أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - بلشفيك الاسلام . هل هم قادمون ؟















المزيد.....


بلشفيك الاسلام . هل هم قادمون ؟


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 3628 - 2012 / 2 / 4 - 22:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المقصود ببلشفيك الإسلام ليس البلاشفة الذين صنعوا ثورة 1917 الروسية وسرقت منهم حين ظلوا يعيشون في الهامش وخارج دائرة القرار الذي استحوذت عليه برجوازية الحزب ( الشيوعي ) الذين استبدلوا أنفسهم مكان العمال البلشفيك . لكن المقصود بلشفية من نوع آخر ظهرت قبل ان تظهر البلشفية الروسية بمئات السنين ، فكان ما طرحوه من أفكار وما قاموا به من ممارسات في سبيل الدفاع عن معتقدهم ، ان جعلهم يتفوقون على بلشفيك روسيا في رسم البصمات التي اختلف حولها المؤرخون والمهتمون ، بل ان كل ما يوجد من كتابات على نذرتها هي من إنتاج أعدائهم بسبب إحراق كتبهم ومخطوطاتهم من قبل المتربصين بهم والمعادين لهم . إنهم الجماعات الإسلامية الثورية المتطرفة من خوارج ومزدكية وخرمية وازارقة وعلى رأسهم وأهمهم القرامطة الثوريون الذين يستحق ان نطلق عليهم بلشفيك الإسلام او بلاشفة الإسلام او ثوريو الإسلام او جمهوريو الإسلام ، وهي حركة ثورية جاءت على يسار الحركات الثورية التي ظهرت في ذلك الوقت كالخوارج والإسماعيلية والشيعة ...لخ
فحزب الخوارج مثلا رفض الطبقية الموجودة في الواقع العربي ، ورفض عنصرية السنة الذين قصروا الخلافة في قريش دون غيرها من الأمم والأقوام المسلمة بسبب سمو وكمال العرق العربي على سائر الشعوب المسلمة ، ورفضوا عنصرية الشيعة الذين قصروا حق الخلافة فقط في أهل البيت دون غيرهم من المسلمين ولو كانوا عربا رغم ان النبي عربي العرق والنطق واللسان ، ومن ثم فهم نادوا ان تكون الخلافة من حق المسلمين حتى ولو كان الخليفة عبدا اسودا امه زبيبة ، اي أنهم نادوا بالمساواة والعدالة بين المسلمين . اما الحركة المزدكية والخرمية فكانتا حركتين اجتماعيتين ثوريتين ، أعلنتا بدورهما الحرب على نظام الطبقات واستهدفتا العدالة والمساواة ورفضتا النظم الاجتماعية المتخلفة المرتبطة بنظام الطبقات المغلقة .
وبالرجوع الى التاريخ العربي الإسلامي سوف لن نجد غموضا وضبابية أكثر مما تثيره الحركة القرمطية بسبب ندرة وليس قلة المادة التاريخية حولها . ان ما يوجد من كتب هو من ابتكار أعدائها من سنة وشيعة متحاملين على الحركة . وهذا لا يعني ان الحركة القرمطية لم تخلف تراثا او أنها افتقرت الى المفكرين والمنظرين لدعوتها ، بل ان كل ما أنتجه مفكروها ومنظروها قد طاله الإحراق والتدمير من قبل أعدائها ، فابن النديم مثلا في الفهرست يطالعنا بمصنفاة كثيرة لرواد الحركة ودعاتها ومن اشهرهم عبدان الداعية الذي كان صاحب مدرسة ورائد جماعة فكرية ظلت مخلصة لأفكاره بعد موته . لذا فكل ما يعول عليه في دراسة الحركة القرمطية كحركة ثورية يظل مستمد من المصادر السنية والشيعية المعادية ، وهنا تكمن حقيقة المشكلة ، وهي خطورة التأريخ لحركة سياسية من خلال مراجع أعدائها المبنية على الافتراءات والاتهامات الباطلة قصد التشويه والتشهير .
ان سبب معاداة السنة والشيعة للحركة القرمطية معروف ، ذلك ان القرامطة أقاموا دولتهم على حساب نفوذ بني العباس في العراق والبحرين ، كما أنهم انشقوا عن الدعوة الإسماعيلية ورفضوا الاعتراف بالتبعية لائمتها رغم انبثاق حركتهم عن الدعوة الإسماعيلية أصلا ، هذا ناهيك عن الاختلاف المذهبي بين الإسماعيلية والقرامطة بخصوص تفسير وفهم الكثير من المسائل المذهبية ، بسبب انتماء مؤرخي السنة والشيعة الى( أهل القلم ) الذي تدين بوضعها المتفوق لخيرات وإنعامات الحكام وأهل السلطة ، وبديهي ان ينظر هؤلاء وأولئك باستعلاء لحركة أساسها المستضعفون في الأرض من عمال وفلاحين وبطالين
اجمع مؤرخو السنة والشيعة البرجوازيين على اتهام القرامطة بإبطال التكاليف الشرعية ، بزعمهم ان الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الفرائض نافلة لا فرضا ( انظر التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص 26و27 الماطي ) وكما قال البغدادي وزعموا ان من عرف العبادة سقط عنه فرضها (الفرق بين الفرق ص 278 ) . وفي نفس المسار نجد الغزالي يقول ، ترك القرامطة تأدية العبادات ( فضائح الباطنية ص 47 ) والطبري ذكر ان القرامطة كانوا لا يغتسلون من الجنابة وإنما اكتفوا بوضوء الصلاة لإزالتها ( تاريخ الأمم والملوك ج 8 ص 159 ) . وفي موضوع آخر روى ان احد كبار الملاك الإقطاعيين ضاق درعا بفلاح قرمطي يعمل في ضيعته لحرصه على أداء الصلاة ( تاريخ الأمم والملوك ص 162 ) . واذا كان هذا التحامل لم يستند الى حجج وأدلة تثبت ادعاء الخصم الصادرة عنه ، فان الغزالي نفسه ذكر ان الداعي القرمطي كان يشترط على المستجيب للدعوة ان يحج الى بيت الله ثلاثين حجة ، إن اخل بواجباته ( فضائح الباطنية ص 29 ) . اما المقريزي الشيعي فقد أورد ان الداعي ذكرويه القرمطي عظم قدره في أعين الناس ، وصارت له مرتبة في الفقه والدين ( اتعاظ الحنفا ص 107 ) ، وان حمدان ابن الاشعت زعيم الحركة ، عرف بالزهد والتعبد وكان أنصاره يسمون أنفسهم المؤمنون المنصورون بالله والناصرون لدينه والمصلحون في الأرض ( نفس المرجع أعلاه ص 130 ) . ان هذه النصوص وغيرها كثير تدحض الزعم بان القرامطة دعوا الى إبطال التكاليف الشرعية وهدم الشريعة والتنصل من العبادات .
ومن خلال الرجوع الى الشعار الذي ساقه المقريزي الشيعي حول الحركة القرمطية يتبين أنها في الأصل كانت عبارة عن ثورة اجتماعية واقتصادية وسياسية باسم الدين ، ولم تكن كما قال أعدائها حركة مروق وخروج عن الدين . ان أصحابها كانوا مؤمنون بالله ناصرون لدينه ثائرون من اجل الإصلاح . ان الثورات الاجتماعية في ذاك العصر كانت تقوم باسم دعوة مذهبية ، اي احتواء القضايا السياسية والاجتماعية بمظهر ديني لإكسابها صفة الشرعية . كما ان الدعوات الدينية ما كان لها ان تثمر إلا في تربية اجتماعية ملائمة ، وهذا ما جعل آدم ميتز يرى ان الحركات المتعلقة بالمهدي كانت منذ أول أمرها حركات سياسية اتجهت الى الجماهير ، وهذا ما أكد عليه ابن خلدون في نظرته الشهيرة في قيام الدولة على أساس الوفاق بين الدعوة الدينية والعصبية المؤيدة ، وهذا ما تجلى بالملموس عند قيام الدولة القرمطية حيث التقت الدعوة الإسماعيلية مع آمال الجماهير الساخطة في سواد العراق والبحرين في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري .
فما هي الظروف السياسية والاجتماعية التي قربت بين الثورة الاجتماعية والدعوة الإسماعيلية ؟ ان الجواب عن هذا السؤال يلزم بالرجوع الى البحث والدراسة عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية في العراق والبحرين عشية قيام الدولة القرمطية . وقد لخص النويري في إيجاز رائع تلك الظروف من تشاحن السلطان ، وخراب العراق ، وفساد البلدان ، فتمكن الدعاة ومن تبعهم لهذا السبب ، وبسطوا أيديهم في البلاد وعلت كلمتهم . وقول النويري بتشاغل السلطان يعني حالة الفوضى السياسية التي أسفرت عن ضعف الخلافة وتسلط الأتراك على مقدرات الحكم السياسية ، حتى لقد سلبوا الخلفاء صلاحياتهم وسلطاتهم ، فلم يبق لهم من النفوذ سوى مظاهره الاسمية كذكر أسمائهم في الخطبة او نقشها على العملة ، اما السلطان الفعلي فتركز في يد الاوليغارشية العسكرية التركية وزعمائها .
لقد استقطبت الحركة القرمطية سائر العناصر والعصبيات المقهورة في سواد العراق من جراء تسلط الأتراك الجفاة الهمجيين خاصة في فترة العصر العباسي الثاني الذين بلغوا فيه من القوة ما مكنهم من أداة تنفيذ مشيئة الخلافة الى سيف مسلط عليها ، فصار بيدهم الأمر والنهي وسلبوا الخلفاء سلطاتهم ، واصبح أمير الأمراء التركي هو الحاكم الفعلي يولي ويعزل من يشاء من الخلفاء ، بل ان الأهالي لم تسلم من خطرهم وبأسهم ، فأصابها ما أصاب الخلفاء من شرور ، وتعرضوا للسلب والنهب والابتزاز على أيدي جنودهم التتر ، وأصبح قلب الدولة مسرحا للصراع بين الخلفاء والأتراك ، فضلا عن الصراع بين العصبيات التركية المتناحرة ، فعمت الفوضى السياسية بلاد العراق وفقدت الحكومة سلطاتها على الأطراف ، فتفاقمت ظاهرة الاستقلال عن الدولة ، واستشرى داء ومرض النزاعات والحركات الانفصالية ، فانسلخت بلاد كثيرة عن حظيرة الخلافة . وقد شجعت حالة الفوضى السياسية هذه على إتاحة مناخ ملائم لبذر بذور الدعوة القرمطية . وهذا ما يتكرر بشكل أكثر عبثي هذه الأيام مع اردوغان التركي حيث التهديدات الى العراق وسورية بالانشطار ، وحيث مواصلة الجهود التركية لتخريب اقتصاديات الخليج بالمتلاشيات ( السلع ) التركية الرديئة مقابل تقوية الدور التركي الهمجي للسيطرة على المنطقة وإحلال عهد السلاجقة الأتراك في تدمير الخلافة وإهانة وإذلال الساكنة ، مرتكزين على أساس طائفي عنصري تركي على حساب الطوائف الأخرى الغير تركية .
لقد استقطبت الدعوة القرمطية سائر العصبيات والأمم المقهورة في سواد العراق من جراء تسلط الأتراك ، فالقرامطة كانوا أصنافا من أهل السواد والأكراد وجفاة الأعاجم فضلا عن جفاة العرب على حد تعبير الطبري ( تاريخ الأمم ج 8 ص 213 و 15 ) . ونعت هذه العناصر بأنهم جفاة أسافل وعامة ورعاع أمر لا يخلو من مغزى اجتماعي . فله دلالته على ان الطبقات المستضعفة الفقيرة من كافة العناصر رحبت بالدعوة وأقدمت على الانخراط فيها ، فأهل السواد مثلا كانوا من الفلاحين النبط ، يضاف إليهم طائفة الزنج المجلوبين من الساحل الإفريقي لفلاحة الضياع واستصلاح الأراضي بمنطقة البصرة ، ثم هناك عنصر الزط من فقراء الهند الذين استجلبهم الحجاج الى العراق وسخرهم في فلاحة الأراضي التي تركها أصحابها ، وقد تدهورت أحوالهم في العصر العباسي فقاموا بثورتهم المشهورة التي قمعها الأتراك الهمج في وحشية شديدة . أما الأكراد فشعب قبلي ثوري يضرب في شمال العراق لقي ظلما و اضطهادا في العصر العباسي ، وتعرض لنهب عساكرة الفرس والترك . أما جفاة الأعاجم فهم العناصر الفارسية المقيمة بمدن العراق ، وكانوا يعملون بالمهن والصناعات التي انف العرب من الاشتغال بها ، وقد امتهنوا وأذلوا في عصر تسلط الأتراك ، والمقصود بجفاة العرب القبائل العربية بمنطقة السماوة الذين عادوا الى حياتهم البدوية بعد تسريحهم من الجيش العباسي وإسقاطهم من ديوان العطاء في خلافة المعتصم . هذه العناصر جميعها جمعتها ظروف سيئة واحدة فشكلوا طبقة اجتماعية مغلوبة على أمرها في أواخر القرن الثالث هجري استقطبتها الدعوة القرمطية .
أما عن الأحوال الاقتصادية التي تسببت في احتداد المشكلة الاجتماعية فقد لخصها عبد العزيز الدوري " .. تمثل تلك الفترة مرحلة حاسمة في تطور الحياة الاقتصادية في العراق . فقد أدى التغلب التركي بالإضافة إلى الاتجاه الطبيعي في التطور الى إحداث تبدل وبدع كثيرة ، إذ اتخذ الإقطاع لأول مرة صفة عسكرية ، وتكاثرت المكوس والضرائب غير المشروعة ،وحصل تلاعب بالعملة كوسيلة للتوفير ، ووصل النظام الصيرفي أوج التطور ، وظهرت طبقة رأسمالية مهمة ونشأت حركة منظمة بين الطبقة العاملة .. "
إلى جانب الإقطاع العسكري ظهر الإقطاع البيروقراطي على حساب ارض الدولة وممتلكات الخلفاء ، إذ أثقل الأتراك الخلفاء بطلب الأموال ولم يكن بوسع الأخيرين إلا أن يستجيبوا فاضطروا الى ممتلكاتهم الخاصة وأراضي الدولة المعروفة بالصوافي ليشبعوا نهم الأتراك ، ولما كان الوزراء وكبار الكتاب ورجال الإدارة بما جبلوا عليه من الاستغلال وارتشاء يدخرون الأموال والثروات عمدوا الى شراء تلك الأراضي فأصبحت أقطاعا خاصا لهم . وقد اتسعت أملاك الطبقة البيروقراطية بسبب ظهور نظام الإلجاء ، إذ كان صغار الملاك يلجئون أليهم لحمايتهم من ظلم الجباة بان يسجلوا أراضيهم في الديوان بأسماء الوزراء والكتاب مقابل دفع جزء من المال نظير الحماية . وقد ازداد نفوذ الحماة تدريجيا في الوقت الذي تدهورت فيه أحوال صغار المزارعين وتحول أصحابها الأصليون الى مجرد فلاحين صغار . وللإشارة فان الشبه كبير بين نظام الإلجاء كما عرف في ذلك العصر وبين الإقطاع الأوربي في العصور الوسطى حيث كان صغار الملاك يتنازلون عن أراضيهم طواعية واختيارا للسادة الأقوياء حتى يضمنوا لأنفسهم نوعا من الحماية والأمن في عصر حافل بالفوضى والاضطرابات السياسية .
والى جانب الإقطاع العسكري والبيروقراطي ظهرت طبقة إقطاعية جديدة من كبار التجار وثيقة الصلة برؤساء الترك ورجال الإدارة والقواد ، ذلك ان التجارة في هذا العصر كرست لخدمة الطبقات العليا ، فكان كبار التجار يحتكرون استصلاح الأراضي المالحة في إقليم البصرة وتجفيف المستنقعات بمنطقة البطيحة ( الاصطخري : المسالك والممالك ص 80 ) وكانت ملكية تلك الأراضي تئول إليهم حسب الشريعة الإسلامية التي تنص على ان من احي أرضا مواتا صارت له حقا مشروعا
وقصارى القول ان الطبقة الإقطاعية الجديدة تكونت من قواد الجند ومن الكتاب والتجار المقطعين ( تجارب الأمم ج 2 ص 99 ) ولعدم درايتهم جميعا بالفلاحة وافتقارهم الى الخبرة الزراعية تدهورت الزراعة الى الحضيض ، فسدت المشارب وبطلت المصالح ، وعانى المزارعون الفقر والفاقة لان عائد كدحهم كان يؤول الى طبقة الإقطاع . وأمام هذا الوضع الخطير لم يجد الفلاحون والمزارعون غير الهجرة نحو المدن والاشتغال في المهن الحرة ، كما استكان البعض الآخر الى الظلم على مضض ، وتحولت البقية الباقية الى مجرد أجراء . هكذا نجد انه بقدر ما كانت أحوال الفلاحين تزداد سوءا ، كانت الطبقة الإقطاعية تزداد ثراء وتسلطا ، مستغلة في ذلك ضعف الخلافة وعدم قدرتها على الرد والردع . لذلك اتسعت الهوة بين الفئات والطبقات المكونة للمجتمع ، وبلغ التناقض الاجتماعي مداه فوجدت الدعوة القرمطية تربة صالحة بين جمهور الفلاحين وأقنان الأرض
أما في المدن فلم يكن الحرفيون والعمال بأحسن حال من سكان الريف . فقد وقعوا في دائرة استغلال أصحاب الاعمال ، وذلك لوفرة الأيدي العاملة نتيجة هجرة المزارعين الى المدن . وإذ سخط العمال على الباترونة المستغلة لطاقاتهم ، فقد سخط هؤلاء الأخيرين على الدولة لعجزها عن حمايتهم من ابتزاز الجنود الأتراك الهمج الذين كانوا دائمي الإغارة على دور الصناعة بغية السلب والنهب خاصة وأنها كانت في مكان واحد ( آدم ميتز : الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج 2 ص 379 ) . والواقع ان الطبقة العمالية في المدن كانت أكثر وعيا بالمسألة الاجتماعية لما انطوت عليه طبيعة العمل بالمهنة الواحدة من ترابط وتماسك . فكان لكل حرفة رئيسها يعرف بالأستاذ ويشرف على العمال والصناع داخل مصنعه ، حيث توطدت الصلة بين العمال والصناع والأساتذة في مواجهة ظلم الجحافل التركية .
واذا كانت الثورة العباسية قد جندت دعاتها من بين رجال هذه الطبقة الوسطى في المدن ، فقد وجد فيهم القرامطة ضالتهم المنشودة ، واختاروا دعاتهم من الأساتذة لبث الدعوة بين جماهير العمال الخاضعين لنفودهم وتجنيدهم في سلك تنظيمي ، اي إطار . لذلك اعتقد بعض الدارسين ان النقابات الإسلامية أسست في ذاك العصر بفضل الدعوة القرمطية ( ابن خلدون : المقدمة ص 404 ) . يلاحظ ان الدكتور عبد العزيز الدوري خالف هذا الرأي ، فهو ذهب إلى ان النقابات الإسلامية ظهرت في القرن الثاني الهجري ، أي قبل ظهور الدعوة القرمطية وساق عددا من الأدلة والقرائن التي تؤكد وجهة نظره ( تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري ، المقدمة الدكتور عبد العزيز الدوري )
قصارى القول ان الظروف الاقتصادية والاجتماعية في بلاد العراق تهيأت في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري لتقبل الدعوة القرمطية نتيجة الفوضى السياسية ، واحتدام التناقضات الاجتماعية . فقد ازداد الأغنياء ثراء والفقراء فاقة ( بلغ البؤس بين الفقراء مداه حتى ليذكر احد المؤرخين ان امرأة من الكوفة كانت تقتفي قافلة تجارية لتلتقط ما عساه يسقط من الثمر في ردائها الرث المهلهل . انظر الاصبهاني : مقاتل الطالبيين ص 340 ) ، وبلغ السخط مداه بين العمال وصغار الفلاحين وأهل الحرف ( البغدادي : الفرق بين الفرق ص 142 ) ، وما كان لهذا السخط ان يتحول الى عمل ايجابي إلا بوجود الوعي الطبقي الاجتماعي ، وقد حدث نتيجة الازدهار الفكري في هذا العصر ، واتجاه الفكر الشيعي بصفة خاصة نحو تبني قضية العدل الاجتماعي
لقد استفادت الحركة الإسلامية القرمطية من النهضة الثقافية أيام الخليفة المأمون حيث قامت حركة الترجمة الواسعة الى العربية . ففي بيت الحكمة ببغداد ترجمت أمهات الكتب الهللينية والشرقية على السواء ، فاطلع المسلمون على تراث الحضارة القديمة اليونانية والفارسية والهندية واقبلوا على دراسة التراث ألأممي بتشجيع من الخليفة المامون ، فاخذ الفكر الإسلامي يرتكن على أساس علمي حيث شرعت المذاهب السياسية والدينية تقيم فلسفتها النظرية على ركائز منطقية . وقد ظهر في هذا العصر الذهبي تيارات سياسية مختلفة ، فكان هناك تياران أساسيان احدهما عقلاني هيوماني تبناه المعتزلة رواد النظر العقلي في الإسلام ثم تطور على أيدي الفلاسفة كالكندي والفارابي وابن سيناء . أما التيار السلفي الرجعي ألظلامي القروسطوي فقد مثله الأشاعرة والحنابلة ووصل الى ذروته على يد الغزالي حيث تصارع الاتجاهان صراعا مريرا لم يكن محض خلاف فكري مذهبي بقدر ما كان تعبيرا عن مواقف سياسية وقضايا اجتماعية . وبديهي ان يواكب التشيع هذه النهضة الفكرية ويفيد منها في صياغة معتقداته المذهبية ، ولما كان التشيع حزبا مغلوبا على أمره ، فقد تبنوا التيار العقلاني الإنساني في مخاطبة الجماهير الساخطة على السلطة . وبسبب القمع الذي انهال على حزب الشيعة من قبل العباسيين انقسمت الحركة الشيعية الى طوائف وتيارات مختلفة منها الزيدية التي انقسمت على نفسها الى عدة فرق تتراوح أفكارها بين الاعتدال والتطرف والغلو ، فكان هذا الانفصام سببا في فشل كافة الثورات الزيدية رغم كثرتها وخطورتها
أما الفرع الآخر الذي يمثله الشيعة الأمامية فقد انقسم الى فرقتين أمامية ، اثنى عشرية وإسماعيلية التي على شأنها حتى احتووا في مذهبهم غالبية ألاثنى عشرية ، وعلى خلاف الزيدية عمد الإسماعيلية الى الدعوة السرية المنظمة بعد فشل الثورات الزيدية الهوجاء
فطن الإسماعيلية الى خطورة التناقضات الاجتماعية في العراق في عصر تسلط الأتراك فكيفوا مذهبهم بما يتيح لهم استقطاب الطبقات المستضعفة . فأفادوا من التيار العقلاني في نسج عقائدهم المذهبية ، ولم يجدوا إحراجا في الأخذ من التراث الوثني ما تضمنه من نزعات عقلية إنسانية ، كما تبنوا العدالة الاجتماعية للجماهير الساخطة في العراق ، ومزجوا بين التيارين في إطار مذهبي ديني ، ذلك ان منزلتهم الدينية السامية باعتبارهم من آل البيت أكسبت النزعة العقلانية والعدل الاجتماعي طابعا دينيا مميزا . ومن هنا يمكن تفسير رواج دعوتهم وشدة الإقبال عليها اذ كان للعامل الديني أثره في إعطاء الثورات الاجتماعية إطارها الشرعي ، فضلا عن مضمونها الإيديولوجي . وفي هذا الصدد يقول الأستاذ عامر تامر " ... لا يعرف التاريخ الإسلامي مذهبا ثوريا لا يستند إلى أساس روحي او حركة ثورية عامة لا ترجع إلى الدين " ( الإسماعيلية والقرامطة ، مجلة الشرق ، السنة 1959 ج 4 و 5 ص 569 عامر تامر ) .
يتبين مما سبق ان الدعاة كانوا يقومون في دعوتهم على الربط بين القيم الدينية والعدالة الاجتماعية ، ومن هنا نجحوا في كسب الأنصار ، ولو كانت الدعوة مذهبية فقط لما قدر لها ان النجاح والانتشار ( الطبري . ج 8 ص 230 ) . فقد اعتمد الدعاة على القطاعات الفقيرة والطبقات الكادحة التي لم تكن التعقيدات المذهبية الملغزة تتفق وقدراتها العقلية ، لكن الجانب الاجتماعي الذي انطوت عليه الدعوة ممثلا في إقرار مبدأ العدالة صادف استجابة لدى الجماهير الساخطة من فلاحين وعبيد مسخرين وعمال ومهنيين في سواد العراق وبالبحرين بمدنه وقراه . و لا عجب فقد كان الدعاة يقدمون أليهم من الأموال ما يعينهم على مواجهة الغلاء وقسوة العيش ، فضلا عن وعدهم لهم بأنهم سيرثون أملاك سادتهم وجلاديهم من أهل الظلم والجور ، وان هذه الأملاك التي ستؤول إليهم ستصبح لهم حقا مشروعا حسب الاية الكريمة " ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " .
وإذا كان البغدادي ( الفرق بين الفرق ص 288 ) يقول ان " القرامطة اعتقدوا ان الأنبياء كنوح وموسى وعيسى ومحمد وكل من ادعى النبوة ، كانوا أصحاب نواميس ومخاريق أحبوا الزعامة على العامة فخدعوهم بنرزجيات واستعبدوهم بشرائعهم " واعتبر ان من خالف مذهب أهل السنة كفرة زنادقة ، فالثابت ان القرامطة كحركة ثورية نددوا فقط بالحكام دون الأنبياء وأنهم يعترفون بنبوة محمد ، وان ألويتهم كانت تحمل آيات من القران الكريم تؤكد على مفهوم العدالة في الإسلام ، وتدعو الى تطبيقها ولم تكن تدعو أبدا الى هدم الشريعة ، بل استهدفت الإطاحة بالحكام لخروجهم على هذه الشريعة .
وإذا كان ماوتسي تونغ قد اعتمد على الفلاحين في الصين في انجاز ثورته ، فان القرامطة قد سبقوه إلى الاعتماد على هذه الفئة ( الطبقة ) بمئات السنين لان ثورتهم كان أصلها وأساسها ثورة الفلاحين بالأساس وبالتعاون مع باقي ( الطبقات ) الفئات المكونة للمجتمع من عمال وصناع وحرفين ومهمشين وفقراء ، اي سواد المجتمع ، ولا غروة ان كلمة قرمط تعني الفلاح ، وحمدان القرمطي هو حمدان الفلاح وليس حمدان الاشعت . وخلاصة القول ان القرامطة هم عظم من عظماء الإسماعيلية ولحم من لحمهم لا يختلفون عنهم . لقد كانوا بلاشفة شيوعيين في عصرهم رغم فشلهم في تطبيق برنامجهم الاشتراكي سنة 897 م .
قصارى القول ان الصراع حول الخلافة رغم مظهره السياسي الديني ، كان صراعا طبقيا بالدرجة الأولى ولم يكن خلافا اجتهاديا حول قضية ظنية ، وهو ما جعل جميع الحركات الإسلامية المتصارعة تركز في صراعها بدرجة أولى على الشق الاجتماعي المغلف بإيديولوجية دينية لتعريض القاعدة واكتساب الأنصار . بل ان الصراع الدموي الذي دار بين أصحاب رسول الله حتى استقر الأمر لبني أمية لم يكن شرا كله كما تصور البعض ، لأنه لم يكن صراع بغي وتظالم ، وان كان صراع أحرار أكفاء مؤمنين مجتهدين فيما لا نص فيه من شكل الدولة ، وان الصراع قد حسم في النهاية لأكافأ في سياسة الدولة وان لم يكن الأفضل سابقة وجهادا ودينا . وقد اقر بذلك معاوية نفسه حين قال " أيها الناس ما انا بخير منكم ، وان منكم لمن هو خير مني عبد الله بن عمر و عبدالله بن عمرو وغيرهم من الأفاضل ولكن عسى ان أكون أنفعكم ولاية وألقاكم في عدوكم وأدركم حلبا " .



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الديمقراطية بين دعاة الجمهورية ودعاة الخلافة
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 8 )
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 7 )
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 6 )
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 5 )
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 4 )
- منتصف الطريق فالإجهاض
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 3 )
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 2 )
- التوجه السياسي للمهدي بن بركة ( 1 )
- مقاطعة الانتخابات في المغرب ( الخطر قد يقترب )
- ردا على مزاعم بعض المشارقة بخصوص الاستفتاء بالصحراء
- ملف حول قيام الدولة الفلسطينية والقضية الكردية وحقوق الأقليا ...
- استثناء الاستثناء المغربي
- مقاطعة الاستفتاء على الدستور
- هل تم تعبيد الطريق الى فلسطين ؟
- نقد مقولة الصراع الطبقي بالمغرب
- تيارات سياسية مؤتمرات أوطمية
- مراوحة السياسة التكنولوجية العربية بين النقل والتبعية
- نظام الاقتراع الأكثر ديمقراطية : هل هو نظام اللائحة أم الاقت ...


المزيد.....




- هدية أردنية -رفيعة- لأمير الكويت
- واشنطن تفرض عقوبات جديدة على أفراد وكيانات مرتبطة بالحرس الث ...
- شقيقة الزعيم الكوري الشمالي تنتقد التدريبات المشتركة بين كور ...
- الصين تدعو الولايات المتحدة إلى وقف تسليح تايوان
- هل يؤثر الفيتو الأميركي على مساعي إسبانيا للاعتراف بفلسطين؟ ...
- بسبب متلازمة صحية.. تبرئة بلجيكي من تهمة القيادة ثملا
- 400 جثة وألفا مفقود ومقابر جماعية.. شهادات من داخل خانيونس
- رسالة من شقيقة زعيم كوريا الشمالية إلى العالم الغربي
- الشيوخ الأميركي يقر -مساعدات مليارية- لإسرائيل وأوكرانيا
- رسالة شكر من إسرائيل.. ماذا قال كاتس لـ-الشيوخ الأميركي-؟


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - بلشفيك الاسلام . هل هم قادمون ؟