك أهالي المناطق المختلفة في مصر كلها .
باختصار لا توجد مشكلة قومية لأهل النوبة ، مطروحة على جدول أعمال العالم . وبالتالي لا يوجد سند واقعي لمخطط خارجي ، يقيم دولة نوبية في جنوب مصر . والعالم ، في كل تاريخه ، لم يشهد على قيام الغرب ، أو غيره ، لتحمل عناء المبادرة بتقديم منحة لشعب من الشعوب ، أو لقومية مسلوبة الحقوق ، تتمثل في إقامة دولة له ، لم يبادر إلى طلبها بنفسه . كل ما في الأمر أن النوبيين يشكون حالة الإهمال والغبن التي يعيشونها ، هذه الحالة التي ستنتهي بإقامة الديموقراطية في مصر ، واعتماد حق المواطنة ، وتوسيع اللامركزية في الحكم ، بتخفيف قبضة المركزية على الأطراف ، ومن ثم نيل حصصها في التطوير والبناء والعمران ....الخ .
الطائفية :
في مصر مشكلة طائفية حقيقية وصعبة ، عمرها بضعة عقود . وهذه المشكلة تزداد تفاقما ، مع مضي الوقت ، بدل أن تجد طريقا إلى الانفراج ، ثم إلى الحل . وهي ، بوضعها هذا ، تقدم سندا فعليا للمزاعم القائلة بالمخطط المؤامرة ، لتمزيق مصر إلى بضع كيانات . وبدل البحث عن حلول لها ، واصل أصحاب الزعم بالمخطط المؤامرة ، النهج المتبع بإنكارها ، أو الإدعاء بتضخيم الخارج لها ، حين تتعذر توابعها على الإنكار ، أو الإغفال . وأكثر من ذلك ظل هناك من يتهم غير أطرافها بافتعالها ، بدل السعي للوقوف على عوامل ظهورها ، والإسراع لإطفاء حرائقها . وبعد الثورة استخدمت قوى السلطة ، المعرقلة لتنفيذ أهداف الثورة ، الحرائق الطائفية ، مثلها مثل شكاوى الغبن الأخرى ، التي أشرنا لبعضها فيما سبق ، للتحريض على الثورة ، باعتبار أن مواصلة العمل لتحقيق المطالب ، يوفر الفرصة للتدخل الخارجي ، باستغلال المشكلة الطائفية ، لتنفيذ مخطط التمزيق المؤامرة المزعوم .
والمتابع للأحداث الطائفية في مصر ، يقف ، بالإضافة لحقيقة أن النظام يستخدمها لتثبيت وجوده ، استنادا إلى القاعدة التي تطبقها كل الأنظمة المعادية لشعوبها ، وهي قاعدة فرق تسد ، يقف على حقيقة أخرى ، تتمثل في استساغة مبدأ استقواء الكثرة على القلة ، رغم المعرفة باستناد هذا المبدأ على أحط أشكال الجبن ، وأكثرها دناءة وحقارة . وإلا ما الذي تعنيه هجمات الجماعات الإسلامية المتكررة ، على الأقلية المسيحية ، بدعاوى وضيعة ، من مثل الانتصار للأخت كاميليا أو الأخت عبير ، الذي أحبت وغيرت دينها ، فوقف أهلها في وجهها ، وليتطور هذا الانتصار إلى اعتداءات بالحرق والنهب والتدمير ، بما في ذلك على كنائس ومحلات تجارية ، وحتى إجلاء عائلات عن مساكنها ، وبيع ممتلكاتها في المزاد العلني ؟ ما الذي تعكسه مثل هذه الأفعال المتكررة سوى استقواء الكثرة على القلة ، في غياب قيام الدولة بمهامها ، وفي مقدمتها إحقاق العدل بالانتصار للضعيف حتى يأخذ حقه من القوي ، تطبيقا للمبدأ الشرعي الذي تخرق جماعات الاستقواء سمعنا به في كل آن ؟
يستند أصحاب الزعم بالمخطط المؤامرة ، إلى واقع أن ضخامة الشعور بمرارة الظلم ، تدفع بمسيحيين في المهجر ، إلى طلب العون ، أملا في تخفيف حدة الظلم الذي يتعرض له ، إخوة لهم يواصلون العيش داخل مصر . وفي حين يصف دعاة إسلاميون طلب العون هذا ، بالاستقواء بالخارج ،يتفاخرون بحقهم في الاستقواء بعالمهم الإسلامي ، أي بالخارج ، ثم بعد ذلك يواصلون فعل كل ما يزيد حدة الظلم ، المرتكب ضد الأقلية ، مرارة على مرارة . ويلفت الانتباه موقف قيادات القوى التي ينتمي إليها هؤلاء الدعاة ، عندما يتفوهون بِ، أو يحرضون على ، فعل يؤدي إلى زيادة حدة الاحتقان الطائفي . فبدل أن تخرج هذه القيادات بشجب علني وواضح ، لما صدر عن هذا الداعية أو ذاك ، وبدل أن تعمل على توعية الجمهور بالخطر المترتب على ذلك القول ، ومن ثم تطالب الجمهور بعدم القبول ، تخرج مدافعة عن القائل ، وبزعم أنه " بيهزر" أي يمزح ، أو انه كان مبسوط حبتين ، رغم أن هذا الانبساط أو الهزار ، قد يؤدي إلى كارثة . ويكون من حق من يقع عليه مثل هذا الظلم ، أن يرى بأنه ممأسس ، ويتبع برنامجا ، أفرزته رؤيا فنهج ، يستهدف إزاحة هذه الطائفة من الحياة العامة . وحين تقف السلطة متفرجة على كل ذلك ، فعلى المرء أن يفهم ، أن ما يحدث هو جزء من سياسة مقرة لهذه السلطة . ولأن أحداث الفتنة تتالى ، متمثلة في حرق كنائس ، والاعتداء على أفراد وأسر ، ونهب وحرق للممتلكات ، دون أن تبدي السلطة ، ومعها قوى حزبية ينسب التحريض ، وقيادة الفعل لأشخاص محسوبين عليها ، أي رد فعل ، أو محاولة لمعرفة ومحاسبة الجناة ، يكون من حق من يقعوا تحت طائلة هذه الأفعال ، أن يصلوا لاستنتاج كهذا ، وليفرض المنطق عليهم البحث عن عون خارجي ، ما دامت الأبواب موصدة أمام العون الداخلي ، لدفع هذا البلاء . ويأخذ هذا المنطق اندفاعات أقوى حين يخرج دعاة ، مسموعو الكلمة ، يخيرون الآخرين بين قبول هذا الحال ، وبين التفتيش عن وطن بديل ، وشد الرحال للرحيل إليه .
دولة أسيوط القبطية :
ويدهش المراقب للشأن المصري ، ما يوصف بنصائح تطالب المسيحي برفض ما يوصف بالنزوع للاستقواء بالخارج . فالناصحون هؤلاء يصرون على أن يكون الانتماء للدين هو أساس المعاملات . وهؤلاء وهم يقرون بانتسابهم لعالم إسلامي ، ويقولون بحقهم الطبيعي والمشروع في الاستناد إليه ، والبحث عن العون منه ، ويعترفون بذات الوقت بعالم مسيحي ، مسيحيو بلدهم جزء منه ، ينكرون عليهم حقهم في طلب العون منه ، أو ما يصفونه بالاستقواء به . وأكثر من ذلك يزعمون أن طلب العون منه ، هو ما يشكل الدعامة الأساسية ، لما يوصف بالمخطط المؤامرة لتمزيق مصر . ويقولون أن هذا المخطط ، إذا ما نجحت المؤامرة ، وحدث تدخل عسكري غربي في مصر ، تمهد له الثورة بغضبها من سياسة المجلس العسكري ، ستقام بموجبه دولة للأقباط في محافظة أسيوط .
والثورة ، من جانبها ، تطرح الحل الناجز لمسألة الفتنة الطائفية . وهذا الحل يستبعد ، وإلى الأبد ، أية مؤامرة تستهدف وحدة مصر . وهو حل بسيط يتمثل في إقامة ديموقراطية حقيقية ، تقر مبدأ المواطنة ، وحق المساواة بين الجميع على أساسها . ولأن هذا الحل يلغي تقسيم الناس ، ومن ثم تعيين حقوقهم ، على أساس ديني ، ترتفع كثرة من أصوات دعاة تيارات الإسلام السياسي برفضه ، بدعوى أنه وضعي ولا يتفق مع شرع الله ، الذي ، في رأيهم ، يضع المسلمين في بلد هم فيه أكثرية ، فوق الآخرين ، فيعطيهم حقوقا فوق حقوق هؤلاء الآخرين . هنا سنتجاوز السؤال : في حال صحة الزعم بوجود مخطط مؤامرة لتمزيق مصر ، فمن هو الطرف الذي ، في واقع الحال ، يقدم لها المبررات ، ويضخ في شرايينها نسغ الحياة ؟ سنتجاوز هذا السؤال إلى السؤال الأهم : ترى كيف لقوة احتلال ، مهما عظمت ، أن تقيم دولة قبطية في محافظات الصعيد ، أو في أسيوط وحدها ؟
دعونا في البداية نذكر القارئ بأن لفظة قبطي ، التي تطلق على المسيحي المصري ، تعني في لغة مصر قبل التعريب ، مصري . والمسألة لا تحتاج إلى بحث في التاريخ ،ومنها أن الدولة الرومانية كانت تصف مصر بأرض القبط ، أو أن مصر بالإنجليزية Egypt . قبطي إذن هو المصري الذي تعود جذوره في مصر إلى أكثر من سبعة آلاف سنة حضارة ، وعشرات ، إن لم يكن مئات ، آلاف السنين قبلها . أي أن القبطي صاحب حق أصيل في البلد ، يفرض المنطق أن لا ينازعه عليه أحد . وحين يأتي من ينازعه على هذا الحق ، وبدعوى دينية ، فإن ذات المنطق يفرض الضرب على يده بيد من حديد .
ونعود للسؤال : كيف ، وبأية وسائل ، وباستخدام أية قوى ، وبأية تكاليف ، يمكن تنفيذ مخطط إقامة دولة للأقباط في محافظات الصعيد ؟ وهل النجاح في ذلك يعني نهاية أم بداية الإشكاليات ؟ وهل توفر فرص أفضل للمستعمرين ، أم تعدهم بأحمال أكبر وأعظم ؟ وهل .. وهل كثيرة أخرى .
دعونا نتخيل فرضية جدلية ، ثم نحاول تصور كيفية تنفيذها . لنفترض أن الوضع تدحرج حتى حدث تدخل عسكري خارجي ، من الناتو مجتمعا ، أو أمريكا لوحدها . ولنفترض ، في مخالفة للواقع ولكل منطق ، أن التدخل نجح في إخماد أدنى مظاهر الاحتجاج ، ولا نقول المقاومة ، ضده . ثم لنفترض بدء مخطط إقامة الدولة القبطية في محافظات الصعيد . ولنتخيل ما الذي يتوجب فعله ، وخطوات تنفيذ هذا الفعل .
يقول المنطق بوجوب توفر أغلبية قبطية في تلك المحافظات ، هي غير متوفرة الآن . ولأن المسيحيين – الأقباط – الذين تتجاوز نسبتهم العشرة بالمائة من السكان ، موزعون على مصر كلها ، مدنها ، بلداتها ، قراها ونجوعها ، تقضي إقامة دولة لهم ، المباشرة في عمليات نقل لملايين منهم . وفي المقابل ، وحتى تتحقق لهم أكثرية في المحافظات التي ستشكل أرض الدولة ، يتوجب المباشرة في عمليات نقل معاكس لمسلمي تلك المحافظات . ولنفترض أن الاحتلال نجح في لجم أية معارضة لفعله هذا ، فلا بد من أن نسأل : بأية قوى يمكنه أن يتم هكذا عمليات نقل بهذه الضخامة ؟ وبأية تكاليف ستتم مثل هذه العمليات ؟ ومن ثم ما هو العائد عليه من كل ذلك ؟ ثم ولنفترض أن كل ذلك تم برضا طرفي معادلة الانتقال ، وقامت الدولة الجديدة ، التي لا ضمان لعدم نشوب نزاعات مستقبلية لها مع جيرانها ، فمن أين ، وكيف ستتوفر لها الحماية ؟ ولأنها صناعة أجنبية خالصة ، فهل سيتوجب على الصانع كفالة ، ضمان وتوفير الحماية لها الآن وفي المستقبل ، قريبه وبعيده ؟
المدقق لا بد يلاحظ أن الأمور لن تستقيم ، حتى مع فرضية لا علاقة لها بالمنطق أو الواقع ، كهذه . والإعلاميون والمثقفون ، ومن لف لفهم ، الذين يحذرون منها ، ويُنَظِّرون لها ، يعرفون تمام المعرفة ، استحالة وجودها ، قبل استحالة تنفيذها . فلماذا إذن يفعلون ما يفعلون ؟ الجواب بسيط : هناك اتفاق بين قوى مختلفة ، وعلى رأسها رأس السلطة الحاكم ، برفض أهداف الثورة ، ومعارضة تطبيقها ، وفي مقدمتها إقرار وتحقيق ديموقراطية حقيقية ، يتقدمها إقرار مبدأ المواطنة ، والعمل على تطبيق حقوق المساواة على أساسها . وأسهل الطرق إشغال العقول المغيبة بترهات من نوع مؤامرة تقسيم مصر ، وحل الفتنة الطائفية ، بدولة قبطية في صعيد مصر . هنا يصطاد النظام أكثر من عصفور بحجر واحد : تحريض على شباب الثورة ، رفض لأهدافها ، ضمان ديمومة نظام سقط رأسه ، وتطالب الثورة بإلحاق جسده بالرأس ، والإبقاء على نار الفتنة فالتقسيم بين أبناء الوطن ، هذا الإبقاء الذي يستدعي الإبقاء على النظام ، الذي وحده يملك القدرة على تخفيف لهيب حرائق الفتنة .
إلحاق بليبيا :
ولعل القارئ يتذكر تحذيرات القذافي من مخطط مؤامرة لتقسيم ليبيا ، تهيء الثورة الفرصة لتطبيقه . وانتصرت الثورة الليبية ، وحافظت ليبيا على وحدتها . ولكن ، ويا لغرابة القدر ، طلع علينا في مصر ، من يزعم بأن مخطط المؤامرة على مصر ، يتضمن ، بين ما يتضمن ، إلحاق محافظة مرسى مطروح ، وصحراء مصر الغربية ، بما فيها واحات سيوة ، بليبيا . أي أن المؤامرة على ليبيا تحولت من تقسيمها إلى دويلات ، على أساس قبلي ، إلى توسيعها على حساب مصر ، وعلى نفس الأساس القبلي ، بدعوى أن القبائل على الحدود المشتركة ، ذات أصول مشتركة . هل يستحق مثل هذا الزعم النقاش ، رغم انخراط جهات مختلفة ، على رأسها مثقفون ، في التحذير منه ؟ لا اعتقد ذلك . وفقط شخص خلع دماغه ، ووضعها في سلة المهملات ، يمكن أن يقبله . ومثل هذا الشخص تغدو محاورته نوعا من العبث . وللأسف في وطننا ، كما في مصر ، بدأ هذا النوع من الناس يشكلون نسبة عالية من الجمهور . وبكل مرارة يلاحظ المرء كيف أن جهود هائلة ، تعمل على تخليص الناس من عقولهم ، أو في صورة أبسط ، تغليفها بسوليفان ، وتسليمها للخالق ، كما تسلموها في البدء ، بكرا بدون استعمال .
بقي أن نقول في هذا المجال ، أن أمر مخطط المؤامرة وصل حد وقوف نواب في برلمان الثورة ، يصرخ أحدهم ، بصوته الجهوري ، محذرا من مخطط ، ما زال قائما ، لتقسيم مصر إلى خمس دول ، ومذكرا أن كونداليزا رايس ، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة ، تحدثت عنه . ومرة أخرى مثل هذا القول ، رغم صدوره عن نائب ، ورغم تأكيده عن ملكيته لوثائق خاصة به ، لا يستحق المناقشة ، لكونه هراءا في هراء ، كما سبق وبينا آنفا .
إسقاط الدولة :
ويبدو أن الذين روجوا لمخططات التقسيم المؤامرة ، كانوا على ثقة بأن الجمهور الملتف حول الثورة ، لن يشتري هذه البضاعة ، لتأكده من فسادها . ولذلك فقد جرى الترويج لبضاعة أخرى ، في تزامن مع الترويج للبضاعة الأولى . وكمثال تحدثت وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية الرسمية ، يوم 22 / 12 الماضي عن مخطط لإسقاط الدولة قائلة أن " المخطط يقوم على استدراج الشباب الطاهر ، والخاسرين في الانتخابات البرلمانية ، بهدف إفشال كل العملية الديموقراطية وإسقاط الجيش ومن ثم إسقاط الدولة ". ومضت تقول :" الجهات الأمنية السيادية تمكنت خلال أيام من رصد هذه الاتصالات والتحركات ، وتأكدت من أن الهدف منها تحويل البلاد إلى فوضى عارمة وحرب أهلية بين الشعب والقوات المسلحة ، تمهيدا لصدور قرارات بتدخل قوات أجنبية للفصل بين الشعب وقواته المسلحة " .
وفي العادة لا تستحق مثل هذه الأقوال الوقوف عندها . فالكلام ، حتى في تراكيبه اللغوية ، غير مترابط ، ويبدو بلا معنى . فمثلا ما معنى " تحويل البلاد إلى فوضى عارمة وحرب أهلية بين الشعب والقوات المسلحة " ؟ فالتاريخ يعلمنا أن القوات المسلحة قد تكون طرفا في الحرب الأهلية ، أما أن يكون الشعب والقوات المسلحة هما طرفاها ، فهو كلام لا يعدو أن يكون هراء في هراء . والأمر ذاته عن استدراج الجيش وإسقاطه وإسقاط الدولة .
لكن لأن أطرافا عديدة ، ومنها نواب في مجلس الشعب الجديد ، اتخذوا من فزاعة إسقاط الدولة راية يحملونها ويرفعونها في كل مناسبة ، وبلا مناسبة ، يتوجب الوقوف عند مفاهيم يتم طرحها ، وتستهدف التضليل ، قبل إثارة البلبلة ، فإغراق الشارع في متاهات ، تبعده عن مساندة الثورة ، والدفع لتحقيق أهدافها . منها ، وبداية ، مفهوم الدولة ، ومسائل بقائها وسقوطها .
توحي الكتابات ، والخطابات والحوارات ، حول زعم إسقاط الدولة ، أن الدولة هي مؤسسة الجيش مرة ، وهي مؤسسة الأمن مر ة أخرى ، وهي الاقتصاد مرة ثالثة ، وهي نظام الحكم الذي رفعت الجماهير النداء بإسقاطه في كل المرات . والسؤال ما هي الدولة ؟ وهل تسقطها الثورات ، كانت ما كانت مساراتها ؟
كلنا بتنا نعرف أن المجتمعات البشرية عاشت حقبا طويلة من الزمن بدون دول . والدولة مسألة حديثة العهد ، أقدمها يعود لسبعة آلاف سنة ، المصرية مثلا ، وغيرها - الصين ، بلاد فارس ، وما بين النهرين ، العراق الحالية – لخمسة آلاف سنة أو أكثر قليلا . وتتشكل الدولة من مجتمعات بشرية ، تملك وتعيش على أرض محددة ، فرضت حاجات تطورها إنشاء نظم تتولى تنظيم العلاقات ما بين أفرادها وتجمعاتهم ، ومع جيرانها ، بما في ذلك حماية أرضها من الأطماع الخارجية ، وفيما بينها . أي بلغتنا الحديثة نشأت ونمت مؤسسات الحكم ، التي صارت تعرف بمؤسسات الدولة ، أو الدولة في تبسيط للأمر ، ثم ساد في التداول على الألسنة. هذا كله معا أفرز مفهوم الدولة ، التي أخذت في الرقي والتطور مع الزمن ، ولتصل إلى شكل الدولة الحديثة ، قبل قرابة القرنين فقط . ومع نشوء الملكية الخاصة والطبقات ، جرى تغير على دور المؤسسات التي أنشأتها المجتمعات ، لرعاية العلاقات فيما بينها ، ومع محيطها . ولأنه نشأت مؤسسات حفظ الأمن الداخلي ، وفض النزاعات ، ومؤسسة حفظ الأمن الخارجي ، أي الجيش ، فإن مهامها تحولت من خدمة مصالح أفراد المجتمع كافة ، إلى خدمة وتثبيت مصالح الطبقة المالكة ، وفرض استغلالها على الطبقات الأخرى . والثورات التي قامت ، على مر التاريخ ، استهدفت إعادة دور هذه المؤسسات إلى نشأته الأولى . وحين يتعذر ذلك ، عملت الثورات على إسقاط كامل النظام ، وتفكيك هذه المؤسسات وإعادة بنائها من جديد . وفي العصر الحديث ، هدمت الثورة الفرنسية مؤسستي الأمن والجيش ،بالإضافة لمؤسسات أخرى ، بينها القضاء والقانون ، ثم أعادت بناءهما على أساس مهامهما الجديدة ، أي تثبيت مكاسب الثورة وتطويرها . وكررت الثورة البلشفية نفس الفعل ، مغيرة أدوار هذه المؤسسات من حماية مصالح طبقتي الإقطاع والبرجوازية ، إلى حماية مصالح ، وتثبيت مكتسبات الطبقة الجديدة الصاعدة ، تحالف البروليتاريا الصناعية وفقراء الفلاحين . وجاءت الثورة الصينية ، لتكرر فعل الثورة البلشفية . وفي كل الثورات التي تفككت فيها مؤسستا الأمن الداخلي ، والجيش ، والذي صاحبهما فيه انهيار للاقتصاد وإفلاس للخزانة ، لم تسقط الدولة ، وكان النظام الحاكم هو الذي سقط . والذي حدث بعد ذلك أن الثورة المنتصرة أعادت بناء هذه المؤسسات ، بمهمات جديدة ، وكذلك بناء الاقتصاد ، ولتصبح الدولة ، بعد بضع سنوات ، أقوى مما كانت عليه بكثير .
وكما أشرت في حلقة سابقة ، لا تضع ثورات الربيع العربي أهدافا أمامها ، مقاربة لأهداف الثورات الفرنسية والبلشفية والصينية والكوبية . لكن الضرورة تدفعها ، وهي ترفع شعار إسقاط النظام ، لإعادة بناء بعض ، والأصوب كل ، مؤسساته على أسس جديدة . وللأسف ترى بعض هذه المؤسسات ، وبينها الجيش ، أن إعادة البناء ، تغيير العقيدة والمهام في الغالب ، هو إسقاط لهذه المؤسسة ، يذهب القائمون عليها إلى الزعم بأنه إسقاط للدولة ، بما يعني رؤية تتمثل في أن إسقاط النظام ، الشعار الذي رفعته الثورة ،يعني إسقاط الدولة ، والاستنتاج بضرورة الحفاظ على النظام الذي خرجت الثورة لإسقاطه ، للحفاظ على الدولة ذاتها .
هذا المفهوم هو صلب المسألة ، وهو ما تؤشر إليه تلك الشهادات التي تغدقها أطراف مختلفة على دور الجيش ، أو القوات المسلحة في الثورة . فهناك مثلا من يصف هذا الدور بغير المسبوق في تاريخ الشعوب جميعها ، وعلامة مضيئة في تاريخ مصر والمصريين ، حسب قول للدكتور محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة . وهناك من يذكر بأنه وقف على النقيض من دوري الجيش الليبي والسوري ، متجاهلا حقيقة أن الجيش الليبي تفكك وذهبت ريحه ، والدولة الآن تحاول إعادة بنائه ، وأن الجيش السوري ربما يلاقي نفس المصير . ويتجاهل القائلون حقيقة أن الجيش التونسي أدى دورا أفضل بكثير ، حين حمى الثورة من جهة ، ونأى بنفسه عن تسلم مهام ، وإدارة الحكم من جهة أخرى . وفعل الجيش اليمني نفس الشيء ، رغم الإغراءات الكثيرة ، بدور مخالف .
بديهي أن القول بمطالبة المجلس العسكري تسليم السلطة ، لا تحمل ، ولا يمكن أن تحمل توجها لإسقاط الجيش . ولا أحد يحب مصر يتمنى ذلك . لكن وكما أكدت تجارب التاريخ ، ومن منظور المفاهيم ، لا يسقط الدولة تفكك مؤسسة الأمن . كما لا يسقطها تفكك مؤسسة الجيش . ولا يسقطها تفكك كل مؤسسات النظام الذي ترفع الثورة شعار إسقاطه . الثورة المنتصرة تعيد بناء مؤسسات الحكم على أسس جديدة . وهذا البناء الجديدة يعيد الدولة أقوى بكثير مما كانت عليه . وإسقاط الجيش في ثورات الربيع العربي ، يتم بطريقة واحدة ، كما أوضحت التجربة ذاتها . وقوفه مع النظام القديم ، وضرب قوى الثورة . هذا طريق يؤدي لا محالة ، بفعل قوى داخلية وخارجية ، إلى إسقاط هذه المؤسسة وتفكيك مكوناتها . ومصلحة المجلس العسكري في مصر، قبل غيره ، أن لا يقدم على ذلك .



#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قرراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 13المثقفون وأدوارهم 2
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 12
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 11مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 10 مخاطر على الديموقراطية ...
- عن دور اليسار في ثورات الربيع العربي
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 9 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 8 مخاطر على الديموقراطية ...
- الربيع العربي وقضايا الأقليات القومية
- قراءةتأماية في ثورة الشباب المصري 7 مخاطر على الديموقراطية 6 ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 6 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 5 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 4 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 3) مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 2 مخاطر على الديموقراطية ...
- قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري
- عبود الزمر و العيش خارج حدود الزمان والمكان
- دخول الى حقل المحرمات - 1 -
- وحدة الأضداد بدون صراعها
- هل هي مبادرة؟!
- ويا بدر لا رحنا ولا جينا


المزيد.....




- فيديو لرجل محاصر داخل سيارة مشتعلة.. شاهد كيف أنقذته قطعة صغ ...
- تصريحات بايدن المثيرة للجدل حول -أكلة لحوم البشر- تواجه انتق ...
- السعودية.. مقطع فيديو لشخص -يسيء للذات الإلهية- يثير غضبا وا ...
- الصين تحث الولايات المتحدة على وقف -التواطؤ العسكري- مع تايو ...
- بارجة حربية تابعة للتحالف الأمريكي تسقط صاروخا أطلقه الحوثيو ...
- شاهد.. طلاب جامعة كولومبيا يستقبلون رئيس مجلس النواب الأمريك ...
- دونيتسك.. فريق RT يرافق مروحيات قتالية
- مواجهات بين قوات التحالف الأميركي والحوثيين في البحر الأحمر ...
- قصف جوي استهدف شاحنة للمحروقات قرب بعلبك في شرق لبنان
- مسؤول بارز في -حماس-: مستعدون لإلقاء السلاح بحال إنشاء دولة ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - عبد المجيد حمدان - قراءة تأملية في ثورة الشباب المصري 14 المثقفون وادوارهم 3 مخطط تقسيم مصر