أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الاطفال والشبيبة - عبد الله العلوي أبو أياد - الخلفيات النفسية والتربوية لنزلاء الشوارع وتحديات العلاج والتأهيل والإدماج















المزيد.....



الخلفيات النفسية والتربوية لنزلاء الشوارع وتحديات العلاج والتأهيل والإدماج


عبد الله العلوي أبو أياد

الحوار المتمدن-العدد: 3642 - 2012 / 2 / 18 - 19:45
المحور: حقوق الاطفال والشبيبة
    


تعرف المجتمعات الإنسانية المعاصرة حركات سوسيوتنموية متميزة تستهدف صياغة مقاربات من أجل حماية الناس وسلامتهم ونمائهم . وهي مقاربات تخالف من مجتمع لأخر كما تختلف من حيث الرؤى والرسائل والمناهج وأطقم التأطير وآليات التقييم حسب صنف الأفراد الذين تستهدفهم هذه المقاربات بناءا على خلفياتهم النفسية والتربوية ومتطلبات العلاج والتأهيل والإنماء والحماية والإدماج التي يحتاج إليها كل فرد في مرحلة الطفولة.
لدى يبدو لدى الباحث والمتتبع في الحياة المعاصرة أن هناك نموا كبيرا للخبرات السوسيوتربوية المتخصصة في العناية بالبشر ، تطال مجالات متعددة ويشتغل لديها أعداد كبيرة من المتخصصين وفق رؤى ووسائل ومناهج وبرامج ونظم إدارية ومالية تختلف وتتفاوت في أعمالها بين إدارة رعاية الموهوبين والمتفوقين ، وإدارة أصحاب الاحتياجات الخاصة وإدارة أصحاب السلوكيات الجانحة،وإدارة مأوى الأيتام والعجزة ومأوى الأشخاص في وضعيات صعبة. بالإضافة إلى مراكز الترفيه وأنشطة العطل ، والأنشطة الموازية للعمل المدرسي والمهني . وبهدا يكون الشخص موضع إهتمام كبير من جانب العالم الحديث باعتباره ثروة إنسانية تحتاج إلى عمل منظم يركز على الجوانب النفسية والمعرفية والإجتماعية والصحية وبموازاة ذلك إزدهر البحث العلمي في مجالات التنمية البشرية على الأصعدة الطبية والنفسية والتربوية والمعرفية رغة في ترقية الحياة الإنسانية إعتمادا على أهم ثروة تحتل الصدارة في إنشغالات الباحث العلمي والمقرر السياسي والمدير الإداري على الأصعدة الوطنية والدولية.
إلا أن البحث العلمي الميداني المتخصص في قضايا الإنسان ، وما تم التواصل إليه من نتائج يؤكد أن هناك جهود علمية وتنظيمية تهتم بالناس ، لكنها لم تتجاوز نطاق الشكل داخل العديد من المجتمعات التي تعطي عناية للجوانب المادية دون الجوانب المعنوية ، في حين أن البشر في مناطق أخرى من العالم يرزح تحت نبر التدمير والإبادة والتشريد والمجاعة عبر القصف الصاروخي بالطائرات والحصار الإقتصادي والحصار المعرفي.وهي أحوال تفرضها نزعة الرغبة في الهيمنة والإستحواد . وهو ما يخالف في العمل أحكام المادة6 من الإتفاقية الدولية لحقوق الطفل ، التي تنص على إعتراف الدول بأن لكل طفل حقا أصيلا في الحياة ، تكفله الدول الأطراف إلى أقصى حد ممكن ،على قاعدتي البقاء والنماء . لكن من أهم المعاناة التي يعانيها الناس في العالم المعاصر كثيرا ما يعود أصلها إلى الصحة النفسية، سواء داخل الأسرة أو خارجها.هو ذلك الإحباط الناتج عن عدم إستطاعة الأبوين القيام على نمو قدرات الطفل المعطلة جراء إضطرابات في النضج وضعف في معايير التقدير المتزن للأمور التربوية خاصة ، وكدا الاستجابات الملائمة لمواقف الحياة عامة . فغالبية الأطفال يعانون من عدم الإشباع الكافي والمطلوب للنمو الطبيعي الصحي والنفسي ، ومن عرقلة التعلم التي تتطلب الخبرات التربوية المثمرة والمؤسسة على العلم المتحدد بالإضافة إلى السلامة الجسمة والذهنية والإنفعالية لدى الأبوين المضمرين للحب بينهما والمتمتعان بالصحة النفسية الكافية لتمكينهما من تقبل كل طفل من أطفالهما بإعتباره طفلا متميزا يختلف عن غيره من الأفراد.فمن المعلوم أن الصحة الجسدية للطفل من الناحية الوراثية تتوقف على الجينات التي يقدمها الوالدين في حين أن الجوانب الإنفعالية والإجتماعية وكذا النمو الذهني والمعرفي أمور تتوقف بشكل أكبر على المناخ النفسي والإجتماعية ومناهج وبرامج التربية والتنشئة المعتمدة داخل الأسرة أو الفضاءات البديلة لها.ولعلا من أهم النتائج المتسمة بالصلاحية العلمية في هذا العدد، هو أهمية إتجاهات الأبوين نحو بعضهما البعض ، ونحو الحياة ، ونحو طفلهما.ونحو علاقته بهما في تشكيل المناخ الأسري . فالأسرة أو من يقوم مقامها هي الجهاز المسؤول عن تشكيل شخصية الطفل خلال حياته المبكرة على النمط الذي ترغمه عليه أن تساعده على أن يكون عليه .
والجدير بالإشارة هو للسنوات الأولى من حياة الفرد أهمية بالغة وتأثيرات قوية عبر ما يطاله في أحواله الصحية وعلى مستوى مل يقع داخل الأسرة.وهو ما دفع بالعديد من المجتمعات إلى التركيز على تطوير الحياة الأسرية وتمكينها من القيام بوظائفها لتأمين حماية الطفل ونمائه.كما خلقت جسور للتعاون بينها وبين المؤسسات التربوية والإجتماعية والإدارية والسياسية والإقتصادية والأمنية والقضائية على قاعدة مفادها إشباع الحاجيات النفسية والمادية والمعرفية لكل طفل بشكل متوازن.لكن مع كل هده الجهود مازال الإنسان عامة والأطفال بالخصوص يعانون من الغربة داخل العالم المعاصر.العالم الذي لا ينشد من مواثيقه وقوانينه إلا توظيف الإنسان في الهيمنة والسيطرة تحت راية الحد الذي لا يراد به إلا الباطل.الظاهر من خلال التقارير والتقارير المضادة على الأصعدة الوطنية والدولية .ومن خلال حالات الغربة وسلوكيات الإنعزال والإنسحاب الذي يعانيه الكثير من الأطفال والناشئين والشباب داخل أسرهم وفي فضاءات الدراسة وفي أماكن العمل.حيث تضيق عوامل الألفة ،ويتسع القلق الأساسي ويسود الغموض واللبس بين الشعور واللاشعور،ويتخلف الحاضر نحو الماضي بشكل مفرط.ويحضر الأخر داخل الذات كضابط مراقب يصمم التحرك.وتتدهور المفاهيم وظروف الزمان والمكان.ويهيمن الخوف والرعب ويضعف الأمن والإطمئنان ويتضأل التذكر والرغبة في التعلم،ويتقلص مستولى الإيمان واليقين ويتسع الشك وإضطراب الهوية أو إنعدامها،وهيمنة الظلام الذي يسمح للأشباح والأفكار اللاعقلانية والخرافات والشعودة وكدا كل الأمور المضمرة في أعماق اللاشعور الجمعي-على رأي كارل بونغ- والتي لا يعرف المرء عنها شيئا أو يعرف عنها بعض الأمور أن تتبوأ مركز قيادة حياته التي تتعرض للتمويت النفسي أكثر من عشرات المرات في اليوم الواحد،بسبب التسميم الذي يطال كل ما كان يجب أن يكون حيا وفاعلا ومتجددا في حياة الإنسان.
داخل هذه الوضعية السيكولوجية التي يعانيها الإنسان المعاصر عامة ، والطفل بالخصوص يمكن الحديث على أطفال الشوارع الذي يعود إهتمام الباحث بأحوالهم منذ بداية التسعينيات في هوامش مدينة طنجة ملاذ كل من يتوخى مغادرة التراب الوطني بحثا عن حياة غريبة في أحوال غريبة بدل غربة في أحضان حياة تعاني من الموت البطيء بشكل تعسفي أعدم الهوية وعمق العزلة الاجتماعية.وفي مدينة القنيطرة التي يعد العيش في أرفقة شوارعها الراقية والمهمشة مسألة مستغربة بل تحولت إلى مجرد أمر عادي ومألوف لدى الجميع رسميا وجمعويا وشعبيا.فهناك من ولد في الشارع وترعرع في أحضانه وتعرض لكافة صنوف الإعتداء والاغتصاب.وأحيل على الإصلاحيات والسجون بالإضافة إلى مراكز الاستقبال الخاصة بالأشخاص في وضعية صعبة.وإنخرط في علاقات جنسية غير مشروعة وأنجب أطفال يعيشون معه في الشارع.بل هناك من تم احتضانه من أجل الدراسة أو التكوين المهني وإسكانه بإحدى مأوي الاستقبال إلا أنه يرفض هده المساعدات ويفضل العودة إلى حضن الشارع .هل صحيح أن هذا الصنف من الأشخاص والأطفال منهم بالخصوص،متمردون ويشكلون خطرا على أنفسهم وعلى سلامة وأمن المجتمع؟.
حسب العمل الميداني،يتبين بأن هناك العديد من الصعوبات النفسية والاجتماعية التي لم تستطع تدابير الإصلاح والتهذيب وبرامج الرعاية الاجتماعية،ونظم العقاب وبرامج الإعلام إدراكها منها ما يتعلق بفقدان الهوية أو اضطرابها.بالإضافة إلى اضطرابات نفسية ومشاكل اجتماعية ومادية وتربوية تسهم في الإندفاع نحو إبعاد الفرد عن نفسه وعن القيام بأعباء الحياة العادية.خاصة في ظل توترات وإحباطات تدفع بالمرء نحو ما يسمى بالإنسحاب الإجتماعي والإنحراف عن مسالك الحياة العادية.في ظل هيمنة إنعدام الدعم والتعاون وتعمق عوامل عدم الإحساس بالمسؤولية ، وإتساع مغريات الهروب من الواقع إلى حياة هامشية توفر العديد من فرص التفاعل والتعاون والتواصل داخل ثقافة فرعية يؤطرها مناخ نفسي يحتوي العديد من القوائم المشتركة غير المقبولة داخل الحياة الإجتماعية العادية.فأطفال الشوارع هم أشخاص منسحبون إجتماعيا يعانون من درجات متدنية من التفاعلات السلوكية والإجتماعية ، حيث يميلون كثيرا إلى تجنب التفاعل مع الغير ولا يقبلون المشاركة في المواقف الإجتماعية بشكل مناسب.ويفتقرون إلى أساليب التواصل الإجتماعي وتتراوح سلوكياتهم بين عدم إقامة علاقات إنسانية أو بناء صداقات مع الأقران إلى كراهية الإتصال بالأخرين والإنعزال عن الناس والبيئة المحيطة وعدم الاكتراث بما يحدث داخل المجتمع.
وأطفال الشوارع لا يوجدون في غالب الأحيان داخل المراكز التي يدعي البعض أنها معدة لإستقبال هذا الصنف من الناس لأنهم لا يقبلون الإستقرار والتنميط الذي تفرضه غالبية هذه المؤسسات التي تعاني في مقدمة معاناتها من غياب الرؤى العلمية والرسائل الواضحة والمناهج والبرامج الناجعة والتأطير الكفء المتخصص وأليات التقييم والتطوير الإستراتيجية.وهذا لا يعني أن ليس هناك جهود تبدل من قبل أغلبية القائمين على هذه المراكز إداريا أو جمعويا من أجل تحسين بنيات الإستقبال وتقديم خدمات الرعاية الإجتماعية التي تؤمن النظافة واللباس والتغدية والصحة والإقامة والترفيه لكنها لم تقوى بعد على إقتحام الواقع النفسي الداخلي لهذا الصنف من الأطفال.فهذه المراكز هناك ناجحة في إختضان الأطفال من أسر متفككة أو معوزة وتؤمن لهم التمدرس أو التكوين المهني لكنها غير قادرة عمليا على إحتضان أطفال الشوارع وعلاجهم وتأهيلهم وإدماجهم في الحياة الإجتماعية بشكل محترم،بل وحتى الأطفال الذين يبيتون في الشارع ويحالون على هذه المراكز ويستقرون بها ليست لهم علاقة علاقة بالشارع وإنما قد وجدوا صدفة في حالة التيه أو الإهمال ولم تطبق لفائدتهم القوانين الخاصة بتكفل الأطفال في حالة إهمال.ففي التعامل مع هذا الصنف يتبين أن أكثر من35% من عينة تتكون من 80 شخص هم أطفال تم التخلي عنهم منذ الولادة عاشوا ظروفا صعبة لم تسمح لهم بتمثل الأبوة أو الأمومة أو الأخوة...عاشوا داخل مراكز أو تم إلتقاطهم من الشارع بعد ولادتهم بكيفيات غير مشروعة ومنهم شيماء:شابة في العشرينيات من عمرها،تعيش في الشارع منذ السن الثانية عشر بعد أن قضت فترة طفولتها الأولى مع زوجين إلتقياها في أحد أزقة القنيطرة وهي في داخل علبة كرطونية.فعملا على إحتضانها وتربيتها.إلا أن وفاة الزوجة وتزوج الرجل من مرأة أخرى أخبرت شيماء بأنها ليست إبنة لهذه الأسرة وإنها مجرد لقيطة ولا مكانة لهل داخل هذا الوضع الجديد بعد وفاة المرأة التي قامت بتربيتها مما أرغم شيماء على الخروج إلى الشارع بحثا عن هوية وعن وجود بعيدا عن ذلك الواقع المصطنع محملة بقلق شديد بعد صدمة عنيفة في غياب الرعاية الإستثنائية المتخصصة والتفهم العميق لمشاعرها التي لم تجد لحد الآن أي فرصة تمكنها من التعبير عنها.عاشت شيماء أكثر من 15 سنة في أحضان الشارع من أناس يختلفون سيكولوجيا وإجتماعيا في أسباب إنخراطهم داخل حياة الهامش.ولكنهم يتقاسمون العديد من الإتجاهات السلبية نحو ذواتهم وأسرهم ونحو القائمين عل القانون ونحو الأخرين...يتودهم أحوال عصابية يتحملونها وتلهوا بهم رياح الأمن والقضاء فيزج بهم داخل السجون والإصلاحيات ومراكز استقبال الأشخاص في وضعية صعبة.ثم يعودون فتجمعه رابطة الشارع إطارهم المرجعي ومجال ممارسة ثقافتهم الفرعية وعنوان من الذين يعتبرون أنفسهم مكافحون لظاهرة أطفال الشوارع إدراكها.فشيماء التي أحيلت على الإصلاحية أكثر من مرتين وسوقت بها بعض الجمعيات نفسها كمنتج لعمل تربوي وإجتماعي يعتني بهذا الصنف من الناس.شيماء التي أحيلت على السجن مرتين بتهمة الفساد،قد أنجبت طفلها الأول لكنها لم تتخلى عنه كما فعلت بها أمها،بل احتضنته وتحرص على تربيته حسب مقومات شخصيتها وانطلاقا من حقيقة ثقافتها النوعية داخل الشارع وهو تأكيد لاشعوري لهذه السيدة على رغبتها في صياغة هوية وليدها حتى لا يحرم منها كما هو الحال بالنسبة لأمه.شيماء لا تقبل بالحياة المنزلية وتعتبرها نوعا من التضييق عليها ولا ترغب في التعليم أو التكوين الحرفي أو حتى العمل.ليس لأنها غبية أو لكونها لا تتوفر على الإستعدادات كما يدعي البعض،بل لأنها لم تحسم بعد أمر هويتها وترسيم كينونتها بشكل سليم وهي أمور تتطلب عملا سيكولوجيا وتربويا متخصصا لا يمكن تأمنه من لدن أي كان من الناس.فها هي شيماء تنجب الوليد الثاني في أحضان الشارع ووفق قيمه وثقافته دون أن يأبه بها ودون أن تحضى بأي رعاية سوى ذلك العمل الإعلامي المحتشم الذي يريد التنبيه لهذه الوقائع ولو بأساليب قد تكون مختلفة مع ما ينبغي أن يكون.
لقد كان بإمكان شيماء إجهاض نفسها أو التخلي عن وليدها الأول أو الثاني لحاله في الشارع أو لأناس معينين-بيعا أو إيداعا- ولكنها ترفض هذا الأمر وتتعلق بطفليها بشكل مدهش داخل الشارع الذي أصبحت تلعب فيه دور الخليلة لمن هو أقوى من الذكور والأخت الحنون لمن يعاني ضعفا مرضيا أو ماديا والابنة الطيبة للمسنين الذين يحتاجون لخدمتها داخل هذا الفضاء العام الذي تعيش غالبية المهمشين داخله على بقايا المقاهي والقمامات وعلى التسول . فبالإضافة إلى إستغلالهم من قبل شبكات النهب والسرقة والمخدرات والدعارة الذين يمارسون دور السلطة السياسية داخل هذا الوسط ويتجرون على حساب أمثال شيماء.
من الناحية النفسية تعاني شيماء خبرات إنفعالية عنيفة بحيث يصعب عليها تكوين علاقات ودية جديدة بشكل سريع . ولا تقبل العيش داخل مؤسسة إجتماعية أو مراكز خاصة بهذا العنف من الأشخاص . كما أن علاقاتها مع من يراجعونها من الناس أو يودون تقديم خدمات لها تتسم ببرودة شديدة وسطحية في التعامل جراء جروحها النفسية البليغة التي لم تندمل بعد،ومعنوياتها المنكسرة التي لم تستطع ترميمها بعد.
إن شيماء وغيرها من النساء اللواتي تابع الباحث أحوالهن وما يزال ، يعانين من العزلة الإجتماعية التي تبدو جلية في إستمرار حالة الشرود وإنشغال البال، وتجنب المبادرة إلى التحدث مع الأخرين أو القيام بنشاط مشترك معهم . بالإضافة إلى الإحساس الدائم بعدم الإرتياح في مخالفة الغير والتفاعل معه وعدم تمثل السعادة وهيمنة الإكتئاب المفعم بالقلق والكسل والخمول والخوف والرغبة في الإنتحار وكراهية الذات وسهولة الإنقياد لتعليمات الأخر والإمتثال لأوامره وأفكاره وعدم الرغبة في التغيير والطاقة.
ومن الحالات النسائية المنتسبة لأسر الشوارع حالة نسرين .وهي إمرأة في سن الثلاثينات.من أبوين مجهولين تبنتها نادلة كانت تشتغل بإحدى الحانات بمدينة طنجة.إلا أن مرض هذه النادلة دفعها للسفر إلى مكان غير معروف متخلية عن نسرين وهي في سن الثالثة عشر من عمرها. بدون سند أسري أو إجتماعي . حيث تمت إحالتها على الإصلاحية بتهمة التشرد إلا أن ظروفا وملابسات شخصية تفاعلات مع خبرات نزيلات أخريات ساعدت نسرين على الفرار من المركز قصد البحث عن عمل للعيش والإستقرار لكن الأمر كان ليس بالهين . فقد وقعت في فخ أحد شبكات الدعرة التي وظفتها بشكل بشع في ممارسة الجنس وتسجيل أفلام الخلاعة . أنجبت أربع أطفال في ظل حياة الشارع تدعي نسرين أن تعلم والد كل طفل من أطفالها وتصرح بأن إبنتها البكر تعيش في فرنسا بعد أن تخلت عنها لفائدة أسرة أجنبية غير مسلمة . أما البنت الثانية فقد أخدها منها والدها الذي كانت معه في علاقة غير شرعية.والذي تزوج من إمرأة أخرى لا تنجب ، فحضنت على البنت وسجلت كأم لها بسجل الحالة المدنية وهي تعيش في ظروف جيدة لكن نسرين تمتنع عن الإتصال بها حتى لا تخلق لها صعوبات مع والدها.
لكن الإبن الذكر لنسرين والذي يتمتع بقدرات ذهنية ومهاراتية عالية والذي يعيش بمعية أخته الأصغر منه بأحد دور الحضانة تربطه بوالدته نسرين وشائج المحبة والتقدير والإحترام التي لا تتوفر لدى العديد من الأطفال داخل الأسرة(المستقرة).
نسرين التي تعيش على بيع السجائر يالتقسيط والعلاقات الجنسية غير المشروعة والتي تتقن القراءة والكتابة بالعربية والفرنسية وتحرص بشكل قوي على إستثمار تمدرس إبنيها الصغيرين . فهي خلال لقائنا بها كانت في الشهر السادس من حمل خامس في أحضان الشارع لم تتخلى يوما عن حالة طفليها الدراسية.وقد دفعت تجربة هذه المرأة داخل الشارع إلى إمتلاكها العديد من الخبرات المتسمة بالعنف والتحايل على العيش . تحديا بالمشاعر الدونية والخيبة الجنسية من الناحية التحليلية والتي تتجلى لدى هذه المرأة في علامات لاتكيف عصابي.فهي بصفة عامة ترزح تحت نير إضطهاد متعدد الأبعاد يتجلى في الإستعمال الجنسي الرخيص من قبل الأقوياء داخل الشارع والتهميش المعدم لحضورها الإنساني،والنعت بالإنحراف والجنوح في نظر العادات والتقاليد والقوانين بالإضافة إلى الضعف الصحي والنفسي والفقر المعرفي والمهاراتي والإجتماعي والمادي.ومع ذلك فهي متشبتة بأبنائها الذين يسهمون من الناحية النفسية في إعطائها إحساسا بالهوية والحضور رغم كل صنوف المأساة التي تعانيها.
إن هذا الصنف من الناس يعانون من رفض إجتماعي يتمثل في تجاهل الأخرين والمجتمع لهم ومعاملتهم بطرق سيئة مما يعمق لديهم الإحساس بالدونية ويرغمهم على الإنسحاب والإبتعاد عن أوساط لا تسمح لهم بتكوين هوية مكمولة في أحضانها.
وعلى العموم بأن رفض العيش في أحضان البيت أو داخل الأسرة البديلة أو الفرار من مركز الإيواء الإجتماعي والقبول بالنوم والتسكع في الشوارع هو مظهر من مظاهر سوء التكيف لدى الكثير من الأطفال والناشئين والشباب الذين كانت للباحث علاقات عملية معهم على المستوى الميداني في أحضان الشوارع والأوكار المهمشة وفي الإصلاحيات والسجون وداخل مراكز إستقبال الأشخاص في وضعية صعبة.وهي وضعيات سلوكية ناتجة عن عدة عوامل تختلف في نوعها وحدتها ودرجة تأثيرها من شخص لأخر.ومنها حسب ما تم رصده من الناحية المادية:
-وجود إشارات تدل على قدر من الإضطراب في الجهاز العصبي وكدا وجود خلل في عمل الهرمونات في الجسم.
-وجود نقص في المهارات الإجتماعية وعدم المعرفية بالقواعد الأساسية لإقامة علاقات مع الأخيرن وعدم التعرض للعلاقات الإحتماعية.
-الخوف من الأخرين كما أن خبرات التفاعل الإجتماعي السلبية المبكرة مع الأخوة أو الأصحاب مما يجعل الفرد يتأثر ويبتعد عن مخالطة الأخرين.
-إحساس الفرد بالتجاهل وبعدم الإهتمام وعدم التقدير من قبل الأخرين.بالإضافة إلى تعرضه للأذى والألم مما يرغمه على الإنسحاب والهروب من السلوكيات المضطربة لدى القائمين على شؤونه.
-الرفض من قبل الأبوين والمدرسين والكبار بشكل مقصود أو غير مقصود الذي يدفع إلى الإنسحاب والبحث عن عالم الأماني وأحلام اليقظة.
-العادات والتقاليد السائدة وغياب العدالة وإزدواجية المعاملة وهيمنة القمع والضرب والعقاب والتجاهل.كلها أمور تدفع الفرد إلى سلوك العزلة الإجتماعية الذي تشكل حياة الشارع مظاهرها.
إن حقيقة الحياة داخل الشارع كمأوى وملاذ يرغم الأفراد على العيش في أحضانه كثيرا ما يعود إلى عوامل الإستبعاد الإجتماعي والنفسي الذي يمارسه الناس على بعضهم البعض وهوا ما يدعو الجميع إلى ضرورة إعادة النظر في العلاقات السائدة وما يؤطرها من أنماط تربوية وتنشئوية بالإضافة إلى الأنماط الثقافية والسياسية والإقتصادية وذلك بالإقدام على تنمية بشرية حقيقية تنشد النهوض بالإنسان إعتمادا على الإنسان من أجل الإنسان.وهو أمر يتطلب إعادة البناء كمنهج وبرنامج وأليات تستطيع الإسهام في تمكين الإنسان من إشباع حاجياته الأساسية وفي مقدمتها الإحساس بالإنتماء والتقدير وذلك بفك العزلة عنهم عبر التنمية المعرفية والعلمية الإجتماعية بناءا على تعاليم السيكولوجية والتربية الحديثة . إن غالبية القاطنين بالشوارع في حاجة إلى الإعتبار،وليس التصدق أو التفض .فمن هؤلاء من يفضل الأكل من القمامات ولباس الأكياس البلاستيكية والنوم في العراء بدل التسول أو الإستجداء أو حتى العيش في أحد المأوي المتخصصة.وهدا ليس بدعوى أنه لا يدرك مصالحه،ولكن لأنه يحمل أفكارا سلبية عن ذاته وإتجاهات متمردة إزاء واقعه الأسري والإجتماعي . لا يمتلك وساءل التعبير المناسبة للتعبير عنها بشكل سليم،ولا نستطيع نحن فهمها على أنها مظهر من مظاهر الإختلال الذي ينتاب الصحة النفسية،ويحتاج للتمحيص الدقيق وتخطيط العلاج الملائم.ولكن كثيرا ما نعتبره مجرد مشكلة إجتماعية قد نتعاطف معها أو نخندقه في نطاق السلوكيات المنحرفة الجنحية أو الإجرائية التي نرفضها ونقمعها بكافة الوسائل لحماية أنفسنا من خطرها دون أن نأبه بالبحث في مكوناتها ومتطلبات معالجتها.
إن كل الأفراد الذين يتخذون من الشارع العام مأوى هم بشر كرمهم الخالق عزوجل قبل أن تأبه بهم المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.فمن حق الله علينا أن نفكر ونبحث علميا ونجتهد عمليا في وضع المقاربات الكفيلة بالإسهام في إسترجاعهم إلى حظيرة الحياة الإجتماعية المتضامنة وتقطع صلاتهم بكل أسباب الإستبعاد الإجتماعي إعتمادا على مناهج وبرامج تداخلية مباشرة من قبل أجهزة الدولة ومؤسساتها العمومية المتخصصة.أو من قبل الجماعات المحلية أو عبر المبادرة الحرة ،أو من خلال الحركة الجمعوية على قواعد التدبير التشاركي . إلا أن الأمر لا ينحصر في هذا الجانب فحسب،بل يحتاج بالأساس إلى رؤية علمية ورسالة علمية ومناهج وبرامج وآليات تقييم لا يمكن صياغتها والنهوض بأعبائها عمليا من لدن أي كان مهما توفر عليه من قابلية للتطوع ومن جدية وإستقامة ومن قدرة على العطاء المادي.فالأمر هنا يحتاج إلى المعرفة العملية المتخصصة التي نحتاجها كمجتمع يطمح إلى الإنتقال الحضاري بقدرات أقوى على رفع تحديات الحاضر والمستقبل.وليس بالإعتماد على مساعدات الخارج والتبعية له وتوظيف المأساة الإنسانية للأشخاص في سياقات صعبة،ومنهم نزلاء الشوارع.
وعليه،يتبين بأن المغرب في حاجة إلى مناظرات علمية لتقييم وتطوير السياسات الإجتماعية فلابد من تقييم أداء المؤسسات العمومية الإجتماعية وكذا المؤسسات ذات النفع العام.لابد من صياغة مفاهيم وتمثلات جديدة وفعالة على الصعيد العملي لكل من التعاون الوطني والتنمية الإجتماعية والتنمية البشرية والتضامن والإدماج وربط هذه المفاهيم بمجالات التربية والتكوين والثقافة والإقتصاد والمالية والصحة والإسكان والتعمير والعدل والأمن الوطني والبيئة والتجارة والصناعة والصيد البحري والسياحة والصناعة التقليدية وسياسة الأوقاف والشؤون الإسلامية والشباب والطفولة والرياضة.لابد للذين جاءت بهم ثورة الصناديق بالمغرب إلى رئاسة الحكومة من العمل على إحداث القطيعة مع كل سياسة ومناهج وبرامج تنمية التخلف،وإعتماد سياسة إعادة البناء إعتمادا على الإنسان المواطن المشارك الفعال في النهوض بالمجتمع.وهذا يحتاج أولا إلى مقاطعة إقتصاد الريع وإعتماد الزبونية والمحسوبية في المناصب الإدارية العليا بدل الكفاءات.
إن المغرب في حاجة إلى الأكفاء النزهاء من أبناءه لتدبير شؤون العمالات والأقاليم والجهات على قواعد الحكامة الترابية والجيدة.وهذا أمر أساسي لا يمكن لأية حكومة جادة النجاح في غيابه لأن العامل أو الوالي القوي علميا وعمليا والمحصن أخلاقيا سيكون على إستثمار تواصله الأحادي مع الله في تحقيق التواصل الأفقي الفعال والمنتج على كافة المستويات مع المواطنين داخل العمالة أو الإقليم أو الجهة .
كما إن المدير المبدع والمفكر والباحث سيكون قويا على التخطيط والبرمجة وتوسيع آفاق التمويل وتطوير الأداء المؤسساتي المتطلع للنهوض بالمواطنين وبالوطن .
إن نزلاء الشوارع في المغرب عنوان لغربة الإنسان عن نفسه ، مفعمة بالقلق المنتج لفقدان الإحساس بالألم والكرب واختلال الشعور بالذات ، وهو اعتلال يحتاج إلى تحرير الناس عامة ونزلاء الشوارع بالخصوص مع المخاوف غير العقلانية الناتجة عن الضعف والصراع والتصادم الحاصل بين الذات وبين العديد من الأحوال السيئة ، انه معول من معاول تدمير الذات الذي قد يبقى مجرد عرض سيكولوجي دهاني أي قد يدفع بالمرء إلى التماهي مع حالة التنافر التي تطال الفرد في علاقته مع الذات وفي تكوين اتجاهاته نحو الواقع في ظل إمكانية شخصية منهارة غير قادرة على مواجهة مستجدا ته ، الغارق في أوهام الكسب السريع والأخلاق الاستهلاكية والجفاف العاطفي ، واتساع نزعة التملك المادي ولو على حساب الكينونة .
وان يقول المرء بغير ما يعتقده ، وان يراوغ وينافق ويكذب ويسرق ويرتشي ، في ظل القناع المزدوج الذي يظهر البراءة والإنصاف في العلن ، والرذيلة والظلم في السر ، الواقع الذي ننتقد فيه القمع والتسلط والظلم وأحادية التفكير لكننا قد لا نمانع في قبول تفضل المخزن علينا يعظم تعدده دون أن نسال من أي نوع حيواني ينتسب مقابل سكوتنا أو تنضرينا لما يبرر قمع وبطش التسلط ، الذي يعتبر إستراتيجية لاستمرارية هيمنة الوضع القائم وتهميش مراكز أركانه .



#عبد_الله_العلوي_أبو_أياد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- متطلبات تأمين التنمية البشرية
- تحرير الذات أساس كل تحول حضاري حقيقي.


المزيد.....




- إجراء خطير.. الأمم المتحدة تعلق على منع إسرائيل وصول مساعدات ...
- فيديو خاص: أرقام مرعبة حول المجاعة في غزة!!
- محكمة العدل تأمر إسرائيل بفتح المعابر لدخول المساعدات إلى غز ...
- مسؤول أممي لبي بي سي: -المجاعة في غزة قد ترقى إلى جريمة حرب- ...
- الأونروا تدعو لرفع القيود عن وصول المساعدات إلى شمال غزة
- الأمم المتحدة: هناك مؤشرات وأدلة واضحة تثبت استخدام إسرائيل ...
- نادي الأسير: الاحتلال يستخدم أدوات تنكيلية بحق المعتقلين
- رفح.. RT ترصد أوضاع النازحين عقب الغارات
- ميدل إيست آي: يجب توثيق تعذيب الفلسطينيين من أجل محاسبة الاح ...
- بعد اتهامه بالتخلي عنهم.. أهالي الجنود الأسرى في قطاع غزة يل ...


المزيد.....

- نحو استراتيجية للاستثمار في حقل تعليم الطفولة المبكرة / اسراء حميد عبد الشهيد
- حقوق الطفل في التشريع الدستوري العربي - تحليل قانوني مقارن ب ... / قائد محمد طربوش ردمان
- أطفال الشوارع في اليمن / محمد النعماني
- الطفل والتسلط التربوي في الاسرة والمدرسة / شمخي جبر
- أوضاع الأطفال الفلسطينيين في المعتقلات والسجون الإسرائيلية / دنيا الأمل إسماعيل
- دور منظمات المجتمع المدني في الحد من أسوأ أشكال عمل الاطفال / محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبي
- ماذا يجب أن نقول للأطفال؟ أطفالنا بين الحاخامات والقساوسة وا ... / غازي مسعود
- بحث في بعض إشكاليات الشباب / معتز حيسو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - حقوق الاطفال والشبيبة - عبد الله العلوي أبو أياد - الخلفيات النفسية والتربوية لنزلاء الشوارع وتحديات العلاج والتأهيل والإدماج