أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سعيد مضيه - مشروع نصر حامد أبوزيد















المزيد.....


مشروع نصر حامد أبوزيد


سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 3644 - 2012 / 2 / 20 - 14:47
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


اليسار وقضايا الفكر والثقافة
6 ـ مشروع نصر حامد أبو زيد

توجب الديمقراطية احترام نتائج الانتخابات في مصر، فقد أجريت بحرية لكن بلا نزاهة ، ولم تتكافأ فرص المرشحين في الوصول إلى الناخبين، وشارك في الانتخابات جمهور غالبيته غير مسيسة. ونظرة عبر حجب المستقبل تستبصر ضغوطات يتعرض لها مجلس الشعب، خاصة من جانب الثورة والثورة المضادة. فالمجلس ليس ضمير الثورة أو وعاءها الجديد؛ والمجتمع المصري وكل المجتمعات في حركة دائبة من التحول والتغيير، تتبدل معها موازين القوى واصطفاف القوى. حدثت الثورة وقد شاعت بين الشرائح الفقيرة ثقافة الاحتجاج على غياب العدالة الاجتماعية وعلى الثراء الفاحش والاستغلال والفساد المرتبط في الخيال الشعبي بثقافة الحداثة الاستهلاكية المستوردة من الغرب. انهار حكم الاستبداد لتعقبه حالة من الفوضى الخلاقة ـ حسب توصيف كوندوليزا رايس ـ أفرزها حكم الجنرالات بصورة متعمدة . ويخطئ من يظن أن تصرفات المجلس العسكري الأعلى نجمت عن ضحالة الخبرة السياسية؛ إذ يقبع خلف قرارات المجلس وإجراءاته وردود أفعاله مستشارون على قدر كبير من الحنكة والدهاء، يحدوهم الحقد على الثورة والثوار. بتأثير مكائد قوى مناهضة الثورة وبأموال النفط المتدفقة على مصر، وضمن ضبابية رؤية الجماهير الشعبية أجريت الانتخابات.
حواجز على الدرب

وهكذا أقيمت حواجز على مسار الثورة المصرية . ومصر تشكل نموذجا لأقطار المنطقة ؛ فهي ، من حيث عبقرية المكان ومستوى التطور الاجتماعي والحجم السكاني، الأكثر نضجا للفرز الاجتماعي ووضوح التمايزات بين التيارات السياسية والفكرية . تتضارب التكهنات بصدد كيفية استثمار جماعة الإخوان لإنجازها الانتخابي. ليس في الأفق من يسعى لتجريدهم من ثمار النصر؛ ولكن هناك من يضغط لمشاركتهم السلطة أو وضعهم واجهة لأنشطته. تلهج ألسنة الأغلبية الساحقة من المصريين بتمنيات نجاح أول تجربة ديمقراطية في إحداث التغييرات المتوخاة على حياة المصريين. والتطلعات عارمة للإفلات من قيود الليبرالية الجديدة ، لتعود مصر بؤرة إشعاع للتقدم العلمي والثقافي والاجتماعي في المنطقة ، ورافعة لهيبة العالم العربي وناصرة فعالة للقضايا العربية ، وقاطرة تخرج المنطقة العربية من المأزق الذي تتخبط فيه. ونظرا لتعقيدات قد ترجئ تحقيق هذه التطلعات فلا أقل من التمسك بالنواجذ بما انتزع من حريات ديمقراطية وتوسيعها باتجاه إشراك المزيد من جماهير الشعب في الحراك السياسي، وتغدو بانية واعية لمصر التقدم والرخاء الاجتماعي.
والمثير للقلق في هذا المجال أن الجماعة الإخوانية لم تع بعد قيمة الديمقراطية وحرية التعبير. وعموما ،بالنظر لضعف الخبرة الاجتماعية بالسلوك والإدارة الديمقراطيتين، فما زالت قوى الديمقراطية مقصرة في نشر ثقافة الديمقراطية في الحياة السياسية والاجتماعية؛ ويتطلب جهدا عانيا ومثابرا تحويل الديمقراطية نمط حياة وأسلوب معايشة . لم تحسم الجماعة بعد الموقف بصدد النهج الذي سيتبع لحل القضايا الملحة ، ومقاربة المشاكل المتشابكة نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ وهناك انتخاب الرئيس وتشكيل لجنة وضع الدستور ثم صياغته ضمن ملابسات ضغط الوقت والغموض الكثيف في النوايا تجاه الثورة .
وهناك أيضا موقف السلفيين المعيق لبعث الثقافة من رقادها . والثقافة كحاجة اجتماعية لا تبرز لدى المجموعات إلا بعد تلبية حاجات المأكل والملبس والمسكن والأمن. بعد ذلك يتطلع الناس للعلم والثقافة. وللجماعة موقف محسوم ضد التقدم. السلفيون كافة يحملون إرث المجتمع العربي المتديّن، وفي عصر العولمة ركبوا الشطط في ترويج وإشاعة التعصب الديني، ولم يدفعوا باتجاه «صحوة دينية روحانية» تبدد معالم الأمية الدينية لدى جمهور واسع من المجتمع، ولم يطوروا الهوية الثقافية للأمة. فليس هناك من ملمح تجديدي في الفكر الإسلامي التقليدي يشكّل «نهضة» أو مشروع تحديث وتوحيد. والمعروف تاريخيا أن سلفية حسن البنا مستوحاة من ردة محمد رشيد رضا عن الفكر التنويري للإمام محمد عبده، وتستلهم الفقه الوهابي السعودي الذي ارتبط به منذ باكورة نشاطه. يدفع السلفيو ن باتجاه ممارسة التضييق على حرية الفكر والضمير والتعبير. وكانت محنة نصر حامد أبو زيد النموذج والمثل الصارخ. اختزلت في محنة أبي زيد محنة الثقافة والمجتمع . فقد انطلقت من رحاب الجامعة . وبدل أن يجري حوار خصب في إطار فكري وعلمي قام السلفيون ، وممثلهم ( البروفيسور) عبد الصبور شاهين بتهريب القضية خارج الميدان الأكاديمي إلى خطب الجمعة ومحاكم الجنايات. لم يجد السلفيون في ذلك الحين لديهم القدرة على مقارعة منهجية البحث العلمي لدى نصر حامد أبوزيد، فتحايلوا.
والجماعة تواصل الاتكاء على سلطة العسكر، رغم التفاف أغلبية شعبية حولها تجسدت في صناديق الاقتراع. بدأت علاقتهم المكشوفة بالعسكر عندما اختصوهم بإجراء تعديلات دستورية . كانت لفتة محسوبة العواقب ردوا عليها بأحسن منها، وانشقوا عن الثورة. بقوا يتفرجون على الضربات القاسية الموجهة إلى الثوريين ، وأحيانا يحملونهم المسئولية. وأحيانا يفصحون عما يشير إلى انتحالهم مع المجلس العسكري صفة الثورة ونفي الثوريين إلى عالم (البلطجة!) ثم التنكيل بهم بناء عليه! هل في هذا الموقف تواصل مع تقليد استنه حسن البنا حين تبادل الود مع الملك فاروق في ثلاثينات القرن الماضي وخاصم حزب الوفد ، حزب الليبرالية والعلمانية في مصر ، والحزب الأوسع شعبية؟ أثمرت تلك العلاقة تكريس المؤتمر السنوي للجماعة عام 1938للاحتفال بعيد ميلاد فاروق . وفي الأربعينات شارك التنظيم السري للجماعة في الاغتيالات؛ ووقفت الجماعة بجانب الطاغية رئيس الوزارة اسماعيل صدقي، رجل المصالح الأجنبية فى مصر، والذي عرف بعدائه لكل فصائل الحركة الوطنية ومن الناحية الديمقراطية عدوها اللدود. ينقل صبري أبوالمجد في كتاب له ، "وما من مظاهرة خرجت وعارضت وزارة إسماعيل صدقي إلا وتصدى شباب الإخوان المسلمين لها بالسكاكين والعصي. وإني لأذكر يوما دخل فيه طلاب الإخوان المسلمين بقضهم وقضيضهم إلى قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة فؤاد - جامعة القاهرة الآن - بعد أن كسروا الأبواب، وتم عقد مؤتمر كبير لتأييد إسماعيل صدقى، افتتحه الأخ والصديق المهندس الكبير مصطفى مؤمن بقوله تعالى وهو أصدق القائلين: (واذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد، وكان رسولا نبيا)".
وجريا على نفس الاصطفاف الطبقي دعمت الجماعة سياسات الانفتاح الاقتصادي، التي اختطها السادات ، حيث دشن ارتباط مصر التبعي للامبريالية في شتى المجالات؛ وأدخلها في إطار الليبرالية الجديدة. ولا يبدي الإخوان نقدا لماضيهم ، الأمر الذي يشكك في إمكانيات تعديل التحالفات. هذا في مجال السياسة.
أما في مجال الثقافة ولدى عرض مشروع حكومة الائتلاف الوطني التي رفضها العسكر اقترح خيرت الشاطر، نائب المرشد العام للإخوان المسلمين، والمرشح لرئاسة الحكومة الائتلافية أن تتولى الجماعة ست عشرة حقيبة وزارية، هى الإسكان والصحة والتجارة والصناعة والتعليم العالي والبحث العلمي والتضامن الاجتماعي والاتصالات والتخطيط والتعاون الدولي والشباب والمالية والزراعة والبترول والقوى العاملة والسياحة والخارجية. كما اقترح إسناد وزارة التعليم لحزب النور السلفي. وبمعزل عن الخبرة التي كدسها الحزب في مجالات الوزارات التي اقترح تحمل أعبائها فإن خبرتهم في إدارة العملية التربوية والبحث العلمي في مصر عبر عقود متتالية معروفة بفشلها الذريع، ولا تعطيهم حق مواصلة تجربة تعيسة تهيأت لهم مقابل مؤازرة نهج السادات. ومن موقع رفيع أطل الدكتور نصر حامد أبو زيد على التعليم وربطها بشرطها الاجتماعي القائم : "...والتعليم لم يكن حرا ، حيث بقي مع الإعلام والثقافة ، محكوما بالسياسات المستبدة ورهينة التفسخ في النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية". وبصدد التعليم العالي " ... فالجامعة المصرية خربت بفعل عوامل الفساد المنتشرة في المجتمع ككل، والفساد يسند بعضه بعضا. أنا لا أتوقع أن تقوم قائمة للجامعة المصرية في المستقبل القريب، ولا حتى للجامعات العربية"، بالطبع ضمن ملابسات نظام التبعية للعولمة ونفس النتيجة الكارثية حصلت في الأردن بعد ان احتكر الإخوان الإشراف على التربية والتعليم عقودا زمنية متتالية. كانت الجماعة قد كوفئت عام 1957، إثر مساندتها الانقلاب على الحكم الوطني والبرلمان المنتخب ديمقراطيا ، بتفويضها الإشراف على نظام التعليم في الأردن؛ فرعت بذلك ثقافة الاستعمار الجديد، وتردى النظام التعليمي في المدرسة والجامعة إلى ما هو عليه من تدهور. افتتحت في الأردن الجامعات وانتشرت المدارس العليا في القرى والمدن، دون أن يسفر ذلك التوسع الكمي للتعليم عن تغير في بنية المجتمع. لم تتحسن الكفاءة المهنية لدى أجيال القوى البشرية .

يوجد إجماع لدى المهتمين بالتربية على تخلف مريع لنظم التعليم والبحث العلمي في الأقطار العربية كافة. ويجري تركيز المعنيين بخروج مصر من شرنقة التبعية على ضرورة المباشرة برعاية وتطوير البحث العلمي. استشرف الدكتور أبو زيد المستقبل المتقدم للمجتمعات العربية، وهو يقوم بأبحاثه لتملك التراث الحضاري العربي ـ الإسلامي. في أحد أحاديثه الصحفية رد على افتراء خصومه بصدد تاريخية النص: " عندما قلت أن القرآن ظاهرة تاريخية افتكر أولئك الذين هاجموني أنني أدعي أن القرآن ظاهرة وقتية، يمكن إعطاؤها قيمة فولكلورية، وهو تفسير جاهل أو متعمد. ... أنا رجل أحلم بمستقبل أفضل لبلدي ومواطني وتلاميذي، وكانت هذه هي الاهتمامات الكامنة خلف الجهد الثقافي المبذول في كتابي ’ نقد الخطاب الديني‘".أورد البنك الدولي في تقاريره أن التعليم قد تدهور من عدة جوانب في الأقطار العربية كافة. يعتبر تدهور التعليم أحد المصادر الرئيسة لحالة التخلف البنيوي للمجتمعات العربية يتجلى فيها التدهور في جوانب الحياة كافة، الاقتصادية والسياسية والتعليمية – الثقافية والاجتماعية. فهل نستغرب إذ نجد العرب في مؤخرة المجتمعات البشرية المعاصرة في ميادين التنمية وقراءة الكتب وتأليفها وترجمتها وفي ميدان البحوث العلمية، وكذلك في ميدان الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان ومكانة المرأة ؟ حتى في مجال المباريات الرياضية يعجز العرب عن الوصول إلى مباريات النهائي!! ولم يعد لغزا كون المجتمعات العربية هي الأعلى في باب الفساد ونهب المال العام.
وهذا ما يستجيب لرؤية السلفية المعاصرة في مجال الاقتصاد، والمنسجمة مع النشاط العملي للاحتكارات عابرة الجنسية. هبطت مكانة مصر العلمية والثقافية في العالم العربي وارتفعت صولة ثقافة النفط.
ومن المؤسي حقا أن قوى التغيير الاجتماعي ، أو اليسار، لا تعير التربية والثقافة الاهتمام اللائق ، ولا تضع ضمن برامجها ومهماتها بنود إدخال التغيير على التربية والتعليم المدرسي والجامعي.

حرية البحث والتفكير والتعبير

تصادف هذه الأيام الذكرى الأولى لوفاة المفكر نصر حامد أبو زيد . ويبدو أن الذكرى تمر وسط تجاهل تام، ربما بسبب انشغال المثقفين المصريين بهموم الحاضر ، وربما مواصلة لحالة الركود والكساد الثقافيين. فالراحل خاض لوحده شبه معزول صراعه الفكري مع الاستبداد السياسي والديني بقاعدته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، فأُدخل عنوة في محنة قاسية صمد لها بشجاعة واقتدار . وفاقم المحنة ووسعها لتشمل الثقافة والتعليم أن الجامعة منطلق لها والنشاط الأكاديمي المحض نقطة الانطلاق . تهرب العقل النقلي المقلد والقاصر من الدخول في حوار مع العقل المبدع واحتكم إلى التحريم والتجريم.
إن مقاومة الإلحاد احد أسلحة المحافظة في التصدي لحرية التفكير والتقدم. وعبثا يردد العلمانيون أنهم لا ينوون فصل الدين عن المجتمع، فينتاب السلفيين إصرار هدفه خبيث ومدان على أن العلمانية مرادفة للكفر. فالحوار لا يجدي في هذه المجال؛ إنما ينبغي الدفع بقوة لفرض الديمقراطية بما تنطوي عليه من حريات، وفي الأساس حرية التفكير العلمي . التفكير العلمي ركيزة أساس للتحديث والعصرنة، وهو مشدود إليها بحبل صري. إنه الشرط الأولي لتعقيل مظاهر الحياة الاجتماعية كافة، حيث ينشط العقل ويترعرع في الميدان العلمي. إن إدخال العلم في الحياة الاجتماعية، من شأنه أن يطلق الإبداعات في مناحي لحياة كافة، ويحرك قاطرة التقدم. لابد أن ينهض المثقفون بجرأة ضد كل أنماط التضييق على حرية الرأي والبحث والتعبير. في كتيب أصدره المفكر الفلسطيني الراحل ، ادوارد سعيد ، عام 1994، أوجب فيه على المثقف " أن يقول الحق بوجه السلطة ، ولا يقل مبدئية عن المسح وسقراط، يدافع عن المعايير الأزلية للحق والعدل". وكان نصر حامد أبو زيد مثال المثقف الجريء الذي تتطلبه المرحلة، اختزل الحياة الثقافية الجديدة بتصدي الفكر العقلاني للتفسيرات اللاعقلانية للدين، حيث السلفية تثير الأغبرة، وتعمد للترويع ، تملأ الفضاء بالارتباك والإحباط، خاصة حينما تسلط الجهلة وذوي السوابق الجرمية.

وللتدليل على المعدن الفولاذي للمفكر والباحث في رحاب المنهجية العلمية فضل أن يبقى المثابر بإصرار على الموقف. كان بمقدوره التملص من محنته بالتقدم، غير كاذب ولا منافق، ينطق بالشهادتين أمام القاضي ورجال الدين ومندوبي الإعلام، ثم يصطحب زوجته الدكتورة ابتهال يونس إلى البيت، ويحمل أوراقه في اليوم التالي إلى الجامعة ليمارس وظيفته الأكاديمية ... كأنّ شيئاً لم يكن. لكن ذهنية المتبتل في محراب العلم أبت عليه قبول وصاية على الضمير، أو الإذعان ل«سلطة البحث في قلوب الناس». وتجلت بتمامها عظمة المثقف ذي الرسالة وصاحب المشروع الفكري حين وصل بلاد الغرب محاضرا؛ فلم يقبل لنفسه الظهور بمظهر اللاجئ طالب الأمان. قدم نفسه مبعوث ثقافة عربية ـ إسلامية تبحث عن هويتها الحضارية ؛ فبادر بنطق الشهادتين أولا كي لا يفهموه خطأ .
تجسد مفهوم الثقافة في تراث نصر حامد أبو زيد في العقل النقدي المعبر عن الضمير الجمعى المستشرف مستقبل التقدم الاجتماعي، ويسدد الخطى باتجاهه . كان يدافع عن حق المجتمعات العربية في التقدم ونفض الماضي البليد. خاض معركة التفكير في زمن التكفير . لم ترعبه الأفاعي المتربصة على قارعة الطريق. أعلن أبو زيد في العديد من مؤلفاته أنه لا ينكر ألوهية القرآن وأنه يتوقف أمام الوسيط البشري الذي نقله والذي لا يستقيم فهمه ـ بطبيعة الحال ـ بعيدا عن الظروف التاريخية التي نزل. لكن منتصف تسعينيات القرن الماضي شهدت حالة من العدوان السافر على كل الأفكار النهضوية التي دعت الى ضرورة تجديد الخطاب الديني. وقد شهدت هذه الفترة ذرى تجليات العنف الديني في مصر.
تسلح أبو زيد بمفهوم الدلالة التأويلية للنص، ينقب بها متسلحا بجهاز مفهومي استوعب بعمق فقه اللغة. الخطاب البلاغي الجديد استوعب التقدم الذي أحرزته علوم اللغة وعلم النفس ونظريات الجمال والشعرية الألسنية والتقنيات الأسلوبية؛ استوعب وطور بنظرة متجددة منجزات القدامى أمثال عبد القادر الجرجاني، المتوفي عام 1078م، والمحدثين من علماء الأدب العرب والغربيين، ممن وضعوا أدوات معرفية ومفاهيم شكلت أحجار "علم النص". . ثم تعمق الباحث في الدراسات الصوفية، وبالذات في نصوص ابن عربي حول القرآن. كان هذا موضوع رسالة الدكتوراة. وأثناء البحث توصل إلى الاقتناع بأن العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية تقرر مسار عملية تفسير القرآن. وإذا كان القرآن مجال النضال السياسي والاجتماعي والثقافي التاريخي فإنه من ثم مجال النضالات المعاصرة.
ويعود أبو زيد بمفهوم الحاكمية الى الدولة الأموية التي بدأت برفع المصاحف على أسنة السيوف وطلبت الاحتكام الي كتاب الله عندما استجاب معاوية لنصيحة عمرو ابن العاص في معركة صفين، يقول أبوزيد: "ولا خلاف على أنها كانت حيلة أيديولوجية استطاعت أن تخترق باسم النص صفوف قوات الخصوم وان توقع بينهم خلافا أنهى الصراع لصالح الأمويين. إن حيلة التحكيم تكشف عن محتواها الأيديولوجي حين ندرك أنها نقلت الصراع من مجاله الخاص السياسي الاجتماعي إلى مجال آخر هو مجال الدين والنصوص". وقد أدرك الأمام علي ذلك وكان قوله لرجاله: عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم في قتال عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص (وذكر أسماء أخرى) ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا اعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر الأطفال وشر الرجال، ويحكم أنهم ما رفعوها لكم إلا خديعة ودهاء ومكيدة. ويضيف أبوزيد أن "هذا الموقف ترتب عليه نشوء ظاهرة أهدرت قيمة عقائدية، وأسست لظاهرة الحاكمية ويؤكد أن افتقار الدولة الأموية الى المشروعية هو الذي دفعها الى ذلك" . يؤكد الرجل هنا أن هذه اللعبة تكشف عن بداية عملية تزييف الوعي وهي عملية ظل النظام الأموي يمارسها بحكم افتقاده إلى الشرعية التي ينبغي أن يقوم عليها أي نظام سياسي وقد ظلت بنية الحكم طبقا للأسلوب الأموي مسلكاً سائداً في كل أنماط الخطاب الديني المساند لأنظمة الحكم غير الشرعية في تاريخ المجتمعات الإسلامية. بهذا الفهم المتقدم غزير المعرفة، المندمج مع قضية التقدم الاجتماعي، شرع أبو زيد أبحاثه العلمية مطورا ما انتهى إليه الفكر المعتزلي في التأويل المجازي لكل ما يتناقض مع العقل في منطوق القرآن الكريم، والتي لا تزال قاعدة راسخة، وأفاد منها الفكر الإسلامي عبر تاريخه الطويل. اعتبر أن إنكار وجود المجاز في القرآن يخل إخلالاً بالغاً بقضية الإعجاز، التي تعتمد أساساً على التفوق الأسلوبي والبلاغي للغة القرآن.
اندفع الباحث في جهده الثقافي مستلهما قضية التطوير الشامل للحياة الاجتماعية ، وتقديم الثقافة التنويرية المرشدة لحركة البناء الاجتماعي التقدمي. بعد صدور قرار محكمة النقض بتطليقه من زوجته شرح تجربته الرائدة في حديث مع صحيفة " الأهرام الأسبوعي" فأوردت الصحيفة على لسانه : "وهذا ما كشف لي خطورة ترك تفسير القرآن ضحية العشوائيات والأمزجة. .. ومن هنا رحت أتفحص الإطار الذي تمت فيه دراسة القرآن لدى مختلف المدارس". وبدون تهيب او تردد دخل أبو زيد هذا المجال متقحما بمنهجية العلم وبروحية الباحث العلمي . في الغربة وازن نصر حامد أبو زيد بين انتمائه الثقافي وبين ثقافة الغرب الذي يعمل فيه. تجنب منزلق البحث عن اعتراف المؤسسات الأكاديمية الغربية والحفاوة به. وعي بوضوح أن المنزلق قد يحرمه من الانتماء إلى المجال الثقافي الغربي، بينما يضيع بوصلة المحافظة على انتمائه الى مجاله الثقافي الأصلي. ويقول أبو زيد: " أما بالنسبة إلي، فأنا هنا أستاذ زائر وهي صفة تجعلك جزءاً من المؤسسة الأكاديمية ولكنك في الوقت نفسه تنتمي الى فضائك الثقافي الخاص. وإذا كنت أنا نفسي ضد فكرة ان أعيش بإحساس الضحية، فإن سعادتي كانت كبيرة لأن الجسم الأكاديمي في جامعة ليدن لم يتعامل معي كأستاذ ينشد الحماية بل كأستاذ زائر له شرفه الخاص كمفكر وكإنسان، ولا يرضى أن يتاجر بقضيته."
بقي الفقيد جذريّاً في شجاعته الفكريّة. لم يتنازل عن قناعاته على شبكات الأثير كما فعل بعض زملائه، لا ولم يسقط مثل بعضهم أيضاً في لغة المُلاسَنة المجانيّة والسفسطة الاستعراضيّة التي تحفل وتحتفل بها الفضائيّات العربيّة. ظل ذلك الصوفي الناسك في محراب العقل حتى وهو في ديار الغربة. رأسماله هو فكره النقدي. كتبت مجلة أخبار الأدب المصرية، تنعيه وجاء في النعي : السفاهة ان تنتصر السفاهة مستغلة قانوناً عجيباً هو قانون الحسبة، كي تحاكم الفكر بلغة الرعاع، وتمتحن الفلسفة بمنطق الخرافة، وتجبّ تاريخ الفكر العربي والإسلامي، وترميه في سلة المهملات. السلطة هي التي ارتضت تقسيما وظيفيا بينها وبين الظلاميين، تعطيهم الثقافة والمجتمع، وتُحكم قبضتها على السياسة". وبعد صدور الأحكام القضائية ضد الباحث العلمي عدلت الحكومة المصرية قانون الحسبة بقصر رفع دعوى الحسبة على النائب العام وحد ونزعه من أفراد المجتمع .

في إحدى المراثي بمناسبة رحيله المباغت قال كاظم جهاد ،" لحظة استثنائيّة أخرى جمعتني بالفقيد، تمثّلت في قراءتي مجموعة دراساته المعنونة «إشكاليّات القراءة وآليّات التأويل». يندر في اعتقادي أن تجد في الدراسات الحديثة والمعاصرة كتاباً أكثر إضاءة منه لبعض أخطر مسائل البلاغة العربيّة وتداعياتها الفكريّة. وعلى رأس هذه المسائل يقف ثنائيّ المجاز والحقيقة، يعرضه أبو زيد عبر الفكر العربيّ القديم كلّه، اللغويّ منه والدينيّ، مع تركيز على الأشاعرة والمعتزلة، بلغة جمع فيها التبحّر إلى الكثافة العالية والتعليل الرّصين".

وقريبا من مجال نشاطه اشتغل محمد أركون، لكن في فرنسا بعيدا عن قاذفي حجارة التكفير. تركز مشروعه حول " نقد العقل الإسلامي" . استرعى اهتمام أحد مترجمي أعماله إلى العربية، أن "سيطرة الفهم الحنبلي الوهابي ألظلامي على تفسير الدين أغرى البعض بالاعتقاد ان الإسلام دين مضاد للعقل! وهذا من اكبر الأخطاء. فالإسلام هو دين العقل بامتياز إذا ما فهمناه على وجهه الصحيح، أي كما كان يفهمه ابن مسكويه والتوحيدي والفارابي وابو الحسن العامري وابن رشد وكل الكلاسيكيين الكبار. " إن مراجعة أعمال المفكرين الإسلاميين في العصر الوسيط يظهر عرقا نفيسا من تراثنا العقلاني ومنتجه الحضاري والإنساني، طمسه التزمت والتعصب، حجبه بعد أن كفره طيلة عصر الانحطاط وموت الفلسفة.
القطيعة مع شوائب إرث الماضي ، بكل ما شابها من فساد واستبداد هو بعض مهام الثقافة. إنه إحدى جبهات الصراع بين التقدم والمحافظة. فقدت الجبهة نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون، وبرحيلهما منيت بخسارة لابد من تعويضها . تركا أبحاثا ودراسات تلح على مواصلة البحث لردع ثقافة التعصب والتزمت.
تقوم علاقة جدلية بين قوة المجتمع المعنوية والمادية، الاقتصادية و العسكرية والسياسية، وبين إنتاج العلوم والتقاني، وإشاعة المنهجية العلمية في مقاربة قضايا المجتمع. وهو ما تفتقر إليه الأقطار العربية. فما لم تتفاعل المدرسة والجامعة مع تنمية اقتصادية واجتماعية ضمن إطار التحرر والديمقراطية والتقدم فإن مستخرج الزيادة العددية في أعداد المتعلمين والمتعلمات يظل جمهورا من الموظفين البيروقراطيين، وكتلا من العاطلين عن العمل المفتوحين على الأنشطة الإجرامية .



#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السلفية والعولمة
- سلفية العصر الحديث
- التكفير يقتحم المشهد الثقافي
- اليسار وقضايا الفكر والثقافة التراث 2
- اليسار وقضايا الفكر والثقافة
- البعد القومي في مهام اليسار العربي ومركزه القضية الفلسطينية
- التحول الديمقراطي.. أعطاب ذاتية
- الحوار المتمدن في العاشرة من عمره المديد
- مصر والثمار المرة للطغيان
- أشباح تحوم في فضاء مصر
- الخروج من متاهة التفاوض
- ردع تدخلات الامبريالية أولا
- بنية نظام الأبارتهايد الإسرائيلي وشروط تقويضه
- غولدستون المغلوب على أمره
- مأساة ليبيا بين آفات القذافي ونهم الاحتكارات النفطية ´- الحل ...
- ليبيا بين الآفات النفسية والذهنية للقذافي وبين نهم الاحتكارا ...
- الحق حين يسخره الباطل
- الدولة الوطنية من حلم إلى كابوس
- بعض الملاحظات على كتا ب -رؤية بديلة للاقتصاد الفلسطيني من من ...
- الديمقراطية الأميركية معاقة بالكساح


المزيد.....




- رئيس وزراء فرنسا: حكومتي قاضت طالبة اتهمت مديرها بإجبارها عل ...
- انتخاب جراح فلسطيني كرئيس لجامعة غلاسكو الا?سكتلندية
- بوتين يحذر حلفاء أوكرانيا الغربيين من توفير قواعد جوية في بل ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 680 عسكريا أوكرانيا وإسقاط 13 ...
- رئيس جنوب إفريقيا يعزي بوتين في ضحايا اعتداء -كروكوس- الإرها ...
- مصر تعلن عن خطة جديدة في سيناء.. وإسرائيل تترقب
- رئيس الحكومة الفلسطينية المكلف محمد مصطفى يقدم تشكيلته الوزا ...
- عمّان.. تظاهرات حاشدة قرب سفارة إسرائيل
- شويغو يقلّد قائد قوات -المركز- أرفع وسام في روسيا (فيديو)
- بيل كلينتون وأوباما يشاركان في جمع التبرعات لحملة بايدن الان ...


المزيد.....

- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد
- تشظي الهوية السورية بين ثالوث الاستبداد والفساد والعنف الهمج ... / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سعيد مضيه - مشروع نصر حامد أبوزيد