أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أم الجميع سقوط جوبتر















المزيد.....



أم الجميع سقوط جوبتر


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3636 - 2012 / 2 / 12 - 19:46
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الأعمال المسرحية النثرية (2)


د. أفنان القاسم


أم الجميع

ثلاثية مسرحية


سقوط جوبتر
المسرحية الثانية


الطبعة الأولى عالم الكتب، بيروت، 1989
الطبعة الثانية دار النسر، عمان، 1995
الطبعة الفرنسية دار لامارطان، باريس، 2004


قال لي جان جينيه (( كنت أتمنى كتابة هذه المسرحية!))
إلى جان جينيه والصنوبر



الشخصيات
- صنيعة بنت المقدادي تقوم بدوري أم الجميع والملكة - اثنان من رجال حمد
أبو ريش
- ابنها الأكبر درويش نَفَس المرتينة - المرأة طاحنة القمح
- ابنها الأوسط حمد أبو ريش - خمسة من الخدم
- ابنها الأصغر حسن الشاطر - المرأة الثالثة
- ابنتها ميمونة - مندسون
- حفيدها سيف الدين - مندس
- المجنونة - أشبال
- اللواء أبو الجماجم - رجال ميليشيا
- الطالب - فدائيون
- الأستاذ
- الممرضة - الغاسلات الثلاث:
عجوز - فتاة - طفلة
- أم الممرضة - رجل عجوز
- أبو الممرضة - رجال
- أخت الممرضة - نساء
- الطبيب الفرنسي - أطفال
- الفلاح الثاني -ضاربوالطبول والصنوج
- المرأة الأولي - تمثال فينوس
- المرأة الثانية
- دبابة باتون



(الابن الأصغر حسن الشاطر يستلقي بكتفه الأيسر المضمد على سرير، في مقدمة المسرح كلاشينكوف معلق على عامود. أم الجميع في ثوب ملون تحرك الطعام فوق موقد من الحطب المشتعل، يلفها الدخان، فتسعل)

حسن الشاطر: تعالي يا أمي.
أم الجميع: انتظر قليلاً (وهي تسعل من جديد).
حسن الشاطر: انظري كيف الدخان يؤذيك.
أم الجميع: (ضاحكة وهي تتابع تحريك الطعام) الدخان يؤذيني؟ لو قلت لي هذا في الماضي لما وافقتك، ولقلت لك بكثير من الحسرة والأسى والهم (( آه يا ولدي، من الأحسن أن تسكت، فقد اعتدنا الدخان!)) أما اليوم، كأنني أقف أمام موقد الحطب لأول مرة، وكأنني لا أسقط طوال حياتي في الدخان. كل شيء يتبدل. كانوا يقولون لنا كل شيء عادة، الحياة في الدخان عادة، وفي البرد والوحل عادة، في الجحيم عادة، فقط ليبقوا هم الأحسن دومًا، ولنبقى نحن الأسوأ دومًا، ليبقى بؤسنا! (تسعل هذه المرة بحدة) أترى؟ أنا أسعل بحدة، وكأن هذه لم تكن حياتي! لكن، اطمئن، سأواصل من أجلك. عليّ أن أطعمك، وإلا ما برئ جرحك.
حسن الشاطر: (ملحًّا) تعالي نجلس قليلاً. لست جائعًا. أحلف لك بالقدس!
أم الجميع: (مهددة بالمغرفة) حتى ولو لم تكن جائعًا عليك أن تأكل لتقوى، ويبرأ جرحك، على أن يبرأ جرحك تمامًا، وإلا صرت طائرًا تعرفه العيون (تعود إلى تحريك الطعام) عظام الإنسان مثل سيقان الزيتون، إذا انكسرت لا تنزع الضماد عنها قبل الأوان، وإلا سقطت قبل الأوان. ولماذا سقطنا مرات قبل الأوان؟ لأننا لم نعرف سر الزيتون! (فجأة) إنني... (تدفع قطعة من الخشب في النار) إذا قلت لك هل تصدقني؟ (تمسح عرقها بظاهر يدها، ثم ظاهر يدها بثوبها، وتقترب منه شبه حالمة) وأنا أنظر إليه بين ذراعيك (مشيرة إلى السلاح) أشعر بنفسي أنني عدت إلى الوطن. آه، يا إلهي! معه أجد نفسي، وأجد وطني. هل تصدقني؟
حسن الشاطر: تصدقك أشجار الزيتون.
أم الجميع: (تأخذ مكانًا إلى جانبه) لم أعد خائفة كالماضي. إذا كان عندي خوف، فقد انتهى اليوم (تضم أصابعه) أنا لا أخاف وعلى مقربة مني سلاح بكل هذه القوة وهذا الجمال! أفي هذا شيء من وهم؟
حسن الشاطر: ألجرحي معنى لديك؟
أم الجميع: لجرحك معانٍ كثيرة. جرحك شرفي! جرحك أملي! جرحك الكرامة والنسل!
حسن الشاطر: (ينتفض بسعادة) إذا صار الجرح أملاً زال الوهم!
أم الجميع: (تنتفض بسعادة) صفاء سعيدة اليوم، هل تسمع صوتها؟ يأتي به حداء الريح. وفي الفضاء عقاب عائد من الجليل. أيامك اليوم أيام أختك. أراها تضرب الفأس في الأرض، وهي تحن إليك، بعد أن دفنت النسيان. أذكرها لما كانت طفلة، وأذكرها لما ستكون شيخة.
حسن الشاطر: صفاء تنتفض مع وقع القدم، والأرض تنتفض مع وقع الفأس!
أم الجميع: (تنتفض دومًا بسعادة) اسمع... هناك أصداء. موجة من البحر، وموجة من الشجر. لكنه النصر الذي يصنع العجب! نصركم في ((الكرامة)) أعاد لنا كرامة الجرح، وحنين الخريف للعاصفة... كان ذلك يصعب تصديقه!
حسن الشاطر: كان ذلك يصعب تصديقه دون فعل إرادة الحنين، وتحويل الحلم، وانتقال الأيام بنا إلى محطة الزمن. ظن الأعداء أنهم أنهوا مهمتهم بنجاح بعد أن جعلوا من ((الكرامة)) أنقاضًا، وأرادوا أن ينسحبوا، فإذا بنا نثب عليهم كطيور تذيق الألم.
أم الجميع: (ناهضة وكأنها تخاطب طيور تثب من السماء) أراها كيف كانت هجمتكم، وأنتم تثبون كالطيور الفتية، وأنت تقبضون على الرشاشات القوية! كانت ((الكرامة)) تدعو لكم... (ثم تتبدل لهجتها) خفت عليك، وخفت على أخيك الأكبر درويش، كنتما معًا، وكنت خائفة عليكما! أم طيور النار تخشى الحريق!
حسن الشاطر: (ناهضًا من فراشه) عندما أصابتني الرصاصة، كنا نحاول منعهم من الانسحاب، ترك بعضهم الدبابات وهرب. كان كتفي ينزف، وكان قلبي مطمئنًا، اقتربت من دمي أكثر، ومنك!
أم الجميع: اقتربت من دم أبيك، ومنك، اقتربت مني!
حسن الشاطر: لو لم يقتلوا أبي!
أم الجميع: لو لم يقتلوا أباك لكان بك فخورًا!
حسن الشاطر: أنا فخور بأبي!
أم الجميع: هل تذكر يوم قلت لي إن الوقت مبكر؟ أذكر ذلك، وكأنك قلته منذ دهر. المخيم اليوم كله معكم، البشر اليوم كلها معكم، نحن اليوم كلنا معكم، وأنتم تزدادون بسرعة يومًا عن يوم، وتزدادون قوة. هل تعرف ماذا أفعل كل يوم؟ أنظر إلى الوجوه، فأراها كيف تغيرت، وإلى الحجارة، فأراها كيف تغيرت، وإلى النجوم، فأراها كيف تغيرت، صار التين الأسود صار حلوًا، والمخيم قمرًا! انظر إليّ لتتأكد بنفسك. هل أنا أم الماضي المائج باليأس القاتل؟
حسن الشاطر: أنت أم الحاضر المائج بالأمل الخالص!
أم الجميع: (منتفضة) كل البشر يتطوعون في المقاومة اليوم. هي الأمل. هي الحاضر. وهي أمك إذا كنت تحب أمك... أما الوطن، فهو شيء آخر غيرها وغيري، لن تكون الوطن من بعدي، هي الحقيقة، وهو الحق! كل البشر يريدون القتال لتُسقى الرمال... وأنا سعيدة! أحزن لما أكون وحدي... أما وأنا معكم، فأنا سعيدة! شتلة منزوعة وضعتها في الماء! مرتينة مهجورة ملأتها بالرصاص! حمامة محبوسة رميتها في الهواء! أنا سعيدة! أمس كنت أقول يا ما أطول الغد، أما اليوم فأرى الغد قريبًا من هدب العين! انظر! (تسلط الأضواء على صف طويل من أهل المخيم. حركة صامتة لإجراءات التطوع) عندك برهان أكثر من هذا؟ الكل يتطوع الآن بعد أن تحطم الحديد! هو حديد، لكنه يتحطم!
حسن الشاطر: سنذهب لنعينهم.
أم الجميع: تفكر مثل أمك. لا تترك فراشك أنت، ابقَ هنا. قبل كل شيء، يجب أن يبرأ جرحك، يجب أن يتعافى، وإلا أصابوك من جديد، وما كل مرة تسلم الجرة! سأذهب أنا، وسآخذ معي قدر الأكل بعد أن أغرف لك (متجهة نحو القدر).
حسن الشاطر: (بإصرار) سآتي معك، فلم يعد الجرح يؤلمني. كيف أؤكد لك؟ (يحرك ذراعه اليسرى بصعوبة) أرأيت؟ سأساعدك على حمل القدر. ثقيل عليك! ثم، مللت البقاء وحيدًا كل هذا الوقت. سأذهب،
ولا داعي لتغرفي لي، سنأكل نحن والجميع.
أم الجميع: (وهي تذوق الطعام) بشرط ألا تستعمل ذراعك. كل شيء وله وقته. كل شيء وله دوره. ستتابع ذراعك دورها عما قريب. نحن بحاجة إليها سليمة. نحن بحاجة إلى أذرعكم السليمة كلها، أذرعكم أجنحتنا! (تطفئ النار برشق ماء في الدلو) تعال! أعطني يدك اليمني، يدك السليمة، أترى؟ أطلب العون من اليد السليمة، اليد التي تعمل، وتعرف كيف تعمل، وتنجز العمل. سنحمل القدر معًا، حذار، فهو كالنار! (ترمي له قطعة قماش يقي بها يده) احمل جيدًا، وإياك أن تحرق نفسك. يفتك الحريق في البدن حتى يهلك، ولتفاديه لا يحتاجك أكثر من أن تكون يقظًا (تحمي يدها بطرف ثوبها، ويسيران معًا بقدر الطعام) الخبز في السلة (يريد حسن الشاطر أن ينقل السلة بيده المصابة أثناء مسيره، فتمنعه أمه) لا تكن طائرًا عنيدًا! سأحملها أنا (تحمل سلة الخبز) أما عن الصحون والملاعق والكؤوس، فسنجد عندهم ما يكفي الجميع، سنأكل الطعام، وسنشرب الماء! (في الطريق تأخذ بالغناء)

يا رجالي
تركت دمعاتي السود
أثر في متحف الماضي
وجيت لكم فرحانة
فرحي بلا حدود
أبعد من الحدود
تغيرت أحوالي
* * *
يا رجالي
تركت تيابي السود
وكومة حطب تا تشعلوا ناري
ويصير فحم الليل
نجمة وهج
تطفي الليل وتشعل نهاري
* * *
يا رجالي
كل السر في القبضة القوية
والرصاصة الشقرا
والبندقية
ما عاد لي أسرار
عادت لي الحرية
وبدلنا الكلام
عن الظالم والظلم والقوانين الحديدية
وبدلنا الأحلام
صارت أحلامنا حقيقية
صارت أنفاسنا حقيقية
للخبز طعم الخبز
وللهوا طعم الهوا
وللمَيِّه طعم المَيِّه
* * *
يا رجالي
قصتنا اليوم صريحة
يعرفها البشر
الشمس عيد
والفدائي قمر
* * *
يا رجالي
طريقنا اليوم صحيحة
صحيح خطر
لكن آمال أم الجميع
أقوى من الخطر
* * *
أخطر لكم اليوم وما عدت جريحة
قصتنا صريحة
ما تخفي خبر!
* * *

(تصل أم الجميع وحسن الشاطر إلى معسكر الفدائيين. تشتعل الأضواء في زوايا ثلاث: زاوية أولى يجري فيها تدريب الكبار من أهل المخيم قرب المكان الذي تجري فيه عملية التطوع المستمرة دومًا، زاوية ثانية يجري فيها تدريب الأشبال، وزاوية ثالثة يتجمع فيها فريق من نساء يقمن بخياطة البدلات الفدائية. بحر من الحركة. حسن الشاطر وأمه يضعان قدر الطعام على كرسي وسلة الخبز على الأرض. أم الجميع مأخوذة بما يجري حولها. حسن الشاطر في منتهى السعادة. أمهات أخريات يأتين بقدور الطعام وأرغفة الخبز، ثم يلتحقن بفريق النساء أو يذهبن)

أم الجميع: الكل يعمل معًا، الكل يمد يد العون. في الماضي، كان الكل يعمل أيضًا، ولكن كل واحد في أرضه أو في أرض لعين الذكر الحاج عرقوب. اليوم الكل يعمل معًا، وعلى أرض واحدة (يكون حسن الشاطر قد التحق بالفدائيين الذين يشرفون على انخراط المتطوعين) الصغير يعين الكبير، والكبير يعين الصغير، ما أحلانا كلنا لبعضنا في نهار الصيف! الواحد للكل، والكل للواحد، لا أحد يقول أف ولا آي! فقط أخاف عليهم في الليل، لا أريد أن أحلم حلمًا مجنونًا... لكن حبي لابني الأصغر حسن الشاطر وابني الأكبر درويش نَفَس المرتينة يطمئنني. حاجة أم في الليل يتركها الآخرون وحيدة.
امرأة: (تناديها) يا أم الجميع!
أم الجميع: أم الجميع للجميع، وها هي تجيب.
امرأة: أناديك لأنهن ينادين عليك.
أم الجميع: (صائحة بالنساء) نساء اليوم غير نساء أمس وأول أمس.
بعض النساء: ورجال اليوم غير رجال أمس وأول أمس.
أم الجميع: القوة والجمال اجتمعا آية وصورة.
بعض النساء: الآية والصورة اجتمعتا قوة وجمالاً.
أم الجميع: وهناك طائر يضرب جناحيه ويقول...
المرأة الأولي: ناديتك مرة، فلم تسمعي ندائي.
أم الجميع: لم أسمع نداءك، وكنت أسمع نداء قلبي.
المرأة الثالثة: ارتاحي.
أم الجميع: سأرتاح، يقول المثل بندقية على بندقية بركة!
المرأة الثالثة: بركة وكرامة وصحبة خير!
أم الجميع: أعطوني إبرة وخيط. نحت الزمان يدي، لكن لم يقهرها. لا تزال قادرة على الخياطة... (يعطينها إبرة وخيطًا) وشغل الإبرة. أريد واحدة تلضمها لي (تأخذ الإبرة والخيط امرأة شابة قربها) صار نظري ضعيفًا...
المرأة الثالثة: لا تعدمي النظر!
أم الجميع:... لكني أرى في الليل.
المرأة الثالثة: ليدم لك البصر!
أم الجميع: (تتناول الإبرة من جديد، وتبدأ بتركيب أزرار أحد الأقمصة الكاكية. ثم تدندن)

خيطنا الأتواب
وحبيبي ما انتظر
أخد المرتينة وراح
ع باب السفر
أوف يا قلبي!

(وكأنها تحاكي نفسها) كان ذلك في 36... زمن بعيد. أيام لا أمس ولا أول أمس. كنا نسهر أنا والنساء طوال الليل، ونحن نعمل على ضوء الشمع، ومن وقت إلى آخر ندندن. كانت الأثواب جميلة مثل هذه الأثواب، وكان رجالنا جميلين مثل رجالنا اليوم. بالأمس البعيد كنا نعمل على ضوء الشمع، واليوم نعمل في عز النهار.

(تدندن من جديد)

خيطنا الأتواب
لحبيبي من زمن
أخد المرتينة وراح
تا يعيد الوطن
أوف يا قلبي!

(فريق من ضاربي الطبول والصنوج يدخل المسرح مع زوبعة. أضواء وهاجة. يتجمهر كل من على المسرح بحيث يعملون ستارًا من أجسادهم في الجهة المقابلة للجمهور، وفريق من ضاربي الطبول والصنوج من أمامهم. يضحكون بعفوية. يتحاكون بعفوية. يشيرون إلى العازفين بحماس. يحملون الأطفال على أكتافهم ليروا. بعضهم يصفق، وبعضهم يغني، وبعضهم يزغرد. لحظات كرنفالية. وفي حال خروج فريق ضاربي الطبول والصنوج يتبعه الجميع بهرج إلى الكواليس، والضجة تخفت بالتدريج، إلى أن يحل صمت شامل، والعتمة تخف بالتدريج، إلى أن يحل ظلام شامل. ضوء. أم الجميع في بزتها الملكية المرصعة بالنياشين والأوسمة، على كتفها كاب، وعلى رأسها تاج، وفي يدها صولجان، بصحبة ابنها الأوسط، حمد أبو ريش، ضابط على كتفيه عدد كبير من النجوم، من أمام تمثال فينوس وهيكل دبابة باتون)

الملكة: (غاضبة) أخوك الأصغر يخرج عن طاعتي في لحظة هزيمة وخراب! كيف يمكنه العصيان وأنا أمه؟ وأنا الملكة؟ أليضاغف من حقدي عليه؟ لم يعد لحقدي عليه مكان بعد أن فاضت به البحار! هل أبحث عن كواكب أخرى أرمي في بحارها ما في قلبي من كره أم لولدها؟ من حقي أن أكرهه، ومن واجبه ألا يعصيني... سوف أنزل به نازلة النوازل، وأضربه بالصواعق العواقب، وأدمره تدميرًا! عند ذلك ربما برئت من حقدي عليه، فحقدي عليه يمرضني. قلبي مريض يصرخ من وجع الحقد على ولدي، أتراه ينتقم من قلبي دون أن يعرف؟ ألا يعرف قلبي، فينتقم لي؟
حمد أبو ريش: يعرف قلبك، ولا يستطيع لك الانتقام.
الملكة: (غاضبة دومًا) لا تهددني بأمومتي!
حمد أبو ريش: تهددين نفسك بحقدك عليه.
الملكة: (بحنو وقد راحت تداعبه من وجنته) فلينقذني حبي لك، أنت، يا أقرب أبنائي إلى قلبي! أعطيتك الجاه، وغدًا أعطيك المملكة.
حمد أبو ريش: أود لو أفعل كل ما يسعد أمي ومولاتي.
الملكة: وما الذي يمنعك؟
حمد أبو ريش: حبي الميتافيزيقي لأخي.
الملكة: (غاضبة) وحبي لك أتبيعه لقلب لا يرحم؟
حمد أبو ريش: أنا لا أبيع حبك، أنا أشتريه.
الملكة: (حزينة) تشتريه بحب أخيك الأصغر؟
حمد أبو ريش: بل بكره أخي الأكبر لأخي الأصغر.
الملكة: أهذا هو رهانك لإنقاذ الملكة؟
حمد أبو ريش: بل هو رهاني لإنقاذ المملكة .
الملكة: (قلقة) أفصح برب النجوم!
حمد أبو ريش: إذا ما قضى أخي الأكبر على أخي الأصغر صار من السهل أن نحمي المملكة من دون حقد، وأبقى أنا على حبي لأخي.
الملكة: لن يقبل أخوك الأكبر، لن يقبل... لأنه يحب أخاه مثلك، ولا يحب القتال في الصيف.
حمد أبو ريش: ستصبين عليه جام غضبك، وسيرضخ. على الكبير الغضب وللصغير الحقد، أما لي، فلا شيء غير حبك، أنا ابنك وخادمك.
الملكة: (متحيرة) لن يقبل أخوك أن يقتل أخاك!
حمد أبو ريش: أهذا ما تقوله الملكة؟
الملكة: تقول الملكة ما قالت في اللحظة التي تسقط فيها الظلال. هذا الصولجان لا ظل له، وهذا التاج لا ظل له، وهذه الملكة المعظمة الفارعة لا ظل لها... سقطت الظلال، ولم يبق غيري معي! أتراني لم أحقد عليه الحقد الكافي، أم أن غضبي لأم كانت الملكة، ثم عادت وصارت أمًّا من جديد؟ لكني سأتشبث بحبي الجارف لك، ليبقى حقدي على صغيري الذي دمرني من حيث لا يدري، وهو يذهب عاديًا من وراء لحظته.
حمد أبو ريش: (يستثيرها) هو يدري! هو يدري! وإلا ما فعل الذي فعل! هو يدري، وأنت تدرين، لأن كليكما يريد عرش الآخر!
الملكة: (تقهقه ساخرة) اسمعوا هذا الكلام... لأن كلينا يريد عرش الآخر! أي عرش آخر غير عرشي؟ ألحسن الشاطر عرش غير الخيام؟
حمد أبو ريش: هي سلطته على أي حال، سلطته عليها إلى حد الآن.
الملكة: (غاضبة) بل سلطتي أنا، كيف يجرؤ؟ كيف يخرج عن طوع هذا الظل؟ سأدمره أنا، ولا داعي لوساطة أخيك الكبير، سأدمره أنا، سأخنقه أنا بيدي هاتين، سأضغط على عنقه، فأخنقه، سأضغط بأقصى قواي، وأسمع انهيار أنفاسه، ثم سأرى هروب الحياة من عينيه، وسأستقبل له فرس الموت، ليذهب على سرجها، وهو يحيي مليكته، فأنحني على جثته، وأقبلها، وأبكي.
حمد أبو ريش: الملكة تبكي؟
الملكة: نعم، الملكة تبكي!
حمد أبو ريش: لو كنت مكانك لقتلته دون أن أذرف عليه دمعة واحدة، لأنه يستأهل القتل.
الملكة: سأقتله، وسأبكي!
حمد أبو ريش: هذا لأنك أمه قبل أن تكوني الملكة.
الملكة: هذا لأنه ولدي. اللبؤة تبكي حين تقتل ولدها، والكلبة تبكي حين تقتل ولدها، والذئبة تبكي حين تقتل ولدها، إذن، كيف لا أبكي أنا، سأقتله، وسأبكي... هذا إن استطعت قتله.
حمد أبو ريش: لن تستطيعي، يا مولاتي. لن تستطيع إلا ميتافيزيقيا نفسك أن تبعثه إلى الجحيم.
الملكة: (مذعنة) صحيح، لن أستطيع. ابعث لي بأخيك الأكبر، وسأرى معه ما أرى.
حمد أبو ريش: أمرك، يا مولاتي!

(الملكة تخرج)

حمد أبو ريش: (لنفسه) آه من تلك العجوز الخرفة! لم أر في حياتي امرأة أجبن منها، امرأة تبكي لقتلها ولدها!

(اللواء أبو الجماجم يدخل)

حمد أبو ريش: (بلا اهتمام) لماذا لا تأتي إلا وأنا لا أريدك؟
اللواء أبو الجماجم: في الأمر ما هو هام!
حمد أبو ريش: (دومًا بلا اهتمام) قل ما عندك، أيها اللواء أبو الجماجم، ثم اذهب في طلب أخي الأكبر درويش، الملكة تريده.
اللواء أبو الجماجم: (بحماس) أتممت إعداد كل ما طلبته مني، أدوات التنفيذ أعدت، الملازم أبو جمجمتين والشاويش أبو جمجمة على رأسها، وهي جاهزة للعمل، وجاهزة للفناء من أجل سيدي.
حمد أبو ريش: (دومًا بلا اهتمام) لم يزل الوقت مبكرًا لقتل الملكة (اللواء أبو الجماجم مخيبًا) إذا قتلناها الآن، انتقم ولدها الأصغر لها، هو من القوة ما يكفيه للانتقام. لم تحن الساعة بعد، ولكن كن متأهبًا، وانتظر مني الإشارة. اذهب، الآن، وأحضر أخي الأكبر للملكة (يذهب) هذه هي الخطة، أن يقضي أخي الأكبر على أخي الأصغر، لأقضي أنا على الملكة، ساعتئذ، سأذرف دمعتين، واحدة على أمي، وواحدة على أخي، وسأملي على الآخر سلطتي (يضحك)... لأضحك قبل الأوان، دومًا ما تضحك القوة قبل أوانها، وفي اللحظة الحاسمة سأقول لمولاتي الملكة "ها أنت تدفعين ثمن حبك!"

(الملكة تدخل من طرف، وابنها الأكبر درويش نَفَس المرتينة من طرف)

الملكة: (مشيرة إليه بصولجانها ) تعال إلى أحضاني!
درويش نفس المرتينة: كيف تنسى أمي أنها الملكة؟ كيف تنسى التاج على رأسها وتضمني؟ الصولجان في يدها وتضمني؟ كيف تنسى أني لها عبد قبل كوني ابنًا كبيرًا أو قائدًا عظيمًا؟
الملكة: أنا لا أنسى وأنت عليك الطاعة!
درويش نفس المرتينة: إذا كان احتضانك لي أمرًا أطعه!

(يقترب منها ويدعها تضمه وتشمه)

الملكة: رائحتك رائحة ولدي، وثوبك ثوب قائدي، لكني أنا من تختار لك من تكون.
درويش نفس المرتينة: سمعًا وطاعة لاختيار سيدتي ومولاتي، أنا اختيارك وما تطلبين!
الملكة: وإذا كان طلبي دمًا، هل تطيع؟
درويش نفس المرتينة: أطيع وإن كان دمي.
المكة: (متهدجة) إنه دم أخيك!
دريش نفس المرتينة: دم أخي حمد أبو ريش؟
الملكة: دم أخيك حسن الشاطر!
درويش نفس المرتينة: (منتفضًا) أهبك دمي مقابل دمه أو دم أخي حمد أبو ريش! هو يتآمر عليك، وأنا لا يمكنني أن أفتدي بنفسي إلا أخًا شريفًا!
الملكة: (غاضبة) ما هذا الكلام، أيها المجنون؟ حمد أبو ريش يتآمر عليّ؟ الولد الذي أحبه أكثر من أحب فيكم؟ وحسن الشاطر أخ شريف؟ الولد الذي خرج عن طاعتي، وراح يعمل في الليل والخراب ضدي على هواه؟ هو له حقد أم مخدوعة فاضت به البحار، وأنت عليك غضبي المهول إن لم تقتله لأجل أمك!
درويش نفس المرتينة: أقتله لأجل مليكتي نعم، لا لأجل أمي. أتحقد أم كل هذا الحقد؟ أتحقد أم مثل هذا الحقد؟ وإن غضبت، أتغضب أم كل هذا الغضب؟ أتغضب أم مثل هذا الغضب؟ أنا، يا مليكتي، أختار رائحتي، أما ثوبي، فسأنزعه الآن، لأغادر سلطانك إلى سلطان خيمة منصوبة على جبل، في طريق الريح!
الملكة: (غاضبة) سأدمرك، سآمر الريح أن تدمرك! (تطرده ثم لنفسها) أبنائي من لحمي وضدي! رضعوا من ثديي وضدي! كبروا على ساعدي وضدي! أهذا هو جزائي بعد كل الذي فعلت؟ إنه زمن العصاة! زمن رديء لقلوب الملوك! زمن أهوج لسلطة ليست حكيمة! أين الحكمة إذن في صولجان يقوم في الانهيار؟ أين الطريق إلى المحبة والحقد هو الوحيد؟ ولكن حقدي له وغضبي عليك سيكونان قوة عذابات البشر الراضخ في الدمار. سيرضخون جميعًا في الدمار، ومن رماد جثثهم سأبني قصر عدالتي وبأسي. من رماد الجثث وطحين العقول التي تعفنت ما بين حربين، وأخرى أخذها الخيال على أجنحته، فحلقت في الفضاء مع قائد مستحيل هو ابني الأصغر، وآخر قد هجرني. هل سيعبران نهر الأردن في المساء؟ وماذا سيقولان للسمك وهما في طرق العودة؟ ترى هل سيحكيان عن الملكة؟ وبنفس الحقد؟ وبنفس الغضب؟ هل سينسيان طفولتهما عند حلمة، وينتقمان من رجولة أفلتت من بين أصابعي، ومن حب أخ يتشبث به على حسابي؟ أيقاومني هو بحبي كما يقاومني الصغير بحقدي والكبير بغضبي؟ ولكن كيف يجرؤون؟ كيف يجرؤون على الانتقام مني أنا أمهم، أنا مليكتهم، أنا خضوع كل الآخرين؟ أنا انتزاع نشوة السكير! أنا جفاف شهوة العاشق! أنا غرام عجوز ساخن، وحنان نحلة إلى دملة، ولذة صبي كامدة! كيف يجرؤون على التفكير في هجري وأنا التفكير؟ على الخوض في معركة أخرى وأنا المعركة؟ على الاستماع إلى الشعر وأنا الشعر؟ كيف يجرؤون على قتل غير ما أريد قتله؟ على إطلاق الرصاص من جهة غير تلك التي أنظر إليها؟ على الحلم وأنا الحلم؟ تركوني حلمًا وزمنًا وسلطة، وراحوا حلمًا وزمنًا وسلطة... (تغضب أشد الغضب) لكني لن أتركه، سأضاعف دمار الحلم، وانهيار الزمن وسلطة الخوف، ولن أترك فرصة قهرهم لأحد!

(حمد أبو ريش يدخل)

حمد أبو ريش: لماذا أمي ومليكتي غاضبة أشد الغضب؟
الملكة: ذاك العاق الآخر، أخوك الأكبر، خذلني! رفض أخوك أن يقتل أخاك، واستقال من مهماته.
حمد أبو ريش: لم يستقل، يا مولاتي، لأنه بدل رأيه في آخر لحظة، وجمع من حوله عددًا من الضباط (ثم بمكر) سمعت أنه يزمع الإطاحة بك، يا مولاتي، لينصّب نفسه ملكًا.
الملكة: (متوترة) العاق! أضعت أثمن فرصة كان يمكن فيها قتله! ماذا سأفعل الآن، وهو يزمع أن يفعل ما سيفعل؟
حمد أبو ريش: (بمكر دومًا) أن تفاوضي أخي الأصغر.
الملكة: هل جننت؟ أن أفاوض حقدي؟ أنتحر ولا أفاوض حقدي!
حمد أبو ريش: أن تفاوضيه، وأن تضعي رأس أخي الأكبر على مائدة المفاوضات. هكذا نعيد السلام إلى المملكة وإلي نفس الملكة.
الملكة: (قلقة مترددة) أفاوضه؟ كيف أفاوضه؟ هل أفاوضه، فأصنع منه طرفًا في الشرعية، وهو قاطع طريق؟
حمد أبو ريش: استعملي، يا مولاتي، ثعلبة الحكمة ثم اضربي بسيف الدهاء. أظهري له عواطف أخرى يبحث عنها لديك، وسيخضعه قلبه لسلطانك.
الملكة: (قلقة مترددة دومًا) هذا دور لا تتقنه سوى مجنونة! (تذهب إلى أحد الأبواب وتسأل) أين ذهبت مجنونتي لأطلب منها الحكمة؟ (تنادي) يا مجنونة! يا مجنونة! أيتها المهرجة الصغيرة! يا مهرجة الملكة! الملكة في مأزق لن يخرجها منه غير الجنون!
حمد أبو ريش: سأبعث من وراء مجنونتك في الحال، يا مولاتي.
الملكة: اجعلها تأتي لأسوطها بسوط ميتافيزيقيا الجنون. لأعاقبها على الغياب في لحظةٍ يحتاج إليها العقل (يريد الذهاب... فتوقفه) انتظر! ابعث من وراء أخيك الأصغر، أولاً، رغم أني أعرف مصير الحديث معه، سنرى كيف سأكون مهرجته، كيف سيكون مليكي وأنا مجنونته! (تصرفه، ثم لنفسها) علي أن أستعد، أن أخلع الكاب والتاج والصولجان (تخلعها) وألبسها لفينوس (تلبسها له) هكذا أكسو العراء الخالد!

(المجنونة تدخل)

المجنونة: ماذا أرى؟ تتعرى الملكة لتكسو حجرا! سيدفأ الحجر، ولن يدفأ القلب!
الملكة: (ضاحكة) هذه فينوس التي لسحرها قامت معارك وسقط أبطال وأعجز الزمن جمالها! هذه فينوس الحب التي لقلبها روما قتلت روما!
المجنونة: وما الفائدة من كل هذا الآن، وقد جعلت ثيابك منها ملكة، وأنت صرت دون ثيابك امرأة؟
الملكة: امرأة أَمْ أُم؟ تأمليني جيدّا قبل أن يأتي، فلقائي القادم معه سينقذني منه، وسينقذه مني.
المجنونة؟ أهو عشيق تريدين قتله؟
الملكة: بل هو ابني!
المجنونة: (تقهقه) انظروا إلى هذه المرأة التي ما أن صارت امرأة حتى خسرت أن تكون أمًّا وأن تكون ملكة.
الملكة: (تردعها) هذه ليست لحظة تعقل مجنون، لا تضحكي، هذه لحظة يتوقف عليها مصيرك ومصيري! وإلا ما علاقة المُلك بالجنون؟
المجنونة: (تقهقه من جديد) صوتي الغبي في القصر هو هذه العلاقة! وأنا أجدني أقرب إلى فينوس من فينوس إلى الدبابة!
الملكة: دبابة؟ أية دبابة؟
المجنونة: دبابة باتون التي ستقتلك بها فينوس.
الملكة: (دَهِشة) تقتلني بها فينوس! أيتها المجنونة! كيف تجرؤين على حدس ما لا يكون حدسه!
المجنونة: (قافزة على هيكل الدبابة) تعالي نلعب لعبة السلم في زمن الخطر، فنحطم فينوس بالمدفع، ليكسونا رماد الجمال. تعالي نجرب لعبة الخطر في زمن السلم، فنحطم المدفع بفينوس، ليُشَكِّلنا دمار العنف، ونضحك بعد أن بكينا! لكنني، أنا مهرجة الملكة، لن أضحك! سأبكي، وسأبكي منذ الآن (تبكي) لأن الملكة ستضحك على بكائي (الملكة تضحك) ولأن الملكة ستبكي على ضحكها بعد أن يأتي ولدها إليها باحثًا عن أمه، لتقول له أنا هي أمك، فيضمها بقوة ولهفة وحرارة، وهي ليست أمه!
الملكة: (تردعها) أخرجي من هنا، أيتها الغراب!
المجنونة: (تخرج وهي تنعق) أنا غراب الملكة، والملكة ترتدي ريشي الأسود، ترتديني في الأعراس ظانة أن ريشي أبيض، ويصير للأعراس لون الحداد، فأنعق، وتطرب الملكة، ظانة أن نعيقي غناء، أهي الغراب أم أنا الغراب؟

(يدخل الابن الأصغر حسن الشاطر، ويرى كيف يستحوذ الغضب على وجه الملكة، فيريد العودة من حيث جاء)

الملكة: (تمسكه من ذراعه) لا تذهب! ليس غضبي عليك، ولا منك، غضبي عليّ ومني!
حسن الشاطر: سيدتي ومولاتي تقول مثل هذا الكلام لي!
الملكة: أقوله لك لئلا تغضب عليّ ومني.
حسن الشاطر: أنا أغضب عليك ومنك؟ أنا أغضب على مليكتي وأمي؟ ولكن أين ثوبك؟ أين تاجك؟ أين صولجانك؟
الملكة: خلعتها لأنزع من قلبي شوكة قاتلة.
حسن الشاطر: كنت أعرف أنك ستصفحين عني.
الملكة: لماذا أصفح عنك، وأنت لم تفعل شيئًا إجراميًّا؟ ماذا فعلت من أمر مشين كي أصفح عنك؟ أنا أصفح عن المجرمين، وأنت لست مجرمًا!
حسن الشاطر: (غير مصدق أذنيه) أحقيقة ما أسمع؟
الملكة: إذن، أتحسبه خيالاً؟ (تطلق ضحكة رنانة) تقدم لألمس رأسك (يركع بين يديها، فتخلل أصابعها في شعره) لألمس وجنتك. لأقرص أنفك وهدبك وحاجبيك. لأشدك إلى نهدي الذابل. ولأنيمك في حضني العتيق. لأرميك في قفص الحرير!
حسن الشاطر: (متأوهًا متحيرًا محبورًا) أمي! أمي! أمي! (يرى دمعة تسقط من عين أمه، فيرفعها لهفًا إلى عرشها، ويمسح لها دمعتها) لِمَ البكاء بعد كل هذا الحنان؟
الملكة: (حزينة) إنه الحنين! إنه الحنين!
حسن الشاطر: مريني أطعك، فأنت الحنان وأنت الحنين!
الملكة: أعطني صولجاني (يعطيها) أعطني تاجي (يعطيها) أعطني دمي!
حسن الشاطر: كيف أعطيك دمك؟ أعطيك دمي!
الملكة: دمك أخذه أخوك، أخذه عنوة، رغما عني وأنا الملكة، فحذار!
حسن الشاطر: أخي الأوسط حمد أبو ريش؟
الملكة: بل الأكبر... (( الدرويش ))! أهي مهزلة قدر عنيد؟ نعم، أخوك الأكبر أخذ دمك، وعليك أنت استرجاعه، إنه واجبك نحوي! عليك أنت استرجاع دمك، وللقدر أن ترسم الطريق!
حسن الشاطر: استرجعه بدم أخي الأوسط حمد أبو ريش، هو يتآمر عليك وعليّ، يتآمر على أخي الأكبر، يتآمر علينا كلنا. هو الدم الحرام، المجزرة، ودرويش أفتديه بروحي!
الملكة: (غاضبة) هذا لأنك تغير منه، تغير من حبي له، وتغير من حبه لي، ومن إخلاصه! إذا كانت المؤامرة شوكة، فهو وردتها! وإذا كانت المؤامرة لسعة، فهو نحلتها! وإذا كنت المؤامرة يهوذا، فهو قبلتها!
حسن الشاطر: (متراجعًا خطوتين) كنت أظن أنك ستسمعين لي بعد أن عدت إلى قلبك عودة الحنين إلى الحمام، ولكن... من أين تأتي المؤامرة؟
الملكة: (تنتصب لتدمره) تتهمني الآن، ومن قبل اتهمت أخاك، فمن المتهم فينا؟ وبأي حق تتهمني؟ يا مجرمًا بقلبي! بمخالبي سأفجر روحك، أو أدخلك قانوني!

(تريد الإمساك به، فيفلت، تنادي على حرسها، فيهرب، تدور دورات عدة من حول الدبابة، تضرب على مدفعها بقبضتها، ثم ترمي بنفسها على عرشها، تنحني، فيسقط تاجها، تتهدج غاضبة، ثم تغادر الخشبة بعجلة. ابنها الأوسط حمد أبو ريش يخفي نفسه من وراء تمثال فينوس، يتجه نحو التاج، ويتناوله، ثم يضعه على رأسه بحذر وانتشاء)

حمد أبو ريش: (مقتربًا من فينوس برأس فارع وابتسامة زهو وخيلاء) ها أنا بحركة صغيرة من أصابع يد تنقل تاجًا سقط على الأرض أمتلك العالم، ويصبح العالم ساحتي المفتوحة على الجمال! هل ترينني فينوس كما أراك؟ نظرة تطل على جوبتر؟ آه، كم كان الأمر سهلاً بعد التنفيذ! كم هي سهلة لحظة التنفيذ بعد أن تكون! كم هي صعبة قبل أن تكون! لأننا قبل أن نوغل في طريق الخطأ أو الصواب نكون بشرًا، وبعد أن يجري التنفيذ نصبح آلهة! وها أنا يا فينوسي أدخل مملكتك، فترفعينني إلى مقامك، ولأجلك لن أتردد بعد عن تحقيق غاياتي، وإن كانت البراكين والحرائق وأنهار الدماء وجبال الجثث والفتك بألف نوع من الطير وألف نوع من السمك والحيتان وسائلي. فالنظام هو النظام! النظام هو الدماء! النظام هو الدماء! النظام هو الدماء! النظام هو الجمال الفاتك بقوة رجل مجنون به! وأنا هو المجنون بجمالك! أنا هو القاتل لأجله! لأن الدمار عندما يكون لا بد له من ثمن، ولجمالك الفاتك أغلى ثمن! أنا هو جوبتر إن أردت أو كوبيدون، فهذا وذاك من إرادة جمالك! (يهجم عليها، ويلقيها في حضنه، يصاب بلوث يجعله يعض بعنف ذراعها المكسورة، ثم تعيده لنفسه نحنحات اللواء أبو الجماجم) لماذا لا تأتي إلا وأنا لا أريدك؟
اللواء: قيل لي إنك بعثت في طلبي.
حمد أبو ريش: بعثت في طلبك، هذا صحيح، ولكن على أن تأتيني ليلاً! (يهم بالذهاب فيوقفه) ليلاً أو نهارًا الأمر سيان الآن وعلى رأسي تاج الملك! (يأمره) اذهب في الحال، أيها اللواء أبو الجماجم، أنت والملازم أبو جمجمتين، والشاويش أبو جمجمة، وألقوا القبض على أخي الأكبر، ارموه في المعتقل، وعذبوه... (تشرخ فم اللواء ابتسامة عريضة منتشية) اذهب وانتظر مني أوامر جديدة... (يذهب. يقول حمد أبو ريش لنفسه) سأعمل بخطة جديدة، وعلي أساس وفائي لأخي الأكبر الذي سأطلق سراحه، سيكون دينًا مقابل دين على حساب أخي الأصغر (يضحك، ثم يقهقه، ويطبطب على مدفع الدبابة وفخذ فينوس، مرددًا) لأجل عينيك الميتافيزيقيتين،لأجل عينيك!

(ظلام)

(ضوء)

(أم الجميع تحفر في الأرض لتزرع عرق زيتون. رجل عجوز يجلس على حجر يتابعها. أطفال يلعبون أو يجرون من حولها. امرأة مسنة وفتاة وطفلة يغسلن ثيابًا مرقطة. امرأة تطحن قمحًا في جاروش، وأخرى تضرب شيئًا بالمدق. فدائي يدرب رجال الميليشيا. في الراديو أغنية ثورية. ميمونة في ثوب الصليب الأحمر تضمد أحد الجرحى بعد أن أخذت التعليمات من طبيب فرنسي يرتدي مئزرًا أبيض ملطخًا بالدم. حسن الشاطر بكتفه المضمد مع مجموعة من الشبان يجلسون على الأرض ويستمعون إلى الأستاذ. بعض الفدائيات والفدائيين يمرون في مجموعات. حركة. المشهد يموج حركة. في كل مكان حركة. في الأزقة حركة. في مكتب التطوع حركة. في البيوت حركة. أحد الفدائيين يودع أمه وأباه وأخته الصغيرة إلى عملية. أمه تضمه، وهي تبكي، وتبتسم، ثم تمسح دموعها، وتبتسم. أم الجميع ترفع قامتها، وعرق الزيتون بيدها، تتابع الفدائي المودع لأهله. تلتفت إلى الرجل العجوز محدثة)

أم الجميع: بالأمس أخذوا لي ابني الأكبر، خدعونا، وحبسوه! لم أستطع منعهم، لم أستطع منعه. صحيح، إذا كبر ابنك خاويه، واليوم لازم ترافقه! والثمن دمعة حزينة أو ساخنة. للشاب محض اختياره. الأب لا يفرض على ابنه كيف يصنع حياته. هو وحده صاحب الطريق. لهذا ترى الأب يودع ابنه، والأم تودع ابنها إلى جزيرته. بالأمس كان الوداع كله أحزان، اليوم لا ترى إلا الوجوه الضاوية بالحزن، والضاوية بالفرح، لأن ابنك ذاهب وعلي كتفه بندقية. بالأمس كنت تقول يمكن أن أراه، ويمكن ألا أراه. اليوم لا ترى عند الوداع إلا الوجوه الضاوية، فالأمهات واثقات. إذا ذهب ابنك سيعود، وإذا لم يعد، سيعود الوطن الأيام القادمة... (يهز الرجل رأسه موافقًا مبتسمًا) أنت أيضًا تعرف هذا. ذهب كل أبنائك. ودعك بعضهم، وبعضهم لم يجد الوقت لوداعك. الحرب هكذا. لكن هذه الحرب ليست كغيرها. لهذا ينبع من خديك الرضى ليسقي خريف حياتك. نحن الكبار لنا الماضي، أما أبناؤنا، فلهم الحاضر والحاضر. هم أغني بكثير! أنت بعت محصول القمح كما فعل أبوه في يوم مضى، لتشتري بندقية. كان ينقصك ديناران، فباعت زوجتك سوار الذهب الأخير. في البداية أحست أنها عارية عندما لم تجد السوار في يدها، فتغطت بأعراف الزيتون! كستها الأرض! وعندما جُرِِحْتَ، وأنت تقاتل، اشتد النبع، وفاض ماء الغدير في تلك السنة. ولما طلبوا إليك أن ترأف بجرحك قليلاً، ليقاتلوا عنك، أبيت، وقلت كما قال أبوه، كما قال ابني عندما أخذوه، وأبيت إلا أن تقاتل، وأبى جرحك على النضب. لكن الجرح إذا صار أملاً صار المستقبل لك! قاتلت أنت وأبوه من أجل هذا، من أجل أن يتحرك المستقبل منا إلى الأمام. نحن الفقراء الذين لا نملك ما نهبه للثورة إلا أبناءنا. ولأن على الثورة أن تنتصر! (وهي تغرس عرق الزيتون) هكذا يقول اليوم ولدي الذي في المخيم، وولدي الذي في المعتقل (تسوي التراب حول العرق، فينهض العجوز، ويأتيها بالماء) شجرة الزيتون تصمد مع الزمن، يزرعها الآباء، ليأكل منها الأبناء، أعرافها كريمة، تكسو كل من يحس بنفسه في العراء... (تسقيها) هل تعرف من أين هذا العرق؟ من هناك. من البلد. أتاني به فدائي شاب، قتلوا له أمه. كان صغيرًا. قال إنني الآن أمه. وأعطاني هدية. عرق الزيتون. سيملأ المخيم عطر فلسطين!

(تدخل المسرح عربة ضخمة ملأى بالطوب يجرها حصان أصهب. تفلت عجلتها، فتسقط على جنبها، ويسقط الحصان على جنبه أيضًا. يأتي رجال ونساء - حسن الشاطر وأم الجميع كذلك - من هنا وهناك يمدون أياديهم نحو العربة الثقيلة، فتلتقي سواعدهم معًا، وينجحون في رفعها. ينهض الحصان، ويعيد أحد الفدائيين وضع العجلة، ثم تتابع العربة طريقها بين كلمات التشجيع. نعرف من الحديث أن الطوب ذاهب لبناء مدرسة في المخيم. الكل فخور. قالوا: في الماضي لم يكن لهم مسموحًا حتى دق مسمار في حائط. تسأل أم الجميع ابنها الأصغر عن أخيه المعتقل إذا كانت لديه أخبار عنه، فيطمئنها بأنه سيحرره. يعود المشهد إلى الحركة. أم الجميع تشتري خضارًا من أحد الباعة الجوالين الصائحين بما تنقله عرباتهم. الرجل العجوز يلف سيجارة، وينفخها. الأطفال يجرون، ويلعبون. المرأة العجوز تذهب ببعض الثياب لنشرها بينما تستمر الفتاة والطفلة في دعك الباقي. المرأة تغربل القمح المطحون. رجال الميليشيا يتابعون تدريبهم. الأسلحة الجديدة تلمع. ((صوت العاصفة)) يبث شعارات حماسية. جريح آخر على نقالة يحمله فدائيان - بعد أن عاينه الطبيب الفرنسي - إلى ميمونة لتضمده. ممرضة تأتي لتساعدها، فالإصابة خطيرة. الأستاذ يوزع على بعض المستمعين إليه مسرحية ((البلكون)) لجان جينيه. حسن الشاطر يتصفح الكتاب بينما يلقي الطالب على الأستاذ سؤالاً حول شعار فلسطينية الثورة، وفي الحال، يتوارد عدد من الشبان، أحدهم يوزع كتبًا حمراء، وثان كتبًا صفراء، وثالث كتبًا خضراء، ورابع كتبًا زرقاء، وخامس صورًا لرؤساء وملوك وممثلين وممثلات، وسادس منشورات بالعربية، وسابع بالفرنسية، وثامن بالإنجليزية، وتاسع بالعبرية)

الأستاذ: شعار فلسطينية الثورة مشدود إلى حصان جامح على ظهره ((بلكون)) جان جينيه الخالد، وفي البلكون يجلس العالم. يعدو الحصان في الخط الفاصل بين البحر والرمل، ويترك آثار الحافر الفلسطيني التي لا تلبث أن يجرفها الموج، فتندمج فيه، أو تذوب. والحصان الجامح يعدو، يتحول العالم في البلكون، مع العدو والحركة، بعضنا يسقط من الحافة، وبعضنا يتشبث بالأعمدة، وبعضنا يصير عنصرًا من عناصر التحول: كل ألوان الأضواء تنطلق من البلكون، أو كل قيثارات اللحن الفقيد، أو كل صبايا الحلم، أو كل دمار البشر، أو كل قطط السجون، أو كل عصافير الشجر، أو كل هيروشيما قادمة، أو كل واحد اسمه غيفارا، أو كل الجماجم، أو كل القبور، أو كل الجنائن، ومن البلكون يمكن أن نطل على الحقد، وعلى الألم، وعلى الهوى، ومن البلكون يمكن أن نقرأ الخبر، ونلقي الخطاب، ونرمي قنبلة تقتل طفلاً ليس عدوًّا، وفيه نُسقى الماء، أو نسقي الفصول، أو نقتتل، منه الانطلاق، وإليه الوصول، هو البرنامج، وهو الميزان، وهو الاستراتيجية... (ضوضاء الشبان الذين يوزعون الكتب والصور والمناشير تزاحم صوت الأستاذ إلى أن تطغى عليه بعد بعض الوقت) والحصان الجامح هو الجزء والكل، يلهث الآن ولا يقف، يعدو الآن في الخط الفاصل بين البحر والغروب، في دم الغد القادم، في لحظة كل القوى التي لها مصلحة في قتل التنين الأعظم ذي الرأس الثلاثي... يضيع صوت الأستاذ تمامًا، فتنشأ مشاجرة حادة بين الطالب والشبان لكن حسن الشاطر يفصل بينهم في الوقت الذي ينسحب فيه الأستاذ وكتابه بيمينه. مجموعة من الفدائيين تقطع المسرح هرولة مع مدربها الذي يكرر توقيعًا على الخطوات: واحد... اثنان... واحد... اثنان... واحد... اثنان... أم الجميع تحمل بين ذراعيها ما اشترت. تمر بميمونة والممرضة وهما تضمدان الفدائي الجريح)

أم الجميع: سأعينكم، بندقية على بندقية رحمة، وأرحم لأجل الشاب الجريح!
ميمونة: جرحه ليس خطيرًا، ونحن فينا خير وبركة!

(أم الجميع تضع من يدها أرضًا، وتشارك في تضميد الجرح، وبعد أن ترمي على مئزر الطبيب الفرنسي الأبيض الملطخ بالدم عدة نظرات فاحصة تسأل)

أم الجميع: من أي بلد هو الأشقراني؟
ميمونة: الطبيب؟
أم الجميع: وهل هناك أحد غيره منحوت من شقار دمنا؟
ميمونة: من فرنسا.
أم الجميع: من الإيقاع الشاعر والكبرياء الغابر؟
ميمونة: من قول الحقيقة بأصابع يد إفريقية .
أم الجميع: ولماذا هو صامت؟
ميمونة: لم يتعلم بعد لغتنا. لغتنا صعبة، أصعب من أخت لها.
أم الجميع: يتعلم لغتنا أم نتعلم لغته؟ لن نتعلم لغته، لغته تنطق فقط. ينطقها الأطفال، فيقولون شيئًا، ونحن لم نعد أطفالاً!
ميمونة: لم الأسف وهو معنا؟ يكفي أنه معنا.
أم الجميع: أهو ماهر كجرح مباغت؟
ميمونة: ماهر، وهو متطوع.
أم الجميع: أمثاله قليلون، منذ أن جاءنا ريتشارد قلب الأسد، ونحن في انتظاره!
ميمونة: لأنه يحبنا جاءنا... كان ينتظر أن يفك لغز دقات قلبه.
أم الجميع: ولأن دمنا لا يكره أحدًا! الدم لا يكره، وإن هدر مجانًا! الديك يصيح فرحًا بعد أن يقطع عنقه السكين، والعصفور يقدم عنقه لصائد يبكي! (ثم للممرضة) كيف حال أمك؟ ما زلتم تسكنون في مأدبا؟
الممرضة: (مبتسمة لسؤال رغم حساسية المهمة التي بين يديها) وأين تريديننا أن نسكن، يا خالة؟ مأدبا ليست الجنة، ولكنها الجنة!
أم الجميع: لماذا لا تأتون كلكم هنا؟ داركم صغيرة، طوبتان على حجر. ومع هذا، غمرتمونا بعطفكم يوم نزلنا ضيافًا عليكم بعد الحرب. بقينا عندكم أيامًا وأيامًا. أمك المسكينة خدمتنا بعينيها. قولي لها أن تأتي عندنا، هنا المخيم كبير يكفي الجميع. مخيمنا النار، ولكنه ليس النار، هكذا تخلصون، على الأقل، من وجع الرأس والرطوبة ودائرة الموتى التي فوقكم! ما زالت فوقكم؟
الممرضة: ما زالت فوقنا. على رؤوسنا. وفي رؤوسنا رائحة الموت!
أم الجميع: فلتأتوا جميعًا، هكذا تتنفسون الهواء النقي، وتعيشون في الفضاء الرحب (تحمل حوائجها، وتريد الذهاب) الله يعطيكن العافية!
ميمونة: (موقفة) لي طلب عندك... أطلب وأجرؤ على إزعاجك.
أم الجميع: أزعجيني!
ميمونة: سأتأخر الليلة بشأن أخي درويش، سنرى ما يمكن فعله لأجل إطلاق سراحه.
أم الجميع: راضية إلى ما بعد عقابي!
ميمونة: خذي بالك على ابني سيف الدين.
أم الجميع: هل يمكن أن أنسى سيف الدين؟ يذكرني بدرويش، ويذكرني بصفاء، ويذكرني بعديم الذكر حمد أبو ريش.
الممرضة: ما زال يريد أن يذهب مع خاله؟
أم الجميع: ما زال يريد، وهذه تريد... (مشيرة إلى ميمونة ثم...) آتِيهِ الدور! تصوري أن ابنتي توصيني على ابنها، وهو طوال النهار مع البنادق. عليها أن توصيه هو عليّ!
الممرضة: غدًا سيكون له شأن!
أم الجميع: (بزهو وخيلاء) هذا هو جيل الصنوبر!
الممرضة: غدًا سيأتي بعروسه إليك!
أم الجميع: غدًا سيناديني من بيروت، فأسمع صوت خاله؟ لكنهم يعذبونه الآن، أسمع صراخه!

(تسير أم الجميع باتجاه مسكنها التنكي، فتعترضها امرأة تودعها طفلها لارتباطها ببعض المهمات، ثم نساء ثلاث أخريات يأتين إليها بأطفالهن على التوالي. تأخذهم أم الجميع، وهي تدعو للأمهات. تدخل بالأطفال إلى مسكنها، ولا تلبث أن تخرج على نداء المرأة طاحنة القمح)

المرأة طاحنة القمح: بعض الخبز لك، يا أم الجميع! كان قمحًا، فصار خبزًا!
أم الجميع: (متناولة الخبز) ألم يبق لك شيء لأبنائك؟ هم لم يعتادوا على الخبز الأسود!
المرأة طاحنة القمح: الخبز الأسود كان لليوم الأسود!
أم الجميع: (ملتهفة) الفقراء اليوم يطعمون الفقراء!
المرأة طاحنة القمح: القمح اليوم أشقر مطبوع بخاتم أحمر!
أم الجميع: زمان كانت الوكالة تعطينا الطحين المغشوش!
المرأة طاحنة القمح: والفول المسوس والعدس المعفن والمارجرين الحزين!
أم الجميع: زمان كانت الوكالة تعتبرنا قطيعًا من الهمج أو قطاع طريق!
المرأة طاحنة القمح: وتحاول بكل الطرق قطع الإعاشة عنا! أولاً لأنها تعتبر نفسها بطحينها المغشوش وفولها المسوس وعدسها المعفن أنها متفضلة علينا، وثانيا - قال - لأن عددنا كبير!
أم الجميع: وثالثا - قال - لأن ابنًا أو أخًا يحاول أن يشد عائلته من صفوف البائسين... مجانين! والله العظيم مجانين! إذا كنا بائسين صرنا مجرمين، وإذا حاولنا ألا نكون بائسين صرنا أيضًا مجرمين! واليوم إذا ضربنا يعقوب في ولده صرنا إرهابيين، وإذا ضربناه في جيشه صرنا أيضًا إرهابيين! العالم لا يعرف، ولا يريد أن يعرف!
المرأة طاحنة القمح: علينا أن نعرف، ونريد أن نعرف.
أم الجميع: علينا أن نضرب، وألا نقع في فخ الاتهام.

(أم الجميع تسير مع المرأة طاحنة القمح، وتمر بالغاسلات الثلاث)

أم الجميع: (للغاسلات) ما زال النهار، نعم، ما زال الغسيل!
العجوز: بقي القليل.
أم الجميع: ما زال الكثير!

(أم الجميع تضع من يدها أرضًا. الفتاة تذهب للنشر. أم الجميع تأخذ مكانها، وتبدأ في الدعك)

أم الجميع: بندقية على بندقية رحمة، وأرحم من أجل الشباب الرايحين والجايين!
الفتاة: (لأم الجميع وهي تنشر) ماذا جرى اليوم؟ كنت أريد أن أطعم ابنة أحد أصحاب المرسيدس كفًّا بحياتها لم تأكل مثله منذ عهد التفاح!
أم الجميع: لو كنت أطعمتها كفين بدلاً من واحد لقلت لك سلم الله يدك العادلة!
الفتاة: جاءت في سيارتها بحثًا عن امرأة تغسل لها الغسيل - قال - غسالتها الكهربائية معطلة! طلبت من جدتي أن تذهب معها، فرفضت، وقالت لها زمن ولى!

(الجدة تبتسم سعيدة، الطفلة أيضًا)

أم الجميع: كل هذا ولم تصفعيها؟ لماذا لم ترمي سيارتها بحجر؟
الطفلة: (متباهية) رميتها أنا بحجرين!
أم الجميع: حجران اثنان فقط؟ هذا وطن ليس فيه غير الحجارة... حجران كبيران أم صغيران؟
الطفلة: حجران جميلان!
أم الجميع: كان من اللازم أن ترميها بحجارة من سجيل! كيف شكلها؟
الفتاة: (وقد عادت إلى الطشت) صابغة وجهها بالمحق، أحمر وأسود وأصفر له بريق شنيع، ولابسة كل الذي على الحبل!
أم الجميع: بالوجه صرماية وبالقفا مراية!
الفتاة: تكون ابنة وزير أو زعيم، من هؤلاء الذين يدعمون الثورة بالكلام! من هؤلاء الذين باعوا الثورة من زمان!
الطفلة: (ببراءة) زمن ولى!

(يضحكن)

أم الجميع: إذا وطأت تلك المرأة عتبتنا مرة أخرى لا تقولوا لها شيئًا، فقط ابعثوا من ورائي، وسترون كيف سيكون شغلي معها.

(تغيب الطفلة داخل بيت تنكي)

العجوز: (للفتاة منبهة) إياك أن تقطعي الأزرار! إياك أن تجرحي الأحزمة! إياك أن تقسي على القبات!
أم الجميع: (عن عمد) بدلات كاكية كثيرة، يا جدتي! بدلات كاكية كثيرة ليد صبية!
العجوز: لهذا أريد ليدي أن تعمل بقدر عشر أياد، وبقدر عشرات السنين، فلم يبق من العمر إلا القليل!

(تعود الطفلة، وبين ذراعيها عدد آخر من البدلات الكاكية. تبتسم العجوز. تبتسم الأم. تبتسم الفتاة. تبتسم الطفلة. يجيء الابن الأكبر، درويش نَفَس المرتينة، من بعيد، وقد غادر المعتقل، مجتز الشعر، عليه آثار الوجع والتعذيب. تنهض أم الجميع بهدوء، ولكن بلهفة لاستقباله، يضمان بعضهما بحرارة. يجتمع من حولهما ناس المخيم)

أم الجميع: (لابنها الأكبر) لم تكن غيبتك طويلة هذه المرة، لكنني أحسست بحريق صنوبرة دام ألف عام!
درويش نفس المرتينة: تدخل حمد أبو ريش هذه المرة، وأطلق سراحي.
أم الجميع: حمد أبو ريش، أخوك وعدوك، يطلق سراحك! من فضل عدوك حريتك أم من فضل أخيك؟
درويش نفس المرتينة: هذه المرة لن أنسى فضله عليّ، لولاه لأماتوني!

(يكون أحد الأطفال قد أعلم حسن الشاطر بإطلاق سراح أخيه، فيجيء ليلقى أخاه. خلال ذلك الأم تتابع...)

أم الجميع: خدعونا جميعًا عندما أخذوك... لم نزل أطفالاً لا نعرف من الحياة إلا وجهها! كيف حالك؟ لقد عذبوك (وهي تجس وجهه متفقدة وعضلاته).

(درويش نفس المرتينة وحسن الشاطر وجهًا لوجه الآن. يضمان بعضها)

درويش نفس المرتينة: (لحسن الشاطر) حمد أبو ريش تغير، هو من أطلق سراحي، وحدثني عن أشياء كثيرة.
حسن الشاطر: لم نفكر أبدًا أن حمد سيطلق سراحك، كنا نفكر فيك.
درويش نفس المرتينة: وأنا أيضًا كنت أفكر فيكم، والآن أفكر كيف أرد لحمد...
أم الجميع: (مقاطعة) حاولنا رؤيتك مرات، لكنهم منعونا. قلنا لهم سبحان الله العظيم هو ابننا وابنكم، تضعونه في الحديد، وتعملون منه مجرمًا. إذا كان الإخلاص ذنبًا، فلا ذنب له إلا إخلاصه! كان لا يريد غير أن يقطع النهر في الليل! قالوا لنا إن جريمتك أكبر!
درويش نفس المرتينة: (مبتسمًا ابتسامة متوجعة طوال الوقت) ها أنا بينكم الآن في الليل والنهار!
حسن الشاطر: ها أنت بيننا الآن ودومًا منذ الآن!
ميمونة: (من وراء أخيها الأكبر) كنت كالسوار المهجور أحس بالفراغ طوال الوقت، أما الآن وقد عدت! تذهب هكذا فجأة، وتعود هكذا فجأة! (تضم أخاها الأكبر، وتجعل ولدها سيف الدين يضمه).
درويش نفس المرتينة: (يُبقي سيف الدين بين ذراعيه) إنه حمد أبو ريش، لولاه لما عدت!
ميمونة: أتراه يخطط لشيء؟ أيمكنه أن يخدعنا؟
حسن الشاطر: لا يمكنه أن يخدع أحدًا!
أم الجميع: وأنتم معًا لن يمسسكم أحد بأذى!
درويش نفس المرتينة: (غاضبًا) كيف يمكن للدم أن يتحول إلى ماء! حمد أبو ريش لن يخدع أحدًا بعد اليوم! آه من حقدكم عليه!

(يوقف سيف الدين على قدميه)

أم الجميع: (رادعة) آه من حقده علينا! كيف تنسى؟ كيف يمكنك أن تنسى؟
درويش نفس المرتينة: أحس بالظمأ... أريد كأس ماء.

(يشرب من يد أمه)

(سيارة لاندروفر تصل من بعيد. يقف سكان المخيم متابعينها بأعينهم، وقد توقفوا عن أعمالهم. تقف السيارة قرب أم الجميع ودعامتها على وشك أن تلامس ثوبها لكنها لم ترجع إلى الوراء خطوة واحدة بل علت برأسها متحدية. يهبط الابن الأوسط حمد أبو ريش، يحيطه اللواء أبو الجماجم واثنان من رجاله، في لباس الشياطين، في الفم سيجار، في اليد صولجان، وعلى الوسط مسدس يتدلى من الحزام. يقترب من أمه، ويضمها، فتزيح عنه رأسها بعيدًا، وتترك ذارعيها على جانبيها جامدتين. يلاحظ حمد أبو ريش ذلك، فيكتم غيظه، ولا يقول كلمة واحدة. يتجه إلى أخيه الأكبر ليضمه، فيستجيب له بحماس. يمد يده إلى أخيه الأصغر، فيمتنع عن مصافحته)

حمد أبو ريش: (لأخيه الأصغر) لا تريد أن تسلم؟ أنا قبل كل شيء أخو رحم لك جئتَ من بعده. في الشدة لن تجد أحدًا قبلي، وفي اليسر لن تجد أحدًا بعدي.
حسن الشاطر: تقول هذا بعد أن عدت أنت الشدة وصرت العسر.
حمد أبو ريش: إن مع اليسر عسرًا.

(صمت حاد)

حسن الشاطر: (صائحًا بكل قواه) ماذا تريد غير ما أردنا؟

(يدور حمد أبو ريش على هينته فاحصًا الوجوه التي تراقبه بتحدٍ وحذر، وهو ينقل السيجار في فمه من طرف إلى طرف. يخفق الصولجان في كفه، وقبل أن يعيد فحص وجوههم من جديد...)

حسن الشاطر:(صائحًا مرة أخرى) إن لم تقل طردناك غير طرد التفاح لآدم!

(حمد أبو ريش يبتسم باستهزاء، ويأتي ببطء شديد ليواجه أمه. يجيل في عينيها نظره بضع لحظات)

درويش نفس المرتينة: نعم، لقد أمكن للدم أن يتحول إلى قيح! وأنا، لهذا، مغادركم جميعًا! إني ذاهب إلى جحيم آخر!
حمد أبو ريش: (لأمه) انظري أية نتيجة جنيت؟ التفرقة وعقاب الأخوة والتبرؤ في المصاب! (ينفخ في وجهها السيجار، فيلفها الدخان) هل هذا جزائي لأني أراكم، وأنتم تنشرون الفوضى، في كل مكان، فأقول، معلهش هم أهلك، على أي حال، وأغض الطرف كأبي جراب؟

(أم الجميع تصفعه صفعة هائلة تسقط له السيجار، فيقبض على وجهه بعنف)

أم الجميع: اذهب من هنا، يا عسبار! ماذا تفعل بيننا، أيها العاشق للجيفة، وقد أطلقنا العنقاء في فضاء العقول، وصرت لنا كالميت الغريب؟ أنت من أمات أنت، ويا ليت تمضي بجثتك، لكنك جبان، تقول حياتي، أما العالم، فإلي الجحيم! وحياتك ذل، والنجوم على كتفك شارات عار القوة الضعيفة في ساحات المهزومين الذين كنا والذين لن نكون، فالعار نمحوه نحن، وأخوك نعيده نحن، قدرنا اليوم شيء آخر غير قدرنا، فالبنادق تكتب قصتنا (تتقدم من ابنها الأوسط هيابة) لم تزل واقفًا؟ لن تحميك منا كل الأقلام الخائنة.

(حمد أبو ريش وصحبه يركبون اللاندروفر، ويغادرون بسرعة. والسيارة تبتعد، يرشقها الأطفال بالحجارة. يعود الجميع إلى نشاطاتهم، وكذلك ميمونة، و((صوت العاصفة)) يغني)

أم الجميع: (لابنها الأصغر) تعال! كان من اللازم أن يحصل هذا منذ زمان بعيد. لم أصف معه كل حسابي، لكني سأفعل، فلا تقلق!
حسن الشاطر: يقلقني ذهاب أخي درويش. ذهب واقتطع من كتفي ذراعًا. كيف أعيد لكتفي ذراعي؟ هو في خطر، وأنا في خطر! لماذا لم تثنيه عن الذهاب؟

(يجيء أحدهم صائحًا بالناس)

رجل: حمد أبو ريش يحاول محاصرة المخيم، أوقف رجالهم مجموعة من الفدائيين لتفتيشهم ومصادرة أسلحتهم.

(ضجة. ردود فعل مستنكرة، الكل يسعى إلى سلاحه. الفدائيون يتحركون. رجال الميليشيا يتحركون. حسن الشاطر ينزع الضماد عن كتفه تحت نظر أمه الذاهلة. يتناول بسرعة سلاحًا، ويذهب. الكل يذهب. لا أحد. أم الجميع وحيدة، ذاهلة، تلتقط الضماد الذي ألقاه ابنها عن الأرض، وتتأمله مليًّا. تمسح بيدها بقع الدم التي عليه. تشد طرفه بين أسنانها، وهي تنظر إلى الناحية التي ذهب منها الجميع مفكرة، ذاهلة. تحرك رأسها على الجانبين، تسير الهوينا، ثم تغني...)

أعطيتك للزهر
حارس
تحميه من الليل
زوادتك حبات تمر
وفشكات
وشوية من ضوء الليل
بينك وبين الطير
صحبة عمل
تا تزيلوا وجه الليل
* * *
أعطيتني الأمل
حارس
يحميني من الليل
ومن الشيخوخة والكبر
ساعد
يشق قلب الليل
الساعد ذهب
أخد جرحه
وأعطاني جرح الليل
* * *

(عتمة شاملة. ضوء على أم الجميع وابنها الأوسط حمد أبو ريش)

أم الجميع: انتظرتهم يذهبون، لتأتيني، فتجدني وحدي، وتحصل على أمر آخر غير حقدي. ماذا تريد أكثر من حقدي؟
حمد أبو ريش: أريد أن أمحو حقدك برضاك! أريد أن أفتح قلبك على طريق القمر، فأجدك شلال حنان! أريد أن تحبيني مثل حبك لي يوم وُلِدت! أريد أن تلديني!
أم الجميع: الكل ذهب إلى موتك، وأنا، ماذا أفعل، وقد دنا الموعد؟ في لحظة موتك ألدك، هذا أمر لا يقدر عليه غيرك، فاطلب الموت إن أردت الولادة.
حمد أبو ريش: سأطلب الحياة وأنا أطلبها من صفحك ورضاك. لماذا أنت صخرة معي؟ جذع خشب؟ لماذا أنت جبل فحم؟ وقدم وحش؟ لماذا أنت صقرة وضبعة في آن واحد؟ حمامة وعقربة؟ لماذا أنت سمكة قرش تذرف الدمع؟ لماذا لا تذهبين إلى آخر يوم في حياتك، وترين أنك تحبينني كابن أخطأ وتاب؟ كسهم انكسر وصلى؟ كظبي شرد ووقع في مصيدة؟ انظري إلى بعد أن أكون، ولا تنظري إلى قبل أن أكون... هذا ما قلته لأخي درويش، فاعتذر لي، واعتصرني بذراعيه الصلبتين على صدره.
أم الجميع: قبل أن تكون كنت تسرقني نقودي القليلة الحقيرة من جذع تلك السروة العجوز.
حمد أبو ريش: لا لأشتري لي السجائر، كما ادعيت وقتذاك، وصدقت، بل لأشتري لك شالاً من الحرير.
أم الجميع: قبل أن تكون كنت تتضارب وأخوك الكبير وأخوك الصغير.
حمد أبو ريش: كنت ولدًا يسعى ليكون رجلاً.
أم الجميع: قبل أن تكون كنت من أزلام شاويش خدعنا.
حمد أبو ريش: وأنا خدعت الشاويش أول من خدعت، لأن الحرب خدعة، وطموحي كان أخذ السلطة.
أم الجميع: هذا الطموح دمرك... ودمرنا.
حمد أبو ريش: (يعانقها فجأة) دمريني إذن، ها أنا لك، دمريني! انتقمي مني، ها أنا آتيك بفرصتك إليك، ها أنا آتيك بسلطتي قطة، فاذبحيها، ولننتهِ!
أم الجميع: (تلين... تتأوه، وتخلل شعره بأصابعها) حرارتك حرارة ولدي، وسلطتك غادرتك في اللحظة التي لسعتني فيها حرارتك! تعال نضم بعضنا! (تضمه وفي عينها دمعة) ربيتك شقيًّا، إذن، ما ذنبك؟ كنت أقوى من أخيك الأكبر، وأذكى من أخيك الأصغر، وحلم امرأة في عالم أكحل! دعني أشدك من شعرك (تشده من شعره) أقرصك من شفتك، ومن أنفك، ومن عينك (تقرصه) وأرمي كفي على ذراعك المتينة... (ترمي كفها على ذراعه، تضحك له منتشية مزهوة) آه من الأيام كيف تجري! بالأمس كنت طفلي، واليوم أنا طفلتك!
حمد أبو ريش: أريد أن أبقى طفلك (يشدها بقوة) لا تتركيني إلى الرجولة، فقد أعياني معها الصراع! ضميني أكثر، اعبثي بشعري، اقرصيني!

(أم الجميع تبعده ناهضة، الضماد المدمى في يدها، تسير عدة خطوات مترددة، حائرة، تنظر إلى الأفق، ثم تنظر إلى ولدها)

أم الجميع: فات أوان الطفولة! اذهب لانتقامك، واتركني لانتقامي! (يريد أن ينسحب مخيبًا، فتطلب إليه) أعد إليّ ولدي درويش، قل له أمك تريدك، قل له مصيرها في يدك، أما أنت، فاذهب إلى مصيرك، ثم عد لتدمرني!

(يخرج حمد أبو ريش، تخرج أم الجميع، يدخل درويش نَفَس المرتينة)

درويش نفس المرتينة: (ينادي) حمد، يا أخي حمد، أين أنت أيها الأخ العزيز الذي كدت أن أرتكب في حقه جريمة أبينا القديمة؟

(يدخل حمد أبوريش)

درويش نفس المرتينة: (بلهفة) بحثت عنك في كل مكان. كيف ينفيك المكان؟
حمد أبو ريش: (بخشونة) لماذا أنت هنا؟ ألا تخشى أن تراك أمنا؟ إنها غاضبة عليك، لأنك خرجت عن طاعتها، وأقسَمَتْ، لو رأتك، أن تثأر منك.
درويش نفس المرتينة: أن تثأر مني؟ ماذا فعلت لها كي تثأر مني؟
حمد أبو ريش: تركتها في ساعة مصير.
درويش نفس المرتينة: لكي أكفّر عن ذنب تجاهك.
حمد أبو ريش: هذا سببٌ إضافيّ. أنت تعرف كم هي تكرهني.

(يسمعان حركة شخص قادم، فيحثه على الاختفاء)

حمد أبو ريش: عجل في الاختفاء، اخف نفسك بين جدران تلك المدرسة غير المنجزة، ريثما يهدأ قلب أمك عليك! (يذهب درويش بسرعة، وحمد يصيح من ورائه) امكث هنا إلى أن أبعث في طلبك، بعد أن أجري آخر محاولة مع قلب أمك... (ثم لنفسه) سيذهب المسكين بشربة ماء! كم هي غبية النفس البشرية، القرود أذكى منها وقت الضيق. والآن عليّ أن أواصل تنفيذ الخطة (ينادي) أيها اللواء أبو الجماجم! (لا يأتي) لا يأتي أبو الأموات هذا عندما أحتاج إليه! ما الذي يشغله يا ترى غير تعذيب ألف ومائة وواحد وتسعين شخصٍ في السراديب؟ (ينادي بصوت أعلى، وهو يصفق) أيها اللواء أبو الجماجم!

(يدخل اللواء أبو الجماجم، وهو يحمل عددًا من ثياب الملكة المرصعة المطرزة، برفقة خمسة من الخدم، واحد يحمل صينية عليها خروف، وثان يحمل صينية عليها أباريق وكؤوس، وثالث يحمل صينية عليها شتى أنواع الفواكه, ورابع يحمل صينية عليها شتى أنواع الأسلحة، وخامس يحمل صينية عليها شتى أنواع العطور. يأخذ حمد أبو ريش هرم الأسلحة، ويأمر الباقين بالانصراف)

اللواء أبو الجماجم: ستغضب الملكة.
حمد أبو ريش: (مقهقهًا) هذا ما نريد، أن تغضب الملكة (ثم بعنف) يجب الحد من مصاريف الملكة حتى الثلث، وطرد ثلاثة أرباع خدمها. بعد أن أسقطت التاج عن رأسها، وأخذت الصولجان من يدها، ماذا يتبقى لها؟
اللواء أبو الجماجم: لماذا لا نقتلها، ونستريح؟
حمد أبو ريش: لماذا نلوث أصابعنا بدمها؟ (ثم بتركيز) ستقتل الملكةُ الملكة!

(تدخل الملكة على خصرها سوط المروض، ومجنونتها على وجهها أصباغ المهرج، الأولى غاضبة، والثانية ضاحكة)

الملكة: أين الذي طلبت؟ منذ أيام وأنا أطلب، ولا يستجاب لطلبي!
حمد أبو ريش: ماذا طلبت سيدتي ومولاتي؟
المجنونة: (مقهقهة دومًا) خروف محشو فقط، وفواكه تكفي ألفًا، وأسلحة تقتل شعبًا، وعطورًا تملأ نهرًا... كل هذا لملكة واحدة!
الملكة: (منتهرة) اسكتي أنت، يا مهرجة (تسكت) أنا الملكة، وسأبقى الملكة، وعلى أوامري ألا تعصى! (تعود المجنونة إلى القهقهة، فتضربها الملكة بسوطها حتى تخرس. تتجه إلى اللواء أبي الجماجم، وتبدأ بضربه، واللواء يتحول إلى جرذ بين يديها، إلى أن يوقفها ابنها الأوسط مستعملاً معها بعض العنف، تحاول جلده، فيخلصها السوط، تنهار على عتبة عرشها باكية) سوف أدمرك! انتظر! (تنادي الحرس بين دمعاتها وزفراتها، فلا أحد يستجيب لها) سوف ألعنك لعنة أم لم تلعن بعد ولدًا كما سألعنك! (تنهض بشعرها الأشعث، وشكلها المجنون) يا أوثنة حضارة الجريمة والدمار اصعدي من غبار الزمن لأحطمك على رأس ابن سرق تاجي وقبل ذلك قلبي! أيتها الشياطين النائمة في بطون العصور انهضي لتثأري لي من ملاك غدا مجرمًا! أيتها النجمات الدموية في صباح أسود، أيتها الساحرات الجهنميات في قصص رواها هوميروس، أيتها الشفاه المنسلخة لميتات في قبور حديدية تمخر الفضاء مرتين في السنة، لتشهدي جميعًا على ابن ضد أبيه، أو أم ضد ابنها، فقد حلت اللعنة، ودخلنا كلنا في مطلقها!

(تخرج بعجلة، والمجنونة تقفز قفزًا من ورائها)

اللواء أبو الجماجم: منذ مدة يطاردني كابوس.
حمد أبو ريش: (مغتبطًا) كابوس!
اللواء أبو الجماجم: (برعب) مشهد عام لشاطئ مليء بالبشر، أجساد تستلقي عارية أو نصف عارية تحت الشمس، وهمها الوحيد الاستمتاع بالبحر، استقبال أشعة الذهب بوداعة!
حمد أبو ريش: (بقلق) تصيبني أحيانًا مثل هذه الكوابيس.
اللواء أبو الجماجم: (بضغينة وعصبية هستيرية) إنه أقسى كابوس رأيته في حياتي، الكابوس الأقسى والأشد وحشية، وهو يلاحقني في كل مكان، يلتصق بلحمي، ينحت عيني، لا يريد الفكاك مني، يدفعني شوقًا إلى التنكيل، الذبح، الفتك، السحق الجماعي، يحثني على ارتكاب أكبر جريمة في التاريخ.

(صور عديدة على الشاشة: الدبابات تتدفق مع الفجر، رجال حمد أبو ريش يندفعون لحصار المخيمات، ثم يحاولون اقتحامها. ناس المخيمات دخلوا المعركة. تظاهرات في الشوارع تصدى لها أبو الجماجم بالرصاص. انطلاق صفارات الإنذار معلنة حظر التجول. راديو حمد أبو ريش يطالب الناس بالبقاء في المنازل، ويعلن إغلاق المدارس والدوائر والمتاجر. طلقات الأسلحة الرشاشة في كل مكان. طلقات المدافع في كل مكان. أغان ثورية من راديو حسن الشاطر. بعد قليل سكون تام. ظلام)

حمد أبو ريش: (صائحًا) سأحكم الدنيا أو أحرقها!
اللواء أبو الجماجم: ستحرقها، ثم ستحكمها، ولكن حسب أصول خطة أخرى، مكملة لخطة!

(ظلام، ثم ضوء على الأستاذ يحمل بلكون جينيه. يتكلم بصوت متموج. تقوم مشادة بين الطالب والشبان لكن حسن الشاطر يفصل بينهم في الوقت الذي ينطفئ فيه الضوء عن الأستاذ. ضوء شامل. تدخل أم الجميع بين ذراعيها عدد من الحمام الأسود، تطلقه، وتركض قليلاً خلفه، وتظل لحظات متابعة تحليقه. يتبعها اللواء أبو الجماجم بلباسه الرسمي على أطراف أصابعه، فلا تحس به من ورائها إلا بعد فترة)

أم الجميع: (منتفضة للمفاجأة) أعوذ بالله منك!
اللواء أبو الجماجم: (بابتسامة معسولة) هذا أنا، الكل يعرفني هنا! لواء ولا كل الألوية! حاربت، وقاتلت، وانتصرت، و...
أم الجميع: (محتدة) ماذا تفعل عندنا؟ أجئتني لتأخذ ولدًا حبسته، ثم أطلقت سراحه ليهجرني، أم لتقتل آخر قاتلته، فأوقفك عند حدك؟
اللواء أبو الجماجم: (متصنعًا البراءة) لا شيء من هذا، لا شيء من ذاك.
أم الجميع: تدخل كاللص، وتقول لا شيء من هذا، لا شيء من ذاك! ماذا تريد غير ما أعطيت سيدك من حقد؟
اللواء أبو الجماجم: (متصنعًا النعومة) أن أحصل على جواب مفيد.
أم الجميع: (دون أن تزول حدتها) جعلتهم يتقاتلون لتأتيني، فتجدني وحدي، وتحصل على جواب مني دون الجميع!
اللواء أبو الجماجم: (متصنعًا الجد) هذا أمر يخصنا وحدنا أنا وأنت.
أم الجميع: كل ما يخصني يخصهم، أتظن أن الأمور كما كانت في الماضي، فالتة هي الأمور؟
اللواء أبو الجماجم: (مغتاظًا) هذا أمر يخصني ويخصك.
أم الجميع: إذا كان الأمر كذلك، فخذ مني الجواب.
اللواء أبو الجماجم: (بسرعة) لا تتهوري، يا امرأة! ستقولين لا!
لا تقولي لا، وفكري في الأمر مليًا! إذا أردت أعطيتك مهلة أخرى!
أم الجميع: فكرت في الأمر مليًا.
اللواء أبو الجماجم: (بسرعة وتوسل) لا تتهوري، يا امرأة! ستقولين لا! لا تقولي لا، وفكري في الأمر مليًّا! فرصة كهذه لا تعوض، سأعطيك مهلة أخرى!
أم الجميع: قلت لك، يا لوائي، إنني فكرت في الأمر مليًّا، ومعي،
لا داعي للف والدوران! أم الجميع تعرف الطريق المستقيم الذي هو فعلاً مستقيم، وما حادت عنه طوال حياتها.
اللواء أبو الجماجم: لهذا أريدك! امرأة لم تحد عن الطريق المستقيم طوال حياتها، فلا تقولي لا، لأجعلك في حياتي شمسًا!
أم الجميع: إذن اسمع،يا أبو الجماجم، ها - أنا - ذا - أقول - لا!

(اللواء أبو الجماجم مطلقا نصف صيحة مع كلمة ((لا)) مانعًا النصف الآخر بأصابعه)

أم الجميع: حتى ولو حطيت يدك في السحاب لما نلت إصبعًا واحدًا من أصابع قدميّ!
اللواء أبو الجماجم: بقرارك هذا ارتكبت أكبر جريمة في حقك.
أم الجميع: في حقي أم في حقك؟
اللواء أبو الجماجم: في حقك أنت، أيتها البلهاء! لا في حق ابنك الأكبر الذي ذهب، ولا في حق ابنك الأصغر الذي بقي، بل في حقك، في حق عمرك الذي أضاع أملاً!
أم الجميع: لا أعول عليك بأي أمل مهما كان صغيرًا هذا الأمل!
اللواء أبو الجماجم: أهذا ما علمتك الأيام إياه، أيتها المرأة الجاهلة؟ أهذه هي الدروس والعبر التي ملأت تاريخك؟ أن تنكريني!
أم الجميع: حتى ولو كنت ابني درويش، وفعل ما فعلت، لأنكرته... (ثم بلهجة شاكية) هو من ينكرني الآن، في الضائقة والموت، لكنني أمسك عن غضبي!
اللواء أبو الجماجم: أنا على كل حال طالب القرب منك. قصدي شريف لأني عسكري شريف. أريد أن أتزوجك على سنة الله ورسوله.
أم الجميع: طالب القرب مني أم من أولادي؟
اللواء أبو الجماجم: (يتظاهر بعدم الفهم) منك! منك! طالب القرب منك أنت! وكنتُ فعلاً سأسعدك!
أم الجميع:(ناهرة) بدل أغنيتك أيها اللواء أبو الأموات، هنا لا أحد يصغي إليك حتى الكلاب!
اللواء أبو الجماجم: (حانقًا) أنا لا أغني، يا امرأة، ولكني أكشف عما في قلبي.
أم الجميع: كيف لا أعرف ما في قلبك، وأنا أراه مرفوعًا على سيفك! سأقول له هذا عندما يعود، وهو سيعود، هذا ما يقوله لي قلبي.
اللواء أبو الجماجم: أراهن على أنك لا تعرفين ما في قلبك.
أم الجميع: خسرت الرهان.
اللواء أبو الجماجم: لم تنتهِ اللعبة بعد.
أم الجميع: ستنتهي، وستخسر. لا بد أن تنتهي اللعبة في صالح أحد.
اللواء أبو الجماجم: ليس في صالحك حتمًا.
أم الجميع: بل في صالحي.

(طلقات متلاحقة ثم متقطعة. أم الجميع خائفة. تجري لترى)

اللواء أبو الجماجم: (ضاحكًا بخبث) ألم أقل لك أن اللعبة لم تنته بعد؟
أم الجميع: (غاضبة) لعبتك خطرة! وأنت تضمر الحقد لي!
اللواء أبو الجماجم: تريدين أن تقولي الحب، أضمر لك الحب!
أم الجميع: (عائدة إليه بذهول) تضمر الحقد لي، لكن لعبتك هذه لن تمشي!
اللواء أبو الجماجم: (مؤرجحًا المسدس) كل شيء بيدك! وافقي، فتنتهي اللعبة في صالحي وصالحك .
أم الجميع: (رادعة) أنا لا أبيعك كبشًا أو أشتري منك رأس غنم! اذهب، وقايض في سوق آخر، ربما وجدت أحدًا غيري يبيع، ويشتري (تتناول سلاحًا، وتدفعه في قلبه) اذهب، وقايض في مكان آخر أحسن لك!
اللواء أبو الجماجم: (متراجعًا) على مهلك! على مهلك!
أم الجميع: اذهب وإلا أطلقت!
اللواء أبو الجماجم: ستندمين!
أم الجميع: (منتهرة) اذهب!

(اللواء يذهب متعثرًا)

أم الجميع: (إلى الجمهور) أسمعتم ما قاله أبو الأموات؟ طالب القرب مني. لواء مثله. لكنه خبيث. يريدني له زوجة. الآن فقط يفكر في هذا، وهو من وضع ابني الأكبر في الحبس، أقولها للمرة الثانية، وطارد ابني الأصغر طوال الوقت، أقولها للمرة الألف، ليس مجنونًا هو، ولكنه يخدع من؟ إذا قلنا يريد الزواج مني لأجل جمالي، فقد افترس جمالي الوحل، وحاول افتراس حياتي دون أن يظفر بي حتى النهاية. وإذا قلنا يريد الزواج مني لأجل مالي، فلا مال عندي ولا هم، وفي يوم مضي كنت أعجز عن شراء نصف رغيف أغمسه في قطرة زيت. وإذا قلنا يريد الزواج لأجل أرضي، فقد باع أرضي أو تركها للشوك. هو يقصد شيئًا آخر. بالطبع غير شريف. يريد هذا (معلية السلاح) أن ينتزعه، وينتزع معه الشرف الذي أعطاني إياه، والقوة التي أعطاني إياها! يخشى الشرف، ويخشى القوة، ولا يستطيع انتزاعه بالقوة، لهذا يلجأ إلى اللف والدوران! ولكن مع من؟ زمان كنا نقول فرعون فرعن من قلة ناس تضبه، أما اليوم... نجوم السماء أقرب له من تحقيق ما يريد! هل يريد؟ من يعطيه غيري الوعيد؟

(طلقات متلاحقة ثم متقطعة)

أم الجميع: (متلهفة ومتلفتة ناحيتها) يريد الانتقام! الوغد! ولكن ماذا يستطيع أن يفعل؟ المخيم ترسانة. قلعة. سيؤدبونه. سيلقنونه درسًا لن ينساه. لو لم يتركني درويش لما جرؤ على فعل ما فعل؟ كيف يتركني دون ذراعيه؟ لأول مرة في حياته يترك ذراعيه فارغتين، وأنا لهذا عليه عاتبة. أعتب عليك، يا نَفَس المرتينة، في وقت ضيقوا فيه الخناق عليّ! لماذا لا تأتي؟ أتخاف من حقدي لغيرك؟ أتهاب من غضبي على غيرك؟ لا تذهب إلى غضبي باختيارك ولا إلى حقدي الذي يسعى إليك في الوقت الصعب، فأجبره على تغيير الطريق. تعال! تعرف الطريق إلى عاطفة أمك! لكنه لا يأتي، لا يأتيني! يأتيني أبو الأموات، وهو لا يأتيني. يأتيني الثعلب، والفهد، والغراب، وهو لا يأتيني. يأتيني البحر والريح، والجبل، وهو لا يأتيني. يأتيني القمح، والزيت، والسكر، وهو لا يأتيني. يأتيني الشباب الأول، والروح الأول، والفكرة الأولي، وهو لا يأتيني. يأتيني القمر الأسود، والليل الفضيّ، والدم الأخضر، وهو لا يأتيني. يأتيني اختلاج الجسد في العراء، والدم، والرماد، فأحس بالشيخوخة تلتصق بكياني، أحاول انتزاعها، فأنتزعه بعيدًا عني، بعد أن يكون قد أتاني. آه، أيها الابن المتجبر! لن أحقق حلمك، ولا حلم غيرك، فقد ماتت العروس فيّ، وغدًا ستكون جنازتها. البس ثياب الحداد، وأسرع إليّ، لنذهب معًا إلى المقبرة!

(تغادر الخشبة. تدخل الملكة وعلى وجهها أصباغ المهرج بصحبة المجنونة وعلى رأسها تاج الملك)

المجنونة: أنا الملكة، وهي المجنونة! أنا المجنونة، وهي الملكة! هل تعرفون حكاية الملكة أو المجنونة التي أرادوها عروسًا للشيخوخة؟
الملكة: (مصححة) التي أرادوها عريسًا للشيخوخة.
المجنونة: عريس أم عروس لنهاية عمر أنثى وهي ذكر، ذكر وهو أنثى، ماذا يعني؟ الشيخوخة حالة انتهت. حالة استمرار النهاية. هي الشاذ الجبري في عمر إنسان يعيش بعد أن عاش. هي الإجبار على العيش أكثر مما يجب... (تخاطب الملكة) وأنت، يا مجنونتي، قد عمرت كثيرًا، وأكثر من طاقتك!
الملكة: (تخاطب المجنونة) لأبقى وفية على إضحاكك، يا مليكتي العبوس!
المجنونة: (رادعة) اخرسي، لا وقت للضحك بعد كل هذا البكاء، لقد استهلك الضحك وقته!
الملكة: لأبقى وفية على إبكائك، يا مليكتي الضحوك!
المجنونة: اخرسي، لا وقت للبكاء بعد كل هذا الضحك، لقد استهلك البكاء وقته!
الملكة: نعم، هذا صحيح، ولكني أبحث في الوقت الفائت عن نكتة مبكية، أو دمعة مضحكة، أبحث في الوقت الفائت عن هذه أو تلك،
فلا أجد تلك ولا هذه، أجد النكتة البائخة، والدمعة الفاترة، آه، يا سيدتي ومولاتي، لقد كنت أضحكك ضحكًا غير حقيقي، وأبكيك بكاء غير حقيقي، فانظري إلى وضعي ووضعك الآن، واكتشفي، بعد فوات الأوان، أي وضع كارثيّ حقيقيّ نحن فيه الآن! لقد خسرت أبناءك، هذه هي نكتتي إليك. ولقد خسرت سلطانك، هذه نكتتي إليك. ولقد خسرت شبابك، هذه نكتتي إليك. ولم تربحي شيئًا آخر غير التشرد مثل ذئبة لا أسنان لها ولا مخالب في الوديان، مثل نعجة لا ضرع لها، وحملها يصرخ من قسوة الجوع أقصى صراخ، مثل بغلة لا حمل لها، فغضبت على صخرة تدحرجت منها خوفًا، وسقطت على ظهرها، لتسحقها، محولة إياها إلى عجين من لحم ودم وعظم!
المجنونة: (مقهقهة) قولي أيضًا، قولي أيضًا، أضيفي!
الملكة: (باكية) البغلة هي أنا، أيتها المجنونة، البغلة هي الملكة!
المجنونة: (واضعة على رأس الملكة التاج، ضامة إياها، رائفة بها)
لا تبكي، يا مليكتي، على الذي ضاع، لا تبكي على سلطان كان كريهًا، فتضحكيني!
الملكة: (تنشق، وتمسح المجنونة لها الدمع، فتزيد من تلويث وجهها) أنا لا أبكي على الماضي، ولا أبكي على نفسي، أنا أبكي على ولد لم يستأهل حقدي.
المجنونة: لماذا لا تذهبي إلى ولدك حسن الشاطر، وولدك درويش؟ لن يرفضك هذا ولن يرفضك ذاك، كلاهما يحبك، يا مليكتي.
الملكة: (رادعة) أيتها المجنونة! كيف أذهب إلى من ظلمته؟
المجنونة: اذهبي، واطلبي الصفح.
الملكة: أيتها المجنونة! كيف أطلب الصفح، وأنا الملكة؟
المجنونة: لا تطلبي الصفح، إذن، بل اذهبي! عالم الذئاب هذا ليس عالمك! ها نحن نسير في الوديان منذ غروب الحضارة، فلم يهبط الليل، ولم يطلع الصباح! ها نحن نسير في لحظة توقف فيها كل شيء، فلنذهب إلى عالم ولدك الأصغر على الأقل، ونعانق في جسدنا الإنسان!
الملكة: أعانق في جسدي الكبرياء، فتمنعني الكبرياء!
المجنونة: (غاضبة) إذن ابقي ذئبة ضالة، ابقي ملكة متوحشة، ابقي كبرياء مدمرًا، أما أنا، فسأستعد للذي سيأتي به المهرج الكبير! (تصرخ في البرية) استعدوا... لسوف تموتون! ليس الأمر خطرًا، لا، ليس الأمر خطرًا! فلتستعدوا... كلكم ستموتون! استعدوا للموت! استعدي للموت، يا بشرية!
الملكة: (مقهقهة مشجعة) اصرخي أكثر، كرري، أعيدي!
المجنونة: غدًا سيكون موعد دفنكم! استعدوا لموتكم القادم... لسوف تموتون!
الملكة: (رادعة) اخرسي! اخرسي! فلتخرس أكثر المجانين تعقلاً! لا أحد يسمعك سواي في هذه العزلة، لا أحد يضحك عليك سواي في هذه الأرض الخراب، فلم يبق لك أحد غيري بعد أن غادر الإنسان ظله إلى ظل حيوانه، ولم يعد هذا أو ذاك، لقد علق الإنسان نفسه في الفراغ، وادعى أنه يملأ حيزًا، ولا شيء يملأ الحيز غير ظلمه وعنفه وجحوده! خذي! (تعيد لها التاج) سنعود إلى دورنا الحقيقي!

(تضع المجنونة التاج على رأسها، ثم تقفز على ظهر الملكة، وهذه تأخذ بالقفز بها مقلدة للدجاجة الهائجة، والمجنونة تضربها، وتقهقه، إلى أن تغادر الاثنتان المسرح. يدخل حسن الشاطر، وهو يرفع ناقلة بفدائي جريح من طرف، وأم الجميع وميمونة من طرف، ويسيرون ببطء إلى الخارج. يُرفع ستار داخلي عن بناء غير مكتمل لمدرسة المخيم على أرض مكشوفة من كل الجهات. حسن الشاطر وأمه وأخته والفلاح الثاني والطالب والطفلة يشاركون في البناء. على مقربة منهم شجيرة الزيتون... تسقيها الأم من فترة إلى أخرى)

أم الجميع: هذه مدرسة ولا كل المدارس! لكم الحظ، يا أولادنا! ستتعلمون القراءة والكتابة! في أيامنا كنا نذهب عند شيخ الزاوية،
ويا ليتنا كنا نذهب كلنا! والقادر ابن القادر كان يذهب إلى مدارس النصارى!
الطفلة: زمن ولى.
أم الجميع: صحيح! ستكون للمخيم مدرسة جديدة وجميلة لا مثيل لها! وأساتذة جديدون وجميلون أيضًا لا مثيل لهم! ذهب من عمري أكثر مما بقي، وإلا أتيت أنا كذلك بدفتر وقلم!
الطفلة: اطلبي العلم من المهد إلى المهد، يا أم الجميع!
أم الجميع: ويقولون أيضًا اطلب العلم ولو في المريخ، ولكن...
الفلاح الثاني: ولكن ماذا؟
أم الجميع: سأترك مكاني لولد أشتري له دفترًا وقلمًا ليس مع والديه ثمنهما! هو سيستفيد أكثر، هو له لمستقبل! سأخاله ولدي درويش، وهو صغير! (لحسن الشاطر) ذهب أخوك وتركنا للانتظار! لو كان هنا لساعدنا، وله ألا يذهب إلى المدرسة!
الفلاح الثاني: أما أنا، فسأذهب، وسأجد مكانًا ولو على العتبة.
أم الجميع: أنت ما زلت شابًّا! أما أنا، فقد كبرت، وولدي الأكبر قد كبر، وصار له من العمر مثل عمري!
الطالب: لا شأن للعلم مع العمر! انظري إلينا، تعلمنا على يدي الأستاذ أشياء كثيرة!
حسن الشاطر: ليس كلنا، ثم، لا يكفي أن نتعلم، بل أن نفعل ما نتعلم!
أم الجميع: كلامك من ذهب! (ثم لميمونة) انتبهي، وضعت كثيرًا من الأسمنت (ثم للفلاح الثاني) احضر لها حجرًا آخر (ثم للطفلة) وأنت، اذهبي، وقولي لهم أن يعجلوا بإحضار الماء. ترابنا ظامئ، عليه أن يشرب ليرتوي، وإلا تفتت خلال البناء! (تذهب الطفلة) وأنت (لولدها) تعبت كثيرًا، لماذا لا ترتاح قليلاً؟
حسن الشاطر: سأرتاح كثيرًا.
الطالب: هو دومًا هكذا.
حسن الشاطر: لا تؤجل عمل الغد إلى الغد! يجب البناء حين يوجب الهدم!
أم الجميع: العجلة من الأحلام والتأني من الآلام!
حسن الشاطر: أولادنا بالانتظار!
ميمونة: انتظروا، ولكنهم وجدوا!
حسن الشاطر: أولادنا بالانتظار، وعندي مهمة هذه الليلة.
الطالب: لهذا عليك أن ترتاح. هل نسيت ذراعك المصابة؟
ميمونة: لماذا لا أحد يذهب غيرك؟
حسن الشاطر: سأذهب مع غيري.
الطالب: لماذا أنت؟
حسن الشاطر: لأنني أعرف الطريق.
الفلاح الثاني: دلهم، وارجع.
حسن الشاطر: سأرجع عندما أعود.
الفلاح الثاني: إذا أردت ذهبت بدلك.
حسن الشاطر: لا تعرف الطريق.
الفلاح الثاني: إذا أردت ذهبت معك.
حسن الشاطر: تعرفك الطريق.
الطالب: أما أنا، فأعرفك.
حسن الشاطر: إذن تعال لذهابنا.
أم الجميع: هكذا تعودون إلينا.

(تأتي الطفلة بالماء)

أم الجميع: تركوك تحملينه وحدك؟

(تخف ميمونة لمساعدة الطفلة)

ميمونة: هذا دلو أثقل منك!
الطفلة: لم أجد أحدًا عند النبع.
أم الجميع: (دَهِشة) لم تجدي أحدًا عند النبع!
الطفلة: كان الماء يسيل من كل الجهات، والدلاء مملوءة دون أياد تنقلها.
الفلاح الثاني: ربما ذهبوا في مهمة.
أم الجميع: مهمتهم أن يجلبوا لنا الماء.
الطلب: بدأ الأسمنت يجف.
حسن الشاطر: سأذهب لإحضار الماء.
ميمونة: سآتي معك.
حسن الشاطر: ابقي هنا، خذي مكاني.
الطفلة: سآتي معك.

(حسن الشاطر يمسك بيد الطفلة، ويذهبان بخطوات واسعة، والطفلة تقفز لتستطيع اللحاق به. لحظات عمل في صمت)

الفلاح الثاني: أحكي لكم قصة كراوش؟
أم الجميع: أعرفها، حكيتها لولدي درويش، ثم حكاها ولدي درويش لي.
الطالب: أنا لا أعرفها.
ميمونة: البناء ارتفع.
أم الجميع: ارتفع، وسيرتفع.
الفلاح الثاني: (لميمونة) أحكي لك قصة كراوش؟ أم الجميع تعرفها، وهو (مشيرًا إلى الطالب) لا يعرفها.

(لحظات عمل في صمت)

الطالب: (صائحًا بأم الجميع) انتبهي!

(لكن الحائط يسقط، وتسقط أم الجميع بين الطوب. يهبون لرفعها)

أم الجميع: هذا خطأي، كان الأسمنت جافًّا! (تنفض الغبار عن ثوبها).
ميمونة: وأنت، هل أنت بخير؟

(لا يرون اللواء أبا الجماجم المتسلل الذي أسقط الحائط، وهرب)

حمد أبو ريش: (للواء معنفًا) لم أقل لك هذا الحائط، قلت لك ذاك! ذاك الذي يختبئ خلفه أخي الأكبر!
اللواء أبو الجماجم: الحائط هنا يشبه الحائط!
حمد أبو ريش: اذهب، والبس ثيابًا أخرى، تخفى، وشارك في البناء معهم، وفي لحظة ثقة، اهدم لهم ذاك الحائط،، أو، أقول لك اهدم الحائط إلى ستبنيه معهم، سأخبئ أخي بين أنقاضه.
اللواء أبو الجماجم: سأنفذ أمرك هذا في الحال، مثلما نفذت أمرك ذاك، واعتقلت حراس النبع. سأتخفى، وسأشارك ، وسأهدم!
حمد أبو ريش: حسنًا، انصرف! (ينصرف) على أن أخبئ أخي بين الأنقاض... (ينادي بحذر) يا درويش... يا أخي الكبير، جئتك بخبر غير سعيد.
درويش نفس المرتينة: (يظهر من وراء حائط) أمي لم تزل غاضبة عليّ؟
حمد أبو ريش: غاضبة وحاقدة وواضعة لدمك جائزة! قالوا لها إنك قنبلت المخيم، كذبوا عليها، وهي، كما تعهدها، ساذجة، صدقتهم، لكنني سأكلمها مرة ثانية.
درويش نفس المرتينة: وما العمل إذا ما رأتني هنا، وانكشف أمر مخبأي؟
حمد أبو ريش: عليك أن تبدل مخبأك، عليك أن تختبئ بين أنقاض ذلك الحائط الذي تهدم. اذهب في الحال، وانتظرني ريثما آتيك أو أبعث إليك بمن يأتي بك. عجل، قبل أن تراك، فتنزل بك عقابها الذي لا تستأهل!

(درويش نفس المرتينة يذهب ليختبئ بين أنقاض الحائط المتهدم، فيجد نفسه مكشوفًا للبنائين. يعود إلى مخبئه القديم. يأتيه سيف الدين، فيعلمه ضرب النار على سلاح بلا ذخيرة، ثم يصرفه، ويكلم نفسه)

درويش نفس المرتينة: أخي لا يعرف جيدًا المكان، ولأنه خائف علي من بطش أمي. هذا مخبأ أشد تحصينًا، وأبعد عن عيون المخبرين. سأمكث هنا ريثما يسقط الليل، ثم سأذهب إلى جرش، أو، إلى البتراء، بل سأذهب إلى جرش، الفضاء هناك أرحب، لكن الجو أبرد (ينظر إلى الشمس) الشمس هنا تحرق البدن، وفي جرش هناك أحراش الصنوبر، وهناك سيكون مكان العمل بعد جهنم. ستكون هناك محطة الذاهبين إلى النعيم، فلا يُطردون، ولا يتقاتلون، سيتقاسمون اللعنة! (حركة وأصوات) ربما أحدهم يبحث عني. آه، من قلب أمي، ما أقساه! عرفت أنك ظلمت أخي حمد أبو ريش، فها أنت تظلمينني! لم أفعل غير تركي لجحيم إلى جحيم... لكنني فَرِحٌ لأمر واحد، أن علاقتك بأخي الأوسط تحسنت، كم يفرحني تقريبك لأخي من قلبك! (الأصوات تزداد) لأختبئ الآن، فلأختبئ!
أم الجميع: (تنظر بألم إلى عملها كيف ضاع سدى) أرأيتم ما جنته يداي؟
الفلاح الثاني: المهم أن تكوني بخير.
أم الجميع: (غاضبة) كل هذا بسببه، أخذ مني أفكاري، فسقط البناء!

(ميمونة تتهيأ لإعادة البناء)

أم الجميع: ماذا ستفعلين لو كنت مكان أم شغل لها ولدها بالها؟
ميمونة: سأعيد البناء.
أم الجميع: سنعيده معًا، لكني لن أعيد أخاك إليّ، وإذا عاد، طردته إلى آخر جحيم!
الطالب: (لأم الجميع) انتظري حتى ترتاحي من الوقعة، وفكري في أمره وأمرنا!
أم الجميع: لا تؤجل عمل الأمس إلى اليوم، لا تؤجل صلاة الفجر إلى العشاء، ولا تؤجل غضبك على من يثير غضبك! قلبي الآن هو القمر المحاق!
ميمونة: (تحمل الدلو) سأحضر الماء (تذهب).
أم الجميع: (للطالب متأوهة) تعال نرفع الطوب معًا. كان ذنبي على كل حال. تصور لو سقط هذا على أولادنا. أية مصيبة ستكون! (للفلاح الثاني) انتبه لئلا يحصل معك ما حصل معي. كيف كنا سننتهي في الربيع القادم؟ سنتأخر حتى الصيف، وربما جاء الخريف ونحن نعمل! بناء الحجر صعب، لكنه أسهل من بناء القلوب!

(حسن الشاطر يجيء جاريًا وهو يحمل دلوي ماء والطفلة من ورائه تحمل جرة)

حسن الشاطر: (صائحًا) أتيناكم بالماء!
أم الجميع: تأخرت علينا، فسقط البناء، وسقط قلبي!
الطالب: (مشيرًا إلى الحائط المتهدم) كان البناء ظمآن، ولم يروه الحنان!
حسن الشاطر: (لاهثًا) أحدهم أفرغ الدلاء كلها وحطمها أو رماها في الواد. احتاجنا استرجاعها لبعض الوقت. إحدى النساء أعطتنا جرتها. (يصب الماء على خليط الأسمنت بالرمل، ويأخذ بجبله).
أم الجميع: لا أحد يحرس النبع؟ لا أحد يرأف بالماء؟
الطفلة: لا أحد يحكي مع الشجرة! لا أحد يلعب مع العصفور!
حسن الشاطر: (وقد انتهي من جبل الأسمنت بالرمل والماء) سأذهب إلى حراسة الماء من عزلته!
الطفلة: سآتي معك لأحكي مع الشجرة... لألعب مع العصفور!
الطالب: وهنا؟ من سيعيننا هنا؟ لا العصفور يعين، ولا الشجرة تعين!

(اللواء أبو الجماجم قافزًا من الحائط المتهدم بلباسه المدني)

اللواء أبو الجماجم: سأعينكم أنا! أنا العصفور! أنا الشجرة! أنا الأسمنت والماء والرمل!

(يشخص الجميع ببصرهم إليه)

أم الجميع: من أنت، يا أنت؟
اللواء أبو الجماجم: بنّاء ولا كل البنائين! الكل يعرفني هنا! بنيت بيوتًا بطابق واحد، وبيوتًا بطابقين، وبيوتًا بثلاثة طوابق، وبيوتًا بأربعة طوابق، وبيوتًا... وعملت في شق الشوارع، وبناء الحاووز. كان ذلك في البداية، يوم كنت أعمل لحساب غيري، أما اليوم، فأنا أعمل لحسابي. عندي أدواتي وعمالي (يصفق مرتين. يظهر عدد من أعوانه في لباس سمك القرش مع أدوات عجيبة) عمالي فتيان شجعان، وأدواتي أدوات حديثة، يرتفع البناء بها حسب آخر طراز. هاءنذا! رهن إشارتكم! أقدم لكم خدماتي!
حسن الشاطر: (للطفلة) اسبقيني إلى النبع، وافتحي عينيك جيدًا... لا تحكي مع أحد، ولا تلعبي مع أحد!

(الطفلة تذهب جريًا)

حسن الشاطر: (هامسًا في أذن أمه) لا أثق بهذا الرجل! لا أثق بشكله، لا أثق بلهجته، لا أثق بحركته!
الفلاح الثاني: ( هامسًا في أذنها الأخرى) قلبي غير مرتاح ليديه، لأصابعه، لعينيه!
أم الجميع: (هامسة أيضًا) يخيل لي أني رأيته من قبل، ولكن صارت لخيالي أجنحة!

(اللواء أبو الجماجم يسترق السمع عله يظفر بكلمة)

أم الجميع: (هامسة دومًا) دعوني أتصرف! دعوني للحكمة البيضاء والحكم الأسود!

(أم الجميع تتنحنح، فيقفز اللواء أبو الجماجم عائدًا إلى مكانه فاغرًا فمه عن ابتسامة مائعة)

أم الجميع: (للواء) ألم أرك من قبل، ألم نلتق على عتبة أو رصيف؟
اللواء أبو الجماجم: ربما، فالكل يعرفني هنا، بنّاء ولا كل البنائين! بنيت بيوتًا بطابق واحد، وبيوتًا بطابقين، وبيوتًا بثلاثة طوابق، وبيوتًا بأربعة طوابق، وبيوتًا... وعملت في شق...
أم الجميع: (مكملة) الشوارع، وبناء الحاووز (اللواء أبو الجماجم يفتح عينيه استغرابًا) كان ذلك في البداية، يوم كنت أعمل لحساب غيري، أما اليوم، فأنا أعمل لحسابي! عندي أدواتي وعمالي، عمالي فتيان شجعان، وأدواتي أدوات حديثة... أهذا ما كنت تريد أن تعيد قوله لي؟
اللواء أبو الجماجم: (ممتعضًا) ستحتاجين لي ولفتياني ولأدواتي الحديثة على أي حال.
أم الجميع: لا أثق بأدواتك الحديثة، لأن الثقة يمكن أن تكون بالقديم، أو بالقديم أكثر.
اللواء أبو الجماجم: لا تكوني امرأة جاهلة في عصر الذرة وغزو الفضاء والتكنولوجيا (متوجهًا إلى الآخرين) قولوا لها لتفهم، قولوا لها كلام العقل للعقل لا كلام العقل للطنجرة!
الفلاح الثاني: (بعد تردد) لنجربه... لنر ما تثبته التجربة.
الشاويش أبو الجماجم: (مخفيًا فرحه) نعم جربوني! التجربة أفضل برهان!
حسن الشاطر: قلت لكم لا أثق بهذا الرجل. هل يكون درويش من بعثه؟ أغضب أنا أيضًا على درويش، وأشك، ولا أدري ماذا أقول؟ بعد الماء الذي ذهب حراسه... بعد البناء الذي تهدم... بعد غضب أمي الذي أرأف به!
الفلاح الثاني: ولا أنا أثق بهذا الرجل، ولكن ماذا سنخسر لو جربناه (للأم) ما رأيك فيه، في شكله، وفي غضبك عليه؟
أم الجميع: لا أثق به أنا أيضًا! (اللواء أبو الجماجم ينشر أذنيه ليلتقط كلمة) ولكن...
الطالب: لنجربه لحاجتنا إليه، ولكن لنراقبه... الشك يلزمنا والغضب يجبرنا!
حسن الشاطر: ربما درويش الذي بعثه، وربما حمد، وأنا لا أريده... سأذهب إلى النبع (يحمل الدلوين) سأبقى هناك حتى تحين مهمة الليلة، وأنتم لكم أن تقرروا أو لا تقرروا!
اللواء أبو الجماجم: (مهتمًا) مهمة الليلة؟
حسن الشاطر: نعم، مهمة الليلة! (مؤكدًا عن عمد ومتبادلاً مع الطالب نظرة متفاهمة) ابعثوا لي بمن يأتي بالماء (يخرج).

(اللواء أبو الجماجم يغمز أحد أتباعه ليتبع حسن الشاطر)

اللواء أبو الجماجم: (مبتسمًا بمكر) والآن ماذا قررتم؟ إذا كنتم
لا تريدونني، فسأذهب إلى غيركم (يذهب).
أم الجميع: انتظر!

(أم الجميع تتجه نحو ميمونة عندما تدخل بدلو الماء، وتأخذ في وشوشتها. اللواء أبو الجماجم وجماعته قلقون يتابعون تعابير ميمونة التي تتجعد وتنفرد إلى أن تهز رأسها موافقة)

أم الجميع: (للواء) سنأخذكم على سبيل التجربة.
اللواء أبو الجماجم: التجربة أفضل برهان!
الفلاح الثاني: البرهان أفضل تجربة!
اللواء أبو الجماجم: لن تروا إلا الخير!

(اللواء أبو الجماجم يوزع الأوامر على أتباعه، فيأخذون بالعمل. أم الجميع تطلب من الطالب وابنتها إحضار الماء، ولا تتوقف، مع الفلاح الثاني، عن المراقبة. يعملون بهمة، والبناء يرتفع. بينما أم الجميع لاهية في مسح عرقها، والفلاح الثاني يدخن سيجارة، ينتزع اللواء أبو الجماجم من الحائط إحدى الطوبات، فينهدم بأكمله. يتوقع أن يبرز الابن الأكبر، فلا يبرز)

اللواء أبو الجماجم:: (هابًّا في الفلاح الثاني) لأنك لم تَصُفِّ الطوب كما يجب (لأم الجميع) ثم لم يكن الأساس متينًا! أنتم من فعلتم هذا، ولا دخل لي في الأمر! أي غلطة فاحشة ارتكتبتموها في حق أولادكم! (خلال ذلك يرفع الآخرون الطوب وأم الجميع ذاهلة) لن تنجزوا البناء قبل عام! (لأم الجميع) اسمعي، عليك أن تجدي حلاً، وإلا تاه أولادكم عامًا كاملاً. أتريدينهم أن يصبحوا لصوصًا؟ لا تجدين حلاً؟ أما أنا فأجده. الحل هو أن نبعث بالأولاد إلى مدرسة أخرى، مدرسة جديدة، وسط حديقة، حيطانها متينة كالحديد، بنيتها أنا بنفسي. ما رأيك؟ هكذا نحول دون أن يصبح أولادكم لصوصًا أو أوغادًا. ماذا قلت؟ (أم الجميع لا تجيب) ماذا قلت يا امرأة؟ (وهو يلتفت بحثًا عن درويش نفس المرتينة، ومن وقت إلى آخر يهتف بصوت منخفض: يا درويش، أين أنت يا درويش؟ تعال واختبئ بين الأنقاض).
أم الجميع: (دون أن يغادرها الذهول) سنعيد البناء من جديد... آه، لو كان معنا لراقب، لعاون، لنظر، لو كان معنا لضرب، لهدد، لنطح! أنا ألعن غيابك!
اللواء أبو الجماجم: لا تكوني مجنونة! لن ينتهي البناء قبل عام، وأولادكم ...
أم الجميع: (مقاطعة) سينتهي البناء في الفصل القادم، سنضاعف العمل والعمال! (تأخذ بصف الطوب متحدية وبحركة مصممة).
اللواء أبو الجماجم: لكنه جنون والمثل يقول أجل عمل اليوم إلى الغد! فما هذه سوى مغامرة! إذا لم يكن البناء قويًّا كما يجب أن يكون عاد وسقط كأضعف الحصون!
أم الجميع: سيكون كأقوى الحصون!
اللواء أبو الجماجم: لن ينتهي في الفصل القادم!
أم الجميع: وسينتهي في الفصل القادم! (للفلاح الثاني) اذهب واحضر بعض المتطوعين (عندما تدخل ميمونة بالماء ذاهلة لرؤية البناء المتهدم) أما أنت، فابقي هنا. لا داعي للذهول. الحمد لله أن أولادنا لم يكونوا داخله! ستأخذين على عاتقك جبل الأسمنت (لأحد أتباع اللواء) اذهب أنت بدلاً عنها، واحضر لنا الماء (تدخل الممرضة وعائلتها المكونة من الأم والأب والأخت) أتيتم في وقتكم (يتعانقون ويكاد اللواء أبو الجماجم يموت من الحنق والحقد وعدم التوقع) سنعيد بناء المدرسة معًا.
أبو الممرضة: سنعيد بناء المدرسة لأولادنا ولأولادكم.
اللواء أبو الجماجم: (لأم الجميع) هل تركوا مأدبا؟ كيف يتركون الجنة التي ليست جنة وهي جنة؟
أم الجميع: لن يتركوها إلى الأبد، إلى أن ترحل من فوق رؤوسهم دائرة الموتى.
اللواء أبو الجماجم: (متفاجئًا) دائرة الموتى؟
أم الجميع: هل تخشى الموت، يا حاج؟
اللواء أبو الجماجم: (متصنعًا الغضب) أنا - لا - أخشى - الموت! ثم لا تسميني حاجًّا، لست حاجًّا، ولا أرغب في أن أكون حاجًّا، وأنا أكره الحجاج!
أم الجميع: الله يستر! ماذا فعل لك الحجاج كي تكرههم؟ وهل تعرف كيف تكره أنت؟

(يبدأ الجميع العمل من جديد. أم الجميع تنسق بين مهماتهم دون أن تهتم باللواء. يعود الفلاح الثاني بصحبة عدد من رجال ميليشيا المخيم)

أم الجميع: (هاتفة منادية) ميليشيا!
أحد رجال الميليشيا: هيه!
أم الجميع: جيتينا!
أحد رجال الميليشيا: هيه!
أم الجميع: تساعدينا؟
أحد رجال الميليشيا: هيه!
أم الجميع: تحمينا؟
أحد رجال الميليشيا: هيه!
أم الجميع: كل ما طلبنا تعطينا؟
أحد رجال الميليشيا: هيه!

(أم الجميع تزغرد. مجموعة من الأشبال تدخل المسرح، الحفيد سيف الدين بينهم)

أم الجميع: وأنتم أيضًا؟
الحفيد سيف الدين: ونحن أيضًا، يا جدتي!

(تضمه جدته، فأمه)

أم الجميع: (ضامة اثنين آخرين) في عيونكم ضوء أسود أريده!
اللواء أبو الجماجم: (محتدًّا) وأنا؟ ألا تريدينني أنا؟ (لا تعيره أم الجميع أدنى اهتمام) أخذت أدواتي وأخذت عمالي، ولا تريدينني أنا!
أم الجميع: لا أحد يمنعك من العمل هنا، لا أحد ممنوع من العمل،
لا أحد يَمْنَع العمل!
اللواء أبو الجماجم: بلى! هؤلاء! (مشيرًا إلى عائلة الممرضة) أخذوا مكاني!
أم الجميع: هناك مكان لكل من يريد العمل، هذا مكان يعمل فيه كل من يريد.
اللواء أبو الجماجم: لا أستطيع العمل معهم.
أبو الممرضة: هل نحن شياطين الحكايات الغبية؟
اللواء أبو الجماجم: أنتم شياطين الحكايات الذكية، وهذه ليست مهنتكم.
أبو الممرضة: إذا لم تكن مهنتنا، تعلمنا مهنة غيرنا.
اللواء أبو الجماجم: تتعلمون التهديم نعم، أما البناء فله أصحابه، وأصحاب البناء هم نحن!

(الفلاح الثاني يفتعل بلسانه صوتا متهكمًا، مما يثير الضحك، فيهب اللواء جاذبًا إياه من خناقه)

اللواء أبو الجماجم: أتسخر مني أنا ساحر الأسمنت، وملك الحجر؟ أتسخر من ابنٍ أمه كانت رملة، وصارت أرضًا قاحلة؟
الفلاح الثاني: أنزل يدك أو أقطعها لك! أنزل يدك الطرية مثل بطيخة فاسدة!

(أم الجميع تفصل بينهما)

أم الجميع: (للواء) تظن نفسك من؟ أبو علي دون أن ندري! تظن نفسك اللواء أبو الجماجم ونحن ندري!

(اختلف عليه الأمر، فأراد أن يعترف لها بكل شيء، لكنه تراجع)

اللواء أبو الجماجم: هو الذي يسخر مني! لأنني بناء بسيط ابن بسيط، يا ليتني كنت اللواء أبو الجماجم!
أم الجميع: (تهدم غروره) لو كنته لما كنت!
اللواء أبو الجماجم: (مهددًا) سترون! سأروي للملأ عنكم حكايات، وسألتحق بابنك الذي هجرك!
أم الجميع: رح بلط البحر إذا كان باستطاعتك! إذا كان باستطاعته!
اللواء أبو الجماجم: هذا لأنني أردت أن أكون لكم عونًا، لكنكم
لا تستأهلون عوني! (ينادي رجاله) تعالوا! (يلقون الطوب من أياديهم ما عدا واحدًا) وأنت؟ ألا تأتي؟
المندس: لن آتي (يخلع لباس سمك القرش الذي يرتديه، ويغمزه) سأعمل معهم. أنت جشع وأناني، وهم أحس بنفسي بين أهلي معهم! هم، على الأقل، يعملون معًا، وليس فيهم حاكم أو آمر!
اللواء أبو الجماجم: يا خاين الخبز واللحم! (ويغمزه) إذا جئتني يومًا، وأنت تلهث كالكلب الجبان بحثًا عن عمل، فلن أرميك بعظمة تأنف من شمها الكلاب!

(اللواء أبو الجماجم يخرج مع رجاله بخطوة غاضبة، ثم لا يلبث أن يعود مطالبًا بأدواته، فيقذفونها في وجهه، ليجمعها، ويخرج من جديد. لحظات عمل يذوب فيها الجميع)

الفلاح الثاني: (للمندس) من أين أنت؟
المندس: من الأغوار.
الفلاح الثاني: أرى أنك بناء ماهر!
المندس: عملت في الفلاحة إلى ما قبل ستة أشهر. إلى ما قبل أن أرى أنني فلاح فاشل.
الفلاح الثاني: إلى ما قبل أن ترى أنك بناء ماهر.
المندس: إلى ما قبل أن يأخذني اللواء أبو الجماجم.

(الكل ينتبه للحديث)

المندس: إلى ما قبل أن يأخذني للحبس اللواء.

(الكل يطمئن للحديث)

الفلاح الثاني: ولماذا تركت الفلاحة؟ أنت فلاح قبل أن تكون بناءً. أرض الأغوار صعبة، لكنها عاشقة للمحراث.
المندس: تركتها لنفس أسبابك.
الفلاح الثاني: لعنها الله من أسباب!
المندس: كلنا في الهم سوا!
الفلاح الثاني: كلنا في الهم بناء!

(يضحكان. يسدل الستار الداخلي، يدخل حمد أبو ريش بصحبة اللواء أبو الجماجم)

حمد أبو ريش: (غاضبًا ضاربًا الصولجان في كفه دون توقف) لا تقل لي ليس ذنبك. هو ذنبك! لا تقل لي ليس ظرفك. اجعله ظرفك!
لا تهدم! اقتل! اقتل واهدم! اهدم واقتل! تغير! تزيف! كن امرأة واقتل! كن طفلا واقتل! كن صرصارًا واقتل! المهم أن تنفذ! اقتل، وضع سكين القاتل في يد غيرك، واجعلهم ذئابا من حوله... سيمزقونه إربًا، فيحصل بعضهم على لذته، وبعضهم على ندمه، وفي كل الأحوال اقتل، واهدم، واقتل، واهدم! (وقد أخذ في ضربه بصولجانه) نفذ! نفذ! نفذ! (يفلت اللواء من تحت ضرباته، ويغادر الخشبة نافذًا بجلده. يتأوه حمد أبو ريش بعنف، ثم يتمالك عن غيظه، ويحدث نفسه) لن أذهب إلى درويش، ولن أبعث بأحد إليه، كما وعدته، سأتركه يخاف، وسأتركه يفكر في موته... سأتركه يغضب، وسأتركه يتعلم كيف يحقد على غيره (يقهقه) هذه الأم هي امرأة، وهذه المرأة يمكنها ألا تكون أمه، ويمكنها أن تكون أم أي ابن لا تعرفه، كقطة تأكل صغارها في لحظة جوع، وتجامع كبارها في لحظة شهوة، فالنشوة في الفعل لا في عناصره... بين عناصر الفعل تقوم الغربة الأبدية!

(يغادر الخشبة، يرتفع الستار الداخلي على البناء والبنائين. أبو الجماجم يدخل متخفيًا في ثياب امرأة وعلى رأسه باروكة)

اللواء أبو الجماجم: (متصنعًا صوتًا رقيقًا دون أن ينجح) هل تريدون معاونة من امرأة فقيرة تمد لكم يد العون؟
أم الجميع: (مترددة لا يفارقها الشك) عدم المؤاخذة، ألم أرك من قبل؟ ألم أرك في بركة وحل أو تحت سقف ينفذ منه المطر؟
اللواء أبو الجماجم: لم تريني من قبل. أنا لست من هنا، أنا من هناك، كنت مارة، لقيتكم مشغولين، فقلت أساعدكم!
أم الجميع: (لا يفارقها الشك) فيك الخير.

(اللواء أبو الجماجم يسارع إلى العمل في طرف بعيد عن عيون أم الجميع، يرفع شعره الاصطناعي مهويًا من شدة الحرارة، وفي الوقت ذاته مرتاحًا لنجاح الحيلة. يغمز بعينه الجمهور، ويذهب من وراء الفلاح الثاني ليدفعه في خصره مؤلمًا إياه، وبسرعة يخفي نفسه. الفلاح الثاني يظن أن ميمونة هي التي دفعته، فيهوي بقبضته على ظهرها، ويلتحمان معًا في عراك تضع أم الجميع له حدًّا. اللواء أبو الجماجم يعيد هجمته اللامباشرة مع المندس بعد أن يتبادلا إشارة متفاهمة، فيتخاصم المندس وأبو الممرضة إلى أن تهدئ أم الجميع الأمور. وعندما يريد اللواء أبو الجماجم محاولة ذلك مع أم الجميع تكتشفه عند آخر لحظة، فيتصنع بسمة معسولة، ويقترب من أبي الممرضة محرضًا إياه على ترك العمل، قائلاً إنه عمل للآخرين، وهؤلاء كلهم غرباء عنه، لصوص وكفار وقتلة، ولا فائدة في ذلك تعود عليه، واعدًا - وهو المتخفي في جلد امرأة- الزواج منه، أو أن يزوجه إحدى بناته، ولن يُفرغ خلال العرس مئات الطلقات في الفضاء، فيقتل بعض الطيور المهاجرة، ومرة أخرى، تحول أم الجميع دون تحقيق أغراضه)

الطالب: (وهو يأتي بالماء) يريدون ممرضة في المعسكر.
أم الجميع: (تقبض على قلبها) رأيت طائر الموت!
الطالب: (ضاحكًا) عادوا ببعض الفدائيين الجرحى فقط لا غير.
الفلاح الثاني: من أين عادوا؟ ومن جرح الجرح؟
الطالب: من البلاد طبعًا... ومن يجرح الجرح في البلاد؟
أم الجميع: (تقبض على قلبها دومًا) هل مات، فخبأتم عني خبره؟
الطالب: (خائفا) سيموت الجرحى!
أم الجميع: (لابنتها) اذهبي إذن، ولتأتيني بخبره!
ميمونة: سيأتيك غيري بخبره!
الممرضة: (لميمونة) سأذهب أنا، أنا أعرف في الجرح مثلك، ولن أتكلم مع الموت كما يتكلم مع غيرك!
أم الجميع: ربما احتاجوا إليكما أنتما الاثنتان... (وفجأة) انظروا إلى لون الماء، حتى الماء صار لونه أحمر!
الممرضة: (لميمونة) إذا احتاجوا إليك بعثت في طلبك أنا (ثم لأم الجميع) لون الماء ماء يا خالة... ألا ترين جيدًا؟ (تضحك).
أم الجميع: (بعد لحظة، وفجأة) انظروا إلى لون الليل، حتى الليل صار لونه أحمر! (بعد لحظة، وفجأة) انظروا إلى لون الضوء، حتى الضوء صار لونه أحمر!

(الممرضة تذهب حائرة، اللواء أبو الجماجم يتبع الممرضة، وقد ارتدى ثيابه الرسمية، بخطوات اللص، متلفتًا حوله، لئلا يراه أحد. الجميع يعملون بهمة، والبناء يرتفع)

أم الجميع: (تدندن بصوت منخفض، في البداية، ثم يعلو صوتها)

يصير البنا عالي
يصير في الأعالي
بالعمل يضوي النهار
شمس الفجر بتلالي
* * *
تسلم كل الأيادي
كل الأيادي لبلادي
بالعمل يزول الصعب
ويزول قهر الأعادي
* * *
الجميع: (معًا بصوت عالٍ)

طوبة على طوبة يا إخوان
تكبر وتقوى الجدران
طوبة على طوبة يا حمام
تغني وتحوم بأمان
* * *
يقولوا الصبر ابن الجد
ونقول الجد ابن الجد
والجد صابر من زمان
* * *
احنا اللي نبنيك في الأعالي
واحنا اللي نهديك الأغاني
واحنا اللي نعبر النهر
ونشعل الضوء
في الليالي
* * *
يصير البنا عالي
يصير في الأعالي
بالعمل يضوي النهار
شمس الفجر بتلالي
* * *
تسلم كل الأيادي
كل الأيادي لبلادي
بالعمل يزول الصعب
ويزول قهر الأعادي
* * *

(عويل، صياح، وبكاء. أهل المخيم يصمتون، ويتوقفون عن العمل. تدخل النساء، وهن يلطمن، ويبكين، أمام جسد الممرضة المتفجر بالدم بين ذراعي حسن الشاطر. يودع حسن الشاطر الجسد القتيل ذراعي الأبوين. ميمونة تبكي موت صديقتها. أم الجميع تتقدم كشجرة في الريح لترى جسد الدم. الصراخ يتوقف، الحركة تتوقف. لحظة شلل رهيبة. يدخل اللواء أبو الجماجم بدرويش نَفَس المرتينة، وهو في قبضته خنجر مدمى. يدفعه من أمامهم، فتلجمه نظرات الاتهام وعدم التصديق)

اللواء أبو الجماجم: ألقيت القبض عليه، وهو يحاول الهرب، قلت له أنت القاتل، فنفى، وأداة القتل بين أصابعه تشير إليه!
درويش نفس المرتينة: (غير مصدق نظرات الاتهام) ولكني سمعت صرختها، فخرجت! كنت مختبئًا على مقربة منها، لم أرَ المجرم، ورأيت الجرم! انتزعت الخنجر من القلب الذي ظننت أنه دافع عن نفسه، هاربًا من وراء جدار، فإذا بالخنجر أصابه في القلب! وأنا أقبض على الخنجر مذهولاً، ألقى اللواء القبض عليّ ظانًّا أنني القاتل! لست القاتل! لم يكن هناك شاهد، ولم يكن هناك قاتل!

(أم الجميع تنهار، حسن الشاطر يخلص أخاه الخنجر محاولاً طعنه في قلبه، فتمنعه أخته، ويمنعه الأصحاب، ويسقط الخنجر على الأرض)

اللواء أبو الجماجم: هو القاتل! كنت وحدي الشاهد، والآن الشاهد أنا وأنتم، سأضعه في الحبس، ريثما يحاكم.
حسن الشاطر: سنحاكمه نحن بعد أن وقع القتل في منطقتنا، القاتل منا، والقتيل منا، والحاكم سيكون نحن!
اللواء أبو الجماجم: (متصنعًا التردد) أنا ممثل القانون، وأنا سأحاكمه، هو من قتل، وهو من هدم، وهو من منع الماء!
أم الجميع: (تتقدم من ابنها ضائعة، وتأخذ بضربه على صدره) لماذا أنت؟ لماذا أنت؟ لماذا أنت وليس غيرك؟
درويش نفس المرتينة: لم أقتل، لم أهدم، لم أمنع. كنت مختبئًا من غضبك، كنت منتظرًا صفحك وغفرانك، فوقع الذي أوقعني.
أم الجميع: (بتشفٍ وتوعد) أيها الضليل! أيها المنبوذ! سأعرف كيف أحقد هذه المرة، وسأختار نهايتك! (تأخذه من اللواء، وتعطيه لحسن الشاطر) قيده لئلا يهرب منك! وضعه في حبسنا الذي في أمعاء المخيم ريثما نقر محاكمته (يخرجان. تكلم نفسها) ولدي يعاقب ولدي! فصل يعاقب فصلاً! وقمر يعاقب قمرًا! وأنا يعاقبني نيزك لم يهو بعد في الفضاء الفسيح! (لهم) تعالوا إلى البناء الدامي، ولا تقعوا في طريق النيزك المحرق!
اللواء أبو الجماجم: (لأبي الممرضة) ماذا تنتظر؟ قتل ابنهم ابنتك! هل تشك الآن في قولي؟ (يتناول الخنجر عن الأرض) خنجر من هذا؟ ودم من هذا؟ أيها الفاقد الرشد! كيف تعمل لهم ومعهم؟ صحيح نحن كلنا مع البناء، ولكن مع البناء الشريف لا الذي لا يعرف شرفًا. البناء الذي يرتفع ناطحات سحاب لا الذي يرتكب الجرائم في الخفاء. وضد من؟ ضدك أنت! اليوم ابنتك وغدًا أنت أو زوجتك! وكل هذا لأجل ماذا؟ لأجل الصولجان. الصولجان فقط، يا والدي. الصولجان المتصولج عليك. قمعك. استعبادك. أي عار أن يستعبدوك وأنا موجود! سآخذ حقك بيدي، وسأنتقم لابنتك وشرفك! فقط أعطني ثقتك! أعطني ثقتك فقط، واترك الباقي عليّ!

(ضوء دائري على الأستاذ يحمل بلكون جينيه. يتكلم بصوت متموج. يتوقف كل من هم على المسرح عن الحركة. تنشأ مشاجرة حادة بين الطالب والشبان، لكن ميمونة تفصل بينهم في الوقت الذي ينطفئ فيه الضوء عن الأستاذ. يعود الجميع إلى الحركة. يريد اللواء أبو الجماجم الخروج مع أبي الممرضة، والرجل يتردد ملتفتًا مرات نحو الآخرين، كمن يطلب عونهم، وقد نسوه تمامًا، داخلين في نقاش أخرس لا ينتهي، وفي الأخير يضطر أبو الجماجم إلى سحبه، النقاش الأخرس يستمر تصاحبه حركات اليد والرأس العصبية. المندس يتسلل، ويسحب إحدى الطوبات هاربًا مع سقوط الجدران. يتقدم الجميع من الأنقاض بخطوات مشلولة، ووجوه الجميع لا تصدق الكارثة. درويش نَفَس المرتينة يخرج من بين الأنقاض راكضًا، وحسن الشاطر يركض من ورائه، يغادران الخشبة، وبعد قليل يعود حسن الشاطر خائبًا غاضبًا)

حسن الشاطر: كيف استطاع الهرب؟ كيف أمكنه أن يستعين بالأنقاض على الهرب؟ ونحن في الطريق حاول أن ينفي عنه الاتهام بلغة العقل تارة، وتارة بلغة العواطف. لكني أقفلت طوق عدم الفهم على نفسي، ولم أصغ إليه. رأيت شفتيه تتحركان، وتحولت شفتاه إلى قطرة دم، لم أمسحها له، تركته ينزف، وأُخذت بالصورة، فاستغل لقائي مع الخيال، وخرج من الصورة. كيف استطعت أن أتركه يهرب؟ كيف أمكنني أن أستعين بالأنقاض لأجل أن يهرب؟ لقد ذهب في الطريق البعيدة عني، أذهبته في طريق أخرى أبعد من القلب، وأقرب إلى البصر، هكذا أراه بوضوح، أراه هو، ولا أرى صورته. رأيته يذهب في الطريق الذي سيعود منها مع أخي ضدي، على الأمور أن تجري، فأُقر حكمي، وأُقيم عدلي... (لهم دون أن ينتظر الأمر من أمه) عليكم أن تعيدوا قيام البناء قبل أن ينهدم للمرة الأخيرة!

(يأخذون بالعمل حيارى. أخت الممرضة تدخل دون أبويها)

أم الجميع: (لأخت الممرضة) هرب القاتل، لكنه في طريق العودة.
أخت الممرضة: جئت لأقول لكم إنني معكم بكل مشاعري.
أم الجميع: ستكون مشاعرك معنا حين الانتقام.
أخت الممرضة: لكني لا أستطيع البقاء.
أم الجميع: أفهم أن جرحك لا يتحول إلى طائر... (تبحث عن أبيها) أين أبوك؟
أخت الممرضة: عاد من حيث جاء.
أم الجميع: إلى مأدبا؟
أخت الممرضة: إلى الطائر الذي لا يتحول إلى جرح.
أم الجميع: وأمك معه؟
أخت الممرضة: أمي الجناح.
أم الجميع: تحت دائرة الموتى؟
أخت الممرضة: العالم مقبرة!
أم الجميع: ولماذا لم تقولي لهما؟ لماذا لم يعرفك ولدي قبل أن يقتلك في أختك؟
أخت الممرضة: قلت لهما، ولم يسمعا لي! عرفني ولدك، وقتلني!
أم الجميع: ستقتله هذه الحجارة!
أخت الممرضة: عند ذلك الوقت سيحبني وأحبه!
أم الجميع: حذار من حبه! أحبي دمه! ولا تحبي حبه! وإن بقيت معي، علمتك. لماذا لا تبقين معي؟
أخت المرضة: لأنني أتبع أمي.
أم الجميع: حتى والعالم مقبرة؟
أخت الممرضة: هو أقوى منها ومني.
أم الجميع: (دون سرور) شكرًا لك على أي حال! شكرًا للصراحة! شكرا للوضوح!
أخت الممرضة: (قبل أن تذهب) شكرًا للغموض!

(يكون المندس قد عاد باثنين آخرين ليندس ثلاثتهم بين صفوف العاملين في البناء. أم الجميع تأخذ بتوزيع الأدوار. هناك من يجبل الأسمنت بالماء والتراب، ومن يجلب الماء في الدلاء، ومن يجلب الطوب، ومن يرفعه، ومن يصفه. الجدار يأخذ بالارتفاع من جديد على إيقاع الأغنية المعادة بصوت منخفض لا يعلو...)

يصير البنا عالي
يصير في الأعالي
بالعمل يضوي النهار
شمس الفجر بتلالي
* * *
تسلم كل الأيادي
كل الأيادي لبلادي
بالعمل يزول الصعب
ويزل قهر الأعادي
...................
(إلى آخر الأغنية)
* * *

(ظلام، ضوء شامل، الملكة بوجه المهرج دومًا، وفي ثوب من جلد الحيوان. تجلس على عرش حطبي بدائي متحصنة بصمت منيع. على رأسها تاجها. تدخل المجنونة مشيرة إليها، مقهقهة، ساخرة، ثم تجمد فجأة، وتأخذ بلطمها لطمات عدة)

المجنونة: هذا لأنك ابنة عاق، غير طائعة، ابنة صامتة لا تستجيب لأمرِ أُمٍ فُرض عليها عدم الصمت! أتظنين في الصمت مقاومة؟ في الصمت دهاء؟ في الصمت تكبر الطفولة؟ تقول ما لا يجب قوله؟ تعبر عما لا يجب التعبير عنه؟ عن استحالة النضج؟ وتحقيق رد الفعل؟ والمواجهة؟ (تعود وتلطمها) تعالي نتواجه بالنطق، لأجعلك تكبرين، لأعطيك حق القول، وحين أضربك حق القتال... تعالي نتواجه بما لست أدري من العواطف، فأرق، وألين، أو أجعلك تغضبين عليّ بما أستأهل... تعالي نتقاتل برقة اللمس، لمس الأصابع، أو النظرات، أو الشفاه، فأبحث عن غيري في ثيابي... لكنك عنيد (تأخذ باقتلاعها من شعرها) عنادك عناد الوعول، وأنت لم تزالي رضيعًا لظبية! في رأسك رأس تيس، وفي جسدك جسد وردة تفتحت مع مرور نسيم عاشق في الصباح الباكر! عنيد عناد أب يكره رجولته، وفخور فخر أم لا تريد أن تكون أنثى مرتين! هذا هو فخرك... (تمزق لها ثوبها) وهذا هو سلاح صمتك... (تتناول التاج وتحطمه) وأنا عندما أكف عن النطق مثلك، سأعرف كيف أنتقم منك، لكني لا أعرف كيف أصمت (تأخذ بخنق نفسها، وقذف لسانها، ثم تلطم، وتنتحب) أسعيدة أنت، الآن، وقد أريتك ذلي؟ أهنية نفسك، الآن، وقد أريتك ضعفي؟ آه، من طفولتك القوية! آه، من قوتك الطفولية! آه، من الصمت الذي يحولك إلى حزام محارب، وصدار حديد، وسلسلة نحاس! آهٍ منك، يا صرحًا لا ينهار! (تبتهل) الرحمة! قولي لي كلمة واحدة لأصيرك. (تنضم إلى صدرها) ارفعي يديك، وضعيهما على شعري! المسي نهديّ، واتركيهما يكبران! خذيني إليّ، وأعطيني إليك! (تجد نفسها بين ساقيها) أنا التي ستلدينها والقمر قمر والقمر محاق! (تقذف بنفسها من بين ساقيها) أطعميني من حليبك لأكبر (تجمع نفسها على صدرها) لأني أريد أن أكبر، وعندما أكبر، سأفكر فيك، وسأحبك! وفي الليل، سأحلم في الليل عندما أنام... (تنام وهي تمص إبهامها) وفي الصباح، سأجد نفسي في الصباح أتكلم معك، وأنت دومًا صامتة، فأقول لك إنني أمك، وإن من واجبك أن تطيعيني، لأنني أمك، ولأنني أعرف أكثر منك، ولأنني أقدر عليك وعلي غيرك، وإذا كنت لا أقدر على غيرك، فلا بد أني قادرة عليك، فاخرجي من صمتك، أو أني سأخرجك منه كخنجر يخرج من غمده، وإذا ما تجرأ، ولم يطع مثلك، طرقته على أصابعه... (تطرقها على أصابعها، وتسيل لها الدم) وإذا ما تجرأ، وحاول جرحي مثلك، جلدته بالسلسلة... (تجلدها بالسلسلة، وتسيل لها الدم) وإذا ما تجرأ وحاول إسقاطي مثلك، اقتلعت له الرموش بخنجر آخر يشبهه ويختلف عنه... (تقتلع لها رموشها، وتسيل لها الدم) سألهث، وسأتعب، وربما سأنادي، ولكني في النهاية، سأستريح... أية نهاية هي نهايتي معك، يا مليكتي العظيمة! لا نهاية لي معك، يا مولاتي! لسوف أذهب، لسوف أذهب عنك إلى الأبد، لسوف أذوب في الزمن... أيتها السيدة الجبارة! يا ملكة الصمت، وحصن الوعول! أيتها السيدة الرائعة المروعة! يا احترام الملوك، وبحث الشعوب عن العدالة! أستودعك... إني أستودعك... (تبذل آخر طقوس الطاعة والولاء، ثم تنسحب رجوعًا إلى الوراء، وتغادر الخشبة).

(ضوء دائري على الملكة الدامية المهرجة المشوهة والدمع يسيل بهدوء على خديها. في عينيها السوداوين رعب وتساؤل، تنظر إلى كل الاتجاهات بحثًا عن المجنونة دون فائدة، ثم تطلق بعض الثغاء في الضوء، وبعضه في الظلام. ضوء على تمثال فينوس والدبابة باتون. حمد أبو ريش يفتح تمثال فينوس، ويخرج من بطنه)

فينوس: ماذا ستفعل بعد أن خرجت من بطني؟
حمد أبو ريش: (متفاجئًا خائفًا دهشًا) آه، فينوس، كيف نطقت؟
فينوس: من صمت الحجر أنطق!
حمد أبو ريش:(ساقطًا على قدميها مقبلهما) آه، يا سيدتي، متى تخرجين من الحجر مثلي؟
فينوس: ولماذا أخرج؟ لمن أخرج؟ تعرف أنني لست لك؟
حمد أبو ريش: (ناهضًا منكسرًا) هل يمكن أن يكون الكل لي ما عداك؟
فينوس: للجمال شرط، وأنت لست شرطي! اذهب الآن وضع على رأسك التاج الذي اغتصبته، وكن للإرهاب فلسفة! اذهب وارم على كتفيك الكاب الذي لوثته بالدم، واشعر بأنك طاووس بشع! اذهب وخذ الصولجان الذي جعلت له من سحر الظلم نبراسًا، واضرب به مملكة من العبيد، وصر عبدًا لصولجانك! هل هذه هي قوتك التي تحاول بها أن تغزو جمالي؟ لو كانت قوتك قوة، لما اغتصبت! ولو كانت قوتك قوة، لما قتلت! ولو كانت قوتك قوة، لما استباحت! ولو كانت قوتك قوة، لما سقطت في الدناءة! ولو كانت قوتك قوة، لما خلعت الشرف، ولبست الاحتيال! ولو كانت قوتك قوة، لما عبت من هواء الظليم أكسيدها! ولو كانت قوتك قوة، لما نهبت، لما خطفت، لما قنصت، لما كذبت، لما دبرت، لما تكتكت، لما ضربت الطرف الأول بالثالث، والطرف الثاني بالرابع والأربعين، لما تحرشت، لما بثت الذعر، لما حلت الخطأ، لما حرمت الصواب، لما أمرت قوة أصغر، لما ائتمرت بقوة أعظم... قوتك الجلال السفيه، والهيبة المستعارة! نحتتها في شخصك يد فنان حاقد على الفن، يسعى إلى تدميره! انظر إليك في الثياب المرصعة بالنجوم جرذًا تهابه القطط التي تعلمت التدليس، وتربت على المهانة! انظر إليك جيدًا، أي عقاب جهنمي عميق يسعى لتدمير جنة الأحلام الكبار لأناس صغار رفضتَ لهم الحلم، ورفضتَ لهم القيام في الصباح إلى أعمالهم الصغيرة، الكبيرة في المدى، باتجاه الغرب! هذا أنت عقاب جهنم، وقوة تمثال تُحطم في طريقها كل قوة أخرى ما عداها، مع أنها خرجت من بطن الجمال!
حمد أبو ريش: ها أنت تدخلين، إذن، عصرًا جديدًا!
فينوس: أنا لا أدخل، فأنا لا أدخل، ولا أخرج، ككل الآلهة، ولكني أرى عصرًا جديدًا كان قديمًا هو عصر البرابرة!
حمد أبو ريش: (هابًّا بها) سأحطمك، أيتها الإلهة الآدمية!
فينوس: (متحدية هيابة غاضبة) أنا من ستحطمك، أيها الحاقد النذل الجبان! أنا من ستحطمك، أيها الوغد الساقط الحيوان! روث دابة أنظف منك، وطين نعل أنقى منك، وقذارة قمامة أبيض منك! لماذا انسحبت؟ لماذا تراجعت؟ تعال كي أحطمك، كي أنتقم للذين منهم انتقمت، كي أعيد للملكة اعتبار الملوك، ولأخيك معنى الأخوة، ولأختك شرف الأخت، ولأمك شرف الأم، ولابنتك شرف الابنة... وللكلب معني الوفاء! تعال كي أطعنك في القلب، أو أطلق قي قلبك رصاصة الموت المحرر، فأعتقك من خططك وأفكارك...أنت، أيها الجبان المتجبر، الخرع المتهور، اللقيط المتخفي في الشرعية... لن تكون ابن أمك، وليس أنت الذي خرج من أحشائي! (تقذف أحشائها) هاءنذا أقذفها أحشائي، لتنظر إلى بشاعتها، فتعرف من أين خرجت. ليست هذه فينوس ربة الحب والجمال، ولا تلك التي أعطتها قوة العقل، وجلال المعرفة، وسحر الإزميل... هي أحشاء تصعد منها رائحة كريهة، ليس لها صورة، أو أنها صورة شنيعة، مختلطة العناصر، ملوثة، مدهونة بلون الدم والحشيش، وبمادة لزجة ليست الزبدة ولا العسل، ولكنها أقرب إلى شحم بعير قتلته أنثى عقاب لتذيبه الصحراء! تعال! لماذا لا تتقدم؟ هل مسخت صرصارًا أم جمدتك الجريمة وصرت تمثالها؟ سأتقدم أنا منك... (تتقدم وهو يتراجع مرتعبًا) سأتقدم بانتقام الآخرين منك... (تضع ذراعها المكسورة، ثم ترفع سلاحه الذي أسقطه، وتصوبه إليه).
حمد أبو ريش: (صائحًا بأقصي قواه) النجدة! النجدة! أنقذوني من قرار الحجر!

(راكضًا وقد سقط عن رأسه تاجه، وأفلت منه صولجانه وكابه، مغادرًا الخشبة، وفينوس تسعى من ورائه بقدم مصممة، والسلاح مصوب دومًا باتجاهه. طلقات نار في الكواليس... بعد لحظات، يظهر حمد أبو ريش، وهو يلهث، ويمسح عن جبينه العرق، وعن أصابعه الدم، ويأخذ بالكلام)

حمد أبو ريش: فينوس الجميلة الرقيقة العفيفة تصبح عنيفة! جمال الجمال ورقة الرقة وعفة العفة تقف ضدي، وتدافع عن غيري! فينوس الحب تكرهني! تحقد عليّ! كيف الحب يكره؟ كيف الحب يحقد؟ كنت سأجعل مني طودًا لها، موجًا، وصقورًا متحدية. كنت سأجعل منها شمسًا لي، قمرًا، وثريا متحكمة. كنت سأكسوها بالجوهر، وأجلب لها كل ما تريد وما ترغب، عبدًا أبيض، أو عنبًا أزرق. كنت سأبعث بها إلى جزر على سحاب، وأشق لها الشوارع في أجنحة سمك لا يهاب... وكنت، وكنت، وها هي فاتنتي تشارك في الفتنة! ها هي تسعى إلى اغتيالي، وأنا الإخلاص، أنا الصدق، وأنا حقيبة السلام! (يكون قد وقف في الظل الرهيب لمدفع الدبابة) سأستبدل تمثالاً بتمثال... فينوس ليست سوى تمثال. سأستبدل بها تمثال الحرية المخضر، سأصعد إلى خاصرته الضامرة، وألقي النظر إلى أمواج النهر الضحل... (يصعد على خاصرة الدبابة) سأصعد إلى نهده النافر، وألقي النظر إلى دوامات الضباب المرمد... (يصعد على نهد الدبابة) سأصعد إلى شفته المكتنزة، وألقي النظر إلى ناطحات سحاب نيويورك الأمر والإذعان... (يصعد إلى شفة الدبابة) وسأرى جنة ثانية أو جهنم ثانية... سلطة ثانية أو حربًا ثالثة... طائرات محولة ورهائن وقراصنة أو قضيتي العادلة... وسيرى العالم معي ما أرى: الغرب مائي، والشرق حريقي الكبير! (يشعل عود كبريت، ويقترب به من مدفع الدبابة، ويهمس) ها هي نتائج ميتافيزيقيا نار تلعب بها الطفولة!

(يطلق المدفع. الستار الداخلي يرتفع على إيقاع قذائف الدبابات والمدافع والصواريخ. جدران المدرسة المكشوفة أكثر من أي وقت مضي تبدأ بالانهيار، ويبدأ المندسون بالانتقال من المخيم إلى الجبهة المضادة. أم الجميع بين الحرائق والركام تطفئ النار التي نشبت في شجرة الزيتون. حفيدها سيف الدين يأتي لها بالماء. أسلحة الدوشكا والآربي جي والبازوكا والكلاشنكوف ترد الأسلحة الثقيلة على أعقابها، عملية الدفاع عن المعاقل تتكرر مع تكرار الهجمة. رزنامة ضخمة تشير إلى تواصل أيام القتال، وتلح على طولها. بعض المقاتلين يأتون أم الجميع بولدها الأصغر حسن الشاطر جريحًا، وآخرون يأتونها بولدها الأكبر درويش نَفَس المرتينة قتيلاً، تلمس ثغور الرصاصات المتفجرة في جسده، ولا تتوقف عن البكاء المكتوم المتفجر بالصمت. ظلام وصمت معًا. ضوء يتخلله ضوء القذائف. أم الجميع في الوادي ضريرة تضرب بعصاها الحجر تلو الحجر وأصوات القذائف تصلها كالرعود)

أم الجميع: رعد السنة هذه بلا أمطار! تندق الرعود فوق رؤوسنا، ورؤوسنا المكشوفة غير مبللة!
الملكة: (تهجم عليها مدماة متوحشة) سمعتك تجدفين، يا امرأة فقدت البصر، وأفقدوها البصيرة! هذه ليست رعود للمطر بل رعود للدمار، وهذه البروق التي لا ترينها، والتي روعت ملكًا عظيمًا من قبلي، ما هي سوى أقواس نارية للاحتفال بعيد عرشي ذاك الذي أعطيته لولد عزم على أن يثبت للملأ أنه ملك يستأهل الملك والعظمة التي كانت لأمه.
أم الجميع: (مترددة غير عارفة كيف تبذل طقوس التعظيم والإجلال) أنت سيدتي الملكة! هنا في منطقة متوحشة! تحت سماء ترعد رعدها الجبار دون مطر! لك إجلال امرأة شيخة أمطرت كل الدمع الذي في عينيها حتى جف الغمام، وامتدت السماء فيها ظلامًا أسود!
الملكة: عرفت، لقد بكيت ولدًا ظلمته حتى عميت!
أم الجميع: ولدين. واحد ظلمته، وواحد ظلمني. فتوحد الدم في لعبة الحق والمصير!
الملكة: لو كان لي قلبك لفعلت مثلك. يوحدهم الدمع أيضًا والقتال المستحيل!
أم الجميع: ولماذا أنت هنا، أيتها الملكة الجليلة، ومنك تنبعث رائحة ثعبان هارب من وكره؟ لماذا لست في قصرك؟
الملكة: قصري هو وكري، أيتها المرأة الضليلة! قصري يُحرق الآن ويرجم! قصري يبيد الآن، ويفطم! يلعنني، من هناك، وأنا، من هنا، ألعنه بدوري! أنت، يا قصر، لِمَ لا تنهدم؟ أنت، يا قصر، لِمَ لا تندثر؟ أنت، يا قصر، لِمَ لا تغضب غضبتي، فتثبت أني مليكتك التي في أرض الوحوش؟ وهذا الرعد القاهر لا ينفك عن القصف! وهذا البرق الكاسر لا ينفك عن سمل العيون! أرعد إذن، أيها الجبار، وأبرق إذن، أيها الراجم، لتصعد من الأكواخ المهترئة رائحة خراب البشرية، ليدفع البشر ثمن العواء الكامن في المصالح! أبرق، وأرعد، ولا تمطر غير نيران الجحيم، ليدفع غيري ثمن يقيني... (يرق صوتها) مغفرتك، أيتها الضريرة، لملكة أفقدوها الروح، فصارت في لحظتها القادمة ما هي عليه في لحظتها السابقة، مغفرتك، أيتها الشيخة المفجوعة بولدين كريمين، فأنا ما أنا إلا ضحية... كنت المذنبة، وصرت الضحية! هل رأيت أنت في حياتك ملوكًا ضحايا؟ ولكنك أنت لا ترين!
أم الجميع: كنت أرى، ولم أر ملوكًا مثل هؤلاء الملوك!
الملكة: والآن ها أنت ترين! وها أنت ترين أيضًا أيهم العدو! ها نحن أنا وأنت نرى في رعد الموت، وبرق الكوارث، وعواصف الدمار، أيهم العدو!
أم الجميع: أراه بعينين ميتتين! (تنهل الدمع المتمنع بالصمت) رأيته قبل أن أدخل في عالم الظلام، ورأيته بعدما دخلت، ولكني أراه الآن بعينين ميتتين! أعطني أصابعك، يا مليكتي، لأُري أصابعك أمرًا آخر... (تعطيها أصابعها، فتشهق) أصابعك محطمة! من المجرم الذي حطم أصابعك، يا صاحبة الجلالة؟
الملكة: مجنونتي.
أم الجميع: مجنونتك! لماذا؟ هل أصابها الجنون في لحظة غضب؟
الملكة: أصابها الغضب في لحظة جنون.
أم الجميع: ولماذا تركتها تفعل؟ لماذا لم تقتليها؟
الملكة: تركتها تفعل، لأني تركت نفسي للصمت.
أم الجميع: الصمت من أمام فعل كهذا جنون.
الملكة: أعرف، ولكني كنت أراهن على مجيئك.
أم الجميع: سيدتي ومليكتي تقرأ في الغيب؟
الملكة: أحيانًا، عندما يريد أحدهم أن يريني بأصابعي أمرًا آخر غير عدوي.
أم الجميع: المسي خاصرتي اليمني، ثم المسي خاصرتي اليسرى، في اليسار جرح، وفي اليمين جرح.
الملكة: جرح اليمين هو جرحي، وجرح اليسار هو جرحك، وكلاهما قد ارتكب ذنبًا لن تنهض منه شعوبي بعد إدانة.
أم الجميع: ولكني أنا لا يمكنني أن أدين.
الملكة: يمكنني أنا! من هنا، من قلب التوحش أدين! من وكر الثعابين أدين! أدين وأنا أصبر على هواني، أدين وأنا أنظر إلى الجريمة التي اقترفوها في حقك وفي حقي، أدين وأنا أتشرد، وأنام كالضبعة في البراري! أدين إدانة ذئبة رضيع لصائد، أدين إدانة فراشة لضوء مارد، أدين إدانة ضوء للون، الصراع بين الضوء واللون، فأفرش الدرب الوعر بالأزرق الوعر، والصخرة الشامخة بالأحمر الشامخ، والبلطة الحزينة بالأصفر الحزين! أدخل في صراع الأضواء والألوان، وأجعلها مثلي ملكة متوحشة، فأصغي للرعد المدمر، وهي تصغي، وأقول هذه هي نهاية فصل لا وجود له بين فصول السنة، فصل متوحش جحيمي، مومسي ابن ألف لعنة وألف حرام وألف خطة وألف خطيئة، فأصرخ، وأنادي: امطري، أيتها الحرب مطرك الفولاذي إلى أن يجف الغمام، فيعود إلى السماء في عيني تلك المرأة الضريرة التعسة لونها الأزرق والأخضر من الماء إلى الماء! آه، يا سيدتي الضريرة، أنت أنفقت المطر الذي في السماء بكاء على ولدينا، فدعيني أقبل عينيك، دعي لهذه الملكة المتوحشة تحقيق آخر أمر لها قبل أن تجعلك تقودينها في الطريق الصاعدة نحو قمة ذاك الجبل البعيدة... دعيني أقبل عينيك... دعيني أقوم بأول فعل نسيت الملكة القيام به...

(تجعلها تقبل عينيها، تنحني عليها، وترفعها، فتسحبها أم الجميع بعصاها، وهي تضرب الحجر تلو الحجر... تخفت رعود المعارك، وتخف بروقها بالتدريج، ثم لا تلبث أم الجميع أن تدندن بصوت عميق...)

الشمس بكرة طالعة.
متل بكرة وبعد بكرة
الليل مسكين
* * *
الشجرة بكرة طالعة
متل بكرة وبعد بكرة
الوحل مسكين
* * *
الشمس فوق الشجرة يانعة
والقامة فارعة
والمهر ما يلين
* * *
في الظل حبنا لك
اليوم
وبكرة نشلح لك الظل
ونقول يا قوم
عريانين صحيح عريانين
علشان يلبس الوطن
علشان يطلع التين
* * *

(أم الجميع تقود الملكة بعصاها العازمة على صعود الجبل)...

يا سامعين
الحكاية وعرفتوها
هادي البداية
الحياة أخد وعطا
حتى النهاية
الحياة عطا وعطا
بلا نهاية
الحياة معين
غير قابل للنضب
طول السنين
الحياة حنين
عطا وعطا وأخد وعرق
للقمر
من البنادق والسواعد
والعيون اللي ضوت
حتى في اليوم الحزين
* * *
يا سامعين
الرصاص سكت من لحظة
وعلي الباب صوت الريح
سامعين؟
من هلأ احملوا الجبل
من هلأ احرقوا القمر
الصبح يصيح!


تُرمى الستارة



أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004



[email protected]



في سقوط جوبتر، المصراع الثاني من ثلاثية “أم الجميع” المسرحية، نلتقي من جديد بأم الجميع وأبنائها في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الأردنية. عبر سرده لوقائع بسيطة عن نتف من الحياة اليومية، يتمكن أفنان القاسم من دفع القارئ إلى الغوص في جيشان المخيمات بداية السبعينات حين بدأت المقاومة بتنظيم نفسها. ولكن إذا ما أهدى المؤلف مسرحيته لجان جينيه – أحب جان جينيه هذه المسرحية وأراد إخراجها – الذي يذكرنا بفدائيي كتابه “أسير عاشق”، ليست المقاومة المسلحة ما يهمه هنا، وإنما مقاومة الظل، “الصمود”، المقاومة التي تشحذ همة الشعب الفلسطيني. تُجسد أم الجميع تلك القتالية ضد عدائية اليومي، وتلك القوة، قوة الأمل التي تدفع إلى البناء بعناد يومًا بعد يوم. وهكذا، فإن جدران تلك المدرسة التي لا تتوقف عن الانهيار يعاد بناؤها في الحال بلا كلل. الأسلحة، الجراح، الدماء، الحاضرة دومًا، ولكن المُبْعَدة إلى هوامش المشهد، لا تظهر إلا بوصفها إطالة لذلك الوثوب الجماعي نحو الكرامة. مسرحية ذات فصل واحد، سقوط جوبتر على الرغم من ذلك، وعبر لعبة كاملة من الانمساخات، لهي عمل معقد. في نشيد الأمل هذا مع وضد كل شيء، الشخصيات مركز توتر دائم بين “خير” و “شر”. الجنون مهدِّد في كل لحظة، بالقدر نفسه في الانقلاب الكلاسيكي للأدوار بين العاهل والمهرج وفي ازدواج أم الجميع، أم ومليكة في الوقت ذاته. وفي المعادلة الشيزوفرينية لهذا النص، ليس العدو ذلك الآخر البعيد، المحصن خلف حدوده، العدو، إنه أولاً وقبل كل شيء الأخ، الفرد الأكثر لباقة في هذه الانمساخات، الابن المعبود والمكروه في وقت واحد. ونحن نستشف بيسر تحت سمات هذه الشخصية أو تلك صورة هذا السياسي أو ذاك، وخلف الاندحار النهائي شبح سبتمبر الأسود. لكن الكرامة المغلوبة على أمرها من طرف السلطة والطموح والغيرة ستنتصر على الرغم من كل شيء في مشهد كأنه خاتمة مهرجان على أضواء القنابل والحرائق، مخالفًا بذلك ما يَنْصُبُ المسرح من حدود حوله، وحيث يجمع المؤلف بين شخصيتي بطلته في ازدواجها رمزًا للوحدة المستعادة.


* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أم الجميع مأساة الثريا
- الاغتراب
- الكناري
- الشوارع
- إسكندر الجفناوي
- مدام حرب
- النقيض
- شارع الغاردنز
- لؤلؤة الاسكندرية
- باريس
- بيكاسو
- قل لنا ماذا ترى في حالنا؟
- القدس
- الشعراء
- البرابرة
- الأخرق
- الباشا رواية النكبة الأولى
- تراجيديات
- تحليل قصيدة صفد لسالم جبران نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا
- فلسطين الشر


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - أم الجميع سقوط جوبتر