عندما يدرس أحدهم حركة انفصالية معاصرة فانه عادة
ما يقع بين نمطي تحليل – كلاهما مبتسر و مضلل بمفرده – أولهما التعويل الزائد على
الدور الخارجي في مسيرة الحركة بأن ينفق جهدا هو الأكبر في إظهار شبكة علاقاتها
الخارجية ، و الذي قد يعد بإنصاف مؤشر نضج لهذه الحركة إذ ينتج عن فهم عميق منها
للتناقضات الإقليمية وربما الدولية للعاصمة الدائر ضدها نضال تلك الحركة ، أما
النمط الثاني للتحليل فهو تركيز البعض على تلك العاصمة بما يصدر عنها من سياسات
قمعية للقوميات و الأقليات بها ، فيفهم بالتالي هذا السعي للانفصال باعتباره محاولة
من الهامش للتمرد أو توكيد موقعه أمام المركز .
تبدو خطورة هذين التقاربين عندما
يتعلق الأمر بحركة انفصالية أو تحررية ذات أساس عرقي أو قومي ؛ فالمنصف لا
يستطيع أن يلخص تاريخ هذه الحركات باعتباره متغيرا تابعا لتأليب و دعم القوى
الخارجية ، بل إن استثمار هذه الحركات للتناقضات الإقليمية و الدولية لصالحها
يعد مؤشر نضج لها إن أحسنت توظيفه ، كما أن سعي هذه الحركات القومية لنيل
حقوق الشعوب التي تدافع عنها لم يكن متوازيا دوما مع قمع العاصمة المعنية لمطالبهم
، بل سابقا أحيانا لوجود هذه العواصم و الأنظمة ، إذ شاركت العديد من الحركات
القومية ضمن نضال تحرري أوسع للاستقلال عن المحتل الأجنبي ، و حتى منتصف القرن
العشرين تشكلت حكومات وطنية ( بمعنى أن شاغلي مناصبها من أبناء البلاد المحليين و
ليسوا محتلين أو مفروضين من الاحتلال ، و ليس للوصف أي مغزى قيمي يذكر ) ، انفردت
هذه العواصم بقمع المعارضة داخل البيت ، أهملت وعودا قطعتها بحل مشاكل القوميات ،
تفرغت لوظيفة التغلغل و بسط يدها على كامل الإقليم ( أي وظيفتي الأمن و الانتشار )
دون الوظائف الأخرى المفترضة في الحكومات الرشيدة و هي التكامل الوطني و التنمية
الشاملة ، و بالطبع حدث الاصطدام بأعراق و قوميات و جماعات انتظمت في حركات تمثلها
، فما كان من العواصم إلا إضافة صفات التمرد و الإرهاب و الانفصالية عليها
منددين بارتباطاتها مع قوى خارجية ، تماما مثلما كان يفعل المستعمر سابقا ، متذرعين
في توجههم هذا بالمفهوم الكلاسيكي الضيق لسيادة الدولة على حدود ورثوها عن
الاستعمار ، ممارسين نفس دوره ضد مواطنيهم ، فقدموا وعودا و مواثيق و مشاريع لحكم
الذاتي لم تنفذ ، حتى إذا ما واتتهم الفرصة انقضوا على كل ما قدموا أو لوحوا به
.
الحركة الكردية المعاصرة مثال حي على هذا السيناريو ، بل إن انقسام أبناء
الأمة الكردية عبر حدود خمس دول هيأ تلاعب الأطراف الإقليمية و الدولية بقضيتهم ،
ثم جاء بعض قادتهم ليضيفوا انقسامات من صنعهم أتت على المواطن الكردي بمزيد من
الضعف و التهميش ، و انساق بعض القادة بقصد أو بدون وراء مخططات لا تخدم أبدا
الصالح الكردي ، حتى غدت القضية الكردية في نظر الكثير من باحثي العلاقات الدولية و
النظم السياسية المقارنة بالشرق الأوسط مجرد مختبر لتطلعات و قدرات الدول التي
تقتطع فيما بينها كردستان ، أو مجرد قضية تستخدمها القوى الكبرى بقدر رغبتها في
التأثير على مجريات الأحداث بالمنطقة و ليس لرغبتها في معالجة عادلة للقضية ، في
حين انبرى بعض محللي النظم السياسية في تفسير الحركة الكردية على مجرد كونها
محاولات من الشعب الكردي للحصول على حقوق المواطنة الكاملة في دولهم
( أي تلك
الدول التي ورثتهم عن محتليها كأقليات بالمفهوم العددي و القومي للكلمة ) و قليلون
قدموا طرحا يتناول الأكراد كوحدة تحليل أساسية ، انطلاقا من فرضية مفادها :
" إن
الحركات التحررية القومية المعاصرة ، و الملقبة أحيانا بحركات التمرد و الانفصال ،
لا تقل في شرعيتها عن حركات التحرر الوطني ضد المستعمر الغربي ، و إن تأخرت عنه
زمانا ، و أنها حركات أصيلة منبعها الشعب الذي تعبر عنه ، و هو وحده المسئول
أفرادا و قادة عن عثرات و نجاحات مسيرتها ، و إن توازت مع دعم خارجي أو قهر داخلي ،
و على هذا تبقى دراسة الحركة الكردية و من ثم تقييمها متغيرا في عامل أهم و
هو تعبيرهاعن مصالح الشعب الكردي ، فحتى لو توقف الدعم الخارجي لها لن يعدم الأكراد
الوسيلة لمواصلة النضال ، و حتى لو خففت الحكومات من قبضتها ملقية للأكراد بما هو
دون الحد الأدنى من حقوقهم ، فلن يثني ذلك عزمهم و لن ينفي عن كفاحهم السياسي و
العسكري شرعيته ، و إن أوجب عليهم تفويت الفرص على المتربصين دوما بهم ، بأن
يستغلوا أي فرصة للحل السلمي شريطة ألا يعني ذلك تعلقهم بما يلقى لهم من فتات "
.
لسنا بصدد تقديم المنهج الأمثل لتناول القضية الكردية ، فهناك محددات عديدة
منها التكامل المنهجي و ظروف كل دراسة و صعوباتها ، و غير ذلك ، لكننا نشير إلى
لبعض نقاط طرقها باحثون مجتهدون و تحتاج لبلورة و تراكم من أجل أن يثبت
تناسبها مع البحث في هذه القضية ، لقد قدم إسماعيل بيشكشي ،عالم الاجتماع التركي
، الباحث محمد نور الدين من لبنان و الراحل د. جلال معوض من مصر ، و
المستشرقون الأوائل الروس و البريطانيون و غيرهم الكثيرون ، قدموا العديد من
الاسهامات في فهم القضية الكردية ، و ذلك بموضوعية و حياد .
و الان و خلال
العقد الماضي و ربما سابقه صار السؤال المطروح هل تصلح المناهج و المعطيات
ذاتها لدراسة القضية الكردية بعد كل ما طرأ عليها من تغيرات و تبدلات عل
أبسطها ان يكون تاريخ علاقات أي حزب بالاخر منحنى زجزاجي ups and downs
على طول العلاقة و لا ثبات في شيء ( انظر نموذج الحزبين الكرديين في كردستان العراق
و الذي نتمنى دوام توافقهما الأخير )
لقد قرأنا مقالا لنزار اغري منذ
فترة يقول فيه ان الأكراد بالعراق بدأوا أخيرا في فهم الدرس بدليل أن كل طرف
خارجي يعتقد أنهم معه – على حد قوله - ، و يرى في هذا مؤشر قوة ، و الحقيقة
انهم لا زالوا يتصرفون برد الفعل و هو ما لا يصنع دائما خياراتك المثلى ، و هذا لا
ينفي أن هناك من وعي الدرس لكن وعي التطورات أمر و التصرف على أساس هذا الوعي
الجديد أمر آخر .
حزب العمال الكردستاني - مثالاً - بدوره قدم طوال مسيرته
مادةجيدة للبحث فقد طرح فكرة العنف لخدمة قضية مشروعة ، و قضية القبضة
الحديدية التي يسيطر بها على اعضائه أو حتى مواطني الأماكن التي يهيمن عليها ، و
طرح افكار عالمية الصراع التحرري ، و وحدة و تضامن النضال للشعب الكردي ، و كردستان
الكبرى و كردستان الواحدة المحررة … و غير ذلك من قضايا هامة ، تستحق المراجعة ،
لكنه سبق الجميع بالتراجع عنها بصورة أو أخرى .
أكراد ايران ثبات عميق ، هل هو
الهدؤ الذي يسبق العاصفة
القضية الكردية ببساطة تحتاج لاعادة نظر ، و بحث
، و اجتهاد ، و قبل كل ذلك ، ألا يبحثها من يخلط العام بالخاص ، أو من يساوي أوراق
بحثه بأوراق البنكنوت ، القضية الكردية بحاجة ، أكاديميا ، لاعادة طرح و صياغة و
تناول و تطبيق مناهج عمل ، فهي رغم كل انتكاساتها ، لازالت بقادرة على تحريك خيال
الباحثين المجتهدين و المهتمين اعلاميا ، لازالت قادرة على دهشتنا كل يوم ، و
هو ما فقدته قضايا كبرى أخرى بالشرق الأوسط رغم قدسيتها و مأساويتها في الآن ذاته .
ملحوظة : نشرت الأهالي العراقية هذا المقال ، و يتبعه جزء ثانٍ