أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الكناري















المزيد.....



الكناري


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3629 - 2012 / 2 / 5 - 21:31
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الروايات (1)


د. أفنان القاسم


الكناري

رواية حرب الأيام الستة


الطبعة الأولى دار البشير عمان 1993
صدرت الرواية بالفرنسية تحت عنوان "كناري القدس"
دار لارماطان باريس 2004


إلى دليلة القاسم
وردة الجزائر


مقدمة لناشر الطبعة الأولى

الرواية في أدبنا العربي لها دورها ومكانتها المميزة، وكذلك في كل الآداب.
ونتيجة لتاريخ بلادنا الطويل ذي الأمجاد، كان للرواية التاريخية في أدبنا دور كبير، وكتب التراجم والسير الذاتية تلعب دورًا هامًا في إخصاب مهمة الروائي.
والرواية لا بد أن تحمل بعضًا من الحبكة والإثارة، وخاصة ما يتعلق بالجانب الإنساني، والعاطفي، ومجتمعنا – في غالبيته مجتمع محافظ – لا يرضي أن تحوي مكتبته قصصًا فيها جنوح عاطفي، وإن كان يتلذذ بقراءتها، لما تحويه من إثارة وعاطفة.
ونحن اليوم أمام رواية حاول كاتبها – وهو كاتب
معروف – أن تكون متلائمة مع الجو الجديد الذي انتقل إليه بعد إقامته الطويلة في الغرب، فأقدم عن وعي ودراية، فعالج روايته وجعلها الشكل الذي يتيح لأكبر قدر ممكن من القراء أن يستمتع بقراءتها، وأن تكون مقبولة لديه، فبرع بهذا، وهو إذ يقدم نفسه كروائي جاء يحدد معالم طريق جديد يحاول أن يتلمسه من خلال مجتمعه الجديد، وعلى هذا فقد كان لدي (كناشر) شعور بضرورة الالتقاء، وتحمل مسؤولية المخاطرة، ليس في نشر رواية لروائي مغمور، فالقضية ليست تجارة، وإنما في نشر رواية لروائي مشهور أعطى لنفسه فسحة يعلن فيها أن الروائي يستطيع أن يقدم للمجتمع رواية يبدع فيها فكره وقلمه، فيرضي بذلك نزعته النفسية ككاتب، وكذلك يتفهم مجتمعه، ويتعايش معه، فكان اللقاء، وكانت الرواية، نقدمها لقرائنا الأعزاء مطمئنين لسلامة المحتوى، وسلامة الهدف، مع يقين بأن رائدنا هو أن نوصل للقراء فكرًا وخيالاً وهدفًا مجتمعين في رواية واحدة، ونأمل أن نكون قد أصبنا.

والله المستعان

رضوان دعبول


القسم الأول
1
القدس/ 3 حزيران 1967
منذ عدة أسابيع وأحمد يتعلق بأمل الحرب التي ستُشن قريبًا، وراح يهبط بسرعة هضاب (( شعفاط )) ضاحكًا. كان الشفق ينشر أجنحته القِرمزية على القدس التي بدت له كصبية برمة أعياها طول الانتظار. وكانت المدينة غيرها في الأمسيات السابقة، عندما يستولي الليل عليها شيئًا فشيئًا: كانت لها وداعة الطفلة وقلقها في الوقت نفسه. راح أحمد يعدو بأسرع ما يمكنه إلى أن توقف عن عدوه المجنون ليمسح العرق عن جبينه، فوصلته نُتَفٌ من أناشيد عسكرية آتية من النوافذ المفتوحة في أحياء القدس، ودق قلبه بأكثر قوة. كان يحلم، منذ زمن بعيد، بأن يعيش ذلك الجو الخطير للحرب التي على وشك الوقوع وهوسها. بدا له أن أمله لم يعد وهميًا، وأن المستقبل سيكون باهرًا. لم يشأ أحمد أن يفوت شيئًا من الاستعدادات. كان يشبع نفسه عبر الشوارع بذلك الجو الذي يهتاج حماسًا، واستبدت به الرغبة في الصياح بأعلى صوته أن ساعة الحقيقة قد أزفت. ساعة الحرب التي انتظرها منذ زمن بعيد جدًا، ها هي في النهاية تدنو. وعندما ينتهي كل شيء، سيعود إلى بيته، على الأرض التي شهدت ميلاده، أرض يافا. ستفتح له هذه الحرب الطريق، وسيكون أول العائدين.
فجأة، تجاوزه ثلاثة رجال، وهم يعدون، وصاحوا به:
- إلى وسط المدينة.
رآهم ينهبون بسرعة الطريق المؤدية إلى الشارع العام، ومن هناك قطعوا إلى ساحة باب العامود. خف أحمد من ورائهم، وما لبث أن لحق به صبي انطلق من دار يصدح فيها المذياع بالنشيد كأنه هدير طائرة حربية مغيرة. عندما حاذاه الصبي، صاح به:
- سنهجم الليلة، إنها الحقيقة!
أضاف لاهثًا:
- هذا ما يقوله أبي!
- وماذا يجري في وسط المدينة؟
- الجيش يمضي إلى الجبهة.
توقف أحمد ليستجمع أنفاسه، أما الصبي، فذهب مبتعدًا، وهو يلوح بيده، ويردد: الله أكبر يا بلادي كبري!
ابتسم أحمد بغبطة، والليل لا يتوقف عن الهيمنة، انطفأت النجوم، ورمت المصابيح أضواءها سهامًا في كل صوب قبل أن تنطفئ بدورها، لكنه لم يحث خطاه ليلقي على مصفحات الجيش ودباباته الذاهبة إلى الميدان نظرة ما قبل الحرب الأخيرة. وعلى حين غرة، جاءته دفعة قوية في كتفه:
- لماذا لا تعدو؟
ضاعف أحمد الابتسام لخيال الرجل الذي ابتعد بسرعة في الشارع العام، دون أن ينتظر جوابًا، ووجد نفسه يصيح:
- لن نحتاج إلى أكثر من يوم وليلة.
وصله صوت من طرف:
- ولكنهم يمضون إلى الجبهة! لماذا لا تعدو؟
خاطب أحمد الصوت:
- شاهدت الاستعراض في عمان.
ووجد نفسه يصيح من جديد:
- مصر وحدها قادرة على أن تنهي المعركة في يوم وليلة!
رأى يدًا تعلو وتسقط دون أن يميز حقًّا شكلها، فنظر من حوله لما وجد نفسه وحيدًا، والليل لا يتراجع، ولسع الصمت قلبه.


2
الجزائر/ 3 حزيران 1967
همس عمر في أذنها:
- كم بقي من الوقت؟
رفعت مليكة عينيها إلى ساعة (( الجراند بوسط )) التي كانت تشير إلى السادسة والنصف مساءً، وتأملت قرص الشمس الذي لا يتوقف عن الانحراف، وهو يتوهج كحفلة من النار، وقالت:
- لم تبق سوى ثلاثين ساعة غير ثلاثين دقيقة منذ الآن.
- تعنين إلى منتصف ليلة الغد؟
- هذا إذا ما تركناهم ينفذون خطتهم كما رسموها.
- سأتوجه إلى (( البليدة )) في الحال.
- لديك سيارتك، فما عليك إلا أن تسابق الريح.
- وأنت؟
- سأجتمع بأعضاء خلية الجوسسة المضادة بعد قليل، وسأنتظرك غدًا على الساعة العاشرة صباحًا في مقهى الطنطنفيل، سيكون كل شيء قد انتهى، أليس كذلك؟
أزعجته ابتسامتها المشاكسة:
- ولكنني لا أستطيع الانتظار حتى الغد، أريد أن أراك الليلة حال رجوعي من البليدة، انتظريني مع أعضاء خلية الجوسسة المضادة.
اعتذرت:
- لا يمكنني.
- لماذا؟
أجابت معاندة:
- فتاة مثلي يطالبها ذووها بإبراز هويتها الشخصية إذا ما تأخرت عند رجوعها إلى البيت عن موعد العشاء.
هتف عمر:
- مليكة! أرجو أن تتصرفي بحكمة فتاة ثورية، مسؤوليتنا أخطر مما تتصورين.
ندت عن مليكة ضحكة، وهتفت بدورها:
- يا إلهي، عليك أن تطير! الوقت يضيع سدى!
جلس عمر من وراء المقود، وأقفل باب السيارة، وهو ينبهها من نافذتها:
- انتبهي إلى محفظتك!
لكنها عادت تحثه على الذهاب بسرعة:
- أسرع، هناك من ينتظرك، ولا تخشَ على محفظتي شيئًا، طالما أنني أقبض عليها بهذه اليد.
- لا بد من الحذر.
- أعرف. إلى الغد.
أدار عمر محرك السيارة، وأعاد ملحًا:
- لن أصبر حتى الغد، انتظريني الليلة.
وانطلق مصعّدًا شارع محمد خميستي، ومنه إلى شارع باستور موغلاً الصعود إلى البيار في الطريق المؤدية إلى هدفه، وأخذت حفلة النار تنطفئ رويدًا رويدًا في ماء البحر، وراح يأتي مع الموج بعض الهدير.



3
يافا/ 3 حزيران 1967
جلس العالم أوري في مستنبته الزجاجي، وهو يفحص بتركيز تام إحدى النبتات العجيبة من تحت نظارته، وكانت شمس الغروب تلون المكان بلهب شفيف له ابتعاد الانعكاس في المرايا، وفي لحظة من اللحظات أخذت ترتسم على شفتي العالم بسمة مزهوة تدلل على إعجابه بالنبتة العجيبة وتوافقها مع فكرة أزلية لا تكف عن ملاحقته. ترك النبتة جانبًا، وتناول بعضًا من الجرائد عن مكتبه، وراح يتأمل بتنبه عناوينها الكبيرة المعلنة عن حرب إسرائيل الحاسمة، ثم عاد يبتسم، وهو يجس النبتة العجيبة بأصابع مخملية، وكأنه يريد أن يبث وريقاتها الرقيقة من جسده كل الحرارة اللازمة لها. فجأة، قطع عليه صوت شيمون تأملاته، وهو يصيح، متقدمًا من بعيد:
- الحرب واقعة لا محالة، وأنت ماذا تفعل هنا، أيُّها المتنسك؟
شدّت أوري النبرة الحادة لصديقه، فاختفت ابتسامته. دفع على أنفه نظارته، وعمقت ملامحه. ودّ لو يتركه وحده، أو على الأقل لو تأخر بعض الوقت ليستكمل تأملاته. سأله شيمون دون أن تخفت الحدة في نبرته:
- قل لي ماذا تفعل هنا وحدك، والناس كلهم ذاهبون إلى القتال؟
نهض أوري إلى خزانة زجاجية، وطلب إليه:
- هدئ روعك!
فلم يستجب له:
- كيف؟ ماذا؟ أن أهدئ روعي! أحسدك على متانة أعصابك!
أخرج أوري زجاجة من عصير العنب، صبَّ منها قليلاً في كأسين، وسأل:
- هل يعني هذا أنك خائف؟
فنفى شيمون بشدة:
- كلا
وما لبث أن أكد:
- نعم.
ثم أوضح متحيرًا:
- كلا ونعم، نعم وكلا.
ابتسم أوري، وهو يقدم له كأسًا:
- هذا حسن.
فاندهش شيمون:
- ما هو قصدك؟
رشف أروي قليلاً من عصير العنب، وأوضح:
- عليك أن تكون خائفًا وغير خائف كي تكسب الحرب.
جذبه من ذراعه إلى النبتة العجيبة، ولهب الغروب الشفيف يتمارى بين أوراقها ، وطلب إليه أن يتأملها، فلم يتمالك شيمون نفسه عن إطلاق صيحة الدهشة والإعجاب. قال أوري:
- لقد أخذت من عمري عشرات السنين: هي الأخرى تحلم بالحرب وتخافها؛ لهذا تجدها على مثل هذا الجمال.
فحذره شيمون:
- إذا خرجت من المستنبت ماتت في الحال.
ضحك أورى:
- إذا خرجت من المستنبت، فإلى أرضها، أرض جبلية متوحشة، شديدة الحرارة، هناك لن تموت.
- ما هو قصدك؟
- علينا أن نكسب الحرب لئلا تموت النبتة العجيبة.
انتظر قليلاً قبل أن يضيف واثقًا:
- وسنكسبها. هكذا تقول النبتة العجيبة.
جرع شيمون كأسه دفعة واحدة، وهتف:
- اتركنا الآن من خيالاتك، ولنفكر في مسألة....
لكنه أوقفه:
- إنها خيالات عالم، لا تنسَ ذلك، يعني أنها خيالات حقيقية.
- طيب. دعنا الآن نفكر في مسألة شقيقتك جوزفين، الحرب واقعة لا محالة، وهي تركب المحيط آتية من أمريكا.
فتساءل أوري بابتسامة هادئة:
- وما الخطب في ذلك؟
- ألا تخاف من أن يحصل مكروه لجوزفين؟
- أخاف بالطبع، ولكن أن تركب جوزفين المحيط آتية من أمريكا أمر جد طبيعي.
مما جعله يصيح:
- في زمن الحرب! والعرب يوقعون ما بينهم وثائق دفاع مشترك؟
- في زمن الحرب أو في زمن السلم، المهم أن تأتي جوزفين، ومن الطبيعي أن تأتي.
دفع أوري على أنفه نظارته، وأضاف بلهجة عميقة:
- إنها تأتي إلى إسرائيلها.
ترك المستنبت إلى الصالون، وراح يتأمل لوحة تمثل إحدى الحسان العاريات في بستان من التفاح، ثم ما لبث أن اتجه إلى النافذة الموصدة: كان ثمة سكون يحط في شارع 14 أيّار، وفجأة، انسحب الشفق، وتبعته العتمة.


4
القاهرة/ 3 حزيران 1967
كان بهاء يبحث في أحد الجوارير مبعثرًا كل شيء، وخيالاته ترتفع في الغروب سحابًا ملونًا يحلق فوق الكون، والمذياع لا يكف عن بث الحماس في قلبه: إنها معركة الشرف التي انتظرناها بفارغ الصبر منذ زمن بعيد، معركة المصير، معركة العرب من المحيط إلى الخليج، لتهدر أسلحة أشاوسنا كالعواصف، ولتفتك بعدونا الجبان، ولتحرر الوطن من الغاصب...
نادته نورة للمرة الثانية من المطبخ دون أن يسمعها، فجاءت، وهي ترفع يديها المنغمستين في عصير البندورة، وعلى صدرها مريلة وردية. أقفلت المذياع، ثم سألت بشيء من الدهشة:
- ماذا تفعل، يا بهاء؟
لم يجبها، راح يبحث بيد عصيبة في أحد الصناديق، ولم يلاحظ كيف تتلاطم في وجهها الأسمر مئات من الأمواج الدقيقة التي تعصف بها الريح:
- لماذا أقفلتِ الراديو؟
لكنها سارت إليه، ويداها المنغمستان في عصير البندورة مرفوعتان دومًا إلى أعلى:
- لماذا لا تجيب؟
- لماذا أقفلتِ الراديو؟ نحن على أبواب الحرب، دعي الراديو مفتوحًا.
ولم يتوقف عن البحث لحظة واحدة، كان قد عاد إلى الجرار.
- عمَّ تبحث؟
فتمتم بأسنان مشدودة:
- إنه مسدسي، وأنا لا أجده.
تنهدت نورة، رمت بنفسها على ظهره، وراحت تشده إليها، وهي تهمهم:
- يا عزيزي الطيب! يا عزيزي الطيب!
أدارته بين ذراعيها، ويداها من ورائه مرفوعتان دومًا، ونظرت في عينيه:
- لم كل هذا الإزعاج، وهم سيوزعون السلاح اليوم؟
طبعت شفتيها على شفتيه، وابتسمت:
- بندقية، رشاشة، أو بازوكا، ما عليك سوى أن تختار التي تناسبك.
لكنه تركها إلى البحث من جديد، وهو يقول بصوتٍ محتدٍ:
- مهما يكن من أمر لدي مائة طلقة أخبئها من سنة 56! أين هو مسدسي؟
خفت إليه، وجذبته إلى أحضانها، ويداها من ورائه مرفوعتان دومًا:
- أمن أجل مسدس صغير تبعثر كل شيء؟
تركته للحظة يفكر قبل أن تضيف:
- قلت لك إنهم سيوزعون أسلحة مهمة اليوم.
فأوضح قائلاً:
- من هنا إلى أن يوزعوا الأسلحة يكون المسدس قد صار شيئًا نافعًا ندافع به عن أنفسنا.
إذا بها تصيح:
- مسدسك الصغير! وفي قلب القاهرة! لا، يا عزيزي! إذا ما احتاجنا الأمر إلى سلاح ندافع به عن أنفسنا، فهناك، على خط القتال، وهذا الخط يبدأ من وراء سيناء، يتقدم، ولا يتقهقر حتى هنا، في قلب القاهرة! أنت تبالغ إلى حد بعيد، فلن أظنهم، اليهود، يا عزيزي بهاء بحاجة إلى كل هذه ((الاستعدادات )) التي تبعثر من أجلها الغرفة، إذ ما هي سوى طرفة عين، وينتهي الأمر بكل بساطة، إنها الفرصة التي...
قاطعها نابرًا:
- أرجوك، يا نورة، أن توقفي كلامك الآلي لحظة واحدة، وتبحثي معي عن المسدس. إنها الحرب على أي حال، أتفهمين؟
- نعم، إنها الحرب، ولكنها الحرب الجميلة. انظر إلى الشمس على صفحة النيل عند غروبها كم توحي بالاطمئنان والسعادة. كأنها وردة الانتصار!
عاد بهاء يبحث عن مسدسه بانفعال أكثر:
- سأقول لك الصدق، لن أنتظر توزيع الأسلحة لأبقى هنا في الصفوف الخلفية، سأذهب إلى خط القتال.
جعلها حائرة، اكتشفت فجأة يديها المرفوعتين في الهواء، فأنزلتهما بسرعة، وهي تفكر: زوجي ذاهب إلى خط القتال. لكن هذا لا يعني أنه سيذهب إلى المعركة بذاك المسدس الصغير الذي يبحث عنه، وبمائة طلقة مخبأة من سنة 56.
قالت نورة حزينة:
- أنت ذاهب إذن؟
صاح بهاء:
- ولكنك تدهشينني بهيئتك الحزينة هذه! منذ لحظات قليلة كنت تفيضين بالسعادة!
وهي تهمهم دون أن يغادرها الحزن:
- إنها حربي الآن.
وهي تهمهم وعيناها غائمتان بالدموع:
- ألا تأخذك مني؟
عاد بهاء يصيح:
- أين مسدسي اللعين؟
- مسدسه اللعين!
- أين مسدسي اللعين ذاك؟
- بدأت الحرب بالنسبة لي.
- يا نورة، أين مسدسي؟
سمعها تهمس بخوف، والظلام يزحف في كل مكان:
- أخفيته في جوف المقعد المنجد هناك.
ضغط بهاء على أسنانه، وهو يتجه مسرعًا نحو المقعد المنجد، وأخرج المسدس بلهفة. وبينما هو يفحصه، ويمسحه براحته، جاءه صوتها الحائر:
- ومتى أنت ذاهب؟
قال بهاء:
- الليلة.
وقبض على السلاح بقوة.




5
باريس/ 3 حزيران 1967
كانت ليلي تسير إلى جانبه في الحي اللاتيني، والحي اللاتيني يسقط في حضن الليل. الأضواء على الإعلانات العملاقة تصرخ، وفي الإعلانات سيقان رجال تسقط. أحست ليلي بالدوار، وكادت بدروها تسقط لولا أنها اعتمدت بيدها على كتفي ديدييه، فمال ديدييه عليها، وسألها عمَّا بها، فلم تقل له: انظر إلى سيقان الرجال التي تسقط في الإعلانات العملاقة! كانت سماء باريس تسقط كقطة سوداء ضخمة، فالغيوم تطبق على كل شيء، والطقس في حزيران بارد، ربت ديدييه على يد ليلي، واقترح:
- هل نذهب إلى أحد الملاهي؟ لنحتمي، ونشرب نخب أولئك اليهود الحمقى!
لكن ليلي كانت لا تتوقف عن الإحساس بالانهيار، قدماها على وشك أن تخذلاها، والعالم تحتهما تحس به كفم بركان مطفأ.
- ليلي! ماذا أصابك؟
لم تجبه، راحت تتشبث بذارعه، لا تريد أن تفلت في الفراغ كالسيقان التي لا تتوقف عن السقوط في الإعلانات العملاقة. سمعها تجمجم:
- لا أريد أن أشرب نخب أحد! لا أريد أن أشرب نخب رؤوسكم المسحوقة في الإعلانات العملاقة.
نظر ديدييه إلى الإعلانات العملاقة، فلم يرَ إلا سيقانًا جامدة.
نظرت ليلي إلى ذات الإعلانات، فرأت رؤوسًا تسحقها السيقان المتساقطة. ضحك منها، وهي لم تزل تجمجم:
- ولكنك ذاهب بإرادتك! لماذا إذن تتركني، يا وغد!
راح يمسد شعرها، وقد تضاعف ضحكه، فتصادى الضحك على أرصفة السان جيرمان الغارقة في الظلام. لاحظ أن الظلام شديد، فسألها خائفًا:
- لماذا الظلام شديد من هذه الناحية؟
فأخذت بدورها تضحك، لكنه انتهرها:
- حرب صليبية، يا قطتي الخرعة، أيام معدودات وأعود إليك محملاً بالذهب.
كانت قدم قد سقطت على رأسها وطرقته:
- لن تطأ قدمك باريس ثانية!
ذرفت دمعتين، ثم راحت تسدد قبضتها الصغيرة في صدره، وهو يقهقه، بينما هي تردد:
- أنت أحمق، يا ديدييه، يا ديدييهي، أنت أحمق!
أمسك بقبضتها، قرصها من خدها، وهمس:
- سأبعث إليك لتنتظريني في (( أورلي )) قبل نهاية الأسبوع القادم.
ودخل بها أحد ملاهي الليل، والساكسفون يصرخ، والأضواء الحمراء تتساقط، تتساقط باستمرار، وتتراشق، وليلي تطلب مطنبة:
- لا تمت! لا تمت!
وقد عادت تسدد قبضتها في صدره، وتتهاوى.
عندما أحس بها سكنت، وصمتت، ضاق به المكان الصاخب والواسع، فطلب إليها، ولما يجلسان بعد:
- لنذهب من هذا الجحيم.
سقطت بين ذراعيه، حملها، وبعد عدة خطوات بين الطاولات المزدحمة بالزبائن والزجاجات والكؤوس، تعثر بقدم رجل بدين تقطع عليه الطريق، فاعتذر الرجل البدين، وهو ينهض بسرعة، ليساعد ديدييه على حمل ليلي التي كادت تفلت من بين ذراعيه. تطلع كل منهما إلى الآخر في العتمة الحمراء للحظة قبل أن يصرخ ديدييه:
- أوه! جان! لم نلتقِ منذ كنا في الكونغو سنة 62 !
وعند ذلك، صاح الرجل البدين:
- أوه! كدت لا أعرفك! كيف أنت؟
- وأنا أيضًا كدت لا أعرفك، لقد سمنت كثيرًا!
- هذا لأنني أعيش! اجلس لنأخذ شيئًا معًا.
أومأ ديدييه رأسه إلى ليلي نصف الغائبة عن وعيها، وقال:
- إنها مريضة! وعلي أن أخرج بها.
- لا بد أن نلتقي.
- ولكنني مسافر غدًا.
فهتف جان:
- عرفت. وأنا أيضًا فكرت في ذلك.
- لمَ لا تأت إذن؟
ضحك قبل أن يضيف:
- سيكون للذهب معادل مشرف هذه المرة: أن نرد الغزو.
- متى سيكون سفرك غدًا؟
- في المساء.
- لنلتقِ في الصباح.
- هل ستأتي إذن إلى الأرض الموعودة؟
- سأخبرك غدًا. هناك أمور يجب توضيحها.
- إلى الغد إذن على الساعة العاشرة صباحًا.
وأعطاه ظهره، فرفع جان من صوته متسائلاً:
- ولكن أين؟
- في مقهى لوديبار.
واهتزت الدفة الأنيقة لباب الملهى الخارجي.


6
تحرك في خيال أحمد شريط طويل، تسعة عشر عامًا مضت دون أن يبرح الشريط خياله، كان كلما تحدث إلى أبيه يفجر ألف علامة استفهام:
- ولكن العرب لماذا لا ينهضون يا أبتِ؟
- لأنهم لا ينهضون!
- ولكن العرب لماذا لا يهجمون يا أبتِ؟
- لأنهم لا يهجمون!
- ولكن العرب لماذا لا يتحدون يا أبتِ؟
- لأنهم لا يتحدون!
وكأنه يكسر هو وأبوه حجرًا تلو حجر دون أية فائدة:
- لو ينهض العرب لن تقوى إسرائيل لحظة واحدة!
- لو ينهض العرب.
- لو يهجم العرب لن تصمد إسرائيل لحظة واحدة!
- لو يهجم العرب!
- لو يتحد العرب لن تبقى إسرائيل لحظة واحدة!
- لو يتحد العرب!
أصاب أحمد الدوار، تذكر كيف كان في السادسة، وكيف بكى على لعبة صغيرة مزقتها أظافره الناعمة. ومنذ كان صغيرًا كان يرفض أن يكون صغيرًا، فتؤكد أمه:
- أنت صغيري!
وتجذبه بين ذراعيها، وتطبع وجهه بالقبل.
ردته إلى نفسه موسيقى عسكرية تنطلق من مذياع صائح، كانت القدس لا تنام باكرًا كعادتها، أمسك بأول عابر، والدموع تسيل من عينيه، وقال:
- قتلوا لي أمي!
فربت الرجل على كتفه، وجمجم:
- يا لهم من وحوش!
ضحك أحمد، وسأل:
- وهل سننتصر؟
- طبعًا.
تأمله أحمد في ضوء القنديل المتساقط، كان الرجل هادئًا، وسيمًا، في عقده الخامس. قال لنفسه: إنه لا يعدو كالآخرين. انتابته رعشة، فزفر:
- حدث ذلك سنة 48، في شهر أيار، تمامًا في اليوم السابع منه: كنا نسير في الشمس والشوك حشدًا من المرحلين، ومع كل خطوة نخطوها، كنا نترك قطرة دم! منذ ذلك الزمن البعيد، ونحن نترك قطرة دم مع كل خطوة نخطوها حتى يومنا هذا، كانت الغرامة التي علينا تسديدها للأرض، عشرة آلاف مرحل! ربما أكثر! كنا نسير مع الطريق المنحرفة إلى حيث تعبر، وتمتد، وكانت السماء من فوقنا ترتفع، وترتفع، إلى أن حجبها جبلان عظيمان يناطحان الفضاء برأسيهما الشاهقين. وفي اللحظة التي ذهبت بنا الطريق التي تنحرف دومًا وتنحرف إلى الوادي الضيق ما بين الجبلين، طلبت أمي إلى أبي:
- خذ الصرة، وسأحمل الولد.
فانتهرها أبي بصرامة:
- لا تخشي على الولد، سيقفز عند الضرورة.
لكنها حملتني وحملت الصرة.
تسمرت الرؤوس في العظمة الشامخة التي تكتنف الجبلين، في قوة الصخور، وصمت الأشجار الأقوى. كان لا يجرؤ حتى النسيم على أن يثني منها غصنًا، أن يضغط بأصابعه على أوراقها، اجتاح الجميع شعور بالخوف، استدارت العيون، وعادت تتسلق الجبلين حجرًا حجرًا، وشجرة شجرة، وصخرة صخرة! آه، يا إلهي، تلك اللحظة ما أرعبها! حتى الشجاعة خافت! أحسست بذراعي أمي من حولي تشدانني كالحبال، وشدني خفق صدرها إلى صدرها. نعم، لقد كنت صغيرًا وخائفًا. سمعت أمي تتوجه إلى أبي بحذر:
- أتظنهم هناك؟
كانت تنظر إلى ناحية، وأبي إلى ناحية، كان عاجزًا عن النطق، هو الكبير والقوي! نظرت إلى شفتيه الجافتين، أردت أن أعطيه ليشرب، إذا بمطر من الرصاص يقتلنا، حتى جبالنا خانتنا! صحوت، بعد ذلك، لأجد نفسي ملفوفًا بلحم أمي في قلب غار رطب، كانت ميتة، وكان أبي يئن من جرح على مقربة منها.
سكت أحمد، ابتعد عن الحزن، وابتسم:
- هذا كل شيء.
عاد وابتسم. وجد نفسه قد سار بصحبة الرجل، وها هو واقف وإياه أمام أحد الأبواب. تحركت يد الرجل، وطرقت الباب الذي ما لبث أن انفتح، طلب إليه الدخول، ففعل، ولم يقدمه إلى ابنته التي فتحت الباب، وهو، بدروه، قد تحاشى النظر إليها. تقدم، ودلف إلى حجرة استقبال أنيقة، فخاطبه الرجل:
- يمكننا أن نشرب شيئًا ساخنًا معًا.
أراد أن يعتذر، فأوقفه:
- لا تقل أحدنا لا يعرف الآخر، نحن نعرف بعضنا منذ زمن بعيد: آه، كم كانا شاهقين الجبلان اللذان حدثتني عنهما!
نادى ابنته باسمها، فعرف أحمد أن اسمها خولة. طلب إليها، وهي في الظل، أن تعمل لهما شايًا. جلس الرجل أمامه، ثم ما لبث أن قلب يده، ومدها كالأغصان المبتورة إليه:
- انظر! أسرني اليهود لما كنت في عمرك، بتروا لي إصبعًا من هنا، وآخر من هناك، واقتلعوا بعض أظافر قدمي، لكنهم لم يخرجوا معي بنتيجة.
غاب بعض الشيء، ثم أفضى شبه هامس:
- لقد قاتلت. بدأت وحيدًا، وانتهيت وحيدًا.
قال أحمد:
- نحن اليوم أبناء اليوم. المارد العربي ينهض.
فرمى الرجل برأسه إلى الوراء، وابتسم، ثم نظر مغتبطًا في الفراغ، وقال:
- أنا عاجز عن التصديق!
وأحمد لم يزل يقول:
- نحن اليوم أبناء اليوم. إن طفلاً صغيرًا اليوم يحدثك عن الحرب، وكأنه عائد من جولة انتصر فيها.
- الأطفال يصبحون رجالاً في اللحظة التي يحسون فيها بالثقة.
- نعم، إنها الثقة.
- ووثائق الدفاع المشترك.
قدَّم له سيجارة:
- نعم، إنها وثائق الدفاع المشترك.
أشعلها له:
- بمقدور مصر وحدها أن تنهي المعركة في يوم وليلة.
فتح الرجل المذياع، فانطلقت موسيقى عسكرية. ابتسم كل منهما للآخر، ودخنا، والليل يرخي سدوله وراء النافذة. علق الرجل:
- سنكون الأقوى على أية حال!
عاد وابتسم كل منهما للآخر، بحث الرجل عن محطة، ثم أغلق المذياع. تراخى ساهمًا في مقعده، ران الصمت على الشفاه، أراد أحمد أن يذهب إلى الجبهة حالاً، لكن الباب اندفع، ودخلت خولة بصينية عليها فنجانا شاي. تحركت عيناه، واستقرتا عليها، في التاسعة عشر من عمرها، وهي تدنو في الصمت، في السكون الزاحف بالتفجر القادم. استطاع أحمد أن يراها كلها مرة واحدة، ودفعة واحدة، وفكر في الانتصار، وغمرته على الرمل سلسلة من الموج الهادئ، وخولة تأتي في الصمت الكاشف عن التفجر القادم. وضعت فنجان شاي أمامه، وعندما رفعت عينيها، وجدته ينظر إليها، فابتسمت له ابتسامة خفيفة قبل أن تقدم الفنجان الآخر لأبيها، وتذهب كالظبية بعجلة. أخذ الرجل من فنجانه رشفة، وبدا مخدرًا بفكرة (( سنكون الأقوى على أية حال! )) إذ ما لبث أن قال:
- جنازير الدبابات تخطط الحدود الآن، فوهات المدافع تنتصب مكشرة، جنودنا ينتظرون بفارغ الصبر الأمر الحاسم.
أطلق من فمه الدخان، وتابع أحمد البخار المتصاعد من فنجانه.
سحق الرجل سيجارته، في المنفضة، وغضب قليلاً قبل أن يضيف:
- ولا تنس بالطبع أن القوى الشيطانية تتربص بنا في الطرف الآخر.
قال أحمد فجأة:
- سأكون هناك غدًا.
- إذن أنت جندي؟
- لا.
- أنت مدرب على خوض القتال؟
- لا.
- أنت ممرض؟
- ولا هذا أيضًا.
- عرفت.
- عرفت ماذا؟
- أما أنت من غسانهم؟
أوضح أحمد ليزيل شكوك الرجل:
- إنها بقية قصتي.
- بقية قصتك؟
- لأكون العائد الأول.
ذهب الرجل مفكرًا لبعض الوقت، نهض إلى بندقية قديمة معلقة على الجدار، وقدمها له:
- هذه بندقية أيام زمان، خذها، ربما احتجت إليها هناك.
انطلق أحمد يضحك، وهو يقول بسخرية:
- أحتاج إلى مثل هذه البندقية! ولكن لن أحتاج إلى بندقية، وكل شيء سيمضي في غمضة عين!
- خذها على سبيل الحيطة.
تأمل شعره الأبيض، وقال هو ذو تجربة، ويمكن أن يكون محقًّا، وللمرة الأولى، فكّر في الهزيمة، فانقبض قلبه، وبسرعة، استعاد ابتسامة خولة، تناول البندقية، وفك كشحها نافخًا عنه الغبار. سمع الرجل يقول بخجل:
- تنقصني الطلقات.
ضحك أحمد بخجل أيضًا، وقال:
- لن أكون بحاجة إلى طلقات.
ولم يندهش عندما طلب إليه الرجل أن يرحل.


7
في دالي إبراهيم، أوقف عمر السيارة قرب باب المرآب بعد أن وجده مغلقًا، وخطا بخفة صاعدًا درجات الفيلا التي سارع بإدارة المفتاح في قفل بابها، وفي اللحظة التي دخل فيها، وجد نفسه وجهًا لوجه مع جالس في الظلام:
- لا تشعل الضوء. هل أدخلت السيارة في المرآب؟
- وجدته مقفلاً.
- ذاك الخادم اللعين أقفله قبل أن ينصرف على الرغم من أنني نبهته إلى تركه مفتوحًا!
واستعاد صاحب الصوت لهجته الآمرة:
- ماذا لديك؟
- وثيقة.
- وثيقة واحدة!
- وثيقة واحدة. ومن غيري؟
- لا شيء.
أخذ يميز الظلال التي ناوله الوثيقة عبرها، وصاحب الصوت يقول:
- لم تسألني لماذا أطفأت الضوء، إنهم يراقبوننا تمامًا مثلما نراقبهم.
ونهض:
- اتبعني بحذر. إياك أن تتعثر بالأريكة، انظر هناك في قعر النافذة المقابلة. لقد غاب عن بالهم انعكاس مصباح العمود الذي على الرصيف في عدسة منظارهم.
فسارع عمر إلى القول:
- يجب كشفهم والقبض عليهم قبل أن يهربوا، يا سي البشير.
لكنه طمأنه:
- لا تخش شيئًا، تدبرت الأمر مع السلطات، وما علينا سوى الانتظار كما هو معد حتى منتصف الليلة القادمة.
سار إلى وسط الحجرة، وعمر يسأل:
- هل تعتقد أنهم سينفذون خطتهم قبل موعدها إذا ما عرفوا بتسربها إلينا؟
- لا أعتقد، فهم لم يحصلوا على المعلومات الكافية.
- مهما يكن من أمر، الوضع يدنو من الخطورة بحيث يكفي لإيقافهم في الحال.
- وثيقة واحدة لا تدينهم. ولا تنس أن لنا في حاسي مسعود عيونًا مفتوحة جيدًا.
- والشريعة التي يتسللون إليها كالأشباح؟
- الشريعة ليست هدفهم، فهي منطقة منعزلة، أعتقد أنهم لجأوا إليها للتمويه، ولا تنس أنها على مرمى حجر من هنا، من البليدة، مركزهم الرئيسي، وفي نفس الوقت، هدفهم الرئيسي أيضًا، لهذا، دعهم يسقطون في الفخ، ولسوف تجري تصفيتهم في الوقت المناسب.
سكت سي البشير قليلاً ثم ما لبث أن سأل:
- هل سلمت الأوامر لأعضاء خلية الجوسسة المضادة؟
- الليلة تسلمها مليكة لهم.
- ومتى ستنتشرون في العاصمة؟
- صباح الغد.
- ليكن في علمك أن إسقاط الشبكة يحتاج إلى كثير من الدقة والحذر، ولا حاجة بنا إلى الدخول معهم في صدام مبكر طالما أن رجال الشرطة في حالة استنفار، ورهن الإشارة، أنت تعلم برغبة السلطات في القبض عليهم أحياء لأجل التحقيق والربط.
- كن مطمئنًا، يا سي البشير، هل هناك شيء آخر تأمرني به؟
قال:
- سأكلمك لاسلكيًّا على الساعة الثالثة صباحًا.
وتوقف قليلاً قبل أن يضيف:
- كنت أنتظر هذه الوثيقة لتطير صورة منها الليلة إلى القاهرة. وراح سي البشير يجمجم:
- الأمور جد خطيرة!
- أتظن أنهم سيغامرون بالهجوم هناك إذا ما أوقفناهم هنا؟
- لا أعرف.
تحرك عمر يريد الذهاب، فطلب سي البشير إليه:
- إذا جدت الأمور قبل موعدنا اللاسلكي على الساعة الثالثة صباحًا فلا تتردد عن الاتصال بي.
- تحت أمرك، يا سي البشير.
- من الأفضل أن تعود رأسًا إلى بيتك، واحذر عدسة منظارهم.
لم يشعل عمر ضوء السيارة حتى أصبح في الطريق العام، ثم انطلق مسابقًا الريح. في اللحظة التي دخل فيها بيته، رن جرس الهاتف، فرفع السماعة ليأتيه صوتها:
- آلو، عمر، أنا مليكة.
راح يحرك رأسه على الجانبين:
- نعم، نعم، سامحيني!
- جعلتني أنتظرك، وها أنت تتركني وحدي دون أن تأتي!
عاد يعتذر:
- سامحيني! الليلة مليئة بالضباب!
ففهمت:
- سنكون على موعدنا صباح الغد إذن.
- نعم، سنكون على موعدنا.
- هل كل شيء على ما يرام؟
- كل شيء على ما يرام.
- إلى صباح الغد إذن.
وذهب صوتها، وضع عمر السماعة، واتجه إلى جهاز اللاسلكي الذي جعله من أمامه، استلقى على الأريكة، وأصغى، فجاءه صوت البحر من بعيد.


8
جاءت راشيل الجميلة هارعة صوب أبيها العالم أوري، وصوتها الشجي كأنه غناء شحرور عاشق يسبقها إليه:
- بابا، أوه، بابا.
- ماذا، يا ملاكي؟
لم تستطع راشيل الغضب كالكبار، وهي تشير إلى الناحية التي تجيء منها جدتها:
- إنها جدتي، يا بابا، تريدني أن أذهب معها إلى الملجأ.
- الملجأ! والحرب لم تبدأ بعد!
كانت الجدة قد وصلت محنية الظهر، بثوب حريري أسود، وعلى رأسها شال من الدانتيل القشيب:
- هذا من أجل غارة رمزية، لا تجعلها ترفض يا أوري.
ابتسم أوري لابنته، وتذكر مولدها السهل عشية قيام الدولة قبل أن يسألها:
- لماذا لا تريدين الذهاب إلى الملجأ مع جدتك؟
- لأنني لن أموت كما تتصور.
فغضبت الجدة:
- يا لهذه البنت التي لا تعرف الحرب!
وغضبت راشيل هي الأخرى:
- أنا أعرفها. ألم تقتل الحرب أمي؟
علقت الجدة:
- الحرب التي قتلت أمك بإمكانها أن تقتلك!
التفتت راشيل إلى أبيها:
- تعتقد أن الملجأ سيحميني.
عمقت نظرة أوري إلى ابنته، وشفت، وبعد أن غاب عن العالم قليلاً، اقترب منها، ولمس بأصابعه خدها التفاحي، وشعرها الطويل الأسود، وهمس:
- لكم صرت تشبهين أمك، يا راشيل، كأنها تعود في ثوبك!
فألحت الجدة:
- لهذا عليها أن تذهب إلى الملجأ، وترى كيف تجري الأمور في حالة ما إذا حصلت غارة. أمها قتلت أثناء غارة، ونحن لا نريد أن تتكرر المأساة.
قال أوري، وهو لم يزل مشدودًا إلى جمال ابنته:
- لن تتكرر المأساة.
فسألت راشيل:
- إذن، هل ستسمح لي بعدم الذهاب إلى الملجأ، يا بابا؟
- بل عليك الذهاب، يا عزيزتي.
ندت عن راشيل تأوهة ليست راضية، ثم سألت:
- وأنت؟ هل ستأتي معنا؟
لكنه قال كأنما هو يقول لنفسه:
- هناك في الملجأ ستحيط بك سواعد إخوتك.
- بابا! هل ستأتي معنا؟
جعلته يصحو:
- ماذا؟
تدخلت الجدة:
- تسألك إذا كنت ستأتي معنا.
فتردد:
- سألحق بكم.
قالت راشيل بحرد:
- أنا أعرف، أنت لن تفارق نبتتك العجيبة!
أعطته ظهرها، وذهب بخطوات ثقيلة، لكنه نادها:
- راشيل!
فالتفتت إليه:
- ماذا، يا بابا؟
- لا يمكن للنبتة العجيبة الذهاب إلى الملجأ.
- إذن، ابقَ لتحميها!
عادت تجري إلى حجرتها التي دخلتها، وأغلقت على نفسها الباب بالمفتاح. التفت أوري إلى جدة راشيل، وقال لها:
- إنها لا تفهم. إذا خرجت نبتتي العجيبة من المستنبت، فإلى أرضها، وإلا ماتت.
- إنها لا تفهم، يا أوري، ما زالت صبية غرة.
- ولكنها ستفهم.
- هذا ما أرجوه.
- اطلبي إليها أن تكون جميلة أكثر.
- ألن تتلف رطوبة الملجأ بعضًا من جمالها؟ هذا هو دافع رفضها الذي تحسه دون أن تعرفه صبية في مثل سنها.
- إذا بقيت في الملجأ طويلاً، أتلفت الرطوبة جمالها، ولكن الحرب ستكون قصيرة.
فرفعت الجدة رأسها إلى السماء، وابتهلت:
- امحقهم، يا رب!
وابتسم أوري، وغرق في تأملاته:
- ستكون الحرب قصيرة، وسأغرس هناك النبتة العجيبة بيديّ هاتين لأجل أن يأكل أبناء راشيل من ثمرها.
قطعت عليه جدة راشيل تأملاته:
- لقد أعددت حجرة لشقيقتك جوزفين.
- آه، حسنًا، حسنًا!
- ومتى ستصل غدًا؟
- غدًا صباحًا. سأذهب بصحبة شيمون لإحضارها من الميناء.
همهمت العجوز:
- آه، يا جوزفين الطيبة!
وانطلقت دقات ساعة الجدار الكبيرة تقرع معلنة تمام التاسعة، فارتبكت جدة راشيل، وهي تنظر في غسم النافذة الموصدة، وقالت:
- إنه موعد الغارة الرمزية.
وإذا بنفير الحرب يدوي، فاندفعت العجوز تنادي على راشيل بخطوات متعثرة، وهي تدمدم بعض المزامير، وسمعها أوري تبتهل منذعرة:
- يا رب، اغضب على العرب!



9
كانت صيحات الرجال وزغاريد النسوة قد مضت بحي
(( المعادي )) كما تمضي العاصفة، حصل ذلك قبل أن يؤذن المؤذن لصلاة العشاء، ثم دخل الجميع الجامع، وفي الصدور خفق خاشع. نظر بهاء إلى الشارع الذي انطفأت فيه القناديل، فشد على مسدسه الصغير، وزحف في العتمة، والمذياع لا يكف عن بث النشيد الحماسي. غدًا سيكون في سيناء، في قلب النار! بعد أن عزم على ألا يعود حيًّا قبل أن يرى يافا، ومن يافا سيبعث إلى نورة برسالة يقول فيها: أكتب إليك من يافا، أحبك من أرض فلسطين، وفي طيه أبعث إليك بزهرة برتقال، احفظيها ريثما أعود!
سيكون الأمر مثيرًا، وستبكي من الفرح عيون الناس، كان الحلم الذي مضى عليه زمن طويل!
اصطدم بهاء، في العتمة، بأحدهم، وهو يزفر، ويحاول عبثًا أن يكتم زفراته. استطاع، في الأخير، أن يراه في ضوء متساقط من نافذة مفتوحة. كان يمسح الدمع عن خده بمنديل، فلم يسأله عن السبب إلى أن أوضح:
- ودعتهم أبنائي منذ قليل، ثلاثة أبطال ذهبوا إلى الميدان!
وسكت لحظة يجمع فيها أنفاسه:
- قلت للذين أخذوا أبنائي خذوني أنا أيضًا، فقالوا: أنت رجل طاعن في السن، ولكنهم عند توزيع الأسلحة سيجعلونني عضوًا في المقاومة الشعبية.
وتماسكت لهجة الشيخ:
- لن أنتظر العدو هنا، فسرعان ما سيندحر.
ردد بهاء بآلية:
- نعم، عندك الحق، يا والدي، فسرعان ما سيندحر.
- لهذا سأذهب في سيارة على حسابي إلى غزة، يا ليتني كنت أستطيع الذهاب إلى هناك في الحال، ولكنك ترى الليل كيف يهبط.
عاد بهاء يردد بآلية:
- نعم، عندك الحق، يا والدي، ولكنني أرى الليل كيف يهبط.
مرَّ بهما جمع من الأطفال، وهم يغنون:
- إحنا الشعب! إحنا الشعب! واخترناك من قلب الشعب!
والتقط بهاء طرف الحديث بين اثنين مسرعين:
- صواريخنا موجهة إليهم في سيناء.
- تجدهم الآن يرتعدون فرقًا...
ثم حط السكون.
ابتعد الشيخ في الظلام والسكون، وبهاء يقف مشدودًا إلى وقع خطواته. أخذ طريقًا إلى أحد الأزقة، ونادى:
- مدحت!
وفي الحال، انجر باب على إثر نغمة الرتاج، ولمعت في العتمة عينان سوداوان:
- جئت في الوقت المحدد.
- كل شيء على ما يرام؟
- كل شيء على ما يرام. تركت أمي نائمة.
- قلت لنورة أن تبلغها الخبر غدًا. لأختك طرقها المقنعة غالبًا.
- أردت أن أبلغها الخبر بنفسي، ولكنني لا أستطيع احتمال دموعها.
غادرا الزقاق إلى الشارع المعتم، ومنه إلى شارع فيه قنديل وحيد مضيء:
- أعلمت أخي عادل بأنني ذاهب إلى القتال.
أطلق مدحت ضحكة مثلجة، وأضاف:
- أراد أن يأتي معنا.
- عادل؟
- قلت له إنه لم يزل صغيرًا، ولكنه ارتدى ثيابي، وقال لي: انظر، هاأنذا كبير قدك، ما عدت ابن العاشرة، أريد أن أقاتل مثلك! كان مصممًا، يريد ذلك من غسان قلبه، ولم أستطع ثنيه عمّا عزم إلا حين وعدته بأن أعود لآخذه بعد أن أرتب أموري.
همس بهاء:
- إنه ما عاد طفلاً.
أشار مدحت إلى مقهى تضيء واجهته، وتنطفئ، تضيء، ثم تنطفئ:
- الموعد هناك، في مقهى الزمردة.
- ومتى ستعبر الشاحنة لنقلنا؟
- عند منتصف الليل.


10
وقف ديدييه بسيارته قرب رصيف معتم، والتفت إليها. كانت ليلي ترمي برأسها إلى الوراء، فترى كيف تتساقط كل باريس، وهي مغمضة عينيها:
- هل أنت أحسن الآن؟
فتحت عينيها، ومالت برأسها عليه، وبعد لحظة تأمل، أجابت:
- أنا أحسن الآن.
فابتسم ديدييه.
قالت ليلى:
- ولكنك لن تقول لي إنك تحبهم إلى هذه الدرجة!
اتسعت ابتسامة ديدييه:
- عندما يكون الأمر بين يهود وعرب، أنت تعرفين جيدًا إلى جانب من سأقف.
- وإذا ما اشتعل أوار الحرب العالمية الثانية من جديد، فإلى جانب من ستقف؟
أطلق ديدييه ضحكة، وقال:
- تعرفين جيدًا إلى جانب من.
جمجمت ليلى:
- الذي أعرفه الآن أنني أحببت وغدًا.
رمى ديدييه:
- سأبقى مرتزقًا على أي حال.
اعتدلت ليلي في جلستها، تطلعت إلى شيء أسود في ضوء سقط فجأة من إحدى النوافذ، وقالت:
- أنت لا تعرف عقدة الذنب كالآخرين.
عاد ديدييه يطلق ضحكة:
- ماذا تقولين أيتها الصغيرة الساذجة؟! لقد اقترحوا أن يكون الدفع بالدولار، فقلت لا، وإنما بقطع من الذهب مدورة وبراقة، فوافقوا.
راحت ليلي تلهث خائفة، تعلقت على صدره، وعاتبته:
- ولكنني أحبك!
فأمرها:
- تعالي.
وصعد بها إلى حجرتها ذات الجدران المصطبغة بلون الجرح، جرح دانكرك الأعمق من كل الجراح، أرادت ألا تنطبق عليها الجدران، فتركت نفسها تسقط بين ذراعيه، وباريس تسقط في الظلام والهوان.

11
وقف أحمد على مقربة من باب العامود المقفل، فنزل جندي من سيارة عسكرية ترابض عند المنحنى، واتجه إليه:
- الباب مقفل ابتداء من الساعة التاسعة كل مساء حسب منشور القيادة العليا المعلق هناك، ألا تعرف القراءة؟ أستطيع نقلك إلى السجن حالاً.
فلم يتردد أحمد عن القول:
- أريد الذهاب إلى الجبهة.
رمى الجندي بندقية أحمد القديمة بنظرة محتقرة، وسأل:
- لتحارب؟
- لا.
- لماذا إذن؟
- لأكون أول عائد.
عند ذلك، طبطب الجندي على كتفه، وقال:
- اذهب إلى بيتك الآن، ستكون أول عائد غدًا.
- الطريق إلى فلسطين يمضي من هنا.
فضرب الجندي قدمه في الأرض، ونبر:
- اذهب إلى بيتك الآن، وكن أول عائد بعد الحرب لا قبلها.
وجعله يعطيه ظهره، والجندي يبصق في الليل.
فكر أحمد في تسلق سور الملك سليمان، ولكنه عال جدًّا، وستبوء محاولته بالفشل. سار حتى الكنيسة الروسية، وصعد أحد التلال، وانحرف بين شجر الزيتون في زاوية مستقيمة، إلى أن وصلته أصوات حركة غير عادية. وعندما نظر، رأى بعض الأشباح السود، وأشكالاً مخيفة لدبابات ومدافع وهياكل بخوذات تتحرك بآلية. فكّر في خولة، ابنة الرجل الذي استضافه، ورأى من جديد ابتسامتها. حاول أن يقترب من الحرب أكثر في ظل الزيتون، فلاحظ سيارة عسكرية مغطاة بالأغصان والشباك تسير باتجاهه.


12
قال بهاء:
- الساعة تجازوت منتصف الليل، ولم يأتوا بعد لأخذنا.
فأكد مدحت:
- سيأتون لأخذنا بين لحظة وأخرى.
لم يعد مكان لقدم واحدة في المقهى، والمتطوعون ما زالوا يصلون، فكر بهاء في نورة، وهمس لنفسه: لن تنام الليلة! فظن مدحت أنه يحادثه:
- ماذا تقول:
انحنى بهاء على أذنه، وقال:
- أريد أن تنقلنا الشاحنة.
ابتسم مدحت، ولم يعلق، وبعد قليل، قال:
- أفكر في عادل، ترى هل سيقضي طول الوقت بانتظاري؟
فلم يجبه. كان المقهى ينضغط من حوله كلما ازداد عدد المتطوعين، عاد صدى السؤال يرن في جبينه: ترى هل سيقضي طول الوقت بانتظاري؟ لم يقل له عليك ألا تربح الحرب فقط، بل وأن تعود حيًّا. فكر في الموت لحظة واحدة، وانقبض قلبه. كان لم يزل يحلم برؤية يافا، وبالكتابة إلى زوجه نورة، وبإرسال زهرة البرتقال السعيد لها.
سمع مدحت يقول منفعلاً:
- إنني أحب (( العقبة ))!
ورأى بسمته في عتمة المقهى، فعاد وانقبض قلبه. جاء أحدهم يخبرهم بقدوم الشاحنة، فتسابقوا كلهم إليها، وأطلق بهاء تنهدة ارتياح.




13
نهض عمر من نصف إغفاءته إلى اللاسلكي الذي يناديه، وألقى بنظرة سريعة نحو الساعة التي تجاوزت منتصف الليل بقليل.
- عمر يتكلم، حوِّل.
- سي البشير يتكلم، حوِّل.
- أوامرك، يا سي البشير. حوِّل.
- عليكم أن تبدأوا بالانتشار فورًا، ألقوا القبض على رأس الأفعى دون إطالة. حوِّل.
- تحت أمرك، يا سي البشير. حوِّل.
- الالتقاء في دالي إبراهيم. حوِّل.
- تحت أمرك، يا سي البشير. حوِّل.
- انتهى.
سارع عمر إلى استجماع أفكاره: لا بد أن تطورات خطيرة قد وقعت، فها هو سي البشير يكلمه لاسلكيًّا قبل موعدهما المقرر على الساعة الثالثة صباحًا. انطلق بسيارته يسابق الريح، والجزائر تنام مطمئنة. سيذهب في طلب تهامي أولاً، فلخضر، فلحسن، سيتبع هذه الخط الدائر إذن، حيدرا – الجولف – باب الواد. وجس مسدسه المربوط على صدره، وهو يفكر في اللحظة التي سيقتحمون فيها (( وكر )) جيمس برنارد.


14
قال سي البشير بصوت هادئ:
- كلمة واحدة، يا جيمس برنارد، تقولها، وننهي الأمر. أؤكد لك أنك ستحاكم محاكمة عادلة. أنت تعرف أية وثائق خطيرة أحملها بيدي هاتين. إنها تدينكم أنت وجماعتك دون أدنى شك، وتوقع عليكم حكمًا بالسجن أقله ثلاثين عامًا إن لم يكن السجن المؤبد. لهذا تكلم، وسيكون هذا في صالحك. سيخفف الحكم عليك إن كشفت عما لا نعلم.
نبر لخضر:
- دعني أدفعه بقبضة مسدسي على الكلام!
- لا.
رفع جيمس برنارد رأسه، ورأى وجه سي البشير المحترق في أكثر من مكان. تأمل الوجه المشوه صامتًا، وعمر وتهامي تبادلا نظرة مرتبكة. تقدم لخضر من جيمس برنارد بغضب، وهو يرفع مسدسه في الهواء، فأوقفه سي البشير دافعًا ذراعه في طريقه، وراح يروى إلى الأسير الأمريكي:
- في الجبل، ذات يوم، وقعنا في كمين، كنا ثلاثة، ومعنا عتاد بسيط، بنادق صيد على ما أذكر، كانت الثورة لم تزل في بداية الطريق. ماذا سيتبادر إلى ذهنك، يا جميس برنارد، عندما تحاصر فرقة مدججة بالسلاح ثلاثة من الثوار معهم بضع عشرات من خراطيش الصيد هي كل ذخيرتهم؟ أتدري ماذا فعلنا؟ أفرغنا الخراطيش من البارود، فصارت لدينا حفنة
لا بأس بها منه، ليست بالكبيرة، ولكنها كانت كافية لإشعال ممر ضيق بين الأشجار، يقسم العدو إلى قسمين، ويكون منفذًا لعبورنا.
ارتفعت يد سي البشير، وهي تنتفض، وأشارت إلى الآثار التي تركها الحادث على وجهه:
- لم تكتب لرفيقيّ النجاة، أما أنا، فقد شويت!
أخذ نفسًا، وأضاف:
- كي تعرف، يا جيمس برنارد، كم هي غالية الحرية علينا!
ونبر:
- هيا، تكلم!
لم ينبس جيمس برنارد ببنت شفة، التفت سي البشير إلى عمر، وقال:
- كان موعدنا على الساعة الثالثة صباحًا، ومنذ أن تركتني لم أتوقف عن مراقبة الزمرة في البناية المقابلة. لاحظت أن أشباحهم قد أصبحت تتحرك بعصبية على غير عادتها من وراء الستائر، وأن نباح الكلب قد أصبح يتكرر بعدوانية على غير عادته في الحديقة، ثم جاءت سيارة (( دي إس )) سوداء، مما أثار في نفسي الريبة، اتصلت برفاقنا في الجوسسة المضادة في البليدة لينتبهوا جيدًا في أماكن المراقبة، وجعلت الجميع على أهبة لمطاردة كنت واثقًا ما أن تبدأ حتى تنتهي. كانت الشفرة قد أرسلت إلى القاهرة، وكنا بانتظار أمر من السلطات العليا لنعمل بإرشادها. وعند منتصف الليل، قطع أربعة من أولئك المجرمين الحديقة إلى السيارة السوداء، وبدلاً من أن يكون اتجاهها مطار البليدة الحربي، كما كنا نتوقع، كان اتجاهها مطار بوفاريك. أتى الأمر من السلطات العليا بتصفيتهم إذا ما لزم الأمر، فلم يعد إيقافهم سهلاً بعد أن تغير مكان العملية. وهذا ما حصل بالفعل عندما أرادوا التسلل إلى طائراتنا الحربية لزرع الألغام تحت أجنحتها. كنا قد فاجأناهم بوابل من الرصاص.
وتوجه سي البشير إلى جيمس برنارد:
- كان هدفكم الرئيسي طائراتنا الميج، لئلا تشترك في الحرب، ولكي تغطوا هدفكم هذا أردتم إيهامنا بنسف مستودعات البترول في حاسي مسعود وعنابة، ثم جاءكم أمر بنسفها بالفعل، لبث البلبلة، ولتركيع هذا الشعب، وكأنكم يا أبناء الغرب لم تتعلموا الدرس الذي لقنتكم الثورة إياه! فلتعلم، يا جيمس برنارد، أن مركزكم في حاسي مسعود قد أنهينا عليه، وألقينا القبض على العميلين، وكذلك مركزكم في عنابة، أما أعوانك الذين في العاصمة، فهم في السجن الآن.
رفاقنا في حاسي مسعود يقولون عندهم أيضًا كان الأمر للتمويه، بينما المقصود مستودعات البترول في منطقة أخرى. أنت وحدك من يستطيع إرشادنا. قل ما يمكنه إرشادنا لوقف الجريمة. فها أنت ترى أن كل شيء قد انتهى بالنسبة لكم. خطتكم فشلت، وإذا ما أرشدتنا كنت الضامن في تخفيف الحكم عليك.
أخيرًا فتح جيمس برنارد فمه، وأفضى:
- ستخضع الجزائر لنا ذات يوم، وسندمركم، أما الآن، فمن المفترض أن تكون مستودعات البترول في بيجاية تحترق!




15
اقترب ضابط وثلاثة جنود من شجرة الزيتون، وسألوا أحمد إذا ما كان جنديًّا يريد الهرب، فقال:
- لا.
وسألوه إذا ما كان مجنونًا يريد القتال، فقال:
- لا.
وسألوه إذا ما كان عازمًا على تسليم البندقية، فقال:
- لا.
وقال أيضًا:
- إنها بندقية قديمة كما ترون، وفوق كل هذا، لا توجد طلقات لدي.
فسألوه إذا ما كان راغبًا في بعض الطلقات، فقال:
- لا.
هب به الضابط صائحًا:
- ماذا تريد إذن؟
قال أحمد، وهو يبتسم دون سذاجة:
- أريد أن أكون العائد الأول.
- العائد الأول إلى أين؟
- إلى الوطن السليب.
- أي وطن سليب؟
- فلسطين.
- ماذا تقول؟
- فلسطين، فلسطين!
فأمر الضابط جنوده:
- ألقوا القبض عليه.
ونعته بالحمق والجنون.
هرب أحمد من بين أيديهم، وحمته العتمة، وظل طويلاً يسمع خطواتهم، وهي تترصد به، وتلاحقه. فكر في الذهاب إلى الرجل الذي أعطاه البندقية، والاختفاء عنده، لكنه عدل عن ذلك في اللحظة الأخيرة، فالشمس بدأت تنهض بعبء النهار، ولن يمنعهم النهار من إيجاده. كره الضوء، وعزم على الاختفاء في جبل الزيتون، ريثما يهبط الليل، ريثما تبدأ الحرب.

القسم الثاني
16
الأحد/ 4 حزيران 1967
أطلقت السفينة نفيرًا مدويًّا، فقال شيمون، وهو يلتفت إلى أوري:
- ها هي ذي تصل جوزفين.
كانت الأمواج تنشق كالجسد بسرعة فاتحة للسفينة طريقًا مستقيمةً إلى الميناء، وكان البحر منعكسًا في الأفق، عظيمًا،
لا نهاية له. حاول شيمون الذهاب إلى الرصيف، لكن حارسًا منعه، بقي ينتظر وأوري وبعض المستقبلين من وراء حاجز إلى أن توقفت السفينة في الأخير. انتصب سلمها الأبيض، وأخذ المسافرون يغادرونها. كان منهم من يبحث عن أحد يعرفه، ومنهم من يرفع يدًا للتحية. أطلت جوزفين مبتسمة، ولم تقع على أوري، أو على شيمون، وشيمون يلوح لها بيده بكل قواه، وهو يقفز. اندفع يناديها، فرأته، وهي في منتصف السلم، وأخذت بدورها تلوح له بيدها، فانفعل أوري الذي رفع لها كلتا يديه الاثنتين، وراح يضحك بصوت مرتفع. ثم دخل أوري وشيمون مبنى الميناء، وما أن أنهت جوزفين معاملات الدخول حتى جاءتهما بذراعين مفتوحتين على سعتهما، فضمها أوري بشدة، وقال لها:
- لن تتصوري كم أنا سعيد لرؤيتك!
وعلق شيمون، وهو يضمها بدروه:
- شقيقك هذا سعيد بفطرته!
فقالت جوزفين:
- إنني أعرفه.
وساروا إلى باب الخروج، وأحد الحمالين يدفع حقائب كثيرة على عربة. أشار أوري إليها، وقال فرحًا:
- لا بد أنك ستمكثين عندنا طويلاً هذه المرة.
- هذا صحيح.
تغير فجأة عندما سأل:
- وكيف حال جون والأولاد؟
- كلهم بخير، سيأتون بعد أن تتوقف الحرب للاستجمام عدة أيام.
صاح شيمون:
- هذا إذا ما توقفت.
ابتسمت جوزفين، وقالت:
- ستتوقف وبسرعة.
علق أوري:
- هذا ما قلته له، ولكنه لا يصدق كلامي.
قال شيمون:
- الحرب أمر لا يسر.
أيدته جوزفين:
- هذا صحيح.
ثم أضافت بعجلة:
- إذا ما خسرناها.
تدخل الحمال مهتمًّا:
- وهل سنخسرها، يا سيدتي؟ هل سنخسرها؟
رمقته جوزفين بحذر، وسألته:
- من أين أنت؟
فلم يرق للحمال السؤال إذ راح يجمجم:
- جميعنا يهود، يا سيدتي.
وأعطاها ظهره ليذهب إلى صندوق السيارة، فهمس شيمون في أذنها:
- لا بد أنه شمال إفريقي، فلا تثيريه.
غضبت جوزفين:
- كيف يفكر لحظة واحدة في أننا سنخسر الحرب.
وأيدها أوري:
- نعم، كيف بإمكانه أن يفكر في ذلك؟
فاعتذر شيمون لأجله:
- إنه إنسان بسيط!
دفع له شيمون، وعندما وجد ثلاثتهم أنفسهم وحيدين في السيارة، انطلقوا ضاحكين. كانت يافا تخرج من البحر كالغادة، وثوبها الشفيف يلتصق بجسدها، وكان أوري ينظر إلى جوزفين، ويقول لها:
- لم تتغيري، يا جوزفين!
توجهت جوزفين إلى شيمون:
- هل ما يقوله أوري صحيح، يا شيمون؟
فانفعل شيمون:
- آه، نعم، لم تتغيري، يا جوزفين، ما زلت امرأة ناضجة وشهية!
انقلبت على ظهرها ضاحكة:
- لا تنسَ أنني امرأة تقترب من الأربعين.
فعلق أوري:
- لا حساب للزمن معك.
- ولكنك تبالغ، يا أوري العزيز!
- أنا لا أبالغ. ما زلت ناضجة وشهية كما قال شيمون، امرأة كاملة.
وانطلق شيمون يقول:
- لو لم تتزوجي من أمريكيك لتزوجتك أنا، يا جوزفين.
ولم تتوقف جوزفين عن الضحك لحظة واحدة، وأوري يقول لصديقه:
- إنها لن تقبل بواحد مثلك.
فاحتج شيمون:
- ومالي أنا؟
قال أوري، وهو يدفع نظارته على أنفه، ثم وهو يفحص أخته:
- جوزفين شيء آخر.
علق شيمون:
- لا تقل لي إن جوزفين الآن كنبتتك العجيبة.
- كنبتتي العجيبة، نعم، ولكن من نوع مختلف، نوع خاص.
وراح يتبادل مع أخته نظرات الشكر والمودة، وبعد تردد، طلبت جوزفين:
- لنتكلم في موضوع آخر.
فهتف شيمون:
- إنه رجل الأعمال الذي يتكلم الآن.
- تقصد امرأة الأعمال.
- كما شئت.
- إنني مكلفة من طرف زوجي بدراسة بعض المشاريع الممكنة في أرضنا الجديدة.
تساءل شيمون بشيء من الدهشة:
- أرضنا الجديدة؟!
فالتفت أوري على أخته:
- لا تؤاخذيه، يا جوزفين، أنه ينسى طريقه إلى مكان العمل أحيانًا.
ابتسم شيمون بخجل، وقال:
- صدقوني، إنني لا أحب الحرب.
فنبرت جوزفين:
- ولكنها حربنا جميعًا.
فأذعن:
- نعم، هذا صحيح.
وأطلق تنهدة مستسلمة.
سألها أوري:
- ماذا كنت تريدين أن تقولي؟
- إنني مكلفة من طرف زوجي بدراسة بعض المشاريع الممكنة في أرضنا الجديدة: فنادق سياحية درجة أولى في شرم الشيخ مثلاً، أو التنقيب عن البترول في الأغوار، أو تجفيف البحر الميت لاستثمار ثرواته العديدة بصورة أكثر حسمًا، أو القيام بتعهدات بناء مدن كاملة على هضاب الجولان حسب طريقة البيوت المصنوعة مسبقًا، أو، وهذا في حالة منافسة شركات أخرى، أن نوسع بعض مصانعنا هنا على حساب الأيدي العاملة العربية الرخيصة، أو...
فقاطعها أوري:
- أو استغلال نبتتي العجيبة.
ابتسمت جوزفين تاركة إياه يوضح:
- إن زيت النبتة العجيبة لمفعم بشتى أنواع الفيتامينات، وبالإمكان أيضًا أن نستخلص من أوراقها الرقيقة مادة كثيفة خاصة تمثل جوهر أفخر العطور.
انطلقت جوزفين تضحك بسعادة:
- لم أفكر في هذا. ولا بد أن نبتتك العجيبة أفضل من كل المشاريع الأخرى التي ذكرت. آه، سأبرق إلى جون حول الموضوع!
تدخل شيمون:
- لا تنسيا أنها نبتة عجيبة في كل شيء، وهي لن تخرج من المستنبت إلا إلى أرضها الجبلية الشديدة الحرارة، وإلا ماتت.
حدد أوري النظر في عيني أخته، وقال:
- على الحرب أن تقوم.
فهتفت جوزفين:
- ستقوم الحرب بين ليلة وضحاها.
جمجم أوري مثلجًا:
- الاقتصاد والعلم والتوراة، ستجتمع هكذا لأول مرة.
رمت جوزفين رأسها على كتف أوري، وقالت:
- أما وقد وصلت الآن، فاطمئن.
- ولماذا لم تأتي من قبل؟
- كان الوقت مبكرًا.
- ألهذا السبب أخذت السفينة؟
- نعم، وفوق ذلك، أردت الاستمتاع بالبحر، أنت تعرف،
لا أحب السفر بالطائرة، وطالما أن الحرب لن تقوم قبل وصولي.
- يا للسعادة لأنك وصلت!
رفعت عن كتفه رأسًا مخضلاً، وسألت شيمون:
- هل ما زلنا بعيدين؟
فأطلق شيمون ضحكة مختصرة، وقال:
- تنسين شوارعنا بسرعة، يا جوزفين!
ومن جديد، أطلق ضحكة أخرى مختصرة قبل أن يضيف:
- مسافة خمس دقائق أخرى.
نظرت جوزفين إلى الشوراع التي تتحرك بالأقدام مسرعة، وإلى بقع الظل، وسألت دون أن تلتفت إلى أوري:
- وكيف حالهما راشيل وجدتها؟
- كلتاهما بخير، وهما تنتظران قدومك بفارغ الصبر، وسترين راشيل كم صارت تشبه أمها، حتى أنني أظن أحيانًا أنها هي القادمة.


17
ماذا سيفعلون بأحمد إذا ما ذهب ببندقيته القديمة إلى المدينة؟ سيلقون عليه القبض حالاً معتبرين أنه من المخربين. سيبقى مختبئًا إذن في جبل الزيتون، في الظل الوارف، سيبقى مختبئًا من النهار، مرتقبًا قدوم الليل الرائف. في العتمة لن يمكنهم إيقافه، يريد أن يذهب إلى خولة في العتمة، فقط ليمسي عليها، قبل أن يصبح أول عائد.
سمع أحمد وقع بعض الخطوات على الصخور المغسولة بالندى، ورأى تحت الهضبة الجنود ذاتهم الذين يبحثون عنه. كانوا يدققون في كل أثر على الأرض، وكانوا يفحصون ورق الزيتون والأغصان علهم يقعون على ورقة انعطفت مع جسده أو غصن انكسر عند عبوره. تمنى أحمد أن تقع الحرب الآن، فيرديهم قتلى بطلقاته. صارت حاجته إلى الطلقات كحاجته إلى ابتسامة خولة، فعزم على أن يأتي ببعضها، حتى ولو لم يوجهها إلى صدور الجنود الذين يطاردونه، فالحرب تدفعه إلى الحصول عليها. ضم بندقيته القديمة إلى صدره، وبقي ساكنًا في مكانه، فأدنى حركة ستؤدي بالجنود إلى اكتشافه.
سينتظر الليل أن يغسم إذن ليجعل منه وشاحًا، وإذا ما احتاجه الأمر سرقها تلك الطلقات، سرقها من الجنود ذاتهم الذين يطاردونه. أيكون هذا طريقه إلى يافا؟ أيصبح هكذا العائد الأول؟ وهل ستدفعه الابتسامة الخجلى إلى أن يجد هناك خولة؟ خولة أخرى، أو تلك التي تمر في خياله كالطيف؟ وعلى أية حال لا بد من انتظار الليل.
اقتربت خطوات الجنود، فرفع أحمد عينيه إلى أعراف الزيتون، وراح يراقب مواكب الشمس.
18
ذهب عمر مباشرة إلى طاولتهما المعهودة في مقهى الطنطنفيل، فوجد مليكة ترشف قهوتها منتظرة، ألقى عليها التحية، وترامى على مقعد مجاور، فلم تنتظر أن يعلمها بما وقع:
- كيف مضت الأمور؟ كل شيء على ما يرام؟
طمأنها بهزة من رأسه، وأوضح:
- قدمنا موعد الانتشار، وأتممنا كل شيء فجرًا.
أطلقت مليكة نفسًا مرتاحًا، وابتسمت، وراحت تضغط بيدها على يده، سمعته يقول:
- كانوا يريدون إحراق (( بيجاية )).
- إحراق (( بيجاية ))؟!
- مستودعات البترول كانت هدفهم.
وأخذ يدها بين يديه قبل أن يضيف:
- أوقفناهم في اللحظة الأخيرة.
أتى الجرسون، فطلب عمر قهوة دوبل، وعندما ابتعد الجرسون، قالت مليكة:
- لم تنم طوال ليلة أمس إذن، يا عزيزي!
فتمتم عمر:
- الآن أحس بالتعب.
- اشرب قهوتك، واذهب إلى فراشك حالاً.
وراحت تنظر في عينيه التعبتين، ويدها تبث في يده الحرارة اللازمة للتخفيف عنه، سمعته يقول:
- سأذهب إلى المشرق.
فتحت عينيها على سعتهما:
- ستذهب إلى المشرق؟!
- لهذا أردت أن أراك بعد عودتي من البليدة مساء أمس.
وضع الجرسون فنجان القهوة أمام عمر، وذهب، فسألته مليكة:
- أنت جاد فيما تقول؟
- وما الدهشة في ذلك؟
دفعت بظهرها على المقعد، وقالت مستنكرة:
- اعتقدت أننا سنتزوج بعد نجاح (( المهمة )). ألم تعدني بذلك؟
- وعدتك. ولكن الحرب ستقع في المشرق، وذهابي جزء من (( المهمة ))، هذا ما اتفقنا عليه أنا وسي البشير.
فنبرت مليكة:
- وما ذنبي أنا؟!
ابتسم لها عمر، وهو يضع حبة سكر في قهوته:
- ذنبك أنك أحببتني.
لكنها ظلت محتدة:
- ولماذا لا يذهب هو؟ سي البشير؟ أم أن كل ما يعرف إعطاء الأوامر؟
عبس عمر، وقال:
- أرجو أن تدعي عواطفك جانبًا، وتفكري بشكل منطقي. سي البشير احترق وجهه أيام الثورة، ألا يكفيه ذلك؟
- تزوجني إذن أولاً، ثم اذهب إلى حيث تشاء، إلى المريخ إن شئت، فلن أعترض.
- أنا ذاهب إلى حيث يشاء الواجب الوطني.
فضربت مليكة يدها على الطاولة، وأفضت بتذمر:
- إنني امرأة قبل أن أكون أي شيء آخر.
راح عمر يحرك قهوته ببطء، وهو ينظر إلى جانب وجهها الدقيق الملامح، والذي يرتعش، ومليكة تحاول ألا تبكي.



19
توقفت الشاحنات والشمس ترشق سهام النار في سيناء، طلب جندي كل شاحنة من المتطوعين فيها النزول، وصفوهم في خط متعرج. وبعد قليل، خرج من إحدى الثكنات ضابط كالغراب المدجج بصحبة عدد من معاونيه، وراح يتفقد باشمئزاز الوجوه العازمة على القتال. ارتفع من فوق ربوة، وأخذ يخطب فيهم معلنًا أنهم يقفون في خط الدفاع الرابع. فراح المتطوعون يتماوجون دون رضى، فهو خط الدفاع لا الهجوم، وهو خط الدفاع الرابع لا الأول، بمعنى أنهم يبتعدون كيلومترات وكيلومترات عن أرض المعارك. أخبرهم أن القتال لن يبقى طويلاً حتى يصلهم، وطمأنهم، فهم سيشاركون في الحرب كما أرادوا، وما عليهم الآن إلا أن يبدأوا بحفر الخنادق. أخذ الجنود بتوزيع الفؤوس، وقدموا بعض المجارف، فنظر بهاء إلى الشمس المبحرة بالدم والنار في سماء الحرب، ومسح العرق عن جبينه. كان قد نسي مدحت الذي قال له:
- إذا ما هبط الليل تسللنا إلى المواقع الأمامية.
وانهالت عليهم الأوامر من كل جانب، فانهمكوا في العمل، والشمس ترسل اللهب، وتحاول إحراق الأمل، والشمس تستنفد قوة الفأس، وتحاول زرع اليأس. نظر بهاء حواليه، فرأى على مقربة منه رجلاً ذا ساق خشبية يغني، ابتسم الرجل لدهشته، نقر بالمجرفة على ساقه، وأوضح بكبرياء:
- نهشتها الكلاب في غزة خلال حرب 56، فلم أكن صيادًا محترفًا، الآن نعم، وهاأنذا أدخل الغابة بعد طول غياب. ألسنا في موسم القنص؟ إن معي رخصة تثبت من أنا.
وعاد ينقر بالمجرفة على ساقه الخشبية من جديد، ولولا الصيحة الرادعة للجندي الذي يأمرهم بألا يتوقفوا عن الحفر دقيقة واحدة لنسي بهاء سوط الشمس مدة ابتسامة الرجل ذي الساق الخشبية على الأقل.


20
كان مقهى لوديبار خاليًا إلا من بعض العجائز المتصابيات اللاتي لاحظت إحداهن أن جان يفحصها بعينين مستفزتين من حين لآخر، فتنحنحت محرجة، عدلت من جلستها، وحاولت أن تتحاشاه دون أية فائدة، وعندما غمزها مرة، احمرت وجنتاها كمراهقة في الخامسة عشرة، وجمجمت بضيق:
- يا لوقاحة ذاك الرجل البدين!
ولما حاول جان أن يدعوها إلى طاولته ضربت قدمها في الأرض، ونهضت نحو باب الخروج مضطربة، وفي اللحظة التي مرت فيها بجانبه، مدت في وجهه لسانها، فانطلق جان يضحك معلقًا:
- فأرة عجوزة!
وإذا بصوت ديدييه يأتيه من الوراء:
- أتفزعهن إلى هذه الدرجة، يا عزيزي جان؟
أفسح له جان مكانًا إلى جانبه، وهو يقول:
- فأرات، يا عزيزي ديدييه، فأرات، وما أنا سوى قط مفترس!
أشار ديدييه إلى الجرسون، ولما أتاه، طلب:
- أعطني فنجان حليب كبير ساخن.
أطلق جان ضحكة صغيرة، وقال:
- ها أنت تعود وتصبح طفلاً، يا عزيزي ديدييه!
- إنها عادتي منذ عدنا من الكونغو، وأنا لا أبدل عاداتي بسهولة.
- أما أنا، فعلى العكس تمامًا، أبدلها بكل سهولة.
قال ذلك، وهو يشير إلى كأس البيرة التي أمامه.
- أعرف أننا مختلفان.
- إلا في شيء واحد.
أتبع جان ذلك بضحكة أخرى صغيرة قبل أن يسأل:
- كم سيدفعون لك مجانين الأرض الموعودة؟
- كثيرًا، و... ذهبًا.
فغر جان فاه:
- أنا لا أصدق!
- عليك أن تصدق، يا عزيزي جان، عليك أن تصدق.
- الأمور معهم إذن مغرية أكثر.
- ما هو قصدك؟
وضع الجرسون فنجان الحليب، ورمى بعدد من قطع السكر قبل أن يذهب.
قال جان:
- هناك طائرتان إحداهما ذاهبة إلى الكونغو يمولها تشومبي، والأخرى ذاهبة إلى الموزمبيق يمولها سالازار، والدفع مقدمًا: خمسة عشر ألف فرنك جديد تسلم إليك في ظرف على سلم الطائرة.
وتوقف للحظة قبل أن يضيف:
- مع تكاليف النقل في حالة الموت.
أخذ ديدييه جرعة حليب دون سكر، وقال بهدوء:
- مع الإسرائيليين لا حاجة بك إلى الدفع المقدم؛ لأنهم يدفعون في كل الأحوال، إن مت وإن بقيت حيًّا، وهم يدفعون أكثر من تشومبيك وسالازارك، ويضمنون لك فتاة وشرابًا وفراشًا وثيرًا، وإذا لم تكن واثقًا طالب بأن يدفعوا لك قبل الحرب لا بعدها. ثم، أقول لك الصدق، لقد سئمت من قتل الزنوج في إفريقيا.
تململ جان، وقال:
- أفضل أن يدفعوا لي قبل الحرب طبعًا، وبالدولار لو أمكن، فالذهب أمره صعب عندما أفكر في نقله.
- أما أنا فأريد ذهبًا.
جرع جان كأسه، وترك ديدييه يعب حليبه حتى أنهاه، ثم سأل:
- وبأية رتبة ستكون؟
- بأية رتبة سأكون!
- أعني...
- من هم مثلي بسوابق في الكونغو ونيجيريا وجنوب إفريقيا سيكونون برتبة قائد فصيل.
- قائد فصيل فقط؟
- لا تقل لي إنك تحلم بقيادة الجيش!
انطلق جان يضحك، والشمس تنعكس باردة على صفحة السين. نظر ديدييه إلى الجسد البدين، ورأى كيف يهتز كالقربة الضخمة، فلم يمنع نفسه عن الضحك هو الآخر. توقف جان قليلاً، وقال:
- احجز لي مكانًا معك، أيها القمندان.



21
لكنه ترك جبل الزيتون، وأخذ طرقًا لا يعرفها الجنود. كانت وجهته بيت الرجل الذي أعطاه البندقية، سيختفي عنده حتى المساء، ويمكنه أن يرى خولة، نعم، أن يرى خولة. لم يعترف أحمد إلا لنفسه بأنه يغامر من أجلها، فالجبل يحميه أكثر، وعند الرجل يمكن أن يوقفه أي عابر.
في ساحة باب العامود، اختبأ أحمد في ظلال الناس المسرعين، خبأ في علبة من الورق المقوى بندقيته القديمة، ولم يرفع رأسه إلى النوافذ المفتوحة. كان المذياع يصدح بالنشيد: يا ويل عدو الدار من ثورة الأحرار! وكان البعض ينظر عبر الأسلاك الشائكة إلى الطرف المقابل، فيرى فوهات المدافع المغطاة بالشباك بدلاً من ثياب الغسيل التي من العادة أن تبدو منشورة على الحبال. إنها الحرب، وهو يخفي بندقيته، وأحدهم يبحث عنه، وهو يبحث عن مخبأ. رآهم يبتسمون لبعضهم، فابتسم، وخرج من ظلهم. أراد أن يعلن عن نفسه، فهي حربه أيضًا، وهو يريد أن يكون أول عائد. لكنه قطع ابتسامته، وعاد يختبئ في الظل الوادع؛ لأنه مطارد من طرف الجنود، وإذا ما وجدوه ألقوا القبض عليه، ورموه في السجن، أو قتلوه.
أخذت موسيقى الحرب الآتية من النوافذ المفتوحة تبتعد، وابتعد في طريق طويلة بدت خالية من ساكنيها. لم يدر كيف أحس بالارتياح، وخاصة عندما اكتشف أنها طريقه إلى الرجل الذي أعطاه البندقية القديمة. فكر في ابتسامة خولة الغسانية التي تنتظره، وفي الطلقات، فربما وجدها له الرجل ليعطيه إياها. لكنه تفاجأ، وهو على بعد خطوات من الباب الذي أراد أن يطرقه، بجنود يخرجون بالرجل مكبلاً تحت الحراسة الشديدة، دفعوه في سيارة عسكرية، ثم انصرفوا ذاهبين.
وقف أحمد قرب الباب منسحقًا، متحيرًا، مترددًا: كان
لا يمكنه أن يطرق الباب، فما يدريه أن خولة هناك، وإذا كانت هناك، فمن العيب أن يطرقه بعد أن أخذوا أباها. رفع رأسه إلى النافذة علها تنظر إلى الشارع، فتراه، ولكن النافذة كانت مغلقة. غدا الصمت عظيمًا، والقدس تقرع أجراسها الرتيبة. سار على الرصيف عدة خطوات، جاء، وذهب، ثم عزم على طرق الباب، فربما كانت بحاجة إليه. وهو يرفع يده في الفضاء، انفتحت النافذة، وأطلت خولة. كانت لها عينان حزينتان، وشعر منسدل، فعجز عن الكلام، ونسي ابتسامتها. راح يشده الضباب في عينيها، فقط الضباب الذي في عينيها، ولم ينتبه إلى حركتها، كانت قد أخرجت قفصًا أزرق فيه كناري أصفر لا يغني، رآها تربط القفص بخيط، وتدلى به إلى يديه، وهي تقول له:
- لتمنحه الحرية غدًا.
فأكد للكناري:
- سأمنحك الحرية غدًا.
وفي اللحظة التي رفع فيها عينيه إليها لم يجدها.


22
قالت جوزفين:
- نعم، يا أوري، عندك الحق، أصبحت راشيل شديدة الشبه بأمها.
قال أوري:
- لهذا أطلب إليها دائمًا أن تأخذ مكان أمها على المائدة.
قربت جدة راشيل من جوزفين طبق لحم، وقالت:
- لكن أباها يدللها فوق اللازم.
وضعت راشيل الشوكة والسكين على طرف طبقها، وقالت محتجة:
- لو أن بابا يدللني حقًّا فوق اللازم لما طلب إليّ الذهاب معك إلى الملجأ.
اندهشت جوزفين:
- إلى الملجأ؟!
أوضحت الجدة:
- كانت غارة رمزية.
هزت جوزفين رأسها مبتسمة، وعلق شيمون، وهو يبتسم لراشيل مؤيدًا:
- الحقيقة أن الذهاب إلى الملجأ أمر لا يسر.
انتهره أوري:
- لا تشجعها من فضلك.
لكن شيمون بقي يقول:
- على الأقل انتظروا قيام الحرب، فراشيل فتاة طرية كعرق النرجس.
وجدت راشيل في كلام شيمون العون الذي تطلب:
- أترى، يا عم شيمون؟ إنهم يتصرفون بي كما يشاؤون.
تدخلت الجدة، وهي تنقل ورقة من الخس إلى صحنها:
- كانت تجربة على أي حال غير ناجحة تمامًا، فما بالكم إذا ما وقعت غارة حقيقية؟
طمأنتها جوزفين:
- لن تقع غارات حقيقية.
استنكرت جدة راشيل:
- وما الذي قتلها، أم راشيل، أليست غارة حقيقية؟
لكن جوزفين أكدت من جديد:
- لن تقع غارة حقيقية واحدة، إسرائيل اليوم ليست إسرائيل الأمس.
والتفتت إلى أخيها:
- أليس كذلك، يا أوري؟
مسح أوري فمه بمنديل أبيض، وتذكر طفلاً فلسطينيًّا أحمر الابتسامة، دمويها، فعبس، وقال:
- لن يكتب لشعبنا إلا النصر.
فأطلقت الجدة ضحكة أتبعتها بآهة:
- اسألني أنا عن أوشفتز أخبرك معنى الآلام.
قال أوري:
- لهذا السبب. لقد دفع شعبنا آلام كل البشرية ثمنًا لانتصاره.
سمعوا شيمون يهتف:
- يا ليت الحرب تقع الآن، ونخلص بسرعة، فكما تعلمون أخافها ولا أحبها.
وصبَّ لنفسه ولجوزفين عصيرًا كرمليًّا، وهو يقول:
- جوزفين أيضًا تريدها أن تقع الآن لتنتهي بسرعة، وتبدأ مشاريعها.
قالت جوزفين مبتسمة:
- اطمئن ما أن تقع إلا وتنتهي.
والتفتت إلى أخيها مأخوذة:
- لنحقق مشروع النبتة العجيبة، فتزدهر الحياة، وتتقدم البلاد، ويرتفع سعر الليرة: مائة سنة على الأقل من الرغد والطمأنينة. أزمتنا اليوم الحرب مفتاح حلها!
علقت الجدة:
- إنني لا أفهم شيئًا من هذا، يا جوزفين، وعلى الرغم من ذلك، فسيبقى جزءًا من عملك، وفي الوقت ذاته، أرى أحيانًا أن في النصر شرًّا لنا، لأنني أخشى على راشيل. وهي في الملجأ، وبين سواعدها إخوتها، أخذت تعرق، وكاد يصيبها الإغماء، فكيف تفعل مع مليون عربي أو ربما أكثر سيعيشون معها؟
علق شيمون مبتسمًا:
- أنا شخصيًّا لا يسيئني ذلك. لقد كنت جارًا لعدد من العرب قبل 48.
احتدت نبرة الجدة:
- ولكنك، يا شيمون، لست راشيل، الطرية كعرق النرجس، أليس هذا قولك؟
- نعم، هذا قولي، وما زلت عند قولي، ولكن...
قاطعه أوري:
- النبتة العجيبة أيضًا لا بد من ترويض أرضها الجبلية المتوحشة قبل زراعتها واستغلال خيراتها. ولتحافظ راشيل على طراوتها ونقائها، لا بد من فعل مشابه، وهذه مهمة من المهمات الملقاة على عاتق إخوتها.
مدت الجدة يدها نحو يد راشيل، وراحت تقول بفرنسية كاملة:
- آه، يا لطفلي، يا لكناريّ، يا لقلبي!
سحبت راشيل يدها بعنف من يدها، وكأنها الطائر الكاسر.


23
اعتذر سي البشير لعمر، فهو على موعد مع شخصية هامة، وطلب إليه أن يتصل بمساعده، فرأى عمر سيارة ((الدي إس )) السوداء التي أقلت سي البشير، والتي أخفاها عنه الشجر المزروع في الرصيف. وعندما دخل مكتب المساعد، كان المساعد ينهي محادثة على الهاتف.
- نعم، أسلمك مليوني سنتيم هنا، وتترك لي مليونًا في باريس. ولكنني سأحتاج إلى مليونين آخرين، هكذا يكتمل ثمن السيارة. لا بأس، يرحم الله والديك، نعم، نعم، كن مطمئنًا، يا سي بودراع. وإذا كان بالإمكان، فيما بعد، أن تترك لي مليونًا كل شهر. بالطبع السعر كما تريد. اتفقنا هكذا، أتركك على خير.
خلال ذلك، كان عمر يلقي النظر على المكتب الضخم، والصالون الرفيع، وأباجورات الضوء العجيبة. لم ينتبه على مساعد سي البشير، وهو يطلب منه مرافقته إلى الصالون إلا بعد أن دنا منه، وأمسكه من ذراعه:
- تفضل، يا سي عمر.
- لا بأس عليك، يا سي بن صالح!
- لا بأس ربي ينجيك!
تراخى سي بن صالح في مقعده المريح، وانحنى بصعوبة صوب عمر مقدمًا له سيجارًا.
- لا، أشكرك، أفضل السيجارة.
- إنه سيجار كوبي أصيل، اشعل واحدًا.
لكنه أخرج سيجارة من صندوقه، وأشعلها، وسي بن صالح يقول:
- لا بد أنك تعرف أن السيجار أقل ضررًا من السيجارة.
رفع من لهيب ولاعته ال (( كارتييه )) المذهبة، وألح في سحب الدخان من السيجار إلى أن استطاع إشعاله. رمى الولاعة على الطاولة الزجاجية القصيرة بحركة غير مهتمة، وطلب إلى عمر:
- ماذا عندك، يا سي عمر؟
- إنه أمر سفري إلى المشرق، حولني سي البشير إليك لتجري اللازم.
أخذ سي بن صالح يحك خاتمه الذهبي الضخم بطرف سترة بذلته ذات الترجال الفرنسي، متظاهرًا بالتفكير، ثم نهض من مقعده الغائر نصف نهضة، فنهضة كاملة، واتجه نحو الهاتف، وبعد أن ركّب رقمًا سأل:
- سي الهادي؟ كيف أراك، يا سي الهادي؟ لا بأس عليك؟
وأضاف بعد سلسلة لا تنتهي من عبارات المجاملة:
- سأبعث لك سي عمر لترى ما يمكن فعله بخصوص سفره هو والجماعة إلى المشرق، تعرف المسألة؟ طيب، سأبعثه لك في الحال. ساعده، واعمل على خدمته يرحم الله والديك.
وترك السماعة تسقط من يده إلى مكانها. اتجه إلى عمر، وهو يطلق من سيجاره الضخم النفثات القصيرة المتتالية:
- مساعدي سي الهادي سيتكلف بكل شيء، يا سي عمر.
نهض عمر مرتبكًا، أراد أن يقول شيئًا، لكنه توقف في اللحظة الأخيرة.
- هل هناك شيء آخر، يا سي عمر؟
خفض عمر رأسه، وغمغم:
- لا شيء.
وراح يسحب نفسه سحبًا حتى الباب.


24
ألقى بهاء على خندقه الذي حفره نظرة فيها الكثير من الثقة، وارتمى في ظله دون أن يفلح في كبح حرارة الشمس. كانت سيناء كالجمر، وهو ظامئ، حتى أنه جائع. وكان الرجل ذو الساق الخشبية قد توقفت عن الغناء، وها هو يستلقي في بقعة الظل مثله.
ابتلع ملحًا مرًّا، والتفت نحو مدحت، ففكر في ماء نورة، وأكل نورة، وقال:
- إننى ظامئ وجائع.
همهم مدحت:
- وأنا كذلك.
- لماذا لا يقدمون لنا ماءً، ولا طعامًا؟
- سيقدمون لنا ماءً وطعامًا.
- ولكنهم لا يقدمون شيئًا. على الأقل بعض الماء.
مر بهم جندي، فصاحوا به:
- نحن ظمأى وجوعى.
فلم يستمع الجندي إليهم، بل راح يقضم قطعة خبز يابسة تحت بصرهم وسمعهم، وراح يشرب من قربة معلقة على صدره ماءً ساخنًا.
مرَّ بهم جندي ثانٍ، فصاحوا به:
- نحن ظمأى وجوعى. على الأقل بعض الماء.
فلم يستمع الجندي إليهم، بل فك سرواله، وأخرج عضوه، وراح يبول في زاوية من زوايا أحد الخنادق.
مرَّ بهم جندي ثالث، فصاحوا به:
- نحن ظمأى وجوعى، ولا أحد يستمع إلينا، على الأقل بعض الماء لنرتوي.
فلم يستمع الجندي إليهم، بل راح يشتمهم؛ لأنهم في حرب لا في بيوتهم، والحرب هي الظمأ والجوع، بل الموت.
أحس بهاء بحركة خجلى في أقصى الخنادق، ثم شاهد بعض الظلال الهاربة، وهمس مدحت في أذن صديقه:
- ما رأيك لو نذهب الآن إلى الخطوط الأمامية؟
فطلب بهاء إليه:
- لننتظر هبوط الليل.
اقترب منهما الرجل ذو الساق الخشبية، وقال:
- الطعام لا يعطونه، والماء لا يعطونه، وكذلك السلاح لا يعطونه، ألم تلاحظوا ذلك؟
ارتبك مدحت، والتفت إلى بهاء، فوجده مرتبكًا هو الآخر، وصار الرجل ذو الساق الخشبية على وشك البكاء. تطلعوا نحو الشمس المدمرة، وأطلق كل منهم تأوهة، وما لبث أن جاءهم هذا الغناء الغريب:
- بلدي يا بلدي، وانا بدي أروّح بلدي!
وصار للحرب طعم الحنين.

25
في اللحظة التي أنهى فيها جان معاملات السفر اللازمة، تتابعت في الشارع سلسلة من الطلقات. جرى بصحبة ديدييه ليقفا على الأمر، وإذا بهما جنبًا إلى جنبِ عدد من رجال الشرطة. كانوا يحتمون بأجنحة السيارات، وهم يطلقون الرصاص على لصوص في محل للصياغة، وكان التراشق شديدًا، حتى أن جان وديدييه قد اضطرا إلى ثني الصدر والركض خوفًا من النار. وباريس بعيدة وباردة، كأنها لا تأبه بدمها، والرصاص لا يتوقف عن التدفق لحظة واحدة.
راح ديدييه وجان يرشدان رجال الشرطة إلى أماكن اللصوص، ويحذرانهم. أصيب أحدهم في كتفه، فتناول جان مسدسه، وأخذ يصوب على اللصوص نيرانه. كان المحل بعيدًا رغم أنه على الرصيف المقابل، ولولا عون جان لما تمكن رجال الشرطة من اقتحامه. كان اللصوص قد انسحبوا، وفي المحل امرأة عجوز تشد بأصابعها على بعض جواهرها، وهي ترتعد. استطاعت أن تخبرهم بصعوبة أن اللصوص قد سرقوا معظم ثروتها، فذهبوا في أثرهم مسرعين.
وجد ديدييه وجان نفسيهما وحيدين مع المرأة، هما والمرأة وكل تاريخهما الماضي. حاولا إيهامها بأنهما من رجال الشرطة، وحاولا سحب كنزها من بين أصابعها، فجرت إلى حجرتها الداخلية، ونجمة داود المعلقة على عنقها تهتز فرقًا دون أن يأتي لنجدتها أحد يكره الذهب، ولا يخشى الصراخ!
في عدة لحظات، خنقتها الأيدي القوية، واقتلعت النجمة الذهبية، بعد أن أخذت من بين الأصابع ما لم تعطه الأصابع. وفي المساء، كان جان وديدييه على متن الطائرة الذاهبة إلى أرض المعركة.


26
جاءت جوزفين مسرعة إلى غرفة أخيها بعد أن سمعت صيحاته المكتومة، أشعلت الضوء، واندفعت تضمه إلى صدرها، حتى أسكنت لهثاته. تناول أوري عن الصوان القصير نظارته الطبية، ووضعها بحرص، وبعد أن تأمل مليًّا آثار الدهشة الباقية في ملامح أخته، استند على ظهر السرير، وسحب نفسًا، ثم أطلقه، فسألته جوزفين متهيبة:
- ماذا جرى لك؟
وكأنه وقع، في الأخير، على ذاته، إذ سمعته يقول:
- الحمد لله أنه كابوس!
ابتسمت جوزفين:
- لا بد أنه كابوس مرعب!
لكنه زجرها:
- لا تبتسمي، لا تبتسمي من فضلك!
امحت ابتسامة جوزفين، وقالت معتذرة:
- أنا لا أهزأ بك!
وبعد صمت قصير، تحركت تريد الذهاب، فطلب إليها أوري:
- لا تذهبي الآن، يا جوزفين.
- أما زال أثر الكابوس يطاردك؟
- إنه كابوس مرعب كما قلتِ!
- هل يمكنك إعادة بنائه؟ ستكون في سرده راحة لك.
أخذ صدر أوري يعلو، ويهبط، وقال من جديد:
- إنه لكابوس مرعب!
أمسكت جوزفين يده، وراحت تشدها:
- عدْ إلى النوم الآن، وغدًا صباحًا ستسرده لي.
لكنه راح يقول بشفتين متوترتين:
- كانت راشيل في بستان تقطف التفاح، وكانت تغني، والماء على مقربة منها يترقرق، كانت أغنيتها تقول:
إنني ولدت من الموت، أيها التمثال الحجري، فتعال أبعث فيك الحياة! إنني نجمة هبطت من السماء بعد أن جعلني الإله سر جماله!
قاطعته جوزفين، وفي وجهها أمارات الفرح:
- لا تمنعني من الابتسام هذه المرة، يا أوري، كل ما رأيت لا يبعث إلا السعادة في النفس، فما علاقته بالكابوس المرعب؟
اربدت ملامح أوري، وعمق محجرا عينيه، وأفضى:
- الآن يبدأ الكابوس.
هرب الفرح من عيني جوزفين، وأصغت إلى أوري الذي راح يقول:
- مئات من الغربان، بل آلافها، ويمكن أن تكون عشرات الآلاف منها، خرجت من صفحة بيضاء في التوراة، وانقضت بأجنحتها السود على راشيل محاولة تمزيقها بمخالبها الدموية، وراشيل تصرخ بعد أن تحولت إلى صورة للرعب الجحيمي. حاولت راشيل الخلاص دون أن تنجح، حاولت الاحتماء بذراعيها دون أن تنجح، وحاولت أن تجعل أسلحتها من التفاح دون أن تنجح. كانت المخالب الدموية قد مزقت ثوب راشيل الأبيض، وبدت راشيل بجسدها الفاتن العاري أشد جمالاً في قلب الرعب والموت المحدق بها من كل جانب، أشد جمالاً، وأشد نقاءً، وأقرب إلى يهوديتها أكثر من أي وقت مضى. أصيبت راشيل ببعض الجراح، والغربان لا تتوقف عن النعيق المشل، وضرب أجنحتها العملاقة، وراحت راشيل تدنو من النهاية.
لكن ما دمرني أكثر من أي شيء آخر، ويا لهول تلك اللحظة، ظهور شاب من وسط الأجنحة السود، والمخالب الدموية، وهو يستل سيفًا براقًا، وفي الوقت نفسه، كان يهتف بأعلى صوته: أنا أحمد! فتهرب الغربان من أمامه فزعة، أنا أحمد! أنا أحمد! والغربان تفتح له الطريق إلى راشيل. مدَّ ذراعين قويتين! وحملها إلى الماء الرقراق، وراشيل غائبة عن الوعي. وبعد أن غسل جراحها، راح يتأملها بعين عاشقة، ونهضت راشيل بجمالها القوي كأنها حورية من حور الجنة، ورمت بنفسها عارية في أحضان أحمد، وأنا أناديها، وأناديها، حتى بحت حنجرتي، وجرفني السيل.
أخذت جوزفين تمسد شعرها بأصابع مرتعشة، وتتأوه بصوت مرتفع، وتجمجم:
- يا للرعب! يا للرعب!
فنظر أوري إلى النافذة المعتمة، ووصلته كلمات نشيد لبعض العابرين: الحرب أكره شيء إلى قلبك، ولكنك مستعد لها! يا من لا ينهزم! أيها الأعزل الذي عبر الحجيم!
حرك أوري فمًا منحوتًا، ولم يعبر جحيمه:
- إنها النهاية لو يتحقق ذلك، يا جوزفين!
رمت جوزفين رأسها إلى الوراء، وراحت تؤكد دون أن يزول خوفها:
- لن يتحقق ذلك، لن يتحقق ذلك!
ثم نظرت إلى أخيها الذي وجدته غائبًا مع أفكاره، فقالت بصعوبة:
- ولكنه كابوس لا شيء غيره!

27
عاد أحمد ليختبئ في جبل الزيتون، كان الليل يضوي على الورق الأخضر، وفي السماء بعض الغيوم. نظر إلى القفص الأزرق، والكناري الأصفر معتصم بالصمت. لاحظ، للمرة الأولى، أن الصمت يحط في الخارج، يملأ العالم، وعلى الطرف الآخر، ترتفع في ضوء السيارة العسكرية جبال من الغبار. لا بد أن المصفحات والدبابات وباقي أدوات الحرية والموت تقف في أماكنها الآن. أحس بالضيق، وبمزاحمة الفراغ له، وعزم على أن يطلق الطائر في الحال، وألا ينتظر، كما قالت له خولة، إلى الغد. لكنه خاف عليه من الغبار، وخشي أن تقوم المعركة في اللحظة التي يطلق فيها سراحه، فتحرقه نار الحرية.
استعاد إشارة الحزن في عينيها كعلم منكس، وقال: أخذوا أباها! جسَّ البندقية القديمة، وفي اللحظة ذاتها، وصلته خطوات الجنود الذين يبحثون عنه، فرفع الكناري عينيه إلى عينيه، وراح كل منهما يحدق في الآخر. وبعد تأمل طويل، همس أحمد للطائر:
- ستحررنا الحرب، أيها الكناري!
اختبأ وإياه في ظل شجرة الزيتون، رفع رأسه إلى الغيوم، فرآها تبتعد كأجنحة الطيور. وإذا ما كانت خولة على النافذة الآن، فلا بد أنها تراها. وضع البندقية جانبًا، ثم فطن بشكل متأخر إلى أنها قد سحقت بكعبها زهرة برية. فكر فيما مضى من أيام: لم يكن كل ما هو ملقى مسموحًا تناوله، كانت هناك دومًا حدود رزينة. ابتعدت أجنحة الغيم على شراع الليل المبحر نحو نار الموت والحرية، وخفق قلبه بعنف، فقد أيقن أنه يحب خولة كبطل في قصة لم تبدأ بعد، وأنه سينتهي يومًا بين ذراعيها. وهمس: نعم، كانت حدودًا غير طبيعية! أما اليوم، فالحرب تقتحم الحدود! جمع أشلاء الزهرة البرية، ثم شمها بقوة. ابتسم، نظر إلى كناريه الأصفر، وقال له:
- كان أبي مثلك صامتًا دومًا.
وحاول أن يربط بينهما، لكن قصته ستنتهي في الطرف الآخر. ضرب قبضته في الأرض، ولم يستطع إزاحة الوجع بسهولة. أن يكون العائد الأول شيء جميل، فهل سيكونه؟ صاح أحمد بالكناري:
- يا ليت لي أجنحتك، أيها الكناري!
فجاءه صوت أبيه:
- يا ليت!
وصاح أحمد بالكناري من جديد:
- يا ليت لي قوة صمتك وسكونك!
فجاءه صوت أبيه:
- يا ليت!
وصاح أحمد بالكناري من جديد وجديد:
- يا ليت لي إرادة الحلم معك!
فجاءه صوت أبيه:
- يا ليت!
وسأل أحمد صوت أبيه:
- لماذا لا يهاجم العرب الآن، يا أبتِ؟
- لأنهم لا يهاجمون!
- لماذا لا يبدأ العرب أبدًا، يا أبتِ؟
- لأنهم لا يبدأون!
- لماذا لا يُنهي العرب أبدًا، يا أبتِ؟
- لأنهم لا يُنهون!
أطلق أحمد تأوهة، وقال: لأنهم لا يريدون، يا أبتِ؛ لأنهم لا يريدون لهم أن يريدوا؛ لأنهم لا يستطيعون.
ارتمى على التراب، وراح يتقلب في العتمة إلى أن ضرب بإحدى الصخور. مضى الجنود الذين يبحثون عنه من تحتها، فكمن ساكنًا، والقدس من حوله تنام منهوكة، والغبار يقتحم نوافذها المفتوحة.


28
تهامس بهاء ومدحت في الليل، وانسحبا كحيتين حذرتين من الخندق، وسيناء من حولهما باردة، وسيناء كسلحفاة صامتة. تحاشيا جنديًّا يقوم بالحراسة، لكنهما وجدا نفسيهما في الطريق إلى جنديين آخرين يعطيان لهما ظهريهما، فاضطرا إلى الاختباء من وراء جدار الثكنة. وما لبثت آهات متوجعة أن راحت تصلهم، وكأنها آهات رجل تسدد في جسده الطعنات. تقدما من النافذة، ونظرا منها، فإذا بالضابط يرتمي على الطاولة عاريًا في ظل جندي صعيدي الشاربين، قوي البدن، عظيم الصولجان، كأنه فرعون زمانه! فجأة، راح الضابط يبكي، ويتوسل، ويصرخ، فبدأ مدحت يضرب رأسه غير مصدق إلى أن جذبه بهاء، وأخذ يعدو به.
ما أن ابتعدا قليلاً عن الثكنة حتى أوقفتهما بنادق الجنود، وأعادتهما إلى الخنادق، ترامى الرجل ذو الساق الخشبية قربهما، وقال، وفي لهجته العتاب:
- هذا لأنكما لم تأخذاني معكما، ولكنني أعرف سيناء دربًا دربًا وكثبانًا كثبانًا، ألم أقل لكما إنني ابنها، حرب 56؟ وفوق هذا، انظرا ما لدي.
ألقى بين أيديهما مسدسًا راح يلمع كالنجمة في الليل، ثم أتبعه بعشرات الطلقات.
قال الرجل:
- إذا أردتما أعدنا الكرة مع آخر الليل.
ابتسم بهاء، وأخرج بدوره مسدسه الصغير من صدره، وهو يضيء بين أصابعه، ألقاه والطلقات التي معه في قلب الخندق، وراحوا يقطرون سعادة. فكر بهاء في نورة، وتمنى لو يشرب فنجان قهوة من تحت يدها. انتهرهم أحد الجنود، وأمرهم بالنوم، فنام مدحت، وكذلك بهاء، وبقي الرجل ذو الساق الخشبية يتابع حركة النجوم إلى أن نام هو الآخر. وعلى حين غرة، تفجر دم أول النهار في اللحظة التي هبت فيها بالخنادق أسراب من الطائرات المقاتلة، وكأنها الصاعقة، كانت القاهرة تبتعد عن الحلم في ذلك الوقت.



القسم الثالث
29
الاثنين/ 5 حزيران 1967
جاء شيمون بشيء من الصخب معلنًا:
- لقد بدأت الحرب!
فقال أوري مبتسمًا:
- تريد أن تقول لقد انتهت!
وتبادل مع جوزفين ضحكة قوية. أشارت جوزفين إلى شيمون في لباسه العسكري، وسألت مندهشة:
- ولكنك لن تقول لي إنك ذاهب إلى الجبهة! ألم تلاحظ بذلة شيمون العسكرية، يا أوري؟
- لاحظتها. وانظري من الذي يرتديها؟ إنه شيمون الذي يكره الحرب ويخشاها!
قال شيمون:
- إذا وقعت الحرب، فليس هناك من خيار. إذا وقعت الحرب أصبحنا كلنا أفرادًا في (( تساهل )) أينما كنا.
علق أوري:
- نعم، هذا صحيح، فجبهتنا في كل مكان.
- لهذا سأساعدكم بصفتي (( العسكرية )) في طلي زجاج النوافذ (( بالنيلة )) الزرقاء. في كل مرة أريد أن أنبهكم إلى ضرورة ذلك، أما وقد نشبت الحرب، فالأمر يصبح إجباريَّا.
أشعلت جوزفين سيجارة، وقالت:
- أتظننا بحاجة حقًّا إلى طلي زجاج النوافذ، يا أوري، بعد أن أنهت طائراتنا الفانتوم كل شيء؟
صاح شيمون:
- أنتم لن تتركوا زجاج النوافذ دون طلاء، فتعرضوا أنفسكم للخطر؟!
وبسرعة:
- خطر طائرة معادية ضائعة مثلاً، فمن يدري؟
التفت أوري إلى جوزفين، وقال:
- إنه لا يريد أن يفهم.
صاح شيمون، وهو يضرب كفًّا بكفٍّ:
- لا، لا أريد أن أفهم!
واتجه نحو الحمام:
- أين هي النيلة الزرقاء؟
جاءت جدة راشيل، وهي تلف شعرها بشال من الدانتيل الأسود، وكانت تجمجم:
- يا رب، اغضب على العرب!
سألها أوري عن ابنته:
- ترى أين هي راشيل؟
جلست الجدة على مقعد، وهي تطلق تأوهة ليست راضية:
- في غرفتها تسمع المذياع.
بحثت جوزفين في تجاعيد الجدة عن طيبة فقدتها، ومع ذلك قالت:
- طمئني بالك، يا سيدتي الطيبة!
وجاءت تجلس على يد مقعدها، ثم لفت ذراعيها من حول كتفيها، وحاولت عبثًا إعادة الطيبة إليها، والعجوز تهمهم:
- كأن الجحيم لعنة تلاحقنا أينما ذهبنا!
فأوضحت جوزفين مهونة:
- أبناؤنا... لا بد أنهم يَقتلون على كل الجبهات.
تدخل أوري:
- شعب الله المختار بعد كل الذي عاناه لا بد أن يَقْتُلَ.
فصاحت الجدة، وهي تفكر في زوجها الذي قَتَلَ وقُتِلَ:
- لا بد أن يَقْتُلَ نعم، لا أن يُقْتَلَ.
وكأن أوري لم يسمعها:
- إنها أرضه تعود إليه.
تبدى له أحمد وأبوه وأمه، وهم يعبرون الطريق الضيقة بين الجبلين الشامخين، فانحنى ممسكًا بيدها، وهو يشدها، ويوجعها:
- لهذا حققت طائرتنا أهدافها كلمح البصر، وعادت جميعًا إلى قواعدها سالمة. الحرب انتهت، يا جدة راشيل، ولم يبق سوى إزالة بعض العوائق لتنفتح كل الطرق على قيام المملكة.
جاءهم صوت شيمون من الحمام:
- أنا لا أجد النيلة الزرقاء.
فرفعت الجدة من صوتها الحاد:
- إنها على الرف في المطبخ.
علق أوري:
- لم يزل شيمون مصممًا على طلي زجاج النوافذ.
أطفأت جوزفين سيجارتها، وقالت:
- لنعمل بما يريده جندي (( تساهل ))، وبانتظار إزالة العوائق الباقية لنعتبر ذلك بعضًا من التسلية! لكن قيام المملكة، يا أوري، سيحتاج إلى هجرة كل اليهود في العالم، واليهود في العالم ليسوا مستعدين كلهم للهجرة.
وذهبت لتعين شيمون، بينما راحت جدة راشيل تشد على أصابع أوري، وتقول:
- لن يطمئن بالي قبل أن أشد بيدي على حائط المبكى كما أشد على يدك الآن، وأذرف الدمع.
فهمهم أوري، وهو يفكر فيما قالته أخته مهمومًا:
- ستذرفين الدمع إلى أن ترتوي الهضاب الظمأى.
وانشدَّ بأفكاره إلى النبتة العجيبة، لكنه تذكر كابوس الأمس، فعقد بين حاجبيه.


30
انطلقت السيارة العسكرية في شوارع القدس، ومكبرات صوتها تطلب من السكان أن يلزموا بيوتهم، والقدس جرح يتفجر كالعرق الذبيح:
- الزموا بيوتكم، أيها المواطنون! اليقظة والحذر، أيها المواطنون! نموت فداء للوطن، أيها المواطنون! الزموا بيوتكم، أيها المواطنون! دقت ساعة النصر، أيها المواطنون! اليقظة والحذر، أيها المواطنون! اليقظة والحذر ثم اليقظة والحذر ثم اليقظة والحذر، أيها المواطنون! الزموا بيوتكم، أيها... المواطنون!
نظر أحمد إلى الدخان الهاجم مع الموت السريع، ورأى كيف يكتسح قباب القدس القديمة، كان الكناري صامتًا، وهو يفتح عينيه على سعتهما، حدثه أحمد فقال:
- الدخان ينتشر يا كناريّ!
وذهب بقفصه الأزرق وبندقيته القديمة إلى سور الملك سليمان، والقنابل تزداد دويًّا. مشى في شارع صلاح الدين وحيدًا، والمعركة هناك على مسافة ليست بعيدة. رفع رأسه إلى النوافذ المغلقة، ثم ما لبث أن أتاه مكبر الصوت:
- الزموا بيوتكم، أيها المواطنون! دقت ساعة النصر، أيها المواطنون! اليقظة والحذر، أيها... المواطنون!
غطى صوت المدافع صوت المكبر، فقال أحمد لنفسه: لا بد أنهم يتقدمون! وراح يحث خطاه في شارع صلاح الدين ليصل المعركة قبل أن تنتهي، أو في اللحظة التي تنتهي فيها، فيجتاز من النار إلى القدس الجديدة. شدت انتباهه طائرتان مروحيتان تتقاتلان تحت الدخان، ورأى كيف هوت إحداهما في ساحة المدرسة الرشيدية؟ نظر إلى الكناري كأنه الموجة المذهبة، وأبلغه إحدى نتائج المعركة:
- إنها طائرتنا التي احترقت، يا كناريّ!
أغلق الطائر الجميل عينيه، وفتحهما، وفكر أحمد في خولة، من أجلها كان يتقدم.
سقطت بعض القذائف، وتضاعف في سماء القدس الدخان. غدا النهار أسود من الليل، وغدا اليوم أبعد من الأمس. أراد أن يصل الطائر بالنار، وأن تصله النار بالقدس الجديدة. قال لنفسه: ما هي سوى طائرة من بين طائرات، والجيش يتقدم على الجبهة! حثَّ خطاه في أمل العودة، وشدَّ القفص إلى صدره. عزم على أن يرمي البندقية، فهي قديمة، وثقيلة، ودونها سيقطع بسرعة أكثر طريقه. لكن خطوات الجنود الباحثين عنه قد جاءته من أحد الأزقة، فسارع الذهاب إلى قلب القدس القديمة، مصعدًا درجات لا تعد ولا تحصى في حي النصارى. قرأ على الجدران: النصر أو الاستشهاد! وتفجرت على مقربة منه قذيفة، فراح يهدهد الطائر الذي أصابه الفزع:
- عما قريب سآخذك إلى القدس الجديدة! عما قريب سآخذك إلى شجر التفاح!

31
جاء عمر مكتب سي الهادي، والدم يفور في عروقه، فأخبره الساعي أن سي الهادي مجتمع مع سي بن صالح، وطلب إليه الانتظار. راحت الساعة تتقدم ببطء، وفي رأس عمر أقواس النار التي على الجبهات. أخذ يفكر في مليكة، ويقول: هي امرأة قبل كل شيء، ولكن الواجب الوطني يحتم عليه أن يكون جنديًّا قبل كل شيء. رفع عينيه إلى عقرب الساعة البطيء، فوجد، على الرغم من ذلك، أنه تقدم كثيرًا. عاد يطلب من الساعي إخبار سي الهادي، على الأقل، بوجوده، ليعمل على رؤيته في الحال، فالأمر هام، بل وصار أقرب إلى الخطورة. اضطر عمر، مرة أخرى، إلى الانتظار، ولم يعد يحتمل أكثر، فذهب إلى مكتب سي البشير هائجًا، يريد أن يرى سي البشير بأية طريقة. أخبروه أن مكتب سي البشير لم يعد هنا، انتقل إلى الوزارة، فصاح بدهشة:
- عجبًا كيف تتغير الأمور بين ليلة وضحاها!
- صار مساعدًا للوزير.
- صار مساعدًا للوزير!
- صار مساعدًا للوزير ذاته.
عاد عمر غاضبًا إلى مكتب سي الهادي، فأخبره الساعي أنه أنهى اجتماعه مع سي بن صالح حال ذهابه، وهو يطلب إليه العودة لرؤيته بعد الغداء. أطلق عمر نفسًا ضائقًا، وراح يضغط أسنانه، وهو يفكر من جديد في مليكة، ويقول: هي امرأة حقًّا قبل كل شيء، لكن الواجب الوطني يحتم عليه أن يكون جنديًّا قبل كل شيء.
عاد عمر بعد الغداء، والدم يفور في عروقه أضعاف ما كان عليه في الصباح، فاستقبله سي الهادي بفتور، وقال له:
- هدئ روعك، يا سي عمر!
- كيف أهدئ روعي، وهناك أمر واضح بسفري أنا والجماعة إلى الجبهة؟
أشعل سي الهادي سيجارًا، وراح يمتصه بروية، ثم تململ في مقعده الوثير:
- طائراتنا تستعد للذهاب أيضًا.
فنبر عمر:
- لا تخلط الأمور! أريد تنفيذ الأمر الخاص بنا.
قال سي الهادي من خلف شفتيه:
- سي عزراج هو المكلف بالأمر.
فصاح عمر للمفاجأة:
- ماذا؟!
- سي عزراج هو المسؤول.
- منذ متى؟
- هذا أمر لا يهم.
وأمام انسحاقه، تناول سي الهادي الهاتف، وراح يكلم سي عزراج:
- كيف أراك، يا سي عزراج؟ لا بأس عليك؟ سأبعث لك سي عمر بخصوص سفره هو والجماعة إلى المشرق، أنت تعرف المسألة. ها هو أمامي قلق، ومتوتر، فالحرب بدأت، وهو يريد السفر. قلت له طائراتنا تستعد أيضًا للذهاب، فلمَ العجلة؟ لكنه لا يريد أن يسمع شيئًا عن طائرتنا، فذلك شيء، وأمره شيء آخر، سيأتيك في الحال، فساعده يرحم الله والديك!


32
دكت الطائرات الخنادق، وألقت القنابل، فتصاعدت إلى السماء نيران الجحيم. راح المتطوعون يتدفقون، وكل واحد يحاول الابتعاد. انهار الرجل ذو الساق الخشبية تحت الأقدام، وعجز بهاء ومدحت عن إنقاذه. نظر بهاء إلى ردم الخنادق والحرائق، واقترب من بعض الجثث المشتعلة. تطلع من حوله، كان وحيدًا في سيناء. نادى مدحت الذي دفن وجهه بين يديه، وانفجر يبكي. قال له:
- وعدت نورة أن أكتب لها من يافا.
وحاول البكاء، فلم يستطع سوى إطلاق بعض الحشرجات الحادة. أحس في حنجرته برقًا، فانعطف على مدحت، وطلب إليه:
- لنبحث عن الضابط.
وفي اللحظة التي تقدم فيها، والمسدس في قبضته، حلق سرب من الطائرات المروحية، وراح يطارد الهاربين، وهو يرشقهم ببصاقه المدمر. رفع بهاء ذراعًا في الهواء، وسدد نحو السرب الناري مسدسه الصغير دون أية فائدة، وطلب إلى مدحت من جديد:
- لنبحث عن الضابط.
لكن مدحت كان مركبًا يعوم في دمه.


33
قال جان لديدييه، وهو يطلق قذيفة من مدفع:
- انظر إلى قذيفتي كيف تتبع ذاك العربي مهما حاول خداعها خلال تراجعه اللولبي حتى تقتله.
فنفخ ديدييه سيجارته، وقال:
- إنه مدفع آخر ابتكار!
صوب جان سلاحه نحو هدفه، وهو يطلب إلى ديدييه بغبطة:
- انظر! انظر!
وصلتهما صرخة من الطرف الآخر، وفي اللحظة ذاتها، انفجرت على مقربة من جان قنبلة، أثارت بعض الدخان والغبار، مما اضطره إلى رفع نظارته الشمسية عن عينيه، ومسحها بطرف قميصه. قال ديدييه:
- بإمكانها أن تكون قاتلة.
رفع جان إصبعًا:
- إذا ما أصابت الهدف.
تقدم الجنود بالمدافع عدة أمتار، والدبابات تقذف في السهل الحمم. قال لديدييه أحد الجنود:
- يحاولون استعادة جبل المكبر، أيها القمندان.
أجاب ديدييه:
- فليستعيدوه ريثما نجيء من خلفهم.
- ألا تظن يا سيدي القمندان أن...
فقاطعه ديدييه:
- لا أظن إلا ما قلته لك.
استجاب الجندي طائعًا:
- بأمرك، أيها القمندان!
سمع ديدييه جان يقول:
- إنه السلاح الأول الذي أراه على مثل هذه الدقة.
قال ديدييه:
- لا تنس أننا بعيدون عن حربنا في الكونغو.
- نعم ولا بد من فرق بين سلاحنا هنا وسلاحنا هناك.
- ثم هنا بحر من الذخيرة.
صاح جان فجأة:
- انتبه!
وهو يخبئ رأسه في كتف المدفع. ضحك ديدييه، وطلب من الجنود إطفاء اللهب الذي تركته القنبلة وراء موقعهم.
قال جان:
- حذار من القنابل العمياء!
علق ديدييه:
- حذار منها على دولاراتك!
ابتسم جان، وقذيفته تغني، وترقص، وتدوي بصخب:
- دولاراتي أضعها قرب قلبي.
وأشار إلى قلبه قبل أن يضيف:
- إنني أدعوكما (( الويك إند )) القادم أنت وصديقتك... ما اسمها صديقتك؟
- ليلي.
- إنني أدعوكما أنت وليلي الصغيرة لتشربا الشمبانيا على حسابي في (( الويك إند )) القادم، فما رأيك؟
- موافق، وسأخبرها بذلك على الهاتف بعد معركتنا الصغيرة هذه كي تستعد منذ الآن.
وتضاعف القصف كما هو عليه في أكبر معركة، والموت يبتسم في الجهة الأخرى.



34
ذهب عمر إلى لقاء مليكة في الاتحاد النسائي، انهار على مقعد أمامها، والترانزستور الصغير على مكتبها ينقل أنباء انتصارات الجيوش العربية على كل الجبهات بحنجرة مهيبة.
قالت مليكة باسمة:
- انتقلت المعارك إلى قلب إسرائيل ولما تبدأ بعد، فهل ما زلت عازمًا على الاشتراك فيها؟
راح الترانزستور يصدح بالنشيد، فأفضى عمر:
- إنهم يعرقلون ذهابي.
اندهشت مليكة:
أما زلت عازمًا حقًّا على الاشتراك فيها؟
وعلقت بشيء من السخرية:
- لمَ الذهاب، وحسب المذياع، تم انتصار العرب؟
لكنها سمعته يهمهم:
- أريد أن أتزوجك.
جاءت تجلس قربه، وضعت خدها على قلبه، وبعد قليل همست:
- قلبك لا يخفق بقوة.
ترك نفسه تبتعد بها الأمواج، وطلب إليها:
- متى سنتزوج؟
توقف المذياع عن النشيد، وراحت الحنجرة المهيبة تعدد خسائر العدو في طائراته مئات الطائرات، وفي دباباته آلاف الدبابات، وفي أسراه عشرات الآلاف من الأسرى، فهتفت مليكة من الفرح:
- ليقذفوا بهم إلى البحر! ماذا ينتظرون؟ ليقذفوا بهم!
تطلع عمر إليها، والجزائر البيضاء كجزيرة بعيدة تغرق في الضباب، وأعاد السؤال:
- متى سنتزوج؟
قالت مليكة:
- عندما تتوقف الحرب، كي نقضي شهر العسل في يافا.




35
طرق الباب عدد من الشباب الذين على أذرعهم شرائط الإسعاف المدني، رآهم شيمون من النافذة، فتوقف عن طلي زجاجها بالنيلة الزرقاء، وقال لجوزفين التي تساعده:
- إنهم شبان الإسعاف المدني.
- شبان الإسعاف المدني؟ ماذا يريدون؟
- اذهبي وافتحي لهم الباب.
ذهبت لتفتح لهم الباب، وهي تمسح يديها بوزرة تربطها حول خصرها، فقالوا لها:
- نحن شبان الإسعاف المدني.
ضحكت جوزفين:
- لا حاجة بكم إلى تقديم أنفسكم، فهذا واضح.
قال أكبرهم الذي ربما كان في السادسة عشرة:
- نحن نجمع ما يمكن جمعه لأجل الجرحى.
ضحكت جوزفين من جديد، وقالت:
- ولكننا لسنا صيدلية.
أوضح الشاب:
- أي شيء يمكنكم الاستغناء عنه لأجل الجرحى، بطانيات مثلاً.
جاء أوري ليرى الطارق، فقالت له جوزفين:
- إنهم شبان الإسعاف المدني.
قال أوري:
- أرى ذلك.
قالت جوزفين:
- يريدون بعض البطانيات أو أي شيء آخر لأجل الجرحى.
فذهب أوري لإحضار بعض البطانيات، وقدمت جدة راشيل بعض الشموع. عرضت عليهم أن يأخذوا قدرًا عربيًّا كبيرًا من النحاس لا تستعمله، لكنهم طلبوا ألبسة قديمة، وبعض القطن. عندما ذهبوا، راحت العجوز تتمتم بعض المزامير، وقالت لأوري:
- الآن يتكلمون عن الجرحى! ألا ترى معي ما يعني يهودي جريح؟ وما بالك إذا كان الأمر متعلقًا بيهودي قتيل؟ يا رب، اقتل كل العرب!
همهم أوري:
- أرى معك ما يعني ذلك تمامًا.
كان شيمون قد بدأ يطلي زجاج المستنبت، فأوقفه أوري:
- حذار من أن تمنع الشمس عن نبتتي العجيبة.
قال شيمون منفعلاً:
- لكن الخطر إذا جاء فهو على الجميع حتى على نبتتك العجيبة.
- لن أعمل في المستنبت خلال الليل، أيرضيك هذا؟ هكذا لن أضيئه، فاترك الشمس تدفئ أوراق النبتة الطرية.
تردد شيمون، ثم استسلم:
- كما تشاء.
وبينما هو يجمع أدواته، انطلق النفير معلنًا عن غارة، فصار صخبٌ في المنزل، وذعرٌ، وانهيارٌ، وأوري يجري في أعقاب راشيل حتى أوصلها بنفسه إلى الملجأ، وراشيل ترسم بسمة استهزاء على شفتيها!


36
لم يجد بهاء أحدًا في الثكنة، ولا أثرًا واحدًا للضابط. لا بد أن يجد الضابط، ويبعث من مسدسه الصغير بطلقة إلى قلبه. هكذا ينتقم لمدحت وللرجل ذي الساق الخشبية. هكذا يعتذر لنورة؛ لأنه لم يكتب لها من يافا، ولم يبعث لها بزهرة البرتقال.
وهو يمر من أمام أحد أبواب الثكنة، وصله الصوت المهيب من مذياع ملقى على العتبة:
- أيها الإخوة المواطنون! أيها الشعب العربي في كل مكان! لقد تآمرت قوى البغي والعدوان، وتكاتفت قوى الرجعية والصهيونية والإمبريالية العالمية ضد أصالة هذا الشعب، وعزيمة هذا الشعب، وحق هذا الشعب في الحرية والحياة، لكن منذ ساعات الحرب الأولى، وجيشنا المظفر يحقق الانتصارات تلو الانتصارات، وفي سيناء عشرون ألف أسير من جنود العدو يأتي بهم أبطالنا إلى شوارع القاهرة! فيا أيها الجندي العربي البطل تقدم إلى ...
أغلق بهاء الترانزستور بضربة من قدمه، وخرج إلى سيناء، وسيناء تزفر كامرأة راضخة. لا بد أن يجد الضابط، ويبعث من مسدسه الصغير إلى قلبه بطلقة الموت المحرر، لا بد أن يجد الضابط، ودار برأسه في كل صوب.


37
بدأ النهار ينسحب من أمام تقدم الليل، وصار في سماء القدس كرنفال من الموت والنار، وكلما حاول أحمد اجتياز الحدود منعه تراجع الجنود، وكلما حاول أحمد تقديم الذهاب منعه تأخير الإياب. عاد يسير في الأزقة، واقترب من مئذنة أصابتها قذيفة، وسمع صياح بعض الناس، فشاهد حطام مستشفى الهوسبيس، والأذرع التي ترفع من تحت الردم بعض المرضى. وتحت ومض بعض الصواريخ السابحة في الليل، قرأ على جدار: النصر أو الاستشهاد! وانبثق فجأة صوت ترانزستور يصدع بالنشيد: يا ويل عدو الدار من ثورة الأحرار! فهبَّ شاب إلى إسكاته. انتبه أحمد إلى أنه لم يزل ينقل بإصبعه القفص الأزرق، نظر إلى الكناري الذي يرتعش، ويرتعد، فقال له: حركة صغيرة فقط وأبيح لك الحرية، أيها الطائر الذي يعزف عن الغناء! اتجه إلى خولة، فلربما وقعت على بيتها قذيفة، وهي بحاجة إلى عونه. وبينما كان في منتصف الطريق إليها، وصلته خطوات الجنود الذين يطاردونه، فاختبأ منهم، ولم يروه، وهو ليس بعيدًا عنهم. همس للكناري: صواب ألا تغني! كان الكناري قد تكوم على نفسه في زاوية القفص، وراح يتبادل مع أحمد النظر بصمت. اتخذ قرارًا، سيطلق سراحه حالاً، وفي سماء القدس آلاف من سهام النار، وفي سماء القدس ملايين من النجمات المحترقة! وفي فترات السكون القليلة، كان الليل يهاجم أسود دون قناع، وتنبعث بعض الصرخات المتحجرة. سيطلق سراحه حالاً ليطير إلى جزيرته السعيدة، هناك حيث الماء أزرق، والشجر أخضر، والرمل أبيض، ولا مكان إلا لمن يحسن الغناء. سيطلق سراحه ليغني، ويغدو لأحمد حلمًا ممكنًا. سيقدم له الحرية، ثم يلقي بالقفص في اللهب، فتزداد القدس اشتعالاً.
فتح أحمد للكناري باب القفص، فرفض الخروج، هدده بالبندقية، فلم يبذل أدنى حركة. انفجرت قربهما قنبلة، وهجم الدخان يلفهما، فراح أحمد يسعل بشدة، وأخذ يجري بالكناري مبتعدًا إلى حيث هناك خولة ليعيده إليها. هكذا ستظفر يده ببعض الراحة، بعد كل ذاك العناء الذي بذله في حمل القفص، وسيجد بصورة أفضل إلى العودة طريقه. مرَّ بدكان خبز مهدمة، ورأى الأرغفة المبعثرة بين الردم والدم. انتزع رغيفين نظيفين من بين أصابع أحد القتلى، وراح يأكلهما بنهم، وهو يغذ الخطى إلى خولة. كان التعب قد أخذ يرسل سيلاً من العرق على جبينه، وقد راح ضجيج القنابل يصم الآذان. ألقى بنظرة إليه، إلى كناريه الصامت، وقال: ربما هو أيضا جائع، لكنه رفض كسرة خبز قدمها له. ظنه ينتحب، فقال له: لا تبتئس، يا كناريّ، لا تبتئس! لا بد أن تكون الحرب مدمرة! ألقى الخبز أرضًا، وراح يسحقه بنعله، ثم انطلق يضاعف الخطو إليها، فهو أيضًا بحاجة إليها.
لم تكن في شارعها أدنى جلبة، كان الشارع، كما هو عليه أيام السلم، صامتًا، ونافذتها مغلقة. عندما همّ أن يطرق عليها الباب إذا بالباب يتحرك تحت أصابعه، فأخذ الكناري يضرب جناحيه الواهنين، ويقفز في القفص من جانب إلى آخر، فتابع أحمد بعض رياشه، وهي تسقط تبرًا. دخل البيت بعجلة، وبحث عنها دون أن يجدها، ثم أتى يفتح نافذتها، وتحت نافذتها، كانت كوكبة من الجنود المنسحبة تمضي ببنادقها المنكسرة، وبعض الجرحى.

38
هبَّ أوري من نومه صائحًا برعب، فجاءته جوزفين تجري، وجعلته يلهث على صدرها حتى حلت في قلبه الطمأنينة، وزال الخوف من عينيه قبل أن تسأله:
- أهو الكابوس ذاته، يا أوري؟
فراح أوري يضغط رأسه بشدة، وهو يقفل عينيه، ويفتحهما. أطلقت جوزفين تأوهة، وقالت:
- أنا حائرة، لا أدري ماذا أقول لك!
قال أوري متلاهثًا:
- حاولت، يا جوزفين، أن أمنعه هذه المرة، أقسم لك، ولكنني لم أنجح، كان كلما صاح: أنا أحمد! أنا أحمد ! انتصبت الغربان سورًا حصينًا بيني وبينه، وراشيل مستسلمة راضية بين ذراعيه.
أطلقت جوزفين تأوهة ثانية:
- آه، يا لراشيل المسكينة!
أشعل أوري شمعة موضوعة على الصوان القصير، تناول نظارته الطبية، ووضعها بحذر. دفعها بسبابته إلى أقصى أنفه، وألقى بنظرة عفوية على صدر جوزفين تحت قميص نومها، وأفضى:
- المرعب في الأمر استسلام راشيل، يا جوزفين، ورضاها، أكاد لا أصدق، فكأنها له عاشقة.
لهث ثم أضاف محملقًا:
- وذاك الأحمد، إنه يبثها دفء العاشق الحقيقي أيضًا.
قالت جوزفين فجأة، وكأنها وجدت الحل الذي فيه إنقاذ راشيل:
- متى انتهت الحرب أخذتها معي إلى أمريكا.
فنبر أوري للمفاجأة:
- أمريكا! لتقع على (( جون )) آخر؟! لا، يا جوزفين، لن تعتقيها من أحمد لتكبليها بجون! لا أريد أن تتكرر مأساتك، وأنت تعرفين جيدًا رأيي في زواجك!
همهمت جوزفين شاحبة:
- نعم، أعرف جيدًا رأيك في زواجي من جون، ولكن لم يكن قصدي.
شدها أوري من ذارعها، وتضاعف انفعاله:
- إن أبناءك ليسوا لنا يا جوزفين، أقول هذا رغم القانون الموسوي القائل بأن للأم اليهودية يعود الأبناء، ويكونون يهودًا مثلها، إنهم لأبيهم الأمريكي المسيحي، أما أبناء راشيل، فعليهم أن يكونوا منا، ولنا، لنا وحدنا، وهنا، حيث سأزرع نبتتي العجيبة، بعد أن انتهى تجوالنا على الأرض.
تخلصت جوزفين من ضغط أصابع أوري على ذراعها، وبدت متألمة، وأثر كلماته عليها أكثر شدة. نهضت عن طرف السرير، وراحت تذهب وتأتي في الغرفة، وهي تضاعف من كثافة ظلال الشمعة المهتزة اللهب، وتقول بعصبية:
- وماذا تريد أحسن من جون لأختك، إنه يعبدني، ويلبي كل طلباتي، وقد جعل مني امرأة أعمال ذات صيت شاسع في العالم! ماذا تريد من جون أن يفعل أكثر لتقبله في الأخير.
قال أوري:
- كان عليه أن يفعل كل ما يفعله لك، فأنت زوجته، ولكنه مهما فعل لك، لن يصبح يهوديًّا مثلي.
انفجرت جوزفين تبكي، وانهارت في حضن أوري الذي رفع يده، وزرعها في كتفها، لتوقف رغم الألم بكاءها، ثم همس:
- إذا كان جون يحبك فعلاً، فليمنع عني الكابوس.
جاءت مراكب أحمد، وكان البحر بين ذارعي يافا الحانيتين يبتعد عن العاصفة ليقترب بالعاصفة.



القسم الرابع
39
بعد ستة أيام من الحرب
انطلق بهاء يبحث في شوارع القاهرة الصاخبة عن الضابط، وشمس النهار ترسل شديد الحرارة، وتحفر في جبينه سوطها الحارق. كان بهاء يتطلع في الوجوه، وفي الظلال، ويفحص حركة الخطوات على الأرصفة، ويعود ويتطلع في الوجوه، ويغوص في التقاطيع: المسدس قرب قلبه، وهو ذاهب إلى لحظة التنفيذ.
فكر في نورة، وزفر على فكرة أنه الآن في اعتقادها شهيد، فهو لم يعد إليها، وهو لم يعد إليها لأنه لم يبعث لها بزهرة البرتقال من يافا؛ ولأنه يرفض أن تصبح زهرة البرتقال عقابه، بعد أن أفقده ضابطه البراءة.
ولكنه لا يجده في الشعاع القاتل الحرارة، لا يجده على الأرصفة، ولا على عتبات البيوت، لا يجده في الظلال، ولا في غد الحرب الماضية، بعد أن تأخر الغد سنوات، لكنه لا يجده بين الأجساد، في الأجساد، لا يجده إلا في أفكاره القادمة.
بدأ بهاء يعجز عن التحديق، ومع ذلك، فلن يتراجع عما عزم عليه، ولم يكل المسدس المنتظر قرب قلبه عن دفعه إلى الأمام، إذ لا بد أن يجده، فينتقم لمدحت، وللرجل ذي الساق الخشبية، ولسيناء. ويعتذر لنورة؛ لأنه لم يرسل لها من يافا زهرة البرتقال. لاحظ أن سوط الحرارة الحارق يحفر في الجباه على حد سواء دون أن يفرق بينها، لكنه لا يجد الضابط، فذهب إلى أرصفة أخرى، ومنها إلى أرصفة أخرى وأخرى، والقاهرة لا تذهب به إلى الشوط القادم.

40
جاء أحمد إحدى الهضاب، وقال للكناري:
- الآن أترك لك مطلق الحرية، أيها الكناري، فإما أن تنطلق، وإما أن تبقى حيث أنت بين القضبان.
مد يده، وفتح له القفص، فراح الكناري يمد جناحيه الواهنين إلى أقصاهما، ويصفع جسده الهف، يمد جناحيه إلى أقصاهما، ويعود ويصفع جسده الهف بقسوة لا تحتمل، وبعد أن بذل كل قواه، ربض لاهثًا في مكانه. نظر إليه أحمد في عينيه، فأحس به ذاهبًا إلى الموت، والقدس من ورائه قريبة، والقدس من ورائه بعيدة! أعطاه ظهره، وذهب بسرعة لئلا ينتحب، والكناري يرقب بصمت، وأحمد يغذ الخطى أبعد ما يكون عنه حتى بدأ يصله أزيز بعض الطلقات، فكمن من وراء صخرة، وهو يشد البندقية القديمة إلى صدره، وتساءل: ألم تنتهِ الحرب بعد؟ وإذا بأحدهم يزحف في العشب، ظنه، في البداية، أحد الجنود الذين يطاردونه، لكنه ما لبث أن عرف من كوفيته البيضاء والسوداء أنه مطارد مثله، فصاح به:
- مِنْ هنا!
اقترب الرجل بحذر، وسأل:
- مَنْ أنت؟
أجاب أحمد بابتسامة مرة:
- العائد الأول:
فعلق الرجل:
- لا وقت للمزاح!
إلا أن أحمد قال موضحًا:
- أردت أن أكون العائد الأول، لكن الحرب انتهت قبل أن أكون العائد الأول أو حتى العائد الأخير!
قال الرجل، والطلقات تزداد احتدامًا على مسافة غير بعيدة:
- لقد بدأت الحرب.
فضحك أحمد، وقال:
- هذا هو المزاح!
فاقترح الرجل:
- إذا أردت أريتها لك بأم عينك.
أشار إلى بندقية أحمد القديمة، وقال:
- لديك بندقية، فتعالَ.
نظر أحمد إلى انكسارات أشعة الشمس المنعكسة عن قبة المسجد الأقصى التي من ذهب ودعاء، وقال دون أن يتحرك:
- إنها بندقية قديمة.
فتفاجأ لرد فعل الرجل:
- وماذا يهم؟
قال أحمد:
- لا يوجد معي رصاص.
- خذ هذا المشط، وجرب رصاصاته.
- إنها بندقية قديمة، يا رجل.
- جرب هذه الرصاصات، ماذا ستخسر؟
رفع أحمد كتفيه، وأنزلهما، دون اهتمام، ثم أخذ مشط الرصاص، وتبادُلُ الطلقات الذي على مسافة غير بعيدة منهما قد صاحبه انفجار بعض القنابل اليدوية.
وبعد أن عبّأ أحمد البندقية، قال له الرجل:
- عليك أن تطلق الآن.
فسأل أحمد:
- والهدف؟
جاء به إلى مجموعته التي تحاصر كوكبة من جنود العدو، وقال له: إن أردت أصبت، وجعله يطلق، فإذا به يردي جان قتيلاً.
فصاح الرجل:
- أترى أي فعل لبندقيتك القديمة، عندما تكون الإرادة؟
راح أحمد يسدد في صدور جنود العدو طلقاته، والبندقية القديمة تنزرع على كتفه كشجرة تفاح تتكلم بحدة، وصار أحمد كلما أطلق ازدادت أصابعه قوة. التفت إليه الرجل مبتسمًا، وسأله:
- ما اسمك؟
- أحمد. وأنت؟
- المعتصم.
امحت ابتسامته، وأوضح:
- كنت في جبل المكبر قبل أن يسقط ويبقى رغم ذلك مختالاً وشامخًا، اسمنا (( الفدائيون ))، ونحن ننتشر هنا وهناك كالقنافذ.

41
صاح ديدييه بجنوده:
- كيف تركتموهم يحاصروننا، أيها البلهاء؟!
اشتعلت النار وسطهم دون أن يمكنهم إطفاءها، وزحفت النار إلى دم جان ودولاراته، فهبَّ ديدييه إلى إنقاذ بعضها، وهو لا يتوقف عن الصياح بجنوده:
- فكوا الحصار! اضربوا! ولا تضعفوا! كل تكنولوجيا الدنيا في خدمتكم.
لكنهم تساقطوا واحدًا تلو الآخر على الصخور المتوحشة الحرارة، وعندما أحس ديدييه بوقوعه في الأسر إن عاجلاً أم آجلاً، أخرج من جيبه قطعًا ذهبية راح يبتلعها بقصد إخفائها، لكنها قتلته.

42
تكلمت جوزفين بالهاتف:
- نعم، يا سيدي الجنرال، إنها نبتة عجيبة مليئة بشتى أنواع الفيتامينات، وبالإمكان أن نستخرج من أوراقها الرقيقة جوهرًا لكل العطور، شرط أن تنمو في أرضها: هضبة جبلية متوحشة الحرارة.
قال الجنرال من طرف الهاتف الآخر:
- هضاب القدس أو الجولان، يا سيدتي، أهي ملائمة لها؟
بذلت جوزفين ضحكة قصيرة، وجعلت في صوتها بعض الغنج:
- كنت أجهل أن سيدي الجنرال يفقه في أسرار النبات!
فرنت ضحكة الجنرال صاخبة:
- خاصة إذا ما تعلق الأمر بالنبات العجيب!
قالت جوزفين:
- إنني أثق بقدراتك.
- شكرًا لك، ونحن أيضًا نثق بقدراتك.
- المشروع بحاجة إلى دعمك.
فصاح الجنرال:
- صرخة واحدة من فمي تجند لك شعب إسرائيل عن بكرة أبيه!
بذلت جوزفين ضحكة أخرى قصيرة، وشكرت:
- أنا مدينة بكل عرفان الفضل لك!
وقبل أن تنهي المكالمة، طلبت إلى الجنرال:
- أرجو أن تبعث لي برقم حسابك المصرفي أم تفضل أن...
فقاطعها الجنرال:
- نعم أفضل أن...
وتردد قبل أن يضيف:
- أن نجد طريقة أقل رسمية.
- تحت أمرك، يا سيدي الجنرال.
- تحت أمرك، أنت، يا سيدتي.
- هل نحدد موعدًا للقاء؟
- لنحدد.
- متى تريد، يا سيدي الجنرال؟
- متى تريدين، أنت، يا سيدتي؟
بذلت جوزفين ضحكة طويلة هذه المرة، وقالت ممتدحة إياه:
- إن سيدي الجنرال عجيب كنبتة أخي العجيبة!
وأبعدت الهاتف عن أذنها بتقزز لتفرغ ضحكة الضابط المجلجلة.

43
حمل أوري النبتة العجيبة في قفص من الزجاج، وجرفته جمهرة الخارجين إلى شوارع القدس الشرقية، ليشاهدوا الاستعراض العسكري. كان الجيش يحتفل بالانتصار، والموسيقى الصاخبة تمتزج بصرخات الفرح، وبالحركات المنتشية، تمتزج الحركات بالصرخات والأسود بالأبيض، وجنازير الموت تعلن أن التوراة قد ربحت الحرب التي لم تدخلها منذ ألفى عام، والأقاحي تنكسر على عتبة الصباح.
وما شد أوري، وهو يحاول أن يحمي نبتته العجيبة، انبعاث العويل في قلب الفرح. وعندما نظر، رأى الناس تأتي أفواجًا تلو أفواج لتضرب رأسها في حائط قديم، فتطير شرارة الدم، وتطير شرارة الدمع، ويمتزج سكر الدماء بملح الدموع، ويصرخ نهر الجموع، وأمواجه تتدفق، كأن نوحًا يعود بطوفانه ليجرف أوري، ويقتحم على النبتة العجيبة قفصها الزجاجي، ويحطم العالم عليها وعليه. صاح أوري دون أية فائدة، والناس من حوله تسفح دمها على الحائط القديم، وتبكي، وتسفح دمها على حائط التاريخ، وتبكي: هناك من يضرب برأسه في الدمع والدم، وهناك من يطلق صيحة النصر، وهناك من ينغّم بعض المزامير... واستعراض الجيش الذي لا ينتهي، وشمس قدس أحمد والمعتصم التي تمتد، وتمتد.

44
عاد أوري إلى فراشه مخيَّبًا، والليل يمتزج بالبحر، وسماء يافا عميقة في الليل، كأنها ابتعاد نفسها عن العالم. وفي لحظة الهدوء الكلي، بدأ أوري يلهث كمن يطارده أحدهم، وبدأ يضرب بيديه وقدميه كمن يصارع الأمواج، ثم نهض دفعة واحدة، وهو يصرخ بكل قواه:
- راشيل!
ولم يجبه إلا الصمت المعذب، فوضع رأسه بين يديه، وراح يتأوه ويتوسل، ويبكي، وما لبثت الصيحة التي في الكابوس أن راحت تدوي: أنا أحمد! أنا أحمد! وما لبثت ضحكة راشيل العذبة أن راحت مع الموج تأتي، وبحر يافا ينقل الموج إلى الموج، والموج يأتي، ويأتي.
وفي لحظة عين، تناول أوري مسدسًا صغيرًا من الصوان القصير، وضعه في رأسه، وضغط، فانطلقت رصاصة، وانطلق الكناري من القفص، وراح يحلق في الليل، ويحلق، وراح يبتعد في الليل، وراح يبتعد بالليل.


الكتابة الأولى الجزائر – 7 أكتوبر 1967.
الكتابة الثانية باريس – 7 أكتوبر 1985.
تم تصويبها يوم الاثنين الموافق 30 أغسطس
1993 في عمان.

العنوان السابق الغربان.


أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) إسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004


[email protected]


حرب 1967. حرب الأيام الستة على وشك الوقوع. في القدس، الناحية اليهودية والناحية العربية، في الجزائر، في القاهرة، وحتى باريس، تُعَلِّلُ النفس وتُشْغِلُ البال التصريحات الحربية والأناشيد الوطنية التي يبثها الراديو دون انقطاع. من سيشن الحرب أولاً البلدان العربية أم إسرائيل؟ في الأيام السابقة لهذا النزاع المفتوح كل الأوهام لم تزل مباحة.
ابتداء من الثالث من حزيران، يخط أفنان القاسم عبر مجموعة من الشخصيات الأخاذة وقائع هذه الحرب المعلنة التي ستبين خاطفة: جنود ومرتزقة وناجون من المحرقة وعلماء وشبان ثوريون ومهاجرون طوعيون أو بالقوة أو كناري صامت وغير قادر على الطيران.
أحيانًا وهم على بعد مئات الكيلومترات عن بعضهم يتقاسمون دون أن يعلموا التبرم والضيق وحلم النصر الخرافي. بين الأماني التي عبروا عنها كلهم أمنية واحدة ستتحقق: الحرب ستكون قصيرة، جد قصيرة.
في مركز هذه اللوحة المشظاة، يضع أفنان القاسم الحب، حب ينحرف به من الحلم إلى الحقيقة، من البراءة إلى الممنوع الاجتماعي والعائلي.



* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشوارع
- إسكندر الجفناوي
- مدام حرب
- النقيض
- شارع الغاردنز
- لؤلؤة الاسكندرية
- باريس
- بيكاسو
- قل لنا ماذا ترى في حالنا؟
- القدس
- الشعراء
- البرابرة
- الأخرق
- الباشا رواية النكبة الأولى
- تراجيديات
- تحليل قصيدة صفد لسالم جبران نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا
- فلسطين الشر
- المواطئ المحرمة
- العاصيات
- غرب


المزيد.....




- أحمد عز ومحمد إمام.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وأفضل الأعم ...
- تيلور سويفت تفاجئ الجمهور بألبومها الجديد
- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الكناري