أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - إسكندر الجفناوي















المزيد.....



إسكندر الجفناوي


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3624 - 2012 / 1 / 31 - 23:44
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الروايات (3)


د. أفنان القاسم


إسكندر الجفناوي


رواية


يتبعها ذكريات من بيت الموتى


إلى صديق الطفولة الدكتور إسكندر عودة
الذي اغتالته عصابة كاهانا في أمريكا


1
رفع أسعد منديله إلى جبينه، كان يقطر عرقًا، مع أنه جالس في ظل شجرة الكستناء. مسح جبينه، فعنقه، فجبينه، ثم التقط العرق عن وجنتيه، ومن وراء أذنيه، وفي الأخير، دفع المنديل في صدره. الشمس بجهنمها تحرق العالم! ولم يأمل بهبوب بعض الأنسام. الشمس جمر رغم أن الخريف على الأبواب، والسماء تنثر ذهبها الأحمر، وعمان لاهثة! كيف تلهث بين جبالها السبعة عمان؟ جاب أسعد الأفق البعيد بعينيه، ومع ذلك، كان كل شيء يشير إلى اقتراب الأشياء. الطائرات المحولة، ومطار الثورة، والرهائن المحظوظون بالماء المعدني والبسكويت، وتعليقات كل الإذاعات التي تكرهنا. أنحب أنفسنا إلى هذه الدرجة المدمرة؟ كان علينا أن ندرك النهاية المعلنة، أن نفهم، قبل الآن، ذريعة الطرف النقيض. خلع أسعد حذاءه، واستلقى على بطنه، ثم ارتفع بصدره فوق ذارعيه. كان المعسكر يربض منتظرًا، وقافلة من السيارات الجيب أو الخاصة ترصد أدنى حركة، والبراكة مغلقة على القرار الأخير. أطلق أسعد بعض الزفرات دون أن يحس بطعمها، فاض في حلقه طعم الرماد، وغاصت في شفته شوكة الجفاف، يغرزها الحر وشرر الضوء. ذهب بنظره إلى الانعطاف الذي يصل المعسكر بالشارع العام، كانت صفحته تحترق بصمت، ولم يتمكن من رؤية الفدائي الذي يقوم بالحراسة. وجد نفسه ينظر إلى ساق الشجرة، ويلمس بيده قشرتها الخشنة، ويترك أصابعه تتوجع في ثنياتها. اعتدل جالسًا، وراح يفك أزرار قميصه الكاكي، ليلقيه مغرقًا بالعرق، كأنه ألقي في الماء. وفي الوقت نفسه، دخلت المعسكر شاحنة، تلتها أخرى، وقبل أن تقف الأولى، قفز إسكندر من مكانه إلى جانب السائق، فتطلع أسعد إليه، وفي خياله تتفجر براكين النار. كان الفدائيون قد هبطوا، واستعدوا في صفوف ثلاثة. تقدم إسكندر منهم، وراح يخاطبهم:
- هذا يكفي حتى الساعة، أطلب من الإخوان أن يذهبوا إلى ثكناتهم، ومن الممكن أن يكون هناك تدريب آخر في المساء.
طلب منهم الاستراحة، ثم صرفهم، وسار إلى أسعد الذي تناول قميصه وحذاءه، وجاء إليه، وهو يظلع بعض الشيء. ابتسم إسكندر له حتى بانت أسنانه، فحسده أسعد. كان لقبه (( الرجل المبتسم ))، المبتسم على الرغم من كل شيء: شحب لون أسعد، وأحزنته الابتسامة. بحث عن مكان يستظل فيه، وفي الوقت نفسه سأله إسكندر، وهو يشير إلى ساقه المصابة:
- ألم تبرأ بعد؟
ضربها أسعد بكفه، وقال:
- لقد برئت.
عاد إسكندر يسأله عن عملياته في الأرض المحتلة:
- ومتى ستعود إلى حضن أمك؟
لم تظهر على وجهه أمارات السعادة كما هي عادته:
- غدًا ليلاً، فهي لا تنام.
وأضاف زافرًا:
- هذه الحرارة لا تطاق!
رفع إسكندر حاجبه نحو قرص الشمس الملتهب، وقال:
- لن يعود الأمر بذي بال إذا اعتدت ذلك.
ابتعد خطوتين، وأسعد يفكر: هذه هي مأساتنا، أن نعتاد ذلك! فصاح من ورائه:
- ولكنني لا أستطيع أن أعتاد ذلك!
التفت إسكندر إليه مأخوذًا بحدة الصيحة، ثم إلى قرص الشمس الملتهب، ثم عاد يرمى عليه كل بصره، وصيحته أصبحت صدى
لا يريد الابتعاد. كان أحد الفدائيين قد مر بهما، وهما قد راحا يتابعانه حتى اختفى في ظل شجرة الكستناء. فجأة، قال إسكندر:
- عليّ أن أذهب إلى لقاء أبي غزة.
أشار أسعد إلى البراكة المغلقة:
- ما زالوا يغلقون الباب على القرار الأخير.
- سأفتح الباب على أي حال.
لم يتردد أسعد عن القول:
- تعرف موقف أبي غزة: يتركنا أبو حابس في حالنا، ونتركه في حاله!
- لن يكون القرار الأخير.
- هل يكون الانتحار إذن؟
- أنت مجنون!
- عندما لا أكون في موقع الهجوم.
- ولكننا سنقاتل.
وقبل أن يتركه، سمعه يركز النطق على كلماته:
- القتال، نعم، القتال، هذا كل ما تبقى لنا!
ظل أسعد يقف لفترة ليست قصيرة مفكرًا دون أن يقوم بحركة: لقد أضاعوا عليه الفرصة، ولم يعد يبحث عن شيء! هل ضاعت الفرصة؟ ارتدى قميصه وحذاءه، والسؤال لم يزل يأتيه ملحًّا: هل ضاعت الفرصة حقًّا؟ وراح يرمق بقع الشمس. بحث عن الفدائي في ظل شجرة الكستناء حيث اختفى، منذ قليل، إلى أن وقع عليه. كان يريد أن يعيده من الظل إلى الشمس، وكان يفكر في أريحا: هناك ولدت، في مخيم (( عقبة جبر )) ولدت هناك! وهناك كنت أبحث، كنت أريد. كنت أريد أن أصبح رجلاً يكسب رزقه بعرق جبينه، وأن أغدو أبًا له أبناء، وأن أبني بيتًا من حجر، أو أن أشتري مزرعة، وأن أعيش ككل الناس. كنت أبحث عن الحب، أول الأشياء، عن أن أحب، إنهم يحبون لأن في هذا سعادتهم، وأنا قد بحثت عن الحب لأني طلبت السعادة. في مخيمنا الذي كان ينبت كالدمل على صدر أريحا بدأت قصة حب انتهت دون توقع، قصة حب غدت بغضًا فيما بعد: هل أقول قصة بغض؟ الكلمة في محلها ما دمت لم أجد الحب طوال حياتي. حب امرأة. حب امرأة مجبولة من رغبة وشوق. امرأة بنهدين خالقين. امرأة بساقين مدمرتين. امرأة تفجر الأحلام والمرايا. كان اسمها ((اليونانية))، ولم يدر إذا كانت من اليونان. ربما لأنها كانت بيضاء، ومثل هرقل عملاقة. وبعض أهل المخيم كان يدعوها
(( باليهودية ))، فيقول أسعد لنفسه لو أن النساء كهذه اليهودية لأحببتهن كلهن من أعماق القلب! كان أسعد لم يقطع بعد العشر السنين، وكل ليلة، كان ينظر إليها من بين أعواد القصب، وكان يحلم. ثم دمي الحلم فجأة، عندما نظر ذات مرة، فرآها ذبيحة.
سأقول لإسكندر إنني بحثت عن الحب منذ مقتل اليونانية إلى اليوم المضيع للعمر، بحثت عن حب آخر هو نفس ما نبحث عنه جميعًا
ولا نعرف تفاصيله. خضرة، عاهرة من عاهرات المخيم، يعرف عنها كل شيء، كل شيء في جسدها، وأبو غزة، قائد من قادة المخيم، يعرف عنه كل شيء، كل شيء في سياسته. وإسكندر، الصديق المبتسم، يعرف عنه كل شيء، كل شيء في عينيه. وها هو يسعى إلى الشيء المعروف، في لحظة فائتة، لا تنجح الشمس في حجب تفاصيله.
أخذ أسعد طريقًا إلى الفدائيّ الذي مر به منذ قليل، كان يريد أن يراه من قريب، أن يدخل الظل معه، والشمس لم تعد محتملة مرتين. عندما وصله، نظر إلى السلاح بين أصابعه، فتبدت له اليونانية ناهضة من نعش الجمال. وعندما أراح السلاح على الأرض، عادت له صورة جسدها القتيل. كان أسعد في الوقت ذاته قد عاد يجري في أخيلة المخيم، وليله يتساقط في العلب المعتمة، وأنفاس أهله تنسحق أسفل مرساة التعب، وبيوت التنك تتحطم كالمراكب التي خانها البحر، ولم ينقذها من عاصفة العدم والرضوخ. ثم ذهب إلى أريحا، إلى مستودع في بطن جبلها الأحمر، وراح ينقل على كتفيه قطوف الموز، وغاب ستة شهور. عندما عاد إلى المخيم، وجد أمه قد طلقها أبوه، بسببه، كما قال الجميع، بينما الرغبة في ترك كل شيء، الزوجة والله والوجود، هي السبب الوحيد.
أخذ الفدائيّ يغني أغنية، فتمنى أسعد لو يخنق الأغنية، وعجز عن تحقيق الأمنية، والشمس بأصابعها تحاول خنقه. عاد المغني ينقل بأصابعه البندقية، ثم سمعه يهتف، وهو يشير إلى السلاح:
- هذا من أجل أرضي!
والأرض تحترق تحت قدمي أسعد.
نقل نفسه إلى الظل، والرجل يسأله دون أن يرفع عن السلاح عينه:
- كيف حال ساقك الآن؟
- بإمكاني أن أعود غدًا إلي التي لا تنام.
بدا على الفدائيّ الاغتمام:
- قالوا لي إنهم أطالوا إجازتك حتى نهاية الأسبوع!
- لكنني برئت، وبإمكاني أن أفعل شيئًا، بإمكاني أن أتسلى!
نهض الرجل غاضبًا:
- أنا هو من أخذ مكانك طوال مدة استشفائك، أما الآن، فسيحصل تغيير، سيحصل تغيير بالتأكيد.
وذهب بخطوة عجلى، ثم انطلق يعدو.
صاح أسعد من ورائه:
- سيكلفونك بمهمة أخرى.
لم يبد عليه أنه سمعه، ظل يركض غاضبًا.
عاد أسعد يصيح:
- سيكلفونك بمهمة أخرى حتمًا.
توقف الفدائي فجأة، وقال بشفتين متوترتين:
- عملية الغد الوحيدة التي لم أحلم بمثلها أبدًا طوال حياتي!
وعاد يعدو، فناداه أسعد، قال له، انتظر، فلم ينتظر.
أطلق أسعد زفرة: عملية الغد الوحيدة التي لم يحلم بمثلها أبدًا طوال حياته! أيمكن تحقيق الحلم عندما يصبح الوقت متأخرًا؟ أيتمرد الحلم على الوقت عندما يكون بكل هذه الخطورة؟ يغدو الحلم جميلاً لأنه خطير! الجمال في خطره، ولكننا نتفاجأ بذلك في اللحظة الأخيرة! كان باستطاعة أسعد أن يتركها له، عملية الغد، لو أصر قليلاً على ذلك، لكنه ذهب بعصبية ككل العصبيين هنا، وغاب في ثكنته. كان باستطاعتي أن أتركها لك ما دمت لم تحلم بمثلها أبدًا طوال حياتك! لكنه أنانيّ هو أيضًا. راح يفكر في الرصاصة التي اخترقت ساقه: سأعطي لها قلبي، في المرة القادمة، كي تأخذني إلى قلب الجمال! أحس بارتخاء يعم جسده، وشعر بأنه وحيد. تركني، وذهب، دون أن ينتظر مني جوابًا. تقدم أسعد من الثكنة، لعله يقع على بعض الأسئلة. وهو على مقربة منها، وصلته ضحكة متهكمة، ثم سمع نقاشًا حادًّا يتجاذبه فدائيان، وما لبث الفدائيّ الذي أخذ مكانه أن ظهر في الباب، وبعد أن رمقه، سار صوب التل، وأسعد يتابعه حتى احترق في المرايا. سيذهب إليه، إلى الحريق الكائن في المرايا، لعله يقدر على إفهامه. وقبل أن يتحرك، خرج من الثكنة شاب شديد البياض كان أسعد يعرفه، فسأله: ماذا به؟ وهو يشير إلى الناحية التي ذهب منها الآخر.
- لا يريد الالتحاق بالأوكار، أبلغوه الالتحاق بالأوكار وقتما يحصل شفاؤك، يريد أن تقترب فلسطين من أصابعه!
فكّر أسعد أنه ما أن ينفذ في فلسطين عملية إلا ويشعر بها تهرب من أصابعه! فيعود مرة أخرى إلى التنفيذ، ويشعر بها تهرب، ويعود مرة أخرى إلى التنفيذ، ويشعر بها تبتعد، ولكنه، هو، في كل مرة، كان يقترب منها خطوة. تناول الشاب عودًا، وراح يرسم في التراب خطوطًا متقاطعة، وأسعد ينتظر أن يفرغ الشاب من رسمه. رفع الشاب وجهه إليه، وقال:
- قلت له إن الأمر سيان، هنا أو هناك، إن الأمر سيان، فلم يوافقني.
دفع رأسه إلى الوراء قبل أن يضيف:
- الأوكار شيء مهم اليوم، أليس كذلك؟
هل يوافقه، فيعلن إدانته، لِمَ لا يمحو الشك في السؤال، ويقول له بل هي الأهم، يا صديقي؟ الأهم عندما نبحث عن الحب طوال الوقت، فنجد أن الحرب هي فرصتنا الوحيدة. ولم ينتظر الفدائي الشاب جوابًا:
- لم يوافقني، وأصرَّ على أن الأمر هناك شيء آخر.
وجد أسعد نفسه يتناول العود من يده، ويصنع بدوره خطوطه المتقاطعة:
- كيف ذلك؟
- قال إنه في المقاومة كي يقتل الصهاينة، الصهاينة وحدهم، وإذا كنت لا تفهم من هم الصهاينة يعني اليهود!
حاول أسعد أن تكون خطوطه منتظمة البعد، وهو يسمع الشاب يضيف ساخرًا:
- حينما يفكر له عقل طفل!
- الطفل لديه الحق إذا فكّر بعقله.
ارتعش الشاب، فرأى أسعد كيف ينقله الظل إلى جمر الظل:
- أنتم كلكم مثله! كلكم لا تريدون أن تفهوا شيئًا!
مسح بيد عصبية الخطوط التي رسمها أسعد، ونبر:
- حركة مثل هذه، كل ما يلزمنا.
وقف أسعد، وقد تشابكت في رأسه الخطوط، كلنا لا نريد أن نفهم شيئًا، بينما أخذ الفدائي الشاب يرفع إصبعًا منبهًا، ويقول:
- في حزيران الماضي حصلت مواجهة، لا يغب عن بالك هذا.
أكد أسعد محاولاً فرز الخطوط في رأسه:
- في حزيران الماضي حصلت مواجهة!
- إذن ماذا ينتظر (( أخونا )) أكثر من هذا؟ لهذا تجدني مع تحويل الطائرات. الطائرات المحوَّلة ما هي سوى جسر المعركة القادمة إلى الانتصار. قل لي، بالله عليك، إذن، ماذا ينتظر أكثر؟
عليك أن تقول عدم الانتظار المتأخر أيها المعذب بوطنيته التي تحرق القلب! قال أسعد لنفسه: نعم، في حزيران الماضي حصلت مواجهة! لماذا حصلت؟ الذنب لم يكن كله ذنبهم. كان في بعضه ذنبنا. لكنه يدين كل مواجهة بين الأخوة مهما كانت الدوافع والأسباب. بصق الشاب، ودخل ثكنته على عجل. أعاد أسعد لنفسه: في حزيران الماضي حصلت مواجهة! أيكون احتفالهم بالهزيمة المستمرة حتى الانتصار أم احتفالنا بالانتصار المستمر حتى الهزيمة؟ لحظتذاك سنسقط في المودة، ونصبح رفقاء في عهد العودة إلى الهزيمة المستمرة حتى الهزيمة، الغربة الأقسى لا الأقصى، فكل ذلك سيجري بدلال. فكّر في الفدائي الذي أخذ مكانه طوال مدة استشفائه، وقال: هو لا يفهم معنى الدلال، ولا أحد هنا يريد أن يفهم. وهمّ بالذهاب إليه، ليسأله عن عمد لماذا لا يريد الذهاب إلى الأوكار، فيرى الزبد في شقوق شفتيه، والعكر في جروف عينيه. سار أسعد باتجاه التل، وهو لا يكف عن الترداد: في حزيران الماضي حصلت مواجهة! في حزيران الماضي حصلت مواجهة! والآخر لا يريد أن يفهم، لأنه يحب أن يكون على طريقته، وهذا من حقه، حتى ولو كان على خطأ أن يكون على طريقته. وأنا أيضًا أفكر في هدف رصاصاتي، أختلف عنه، ولكنني أفكر بنسق معين يبدأ أو ينتهي مع بداية ونهاية كل رصاصة، وعلى أي حال، أفكر بنسق معين. هل هي الأنانية مرة أخرى؟ أم التفرد؟ أم العصبية؟ أم خطورة الحلم؟ وجمال الخطر؟ نلتقي، في الأخير، ويجمعنا عدم اللقاء، يا صديقي؛ لأننا جميعًا وطنيون حتى النخاع! أما عني، فأتعلق بـ(( خضرة ))، عاهرة المخيم أحيانًا، وأحيانًا أخرى ((باليونانية ))، الحلم الفقيد! هل هو ذنب إخلاصي؟ ذنبي أن أكون نفسي في هذا الزمن اللعين.
صعد أسعد التل، وهو ينفخ، فلم يجد الفدائي الذي أخذ مكانه أثناء إجازته المرضية، لم يكن هناك، وهناك كان رماد المرايا، والعالم المحترق بصمته. هبط التل بصعوبة مثلما صعد، وسار على حافة الجحيم إلى مكانه السابق، تحت شجرة الكستناء، وراح ينتظر إسكندر أن يأتيه. فجأة، طار من الشجرة عصفور، وراح يسقسق، وراح يحلق، وراح يبتعد، حتى سطح بناية مخفر الشرطة المقابل للمعسكر في الشارع العام. لفَّه الصمت، ثم عاد يسقسق، وأسعد يفكر: ماذا لو أصبح عصفورًا! وما لبث العصفور أن راح يحلق، ويحلق، إلى أن صار جزءًا من برق الذهب الأصفر المدمر.





2
بدا لإسكندر أن المجتمعين لن يخرجوا بقرار آخر، فأبو غزة لم يزل مصرًّا على أن نترك أبا حابس في حاله، ويتركنا في حالنا! وقد أكد مكان الفاعل والمفعول كما تقضيه الظروف، والظروف تقتضي أن يكون ذنبنا، وأن تكون الطائرات المحولة برهانًا ضدنا!
كان أبو غزة قد أخذ الكلمة فقط لخمس دقائق، وها هو يتكلم، منذ ساعة، دون توقف، فهو معتاد، منذ طفولته، وهو يتقن فن الصنعة، صنعة الكلام! لكنه كان يدافع عن حقوق عامل أبيه الأوحد أبي سمسم، في مصنع الطحينة الأوحد في غزة، ولو بالكلام. ولأن أباه لم يكن يرضيه ذلك، كان يأمر أبا سمسم، خلال وقت راحته القليل، بحمل
(( المُدافِع )) عن حقوقه على كتفيه نكاية به، فتعم أبا غزة الراحة، على الرغم من كل شيء. وعندما كان يرى انبثاق العرق على الجبين المغضن، كان يشعر عليه بالإشفاق، فبُنيت شخصيته، منذ كان طفلاً، على الازدواج: فهو يشفق على أبي سمسم بينما يريد أن يكون محمولاً على كتفيه، وهو يغضب من معاملة أبيه لعامله الأوحد بينما يريد أن يزيد أبوه من عدد العمال، وهو سعيد لأن مصنع أبيه يغطي من الطحينة احتياجات غزة بينما يريد أن تخترق الطحينة حدود غزة إلى سيناء، وربما، بعد ذلك، إلى مصر، ثم إلى العالم أجمع. وبسبب الازدواج هذا، أيَّد ضم غزة إلى مصر، ولم يؤيد إلى الأردن ضم الضفة. وبسبب الازدواج هذا اعتبر نفسه ثوريًّا لارتباطه بمصر، ورجعيًّا لارتباطه بالنفط! راح أبو غزة يطلق التأوهات، أثناء الكلمة التي أخذها، دون أن تكون التأوهات في محلها، فهو قد تذكر أيام الكويت، وبداياته الصعبة فيها، بسبب (( مارق )) فلسطيني، اسمه أبو عدنان، جاء الكويت، وهي في عزِّها، وغدا وكيلاً للوزير، وعلى الرغم من تمسحه بأبي عدنان حتى حك العظم، فإنه فشل في الحوز على رضاه، وبالتالي على رضى الوزير، وتحقيق هدفه (( الازدواجي)). حقًّا جعلوه يعمل الثورة لأجل أن يمسحوا به الأرض، ولكن لأجل أن يمسح هو أبا عدنان بالأرض أولاً: مسألة الازدواج مرة أخرى!
تفاجأ الحاضرون، عندما نهض الدكتور، المسؤول عن تحويل الطائرات، وأخذ الكلمة:
- أريد أن أفشي لكم سرًّا ستزنون حالاً خطورته: اعلموا أن أبا حابس يسعى لحل مسألة الازدواج لصالحه.
انتبه الجميع إليه، وأكثر ما انتبه إليه أبو غزة الذي صاح:
- ماذا؟ أن يحل مسألة الازدواج، ولصالحه!
- كما أقول لك، يا أبا غزة، كما أقول لك، ولغزة، وللتاريخ، قولي هذا التاريخي!
أخذ قلب أبي غزة يدق بعنف: إذا حلَّ أبو حابس مسألة الازدواج، ولصالحه، قضى عليه، فأين أنت منَّا اليوم يا أيام غزة؟ وهذا المقدسي المتمسح بأقدام دولة كذا، وبدولارات دولة مذا، والذي غير مبادئه ملايين المرات، يأتي ليقول لي قولي هذا التاريخي، وأنا، أين أنا من هذا كله؟ الكل يعرف أنه ملوث ككل الملوثين هنا؟ هذا لطش، وهذا شفط، وهذا لهط، فلا أحد يعلو منهم على أحد! كان الدكتور قد قال كل الذي أراد قوله دون أن يسمع أبو غزة مما قاله كلمة واحدة:
- اقترحنا تسليم الطائرات والرهائن على أساس لا غالب ولا مغلوب، فرفض أبو حابس، ومرة أخرى، اقترحنا تسليم الطائرات والرهائن ومن قام بالعملية على أساس غالب ومغلوب، فكرَّر أبو حابس رفضه، وقال لنا: مطار الثورة مطاركم، والطائرات المحولة طائراتكم، والرهائن رهائنكم! نحن أصحاب نظرية اللا، واللا، الرافضون لكل شيء، ينافسنا أبو حابس بسلاح فكرنا الثوري!
هتف القائد حسان: نحن أصحاب نظرية اللا والنعم، نجيب لا ثورة بلا نظرية ثورة!
اندفع أبو غزة يصرخ: نحن أصحاب نظرية النعم والنعم، نجيب
لا ثورة بلا عمل ثوري فلسطيني عربي دولي!
قال إسكندر:
- أبو حابس يعد لضربتنا هذه المرة، الطائرات المحولة هي الذريعة، وهو لا يماطل إلا ليؤجج الرأي العام أكثر إلى جانبه، ويتم الاستعداد.
خبط أبو غزة على صدره:
- مستحيل! سأتصل الآن أمامكم بأبي حابس، وأنا الضامن! أنا
أبو غزة الرأي العام والجماهير والأحزاب، لا أحد غيري! وبيني وبينك، يا حكيم، جماعتك آذت أبا حابس قليلاً بهذه العملية، وخليها مستورة، أتريد أن نكشف الأوراق، كل الأوراق؟ لهذا خلونا من مثل هذه العمليات، لئلا يلعب أبو حابس على أعصابنا، أما أن يهاجمنا، فأنا لا أعتقد بذلك، ولن أعتقد أبدًا بذلك، أولاً لأننا تركناه طوال الوقت في حاله، وثانيًّا لأننا الأقوى!
تدخل القائد حسان:
- يا أبا غزة! حتى لو سلمنا بكلامك، فالمفروض أن نتخذ الاحتياطات لكافة الاحتمالات، ونعمل هنا والآن على تطبيق شعار جبهتي العبقري: كل السلطة للمقاومة! ولا سلطة تعلو على سلطة المقاومة!
- قلت لك أنا الضامن، يا سيدي الرفيق حسان، يا أبا ست الحسن والجمال، ولا تزدها علينا قليلاً من فضلك، فالكل هنا والآن في الهم سواء!
- أبو حابس خبيث! وهاأنذا أحثكم بالثورة عليه، يا آباء الثورة، وبالهتاف الثوري: كل السلطة للمقاومة! ( وصاح القائد حسان بأخشن صوت): كل السلطة للمقاومين الأبطال!
- أبو حابس في جيبي، والجماهير في جيبي، وكل المقاومين الأبطال في جيبي! كلكم يعرف، وليس هذا بسر، ماذا يقول لي أبو حابس كلما ألتقي به، أبو حابس يقول لي كلما ألتقي به: أنت عجزي! وأنا مندهش منك، يا أخ حسان، يا أبا ست الحسن والجمال، كيف لا تفهم مغزى هذا الكلام على الرغم من أنك غزاوي مثلي! (قاطعه أبو ست الحسن والجمال قائلاً إنه ليس غزاويًّا مثله، ولكنه تجاهله مضيفًا): الدكتور الذي هو مقدسي، مسيحي، من أبناء مدينة الحرم الطهور، فهمني، على الرغم من أن تحويل الطائرات، وهذا رأيي الشخصي، لا يعجب أحدًا...
أمام أمارات الدكتور المستاءة، أردف أبو غزة بسرعة:
- أريد أن أحتج، يا حكيم، على التوقيت لا على الطريقة، فالطريقة سوبرمانية عبقرية رهيبة، وأنا معجب بكل ما هو سوبرمانيّ في شعبنا!
أمام أمارات الدكتور المرتاحة، أردف أبو غزة بسرعة أكثر:
- وهكذا، وبعد موافقة الجميع، ومن منطلق الوحدة الوطنية، أطلب إعطائي حق الاتصال بأبي حابس كي أقنعه بإطلاق سراح الرهائن، وحل المسألة دون إراقة قطرة دم واحدة؛ لأن دم شعبنا عزيز على دمي! وشرطي عليكم أن تمسكوا أعصابكم جيدًا، وتتماسكوا... انظروا إلى أعصابي كم هي متينة (وصرخ بعصبية): من حديد!
لكن القائد حسان عاد إلى التحذير:
- يجب استنفار جبهاتنا على كل حال، وتطبيق شعارنا العبقري الموضوعي العلمي: كل السلطة للمقاومة هنا والآن في الحال! ولا ثورة ثورية بلا نظرية ثورية!
فقد أبو غزة أعصابه بشكل عنيف هذه المرة:
- كيف لا يمكن لغزاوي ثوري أن يفهم غزاويًّا ثوريًّا آخر في مثل هذه الظروف الحرجة!
وفقد القائد حسان أعصابه بشكل أعنف: لست غزاويًّا، يا أبا غزة، ولم كل هذه العنصرية، والشوفينية، والتعصبية، إلى آخره، وغزة هي العزة، امرأة صور، سيدة كل عصر، وأولها عصرنا آخر العصور؟
حاول أبو غزة التماسك:
- أمرك، يا سيدنا القائد حسان، يا أبا ست الحسن والجمال، سنستنفر، ولكن الأوكار فقط، لئلا نثير غضب أبي حابس أكثر علينا، فلا يتركنا في حالنا، ويعمل على تطبيق شعاره الجهنمي اللاموضوعي واللاعلمي، كل المقاومة للسلطة هنا والآن وهناك وآنذاك في الحال!
هتف الدكتور على حين غرة: لا ولا ولا! ثم أطبق فمه، فلم يعرف أحد لم هذه اللاءات الثلاث.
توجه أبو غزة إلى إسكندر:
- كنت قد طلبتك لأمر آخر، أظن أنه كان التدريب، الإسراع في التدريب، ولكننا سنتحدث عن هذا في وقت آخر، أبلغ، يا أخ إسكندر، الاستنفار إلى أوكارنا، وسنحدد مسؤولية كل واحد فيما بعد.
خرج المجتمعون من البراكة، وعلى وجوههم آثار العرق وحمى النقاش. كان بعضهم يفتح قميصه، وبعضهم الآخر يطوي تحت ذراعه كوفيته، وفي أيديهم باكيتات سجائرهم الأمريكية وأشياء أخرى ودولارات. ركبوا سياراتهم الجيب أو الخاصة، وما هي سوى عدة لحظات حتى غادروا المعسكر، وتفرقوا كالأجنحة كل في طريق، بينما بقي إسكندر وأبو غزة يتهامسان في ظل البراكة الضيق إلى أن قال
أبو غزة:
- لا تبلغ أمر الاستنفار إلى أوكارنا في الحال، يا أخ إسكندر، انتظر مني أمرًا آخر.
أمام استغراب إسكندر أوضح:
- أريد أن أقابل أبا حابس أولاً، لأني أخشى أن يثيره الاستنفار، فيعمل على ما ليس في صالحنا.
كان أسعد قد جاءهما، ودخل في الظل الضيق معهما.
قال لأبي غزة:
- لو صرت عصفورًا، فهل تقاتل من أجلي؟
ضحك أبو غزة، ثم كشر، وقال:
- أنا العصفور الذي ستقاتل من أجله!
أضاف بسرعة:
- أريدك أن تكون واقعيًّا، الواقعية بالنسبة لنا سمة العبقرية، نضرب الرصاص، ونحتفل بالعصافير! نضرب العصافير، ونحتفل بالرصاص! نقدم أرواحنا رخيصة في سبيل الوطن، ونلد نسلاً جديدًا، ولا علاقة لنا إلا بفلسطين وبالمرأة الفلسطينية! انظر ماذا فعلنا للمرأة الفلسطينية! جعلناها في التمريض، وفي التعليم، وأعطيناها السلاح، دون أن ننسى أنها المرأة أم الأولاد صانعة الأجيال! لقد فهمنا نحن وحدنا في العالم العربي قاطبة معنى تحررها!
قال أسعد ما كان يريد قوله فجأة:
- أرجو أن تعفيني، يا أبا غزة، من مهمة الغد، تخليت عنها للفدائي الذي كان يأخذ مكاني طوال مدة إجازتي المرضية.
أمام المفاجأة التي أحدثها لأبي غزة ذهب متابعًا:
- إنها العملية الوحيدة التي لم يحلم بمثلها طوال حياته، وبإمكاني، بإمكاني أن أقوم بأخرى في المستقبل.
وأبو غزة يدور على نفسه كديك مهاج:
- الله! الله! أبمثل هذه السهولة تتم الأشياء! انظروا إلى الانضباط كيف تتلاعب به عواطفنا!
واحتج:
- مرة أخرى، أقول لك، أنا أبو غزة، لا مكان للأحلام عندنا! نحن أناس واقعيون، ولشدة واقعيتنا نعرف تمامًا ما في البيضة أنثى كان أم ذكرًا! لا مكان للأحلام عندنا ولا للعواطف! ستقوم أنت بالعملية. الوطن قبل كل شيء! ونضالنا هناك، أفهمت؟ هناك. ليعلم العالم أن لا مطمع لنا إلا في تحرير الوطن، وتحرير الوطن يبدأ بالنضال هناك. غزة احتلها الفرس، وتحررت، احتلها الإغريق، وتحررت، احتلها الرومان، وتحررت، حررها أبناؤها الذين يناضلون هناك. أما عنه...
تدخل أسعد بيأس:
- ليكن رفيقي إذن ومساعدي.
- سأرى إذا كان في هذا انتصار للمهمة. الانتصار شيء غالٍ على قلوبنا جميعًا، ولماذا ترانا نهب أرواحنا للوطن رخيصة؟
توقف أبو غزة عن الكلام فجأة، أخذ ينشف عرقه بضيق، ثم نفخ كارهًا:
- أين هو سائقي، ذاك اللعين!
وفي اللحظة ذاتها، تقدمت من أبي غزة سيارة بلايموث ضخمة موديل 70، فاتجه أبو غزة إليها مهرولاً، وسمعاه يصرخ بالسائق:
- أين أنت، أيها الغبي! لماذا لم تكيف السيارة أيها المتخلف!
وأسعد قد غدا تمثالاً على وشك الانهيار إلى أن شعر بأصابع إسكندر على ذارعه:
- تعالَ نذهب إلى مقهى، ونشرب شيئًا مثلجًا!








3
مخيم الوحدات! أكواخ خشبية، غرف طينية، أنصاف دكاكين، وتناكيات، أخذ إسكندر وأسعد طريقًا محفرًا ضيقًا، فشاهدا هنا وهناك وشم الحريق، وبعض الأنقاض. خرج صبي من باب محطم، وراح يجري من أمامهما ثم اختبأ في الركام. عندما أصبحا على مقربة منه، علا برأس الديك المختال، ونصب ذراعًا مصممة على شكل بندقية. تقدم من إسكندر، وصاح:
- ارفع يديك وإلا أطلقت الرصاص!
رفع إسكندر يديه، وهو يقول للصبي منبهًا متظاهرًا بالخوف:
- سترتكب خطأ فادحًا، أيها الفدائي الصغير، فنحن من جبهة واحدة!
ضحك بقوة، وهو ينحني على الصبي، يريد رفعه بين ذراعيه، إلا أن الصبي انتفض مبتعدًا، وانتهر إسكندر بدفعه من ذراعه المنتصبة دومًا:
- إذا كنا، حسبما تدعي، من جبهة واحدة، فقل كلمة السر تنجُ!
قال إسكندر، وابتسامته بدأت تمحي:
- بحر في زجاجة!
وكأنه أنهى إليه نكتة، انفجر الصبي ضاحكًا، وذهب عائدًا من بابهم المحطم، ثم ما لبث أسعد وإسكندر أن سمعا الصبي يصيح مرددًا.
- بحر في زجاجة! بحر في زجاجة!
إلى أن جاءهما صوت الأم المؤنب:
- بحر يجرفك من صميمك!
أوضح الصبي:
- هذه كلمة السر، يا أمي!
خرج إلى الطريق الثانية، فرأى إسكندر وأسعد، وهما في مكانهما دومًا، ينظران إلى الباب المحطم، ويصيخان السمع.
لاحظ أسعد كيف امحت في وجه الصبي أمائر البراءة، وكيف دفع قدمًا تلو أخرى، وغاب مع الطريق المنحرف. سمعاه يصيح، زجاجة في بحر! زجاجة في بحر! أرادا أن يذهبا إلى البحر، فأتاهما صوت قبقاب يطرق الأرض. أطلت أم الصبي من حطام الباب: طويلة، سمراء، شاحبة، شعرها مجعد، وثوبها مطرز بخيوط دموية اللون تسحبه على الأرض، وقرطان فضيان لها كبيران على شكل الطوق. وحين رأتهما تقهقرت، وتخبأت، فابتسم أسعد، وعلق إسكندر:
- امرأة شاحبة كمريم المجدلية!
وتابعا سيرهما... كان أسعد يفكر في البحر، في البحر المختنق في زجاجة. كيف قالها: كلمة السر؟ كيف قيلت؟ تطلع إلى إسكندر، فرآه يرفع قامته القصيرة إلى أعلى، يفكر في مريم المجدلية ما في شك! وبالفعل قال إسكندر:
- أعرف زوجها، لم يشأ أن يصبح فدائيًّا، فقتلته مدافع المواجهة الأخيرة.
همهم أسعد:
- أتراهم طلبوا إليه أن يعطيهم كلمة السر قبل أن يقتلوه؟
كان أسعد يلقي نظره على خطواته، خطوات الفدائي القادم من بطن أريحا الأحمر، وبعد عدة أمتار مشاها صامتًا، سمع إسكندر يقول:
- رفضت مريم المجدلية أن تأخذ تعويضًا.
- لأن زوجها لم يكن فدائيًّا؟
- لأن دولارتنا ملوثة بنبيذ الرومان... هذا ما قالته مريم.
اغتص سعد، وكشف:
- في مخيم عقبة جبر الأسود من كل فحم الدنيا يرفضونها هم أيضًا، لأنها ملوثة، ولأنها من فتات الزعماء والوجهاء وأبناء كبار العائلات التي تذهب الدولارات باسمهم.
كان الصبي قد عاد يجري متسابقًا هو ومجموعة من صبية آخرين، وهم يصيحون: زجاجة في بحر! زجاجة في بحر! مروا بأسعد وإسكندر، فحركوا هواء المخيم، دون أن يؤثروا في نيران الجحيم التي فيه، ثم ابتعدوا. كان طفل في الخامسة أو الرابعة يعدو في أثرهم، وهو يبكي، كان لا يستطيع اللحاق بهم، وكان عاريًا، لا يتوقف عن البكاء. أحس إسكندر برغبة في حمله والجري به، فسمع أسعد يقول ضائق النفس:
- أتساءل عما سيفكر فيه أطفال مخيم عقبة جبر بعد أن يصبحوا رجالاً بصلابة الحجارة.
كان إسكندر قد تابع طريقه، وكان بكاء الطفل قد ابتعد، وأسعد قد راح يعد خطاه في نار جهنم إلى أن سمع إسكندر يقول دون أن يلتفت إليه:
- عندما أردنا الانسحاب من قريتنا (( جفنا )) سنة 67 إلى بير زيت تنفيذًا لأوامر القيادة، سمعت بين الكروم حركة مباغتة جعلتني أطلب كلمة السر دون أن أسمع جوابًا، فأطلقت الرصاص، وإذا بي أخطئ ذراع أبي التي شُلت إثر وقعة قديمة له عن شجرة زيتون، وأصيب ذراعه السليمة. عندما رأتني أمي انعقد لسانها من أثر الصدمة، وفقدت النطق، سقطت على الجرح، وراحت تغسله بدمعها. كان أبي قد غاب عن الوعي لحظة إصابته، فلم يشاهدني قاتلاً لذراعه، ولم تفش أمي بالسر بعد أن فقدت النطق، أو ربما فضلت السقوط في الصمت لئلا تفشي به. كان أبي قد جاء ليشارك ببندقية الخرطوش التي له في الدفاع عن القرية، ولم يكن يعرف كلمة السر. عندما عادت أمي بأبي إلى البيت، كانت بمصيبة، وصارت باثنتين حين وجدت أخي ميشيل مقتولاً: بدا وجهها للناظر مثل قناع ممثل مأساوي حُفر في اللحم! أما عن أبي، فقد ظن أنهم الصهاينة، وأنه قام بواجبه على أكمل وجه. تراه يشير إلى ذراعيه المشلولتين باعتزاز، ويشتم كل المناضلين المزيفين الذين هربوا، وأمي تهز رأسها على الجانبين، ولا تكف عن الابتسام.
عاد الطفل العاري يجري أمامهم، ويصرخ، دون أن يكف عن البكاء، فطلب أسعد إلى إسكندر:
- انظر إلى الصغير العاري!
صغرت عينا إسكندر، واسودتا، حتى غدتا بلون الفحم. تشبث بأوتار قيثارة ضخمة، وقال:
- ولكنه يصرخ ويجري هذا المسيح القادم!
اشتعل الفحم حتى غدا جمرًا، فبدا أسعد سعيدًا. كانا قد توقفا على عتبة المقهى، فسأل إسكندر صديقه:
- أنجلس تحت العريشة هنا، أم تفضل أن نختار مكانًا من الداخل؟
كان أسعد قد جلس على كرسي واطئ من القش تحت العريشة، واستند بذراعه على طاولة قصيرة. التفت إسكندر، وهو يجلس، إلى أعواد القصب المتوازية، ثم إلى عناوين الجرائد التي في أيدي بعض الزبائن عن الطائرات المحولة: الفدائيون يتحَدّون العالم! إسرائيل تهدد بالتدخل! الأسطول السادس الأمريكي في حالة استنفار! الأردن سيبقى قاعدة للعمل الفدائي الشريف! نهض أحد الزبائن فجأة، وراح يمزق الجرائد، فقامت حركة عنيفة بينهم انهزم فيها الجميع، ولولا تدخل صاحب المقهى بمسدسه لتحطمت كل كراسيه. نفخ صاحب المقهى خيط الدخان المتصاعد من فم المسدس، وأطلق تنهدة، ثم جاء أسعد وإسكندر بوجه كأنه قناع من التجاعيد، وبدأ بصوته الأبح يلعن المخيم وأهل المخيم، لأن نصف أهله عرصات، ونصفهم، والله الحق، فدائيون أشراف على رأسه وعينه! نصفهم مخابرات على وجوههم ألف غطاء وغطاء، ونصفهم على بركة الله، عرايا كما ولدتهم أمهاتهم! نصفهم حشاشون، ونصفهم لا يعرفون طعم السجائر! نصفهم أونطجية ولصوص ونصابون، ونصفهم أطهار وأنقياء وأغبياء إلى حد ذرف الدمع! اللهم احفظنا من النصف الأول مرة واحدة، ومن النصف الثاني عشرين! وأنا ماذا استفدت من الذين مع تحويل الطائرات والذين ضده غير تكسير الكراسي!
وكأنه تذكر فجأة ما تمليه العادة، فسألهما بصوته الأبح عن الأحوال، وتمنى لهما بصوته الأبح الانتصار، وعلق قبل أن يعرف ما سيطلبانه:
- هذا اليوم من أيام جهنم!
ليحثهم على طلب كازوزة مثلجة أغلى ما عنده.
قال إسكندر:
- لا أعرف ما سأشرب.
حضَّه صاحب المقهى:
- لدي كازوزة مثلجة على كيفك!
لاحظ أسعد أن الرجل يقبض على قطعة ثلج حين وضعها في فمه، وراح يمد لسانه كالكلب لاعقًا إياها، فتساءل كيف لم تذب له في هذا الحر، وطلب:
- أريد قهوة ثقيلة.
أصيب صاحب المقهى بخيبة، فحدق في شفتي إسكندر، وكله رجاء.
- أما أنا، فأعطني كازوزة مثلجة.
هتف صاحب المقهى:
- سأعطيك كازوزة مثلجة على كيف كيفك!
ذهب، وهو يكسر قطعة الثلج بأسنانه، بينما راح أسعد ينظر إلى طرق المخيم: لم يكن أحد هناك! رأى بعض الأبواب المفتوحة، فثارت زوبعة الصمت، وتضاعف جو الصحراء. قرأ على بعض الجدران كتابات طينية: الموت للخونة! تسقط الإمبريالية! تعيش الثورة الفلسطينية! الخلود لشهدائنا! واستطاع أن يقرأ على جدار بعيد: يعيش جيفارا!
همهم إسكندر، وهو يستند بظهره على جدار المقهى الخشبي:
- يعيش جيفارا في القلوب!
رأى أسعد عصفورًا، ربما العصفور ذاته الذي كان في شجرة الكستناء، رآه يحط على العريشة، وكذلك رآه إسكندر الذي علق، وهو يحاول الابتسام:
- لم تزل هناك عصافير في هذا الجحيم!
نظر أسعد إليه بعينين زائغتين، وهمهم:
- لما كنت طفلاً كنت أصطادها، وكنت أجمع منها سبعة أو ثمانية في النهار أصنع منها عشاء طيبًا.
ابتسم، وهو يتذكر قول أبي غزة، نضرب الرصاص، ونحتفل بالعصافير! نضرب العصافير، ونحتفل بالرصاص! فراح يقول:
- ولكنني كنت طفلاً!
كان إسكندر ينظر إليه، وهو يحاول، بآذان صاغية، أن يلتقط كلماته قبل احتراقها على شفتيه.
سمعه يهمهم بتعاسة:
- لقد كنت طفلاً! لقد كنت طفلا شقيًّا!
مد ساقيه، ونظر إلى بعض الحصى تحت قدميه:
- أما اليوم، فالأمر يختلف، مع أني أملك أدوات صيد متينة! أتظن أن كلام أبي غزة سيخدعني؟
كان إسكندر يفكر: كانت، حتى الآن، كل عملياته موفقة! زمَّ أسعد شفتيه، ونظر إلى الجدار، ودمدم: يعيش جيفارا! خرجت إليه ((اليونانية)) من الجدار، وهو تومئ، وتبتسم، فكشر، ثم ما لبث أن نبر:
- ليس أبو غزة العصفور الذي أقاتل من أجله!
مال إسكندر بكرسيه، وقال بهدوء أزعج أسعد:
- على الأقل، أبو غزة يحقق لك القيام بعملياتك، ورغم كل ما يعاب عليه يبقى عنصرًا وطنيًّا.
انفجر أسعد يضحك كمن يدغدغه أحدهم، وراح يقول مستهزئًا:
- لا تبرر لي، من فضلك، سيارته الفخمة، ولا زوجته الأفخم، وتعامله مع أصحاب الفخامة الآخرين تحت حجة نترك أبا حابس في حاله ويتركنا في حالنا!
رمى أسعد العصفور بحجر، ليتأكد من أنه ليس خيالاً، في الوقت الذي جاء فيه صاحب المقهى بما طلبا، وهو يعيد بصوته الأبح:
- هذا اليوم من أيام جهنم!
حدث إسكندر نفسه، وقال: ليس هذا ما يريد قوله! رفع زجاجة الكازوز، وعبَّ كثيرًا من فوهتها. ابتسم الرجل، وقال دون أن يطلب أحد منه:
- لقد عشت في حياتي الهزيمتين!
ضاعف الابتسام قبل أن يضيف:
- من العار أن يعيش امرؤ هزيمتين في حياته!
كان أسعد قد زحف في تجاعيد وجهه، وفكر برعب: عاش في حياته هزيمتين! وعزم على الذهاب عند (( خضرة ))، عاهرة المخيم، حالاً، ليقوم بفعل العشق معها مرتين أو ثلاث. سأل الرجل بصوته الأبح:
- ترى متى سنعود (( إليها ))، يا شباب؟
أجاب إسكندر بعجلة: عما قريب!
وللمرة الأولى، كست كلمات إسكندر طعم الهزيمتين، فرأى ذراعي أبيه المشلولتين، وابتسامته الفخورة بمصابه، غدا بينه وبين نفسه حزينًا، وعلى شفتيه راح يرسم للرجل ابتسامة أخرى. وقبل أن يتركهما صاحب المقهى، سمعاه يردد بصوته الأبح:
- عما قريب، سنعود (( إليها ))، عما قريب!
جمجم أسعد، وفي حلقه شفرة سكين:
- نعم، عما قريب!
كان في صوته رجاء، يأس وسخرية ورجاء.
مرت بهما كوكبة من الأشبال، في الحرارة اللاسعة، وهي تهتف:

عما قريب
سنعود إلى الوطن البعيد
فاعقد العزم أيها الشبل!

راح أسعد يحدق في (( اليونانية ))، وقرأ من جديد: يعيش جيفارا! وإذا بإسكندر يكشف:
- سنكون في حالة استنفار بين لحظة وأخرى.
شد انتباه أسعد إليه قبل أن يسمعه يضيف:
- هناك تطورات خطيرة.
لاحظ كيف يعتصر إسكندر في قبضته الكأس التي لم يشرب منها، كانت الكأس باردة، وقبضته من جمر:
- أبو حابس، هذه المرة، سيحاول حل مسألة الازدواج لصالحه بعد أن ساعدته عملية تحويل الطائرات على مضاعفة التخويف والتيئيس والتمويه، وكل هذا يدفع إلى...
وسكت فجأة.
هجم على إسكندر ظل الصبي صاحب كلمة السر، ووقع تحت وطأة صورة أمه التي قال عنها شاحبة. فكر فجأة أن المرأة والصبي ليلة القصف كانا غائبين، وأخذ يردد في صدره: لحسن الحظ! لحسن الحظ! بينما رفع أسعد فنجان قهوته، وراح يرشف مائعها الأسود ببطء قبل أن يقول:
- كل هذا يدفع إلى مواجهة جديدة، وكذلك العصبية والتعصب والغباء والعماء الذي يلبسه أبو غزة عبر تلك المدينة التي صمدت للحروب منذ كنعان إلى الآن صمود الجبابرة: أبو غزة الأنا أنا، (( أنا )) الجماهير، (( أنا )) العصافير، (( أنا )) الأحزاب!
قبض أسعد على قلبه، ولم يقل: كل شيء سيمضي بسرعة، وقد أفلتت من يدنا العربة! لكنه همهم بمرارة:
- وأبو غزة لم يزل يقول (( نتركه ويتركنا )) (( يتركنا ونتركه ))!
- الأمور خطيرة!
- ماذا سيفعل؟
- سيحاول أولاً أن يحل الأمور على طريقته، وإذا فشل قاتل، كلنا سنقاتل، ليس لنا خيار آخر! ليس له خيار آخر! سيقاتل أبو غزة!
- ليجلس مع إسرائيل على مائدة المفاوضات؟
نبر إسكندر:
- أبو غزة عنصر شريف وطني ومخلص على الرغم من كل خريناته! لا تضعه في صف واحد مع المفتضحين!
كانت قبضته تعتصر الكأس دون توقف، وأسعد يهمهم متهكمًا:
- أتمنى ألا أظلمه.
- هو قائدك على كل حال.
- نعم، هو قائدي، ألم تسمع بالمثل القائل: انصر قائدك ظالمًا أو مظلومًا؟
ظل إسكندر يعتصر الكأس دون توقف، ويحس بها تقاوم في قبضته. ارتد زجاجها ساخنًا، وقد راحت تنتفض في يده كأنها العضلة. أخذ دمه يغلي، وثار الدم في عروقه، لكنه تمالك ذاته عن الغضب، فأحس في عروقه بثورة مختنقة. تساءل أسعد:
- هل سأصبح مزيفًا يومًا؟
أمام صمت إسكندر، أخذ يؤكد:
- سأصبح مزيفًا، وسترى!
رمى البذلة التي يرتديها بنظرة سريعة، وهو يفكر: مات جيفارا! فسمع إسكندر يقول مشددًا على كلماته:
- لن تصبح مزيفًا!
انحنى أسعد على الطاولة القصيرة، وقال بألم:
- إذا عشت القضية بمنظار خاطئ، كنت مزيفًا، ومزيفًا حتى النخاع!
ثم أضاف:
- لكنني سأمثل دوري.
اختفى وزن الكأس في أصابع إسكندر:
- سنرد الصاع صاعين، لدينا مخازن ملأى بالأسلحة، لا يغب عن بالك هذا، ونحن يقظون. سنجعلها دمارًا عليهم، حتى ولو أدى ذلك إلى الدمار النهائي!
أعاد أسعد ساخرًا:
- نعم، حتى ولو أدى ذلك إلى دمارنا النهائي!
تفتت الكأس إلى مليون مركب محطم، وتفجر الدم زنبقًا أحمر. جمدت نظرات أسعد على رؤية الشلال، وكأن أحدهم قد أمسكه من كتفيه، وهزه، وهزه، حتى أداخه.
سمع إسكندر يقول:
- الدمار لهم فقط، للخونة ومن لف لفهم!
وراح يطلق ضحكته البريئة التي لطفل، والتي أوجعت قلب أسعد. فكر، مرة أخرى، وهو ينظر إلى الجرح: مات جيفارا! كان ينظر إليه مذهولاً. جاء صاحب المقهى حالما سمع صوت الكأس التي تحطمت، وسارع بإحضار صبغة اليود، وإسكندر يردد:
- ما هي سوى حادثة صغيرة، ما هي سوى حادثة صغيرة!
حذره صاحب المقهى بصوته الأبح:
- ولكن حذار، فنحن بحاجة إليك، وإلى كل الشباب الذين هم مثلك لما نخوض حرب التحرير القادمة.
وإسكندر لا يتوقف عن ترديد:
- إنها حادثة صغيرة! إنها حادثة صغيرة!
ربط يده بالمنديل، دفع ثمن ما شرباه، وثمن الكأس المحطمة، ثم أخذ وأسعد يسيران في خط منحرف يصب في أعماق المخيم.
4
انتظر أبو غزة طويلاً على باب أبي حابس المجتمع برؤساء العشائر إلى أن انفض الاجتماع، فأطلق أبو غزة زفرة ارتياح، ووقف، كما كان يفعل في أوقات أخرى، ليأخذ رؤساء العشائر في الأحضان، ولكن أحدًا منهم لم يسلم عليه، بل رماه بعضهم بنظرات الغضب، ولم يتوان بعضهم عن رميه بنظرات الازدراء.
لم يبتلع أبو غزة الإهانة بسهولة، فدخل على أبي حابس، وفي عينيه دمعات الخيبة ونظرات العتاب، وعندما وافاه بالخبر، مسح أبو حابس طرف شاربه الأيمن، ثم طرف شاربه الأيسر، وقال ما هو إلا سوء فهم. اندفع بظهره على كرسيه، وطلب أن يترك له الأمر، ووعد بأن يجمعه ورؤساء العشائر عما قريب، في خيمة، تمامًا كما كان يفعل الحسن الذكر جلوب باشا، أبوه الروحي، وأمامه صدور المناسف المطبوخة بلبن الناقات، وهو يأكل بيده جلوسًا على الرمل... وراح
أبو حابس يسرد على أبي غزة قصته التي سمعها مرات:
- كنت يومذاك فتى ذكيًّا لم يكتشف مواهبي أحد غير أبي الروحي، سألني إذا كنت أعرف قيادة الناقة ووجهي إلى ذيلها وظهري إلى رأسها، فأومأت بالإيجاب. كان قد حاول قبلي مرات دون أن ينجح، وهو لهذا اعتبر جوابي تحديًا، فأمرني أن أفعل في الحال. نهضت إلى ناقتنا العذراء، والتي راودتني برشاقتها وطراوتها أكثر من مرة، وأنا أتدلع، وأتبخبع، نهضت إليها، وركبتها، وجهي إلى ذيلها، وظهري إلى رأسها، أمسكب بذيلها، ورفعته، ثم دفعت قبضتي فيها، وفضضت بكارتها، فإذا بها تصرخ، وتجري مطواعة كما أريد لها الجري، وإلى أين أريد لها الذهاب!
ترك أبو غزة نفسه يضحك ضحكة طويلة مبالغًا فيها، وأبو حابس عابس، يركز نظره عليه بجد جعله يقطع ضحكته، ويقعد في مكانه متحيرًا، إلى أن سمع أبا حابس يقول فجأة:
- سنقبل بإطلاق سراح الرهائن.
نهض أبو غزة يريد أن يشكره على طريقته، وذلك بأخذه في الأحضان، ولثمه اللثمات الطوال، ولكنه ردعه:
- بشرط أن نرمي الفاعلين في الحبس.
خضع أبو غزة:
- شرطك مقبول، يا سيدي، وإذا أردت أعدمتهم لأجل عينيك! دعني أتصرف!
- تصرف!
ثم تردد، وهو ينقر بأصابعه الممتلئة بالخواتم الذهبية على المكتب:
- ولكنني لا أضمن جبهة الدكتور ذاك.
- ولو، يا أبا حابس، أنا الضامن!
- الدكتور لعين!
- سألعن الدكتور وأبا الدكتور وجدود الذين خلفوا الدكتور!
- هل أعتمد عليك؟
جمجم أبو غزة بخيبة:
- أنا زلمتك، يا أبا حابس!
دخل عليهما الولد حابس، فأخذه أبو غزة في حضنه، وراح يقبله مئات القبلات، وراح يقرصه، ويدغدغه، والولد مغشى عليه من شدة الضحك. وفي الأخير، شاهد أبو غزة ابتسامة طفيفة على شفتي أبي حابس جعلته يسأل مسحورًا:
- هل أنت راضٍ علي الآن؟
- عسى ألا تتدهور الأمور أكثر.
- اللهم احفظنا من أعظم الشرور، وأعظمها أن تتدهور الأمور أكثر!
- أنت الضامن؟
- أعطني ورقة بيضاء.
- خذها.
- بارك الله فيك، يا أبا حابس وفي حابس وأم حابس وباقي المحروسين من بنين وبنات!
وهو في سيارته البلايموث موديل 70، كان أبو غزة في غاية انتشائه. لقد حل الأمر بدبلوماسية رهيبة وحنكة لم يعهدها في نفسه من قبل، وحال دون بحر الدماء. أما الأهم من كل هذا، فهو قد حافظ على الازدواج! أطلق ضحكة رنانة أدهشت سائقه الذي ردعه:
- سق جيدًا، أيها الخائب!
في حالات كهذه، كان أبو غزة يذهب إلى المسجد ليصلي، ويبتهل، ويذرف دمعة تقوى. سقطت من عينيه العاطفيتين دمعة التقوى قبل الأوان، والتي أدهشت سائقه الذي ردعه:
- اذهب إلى الجامع الكبير، أيها الحمار!
في الجامع الكبير، راح الإمام يخطب، ولم تكن خطبة الجمعة، ولكنها صارت عادة الإمام، أن يخطب كل يوم، وبعد كل صلاة، وأحيانًا بعد كل ركعة:
- الله أكبر على الكفرة رافعي الأعلام الحمر على المنارات، مستبيحي الحرمات، مهدري الكرامات، معتقي الخمور، مفسدي الحقوق، ملوثي العقول، محرقي الأفنان، مبغضي الأقنان، مجندي الصبيان، محرري النسوان... إلى آخره، إلى آخره، إلى آخره، يا الله!
وأبو غزة يتبادل نظرة مسترحمة مع الإمام، ويهز رأسه موافقًا إلى الأمام، وفي إحدى المرات، لشد ما كان موافقًا، ضربت جبهته في الأرض، فلعن الشيطان، ولم يستطع، وهو القائد، إخفاء وجعه.
فجأة، رفع الإمام عقيرته بالشكوى:
- نحن المؤمنون قلوبنا كلها تقول نعم لفلسطين الشريفة! نعم للمقاومة الشريفة! نعم للفدائي الشريف! ولا وألف لا للكفرة والعاصين!
ذهب الحاضرون في عاصفة من التصفيق، حتى أنهم هجموا على أبي غزة، ورفعوه على الأكتاف، وساروا به إلى أن أراحوه في سيارته.
صفق أبو غزة عندما وجد نفسه منطلقًا مع سائقه من قوة الاعتزاز، وقهقه، ثم أسال دمعة تقوى ثانية نسي أن يسيلها في المسجد بسبب حماس الجماهير، وعندما لم يدهش ذلك سائقه دهش لعدم دهشته، ودقه في ظهره:
- لا تنسَ المرور على المحمصاني قبل الذهاب إلى البيت، أيها الغبي!
وإذا كان مروره على المحمصاني أمرًا يوميًّا، فاليوم شيء آخر، يستأهل الاحتفال! جاء المحمصاني لاستقباله محدثًا جلبة متعمدة يطرب أبو غزة لها، فهي تشعره بأنه قيادة بالفعل! وبعد أن رد على الألف أهلاً وسهلاً بألف أخرى، بل وأكثر، راحت تكر الطلبات: كيلو فستق حلبي، وكيلو لوز، وأم غزة تحب البندق، لهذا أعطني ثلاثة كيلو منه وتوصى! أما البنات اللعينات، فمغرمات بالملبس والطوفي والحلقوم! وأبو غزة يتنقرش: حبة من هنا وحبة من هناك! كمشة من هنا، وكمشة من هناك! ولا يكف عن سبِّ السائق الذي امتلأت ذراعاه بالأكياس، ثم أخرج محفظة من جلد التمساح، ودفع، ككل قائد، عدًّا ونقدًا.
بعد أن ودعه المحمصاني بنفس الجلبة المتعمدة التي استقبله بها، لاحظ اثنين من الفدائيين يجريان في الزقاق المجاور، وكل واحد بين ذراعيه سلاح وسلة تين. أما بائع الفواكه الذي على الزاوية، فكان يصرخ، ويضرب صدره، ويلعن. جاءه أبو غزة، فأطلق البائع نفسًا، وأطنب:
- رجالك، يا أبا غزة!
- أذبحهم إذا آذوك!
- آذوني!
- آذوك؟!
- اثنان أخذ كل منهما سلة تين، والتين آخر أيامه، غالي بسعر الذهب! من عادتهم أن يأتوا أربعة أو خمسة، يهددون، ويأخذون،
ولا يدفعون!
- سأذبحهم، أعطني أسماءهم!
- سيذبحونني!
- إذن أعطني ما تبقى عندك من تين وسأرضيك!
طبطب على كتفه مستسمحًا، فمسح البائع الزبد عن زاويتي فمه، وقال:
- لدي قصب سكر من كوبا اكسترا!
- إذا كان من كوبا، فهو اكسترا دون أن تقول، ولأجل عين صديقي كاسترو أعطني كل ما عندك!
- ولدي موز من الطوغو.
- لا يعجبني إلا الموز الريحاوي (لف يده حول فمه وراح يغني) ريحاوي، يا موز! ولكنني، مع هذا، سأجرب موز الطوغو!
- ولدي تفاح شامي.
- أعطني ثلاثة كيلو، أم غزة مغرمة بكل ما هو شامي!
- ولدي عنب خليلي، من الخليل بلد الخل، يا أبا غزة!
استذرف البائع دمعه، فطبطب أبو غزة على كتفه:
- أفضل العنب اللبناني ولا مؤاخذة من مشاعرك، فليس فيه بذر، وأنا ليست لدي أسنان! (طرق ظفره على أسنانه القوية، وأضاف): زدني على ذلك صحارة بندورة، وصحارة فاصولياء، وصحارة جوز أخضر.
- موسم الجوز الأخضر انتهى من زمان، يا أبا غزة!
- انتهى! كيف! في غزة موسمه مستمر أخضر ومخضر طول السنة!
أطلق عدة تنهدات متتالية، ورسم ابتسامة أسى، وهو يضيف:
- ولكن تلك غزة! ونحن الغزاويون لمرارته نقرضه طوال الوقت كما تقرض السيسان الخشب! انظر إلى شفاهنا...
أشار إلى شفته فخورًا:
- مخضرة، ممتلئة، مغرية! وانظر إلى أسناننا...
أشار إلى أسنانه فخورًا:
- صلبة، حادة، قاطعة! وانظر إلى نسائنا...
أشار إلى بعض النساء في الشارع فخورًا:
- ناهيات، مشبعات، منهكات! بسبب النشاط الذي يفعل فعله طول الليل! في زيت الجوز معجزات العصر، تجد فيه العجب وعجب العجب!
كان بعض الشحاذين قد داروا بأبي غزة يستنجدونه، فطردهم البائع، وهو يمسح على بذلة أبي غزة الكاكية بكفه، وعلى مسدسه المتدلي من حزامه، ثم مسح له نقط العرق على جبينه، وأبو غزة سعيد. وبينما هو يدفع حسابه، ككل قائد، عدًّا ونقدًا، جاء أحدهم، وسأل عن سعر كيلو البندورة، فأجابه البائع بجفاف:
- عشرون قرشًا!
مما جعل الرجل يطلق صيحة مستنكرة قبل أن يذهب.
جاءت بنت، وسألت عن سعر كيلو التفاح، فأجابها البائع بجفاف:
- إنه تفاح غالٍ من برِّ الشام، وسعر الكيلو دينار!
فذهبت البنت على سماع كلمة (( غالي )) ولم تنتظر كلمة (( دينار )).
وبعد أن ودع البائع أبي غزة بدعوات النصر وامتلاء الجيب وطول البقاء، جاءت امرأة، وفاصلت حتى هلكت، وفي الأخير، طلبت نصف كيلو بندورة، وضمة فجل، وحبتي تفاح لأجل كِنَّتها الواحم، وهي تشتم الحياة الغالية، وأباها، والذين كانوا سببها.
- السبب ليس أنا، يا ست الكل، فلا تظلميني!
نبرت المرأة، وهي تعد في يد البائع ملاليمها:
- السبب هم أصحاب القدرة القادرون على كل شيء!
- اللهم سترك!
- وهل نطلب غير الستر؟
لعلعت في سماء عمان سلسلة من الطلقات، فتصايح الناس، وهربوا، وتخبأوا. فجأة، اقتحمت الزقاق شلة من الظلال، وراحت تثير الذعر، بعد أن قلبت بسطات الفواكه، وحطمت بعض الأبواب، وداهمت بعض البيوت، وساقت بعض الشبان إلى سيارات كانت تتوارى عن الأنظار. وأبو غزة في سيارته المكيفة يحس بالاعتزاز، والافتخار، يحس بالانتشاء: مسألة تحويل الطائرات حلها، والصدام حال دونه، والازدواج لم يزل علمًا مرفرفًا، وهو ذاهب إلى بطن أم غزة الذي في شهره السابع، وبين ذراعيه أطيب الفواكه والبذورات والخضروات! صاح: أنا آت إلى بطنك، يا أم غزة! ولكنه تفاجأ، وهو على عتبة بيته الفخم في جبل عمان، بشحاذ ينقل من يد إلى يد حبة كوسا محشوة بقصد تبريدها، فأداخه المنظر، لأن حبة الكوسا المحشوة ثمنها بما فيها من رز ولحم وما احتاجه طهوها من غاز ما يزيد عن عشرة قروش! وأداخته الرائحة، لأن حبة الكوسا المحشوة مطبوخة على الطريقة الغزاوية بالسمن الحلبي والبندورة الطازجة وشتى أنواع البهارات!
وجد أبو غزة نفسه يقف بين يدي حبة الكوسا المحشوة متحديًا يدي الشحاذ:
- خذ قرشًا وأعطني إياها!
أمام رفض الشحاذ ولعاب أبي غزة الذي سال:
- خذ قرشين وأعطني إياها!
حكَّ الشحاذ رأسه: لم يحلم بمبلغ مثل هذا من شهور.
- ستستطيع أن تشتري رغيفًا وزرين فلافل وكمشة بزر تقضي معها ليلتك!
ونجح الإغراء!
في البيت، أخفى أبو غزة حبة الكوسا المحشوة عن أم غزة لئلا تقول عنه بخيلاً ناكثًا، فقد عودها طوال حياته على الكرم والتكريم! ثم كان بإمكانه أن يصرخ في الشحاذ: تعال هنا! وإذا رفض هدده بمسدسه، وأخذ منه حبة الكوسا المحشوة بالتي هي أعطل قبل أن يطرده. لكنه، منذ عهد عامل أبيه الأوحد أبي سمسم، وهو رؤوف! أخذ منه حبة الكوسا المحشوة بالتي هي أحسن، وأعطاه في المقابل قرشين!
ارتمت في أحضانه بناته الثلاث غزة واللد والرملة، فأخذ يقبلهن قبلات ضخمة كثيرة، سمعتها أم غزة من المطبخ الفائح بروائح المحاشي والمخاشي واللحوم، فخرجت، هي الأخرى، لاستقباله، بينما أطلت الخادمة السوداء من الباب، وهي تبتسم بخجل وحياء. وبعد أن غمر أبو غزة بناته بأكياس الطوفي والملبس والحلقوم، هجم على بطن أم غزة، وأخذ يضغطه، ويرفعه، وينزله، وأم غزة تغنج، وتتلوى، وتطنب:
- كفى، يا أبا غزة، دع ابنك نائمًا في بطني!
طبع قبلة قوية على بطنها، وهو يلصق به كل شفتيه، وقال:
- هذا لأجل ابني النائم في بطنك!
أضاف بإصبع يتصنع التهديد:
- عليه أن يكون صبيًا هذه المرة لأسميه (( سبع ))! لو قبلت لسميته بئر السبع، فنخلد ولدنا باسم مدينتنا المغتصبة جارة غزة، إذ أن كل مدن فلسطين جارات لغزة، ولكنك لا تقبلين!
قالت أم غزة بدلع:
- سبع وقلنا نعم، أما بئر، فسيضحك الناس علينا.
هب أبو غزة، وهو يخلع ثوب القتال:
- وما دخل الناس بنا، يا ست الناس؟ إذا استمعنا إلى ما يقوله الناس ما خلصنا طوال عمرنا. ومع هذا، فأنت على حق، بئر هذه كلمة محرجة. تصوري عندما ينادي أولاد الحارة ابننا بيا بئر! أو عندما يقولون له تعال يا بئر! رح يا بئر! أما الأشقياء، فسيقولون له يا بئر تهدم! أو يا بئر جفَّ! وفي أحسن الأحوال سينعتونه ببئر ارتوازي! آه، دعينا من بئر وآبار، حتى ولو كان بئر نفط، ولنبقِ على سبع، سيقول الناس سبع مثل أبيه! وسينعتونه بسبع فلسطين! أو، وهذا في أتعس الأحوال، سيقولون له يا سبع البرية! وكل هذا جميل، وله رنين! أما إذا كانا توأمين كاللد والرملة، وتوأمين صبيين، سنخرج، هذه المرة عن القاعدة، ونسميهما سبعًا وأسدًا، أو سبعًا وفهدًا!
- وإذا كانتا توأمتين بنتين؟
- الله لا يسمع لك! تكفينا كل هذه البنات. والبنت على الرغم من كل المكاسب التي حققتها لها الثورة، فإنها، بيني وبينك، تبقى بنتًا.
- ومع هذا، فإذا كانتا توأمتين بنتين؟
- الأمر سهل، هذا لأن بلدنا ثري في كل شيء، حتى في الأسماء! سنطلق عليهما اسمي طبرية والحولة.
ترامى أبو غزة لاهثًا على الكنبة المريحة التي لا يوجد مثلها في كل عمان فقط واحدة، وطلب كأنه على وشك الاحتراق:
- كأس عصير ضخمة مثلجة، يا أم غزة!
هرعت أم غزة إلى إحضار كأس العصير الضخمة المثلجة، بينما كانت الخادمة السوداء قد هرعت، قبلها، إلى تحضير الكأس، وما لبثت أم غزة أن عادت بسرعة رغم ثقلها بكأس العصير الضخمة المثلجة التي جرعها أبو غزة دفعة واحدة، بينما طردت أم غزة البنات إلى غرفة ألعابهن الخاصة كي يفرغ أبو غزة إلى نفسه، ويرتاح، وأبو غزة يثني على أم غزة عميق الثناء:
- الله يعيدك إلى غزة عما قريب، يا أم غزة، لتقفي على تل العجول مثل عجلة!
سألها عن ابنه الأوحد:
- أين صفد؟
- صفد عند الخوري إلياس يأخذ درس الطلياني.
همهم أبو غزة مسرورًا:
- هذا حسن! هذا حسن!
جذبها فجأة، لتسقط ببطنها الضخم في أحضانه، وأخذ في دغدغتها. تلفت يمنة، وتلفت يسرة، ولما وجد نفسه وحيدًا معها، دفع يده بين فخذيها، واعتصرها، وأم غزة سعيدة قلقة ترجوه أن يتوقف لئلا يراهما أحد. استطاعت التخلص منه، فقال لها:
- على صفد أن يتعلم جيدًا الطلياني كي أبعثه إلى روما. الطب في روما هو الأحسن! ثم روما سرة الدنيا، نحن حرمنا منها لأن لنا كانت ظروفنا، مأساتنا، أما هو، فكل الفرص مواتية اليوم ليدرس في روما.
كانت أم غزة قد أخذت المنشة، وراحت تهوي وجهه الأعرض، وصدره الأشعر، فسألها فجأة:
- هل يأخذ صفد دروسه الدينية بانتظام عند الشيخ حسن؟
- لا يقطع درسًا واحدًا.
- أريده أن يحفظ القرآن عن ظهر قلب.
- من هذه الناحية ولدنا حفيظ، فكن مطمئنًا!
- أنا لم أطلع على ولدي، ذاكرتي ضعيفة، حاولت أن أحفظ القرآن على كبر، فلم أفلح، تعرفين لماذا؟ لأن لنا كانت ظروفنا، مأساتنا، أما هو، فظروفه كلها ملائمة، أولاً لأنه لم يزل طفلاً، وثانيًا لأن كل الفرص مواتية اليوم ليحفظ القرآن عن ظهر قلب.
احتجت أم غزة بعض الشيء: ولكنني لا أريده أن يصبح شيخًا، هذا شيء لا أريده حتى وإن ذهبت إلى النار!
قهقه أبو غزة:
- لا تكوني مجنونة!
- حسبتك تريده أن يكون شيخًا.
- أريده أن يكون طبيبًا لامعًا، وفي الوقت ذاته، مسلمًا صحيحًا متقنًا اللغة الإيطالية، وعادلاً مثل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه!
وجذبها:
- تعالي!
فسقطت في حضنه ضاحكة مستسلمة كالبالون الرخص، إلى أن أوقفهما جرس الهاتف:
- آه، من هذا الهاتف!
وطلب إلى زوجه:
- إذا كان أحد يريدني، فلست موجودًا حتى ولو كان نائبي في القيادة. أتعبتني القيادة، وشؤون القيادة، وشجون القيادة! اجتماع وراء اجتماع وراء اجتماع، وساعات تذهب هدرًا وراء ساعات وراء ساعات، وعلك، وعجن، وطبخ، واجترار! أنا تعبان! أنا هلكان!
صاحت عصافير بطنه:
- أنا جوعان!
رفعت أم غزة السماعة:
- نائب أبو غزة؟ أبو غزة غير موجود. ماذا؟ المؤتمر الصحفي؟
وضعت يدها على السماعة، وهمست:
- يسألون إذا كنت تتذكر دومًا المؤتمر الصحفي؟
- قولي لهم نسيت.
- نسي.
وضعت يدها على السماعة من جديد، وهمست:
- يقولون إن الأمور خطيرة، وحضورك أمام الصحافة الأجنبية ضروري.
- قولي لهم الأمور لم تعد خطيرة، ثم لغتي الإنجليزية مكسرة، وليبعثوا من وراء إسكندر.
- الأمور لم تعد خطيرة، ولغته الإنجليزية مكسرة، ولتبعثوا من وراء إسكندر.
وضعت يدها على السماعة مرة أخرى، وهمست:
- يقولون إن إسكندر ليس قيادة بمستوى قيادتك، والأمور خطيرة تستوجب وجودك أمام الصحافة الأجنبية، وسيأتون لك بمترجم.
- قولي لهم الأمور لم تعد خطيرة، يا ناس، يا عالم، وإسكندر رجل ثقتي على الرغم من أنه ليس (( غزاويًّا ))، وهو لا يحتاج إلى مترجم.
- الأمور لم تعد خطيرة، يا ناس، يا عالم، وإسكندر رجل ثقته على الرغم من أنه ليس (( غزاويًّا ))، وهو لا يحتاج إلى مترجم.
أقفلوا الخط في وجه أم غزة، فتأثرت:
- أقفلوا الخط في وجهي!
وتباكت:
- كيف يجرؤون؟
نهض أبو غزة إليها مسترضيًا:
- لا عليك، يا بطتي! هو نائبي وسأعاقبه على فعلته من أجل عينيك!
أخذ في تهوية بطنها بالمنشة، ثم ما لبث أن قذف المنشة غاضبًا:
- المنشة وسيلة متخلفة لا تؤثر في هذه الحرارة الرهيبة! صحيح هي أقل شدة من حرارة الكويت حيث كنا مطمورين، مغمورين، ولكنني، مع هذا، سآتيك بآلة تكييف شيوعية، نعم، سآتيك بآلة تكييف صينية، هكذا ينعم الولد بالراحة عندما ينام في بطنك.
جذبها إلى غرفة النوم، وقد باغتته الرغبة فيها:
- تعالي!
فتدلعت:
- ليس الآن! تعالَ نأكل أولاً. طبخت لك أم غزة من تحت يديها ملوخية غزاوية، ومحاشي يسيل لها اللعاب!
أراد أن يفضحها بشأن حبة الكوسا المحشوة التي استعادها، لكنه خشي أن يفتضح أمره، ورغم كل المغريات الأكلية التي ذكرت، فإنه ظل متعلقًا بمعلق ثدييها:
- لست جائعًا الآن إلا لثدييك العاليين، تعالي!
قهقهت:
- أحقا لم يزلا عاليين؟ أحقا لم تزل تحبهما؟
تلاهث:
- لم يزلا عاليين كجبال الكرمل، وأنا لهذا أحبهما، وأموت فيهما، دعيني أضيع بينهما، أمحي، أتفجر!
وهما على باب غرفة النوم، قرع الهاتف، فشتم أبو غزة:
- عليك اللعنة، أيها الهاتف!
رفعته أم غزة بخفة، وأبو غزة يشير إليها بيديه وحاجبيه وقدميه بأنه ليس موجودًا، ولكنها قالت:
- نعم، بالطبع موجود، سأعطيك إياه حالاً!
تقدم أبو غزة من الهاتف كحيوان مهاج، وهي تهمس موضحة:
- هذا أبو حابس.
وكل عضلات وجه أبي غزة قد اصطفقت، راح يصيح بنبرة تتصنع السخونة، وتبالغ الاهتمام:
- أبو حابس! يا حيا الله! يا حيا الله! يا حيا الله! أنا تحت أمرك! أنا تحت أمرك! أنا تحت أمرك!


5
إنها حادثة صغيرة!
كان أسعد ينظر من طرف عينه إلى يد إسكندر الملفوفة بمنديل، ويقول لنفسه: لكنه أتلف يده! اقتحمت رأسه البقع الدموية، وانفتحت في صدره أبواب جراح قديمة. يده لطخة! لطخة دم وفوضى وفكرة عنيدة عن الدمار النهائي. إنها حادثته!
رأى في محياه سعادة طفل وقع على طفولته القديمة، وأسعد كان يكرر لنفسه: كل شيء ممكن! كل شيء ممكن! أخذ يسير إلى جانب إسكندر ثقيلاً، وإسكندر يبدو خفيفًا، يكاد يطير. كل شيء ممكن! رأى أسعد بيوت التنك التي لا يحتاج هدمها إلى أكثر من بعض الريح، وكف عن طلب نسمة واحدة تخفف قليلاً من شدة الحرارة، ستتساقط بيوت التنك واحدًا تلو واحد! هل أكتفي إذن بما أنا فيه؟ هل أكتفي بكوني أشعر باختناق أنفاسي ورائحة عرقي وتثاقل خطواتي؟ هل أكتفي؟ كانا قد مرا بهم، بأهالي المخيم الكبار الذين عاشوا الهزيمتين، وفكر أسعد أنه يعيش لحظات مؤقتة، لحظات يعيشها على الرغم من أنها تمضي. نظر، مرة أخرى، إلى صديقه، كانت له يد دامية، وكان سعيدًا! من الممكن أن يكون المرء سعيدًا إذن حتى إذا أتلف يده! نظر العابرون إلى أسعد وإسكندر بوجوه تحوي عنف البؤس وعنف السعادة، ومع ذلك، فقد كانوا يعبرون! كان بعضهم يتكلم عن الرغيف، وبعضهم الآخر عن البندقية، عن حلم كان بالأمس القريب مستحيلاً. ابتسموا، وكانت ابتساماتهم تصنع بين أسعد وبينهم صلة مثل الصلة التي تصنعها طلقاته على العدو بينه وبين العصافير. كانوا يعبرون، وكان بعض الصبية يلعبون بكرة من المطاط، فصاح أحدهم بالآخر حين فشل في تسديد الهدف:
- تقذف الكرة مثل موشيه دايان!
رأى أسعد الصبي، وهو يتسلق النافذة الطينية التي دخلت منها الكرة بمهارة من له عينا صقر من صقور عمان، رآه، وهو يختفي، ثم ما لبث أن سمع سبابًا مغلظة، وأحدهم قد قذف الكرة من النافذة، وأتبعها بالولد. جاء الولد يعدو، وهو يسوي ثوبه وشعره، ورفع نظره إلى إسكندر. كان إسكندر يبتسم لخياله، فباغته أسعد، وهو يضغط أصابعه السليمة على أصابعه السقيمة:
- أتحس بوجع؟
لكنه كان مشدودًا إلى الكرة التي طارت في الهواء:
- أرغب في لعب الكرة.
قذف أحد الصبية الكرة على مقربة منهما، فقفز إسكندر، وحملها بيده الطليقة. توقف الصبية عن اللعب، وهم ينظرون إليه، لكنه ابتسم، وأعادها لهم دون حماس، فأعاد حماسهم، بينما هتف أحدهم:
- يعيش الفدائية!
عادا يسيران في درب المخيم، وأسعد يفكر، يعيش جيفارا! كان الشعار مكتوبًا على كل جدار تقريبًا. رأى، في الوقت ذاته، مجموعة من الصبية والبنات تحيط بعجوز ترتدي ثيابًا سودًا، كانت تشحذ، وتطرق عصًا، والأطفال يضحكون عليها، وهم يبدون سعداء. كان بعضهم نصف عارٍ، وبعضهم الآخر قد ارتدى ثيابًا لرجال ماتوا في الحرب، والعجوز تشتم، وتصيح بالناس:
- كسرة خبز لأرملة حرب!
جاء بعض الفدائيين الجميلين بأسلحتهم والعجوز لا تكف عن الشتم والصياح:
- كسرة خبز لأرملة حرب!
قدمت امرأة في ثوب فلاحة أجمل من أثواب الملكات، ووضعت في يد العجوز رغيفًا، والعجوز لا تكف عن الشتم والصياح:
- كسرة خبز لأرملة حرب!
كان الصبية قد تفرقوا، وكذلك البنات، والفدائيون بأسلحتهم قد ابتعدوا، وهناك مجموعة من صبايا المخيم اللواتي يحملن على رؤوسهن جرار الماء قد أتين من ناحية العين. كانت إحداهن تصرخ مهددة، وترفع على يدها حجرًا، وقد هرول بعض سكان المخيم آتين ليروا. وعندما تقدم إسكندر وأسعد من الجمع أكثر، رأيا أن هناك يابانيّ المنبت بصحبة فدائيّ يقوم بدور الدليل. كان الفدائي يقسم للفتاة الأيمان تلو الأيمان أنه:
- ليس صحافيًّا أمريكيًّا!
- أنا أعرفهم من عيونهم، وهذا يخفي عينيه تحت قناع!
علق الفدائيّ ساخرًا:
- أمّا قناع ياباني، يا سلام!
كان الصحافي يقول بالإنجليزية: أنا ياباني أكلمكم الإنجليزية لتفهموني! أنا أحبكم!
ترجم الفدائي للفتاة:
- يقول إنه يابانيّ يتكلم الإنجليزية، وإنه....
قاطعته الفتاة:
- يتكلم الإنجليزية إثبات آخر على أنه أمريكيّ!
نبر الفدائي:
- أما إثبات، يا سلام!
- وماذا يقول أيضًا؟
- يقول إنه يحبك!
انفجرت الفتيات الآخريات ضاحكات، معلقات، والفدائي يقف وسطهن حائرًا لا يعرف ماذا يفعل. عندما وقع على إسكندر، ذهب إليه محييًا، وطلب منه أن يفهم الصبايا أنه صحافي ياباني، لا يريد إلا أن يأخذ لهن صورة، ومعه ترخيص من القيادة، وإذا كنَّ لا يصدقن أنه ياباني، فقل لهن شيئًا آخر، قل لهن إنه فرنسي، ألماني، المهم أن تؤكد لهن أنه ليس أمريكيًّا. ضرب الفدائي رأسه بغضب، وجمجم: يابانيّ باين من ريحته، ويقولون عنه أمريكيًّا! تدخل إسكندر دون فائدة، وفي النهاية، وافقت الفتيات على أن يكون فرنسيًّا لا يبحث عن إيذاء العرب كرئيسه الجنرال دوغول.
أنزلن عن رؤوسهن جرار الماء، وأخذ الصحافي لهن صورة. راحت الفتيات يضحكن كالدجاجات الصغيرات، تناولت إحداهن السلاح من الفدائيّ، وراحت تجسه بشوق، وتضمه. كان إسكندر يفكر: هؤلاء هن فتياتنا! لام نفسه لأنه لم يفكر، من قبل، في فاطمة! حبيبته فاطمة التي يحبها، والتي قال لها بعينيه أحبك مرارًا. اشتاق إليها. إلى رؤية عينيها. أما أسعد، فقد كان غائبًا مع (( اليونانية )). والصحافي اليابانيّ قد راح يصور بيوت التنك والطرق التي تصب في الجحيم! هبت رائحة الحرائق من (( الطوابين ))، وفي رأس أسعد رائحة العطر التي تجعل من يد صديقه لطخة دموية! هناك تطورات خطيرة، لربما سبقت التطورات الكلمة، ولربما نحن الآن في المجزرة. يعيش جيفارا! يعيش جيفارا! جيفارا أنا الذي لم يمت بعد! بشّ في سره. غدًا في الليل سيعاود عملياته. صار مغتبطًا. منذ قليل، كنت أفكر أن لدي الكثير من الأفكار، ولكنني الآن أشعر بأني أنهيتها. الذي يشدني فقط بدء العلميات من جديد، ولطخة الدم التي هي يد صديقي. ولم يجد صديقه، وجد نفسه في طريقه إلى خضرة. سيذهب إلى خضرة ليقول لها طاب نهارك! جاءت سيارة فدائية تسأل الفدائي المرافق للصحافي الياباني إذا رأى إسكندر، فأشار إلى الزقاق الضيق الذي ذهب منه. عاودت أسعد أصداء ضحكات صبايا المخيم، فرحن في خياله، وهن يخطرن، وعلى رؤوسهن جرار الماء. فكر في الضحكات، وفكر في الخطوات، وأصبح لها أثر الطلقات، للخطوات، وللضحكات. رفع وجهًا متلوحًا صوب قرص الشمس الملتهب، فابتسم له وجه خضرة، خضرة عاهرة المخيم! خضرة الحنان الجريح! خضرة الفخذان المشدودتان رغم الزمن والأظافر والأحزان! خضرة الإرادة المنسحقة! خضرة الأنين! كل هذا كانت خضرة، وهي أكثر، هي كل شيء فيها، وهو يعرف فيها كل التفاصيل. هل ينتهي الحب إذن؟ على أعتابها يقف الحب منتظرًا أن يأتيها بزبون جديد، وأسعد زبونها القديم. زبونها العاشق الذي لم يعشق! أو أنه لم يعشق إلا شفتيها! جمر التوت! وكرز أريحا! كيف ينساها طوال الوقت، ويذكرها فجأة؟ ترك الجحيم إليها، وضحكات بنات المخيم، الضحكات العذاب، والغنج الماثل في صداها، ولم يعد يفطن لصقر الشمس. لم يعتد حرارتها، ولكنه نسيها. في خياله تقوم خضرة كالسنبلة، قبل أن تهوي عليها المناجل حصدًا. لم يطرق عليها الباب، انخطف إلى داخل بيتها محاولاً ألا يراه أحد، فوجد نفسه أمام ابنتها سعدة، ابنة الخامسة عشرة، ابتسم بخجل، ولم تبتسم سعدة. جلست وإياه على الأرض تنظر إليه في عينيه، وينظر إليها في عينيها، وفي عينيها البحر... يجيء البحر بالموج في عينيها هادئًا. انزعج، ولكنه لم يحول عن عينيها عينيه. هل يقبلها من شفتيها؟ كان مشدودًا في عينيها إلى قصة البحر والصراع. الصراع الذي لن يحدد ساعته، ولن يحدد مكانه. كل الصراع في عيني سعدة الساكنتين الهادئتين كجناحي فرخ، وكل الصراع في عيني سعدة السوداوين القاتمتين كغرام نازف.
أحس أسعد بباب انفتح من ورائه، ووقع أقدام، وعندما التفت رأى رجلاً قزمًا يحاول إخفاء وجهه دون أن ينجح حتى خرج، وضاع في دروب الجحيم. جاءت خضرة، وراحت تكيل لسعدة اللطمات. لماذا هي هنا؟ ماذا تفعل؟ ولماذا تجالس الغرباء؟ وسعدة لا تنطق بكلمة، إلى أن انفجرت باكية. لم يرَ أسعد في حياته دمعًا أغزر من دمعها! ذهبت، وانطلقت تجري على حصى الجحيم. عذبتني أنا الغريب! أنا غريب وسعدة أختي! آه يا خضرة! ابتسمت لأسعد، وقادته إلى المضجع.
- لم تأت إليَّ منذ زمن بعيد!
- لم آتِ إليك.
- أتنسى خضرة؟
- كيف أنسى خضرة؟
- تعالَ إذن إليها.
راحت تخلع ملابسه، فرأت ساقه الجريحة:
- ساقك جريحة.
- جرح جديد.
أُخذت بالجرح، فأخذت تلمسه بأصابعها، ثم انعطفت على نفسها، وراحت تبكي.
- ماذا، يا خضرة؟
- زوجي أيضًا كان جريحًا ثم مات.
- زوجك؟
- أنت تنسى؟
- لماذا لا تنسين؟
جففت خضرة دمعها، وقالت:
- سيقتلونكم جميعًا.
- نعرف هذا ولا نعرف.
- لا تريدون أن تعرفوا، أما أنا، فأعرف، ولا أحد يسمع لي، لا أحد يسمع لخضرة!
أخذها أسعد من يدها:
- لماذا تقولين لي أنا كل الذي تقولين؟
- دعني أقول لك، لك أنت، لك وحدك.
- قولي لي.
أخذت نفسًا عميقًا:
- القصة تعرفها.
- أعرف القصة.
- دعني أعيد لك، لك أنت، لك وحدك.
- أعيدي لي.
راحت تنظر إلى الجرح، وتقول:
- بعد مقتل زوجي الجندي سنة 67، فشلت في أخذ حقوقه. كان موظفًا يسمونه أبو سمعان، الآن له فيلا في الدوار الثالث. رفض عوني لأني فلسطينية، ورفض عوني لأني امرأة، ورفض عوني لأني فقيرة. في يوم، قال لي تعالي، فذهبت. سعدة صغيرة وجوعى، وأنا امرأة وأرملة، والأعمال غير موجودة، قلت إنما الأعمال بالنيات، فكانت نيته خبيثة اللعين! حصل علي، أخذ حقوقي، ولم يعطني حقوق زوجي. أخذ حقوقي، وأعطاني لسادته، وللمسؤولين الكبار، ثم صارت خضرة عاهرة المخيم!
انفجرت ضاحكة، ثم انفجرت باكية، ثم انفجرت ضاحكة. راحت تخلع أسمالها، وأسعد يتطلع إلى فخذيها المشدودتين رغم الزمن والأظافر والأحزان. رغب في احتضانها منهما، وتجريح شفتيه عليهما، لكنه طلب:
- لم آت لأجل هذا اليوم.
- هل أزعجتك المزحة؟
- كفى، يا خضرة!
- خضرة الخضراء صارت حذاء!
- ستظلين خضرة.
- خضرة الخضراء صارت خراء!
- ستظلين خضرة.
- خضرة الخضراء صارت قيحًا وقيئًا وبغاء!
- ستظلين دومًا خضرة.
جمدت عيناها على الجرح، فجاءت الجرح عالية، ماردة، جبارة، جنية، جهنمية، فردوسية، ثم خارت بين يدي الجرح، وبأسنانها راحت تفتحه مفجرة الدم. صرخ أسعد، فخرج له الجسد من الألم، وانجبل معه.

6
وصل أبو غزة المكان الذي سيقام فيه المؤتمر الصحفي، وهو يزبد، ويرغي، لأن معاونيه لم يجدوا إسكندر، فاضطروه إلى مغادرة فراش الحب قرب بطن أم غزة، والمنشة، وصحون الفستق والبندق، بعد أن أفرط في الأكل لكثرة ما كان طيبًا ومتنوعًا. وهو على المنصة، أحس بمغص في بطنه، فكشر لكاميرات الصحافين بدلاً من أن يبتسم، وأحس بحاجة ماسة إلى الذهاب إلى بيت الماء. سأل عن المترجم إذا كان موجودًا، فقالوا إنه موجود. غضب لأنه تمنى ألا يكون موجودًا، فتتاح له الفرصة للذهاب إلى بيت الماء. تضاعف مغصه، ولم يمتنع عن مسك بطنه. قال لمعاونيه إنه طلب مترجمة امرأة لا مترجمًا رجلاً، فالناس كلهم يعرفون فيه نصيرًا للمرأة، وأول المدافعين عن قضيتها، والثورة تأخذ معناها من اثنتين: المرأة والرصاصة! كلتاهما في مستوى واحد لديه، ليروا إلى أي حدٍّ هو ثوريّ ووطنيّ وديمقراطيّ، كيف يفهم معنى المساواة، وكيف يطبق مبدأ العدالة. ذهب معاونوه ليحضروا لأبي عزة مترجمة بعد أن اعتذروا للصحافيين، فتذمر الصحافيون، لأن أبا غزة وصل متأخرًا، وفوق هذا، يريد تأخير المؤتمر! عند ذلك، أتيحت لأبي غزة فرصته الذهبية للذهاب إلى بيت الماء، فأفرغ كل ما في كرشه من عجائب وقنابل ومجوهرات. طرب للرائحة والإيقاع، وارتاح. خرج إلى القاعة، وهو يبتسم لكاميرات الصحافيين رافعًا إصبعيه إلى أعلى علامة الانتصار.
لم ينتظر أبو غزة قدوم المترجمة، افتتح المؤتمر بلغته الإنجليزية المكسرة، وبدأ يجيب بشجاعة وحماس فائقين على أسئلة الصحافيين. قال إنه لا يتدخل في شؤون أبي حابس، ولن يتدخل، نحن هكذا اتفقنا، نتركه في حاله، ويتركنا في حالنا. أما إذا تدخل أبو حابس في شؤونه فجَّرها فيتنام ثانية، وجعل منها جهنم تحرق الأخضر واليابس، وبعد أن يصفي حساباته هنا، سيذهب بجهنمه إلى اليهود، فيحرقهم، ويخلص العالم من شرهم.
قال إنه بطل منذ نعومة أظافره، وعندما كان في الكويت، وليس الآن فقط هو كذلك، ولكن كانت لنا ظروفنا، مأساتنا، والعالم كله تآمر ضدنا، أما اليوم، فكل الفرص مواتية لنرفع صوتنا، ونعلن كلمة حقنا. هذا من عجائب الرصاص، والفعل الثوريّ، ودم أبنائنا الأشاوس الذي يسقي ثرى الوطن كل يوم. حربنا حرب شاملة، وستكون مدمرة على الأعداء أينما كانوا: هنا، في أوربا، في السويد، في المكسيك، وفي طائرات العال والشرق الأوسط وبان أميركا! وأنا، أبو غزة، أقول لغزة المناضلة، غزة المدينة وغزة ابنتي على حد سواء، أقول للغزتين: غدًا نحن قادمون لتحريرك مثلما نحن ذاهبون اليوم لتحرير أختك! هذا عهد أقطعه أمام الصحافة العالمية، أنا، أبو غزة، الثوريّ، والمنادي بمساواة المرأة والرجل على قدم وساق، أنا المقدام، أقطع عهدًا أمام الصحافة العالمية، ليعرف العالم أجمع أننا قد عزمنا على استرجاع حقوقنا بالنور والنار! رغم كل المخططات، ورغم كل المشاريع المستسلمة، ورغم كل أطماع الإمبرياليين! وأنا في وقفتي التاريخية هذه، أعلن للملأ أن العالم كله يقف معنا، الاتحاد السوفياتي، والصين الشعبية، والصين الوطنية، والسعودية، وجماعات التروتسكيين في فرنسا كما أعلمني مؤخرًا المراسل الصحفي للنيويورك تايمز في باريس. ونحن مع فيتنام، وشي جيفارا الذي لم يزل حيًّا في قلوبنا، وكاسترو، وكل الثوريين أينما كانوا في العالم. حقًّا هناك من يخطط للمواجهة، ولكن أبا حابس طمأنني على الهاتف، ومع هذا، هاأنذا أقول لك يا وطن، فلتشهد، فلتشهد، فلتشهد، وثورة حتى النصر!
أراد أبو غزة مغادرة المنصة، فهجمت عليه، مرة أخرى، كاميرات الصحافيين. ابتسم، ثم كشّر، فقد عادت كرشه تؤذيه. طلب من معاونيه أن يفتحوا له طريقًا إلى بيت الماء، فعجزوا لشدة حماس الكاميرات. وهو يلتفت حواليه، فطن إلى المترجمة التي لم تترجم كلمة واحدة، والتي بقيت تجلس كالصنم إلى جانبه، فذهب عنه مغصه، وسألها إذا تكلم الإنجليزية جيدًا، فجعلت تطريه، على الرغم من أنها لم تفهم نصف ما قاله. سألها إذا كان طريقها من طريقه ليوصلها بسيارته المكيفة، ولم يكن طريقها من طريقه، فغير إلى طريقها طريقه، وأركبها معه في سيارته الفخمة، وهو يوضح: الأهم هو المعنى، وهذه كلها شكليات!
أعاد على مسامعها، وهي وحدها إلى جانبه في السيارة، موقفه من المرأة: أنه مع مساواتها بالرجل، وردِّ كل حقوقها إليها، ودليله على ذلك أنه طلب مترجمة لا مترجمًا، ولولا إزعاجها الذي لم يشأه، لأن من عادته ألا يزعج الجنس اللطيف، لأعطاها الكلمة، ولكنه لم يبحث إلا عن راحتها، وهو، من ناحية أخرى، أراد أن يمتحن إنجليزيته التي لم يستعملها منذ أيام الكويت، يوم كان يتكلم الإنجليزية مع الكويتيين الغبيين بطلاقة، فهو مع الممارسة في كل الحقول، في حقل القتال، وفي حقل الترجمة، والترجمة كالقتال فن من الفنون. وهو عندما كان شابًّا دون طموح، أراد أن يصبح مترجمًا، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فصار شيئًا آخر، إلا أنه شيء مهم على أي حال، فقد كانت لنا ظروفنا، مأساتنا، أمَّا اليوم، فكل الفرص مواتية ليكون ثوريًّا وقائدًا وسيفًا في قبضة امرأة.
كان أبو غزة كلما مالت السيارة مال معها حتى صارت فخذه لصق فخذها، زفر في وجهها، وشم أريجها، وحين جذبها، صفعته، وطلبت من السائق أن ينزلها في الحال، فأنزلها السائق في الحال، وأبو غزة لم يصحُ بعدُ من أثر الصفعة، ثم صحا، وأخذ في السائق شتمًا ولكمًا. وعمان في الليل تنام، كانت عمان تنام في ساعة مبكرة، فأين الذهاب، وعمان تنام؟ لن يذهب عند أبي حابس حتمًا أو إلى نادي الضباط، ولن يذهب إلى مطعم أبي عبده للفول والفلافل حيث هناك ملتقى قادة المقاومة والشعب، لا يريد أن يرى لا هؤلاء ولا أولئك. كان تعيسًا. خلقة مترجمة محتقرة ترفضه، هو، أبو غزة، مرعب قادة العرب وإسرائيل، ترفضه بطوله وعرضه بعد أن صفعته! تحسس أثر الصفعة، وزفر بغضبة ليث: المرأة، آه، المرأة! كان عليه أن يدقها على صدغها كما يفعل الفدائيون في الصهاينة عندما يباغتونهم في الليل، فيديخها، ثم يفعل فيها ما يشاء. هذه هي الطريقة الوحيدة لبنات إبليس اللعينات! لم نعطهن إلا كلامًا، فصدقن مساواتهن بنا، ورحن يتصرفن كالمتحررات! انظرن أيَّة حرية لكنّ، وأنتن تحت أفخاذنا! بينما نحن هابطون صاعدون فيكنّ، وأنتن تصرخن! يا له من عقل صغير عقل المرأة! حتى النبي، عليه الصلاة والسلام، ساواها بنصف واحد منَّا. النبي الكريم ساواها بنصف رجل، وأنا أبو غزة، البسيط العادي، سأرد لها حقوقها! مَنْ أنا إلى جانب النبي، كبير الأنبياء، سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، لأساويها بنصفي رجل، فأكفر بقوانين الله!
طلب إلى السائق أن يعيده إلى البيت، فليس له أبرك من فخذي أم غزة، ولكن أم غزة لم تكن في البيت. قالت له الخادمة السوداء:
- ذهبت إلى بيت أم حابس هي والبنات.
دار رأسه، وهو يلتهم بعينيه نهديها المكورين:
- هي والبنات؟
- أرسلت لهن أم حابس سيارتها الكاديلاك، وقالت لها أنت أول من تركب فيها، لتري مدى معزتك عندي!
- أم حابس عندها سيارة كاديلاك؟
- قالت أم حابس إنها هدية عزيزة لأبي حابس من السفير الأمريكي.
- من السفير الأمريكي!
كان يردد مأخوذًا بالنهدين المكورين، وكان يتقدم منهما، من النهدين دومًا، كما يتقدم من تحرير قرية، وهو شبه غائب. ثم أخذها في أحضانه القوية، والخادمة تصرخ راجية:
- بحق أم غزة أن تتركني! بحق غزة البنت والمدينة، بحق صديقك جيفارا الذي مات!
لكنه افترشها على طاولة المطبخ التي من خشب الجوز الأصيل، واقتحمها مثل كوكبة من الجنيّين، وهو لا يتوقف عن الهمهمة:
- رغم أنك زنجية! رغم أنك زنجية!
نعم، رغم أنها زنجية! ورغم أن المترجمة لم ترضخ ((لمساواتها))! فها هي ذي تعجز، حين تُعمل إرادتها، عن استعادة الحقوق! وأية حقوق! إذ ما أن أنزلها سائق أبي غزة في الحال، كما طلبت، وبعد لم تسر على الرصيف بضع خطوات، حتى تلقفها ثلاثة من الملائكة النزقين، ورموها في سيارة. الشبان الجميلون هم نحن، ونحن هم الأقوياء! حاولت الفتاة الصراخ، وفي النهاية، رضخت للقوة والجمال. في حلقها الرعب، وفي مهبلها آثار الطلقات الموجعة، المصيبة لهدفها الغريم، الطلقات المدمرة. ثم أحست بنفسها مقذوفة على رصيف أحد الأزقة، في الليل والصمت وبؤس العناق، ولم تقدر على البكاء. مترجمة كانت، أما الآن...! انفجرت تبكي بدمع السمك الجاف، فلم تسمع إلا صوتها، ورأت كيف كان الزقاق دامسًا. وهي تركض تاركة الزقاق الأسود، وصلها ضوء يتساقط من مصباح بعيد، خرجت منه خيالات بعض الشياطين الطيبين، وفي الظلام الشديد، تبادلوا المترجمة التي كانت شرفنا، وتركوها تلفظ أنفاسها الأخيرة على شاطئ دم العالم.
طبطب أبو حابس بيد لدنة على بطن أم غزة الضخم، وكأنه بطنان:
- ستكون لي حصة فيه!
- غنجت أم غزة:
- أعرف جيدًا من هو أبو ابني!
أطلق أبو حابس ضحكة مجلجلة، وهو يشخر، ثم قال:
- لعن الله أبا ابنك!
غنجت أم غزة من جديد:
- وإذا كان أنت؟
جرع أبو حابس نصف كأسه، وذهب مفكرًا، ثم قال:
- سأكون أبًا طيبًا يعطف عليه مثل ثعالب حيفا!
وانفجر ضاحكًا.
جرع باقي كأسه، والهاتف يقرع، فرفعه، وسأل:
- هل من جديد؟
أصاخ أبو حابس السمع باهتمام شديد دون أن يتوقف عن قول
(( نعم... نعم... نعم... )) وفي النهاية طلب:
- ابعث لي بما ستكتبه الجرائد على الفور.
وضرب السماعة.
سألت أم غزة، وهي تغنج دومًا:
- ما الجديد؟
عاد أبو حابس يطبطب على بطنها:
- أم حابس في طريق العودة.
خفَّت أم غزة ناهضة:
- علي أن أذهب بسرعة!
- عليك أن تبعثي لي بأبي غزة.
- أبعث لك بأبي غزة!
عاد أبو حابس يضحك، ويشخر، ثم اتخذ هيئة جادة، وكشف:
- اغتصبتم بنتًا ثم قتلتموها، والخبر وصل الجرائد، فما العمل بعد أن تنتشر الفضيحة بين كل الناس؟
رفعت أم غزة كفها، وضربت صدرها علامة الذعر، والاستنكار!

7
نظر إسكندر إلى يده: مضمدة وملطخة! بعث وجعها في قلبه بعض الغبطة. راح يسير في الشارع الهاشمي بمحاذاة الدكاكين المغلقة، لم يكن شرطي المرور يقف كالتمثال الآلي وسط الساحة كما جرت العادة. كانت هناك ثلة من الجنود، والسيارات قليلة بطيئة، وشاحنة تصعد الرصيف. جاءت سلسلة من الطلقات البعيدة، ففكر إسكندر، وهو يرفع رأسه إلى السماء: مساء جميل على الرغم من كل شيء! كانت هناك نجوم، وغيوم، ونسمة رخية! جاءت سلسلة أخرى من الطلقات البعيدة، ودويّ قنبلة، ثم حط الصمت. مساء جميل على الرغم من كل ما يخفيه! أحس بنفسه سعيدًا لأنسام المساء، ولأنه ذاهب ليرى فاطمة. بدت عمان جميلة، وهي في قميص النوم، وذهبت من رأسه فكرة أنها كراج واسع في النهار! راح يتابع طريقه إلى حيث يسكن صديقه الضابط إبراهيم، ليراه، ولكن ليرى أولاً أخت إبراهيم، حبيبته فاطمة. تطلع إلى النجوم، فرأى الإعلان المضيء لراديو فيلبس فوق العمارة المقابلة. كان هناك وكر للفدائيين قرب الإعلان المضيء، وكان شارع الهاشمي كله بمتناول بنادق ذاك الوكر. ابتسم إسكندر للوكر البشري، وهو ذاهب على أجنحة الليل، ووصلت إلى مسامعه أصوات سيارة فدائية مسرعة رأى فيها أربعة أشخاص مدججين بالسلاح، كانت وجوههم وحشية حلوة! تضاعف اغتباطه. كان البعض يدعوهم بالشياطين! شياطين القتال، نعم، هؤلاء هم شياطين القتال! أو طيور النار! أو النجوم المحرقة! أحس بنفسه نجمًا، كان فدائيًّا برتبة رئيس، ولم يرفع رأسه إلى النجوم هذه المرة. كان على خصره مسدس يتدلى، ولم يكن مغرورًا، كان يحس ببعض الخجل لما تلاحقه العيون المعجبة، فيتجاهلها، ولكن البعض كان يوقفه، ويلقي عليه التحية. التفت برأسه إلى ثلة الجنود، فلم يجدها، بدا الشارع من ورائه معتمًا. انقبض قلب إسكندر، فأسرع في المشي. بدت الأضواء، على غير عادتها، خافتة في ميدان الحسين، وحركة السير دومًا قليلة، بطيئة، أضواء السيارات مطفأة، وإشارات المرور معطلة. الميدان الكبير بدا صغيرًا، ومقهى السنترال كان صامتًا. رأى على سطحه وكرًا آخر
بعث في قلبه التفاؤل. عبرت رأسه الأغنية التي تقول: (( يا خيّال الزرقا
يا ولد ))! فضاعف خطاه في ممر المشاة إلى الطرف الآخر من الميدان، ثم أخذ شارع البريد المركزي، وقرأ كلمات النيون المشتعل: فلوطي، المصور الخاص للملك! لفت انتباهه إعلان سينما الأردن بفتياته الأمازونيات، وخفض عينيه على خط سيارات مرسيدس الأجرة القصير على غير عادته. شدته مأطورة جريدة (( أخبار الأسبوع )) التي خططتها رصاصات الكلاشنكوف، ورأى نوافذ البناية، التي لم تزل على حالها محطمة الزجاج. كان قد صعد على إحدى درجات البريد المركزي، ولاحظ أن الحراسة هناك مشددة أكثر من أي مكان آخر. وأمام موقف باصات جبل عمان، كان بعض العسكريين يضربون أحدهم حتى الموت، فاختبأ إسكندر في العتمة، وذهب في شارع فرعي. تأمل عند نهايته وكرًا آخر في أعلى البناية: مدينة ملغومة! نظر إلى ساعته: وقت ملغوم! مدينة ملغومة تعيش وقتها! كان يقترب من شارع واد السير حيث يسكن إبراهيم، وكان ذلك طريقه أيضًا إلى الوكر الذي سيتولى الإشراف عليه إذا قامت الحرب. هل يمكن التفكير يومًا أن يصبح إبراهيم ضدي؟ أن يكون في الطرف الآخر؟ إبراهيم الضابط مثله برتبة رئيس؟ لا يمكن لي أن أتصور صديقي ضدي! فكر إسكندر فجأة أنه بعيد عن أمه التي اختارت الصمت، وأبيه ذي الذارعين المشلولتين، وأخيه القتيل، بعيد عن أهله الذين بقوا هناك في الضفة. لكن إبراهيم سيبقى صديقه، مثل أسعد، مثل صابر، مثل شريف، وعدنان. وهو سيتزوج فاطمة ذات يوم! لأنه يحب فاطمة، وبقوة حبه يريد أن يقطع المسافة إلى أهله، لكنه مسيحي وفاطمة مسلمة! لكنه فلسطيني وفاطمة أردنية! ومع هذا، فأنا أحب فاطمة، وفاطمة تحبني، تفشي بسرنا العينان كلما التقينا. الله يمكن أن يصبح حبنا في الأخير، وحبنا يمكن أن يصبح بلدنا!
كان شارع واد السير، كعادته، شارع سفر، رغم ازدحام البنايات على رصيفيه، وها هو، الآن، دون أقل حركة! أيمكن أن يكون إسكندر في آخر الليل دون أن يدري، كان يحب التنزه فيه عند آخر الليل، عندما تكون السيارات قد سافرت، أن يقف تحت المصابيح، أن يمر بالكراجات والورشات المغلقة، وأن يحادث الليل مودعًا. كم هي أواخر الليل رائعة في شارع واد السير! شدته السيارة العسكرية القادمة بأقصى سرعة قبل أن تذهب مصعدة جبل عمان، انقبض قلبه من جديد، وهو يقف على رصيف العمارة التي يسكن فيها إبراهيم. تمهل قليلاً قبل أن يصعد الدرج، خال ابتسامة فاطمة، فابتسم، وصعد الدرج بعد أن أشعل الضوء، وقلبه غدا طائرًا.
- هذا إسكندر!
جذبه الطفل (( نضال ))، الأخ الأصغر لفاطمة وإبراهيم، من يده، بعد أن أغلق الباب.
- قلت لكما إنه إسكندر.
بدا نضال مسرورًا باستقبال إسكندر، انفرج باب إحدى الغرف، وأطلت فاطمة، وعلى شفتيها ابتسامتها الضاوية: رقيقة، ساحرة، حلوة، جذابة، مريدة، ابتسامة فاطمة. خرج إبراهيم من غرفته، ومعه زوبعة اللقاء بإسكندر:
- مرحى، يا إسكندر!
وفاطمة ترنو إليهما من شدة الحياء والرقة كزهرة.
- مرحى، يا إبراهيم!
شد إبراهيم من ذراعه، وفاطمة تطل من الباب دون أن تغادر بابها الزهرة.
- سنذهب إلى غرفتي.
كان نضال يتعلق بذراع إسكندر، وإسكندر يختلس النظر إلى فاطمة، فقال إبراهيم مشيرًا إلى أخته:
- إنها تستعد منذ الآن، فالمدارس على وشك أن تفتح أبوابها، وهي تقوم بالمراجعة.
صعد الدم في وجه إسكندر:
- أعرف أن فاطمة فتاة مجتهدة!
قالت فاطمة، وابتسامتها رقيقة دومًا، ساحرة، حلوة، جذابة، كالقدر مريدة:
- فهي سنتي الأخيرة، وبعد ذلك سأحصل على (( التوجيهي )).
هتف نضال بإسكندر:
- أنا أستعد لأصبح فدائيًّا مثلك!
ضحكوا كلهم، ونضال يجس المسدس الذي يتدلى من خاصرة إسكندر. سأله الطفل:
- متى ستأخذني للتدريب؟
انحنى إسكندر، ورفعه بين ذارعيه:
- عندما تكبر.
لكنه تخلص من ذراعيه، وتطلع إليه بنظرة تشبه نظرات الرجال:
- أنا كبير بما فيه الكفاية!
قال إسكندر:
- طيب، سآخذك إذا كان إبراهيم موافقًا.
كان إبراهيم ينظر إلى أخيه، وهو يفكر: أبوه مات بعد أن طلق أمه، وأمه تزوجت بعد طلاقها! طلب نضال إلى أخيه:
- قل إنك موافق.
ربت إبراهيم على خده، وقال:
- أنا موافق، بشرط أن تقود دبابة!
قفز نضال صائحًا:
- هذا كل ما أتمناه!
أغلق إبراهيم باب غرفته، وقدم لإسكندر كرسيًّا، ثم أشار إلى كتاب مفتوح على مكتبه:
- بدأت بقراءة مذكرات هتلر.
اقترب إسكندر من الكتاب بتردد، نقله بحذر، وراح يتصفحه بينما صديقه يقول:
- أظنها الطبعة الوحيدة التي لم يلحقها تحريف.
تأمله إسكندر للحظة، ثم وضع الكتاب جانبًا:
- لماذا الآن؟
تجهم إبراهيم، وقال بعد أن أطلق زفرة ضيق:
- طلب إلي أبو حابس أن أقرأه، وأرفع له تلخيصًا.
دهش إسكندر:
- أن ترفع له تلخيصًا!
جلس إسكندر على الكرسي، فبدا من ورائه سرير مزدوج علق إبراهيم فوقه صورة أمه وأبيه وهما في ثياب العرس. سمع إبراهيم يقول كمن يعتذر:
- أعرف ما يدور في رأسك، ولكنه كان بمثابة أمر، ومن يعصِ أوامر أبي حابس أنت تعرف مصيره. اطمئن، فما كل هذا سوى شكليات ليس إلا!
دون أن ينجح في طمأنة إسكندر. انحنى إبراهيم، وسأله مداعبًا:
- كيف الأحوال عندكم؟
شاكسه إسكندر، وهو يفكر في فاطمة:
- نتقدم ضدكم!
- ضدنا! ضدي أنا! أنت لا تقصد ما تعنيه!
- أقصد ضد كل الآخرين. لا يريدون أن يتركونا في حالنا.
راحت تداعب فم إبراهيم ابتسامة صغيرة، وهو يفكر فيما قاله إسكندر: نتقدم ضدكم! التقدم المتراجع! وإسكندر ينظر إلى وجه إبراهيم، ويفكر: لإبراهيم وجه مدور، وعينان صغيرتان، وأنف طويل، وشعر كستنائي يفرقه على الجانب. اختفت ابتسامة إبراهيم:
- سيأتي يوم يتركونكم فيه كما تريد.
- أتمنى ذلك!
بدت له فاطمة قادمة من جسد أمها، بعينيها الواسعتين، وأنفها الدقيق، وشعرها الفاحم الغزير كعروس شركسية.
- أتعرف آخر قرار صادر من القيادة؟
عادت تداعب فم إبراهيم ابتسامة صغيرة:
- الاستنفار الملغي.
- إذن لقد وصلتك الأنباء!
- تقريبًا. وأنا أتساءل لماذا ألغى بسرعة؟
- بعد حل مسألة تحويل الطائرات حالة الاستنفار تصبح حساسة.
وصلتهما طرقات خافتة على الباب، جد خافتة، ثم أطلت فاطمة كباقة ورد أبيض:
- ماذا تريديان قهوة أم شاي؟
قال إسكندر:
- قهوة.
أتبع إبراهيم:
- وأنا كذلك سآخذ قهوة مثل إسكندر.
حط إسكندر يده الجريحة على المكتب، فسأله إبراهيم مهتمًّا، وكأنه يراها لأول مرة:
- ما الذي ذبح يدك؟
وفاطمة ترمق اليد الجريحة بقلق، وإسكندر يرمق القلق على وجه فاطمة.
رمى يده في حضنه، وأطلق ضحكة:
- لا شيء، لا شيء بتاتًا، بإمكاني في الغد أن أخلع الضماد.
لم يكن يبدو عليهما أنهما اقتنعا، مما جعله يضيف مرتبكًا:
- هذا من جراء تدريب الدفعة الجديدة من الفدائيين، كانت حادثة صغيرة!
أطلق ضحكة أخرى، وهتف بفاطمة:
- ولكن أين القهوة، الشعب يطالب بالقهوة!
عادت شفتا فاطمة تزهران، فشعر إسكندر بالخوف، وقال لنفسه: هذه الليلة لن تنتهي على خير.
كانت فاطمة قد انسحبت، وكان إبراهيم قد علق:
- لك محيا مشرق على الرغم من كل شيء!
أجاب إسكندر بتأنٍ:
- محيا استنفار ملغي!
حطت لحظات صمت أحسا بها طويلة لولا إبراهيم الذي قطعها مهمهمًا:
- الأمور لم تزل خطيرة رغم حل مسألة تحويل الطائرات!
ركز إسكندر نظره عليه: صديقي إبراهيم، الضابط في الجيش، يؤكد أن الأمور لم تزل خطيرة على عكس ما يدعيه أبو غزة! يؤكد الخطورة وفي نبرته رعشة! أيمكن ذلك للضابط؟ لقارئ (( المذكرات )) الذي سيرفع عنها تلخيصًا؟ إن عالمه يتوقف على أمر من أبي حابس على الرغم من كل شيء. راح يتابع بعينيه كل قطعة في الغرفة إلى أن أوقفهما على ستارة التل الأبيض، وجعلهما تسقطان:
- وأنا أيضًا أرى أن الأمور لم تزل خطيرة رغم حل مسألة تحويل الطائرات!
- هناك الكثير من الأمور التي تتطلب الصفح أو التغاضي في سبيل العمل الجبهوي الواحد على أكثر من مستوى وأكثر من طرف.
- أكثر من طرف؟
- من اللازم أن تحصل تنازلات، تنازلات بين التنظيمات نفسها من جهة، وبين التنظيمات والنظام من جهة أخرى.
- هذا ممكن، ولكن أين الثقة؟
- فليبدأ التوحيد، توحيد القوى، القوى كلها، وستأتي، فيما بعد، الثقة. لا تنسَ أن لنا عدوًّا مشتركًا.
رفع إسكندر يده الجريحة، ووضعها على المكتب بعياء:
- هل يمكن أن يحصل شيء من هذا، من التوحيد، قبل أن تكون هناك ثقة؟
- المهم أن نقوم بالخطوة الأولى.
أطلق إسكندر ضحكة متهكمة:
- ألهذا السبب طلبوا إليك قراءة هتلر؟
وتراجع حالما أحس بجرحه إياه:
- لم يكن قصدي! لكنني أعرف، وهذا هو رأيي الشخصي، أن هناك من يخطط لضربنا، فهل تكون الخطوة الأولى للتوحيد؟
لم يجبه إبراهيم، كان حائرًا، طيبًا، منعزلاً! رفع إسكندر عينيه إلى ستارة التل من جديد، وجعلهما تسقطان، بينما راح إبراهيم يفك أحد أزرار قميصه ثم يقفله، يفكه ثم يقفله، يفكه ثم يقفله، وفي النهاية، قال:
- عليك ألا تكون متحاملاً علينا إلى هذا الحد، عندنا عناصر وطنية، لربما كانت تفوق في مطامحها الوطنية بعض التنظيمات.
لكن إسكندر كان يفكر في هتلر، في سلام مثل سلام هتلر له مطامح وطنية أيضًا حسبما يدعي. أراد أن يقول لصديقه: أحرق الكتاب قبل أن يحرقك! وإذا بأصابع فاطمة تدق الباب، كما هي عادتها، بحياء شديد، فهتف إبراهيم، وكأن أحدهم قد مد له يدًا انتشلته من بئر:
- القهوة وصلت!
وبحركة عاجلة نهض، وتناول من يد أخته الصينية. رأى إسكندر، إلى جانب بكرج القهوة وفنجانين، صحنًا فيه أنواع مختلفة من البسكويت، فدمدم:
- كم أنت لطيفة، يا فاطمة!
كان إسكندر خائفًا، كان خائفًا من ظلها، من حركتها، من أنفاسها، وكان خائفًا لظلها، لحركتها، لأنفاسها. خوف العاشق، خوف العاشق والواثق بأن الموت رابض على مقربة منه!
صب إبراهيم القهوة في الفنجانين، وعندما اتحدت عينا إسكندر بعيني فاطمة، غدا سعيدًا، سمعها تسأل:
- ما أخبار الأهل في الضفة؟
لم يتردد إسكندر عن القول:
- أمي لم تزل صامتة، وأبي مشلول الذارعين، و...
لن يحدثها عن أخيه القتيل، لكنه تكلم عن أخته إيفون:
- وأختي إيفون تكره (( جِِفْنا )) كما كرهتها دومًا، وتفضل القدس عليها، تحس في ساحة باب العامود بحريتها، فتصرخ، وتصمت، ثم تعود وتصرخ، وتصمت، تصمت لتصغي إلى الصدى... إلى أن يجعلوا من دمها نكتة على الطاولات!
لم تفهم فاطمة مقصده:
- أتمنى أن أرى أختك إيفون قريبًا.
وسكتت يشدها حبل الذكرى قبل أن تقول:
- كانت لي معها ذكريات حلوة!
أراد إبراهيم أن يطرد الذكريات، فهتف ممتدحها:
- قهوتك لذيذة، يا فاطمة!
ضحك إسكندر:
- ولكنك لم تذقها بعد!
- قهوة فاطمة لذيذة دون أن أذوقها!
طبطب على كتفها:
- أعرف أن أختى ربة بيت ناجحة.
رمى إسكندر بابتسامة متعمدة، فرفع إسكندر فنجان القهوة إلى شفتيه، وأخذ منه رشفة، ثم قال لفاطمة:
- إذا ذهبت يومًا إلى (( هناك )) أخذتك معي.
قفزت فاطمة كالدمية:
- يا ليت، يا إسكندر، يا ليت! يا ليتنا نذهب كلنا كالماضي دون تهريب أو تصريح، وفي أقرب وقت!
جمجم إبراهيم:
- سنذهب في أقرب وقت، ولكن عليك الآن أن تهتمي بدروسك.
محا فرحها، وبدت حائرة. اتجهت نحو الباب، وقالت:
- إذا أردتما شيئًا فما عليكما سوى إخباري بما تريدان.
- إنه وقت ذهابك إلى النوم، ونحن لن نزعجك.
همهمت فاطمة:
- ليست لدي رغبة في النوم!
وخرجت بعجلة.
فكر أخوها: لا بد أنها تقرأ الجريدة، وهي، لهذا، مشغولة البال! وقال إسكندر لنفسه: هل يمكن أن يكون هذا بسببي؟ تطلع كل منهما إلى الآخر، وعلق إبراهيم:
- فاطمة لم تزل صغيرة!
رشف إسكندر قهوته، والتهم حبة بسكويت. جاءت من قلب الليل ثلاث رصاصات متتالية، فنهض إبراهيم، وفتح النافذة:
- أنا متأكد من أن مكانها ليس بعيدًا.
لم يتحرك إسكندر، أكمل رشف قهوته، ثم ناداه:
- تعالَ اشرب قهوتك قبل أن تبرد.
بدا إبراهيم مضطربًا، مسح عنقه بأصابع مرتجفة، وقال:
- لم تمضِ على حل مسألة تحويل الطائرات سوى بضع ساعات!
- لا تخف! الرصاص هذا من عندنا!
عاد إبراهيم، وقبض على يد إسكندر الطليقة، وبحماس غير متوقع، راح يطلب:
- لم لا نفعل شيئًا أنا وأنت؟ باستطاعتنا أن نفعل شيئًا.
- وماذا باستطاعتنا أن نفعل أنا وأنت؟
- أي شيء يحول دون المواجهة.
تركه إسكندر ينتظر جوابه، أحس به يتلوى كالسمكة التي أجبرت على الخروج من الماء، سحب يده بهدوء من قبضة صديقه، وأطلق زفرة ضيق قبل أن يقول:
- في الهيكل جيش من السوس، يا صديقي! جيش من السوس يزحف من الخارج إلى الداخل، ومن الداخل إلى الداخل!
- ولكنكم لم تفعلوا شيئًا يوم كان باستطاعتكم أن تفعلوا شيئًا!
- ستكون المواجهة حتمًا، ولكن متى؟ لست أدري بالضبط متى ستكون.
خبط إبراهيم كفه على فخذه، ونبر:
- إذن أنت مع الحرب الأهلية؟ أنت ضد نفسك؟
وتمالك إبراهيم موضحًا:
- ستكون حربًا وخيمة، ندفع ثمنها كلنا غاليًا!
ظل إسكندر ساكنًا، مضت لحظات، ثم نطق كمن يلفظ كلماته لأول مرة:
- كلانا لن يستطيع أن يمنع حربًا قادمة رغم أنف الجميع! إنها حرب أبي حابس معنا وليست حربًا أهلية، أبو حابس هنا لن يكون أبا حابس، بإمكانه أن يصبح روجرز أو موشيه ديان، لهذا ليست حربًا أهلية، فنضال وأنت وفاطمة أنتم الأهل.
دهش إسكندر لهذه الخلاصة: كان يعرف ذلك طوال الوقت،
ولا يحدد فحواه، نعم لم يكن شعار أبي غزة (( يتركنا أبو حابس في حالنا ونتركه في حاله )) سوى ضباب، وانقشع الضباب في لحظة متأخرة. راح الموج يقترب صاخبًا، والسمكة في سلسلة الظهر تلطم صارخة، فسمع صديقه يهمس بخوف:
- إنني، يا إسكندر، أخشى على الطرفين، على الطرفين كليهما، وسيكون الظفر وحده لعدونا المشترك!
- كيف يمكن أن نظهر أنفسنا بمظهر لا نكون فيه غيرنا؟
- ولكنه لمن الجنون؟
- في الجنون ثورة الفقراء وكل مطالب العدالة!
- إذا كان الجنون بالفعل ثوريًّا، وليس جنون أبي غزة أو أبي حابس... وماذا سيكون موقفك بعد أن نغرق كلنا في مستنقع الدماء؟
مستنقع الدماء! دماؤنا جميعًا! مستنقع لدم البشر الحيوان! غادر إسكندر مكانه ليلقي بنفسه في وطن الدم! في وطن التماسيح والأفاعي! ثم راح يسحب نفسه من الدم بصعوبة، ولكن بتصميم:
- سأقاتل حتى الموت!
- ستقاتل ضد نفسك!
- سأقاتل لأجل الوطن حتى ضد نفسي!
نهض إبراهيم، واتجه نحو النافذة المفتوحة، تطلع إلى أعلى، كان الليل في الأعلى، والغمام، والنجوم رغم الغمام، بدا الشارع واد السير خياليًّا، سرياليًّا، ممتدًّا، كالطريق الذاهبة إلى نهار الجنة البعيد، لا تعبره سيارة سفر واحدة. أحس فجأة بالليل، يقتحم عليه دنياه، الليل فقط دون النجوم، وبدلاً من أن يدخل، ويغلق النافذة، خرج بنصفه الأعلى، فظنه إسكندر يريد اجتراح السقوط من الأعالي، ولكنه سمعه يتنفس بقوة. إنه يحمل على عاتقه مسؤولية هو الآخر، مسؤولية لا تعني الليل، ولكن بإمكانها أن تصنع ما هو أشد ظلامًا. خرجت من ناحية العمارة المقابلة قطة راحت تدب بقدم نصف محطمة، وفجأة، تسلقت أحد الجدران، ثم ما لبثت أن زلقت، وسقطت على الأرض، فنهضت بصعوبة، وعادت تتسلق الجدار من جديد، فزلقت، وسقطت في دمها، ومرة أخرى نهضت، وحاولت تسلق الجدار، ولكنها سقطت على الأرض، وفي هذه المرة، بقيت في مكانها دون أن تبذل أدنى حركة.
جاء صوت منطفئ من داخل الحجرة:
- هل لديك سجائر؟
أرعب إبراهيم السؤالُ، لم يكن يتوقع ذلك، والجثة التي في الطريق لا تبعث في قلبه الشعور بالهدوء النفسي وسلام الموت. حرك إبراهيم قدمه صوب الخزانة، وتناول منها صندوق سجائر، رماه لإسكندر بعصبية، وهو يقول:
- أنا لا أدخن، ولكنني أحتفظ بصندوق.
قدم له علبة كبريت، وإسكندر يفكر: كل الدم القادم ولا يدخن! أشعل سيجارة، فأثار من حوله الدخان، ودخل بعض الدخان في عينيه. رآه إبراهيم، وهو يبكي دون إرادة، فراح يضحك عليه. شاركه إسكندر الضحك قليلاً، ولكن إبراهيم ظل يضحك، ويقول بأنفاس متقطعة:
- إنها تبدأ دومًا هكذا، أن يشعل أحدهم سيجارة، فيدخل في العين بعض الدخان، ويأخذ المرء بالبكاء دون إرادة!
انفجر ضاحكًا من جديد، وقلب على ظهره لشدة ما ضحك. فجأة، أطبقت عليه التعاسة بفكها الشرس، فرفع وجهًا مشوهًا، وقال موجعًا:
- هكذا هي حربنا القادمة.
شده إسكندر من كتفه:
- أنت لا تشك في ذلك!
قال إبراهيم شاردًا:
- وقَّع أبو حابس مرسومًا.
أطلقه إسكندر، وتراخى على كرسيه، والجذوة في يده تزحف، تزحف حتى الأصابع، حتى أطراف الأصابع، حتى أطراف الجبال. وقع أبو حابس مرسومًا! تهدم تمثال أبي غزة، فحاول رفعه على كتفه دون فائدة. أراد أن يسأله، كانت لديه أسئلة كثيرة:
- وإذا أتاك أمر؟
جمد إبراهيم عليه بناظره، وبقي أخرس، لا ينطق بكلمة.
عاد إسكندر يسأله:
- وإذا أتاك أنت أمر؟
همهم إبراهيم:
- أنا رجل عسكري على أي حال.
تذكر إسكندر صبيان المخيم وبناته وأهله الكبار الذين يعيشون أمل الهزيمتين، وهجمت على رأسه عصافير أسعد، فراح يسأل ملحًّا:
- هل ستدخل عمان بالدبابات، أنت دون سائر الناس، هل ستفعل؟
نظر إسكندر إلى عينيه، كانتا مهولتين، فيهما يربض عالم من الرعب غريب، ولم يتمالك ذاته، نهض صوب النافذة وأقفلها.

8
وجد إسكندر نفسه وحيدًا تحت المصباح، والمصباح يبذل أضواء باهتة كانت تتساقط متذبذبة، وكأنها دفقات مطر شفيفة، ما أن تصب في الظلام حتى تذوب، ويغدو العالم مقبرة. شم من حوله رائحة موتى، فرفع عينيه إلى أعلى، ورأى ضوءًا يهرب من نافذة الغرفة التي تسهر فيها فاطمة. فكر: كم هي تعاني! وانقبض قلبه، لم يجد ما يفعله من أجلها، كانت تعاني، والضوء يموت، وإسكندر ينصلب في مكانه رافعًا رأسه إليها. فاطمة تعاني! انتظر أن تنظر من النافذة، وأن تراه، فهي لم تقل له الوداع. بدا إسكندر إلى جانب المصباح العالي كقزم يصبو إلى تسلق السماء، قرصته نسمة قاسية، وما لبثت النافذة أن انفتحت، وأطلت فاطمة في الليل كأنها قمر جعله يرتبك، ويتحير، فقد كان قمرًا شاردًا. وجد نفسه يتقدم خطوة، ويتأخر خطوة. ابتسم في الليل، وخياله يتأرجح على الرصيف. رفع يده الطليقة إليها، حركها يمنة، وحركها يسرة، لكنه لم يظفر منها بأية إشارة. ضرب قلبه بعنف، ضد نفسه التي جرؤت على أن تقوم بالحركة، وضد يده التي ما أن تحركت قليلاً حتى انطوت متساقطة، ولم تكن لها جرأة العاشق وإلحاحه. أرغم يده على التحليق مرة أخرى، في الهواء، وجعلها تقوم بأكثر من حركة، بقوة هذه المرة، وفي عينيه قدوم الموج الذاهب في بحر الشتاء. وفي اللحظة التي شك في أنها رأته، خفقت الأجنحة كأنها احتفال العودة إلى الأوكار الضائعة. كانت فاطمة قد أشارت له بيدها، وامحى البعد الشائع ما بينهما، غدا إسكندر سعيدًا، والليل من حوله عرسًا، والنجوم عقدًا، والغيوم سفنًا، وقامت الأجنحة برقصة بدوية، بدائية، ولم يعد يحس بنفسه وحيدًا في السكون، كان يحس بنفسه جديدًا. وعمان تنام على مقربة منه، هي عرسه، حركة من يد فاطمة جعلت من عمان عرسًا. أيمضي في عبوره حتى النهاية؟ والأجنحة في خياله صنعت الريح. أيصل إلى أسعد مع العاصفة؟ وإبراهيم رفض الأمر، وقال آتي معك. كل هذا من أجل حبك. آتي معك أنا وعمان إلى حيث تذهب. أنت الجميل! أذهب معك أنا وعمان إلى حيث تأتي، أنت المقاتل!
حلقت الأجنحة مبتعدة، بعد أن مضت بالوكر الذي سيقوم بالإشراف عليه، فتذكر الحرب، وهجمت على خياله النار، نار من جهنم، سقطت فاطمة في النار، فصرخ، وجرى، واحترق هو الآخر، ثم بكى، ولم تأت إلى إنقاذه عمان. كانت عمان تنام كالطفلة في مهدها. بريئة ومذنبة! بريئة لأنها طفلة، ومذنبة لأنها لم تعد عذارء! بريئة لأنها لم تعد عذراء، ومذنبة لأنها طفلة! حرب ضد الحلم أو من أجله. حلم ضد الحرب أو من أجلها. نظر إسكندر من حوله، فلم يجد الحلم، ولم يجد الحرب. كان يقف في الليل، والليل صامت ومعتم، لا يصله بالأجنحة التي انطلقت منذ قليل. لم يكن كل ذلك إلا خيالاً. حركة من يد فاطمة جعلت الليل نهارًا، وأحلام العاشق طرقًا وحدائق وحرائق. ضحك من نفسه هو الفدائي! وراح يفكر في أمه التي لا تنطق، وفي أبيه ذي الذراعين المشلولتين، وفي أخيه الذي قتلوه لأنه كان طفلاً ليس مذنبًا، وفي أخته التي تحب القدس لتصرخ فيها ثم تصمت، فكر أيضًا في أولئك الذي يعبرون الحدود الآن، الآن أو غدًا، وهو، لهذا، تذكر أسعد، وعصافير أسعد، وفكر، مرة أخرى، في الحرب القادمة، ثم في شجرة الزيتون التي كان يضربها أبوه بالعصا لإسقاط ثمرها، فأسقطته: كم هي شجاعة تلك الشجرة! كم هي نذلة! ارتعب فجأة، على فكرة أن إبراهيم سيكون في الطرف الآخر، صديقه إبراهيم، وأطلق آهة: كيف يجعلون الصداقة مجرمة! كيف يجعلون الجريمة صديقة! هل يمكنه حقًّا أن يفعل شيئًا يحول دون المواجهة كما طلب إبراهيم؟ السؤال مرة أخرى. الوطن يقاتل الوطن ولا إرادة إلا للوطن عليه! أيها الوطن الكاسر! استعاد كلمات أسعد هذا الصباح، عندما تساءل هل سيصبح مزيفًا يومًا؟ بل على العكس، ستجد نفسك، يا عزيزي! وستطير عصافيرك إلى أريحا! ستطير أنت الملعون إليها! إليها هي الملعونة التي هُدِمت، لتعيد بناءها على طريقتك، وبطريقتك ستُفهم أبا غزة، ستُفهم العالم بطريقتك! ستجد نفسك، يا عزيزي، فالموت ليس واحدًا كما يقولون، لأن القضايا ليست واحدة، وقضيتك تنهض من الموت، تناهض الموت.
صار إسكندر حائرًا، شيخًا، طفلاً، كان يحب فاطمة، كان يريد أن يضع شفتيه على شفتيها، أن يتسلل بأصابعه من تحت قميصها، ويلمس بأصابعه نهديها، أن يحس بحرارة فخذيها، أن يلتصق بها. كان يريد أن يراها عارية، أن ينام عليها، أن يعانق البحر معها، أن يطحنها، أن يشبع منها. الموت لا يعد بذلك، ولا القضية، ولا الرصاص! صار لا يريد الموت. هل هو مجنون ليموت؟ ولكنه يحب قضيته أيضًا، قضيته الحبيبة اللعينة العادلة القاتلة، قضيته التي تشرب دمه، هل يحبها الآن ويندم؟ هل يقبل لها الموت ليعيش؟ أيها الزمن المدمر! والزمن حياة! وقال آه! لم لا تنهضي من الحياة؟ ولأحفظ علي المضي بالموت، كفكرة أولاً، ثم كرصاصة. يجب استيعاب الرصاصة، ولاستيعاب الرصاصة، يجب استيعاب الفكرة، والفكرة من أجلك تدمرني!
مرت قرب إسكندر سيارة للشرطة لم يفطن إليها إلا بعد أن عبرت، رآها تقف أمام بناية على بعد وجيز، فلزم مكانه. هبط خمسة رجال بسرعة إلى داخل البناية، فجمع إسكندر نفسه، وخفَّ إلى الاختباء في زقاق على يمينه. أمر بالتفتيش! راح يتابعهم من وراء جدار. أمر بالقبض على أحدهم ما في شك! هبط سادس من السيارة، وهو يشهر سلاحه، وراح يراقب أقل حركة في الطريق. أمر بالقبض على أحدهم في الليل! سيهبطون عما قليل ومعهم ضحيتهم! التهمة واضحة! وبعد لحظات، التفت الرجل الذي يراقب أدنى حركة في الطريق إلى باب البناية، كانوا قد هبطوا، وهم يحيطون بأحدهم كالطوق، وقد قيدوا رسغيه، بينما البناية صامتة، نائمة، ترتع في الوداعة، لا يظهر من نوافذها ضوء لنواسة واحدة. إسكندر وحده من كان يتابع العملية، وقد غلت دماؤه، وبعد أن أمسك بمسدسه، امتنع عن مواجهتهم في اللحظة الأخيرة. ذابت سيارتهم في الليل، وانتهى كل شيء، لم تعد في السماء نجمة واحدة تضيء كل هذا الموت. مشهد من الواقع! لقد بدأت الحرب! ألم يوقع أبو حابس مرسومًا؟ مشهد من الواقع المتفجر! سيدفعون الرجل في مبولة حتى الصباح، إلى أن يجيء المكلف بالتحقيق الذي يجيء دومًا، ولكنه يجيء على هينته! أحس في أعماقه بمرض، ومن أعماقه كان يقاوم. أنقل معي مرضي ومقاومتي! اندفع إسكندر قاطعًا الطريق. كان بإمكانه أن يواجههم، ولكنه لم يكن الحل المناسب. الحل الوحيد من أجلهم، من أجل خلاصهم، أن يصبحوا كلهم فدائيين! لكن هذا ليس معقولاً! الفدائي هو آدم المرجوم بالحجر! آدم المجبول بالدم! وأقر أسعد: ليس أبو غزة العصفور الذي أقاتل من أجله!
- تاكسي!
لكن التاكسي لم يقف.
استدار إسكندر، ونظر، كان قد ترك شارع واد السير في الوراء، وفي الوراء كان الصمت دومًا رغم زوبعة الاعتقال. مشهد جرى بواقعية تامة حتى النهاية! نهاية تراجيدية حتمًا، لأثرها المزدوج على إسكندر الذي يقطع طريقه، وعلى الممثل الذي يتابع ما بعد النهاية في مكتب المحقق. لم يفكر في الطريقة. تعبت عيناه بحثًا عن سيارة أجرة قادمة، ونظر إلى ساعته في الضوء المتساقط. كانت تقترب من منتصف الليل، وعمان في أسعد أحلامها! مدينة للسلام! كانت عمان مدينة السلام! وصلت إليه أضواء مطعم وبار (( علي بابا )). بدا فارغًا ليس فيه زبون واحد. رغب في التحقق بنفسه ليكون على خطأ، في النظر من وراء ستارة بابه الجلدية. كانوا يضربون أحدهم حتى الموت. دار إسكندر مع الانعطاف الصاعد إلى جبل عمان، لكنه عاد أدراجه، لأن ذلك لم يكن طريقه. وفي اللحظة ذاتها، رأى أضواء سيارة تهبط باتجاهه. وهي على مقربة منه، تبين له أنها سيارة أجرة، أوقفها، وصعد، وهو يطلب:
- مخيم الوحدات.
فتح السائق عينيه فاحصًا، ثم تظاهر بعدم الاهتمام. كانت له لحية نابتة، وكان إسكندر يفكر: له تعابير ممثل فاشل! غدت لإسكندر رغبة خافتة في تجاذب الحديث معه، لكنه عندما رأى سحنته النصف التعبة، النصف النائمة، عدل عن ذلك، وحاول استعادة خفق الأجنحة في خياله دون أن ينجح. لن تمضي هذه الليلة على خير بعد أن حلت بشاعة الحرب القادمة محل جمال السماء! وراحت السيارة تندفع مصعدة باتجاه المخيم بعد أن أطفأ سائقها الأضواء.
في الطريق، كانت هناك نقاط حراسة للفدائيين عديدة، وكانت هناك بعض السيارات التي تقف بانتظار تفتيشها، ولكن إسكندر ما كان يعلن عن هويته إلا ويسمح له بمتابعة طريقه. وفي إحدى المرات، شاهد أحدهم، وهو يرفع يديه على حائط، وأحد الملائكة يدقق البحث في جسده، ثم يهوي بسلاحه على ظهره. تفجر العرق من جبهة السائق، وفجأة، أخذ يشتم، ويضرب في المقود رأسه، ثم أوقف السيارة بعنف، وطلب إلى إسكندر أن يقطع باقي طريقه على قدميه.
نزل إسكندر حزينًا، وفكر في الذهاب إلى الملاك للقبض عليه، لكنما فاجأته صيحات هنود حمر تنبثق من جهة كان فيها الظلام على أشده. وصلت على التو سيارتان فيهما عشرات الفدائيين، وبين أذرع الملائكة غير الطيبين الذين في أثوابهم تقيدت بعض الفتيات اللاتي يضاعف الرعب اتساع حدقاتهم. ولحسن الحظ جاءهم واحد، وأخذ بهم شتمًا، وحرَّر الفتيات، والفتيات ينظرن في الظلام، ويبكين بصوت مرتفع.


9
في المعسكر، كان الفدائيون في قيامة قائمة بعد أن اعتُقل أسعد وعدد آخر من رفاقهم، وكان بعض المسلحين منهم يطوقون المخفر، يريدون إخراجهم بالقوة، فهرع إسكندر طالبًا نجدة أبي غزة، وأبو غزة في سابع أحلامه ينام قرب بطن أم غزة. أيقظوه، وهو يصيح، ويسب، ويهدد، لأنهم أيقظوه من نومه، ولأن الجرأة وصلت بالآخرين إلى حد اعتقال (( الشباب ))، شبابه، شبابه هو، أبو غزة وصفد واللد والرملة وسبع الذي على الطريق! سيعمل على إخراجهم في الحال، وسيتحدى أكبر رأس في البلد! وسيرى إذا كانوا يجرؤون على لمس مؤخرته!
وليوهم الجميع باهتمامه بالأمر، وأن الأمر بالغ الأهمية، ذهب مع إسكندر في البيجاما، وركب اللاندروفر، ولأن سائقه كان نائمًا، وهو ليس عنده وقت يضيعه! على أن يلحق به سائقه بسرعة! وطوال الطريق لم يكفَّ أبو غزة عن التهديد. لكن مسؤول المخفر رفض أن يفتح له الباب، فهو لا يفتح الباب لأكبر شنب في المقاومة! وطلب أمرًا رسميًّا بإطلاق سراح أسعد والآخرين. ثار الدم في أسلحة أفراد بعض التنظيمات بعد أن بلعها أبو غزة، وحاول تهدئتهم. قال ليس من مصلحتنا في شيء مواجهة أبي حابس، وفى مثل هذا الظرف الحرج، تفاجأ الجميع بمن فيهم جماعته. رسم أبو غزة على شفتيه بسمة أبوية، وقال كل هذا من دافع الدهاء والتكتيك! وإذا بأفراد تنظيم الدكتور يتهمونه بالخيانة، وبأنه عميل، ويقبض من أبي حابس ودول الخليج! يهادن الرجعية، وهو خاتم في يد إسرائيل والإمبريالية! زخ الرصاص، والمخفر يقوم قويًّا، وسقط بعض الفدائيين برصاص بعض الفدائيين إلى أن استطاع أبو غزة، فى النهاية، إسكات البنادق، وهو يَعِدُ، ويَعِدُ، ويَعِدُ. واتفق الجميع على أن المال من الدول الغنية (( الشقيقة )) مقبول، وأما المهادنة، فليست مقبولة. وأمر أبو غزة لتنظيم الدكتور الزعلان ببعض المال وبعض السلاح، وبشرط ألا يفهم شي جيفارا على هواه لا ولا ماو! وهو إن عمل لحساب سين أو شين من الدول فلا بأس، ولكن عليه ألا ينسى أننا فلسطينيون أولاً وقبل كل شيء، والقضية تبقى قضيتنا!
عندما عاد أبو غزة إلى مسؤول المخفر، بعد أن اطمأن إلى وحدة الصفوف، وطالب بإطلاق سراح أسعد وباقى السجناء رفض مرة أخرى، وطلب أمرًا رسميًّا: اعتُقلوا بأمر رسميّ، ويطلق سراحهم بأمر رسمي! وعلى قعقعة الأنفاس العصيبة والأصابع السريعة الانفعال على الزناد، وعد أبو غزة بأن يأتي بالأمر الرسمي. وكانت النسمة قد ازدادت حدة، والبيجاما لم تستطع وقاية جسم أبي غزة الوقاية الكافية، لا ولا بعض كتل الشحم واللحم التي له، فجمع ذراعيه كفقراء المخيم من حوله، وسارع وإسكندر إلى سيارته المكيفة. شتم السائق، ولعن كل أجداده، وطلب إليه أن يبدل رأس الحمار الذي له، فيشعل السخان بدلاً من المكيف. وما هي سوى عدة لحظات حتى عمَّ أبا غزة الدفءُ، وراح يثنى على التكنولوجيا.
كانت الوجهة، بالطبع، بيت أبي حابس. والليل يتقدم ببطء، يتقدم ببطء، والليل يتقدم ببطء نحو النهاية. قرص الخوف قلب إسكندر، فرمى النظر إلى أبي غزة. وجده منتشيًا في دفء التكنولجيا! تخيله ((عصفورًا )) متوحشًا يحاول الانقضاض عليه، فأمسك بمسدسه يريد قتله، وإذا بالسائق يقف أمام بيت أبي حابس.
- أبو حابس! يا أبا حابس!
رجا أبو عزة، وأطنب، وتوسل. قال إنه مطلبي الأخير، فلا تسود لى وجهي أمام التنظيمات! والولد حابس قد نهض من النوم، وجلس على ركبته، فراح يقبله قبلاً عديدة مديدة إرضاءً لأبيه، وفى الأخير، قبل أبو حابس بإطلاق سراح أسعد فقط لأنه ينتمي إلى تنظيم أبي غزة.
- والآخرون؟ ستسود لى وجهي، ستنكد لى عيشي، وأنا في عرضك!
- الآخرون مشاغبون.
- سأؤدبهم!
- وعدتنا في الماضي مرات، ولم تفِ بوعدك.
- هذه المرة سأفي بوعدي.
- لا أستطيع!
- إذا أردت استطعت.
- لن أستطيع.
- أنا زلمتك، يا أبا حابس! العم الأصغر لحابس!
وعاد أبو غزة يقبل حابس إرضاء لأبيه قبله العديدة المديدة.
- أتيتك بالبيجاما لتقف على أهمية الأمر وتعرف معزتك عندي ومعزة حابس!
انفجر أبو حابس مقهقهًا عندما اكتشف أن أبا غزة بالفعل في بيجامته، وبيجامته كانت مخططة، وأمر إلى جانب أسعد بإطلاق سراح أحد أفراد التنظيمات (( المعتدلة )). عندما علمت التنظيمات التي لم يزل أفرادها معتقلين بالأمر، أطلقت الرصاص على التنظيمات التي أفرج
أبو حابس عن أفرادها، وجرى نهر الدم بين الأجنحة. لم يستطع أبو غزة ممارسة هيبته على الجميع بوعوده هذه المرة، ولكن إسكندر أفهم الجميع أن لا فرق بين تنظيم وتنظيم. قبض على السلاح بيده الجريحة، وصاح بعزم وتصميم:
- غدًا سنطلق سراح كل المعتلقين مهما كان الثمن!
لم تعجب أبا غزة عبارةُ (( مهما كان الثمن ))، ومع ذلك، فقد كان سعيدًا لأن رصاص التنظيمات الفدائية قد صمت.
أخذ إسكندر إلى جانب، وأوصاه الوصايا العشر، لئلا تتأزم الأمور أكثر، فقال إسكندر إنه كان جادًّا فيما قال. أخذ أبو غزة يلطم، ويقول إنه وعد أبا حابس. وأراد أن يقبل يدي إسكندر، فرفض إسكندر، ووعده خيرًا.
ابتسم أبو غزة للثعلب الذي فيه، وقال المهم أن الأمور قد هدأت إلى الغد، وفى الغد، سيفرجها ربنا.


10
أطلق الفدائيون سراح رفاقهم المعتقلين بقوة الأسلحة، وبقي إسكندر يتطلع طويلاً إلى الركام الذي أصبحه المخفر، وإلى ظلال القتلى. كان النهار رهيب الحرارة، ومخيم الوحدات ممتلئًا برجال الميليشيا. المخيم عاصمة للفدائيين، والكلاشينكوف قانون الجميع، والدفعة الأخيرة التي يدربها إسكندر من المنخرطين عليها أن تقوم بواجبها. فكّر في فاطمة، فاطمة الحب، فاطمة الحنان، فاطمة الحلم، فاطمة الحرب، فاطمة الغرام، فاطمة الورد، فاطمة النهد الخجول تحت القميص، فاطمة الخاصرة الغائصة، فاطمة، فاطمة! وصله خبر تحركات أبي حابس، وتهديدات إسرائيل، وقنطرة الأسلحة الجوية. تحورت الأخبار، وتحركت التنظيمات مليون حركة. قامت، وقعدت، ثم قامت، وقعدت. إلى أين نذهب في هذه الثورة؟ إلى أين نذهب في هذه الفوضى؟ ولكنه كان مصرًّا على الذهاب حتى النهاية. سيمنع عنه مأساته! كانت هذه إراده الكلاشينكوف المونع على أكتاف الميليشيا زهرة حديدية. سيمنع عنه مأساته! وعمان طفلة تخاف من الشمس القوية. تقف في الظل، وتنظر إلى إسكندر، وتبتسم، وليس أكثر. تبتسم لى عمان، فأرى البسمة على شفتي فاطمة. فاطمة الحلم! فاطمة الحرب! فاطمة الخالقة! فاطمة القاتلة! هل يكون إبراهيم قد انتهى من قراءة (( المذكرات ))؟ كان عليه أن يرفع تلخيصًا. هو بالأحرى تقرير لا تلخيص. دخل المعسكر حائرًا، آملاً، ناضحًا بالعرق لشدة الحرارة. كانت مجموعة الفدائيين الجديدة بانتظاره. لا بد من إنهاء التدريب اليوم، فهو أوان الزهرة الحديدة. إنه أوانها! وليغضب أبو غزة ما شاء له الغضب، ليغضب، وليذهب، إذا كان لا يعجبه الأمر، إلى الطرف الآخر. عهد أبي حابس انتهى!
قال إسكندر لأحد المتدربين:
- التحديد تحت الهدف بقليل، بسبب اندفاع البندقية إلى أعلى مع الطلقة.
ودار على المجموعة، فردًا فردًا، في الشمس، وهو يكرر:
- التحديد تحت الهدف بقليل، بسبب اندفاع البندقية إلى أعلى، كما ذكرت لكم. التحديد قليلاً تحت يضمن نجاح إصابة الهدف.
توقفت سيارة إسعاف هبط منها أسعد وفدائيون آخرون كانوا معه، وإسكندر يصبح:
- اضربوا!
فضربوا.
- اضربوا!
فضربوا.
- اضربوا!
فضربوا، وهم يصيبون.
اقترب أسعد من إسكندر، وإسكندر يقول لأحد المتدربين:
- عليك أن تحدد هدفك بسرعة، لتقطع خط الرجعة على عدوك، أو لتوقف تقدمه.
بدا على إسكندر التعب، وهو ينحنى في الشمس، وعلى جبينه حبيبات من العرق، كان يريدهم أن يتقنوا إصابة أهدافهم (( مهما كان الثمن ))!
- ذلك يعتمد على التأهب والتواصل والدقة.
- وكذلك على الفطنة.
هكذا قال أسعد من وراء إسكندر الذي استدار، كان المتدرب قد رفع إلى أسعد عينين مطمئنتين، لأنه فكر في هذا هو أيضًا.
- أهلاً أسعد! ماذا قالوا لك؟
مشيرًا إلى الجرح الذي في ساق أسعد بيده الجريحة.
- ليس الأمر خطيرًا. ضمدوه لى بعد أن صبغوا الجرح باليود.
تابع انبثاق قطرات العرق من جبين إسكندر، وإسكندر يقول:
- لكننا لقناهم درسًا لن ينسوه!
وأسعد يفكر: ماذا لو يعرف أنها خضرة، أسنان خضرة، وعناق الدم؟ ماذا لو يعرف أنها خضرة، وليس جنود المخفر؟ قال أسعد:
- لأول مرة أراك تعرق في الشمس.
ابتسم إسكندر بحزن:
- شمس اليوم أقوى من شمس البارحة!
أعطاه أسعد ظهره، وسار باتجاه براكة أبي غزة:
- متى ستأتي إلى الاجتماع؟
- بعد قليل.
تردد أسعد، فسأله إسكندر:
- ماذا بك؟
أخذ أسعد يمسح وجهه، وعنقه، وصدره، ثم جمجم:
- لا شيء!
حث خطأه مبتعدًا، وإسكندر ينظر إلى وجوه المتدربين العرقى واحدًا واحدًا، ويقول لنفسه: الأمور لا تسير سيرًا حسنًا! وفجأة، صاح:
- اضربوا!
فضربوا.
- اضربوا!
فضربوا.
- اضربوا!
فضربوا، وهم يصيبون.
كلف مساعده عبد الرزاق، الأخ أبا مطيع، بمتابعة التدريب، وزحف بخطى ثقيلة إلى حيث يعقد الاجتماع. وهو في منتصف الطريق، ناداه أحدهم:
- أخ إسكندر!
استدار إسكندر، فرأى أحد الفدائيين:
- رساله لك، يا أخ إسكندر.
تناولها منه، والفدائي يطلب:
- الطابع، أريد الطابع إن لم تكن بحاجة إليه.
في السابعة عشرة، أشقر الشعر طويله، وعيناه عسليتان فيهما بريق غريب. سمعه يقول موضحًا:
- أهوى جمع الطوابع، ولدي منها مجموعة كبيرة.
أجال إسكندر النظر بين الطابع والبريق الغريب الذي في عينيه. طابع عليه صورة الجنرال دوغول. رسالة من باريس. هذا حتمًا صديقه الكاتب. طابع، وعينان عسليتان، ورسالة من مدينة الحب والجمال!
- ثم... ثم هذا الطابع ليس عندي مثله.
قدم له إسكندر الطابع، وهو لم يزل يفكر: رسالة من باريس! فهتف الفدائيّ: سأزين به المجموعة!
وإسكندر يحس بالحزن، لا يشعر بأصابعه، وهي تضغط على الرسالة. رسالة من باريس، وفدائي يجمع الطوابع، وطابع عليه صورة الجنرال دوغول! فتح الرسالة، وقرأها.
تفاجأ إسكندر حين أنهى قراءة رسالة صديقه الكاتب بالقائد حسان من ورائه، الذي سلّم عليه، وحياه تحيته المعتادة:
- كل السلطة للمقاومة!
أجاب إسكندر:
- بل كل السلطة للقلم المناضل النزيه المخلص النظيف الفقير نقودًا الغني كنزًا فكريًّا وإنسانيًّا لا يفنى!
ارتبك القائد حسان، ولم يعرف ماذا يقول، فسأل:
- ألا تدخل؟
طوى إسكندر الرسالة، ووضعها بحذر في جيب قميصه الصغير، وقال:
- سأدخل في الحال.
كان حسان قد دفع باب البراكة، وأدخل إسكندر قبله، وإسكندر يدمدم حزينًا: رسالة من منفى بلا بيت لبيت سيهدمه المنفى! لاح على إسكندر الغياب، وهو يشد على الرسالة في جيبه. ارتسمت على شفتيه ابتسامة طفيفة، وهو يتذكر طابع الجنرال دوغول: وفدائي يهوى جمع الطوابع!
أفاق على صوت أبي غزة مخاطبًا الجميع:
- لقد تأخر بنا الوقت، لنبدأ حالاً دون انتظار الآخرين!
كان حسان قد أخذ مجلسًا قرب الدكتور، وأسعد قد أخذ مجلسًا قرب مسؤول آخر اسمه أبو خيري، وإسكندر قد راح ينظر إلى أبي غزة بعيني الشاب العسليتين الذي يهوى جمع الطوابع، وعزم على القتال حتى النهاية. سيقوم بواجبه، سيقوم بواجبه الأسمى، وطارت في سماء خياله ضحايا الاشتباك لأجل اطلاق سراح الفدائيين المعتقلين كأجنحة النسور. هل سيفهمون؟ كانت لحظة عاشها، لحظة عاشها بالدم، لحظة سيعيشها صديقه بقلمه، وفى خياله ترتسم دومًا ببراءة صورة فاطمة.
قال أبو غزة معاتبًا، ولكنه كان قبل كل شيء قلقًا متوترًا:
- أخبركم أن كل شيء قد انقطع بعد (( عملتكم )) بينى وبين أبي حابس، وأبو حابس رفض استقبالي، وقال الدم لا يغسل إلا بالدم! وأنا أقول هدم المخفر، وقتل الجنود أخطر بكثير من عملية تحويل الطائرات، فتحملوا أنتم النتائج!
أمام دهشة بعض الموجودين، أوضح مرتبكًا:
- هذا لا يعني أننى لن أخوض الحرب، سأخوضها معكم، أنا،
أبو غزة، سأبذل دمي رخيصًا في سبيل قضيتنا العظمى حتى نجبرهم على التراجع، وليبقى علم فلسطين مرفوفًا في أعالي القمم، وطز في الازدواج!
أطلق زفرة عميقة، ثم هتف بنبرة مجلجلة:
- أيُّها الأخوة والرفاق إليكم آخر الأنباء...
وبعد أن سكت قليلاً، وتنحنح كثيرًا، قال بلهجة مختصرة:
- لقد تمَّ تشكيل حكومة عسكرية.
انحنى حسان بكرسيه إلى الأمام، ونبر:
- الآن والآن فقط يجدر بنا أن نطبق شعارنا الثوريّ العبقريّ الذي رفعناه، ولم نزل نرفعه، السلطة كل السلطة للمقاومة، ولا سلطة أخرى غير سلطتها الجبارة!
وأبو غزة يتابع بلهجة مفخمة:
- وبهذا يكون الأمر المعد قد وضح تمامًا، خلال ساعات سيعلنون تشكيل الحكومة العسكرية بصفة رسمية، ثم سيلي ذلك مرسومان، الأول تعيين حاكم عسكرى للبلاد، والثانى الطلب إلى الفدائيين أن يسلموا أسلحتهم، أو أن يخلوا معسكراتهم للالتحاق بأماكن مكشوفة على الحدود.
كانوا ينصتون حائرين وجلين: أيمزح أبو غزة أم ماذا؟ وإسكندر يفكر في الشاب الذي يجمع الطوابع: كيف بإمكانه أن يلقي سلاحه؟ كيف بإمكانه أن يلقي طوابعه في النار؟ أضاف أبو غزة بلهجة توجبها المعركة:
- الآن لا أحد يحاسب أحدًا بعد أن سبق السيف العذل، وأنا سأبقى قائدكم على الرغم من كل شيء، وعلينا واجب القتال حتى آخر نفس. الدبابات تقف الآن على أبواب المدينة، والأوامر التي أعطيها هي الاستنفار العام، والالتحاق بالأوكار فورًا، والعمل على ضمان طريق مباشر بينها وبين مخازن الإمدادات العسكرية.
أشار إلى خريطة لعمان معلقة، وظنَّ نفسه صلاح الدين الأيوبي، فجهر:
- إسكندر! رفعناك إلى رتبة عقيد، وستذهب إلى شارع واد السير، كما سبق واتفقنا، سيساعدك الأخ أبو اللطف إضافة إلى الأخ أبي مطيع لحساسية موقعك. أخ أبو خيري! يا كل الخير للمقاومة! يا من لا نسمع صوته الأبي في كل اجتماع، ونسمع عن أفعاله! ستذهب إلى الشارع المركزي، سيكون تحت مرمى بنادقك حتى الجامع الكبير، ليملأ هديرها كل سماء عمان! رفيق حسان! ستذهب إلى شارع سينما زهران لكثرة ما تحب السينما أيُّها الفنان، يا فنان القتال، وساحة وغاك تمتد من العبدلي إلى المركز، لتحقق بذلك شعارك الأقرب إلى قلبك. فهتف حسان: يحيا أبو غزة! تحيا كل السلطة للمقاومة! تحيا جبهتي العبقرية مخترعة الشعار! كان أبو غزة قد التفت إلى أسعد الذي ما لبث أن حاد بنظراته عنه بسرعة:
- سأتكلف أنا بنفسي بالمدرج الروماني.
ولكنه أردف بسرعة:
- أو أننى سأوكله إلى الرفيق الدكتور (فهتف الدكتور: لا ولا ولا! وأبوغزة يضيف دون أن يبالي بهتافه): وبصفتي القائد العام، سأكرس كل وقتي وحنكتي وذكائي لإدارة العمليات.
سأل أسعد قلقًا:
- وأنا، ما هو دوري؟
أمر أبو غزة:
- تنفيذ عملية الحدود الليلة.
- ولكن... الأمور هنا متفجرة، وأنا باستطاعتي القيام بمهمة من المهام الكثيرة التي...
قاطعه أبو غزة
- هذه هي الأوامر!
- ولكن يمكن تأجيلها، عملية الحدود ستظل قائمة، ولكن يمكن تأجيلها، ظروف المقاومة هنا أشد حساسية، وأكثر خطورة.
- علينا مواجهة الصهاينة حتى لا يقال عنا تركنا الهدف الأساسي، حَقِّق عملية الليلة، وعُدْ لنا في الغد سالمًا لأجعل منك ضابطًا كبيرًا مثل إسكندر، يا أسعد!
أراد أسعد أن يتكلم، فتح فمه، ثم عاد وأطبقه.
نبر أبو غزة بسلطة وهيبة:
- عليكم أن تلتحقوا بمراكزكم فورًا، وأن يكون التعاون ما بيننا متجاوبًا كل التجاوب. ولا يغب عن بالكم الإنذار التالي: عدم البدء من جانبنا، مهما كانت الدوافع والأسباب، بفتح النيران.
وقف، وهتف:
- ثورة حتى النصر!
وراح يعبطهم واحدًا واحدًا، وهم يخرجون إلى الجحيم جناحًا تلو جناح، إلى أن جاء دور أسعد، فأوقفه:
- أريد التحدث إليك.
ذهب أبو غزة، وأغلق الباب. تقدم من أسعد متظاهرًا بالهيبة، وقال:
- الذي أريده أن تنجح عملية الليلة وفاء منَّا للهدف الأساسي، ولأجل أن أجعل منك ضابطًا كبيرًا كما قلت لك.
جلس أمامه طالبًا إليه:
- خذ مكانًا!
أخذ أسعد مكانًا.
- ماذا بك؟ حدثني! أما زلت تحلم بالعصافير؟
لم يترك له جوابًا.
- أنا هو العصفور الأوحد! أنا أبو غزة وصفد واللد والرملة وسبع الذي على الطريق! عليك أن تنفذ الأوامر، وأن تنجح. لأن اليهود لا يعرفون إلا معنى واحدًا: القوة! ونحن أقوياء! أقوياء جدًا! أقوى مما تتصور! لذلك، هنا، لا تخش علينا شيئًا، وعليك أن تنجح في مهمتك هناك، لأنك قوي، ووفاء منك للهدف الأساسي، ولأجل أن نذهب سويًّا إلى ربى الوطن في يوم قريب!
- لكنني أفكر في الصمود هنا استحالة.
- تقصد أننا سننهزم؟ أعطنا يومين فقط، وحين عودتك ستجد الأمر منتهيًا.
ظل أسعد يلتزم الصمت.
- أسعد! ليس هذا ما يقلقك، قل لي بصراحة، فأنت تعلم مدى علو معنوياتنا. معنوياتنا عالية! عالية جدًّا! الثورة تحظى بدعم الجماهير، والشعب كله معنا! الشعب عن بكرة أبيه! سننفخ عليهم نفخة صغيرة، فيتساقطون كعلب الكرتون!
بذل أبو غزة بسمته الأبوية، ولكنه تفاجأ على صوت أسعد المختنق:
- والدبابات؟ والطائرات؟ والمدافع؟ وتهديدات إسرائيل؟ والأسطول السادس الأمريكي؟
- ما هو قصدك؟
- هل يمكن لنا إيقاف المدافع؟ وماذا عن الديار؟ والأطفال؟ وأريحا؟ كل هذه التساؤلات التي لا يمكن لي معها تصديق أن وضعنا مريح!
أمسك به أبو غزة من ذراعه، وجذبه إليه:
- كان بعض خطئنا، هذا صحيح، ولكن هم الذين أعدوا لذلك. الديار والأطفال ليس ذنبنا، وهدفنا السامي إلى استرجاع أريحا سيبقى الأسمى.
بذل بسمته الأبوية من جديد:
- الجيش العراقي بدبابته سيكون إلى جانبنا، هاأنذا أفشى لك سرًّا عسكريًّا كان من اللازم أن أظل محتفظًا به لنفسي، لكنني أثق بك، ولأنني أثق بك أفشيت لك سرًّا عسكريًّا خطيرًا كهذا، لترى مدى معزتك عندي.
أفلت ذراعه:
- ثم... وحدات مدرعة من الجيش السوري ستدخل الرمثا لإسناد ودعم الثورة. هل أنت سعيد الآن؟
عاد أسعد يفكر في الأسطول السادس الأمريكي الذي ترسو وحداته قرب شواطئ بيروت، وفى عصافير جهنم. أضاف أبو غزة بصوت هامس:
- أعيد لك ما قلته منذ قليل، الثورة تحظى بدعم الجماهير، والشعب كله معنا، الشعب عن بكرة أبيه، يا أسعد، وأزيدك علمًا أن أسلحة من مصادر كثيرة ستتدفق علينا. سنجعلها فيتنام ثانية، بل وأكثر، فأين شجاعة الفيتناميين من شجاعتنا؟ سنجعلها محرقة للمتواطئين، وسنعتق الجماهير. الثورة تعني هذا، إعتاق الجماهير، يا أسعد. وليصبحوا كلهم فدائيين سندفع الشمس بالدم، هذا صحيح، فكيف تسمينا، إذن، ثوارًا ومناضلين؟
لفَّ كتفي أسعد بذراعه:
- ما رأيك الآن؟
تحول سيل الشمس المتساقط من سقف البراكة في عينى أسعد إلى سيل دماء جرف (( اليونانية )) بأمواجه، فقال أسعد كالدائخ، وفى جيبه يضغط على بضعه أعواد كبريت:
- الثوار في الجزائر لهم أرضهم اليوم ولهم سيادتهم، أليس كذلك؟
- نعم، هذا صحيح، ولكن إياك أن تنسى المليون ونصف المليون شهيد!
نهض أسعد، وهو يحس بالعياء:
- سأعد نفسي للعملية.
- الله معك! وأنا معك! والوطن معك!
سار أسعد قاطعًا الجحيم إلى الثكنة، والشمس حمراء، تفرض جمالها القاتل على العالم، والمعسكر في حركة غير عادية. أخذ أسعد يفكر مرة أخرى في العملية، أصبح لا يفكر إلا في العملية، في عمليته هو. تضاعفت الحركة في المعسكر، والشمس دومًا حمراء، يقتل جمالها الصيف الماضي على مراكب الخريف القادمة. كانوا يستعدون! وهو ذاهب، في الليل، إلى ناحية تبقى مجهولة إلا عنه، ناحية ينفذ فيها عمليته، عمليته هو! وكان الفدائيون من حوله قد بدأوا يقفون في صفوف أمام الشاحنات، وللوهلة الأولى، أحس أسعد بمساحة المعسكر. معسكر ضيق! فكّر في الفدائيّ الذي أخذ مكانه وقت إصابته، واستعاد صورته، وهو يجمع بين حاجبيه بعصبية، وقد ملكه عناده الغريب: لبندقيته زناد يشبه زناد كل البنادق، إلا أن لحركة إصبعه العنيدة عليه معنى آخر. كيف تفرض الظروف على أبي غزة أن يكون قائدًا؟ هل تفرضه الظروف أم القوى العظمى التي تتحكم بالمنطقة؟ الرصاصة هي اضطرارنا لمعرفة أنفسنا! هل يعرفنا أبو غزة؟ هل يعرف الرصاصة؟ هل تعرفه الرصاصة؟ كيف يخلص من ذنبه كعصفور؟ ولكنه سيذهب إلى الشجر بعد أن تنتهى العملية، وسيصغي إلى التغريد، وليكن أبو غزة ما يكون. كيف يسعهم احتمال انسياب الزمن بعد أن يصيروا في أوكارهم؟ بعد أن أقف قرب رفيقي الذي سيذهب معي إلى التنفيذ؟ سأعد إلى الألف، ثم إلى المائة، ثم إلى العشرة، ثم سأتقدم. هكذا يمكن لنا أن نقطع الزمن إلى الهدف. سأعيش العملية. لا أحتاج إلى أكثر من هذا: أن أعيشها! أن يعيشها أيضًا رفيقي. وبعد ذلك، فليأتِ الموت. هذا لا يهم، هذا لا يهم! الذي يهم أن نصنع من موتنا جسرًا.
وقبل أن يدخل أسعد الثكنة، سمع إسكندر يطلب إلى مجموعته:
- اصعدوا إلى الشاحنة!
رآهم، وهم يصعدون بأقدامهم القوية، وزهراتهم الحديدية، ولكن سحنة إسكندر كادت ترعبه، ظنَّ أنه مريض. فكر، مرة أخرى، في الأسطول السادس الأمريكي الذي يرسو على شواطئ بيروت، وهيمنت عليه صورة رفاقه الذين يؤمنون بالحرية. الحرية قبل الأرض أم الأرض قبل الحرية؟ أصبح، بينه وبين نفسه، يتمنى أن يراه صديقه قبل أن تذهب به الشاحنة، ليرفع إليه يده مودعًا. لكن إسكندر ركب إلى جانب السائق، مكروبًا، مهمومًا، مفكرًا في موتِ واحدٍ يحبه، والشاحنة ذهبت، وإسكندر ذهب... فكّر أسعد، وقلبه يخفق بعنف: لقد ذهبوا! دخل ثكنته، وتابع طريقه عبر ممر ضيق. كان عليه، هو الآخر، أن يذهب. وقبل أن يدلف إلى مكان سريره، رأى الفدائي الذي خلفه أثناء إجازته يقف مواجهًا إياه مبتسمًا دومًا بعناد. تقدم الفدائيّ خطوة، وقال:
- استلمت أمرًا بمرافقتك.
ربَّت أسعد على كتفه:
- اذهب، واحصل على بعض الراحة، فلم تزل لدينا ساعتان طويلتان.
لكنه لم يذهب:
- معذرة لما بدر مني يوم أمس!
ابتسم أسعد:
- لم يبدر منك شيء مشين.
- بلى!
و ألحَّ:
- اطلب منك المعذرة!
اتسعت ابتسامة أسعد:
- في انتظارنا عمل صعب، وعليك أن تذهب لترتاح بعض الوقت.
هتف به قبل أن يذهب:
- إلى اللقاء بعد قليل!
رد الفدائيّ:
- إلى اللقاء!
نظر أسعد إلى نفسه في مرآة مكسورة، ورأى وجه الفدائيّ الذي سيرافقه إلى العملية يطل عليه بعناد شديد. تناول سلاحه، ووضعه في حضنه، ثم نظر إلى ساعته. أحس بوجع في رأسه، ففتح جرارًا صغيرًا، وتناول منه حبتي أسبرين شربهما، وتمدد على سريره ذي الأقدام القصيرة، وخفق أجنحتهم التي في الخارج قد راح يخفت بالتدريج إلى أن سقط كل شيء في الصمت، وسقطت الشمس في دمها، ولم تذهب عمان إلى نومها. كان القلق يجرفها تمامًا مثلما يجرف خضرة، خضرة النعيم والجحيم، وبين ذراعي أسعد كانت تتفتح زهرة حديدية يسقيها الانتظار الطويل.


11
رجمت الدبابات بجحيمها المواقع، فردت الأوكار عليها بثمار الجنة المضطرمة، وراحت جهنم تهجم على الشوارع، والدخان ينشر في النهار الظلام. كانت الشمس تصعد على عمان مع الشجر في الصباح، فسقطت الشمس، واحترق الشجر، وجلست عمان في ركنها، ترصد البرق والموت والرعد والدخان وانتظارات فاطمة وآهات إسكندر وطلقات الأماني والدبابات التي تجأر كحيوان شرس كحيوان حديدي.
كان حسان يستمع إلى الراديو اللاسلكي من جناحهم الذي في العبدلي يقول:
- القصف بدأ... آلو... القصف بدأ!
غادرت مجموعة من الطيور البشرية إحدى البنايات المحترقة، وأخذت في زاويا الشوارع أماكن متفرقة، ولم تمنع أطنان القنابل امرأة سمعوها تبكي، ثم سمعوها تصمت في الضجيج. هو يوم الحشر، ونحن ملائكة النار، نضرب البازوكا والكلاشينكوف كي نمنع احتراق طفل لم يخطئ أو انتحار امرأة قضت كل عمرها لا تحلم بالموت! نحن ملائكة البازوكا والكلاشينكوف نقول للشيطان الحديدي نحن صامدون في وجهك وحتفك سيكون على أيدينا!
ركض أحد الفدائيين ليقطع الطريق من رصيف إلى رصيف، ولم يصل الرصيف، ومخالبه في الأرض قد تركت أثرًا. وعلى مقربة منه، تفجرت دبابة محترقة، وتحولت إلى لوحة فيها اللهب عملاق، والدخان مارد. جاء رجل يدق في جسده البرق، وهو يعدو في الطريق، لم يكن يريد الصراخ بعد إعلان جهنم، كان يعدو، والماء حلم، إلى أن قتله الحلم.
نادى حسان الموقع الذي في العبدلي:
- آلو... العبدلي! آلو... العبدلي! آلو... العبدلي!
والعبدلي يتحول إلى أنقاض: البنايات العملاقة التي على الطراز الأمريكي تنتفض إثر القصف كصفائح التنك، وتنهار. الناس الذين استطاعوا الهرب من الموت يهرعون إلى الموت في الطرقات، والبرق يحرق دون رحمة، والدخان يصبح ثوبًا، والشمس قميصًا ممزقًا. جرى حسان يطل من النافذة المرتفعة على الدمار، فرأى مشهدًا من مشاهد يوم القيامة، والحيوانات الحديدية العملاقة آلهة المغفرة، تقطع على الهاربين من لحظة الحساب بحممها الطريق. كانت الحيوانات الحديدية تتقدم ببطء، ولكنها كانت تتقدم.
عاد حسان يضرب ذراع الراديو بعصبية:
- آلو... العبدلي! آلو... العبدلي! آلو... العبدلي!
والعبدلي دومًا يتحول، والعبدلي حريق يتوحش! رجع حسان إلى النافذة، ونظر إلى هجمة الدخان القادم، ثم التفت إلى الأوكار والرجال. كانوا جميعًا في أماكنهم، وكانوا جميعًا مشتاقين، والموت كان عصفورًا. ظهرت مجموعة الدبابات المتقدمة، فشاهد حسان الحيوانات العملاقة التي تتقدم ببطء، حيوانات منقرضة تخرج من بطن التاريخ، تلك هي الحيوانات الهادرة رعدًا ودمارًا وكأنها الإصرار على حرق الجنة! انفجرت على مقربة من البناية التي يكمن فيها حسان قذيفة، فأجاب بالنار على البرق، وكذلك فعل الرجال، وأصبح الشارع بستان لهب، وبين المواقع هذا النداء:
- قاوم! قاوم!
غدت البازوكا قدرًا للدبابة عندما تصيب قذائفها الهدف، وتحولت بعض الحيوانات الخيالية إلى كتل من الحديد المنصهر. تنادت البنادق، وانسحب قطيعهم أمام النداء. كيف لما تنبض على الأكتاف زهرات الأمل المنبثق من الموت، وفى لحظة واحدة تهجم الحياة! كانت الدبابات قد تراجعت، وبعض الفدائيين قد أخذوا يبنون متراسًا أمام سينما زهران. لم تكن لعبة، ولا نزهة، كانت مصيرًا! وراحت الحياة تهجم مع الشمس من جديد، والشمس تصعد من فوق قمم الجبال: لاسعة، حارقة، جمرية، ذهبية، متعالية، مختالة، متكبرة، متجبرة، ولكنها مشرقة! سارع حسان إلى الراديو طالبًا غرفة العمليات هذه المرة:
- آلو... غرفة العمليات! آلو... غرفة العمليات! آلو ...غرفة العمليات!
ولا أحد يجيب في غرفة العمليات.
عاد يطلب غرفة العمليات مرة أخرى دون أن تجيب غرفة العمليات! أشعل سيجارة، وذهب إلى مكانه على النافذة، وأحد الفدائيين يقول مبتسمًا:
- أول انتصار!
نظر إليه حسان، وإلى الدبابات المتراجعة، ومن فمه ينبعث الدخان. ونظر إسكندر إلى نافذة فاطمة المغلقة، وهو في قلب شارع واد السير، ورأى كيف تتكسر أغصان البرق من حولها، والفدائيون يقلبون الشارع بالفؤوس، ويرفعون المتاريس، والنوافذ كلها مغلقة. هم وحدهم في قلب الشارع، وعمان تغلق كل شيء على نفسها، وعمان تخاف من موتها. قال إسكندر لأحد الشبان:
- ضع بعض أكياس الرمل هنا.
استجاب الشاب، وهو يسأل:
- وهل سيهجمون قريبًا؟
كان الشاب الذي أعطاه الطابع، وكان يرتعش:
- سيهجمون قريبًا، هجموا على العبدلي، وسيهجمون علينا قريبًا.
- أمتأكد أنت أنهم سيهجمون علينا قريبًا؟
- أصوات القنابل في الناحية الأخرى تنبئ بذلك.
قال الشاب: أشكرك!
دون أن يتوقف عن الارتعاش.
عندما أراد الذهاب، أوقفه:
- لديك سلاحك وحصة جيدة من الرصاص، أليس كذلك؟
هزَّ الشاب رأسه، والعرق يهجم على جبينه.
- إذن ما عليك سوى أن تطلق كل الرصاص الذي لديك حين يبدأ الهجوم.
استطاع الشاب أن يتوقف ارتعاش صدغيه:
- هذا ما أتمناه، فهي المرة الأولى التي أخوض فيها معركة. ذهب باتجاه أكياس الرمال في شاحنة، لكن إسكندر ناداه:
- هيه!
التفت الشاب.
قال له إسكندر:
- بعد النصر سأعطيك كمية من الطوابع أحتفظ بها، أنت تهتم بجمعها، أليس كذلك؟
لم يبدُ على الشاب السرور كما توقع، حنى رأسه، وجمجم:
- أشكرك!
وعاد يعين في صنع المتراس.
قال الأخ أبو اللطف لإسكندر:
- رساله لاسلكية من القائد حسان، يا أخ إسكندر.
خفَّ إسكندر إلى الراديو، وقد صارت أصوات القذائف قريبة، شديدة، متوترة، مضطرمة، والشمس هناك شقراء، بيضاء، حمراء، سوداء! والشمس هناك زنجية، برنزية! أصبحت أصوات القذائف كالرعود. هل هو الوعد بالمطر؟ والموسم القادم هل سيكون في غلاله عظيمًا؟ كانت في السماء الرعود، والشمس في السماء ابتسامة مدمرة! والبنادق تصبح الأمل الأوحد أو اليأس الأوحد. يبقى الأمل دومًا حتى في الموت. يصبح الموت طريقًا. أي الطرق سنأخذ إلى تحقيق البقاء؟ كل الطرق حتمًا. وهذه المتاريس هي مراكبنا. والبحر بعيد. النار الآن هي الوسيلة. سنبحر في اللهب إلى الماء. سنبحر إلى أن نصل الماء. ربما نغرق، وربما نذهب إلى الشاطئ. ومن الشاطئ نبدأ. تقتلنا البداية. هي مأساتنا. والبداية تعني أن نخطو أول خطوة. كالطفولة. بلا خوف. فالطفولة لا تعرف الخوف، والخوف يأتى فيما بعد. أما الآن، فعلينا أن نمارس المشي على الرمل، ونترك في الرمل أثارًا.
كان أحد الفدائيين، رجل ضخم كالبرنيق، قد رفع سلاحه إلى أعلى، وصاح بالرجال أمام صياح المدافع التي لا تتوقف عن الاقتراب:
- حان وقتكم، أيُّها الرجال! لن يجعلوا من رؤوسنا هرمًا! والذى يشك في رجولته، فليجس بين فخذيه قبل فوات الأوان!
صاح به آخر:
- سارع، أيُّها البطل، إلى إنهاء المتراس إذن قبل فوات الأوان!
صاح بهما ثالث:
- لا وقت للكلام!
صاح بهم رابع:
- إلى العمل! إلى العمل، يا براز!
كانت مجموعة أخرى من الرجال، على بعد وجيز، قد اقتحمت أحد البيوت عندما رفض أهله فتح الباب، ونقلت الأثاث عندما رفض أهله، مرة أخرى، التخلي عن بعضه. حتى أن أحد الفدائيين قد راح يضرب أحد قاطنيه إلى أن استنزف دمه، ثم مسحه له بعطف، وهو يردد: هذا لأجلكم! هذا لحمايتكم! قال الرجل الضخم لجاره، وهو يضرب في قلب الشارع فأسًا:
- كانت لهم الجرأة على أن يبدأوها!
والآخر يحصن المتراس بفراش وكراس:
- وكانت لنا الجرأة على ألا نبدأها!
- لن تقول لى إنك لن تقاتل.
- سأقاتل! أما أبو غزة، فلم يكن يريد أن يقاتل، ولن يقاتل!
- الآن كلنا في المعركة فداء! الآن كلنا في النار سواء! وأنا لا أقطع الأمل في دحرهم، الأمل واجبنا!
انطلق صوت الإذاعة المتنقلة لراديو الثورة:
- الحذر والصمود، أيُّها الأبطال! يا عصافير الفداء! الحذر والصمود، أيُّها الأبطال! أيُّها النسور الكواسر!
ابتعد الصوت، وانهمك الفدائيان في حمل أكياس الرمل من الشاحنة إلى المتراس دون أن يفارق أحدهما الآخر. سأل الفدائيّ الضخم:
- لهجتك تقول لى إنك من إربد.
- أنا من إربد هذا صحيح وأنت لهجتك تقول لى إنك من غزة.
أطلق الضخم ضحكة ضخمة، وهو يهز رأسه مؤكدًا والآخر يعرف بنفسه:
- كنت شاويشًا، وقد شاركت في حرب حزيران. كان أبي يريد أن أصبح شيخًا إمامًا، ويا ليتنى نفذت إرادته. لقد عشت المأساة التي صنعوها سنه 67.
لم تختفِ الابتسامة من فم الغزاوي الضخم الفائح برائحة غزة وبحر غزة وجوز غزة، بل اتسعت ابتسامته، وقال:
- رغم ما نحن فيه من كارثة إلا أن أملنا عظيم في المقاومة! جمجم الشاويش:
- لا أمل كثيرًا في أبي غزة!
نبر الضخم، وقد امحت ابتسامته:
- أنا ابن غزة، من خصرها خرجت، ومن عزمها وأملها وأصالتها أقول لك لا تقطع الأمل في المقاومة!
بعد لحظات من الصمت والعمل، سأل الشاويش:
- ماذا كنت تعمل؟
- كنت جزارًا، واسمى أبو فريد الغزاوي، وامرأتي وأولادي تركتهم في غزة شاطئًا للبحر، لى خمسة أولاد كبيرهم الذي اسمه فريد في السابعة، وعدتهم بسفينة.
- لم أشاهدك قبل اليوم.
- ما هو معسكركم؟
- الوحدات.
- أما أنا فالمدينة الرياضية.
جاء إسكندر، الذي التف به عدد من الرجال:
- إحدى فرق المشاة في طريقها إلينا... معكم عشر دقائق لإنهاء المتاريس والعودة إلى أسلحتكم.
تفرقوا إلى العمل بسرعة، وتعالت بينهم الصيحات. خاطب إسكندر مساعده عبد الرزاق باسمه الحركي:
- أخ أبو مطيع! انقل النبأ إلى جناحنا الآخر، وابق معهم لئلا يباغتونا بهجوم من الخلف.
خف عبد الرزاق ذاهبًا إلى الجناح الآخر، وإسكندر يقول لمن معه: افتحوا عيونكم جيدًا، وإياكم أن تتركوهم يخترقون مواقعنا.
مرت به إحدى البنات المعاونات في إسعاف الجرحى، فتخيلها فاطمة، وعاد يتطلع إلى نافذتها المغلقة. نافذتها دومًا مغلقة، كسائر النوافذ في شارع السفر الطويل. قال عن إبراهيم هو جندى أولاً وقبل كل شيء، وهو حتمًا الآن في الطرف الآخر. هل أنهى قراءة ((المذكرات))؟ لم يمنحوه الفرصة كاملة. لم ينتظروا كتابة التلخيص. لم ينتظروا كتابة التقرير. في الحرب هكذا هم عصيبون!
- دبابة قادمة... آلو! الجناح الأيمن! دبابة قادمة! حوِّل!
- نحن على أهبة! حوِّل!
- الله معكم! انتهى!
أمَّا الشمس، فلم تكن معنا، كانت جحيمية! هل هي مؤامرة الشمس وآلات الجحيم على الله وعلينا؟ جاءت حسان امرأة عجوز ترجو. عمان أخيرًا تأتيه في بدنها القديم. كانت ترتعد، رأى دموعها كالنهر المتفجر من أخاديد وجهها اليابس، فود لو يصفعها:
- أطلب إليك أن تخلي البيت، وتلتحقي بسائر السكان في الطابق الأرضى حالاً، نحن نفرغ البناية قبل أن تقصفها المدافع.
- لن أخلي البيت... هذا بيتي، وأنا لن أتركه.
- ستقتلك قنبلة أو رصاصة.
- لن أترك بيتي إلا على نعشي.
- أيَّتها المرأة الحمقاء!
طلب إلى اثنين من رجاله أن يحملاها عنوة، وهى تقاوم لا تريد العيش.
سمعها تسأل بعد قليل:
- متى سينتهي كل هذا؟
نبر أحد الفدائيين:
- الله وحده من يعرف متى!
والراديو اللاسلكي يعمل بين المواقع:
- آلو! الجناح الأيسر! حوِّل!
- الجناح الأيسر يجيب! حوِّل!
- تسلق في بنايتكم! ابعثوا بقوة إلى السطح حالاً! انتهى!
كانت الدبابة التي سبق الإشعار عنها قد اخترقت أحد المواقع بعد أن قذفت حمم الجحيم، وحاولت اختراق المتراس الذي يقص الشارع، فأتاها أحد الفدائيين. عصفور وحشي قال لأمه أنا مسافر. وعندما نسف الدبابة بعبوته حلَّق في الأجواء مبتعدًا. راح المدفع يسأل، والمتراس يجيب. وفى الوكر باغت الرجال بعض المتسللين. كيف أمكنهم الصعود إلينا؟ كنا نعرف بعضنا، وكنا لا نعرف غيرنا. إلى أين أنت ذاهبة أيَّتها الثورة؟ إلى أين أنت ذاهبة أيَّتها الفوضى؟ رصاصنا يقول. يهتف. ينادي. يصرخ. أحيانًا يبكي. وأحيانًا يصمت. أحيانًا يغضب. وأحيانًا يغضب ولا يغضب. وأحيانًا يصمت ولا يصمت. وفى الصمت يأتينا غضب الأجنحة، فننهض، وننظر إلى السماء، ونرى الشمس عصفورًا. نبتسم للصورة. ونعرف في الموت معنى الاحتراق. وفى الموت معنى الحقيقة. ويبقى الموت هو الأقوى.
كان إسكندر يتابع بكل حواسه أهداف الطلقات، وفى الطرف الآخر وحش الموت. أنياب الثورة متى ستطبق عليهم؟ الحيوان الخيالي سيكونها. أليست هي لحظة المصير. لحظة الدخول إلى الجنة! لحظة الدخول إلى الجحيم! لحظة فيها لحظتان كاللحظة المبدعة!
راح إسكندر يتابع بكل جوامع استحكامات الرجال: متاريسهم، بنادقهم، انتظاراتهم. ينتظرون ليمضوا إلى أبعد، هذا هو سرهم. ينتظرون ليذهبوا، فالبقاء متعب، وفى الذهاب قوة العودة بعد طول غياب. نظر إلى الشمس، وجبينه ينضح بالعرق، وقال: فاطمة هناك فوق القمم! هل يصعد إليها؟ ولماذا لا تنزل هي إليه؟ النزول أسهل. لتنزل إليّ، ثم لنصعد معًا. الصعود أيضًا هو الذهاب. الذهاب إلى نقطة أعلى، جهة أعلى، عالم أعلى. ليس أبو غزة العصفور الذي يقاتل من أجله. أسعد قال هذا. هو هناك. ربما قام بعمليته، وربما لم يقم بها. ربما هو في طريق العودة إلى عمان، وربما لن يعود. كيف تصبح عمان طريقًا للعودة! تمامًا كغزة! كل الطرق تؤدي إلى غزة! رغم أنفك يا نيرون! ربما قام بعمليته، وربما تأخر. تتأخر الأشياء في اللحظة الأخيرة. يمكنها أن تكون الأقوى. قبل أن نبني المتاريس في الشوارع قضينا ليلة نفكر، ليلة كاملة لاتخاذ قرار. هذا كثير والحرب على وشك الانفجار! أبو غزة كان يمانع. قالت أوامره اللاسلكية إننا نبالغ، ثم بدأت الحرب، وانقطعت أوامره اللاسلكية. ربما قام أسعد بالعملية، وبقى إلى الأبد هناك. هل يضمن المرء ملاك الموت لحظتها؟ هو لا يقبل الرشوة. الطريقة الوحيدة أن نمنع عنا الرصاص.
جاء صوت الإذاعة المتنقلة لراديو الثورة يدعو إلى الحذر والصمود، ويناشد الأبطال، ويناشد النسور، فأمطر الرصاص بعد عاصفة المدافع. بانت مجموعة من العربات المصفحة غير بعيدة، ووقعت قذيفة على ورشة للسيارات تصاعدت منها الحرائق، ومع احتدام القصف، وانطلاق أقواس البرق، وصلت إسكندر أصوات المختبئين كيفما اتفق لهم الاختباء. كان بعضهم قد خرج من مخبئه يجري في كل الاتجاهات، في اتجاه المدافع، وفى اتجاه الشمس، وفى اتجاه المتاريس. وراحت عمان تفتح بأصابعها جرحها، وإسكندر يحاول وقف أمطار الرصاص على القادمين.


12
ابتعدت المعركة إلى الليل، وفى الليل أصداء القتال. كانت الرصاصات تضيء عندما تنطلق، والقذائف تدق في الليل الحريق، تضيء الليل، وتبين الوجوه التي تقاتل. والمتاريس كانت هناك في قلب الشوارع، وعلى الأسطحة تقوم الأوكار.
الشوارع تضيئها النار، ويلونها الدم! والأوكار تطلق الصداح! فالفراغ تملؤه الصدور المقاتلة قبل أن تخفق أجنحةً في الظلام. كان كل شيء يخفق، وعمان تخرج من الحريق، بعض عمان، عشرة جاءوا إسكندر في الليل، بينهم شيخ وامرأتان، كانوا يريدون التطوع. التقت عين إسكندر بعيني الشيخ. شيخ هرم يريد التطوع! ليموت في آخر عمره كما يوجب الموت أو ليستعيد ربما شبابه. خال في ثنايا وجهه الأبيض أجنحة تتوسل حلاوة الأيام التي لم تلد الأيام. والدوي يزداد صداه. والوقت المتأخر يتقدم. نظر إسكندر إليهم واحدًا واحدًا. كانوا بعض عمان التي خرجت من الحريق، وكم كانوا جميلين!
- قفزنا عن الأسطحة، وقطعنا طرقًا ملتوية حتى أتيناكم.
- ولكنك، يا أبتِ الشيخ، لا تقدر على حمل السلاح.
- حملت السلاح في (( السفر برلك )) .
- ولكنه سلاح آخر.
- كل الأسلحة واحدة، وأنا سأتعلم.
- ولكنك لن تتعلم بسهولة.
صعد الدم إلى وجه الشيخ، ونبر بغضب:
- أنا أتقن الرماية منذ كنت فتى يافعًا.
أخرج من صدره مسدسًا صغيرًا، وأعاد محتدًّا:
- أنا أتقن الرماية، وأستطيع، على أي حال، أن أقوم بعمل ما.
قال أحد شبان المجموعة:
- وجودنا بينكم يعني أننا عزمنا على حمل السلاح معكم قبل أن نأتي إليكم. هذه لحظتنا الحاسمة جميعًا، أيُّها السيد!
ابتسم إسكندر، قال، وهو يربت على ذراع الشاب:
- ليس فينا واحد سيدًا على الآخر.
نادى إسكندر على أبي اللطف مساعده الثانى:
- أخ أبو اللطف! وزِّع على الإخوان الأسلحة، ووزعهم بدورهم بين المتاريس. أما أبتِ الشيخ والأختان، فليساعدوا في إسعاف الجرحى ومد الذخيرة.
عادت الإذاعة المتنقلة لراديو الثورة تدعو إلى الصمود، وتعلن عن بيان هام. سبقت النار البيان، وخاض الجميع المعركة. والمعركة موت ورصاص ودخان وأقواس، وعمان لا تنام كما هي عادتها. كانت عمان تحترق ببطء، وبعض عمان قد جاء. هل تجيئه فاطمة؟ تطلع إلى نافذتها المغلقة، وشده تشديد القصف على المخيمات. هناك الميليشيا والأطفال. بعد أن تكشفت كلمة السر للجميع. لا بد أن الكل يقاتل هناك. لن يخسروا إلا بيوتهم القصديرية. وفى الحرب الليل أجمل. في شارع سينما زهران راح بعضهم يرقص في المتاريس بعد أن رد القائد حسان ورجاله الهجوم المدرع. هل يمكنهم الفرح في قلب القتال؟ من يمنعهم غير الموت؟ حيواناته الحديدية تعود من نفس الطريق؟ طريق من الردم والدم. وخيَّم بعض الصمت، ثم سكت الرصاص.
سأل إسكندر أبا اللطف:
- كل شيء مقطوع مع غرفة العمليات؟
- كل شيء.
- وإذاعتنا المتنقلة، هل أضافت شيئًا جديدًا؟
- تطلب إلينا الصمود، وتعلن دومًا عن بيان هام.
- كان من أولويات الحرب إسعاف الجرحى الذين منهم أبو مطيع، وكان الشباب يحملونهم إلى إحدى البنايات، ويضعون القتلى في إحدى الغرف. أخذت إحدى النساء تنتزع شعرها مولولة:
- ولكنهم بالعشرات! ولكنهم بالعشرات! لن تسعهم كل مقابر الدنيا!
حذر إسكندر باقى الرجال:
- كونوا على استعداد! سيشنون هجومًا آخر حتمًا!
أحس بكتف أحدهم لصق كتفه، وعندما نظر، رأى الشاب الذي أعطاه الطابع مبتسمًا:
- ألم نستبسل، يا أخ إسكندر؟
ابتسم إسكندر للابتسامة، قال:
- عليك أن تكون مستعدًا دومًا.
كان إسكندر لا يريد أن تتعبه الابتسامة:
- سيشنون هجوماُ كبيرًا متوقعًا.
عمت ملامح الشاب علامات الرضى، ففكر إسكندر: لن يكون الأمر سهلاً. وصلته ولولة المرأة من جديد، ثم هتافها:
- النصر للشيطان!
وراحت تضحك بجنون.
جمجم أبو فريد الغزاوي برد فعل الغزاوي السريع الساخن الحرارة:
- من هي ابنة الدواب؟
واتجه إليها حانقًا:
- أهذه أنت، يا ابنة الدواب؟ أهذه أنت التي تتمنى النصر للشيطان؟
- إذا تقدمت خطوة أخرى عضضتك بأسنانى!
استدار أبو فريد مخاطبًا الآخرين:
- أسمعتم ما تقوله هذه المرأة؟
صاح أحدهم:
- اطردوها من هنا!
راحت المرأة تلطم، وتقهقه، ثم راحت تنتحب.
قال الشاويش لأبي فريد:
- اتركها، صارت مجنونة!
لكنها عادت تصيح بأعلي صوتها:
- النصر للشيطان!
جمجم أبو فريد الغزاوي: النصر لنا، يا ابنة الدواب، النصر لنا نحن، ترى لماذا تجدينني هنا؟ كي أعود لأولادي بسفينة ترسو علي شاطيء غزة، ولا تبحر أبدًا.
لحظتذلك، جاءت إحدى الممرضات تجري صوب إسكندر، وهمست بصوت منفعل:
- الأخ أبو مطيع يبعث في طلبك.
خفَّ إسكندر من ورائها، وهو يسأل:
- حالته خطيرة ؟
- حرقه خطير!
- وماذا قال الطبيب؟
- حالته مهددة!
مشي علي قلبه جنزير دبابة. كان المحترقون تتكدس بهم العتبات، وكذلك الجرحي. كان بعضهم مضمدًا، وبعضهم دون ضماد. كانت وجوههم المرعبة تشرئب أو تعجز عن الانتصاب، فتصطدم بحركة متعبدة علي الصدور. رأى أطفالاً بلا أذرع، وأطفالاً بلا سيقان. لم تكن أمهاتهم معهم، كانوا بلا وطن يحميهم! تعثر إسكندر أثناء عبوره عدة مرات، وفي عينيه تتعثر النظرات، والدموع في عينيه تتحجر. بكى القلب! وتصاعد الأنين حتى مكان الأخ أبي مطيع أو الأخ عبد الرزاق. كانوا يغطون وجهه بغطاء، وكانت الممرضة قد همست في أذنه مخاطبة إياه، كما هي عادة الجميع، باسمه الحركي:
- الأخ إسكندر هنا، أخ أبا مطيع.
شدت الأصابع المحترقة الغطاء، فإذا بوجه حيواني بشع التقاطيع مرعب كأنه خارج من التراب ينتصب مهتزًّا كالجرس بين يديه. يبس حلق إسكندر: هذا لأنهم استعملوا النابالم! انحنى علي الأخ أبي مطيع، وخاطبه باسمه لأول مرة:
- أنا إسكندر، يا عبد الرزاق، أنا معك!
كان إسكندر يقاوم انهياره أمام لوحة الموت:
- أنا هنا إلى جانبك!
همس عبد الرزاق، فلم يسمعه أحد. وفي النهاية، رفع إلى خاصرة إسكندر إصبعًا كالشمع المذاب، وأشار إلى المسدس. تحرك الإصبع المذاب في الفراغ، وقدر علي ملامسة المسدس. هل يصبح أقسى من الموت؟ انتفض إسكندر ناهضًا، وسارع عائدًا إلى مكانه وراء المتاريس، وأحدهم يدفع بعض العجلات من ورشة السيارات المجاورة.
عادت المرأة المنهارة إلى الصياح:
- النصر للشيطان!
بصق أبو فريد الغزاوي علي كل الشياطين الذين تعرفهم، وهو يشتم قبل أن يصب علي رأسها جام غضبه:
- أيَّتها المرأة اللعينة، إذا لم تخرسي حطمت فمك، وجعلتك وليمة شهية لملائكة غزة المخلصين!
أحست بعدم تردده عن فعل ذلك، فجمعت نفسها قرب أحد صناديق القمامة، وسكنت جامدة دون حراك، ثم ما لبث صوت الإذاعة المتنقلة لراديو الثورة أن انطلق داعيًا إلى الصمود وانتظار البيان الهام.



13
سيعودون إلى القتال بعد قليل. سيقاتلون لئلا يقتلوا. لم لا يذهب إلى القتال معهم هو الآخر؟ الأوامر ورفضها، إذن، لماذا يقفل علي نفسه الباب بالمفتاح، وقد أوصد صفق النافذة، وأسدل الستارة؟ كان إبراهيم يتابع قراءة (( المذكرات ))، يدفن أصابعه في شعره، وينحني فوق الكتاب. وكان ضوء مصباح الطاولة المختنق يجعل علي الكتاب هالة مهتزة، وعلي وجه إبراهيم ظلاً باهتًا. عادت تصل إليه زخات الرصاص وهدير المدافع، ولم يكن يبدو عليه أنه يسمعها. كان مع ((المذكرات))، مع مذكرات هتلر، أو بالأصح مع هتلر ذاته! قلب بأصابعه الصفحات الأخيرة القليلة التي لم ينته بعد من قراءتها، وعاد يغرق في سيل الحروف.
جاءت فاطمة تطرق عليه الباب طرقاتها الخافتة، فلم تحصل علي جواب. اشتدت طرقاتها، وألحت، وإبراهيم يتابع دومًا قراءة (( كتابه )). فجأة، وصله صوتها المضطرب:
- ألا تريد أن تأكل شيئًا؟
ليس هناك واحد علي وجه الأرض يرغب في تناول طعامه والدنيا تتفجر من هول الحرب، لكنها كانت تبحث عن طريقة تخرجه فيها من غرفته التي عزل نفسه فيها منذ الصباح. عادت فاطمة تطلب:
- ألا تريد أن تأكل شيئًا، يا إبراهيم؟
فجأة، جاءها صوته، صوت مبحوح يشبه إلى حد بعيد أصوات المبعدين عن وطنهم:
- لا أريد! لا أرغب في الجوع! لا أفكر فيه!
ماذا تراه يخفي؟ يقفل علي نفسه الباب بالمفتاح منذ الصباح! لماذا يخفي نفسه؟ لماذا يخفي نفسه عني؟ عن أخيه الصغير؟ في الحرب نجد بعضنا وهو لا يريد أن يجدنا! ألأنه رفض الأوامر؟
- لماذا تحدثني من وراء الباب؟
لم يعطها جوابًا. لماذا يحكم علي نفسه بالصمت؟ بالاعتقال؟
- تلفن لك أبو حابس منذ قليل، لكنني قلت له إنك غائب، كما أوصيتني.
سكتت متابعة حركته، كان إبراهيم قد رفع رأسه الذي يستند إلى مرفقه، فأصابت يده مصباح الطاولة، وأسقطته.
- إنهم يبحثون عنك.
سمعت خطواته. راحت تشدها خطواته. أما عن القنابل، ودوي الرصاص، فلم تعد تؤثر في أعماقها. عادت تقول:
- أنت مصمم علي ألا تأكل شيئًا؟ نضال يريد رؤيتك، وقد أجلسته في غرفته على أساس أن آتي بك إليه.
وصلتها ضربات قلبه.
- إبراهيم، هل تسمعني؟
ثم جاء القصف عنيفًا. إسكندر هناك يقاتل، وأخي هنا يختبئ! هل سيأتيه إسكندر؟ ها هو يقاتل! هل سيأتيني إسكندر؟ لم لا أذهب إليه؟ لم
لا نذهب إليه جميعًا؟
- إبراهيم، هل تسمع أصوات القنابل؟
أحست الارتعاش في كلماتها، كانت تمنع دمعة تريد أن تخذلها. من الممكن أن يكون خائفًا. أرادت أن تبث في قلبه الشجاعة:
- كم أنا فخورة بك، يا إبراهيم، فأنت رفضت أوامر أبي حابس بشرف جندي مخلص!
لم تجد باقي كلماتها، قالت بحماسة اختنق معها صوتها:
- نعم، بشرف جندي مخلص يأبى أن يلوث يديه بدم أخوته!
ولم تخف احتجاجها:
- لكن العجيب في الأمر أنك تقفل علي نفسك الباب منذ الصباح، وقد سجى الليل، ولا تريد أن ترانا.
خذلتها دمعتها، وانفجرت باكية:
- أنا خائفة، يا إبراهيم، أنا ونضال نحتاج إليك، فهي الحرب، ونحن نتوقع، بين لحظة وأخرى، أن يفجروا بنا البيت.
كان يستمع إليها، يستمع إليها، يستمع إلى ما لا نهاية. كان يستعيد أصداء كلماتها: أن يفجروا بنا البيت. بين لحظة وأخرى. نحتاج إليك، أيُّها الأخ (( المغوار ))! أراد أن يبكي، ولم يكن بإمكانه. راح يجر نفسه جرًّا. اتجه إلى النافذة، ودفع صفقها. كان الليل كما قالت، الليل الذي يتفجر بالنجوم. استطاع أن يرى الحطام، والنار، وحركة المقاومين، وأن يسمع الأصداء. لقد شنَّها حربًا ضدهم! هو، ذاته، تجده الآن في الطرف المقابل، يقصفهم بمدافع دباباته! يقصفهم، ويحيلهم إلى بحيرة دم ورماد! هو، ذاته، من يقوم بهذا الفعل البشع! وهم، علي أي حال، من حقهم أن يقاوموا! أبو حابس وأبو غزة أشعلا الحرب، وهم ما ذنبهم؟ من حقهم أن يقاوموا. يتحول الحق إلى دم، ويتحول الدم إلى رماد! ماذا يمكنني أن أفعل ضد ما يسمونه ضدي؟ لماذا أنا بالذات؟ لقد نفذوا مخططهم. وأنا، أنا القابع في غرفة موصدة بمفتاح ألقيته من النافذة هذا الصباح، ما الذي يمكنني أن أفعله؟ وهل يجدي ذلك نفعًا وقد وقع التنفيذ؟ الآن يفكر إسكندر فيّ، ويقول، يا له من قذر إبراهيم، ذاك الذي يسعي إلى قتلي!
ترك النافذة مفتوحة، واتجه إلى طاولته من جديد. لم يجلس. كانت رغبته في القراءة قد انتهت. كان يشده فقط دمع أخته، وتوسلاتها، وانتظار أخيه له في الغرفة المجاورة. ما الذي سيجديني؟ الحرب ضدي أنا، وأنا، أنا طرف فيها في الوقت ذاته! أحس في أصابعه خفقًا، وصارت في أصابعه آلاف الأجنحة. تردد إبراهيم بين أن ينقل الكتاب أو أن يتركه جانبًا، بين أن ينهي قراءة آخر الصفحات أو أن يمزقها، بين أن يكون هذا هتلر بعينه أو أن يكون هتلر غيره، بين أن يكون هو ذاته أو أن يكون هو غيره. نقل الكتاب، أحس به ضخمًا ثقيلاً، تخيله جثة هتلر تتنفس بين أصابعه! سار بخطوات متماسكة إلى الخزانة، وفتحها. أخذ علبة الكبريت وأحرقه.
انجذب إبراهيم طويلاً إلى الحريق، إلى الجذوات التي راحت تخفت بالتدريج، وإلى الصفحات التي تقوست، وصار لها شكل الدروع. انطفأ الحريق، ولم يبق سوى بعض الدخان، وبعض الرماد. الرماد دومًا الذي يبقي في الأخير! ابتسم بأسى. هل يعبر هتلر في كل الأوقات؟ لم يشأ إتمام قراءة الصفحات الأخيرة. المسألة كامنة في تمثيل باقي الدور.
وقف إبراهيم مبتسمًا دومًا بأسى. رفع رأسه إلى صورة أمه وأبيه العروسين، ولكنه ما لبث أن خفض عينيه. كانت في عينيه آثار الحريق، ودوي القتال الذي في الخارج يزداد. استلقى علي سريره، وبدأ يفكر في لندن فجأة. لندن التي قضى فيها عامين متابعًا دروسه في الكلية الحربية. عامان تعلمت خلالهما كيف أقتل بشرًا! آه، يا إلهي! عامان طويلان بقدر المسافة بين عمان ولندن مليون مرة، قضيتها وأنا أتعلم علي أحدث الوسائل الحربية كيف أقتل بشرًا! كيف أمكن لصديقي أن يكون عدوي!؟ هل كانوا يجهلون ذلك؟ مسكين ذلك الأب، كان طوال حياته مسالمًا! ألهذا طالبته أمي بالطلاق؟ عبرت عيناه الغرفة. في الأخير يجد الإنسان نفسه! نعم، الإنسان يجد نفسه في الأخير! نهض عن السرير، أحس بنفسه طائرًا. راح قلبه يخفق. راح قلبه يحلق. صار قلبه يخفق بعنف. انتفض عدة مرات. الإنسان يجد نفسه في الأخير! تقدم من النافذة بهدوء، وأطل عليهم من عل، رآهم يلقون بأنفسهم في نهر التيمز، وقد احترقت مراكبهم، ودقت النار حتى في الماء، وانهار برج بج بن. كانت الأبواق قد كفت عن الزعيق، والسيوف قد ثلمتها قلوب المقاتلين، وكان التيمز قد فاض بدم لندن، وتشرّب الضباب والدخان لونه الأحمر. حطَّ يديه علي حافة النافذة، وألقى بنفسه إليهم، إلى الذين لم يزالوا يقاتلون في القرار السحيق.
14
هذه ليلة التنفيذ... ليلة أمس طارده بعض حرس الحدود، أمَّا الليلة، فقد استطاع الظبي أن يجد طريقًا. كان طريقًا وعرًا، لكنه آمن، وجديد، لم تشرب صخوره قطرات الندى. رقي أسعد الجبل، وإلى جانبه رفيقه الذي شغل مكانه طوال مدة استشفائه. كان ينظر إليه في الليل، فيرى عينيه المضيئتين، والليل بحر يموج بالأشرعة. جاءتهما أنسام لها حرارة الثلج وحلاوة الملح، فهما على مقربة من البحر الميت، وكان هدفهما مصنع البوتاس الإسرائيلي.
وهما عند نهاية الطريق الجبلي، وصلتهما خطوات بعض الجنود، وبحركة سريعة، ارتميا وراء إحدى الصخور. شمَّا رائحة العشب، والتراب الأسود، واستمعا إلى خفق القلب، والسلاح العاشق. كانت دورية ضائعة، وأسعد يقول لا نريد الدخول معهم في مشاكل بعد أن عزم الليلة علي التنفيذ. أمعنت الدورية في ضياعها، فجرى أسعد ورفيقه هابطين الجبل من ناحيته الأخرى إلى سهل منبسط كالكف، وأريحا هناك علي مقربة من قلبه، صخرها الأحمر، وشجر الموز، وقدم التاريخ، و(( مصعدة )) التي تنهض من الموت علي إيقاع خطواته. تتحول خطواته. يصبح مطاردًا من طرف الروم. يريدون الإبحار في دمه. بحر من الدم هائل. ويتفجر الدم بالحراب. روم جدد، وهو فلسطيني قديم. هنا كانت من قبل المراعي. والأطلال تشهد من بعيد. لن تنفع أحزان الناي أمام قدم مدمرة! ماذا لو يغير خطته؟ أريحا هناك علي مقربة من خاصرته. أريحا المعاقل! أريحا الحكايا! أريحا الموت! أريحا الورد! أريحا الأساطير! أريحا الطين! أريحا اللعين! أريحا دم ((اليونانية )) الأحمر! ماذا لو يتجه إلى معاقل الموت الجديدة؟ من عادة الجديد أن يفرح القلب، أمَّا فيما يخصه هو، فجديده يثير! هذا الجديد هو قديم ملون. وهو تثيره الألوان، تدفعه إلى اقتحامها. مهمته اقتحام الألوان، وانتزاعها عن قديمها، هكذا يحررها. كالفجر متى يبزغ أحمر وأزرق وذهبيًّا من قلب الضباب.
كان أسعد في طريقه إلى التنفيذ، كان طريقه البحر الميت، والبحر الميت يموج بالحياة على إيقاع خطواته. التفت إلى رفيقه. كان عازمًا على الوصول. ووصلهما صوت البحر. كان يصرخ كالطائر المصفق جناحيه. ارتقيا تلاً صغيرًا، ورأيا أمواجه الليلكية. في الأمواج أشرعة متمردة. بدا العالم مرايا ليلكية. الامتداد إلى الحلم. أحس أسعد بسلاحه حارًّا كطفل يرغب في الاستحمام. كانت أحزمة الديناميت ثقيلة علي ظهره، فأشفق على الطفل لأنه لا يستطيع أن يلبي رغبته. سيستطيع بعد التنفيذ. هل يستطيع أن يمنع رغبة طفل؟
أخفى أسعد ورفيقه نفسيهما وراء شجرة تفرش أغصانها في الليل كشعر امرأة تصغي إلى اقتراب الموج، والمراكب تتمارى نجومًا ولآلئ. أخذا يصبغان وجهيهما بلون الليلك، فصارا جزءًا من السماء. راح أسعد يتأمل رفيقه معجبًا: هل يصنعه الليل علي مثل هذا الجمال؟ ولولا ابتسامته لظن أن لليل أولادًا تتحرك. في تلك اللحظة، انطلقت أضواء كشافة قربهما، وانطفأت. كانت الأغصان ملجأهما. استطاعا أن يريا قرب المصنع منارة، ولم يزخ الضوء مرة أخرى.
- مركز مراقبة!
- لكنهم يطيلون دورة كشاف النور.
- لا يعملون دورة كاملة، فالأضواء تذهب علي دفعات.
زخت الأضواء في ناحية الشمال، ووصلهما صوت البحر.
- الفترة تكاد تكون طويلة بين رشقات الضوء.
ألقى أسعد بعينيه علي الأسلاك، وجعلهما تشقان دربًا حتى المنارة، وهناك تركهما تتأملان بروية. عندما سحب عينيه، لطمت الشجرة التي يختفون في ظلها حزم الضوء القوية للحظة ثم انطفأت.
- أرأيت؟ الفترة تكاد تكون طويلة بين رشقة ضوء ورشقة.
- هناك مسافة طويلة أيضًا تفصلنا عن المصنع، والمنطقة، على ما يبدو، محروسة.
- بإمكاننا أن نزحف بمهارة.
رفع أسعد بين أصابعه حفنة من التراب، وقربها من عينيه، ثم شمها:
- التربة رملية! بإمكانهم أن يروا عليها حتى الصرصار!
ترك التراب يسيل من بين أصابعه، هكذا كان يفعل عندما كان طفلاً. رفع رأسه إلى السماء، أراد أن يستعين بالنجوم، لكن الأغصان كانت تحجبها. نهض، وبدأ في قصفها، وربطها حوله. سيخدع هو أيضًا زرقاء اليمامة. تدفقت عليه الأضواء الكشافة، فلبث في مكانه ساكنًا دون حراك، وفى قبضته ذلك الملمس الغريب لأوراق خضراء انسحقت. ذهبت الأضواء، بعد أن استمرت، هذه المرة، أكثر من دقيقة، وبسرعة هبط إلى جانب رفيقه:
- طال الضوء هذه المرة، ترى هل لاحظوا شيئًا؟
وأسعد يفكر: الذي أتمناه أن تهب الرياح، وأن يسقط المطر. رفع مرة أخرى رأسه إلى السماء، فرآها تخفق بالأشرعة، والنجوم مثل قوافل المشتاقين. هل سيحب يومًا كما يوجب الحب؟ هل ستنتظره فتاة
لا تكف عن الابتسام؟ ابتسم لعجز الأمنية، فالسماء تبدو ذاهبة في عرسها الصيفي غير مبالية بمقدم الخريف. تغطى جيدًا بالأغصان، وقال لرفيقه:
- سيكون زحفنا بحماية هذه. سأذهب أولاً، وبعد عشرة أمتار، ستتبعني.
أخذ الفدائيّ يقصف الأغصان، ويرتدي الشجر. لكن المسافة طويلة. هل سيكتشفون أمرنا؟ بدأت الرياح في خياله تأتي، وصار أمله كبيرًا في أن تهب الرياح. أن تهب الرياح، فتصطخب الأمواج، وتعتم النجوم، وتتحطم المراكب. ورغم كل الدلائل المعاكسة، كان واثقًا من حصول معجزة. تكفيه الثقة، ولا بأس ألا تأتيه المعجزة. الرياح كانت طريقتهما الوحيدة لإبعاد الشك. الرياح واصطخاب الموج. في اصطخابه حنان البحر على الرغم من تحطيمه المراكب. رفع أسعد عن معصمه، كان الليل يمضى بعزم، وهو يتابع حركة الأضواء التي أكثر ما يطول وقوفها على صفحة الماء، وكأنها تؤخذ بسحر الماء. مضت أكثر من ساعة، وهما في مكانيهما ساكنان. كان البرد قد جمد أطرافهما، وفى خيال أسعد تأتي الريح. هل تأتيه الريح أخيرًا. رفع رأسه، مرة أخرى، إلى السماء. لن ينتهي العيد في السماء! أراد أن يقف صائحًا محتجًّا، ليرغم السماء على البكاء، ريثما ينهي العملية، وإذا بهدير يطرق أذنه. هدير بدأ بصوت يشبه خنفرة حيوان جريح، وتحول إلى غضب وزئير. لم يكن زئير البحر ولا غضب الطبيعة، ولا دقات القلب المرتعد، حتى ولا الأمنية متى تصبح حقيقة تصيح، كان هديرًا لمحركات. هدير المصنع ذاته. وبعض الأضواء قد اشتعلت في نوافذ جناحه الأيمن. هل يتعوض عن الرياح بالهدير؟ المهم أن يتقن الركض وراء الضوء. ركض حالما ارتشقت الأضواء قربه، وانطفأت. وتوقف مع انطلاقها من جديد. عند حافتها. صارت الأضواء هاويته. كيف يصبح الضوء هاوية؟ هل يسقط في قلبها المعتم؟ كان قد انتصب كإحدى الأشجار. انطفأت الأضواء، فراح يقطع الأسلاك، وكذلك فعل رفيقه، وانزرعا في الجهة الأخرى. كانا قد دخلا حقل التنفيذ. انتظرا دورة الأضواء كاملة، وعندما عبرت بهما، راحا يزحفان كالسحالي الماهرة. ما بينهما دومًا مسافة. بقوة تتحدى عودة الأضواء، وتراجع الوقت في لحظة العودة. في أية لحظة كان بإمكانهما السقوط. كيف يمكن للأضواء أن تكون دمارًا؟ وبينهما وبين التنفيذ تكمن بضع لحظات. لربما يقف لهما الموت بالمرصاد. حتى الآن لم يستطع أسعد الرياح. والتنفيذ علي بعد فاصلة. لا بد أن يستطيع التنفيذ. لا بد أن يحقق الهدف. لا بد أن يتحقق. وبعد ذلك الرياح ستأتي. تضاعف هدير المصنع، وأسعد يخفيه الهدير. يصبح في قلب الهدير خفقة. يطمئن، ويتقدم. يحتك صدره بالأغصان، ويحتك صدره بالتراب. هل ستنتظره غدًا فتاته التي لا تكف عن الابتسام؟ هل سيجدها؟ والعصافير المهاجرة؟ أين ستذهب في الخريف؟ هم هناك يقاتلون أيضًا. لا أنسى إسكندر. نقاتل هناك، ونقاتل هنا، ونصبح في آن واحد في كل الأبعاد. حقيقة وليست ميتافيزيقيا. وإن بدت كذلك، فلأننا نثق دومًا بوقوع المعجزة. ولكنني قدري قبل أن أكون قدر أبي غزة، ولكنني قدر غزة! لكنني إرادتي قبل أن أكون إرادة أبي غزة، لكنني إرادة غزة! وأنا أفعل، لأن لهذا ثمنًا. هذا ما يدفعني إلى الاقتراب أكثر من التنفيذ. عليّ فقط أن أكون مخلصًا.
رشقتهما الأضواء الكاشفة فجأة، فوقفا ساكنين. غدت الغابة حجرية، وجميلة الغابة لم ترفع إصبع الاحتجاج، بل أرادت أن تلعب اللعبة، وغدت تمثالاً وحشيًّا. كم كان ساحرًا ذلك التمثال! لأنه وحشي، ولأنه أليف إلى حد السذاجة. والأضواء الكاشفة تحرق علي ظهرهما، لكنهما يحبان جميلة الغابة. لم يفكر أنه سيسقط قبل أن يتم فكرته هذه أو بعدها. كان يثق بأمنية الرياح. وكل شيء صار متحجرًا، كل شيء صار الصمت، كل شيء صار الصمت في الهدير. كان الحجر في الأخير من يجمعهم. أبو أسعد كان حجارًا، وأخو أسعد كان حجارًا، وعم أسعد كان حجارًا، والفأس والصخر كانا شقيقين، وحبيبات العرق المنبثقة، والأكف المتورمة.
كان الحجر في الأخير من يصنعهم. تماثيل ترتفع أو تتحطم. تماثيل تنطق أو تخرس. أحيانًا تصرخ. وأحيانًا تبكي. انطفأت الأضواء الكاشفة، فعاد أسعد ورفيقه إلى الركض حتى جدار. التصقا بالجدار، وهما يلهثان. راحا يلهثان بعد أن تنفست الغابة، وينزعان عنهما الأغصان بعد أن عادت جميلتها ترتع في دروبها. تسلقا الجدار، ثم هبطا من ناحيته الأخرى، وأخذا مكانًا بين عدد هائل من البراميل. وهناك، كان هناك جندي الظلام. وما لبث الجندي العدو أن استدار. سار إلى حيث أخفته بناية المصنع، وعندما شرع الجندي عائدًا أدراجه، راقبه أسعد، وهو يختلس النظر إلى ساعته: ثلاث دقائق. والأضواء الكاشفة صارت في الوراء. هي من ورائهما، وهما من أمامها. وكانت بناية المصنع تغطيهما. طلب أسعد إلى رفيقه أن يحميه، نقل نفسه كالقط، ونزل في البرميل الذي تنتهي دورة جندي الحراسة عنده. وأسعد في الداخل كان مغتبطًا، كان ينحني علي نفسه كالجنين. بناية المصنع تعيق مراقبة حراس المنارة للناحية الغربية التي هو فيها الآن، وإلا تراهم لماذا وضعوا حارسًا؟ أحس أسعد بخطوات الجندي تقترب. أحسَّ بها تقترب إلى أن توقفت بمحاذاة البرميل. ذاك البطن الحديدي البارد الذي يحس بنفسه فيه جنينًا.
استدار الجندي متفقدًا الناحية، وأسعد يعيش لحظات المخاض. وفي الأخير، قرر جندي الظلام أن يقوم بدورته. سمع أسعد خطواته تبتعد، فخرج من الباطن الحديدي، وهو يستل سكينًا، وانقض علي الجندي كالصائد المنقض علي سمكة عاصية، وبين أصابعه تدفق تيار حارّ.
كان أسعد قد رمى الجندي في البرميل الحديدي، ورفيقه قد أتاه، وراح كلاهما يعدو. فتحا أول باب إلى جانب، باب المستودع، ومضت عشر دقائق، عشر دقائق طويلة كأنها عشر سنين، وهدير المحركات يتصاعد، والبحر يمضي مع الموج، وأسعد ورفيقه قد أنهيا غرس الديناميت، وعادا من حيث جاءا، وهما يفلتان سلكًا يلتف علي بكرة حتى الجدار الخلفي. والخيط السلكي يمتد، وأسعد في يده البكرة، إلى أن وصله صوت البحر. كان يميز في صخب العالم صوته، وإيقاع وثبته، وانطلاقه بمراكب النجوم. ارتشقت الأشعة التي تريد موتهما من ورائهما، ولم يتوقف أسعد عن عقد السلك الممتد بآلة التدمير. عد واحدًا اثنين ثلاثة، وهو يرتفع بنصفه الأعلى، وضغط الآلة، فإذا في المصنع انفجار أحاله بركانًا. نار ودخان وصراخ ثم أطبق العالم فمه. كانا قد تسلقا الجدار إلى الأسلاك ثم إلى الشجرة، وفي تلك اللحظة، أطلقوا عليهما الرصاص والأضواء. الأضواء المصممة علي ألا تعبر البحر طيور الخريف. قتلوا رفيق أسعد، واستطاع أسعد أن ينفذ في الليل، أن ينفذ إلى الليل، إلى ليله الحامي، ليله الذي يلقي عليه ثوبه الأسود مخفيًا مدفئًا وإن هبت الريح. صعد إحدي التلال، وبعد أن اطمأن إلى ابتعاده عن الفنادق التي تريد دمه، ارتمي بجسده الذي لم يمت علي الأرض، وبذل بعض الزفرات. عصفت به فكرة أن رفيقه مات. كيف مات؟ كيف يموت وهو قد كان منه قريبًا؟ هل الموت جبار إلى هذه الدرجة؟ هل الموت سهل إلى هذه الدرجة؟ كيف يأتي الموت فجأة؟ يأتي الموت فجأة، وينتهي الأمر! ماذا ستقول خضرة؟ كان عليه ألا يتركه من ورائه مع الموت وحيدًا. وعاد. هبط التل ليأتي بجسده الذي مات. سيدفئه ريثما تطلع الشمس. لكنه فوجئ بجندي إسرائيلي عند قدم التل، فوجئ بظله الغريب. كان الجندي ينظر إلى الناحية الأخرى بانتظار أن يصعد عليه وجه المجهول. لم يبذل أسعد جهدًا كبيرًا كي يأخذ منه سلاحه. ذاك السلاح القاهر! ذاك القمر الساحر! ووقف أمامه. جندي إسرائيلي بلحمه ودمه يقف أمامه! كانت أول مرة يري فيها جنديًّا إسرائيليًّا يقف بلحمه ودمه أمامه. الآخر الذي قتله كان يدير له ظهره. كل الذين قتلهم كانوا يديرون له ظهورهم. سيسوقه بعد قليل أسيرًا. كان يشعر بالظفر أمام الموت الذي أخذ له رفيقه، كان يشعر بالتفوق، وكان سعيدًا. لم يكف عن التحديق في الوجه الذي طالما قض مضجعه. وشيئًا فشيئًا، بدا الوجه يحكي. كان وجهًا أسمر كباقي الوجوه السمر، وبإمكانه أن يصادفه في أزقة المخيم. دفعه دفعة قوية بسلاحه، فسار طائعًا أمامه، بينما يبدو عليه الذهول. فكر أسعد في ابتعاده عن البنادق التي تريد دمه، وراح يركز نظره علي كل الاتجاهات خوفًا من البنادق التي تبحث عنه، وفي السماء كانت المراكب المبحرة دومًا بالمساء.



15
استدار إسكندر علي صوتها:
- كيف الحال، يا أخ إسكندر؟
رآها كشجرة الحور، بطولها الفارع، وشعرها الأسود، وعينيها الواسعتين. بحث عن ابتسامتها والحلم، فلم يجدهما:
- فاطمة! ما الذي جاء بك؟
- انتحر إبراهيم، يا أخ إسكندر!
تشنجت أصابعه علي كتفها، مسحت دمعًا جافًّا، وانهدم إسكندر: من أين تأتيني كل هذه النكبات؟ لماذا ينتقمون مني جميعًا كل من أحب وكل من أكره؟
- بعد أن أقفل عليه الباب طوال النهار ألقى بنفسه من النافذة، فلم يجد طريقة أخرى أفضل للتكفير عن أخطائكم.
كان إسكندر يهمهم كالضائع، كالتائه في زمن الصحراء:
- إبراهيم! إبراهيم! ولكن كيف؟ ولكن لماذا؟ لا تقولي لأنه خطأي! ترين جيدًا أنني في خط الدفاع! إنني أدافع عن وجودي!
- كان قد رفض أمرًا بشن هجوم ضدكم.
- ولكنه من الجنون أن ينتحر، لماذا لم ينضم إلينا؟
ندت عن فاطمة ضحكة عابثة:
- ينضم إليكم؟ سيكون هالكًا في كلتا الحالتين!
أعطته ظهرها لتقطع طريقها بين الجثث والخراب، فلحق بها، وناداها:
- فاطمة!
- تناديني بعد أن اتفقتم كلكم علي أن ترتكبوها جريمة شنعاء في حق إبراهيم!
- إبراهيم كان يعرف أن لا خيار لي إلا القتال...
ثم سكت قبل أن يضيف:
- حتى ولو كان في الطرف الآخر.
ذهبت فاطمة في الدخان، والجثث من حولها راحت تتحرك، وهم يجرونها إلى حفرة، والمتاريس تعيد الأيادي بناءها، والإذاعة المنتقلة لراديو الثورة تدعو إلى الصمود، وتعلن عن البيان الهام. عبرت من فوق الرؤوس قذيفة كالشهاب المضيء، وتفجرت في مكان قريب. كل شيء يقترب، كل شيء يمكن أن تلمسه الأصابع، حتى الشهب الراحلة في الفضاء، وانتحار إبراهيم، وصوت أمه. عليه أن يقاوم التعب والنار والموت وملاك الذنب وفكرة أن يمحوا المتاريس. هكذا يمكنه الاستمرار. والسلاح يصبح ذراعه، جزءًا من أصابعه، والسلاح يصبح جزءًا من لحمه. هل سيسمح لهم بقطع ذراعه؟ فاطمة لم تفهم هذا بعد. جاءته بالاتهام. لم تقل أنت القاتل، لكنها قالت أنت تشارك! إبراهيم وحده كان يعرف ذنبه، لهذا حكم علي نفسه بالموت، وحكم علي إسكندر بألا يبقي بريئًا! لطم بيده الجريحة جبينه. أراد أن يعدو إليها، وأن يضمها إلى قلبه معتذرًا، ولكنه أحس بالدم ينزف من بين أصابعه. منعته الجثث المتحركة من الذهاب، والأنقاض، والدخان، وحركة بناء المتاريس المتهدمة، والصيحات، والآهات، وظمأ الشفاه. التفت إلى الشيخ الذي أتاه، فرآه، وهو ينحني علي إذن إحدى الفتيات التي ما لبثت أن جاءته بكأس ماء راح يشربها بروية دون أن يترك منها قطرة واحدة. بدا على الشيخ أنه لم يزل ظامئًا، ولكنه انحنى، وقبل يدها.
احتدمت المعركة من جديد، تساقطت الشهب متوهجة، وكذلك مطر الرصاص العنيد، مطر وشهب وصيحات احتفال بالموت أو بمنع الموت أو باليأس من منعه. كان القائد حسان قد أمر رجاله بالتراجع، أحس بضعفه حتى في تحقيق التراجع، غدا السلاح حديديًّا بين ذراعيه. رآهم إسكندر، وهم يتسللون بعدد وافر، والشيخ يحاول أن يحمل بين ذراعيه الهرمتين جريحًا، والكل يقاتل من حول إسكندر: أبو فريد ابن غزة والشاويش ابن إربد والشاب جامع الطوابع ابن الحلم السعيد، وعلى مقربة منهم أبو اللطف وبعض المقاتلين، وأشباح الجند تأتى، والمدافع لا تكف عن إرسال شهبها المتوهجة. كل هذا الجمال لأجل الموت! كل هذا الموت لأجل فدائي! فليحي الفدائي إذن، ولتغدُ الحياة له فرسًا يذبحها بكرم!
راح إسكندر يجمجم بغضب، والدماء تنزف من يده:
- عليك اللعنة، أيَّتها الأماني المدمرة! ألف لعنة عليك، أيَّتها الأماني البعيدة!
والإذاعة المتنقلة لراديو الثورة تدعو إلى الصمود دون كلل، وتعلن عن البيان الهام.
راح الشاب جامع الطوابع يصرخ دون أن ينجح في إيقاف الموت:
- يتزايدون! يتزايدون!
كانوا يأتون بالعشرات، المطرودون من الجنة، وطالما أنه الجحيم، إذن هو عالمهم الذي هم فيه.
صاحت المرأة المجنونة: تعالي إلى حضني، أيَّتها الشياطين!
ضرب أبو فريد الغزاوي أسنانه بكعب البندقية عن غير قصد منه، وبصق دمًا.
رأى الشاويش دمه، فسأله:
- أنت مصاب؟
وأبو فريد لا يتوقف عن بصق دمه.
حذره الشاويش:
- انتبه علي دمك!
صاح أبو فريد الغزاوي:
- سأجعل من دمى بحرًا يفوق بحر غزة ويافا وحيفا كي يغرقهم، أيُّها الشاويش! يا ابن أخت نابلس! أيُّها البدوي الأصيل! لا تخش شيئًا علي دمي! دعه ينزف ما دمت أستطيع إطلاق رصاصي!
أعاد الشاويش محذرًا:
- انتبه يا الله علي دمك!
نظر إسكندر إلى الدم الذي يتفجر من بين أصابعه، فطواها على السلاح، ولم يبتسم علي الرغم من أن سلاحه الأوتوماتيكي لا يتوقف عن النشيد. لن يكون النشيد الأخير. هل يكونه؟ إذا مات كان نشيده الأخير. أطربه ذلك. اندمج في نغمة الحرب لئلا تذهب مبتعدة، وتخونه لحظة الخروج عن اللحن. كانت في الاندماج قوة الصمود، ومعنى الصحو، والاستمرار في اللحن، حين ينتهي القتال في الصباح. إذا نجح عاش ابن إربد حتى الصباح. وفي الصباح يكون الإشراق حتى الليل. وبعد ذلك، لا يهم أن يكون هنا، بعد ذلك، فالذهاب إلى الليل بعيد. صاح الشاب جامع الطوابع:
- النصر للثورة!
ثم صمت بعنف، تفجر ينبوعًا أحمر، فرفعه إسكندر:
- لا شيء! لا شيء! ما هو إلا جرح! جرح صغير! إصابة صغيرة، أيُّها العنيد!
ورأس الشاب قد تقوس.
- إصابة صغيرة، أيُّها العنيد! سأحمل لك في الغد مجموعة الطوابع التي لدي. ألم أعدك؟ غدًا سآتيك بالطوابع!
حمل إسكندر الرأس المتقوس ليجعل منه سهمًا، فوجده يبتسم منه ساخرًا:
- لا تبتسم هكذا، أيُّها العنيد! لا تبتسم هكذا!
وبدأ يضرب الرأس في ركبته حتى أمات الابتسامة، ومع انذهاله، تساقط الجسد علي الأرض، وتراءت له فاطمة خيالاً فارهًا، وهي تقهقه.
- لقد تسللوا، يا أخ إسكندر! لقد تسللوا!
أخذت فاطمة في خياله تولول، فنهض إلى خيالها العملاق، وأطلق الرصاص عليه، وفاطمة الخيال قد عادت تقهقه. أمسكوه، وهو يحمل يده الجريحة، وجعلوه يأخذ مكانًا وراء المتاريس. وفي تلك اللحظة، حلقت من فوقهم الطائرات، وقذفتهم بحممها، فانطلق صوت المرأة المنذعر:
- الجحيم! الجحيم! يا جحيم الشياطين الطيبين!
والإذاعة المتنقلة لراديو الثورة تعلن عن اقتراب موعد البيان الهام الصادر عن القيادة، بينما بدأ حسان، أمام سينما زهران، يتراجع وحيدًا. كان يضرب في الأشياء، وفي عينيه تعالى لهب الجحيم عملاقًا. لم يعد يريد الموت، وهو، لهذا، غدا خائفًا. كان لا يخشي النار، والآن يخشاها من صورتها! وأبو غزة يتسلق النار على بطن أم غزة الذي في شهره السابع. اقتحام حضنك يكفيني، وحركة الجنين في أحشائك. أشعر بأنني أخوض فيك بحثًا عن (( سبع )) الذي سيأتي، فآتي به خوفًا عليه من الطريق التي تضيع. وأشعر بأنني أخوض في لحمك، والحركة في أحشائك لا تتوقف في الجحيم. هذا هو جحيمنا المبدع، يا أم الأبناء! يا مغامرتي الأولي والأخيرة! يا امتلاكي الثوري! يا حقيقة كل النساء اللواتي لم يكنَّ نسائي! هذه هي قممك كقمم عمان: نهداك، ردفاك، كتفاك! قممك الصاعدة إلى الأعالي بعد أن جعلتها المدافع وهجًا وبراكين! ولكنك، وأنت تحتي تتهاوين، أصبح وحدي الصاعد فوق القمم. أليس هذا وقتي؟ أليس هذا ميداني؟ أليس هذا أنا، أبو غزة وصفد واللد والرملة وسبع الذي علي الطريق؟ المدمر أنا! المحيق أنا! المرعب شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا أنا! الأحزاب أنا! الجماهير أنا! العصافير أنا! الممتلئ بلحمي وشحمي! المملوء بدمي ونخاعي! المصنوع لدوري وهدفي! جحيمي هذا، وجنتي هذه، وأنت أم غزة، يا أم الأبناء! تكونين عندما تنسحقين تحتي، وتنسحقين تحتي في كل الأوضاع، تحت زوجك وربك وقائدك! أنت، لهذا، تنسحقين. وأنا، لهذا، أصعد عليك، فأجعلك فخورة بجسدي. وأعود إليك دومًا، وأنت مستلقية علي ظهرك أو بطنك، وتظلين فخورة بجسدي. هذان هما نهداك المعتصران كحبات الرمان الخليلي! وهاتان هما إليتاك المتموجتان كموج البحر اليافاوي! وهذان هما كتفاك الدقيقان كمناقير الحمام المقدسي! يصبح نهداك قذيفتين، وتصبح إليتاك مدرعتين، ويصبح كتفاك أماني المقاتلين عندما يردون غزوة في معركة متوقعة. كل شيء متوقع! وأنا أتوقع فيك كل شيء: آهاتك وتوسلاتك وأناتك! هذه لحظات لذتك، أيَّتها العربيد! لحظات لذتك في عز انتكاحك! تلتذين، يا ابنة الشياطين! تلتذين، وأنا فيك بنادق تطلق! تلتذين، وتنسحقين، وتستسلمين كالحشرة متى أعيتها المطاردة فخورة بالمطارد. كالحشرة تئنين! كالحشرة تصرخين! كالحشرة تضربين ساقيك المنفتحتين كقلعة أمام جيش لا ينهزم! وأنا فيك انتصارك، مجدك، مصيرك، عذابك، آهتك، توسلك! وأنا فيك لذتك، اشمئزازك، هدمك، بناؤك، وهدمك، وانحطاطك! فلألقِ بك في اللهب، فالطريق إلى عدن لا بد أن تمضي من هنا!
وأبو اللطف يصرخ:
- أشعلوا اللهب، أيُّها المقاتلون!
وإسكندر يصرخ:
- أطفئوا اللهب، أيُّها المقاتلون!
وأبو اللطف يصرخ:
- تقدموا إلى الإمام، أيُّها المقاتلون!
وإسكندر يصرخ:
- تراجعوا إلى الأوكار، أيُّها المقاتلون!
وحسان ورجاله محاصرون مرتين، محاصرون بالنار، ومحاصرون بصورتها، وصوت من مكبر جاء يخاطبهم:
- استسلموا قبل أن ننهي عليكم! باسم الحاكم العسكري من يُسَلِّمْ نفسه يَسْلَمْ!
ورجاله لا يستسلمون.
- من يسلم نفسه يسلم!
ورجاله لا يستسلمون.
- باسم الحاكم العسكري أكرر، من يسلم نفسه يسلم، من يسلم نفسه يسلم!
ورجاله لا يستسلمون، ورجاله يستسلمون.
صاح حسان بالصوت: كل السلطة للمقاومة!
فأجابه الصوت: كل المقاومة للسلطة!
- ما هو ضمانكم؟
- أنا الضابط رؤوف، يا رفيق حسان، يا أبا ست الحسن والجمال، فلسطيني مثلك، أنا الضامن لك، تسلم نفسك لي تسلم!
سلم حسان نفسه، وهو يشرح، ويشرح: أنا فلسطيني الانتماء، ديمقراطي العمل والروح، أممي الإستراتيجية!
والإذاعة المتنقلة تقرأ البيان الهام: إن الانتصار حليفنا بإذن الله، ورجال أبي حابس الأحرار ينضمون إلينا بالأفواج!
أمَّا رجال حسان، فقاتلوا حتى الموت.






16
سارا بحذر، أسعد والجندي الإسرائيلي، وفي الليل نجوم. كالذاهبين إلى صيد القطا، فلا يوقظان الطيور. كالمطاردين من طرف عيون لا تنام في السكون. كالذين جرؤوا علي رفع القدم والصعود. كالفاردين جناحيهما في الوهاد والسفوح. أسعد والجندي الإسرائيلي! توأمان أمام المطاردة، وراءهما نقيضان. هل يذهب به إلى الوراء؟ ولكنه مضى سائرًا... هو أسيره. في الليل هما توأمان، وأسفل النجوم هما توأمان، فمن أسير من؟ لاحظ أسعد أنه يدفع في ظهر الجندي سلاحه، فخفضه، وتوقف ينظر إليه حرًّا للحظات. كان بإمكانه أن يصدفه في أزقة المخيم! هل سيحقد عليه حتى النهاية؟ حاول الجندي الهرب، فأتاه أسعد عنيفًا، وضربه بعقب البندقية. سقط الجندي مرتعبًا، وجمجم متوسلاً:
- لا تقتلني!
- إذا حاولت الهرب مرة أخرى قتلتك.
ارتمى أسعد علي جنبه، وراح يركز نظره علي ساقه النازفة. تأوه، ورمي رأسه علي صخرة. وبعد قليل، التفت إلى الجندي، وسأل:
- لماذا لا تريدني أن أقتلك؟
تردد الجندي مرة أولى قبل أن يقول: لأعود.
- إلى أين؟
تردد الجندي مرة ثانية قبل أن يقول:
- إلى غريتشن... امرأة أعشقها.
- وهل ستنتظرك طويلاً؟
تردد الجندي مرة ثالثة قبل أن يقول:
- كنا قد أردنا الزواج.
سأله الجندي بعد لحظة من الصمت:
- وأنت هل لك عشيقة؟
فكر أسعد في خضرة، ورغب في طبع شفتيه علي ساقيها. نظر إلى نجمة تطلق نورًا، وجمجم:
- هذا النور هو عشيقتي.
- وفي الظلام الدامس ماذا تفعل؟
- أحلم بالنور وبالموت.
حل الصمت مرة أخرى، فسأله الجندي:
- ألهذا تقاتل؟
- لهذا. وأنت؟
لم يتردد الجندي:
- لا أقاتل لهذا... كنت أقاتل لهذا، أما اليوم...
وبعد لحظة من التفكير أردف:
- اليوم أقاتل لأجل شيء آخر.
- ما هو؟
- شيء آخر غير المعرفة المطلقة وملكية الكون، شيء آخر
لا يكفيني.
- ألا يكفيك قتلي؟
- لا يكفيني.
- ستموت من الرعب.
انحني الجندي أمام بندقية أسعد لاهثا:
- لا أريد الموت رعبًا.
- إذا بقيت طائعًا في جحيمك لن يلحقك سوء.
نهض أسعد، وساقه النازفة تؤلمه، فنظر الجندي إلى بقع الدم، وراح يسير أمامه. لا يمكن له أن يدعه يسير إلى جانبه، علي الرغم من أنه كان بحاجة لمن يأخذ بذراعه. سأل أسعد من ورائه:
- وإذا تركتك طليقًا ماذا ستفعل؟
- سأعود من حيث أتيت.
- وإذا تركت لك السلاح ماذا ستفعل؟
- سأقتلك حتى الموت.
- كيف تضمن ألا أقتلك إذن؟
- أنا لا أضمن.
- وكيف ستعرف طريق العودة؟
- أنا لا أعرف.
نبر أسعد:
- ستضيع في الطريق، وأنا لا بد قاتلك!
دفعه بعقب البندقية، والجندي يطلق الأنين، ويخب مذعورًا، وحيدًا، مضيعًا، لا أحد معه سواه، ومع أسعد البندقية والليل والنجمات! كان الجندي أمام أسعد، وأسعد والجندي أمام المطاردة، وجنود الموت في كل مكان، كنجوم الليل. وهما دومًا أمام النجوم. هل يطلق في ظهره رصاصة؟ ماذا سيستفيد؟ سيكشف عن موقعه. وسيطلقون عليه كل الرصاص الذي في الدنيا. تأوه لألم الساق النازفة، ولكنه دوام علي المسير. سيقتله ليجعله بلا حكمة ولا عشيقة. هل يفقده أمله الزائف؟ الموت لن يعيده إلى نفسه، ولن يعيد الموت كل الوضوح إليه. الموت انتهاء المرحلة! والمرحلة لم تنتهِ بعد! وها هما يسيران علي حافة الموت! وبينما راحا يتسلقان حافة صخرة، سقطت من يد أسعد البندقية، وتحطمت، فنظرا إليها قلقين. كانت قد هوت كالجسد، ثم غدت كالجسد القتيل. نظر الجندي إلى الساق النازفة، وابتسم، فهمهم أسعد:
- أنت الآن الأقوى!
إذا بالجندي يهجم عليه، ويسقطه أرضًا، ثم يأخذ في تسديد ساقه النازفة بقبضته، وأسعد يئن، حتى تعب، وتداعى على التراب، وراح يتأوه بصوت مرتفع. وبعد لحظة صمت، سأله أسعد:
- لماذا لم تقتلني؟
ركّز الجندي نظره علي الجرح، وقال:
- أفعل مثلما فعلت، ولكنني آخذك أسيرًا.
- أتفعل هذا من أجل الرغبة؟
- أفعل هذا من أجل من جعل في الصحراء طريقًا.
- لماذا لا تقول من أجلك يا ملاكًا مخلوعًا جعلوه طريقًا إلى جهنم؟
- لأنني أقول ما أقول.
- أنت لا تريد أن تعرف، بسبب الليل والنجوم.
رفع الجندي قبضة جريحة، وأشار إلى ساق أسعد النازفة، وأوضح:
- بسبب الجرح.
طلب إليه النهوض، فعجز. وإذا به يأتيه، ويرفعه من ذراعه، ويجعله يعتمد علي ذراعه.
- ولكنها ليست طريقك إلى ضباطك.
طلب إليه الصمت، ثم همس:
- من هذه الناحية لن أجد غريتشن بانتظاري.
أحس أسعد بالدم يسيل من قبضة الآخر ساخنًا علي ذراعه:
- لماذا لا تضمد قبضتك؟
أجاب:
- تبهجني رؤية دمي.
نقل أسعد القبضة بين أصابعه، وتأمل الجرح، ثم همس:
- جرحك عميق!
همس الآخر:
- جرحك أعمق!
انحني علي الساق النازفة، وراح يضمدها بعد أن مزق قميصه، فقال أسعد:
- لست أنت الذي جرحني، وأنا قد كذبت عليك، الظلام عشيقتي.
سمعه أسعد يهمهم:
- أمَّا أنا، فقد جرحت نفسي بنفسي في النور.


17
لم يكف راديو الثورة عن إطلاق نداءات الصمود والفداء، فطالب أبو اللطف رجاله بالتقدم إلى النار، والنار جحيم، والفداء فيها محرقة. أيكفي الفداء حلم الأمس، واليوم احترق الحلم، والغد رماد؟ أيكفي النداء كسب القتال؟ أيكفي النداء؟ طالب إسكندر رجاله بالتراجع إلى الأوكار، وفي التعارض نبت التمرد علي الحرية، فقتل أبو اللطف برصاص رجاله، لأن في التراجع معنى البقاء، والموت سيتأخر. قتلوه من أجل أن يتأخر الموت ولو للحظة. كانت تلك اللحظة أغلى، كانت كل ما تبقى. انضموا إلى إسكندر في الأوكار، وراحوا يواصلون القتال. رصاصاتهم البريئة تمضي بالقتلى. هناك أقاموا من الجثث متاريسهم. جبل من الجثث متاريسهم. جبل من الجثث يفجره الرصاص ينابيع دم. جبل من الأموات يصبح جمرًا أحمر: النار والدم يشتعلان! ولا يتوقف الرجال عن قتل الموت، والموت بركان تقذفه الجثث! وتنهار الجثث، ثم تقوم، ثم تنهار! عيون منغلقة، وعيون محملقة، وعيون محترقة، وعيون مرتبكة، وشفاه متمزقة، وكروش متبخترة، وصدور أو أشلاء صدور، وسيقان متكسرة، ودماء، ودماء، ملايين من أمواج الدماء الصارخة، وصرخات صامتة، ودماء، وبراز، ووحل، ودماء، ودماء، ودماء! وعيون منسحقة، وعيون منفقئة، وعيون منفلقة، وأنصاف عيون، وأنصاف شفاه، وأنصاف أنوف، وأنصاف جباه، وأنصاف أحلام، وأنصاف ذقون، وأنصاف أسنان، وأنصاف عظام، وأنصاف سواعد، وأنصاف بطون، وأنصاف أياد، وأنصاف ذيول، وأنصاف خطوات، وأنصاف همسات، وأنصاف حركات، ورعب كامل، وعيون خضراء، وتراجع، وتقدم، وتراجع، وعيون عمياء، أو هي كانت عمياء، وأفواه خرساء، تنطق دمًا، تبصق دمًا، تغوط دمًا، دم بلون القيء أو الوحل أو البراز! بطعم الجمر أو البعر أو الزجاج! عقيق، ودماء، ودماء، ودماء، ودماء، ودماء، أنهار من الدماء الصارخة في صمت الصحراء.
انطلق صوت الإذاعة المتنقلة لراديو الثورة يدعو إلى الصمود من جديد، ويعلن بصوته الأبح عن مؤتمر صحفي سيعقده أبو غزة في منطقة مجهولة. همهم أبو غزة، وهو يخوض في ساح أم غزة معركته الوحيدة: لا أريد أن أتعب وإلا ما معنى أن أكون؟ سيقولون امرأة تنهكه! لا أريد أن أتعب! ولا أن أتصبب عرقًا، ولا أن ألهث! لا أرى أن أكون كغيري معك، أنا شيء آخر، تصيرين معي شيئًا آخر، ونصير معًا التواصل المدمر لغيرنا ! فتعالي نخض غمار معركتي المنتصرة! الهثي، واعرقي، واتعبي، واضربي ساقيك، وحطمي السرير، واسقطي في الفراغ، كي أتيك ممتلئًا بشحمي ولحمي! سآتيك صخرة، سآتيك صقرًا، سآتيك جبلاً لا تهزه ريح! سآتيك ممتلئًا بلحمي وشحمي، مرتفعًا بدمعي وبولي، كي أصنع أعجوبتي! أصنعك علي هواي، وأصنع منك نسلي! غدًا لنسلي مهمة أخرى هناك! في المغاور والمقابر والحارات! في الصدور والرؤوس والأمعاء! في مستقبل كل واحد غبي تخدعه الذكريات! في حاضر كل واحد ذكي تعميه الأمنيات! في ماضي كل جمجمة ونخاع!
راح أبو غزة يقهقه علي دوي القنابل وصور البيوت المتهدمة، وصوت الضابط رؤوف ينبثق من قلب الموت:
- باسم الحاكم العسكري سلِّم نفسك تسلم! أنا الضابط رؤوف، فلسطيني مثلكم، من يسلم نفسه لي يسلم!
ضاعف أبو غزة اقتحامه لمعاقل أم غزة، وغدا زلزالاً لم تحتمل أم غزة هزاته المدمرة، فانفجر الدم من مهبلها لافظًا جنينها. وعندما قام أبو غزة لينظر فيها، رأى جثة صبي مشوه تنظر إليه.

18
أحس أسعد بقطرة دم محرقة تسقط من جرحه علي جرحه، فتوقف، ونظر في عينيه، وقال:
- ليس جرحك بسيطًا.
سأله عن اسمه، فأجاب:
- شالوم.
- وأنا أسعد.
مزق أسعد قميصه، وربط جرح شالوم. وعندما انتهى، رفع شالوم قبضته إلى عينيه، وشكره، ثم أحاط أسعد بذراعه، وراح يساعده علي التقدم.
- هل ساقك تؤلمك؟
- تؤلمني! وأنت؟
- وأنا. تؤلمني يدي!
حاول شالوم أن يحرك قبضته:
- أشعر بيدي مشلولة.
- كما أشعر بساقي.
ابتسم أسعد مضيفًا:
- ولكن ثلاث سيقان سليمة لنا وثلاث أياد.
لم يدعه يتكلم:
- كان علينا أن نلعب معًا عندما كنا صغارًا بعض ألعاب الكبار.
بقي شالوم صامتًا.
- كان علينا أن نبني معًا بيوتًا صغيرة، ونهدمها، ثم نبنيها في الرمال.
بقي شالوم صامتًا.
- كان علينا أن نحب العشيقة نفسها، ونكرهها، لنحب غيرها.
بقي شالوم صامتًا.
سأله أسعد:
- لماذا لا تجيب؟
قال شالوم:
- أشعر بألم الجرح. جرحي أنا، وألمي أنا.
- وأنا أشعر بجرحي، وألمي.
- أنا وأنت نشعر بألم جرحنا حتى الابتهاج.
- حتى الالتئام.
- لهذا أخاف من الذنب... ذنبي أنا، وخوفي أنا.
- أتريد أن يبقى الألم؟
- أريد أن أعرف طريق الخطأ.
- أما أنا، فأعرفها.
- لِمَ هذا الادعاء الجسور؟
- أرى نهاية الطريق.
- أحقًّا تراها؟
- هي على مرمي حجر، أقرب من البيت والطفولة وشاطئ البحر.
- وغريتشن؟ لماذا، إذن، لا تراها؟
- لأنك سائر معي في الطريق.
- وهل ستجدها لي؟
صمت أسعد لحظة، ثم همس حزينًا:
- وجدتك لها.
- وأنت؟
- لم أجدني بعد.
- ألانك لا تحبها حتى الموت؟
- أحبها حتى الموت!
- وإذا متنا قبل أن نصلها؟
- لا نريد صلاة من أحد، يكفي أن نوارى في التراب.
إذا برصاصات ثلاث تصب مصيبة شالوم في القلب، فحمله أسعد إلى بيوت بعض الفلاحين:
- هل يمكنكم إنقاذه؟ هو فدائي اسمه سلام، وهو جريح برصاص الصهاينة.
ولم يكن بالإمكان إنقاذه.
دفنه الفلاحون دون صلاة، لا في جامع، ولا في كنيسة، ولا في كنيس. كتبوا علي شاهد قبره: هنا يرقد الفدائي سلام قتيل الصهاينة! أمَّا أسعد، فسار بساقه النازفة وحيدًا إلى عمان.

19
لم يكف صوت الإذاعة المتنقلة لراديو الثورة عن الدعوة إلى الصمود والإعلان عن مؤتمر أبي غزة الصحفي من منطقة مجهولة، والطلقات بدأت تنخفض، والسواعد بدأت تكل، والليل غدا فحمًا، والنار أطفأتها الريح، والرجال في الأوكار تعبوا، أو في البنايات المحطمة، والأسلحة لم يعد يرويها العرق، والكل يسقط في الدخان.
وفي التعب والعرق والدخان جاء صوت أبي غزة نشيطًا قويًّا صداحًا، أول شيء أكد عليه أنه يقيم مؤتمره الصحفي في منطقة مجهولة، وهو كان في فندق الإنتركونتيننتال. وثاني شيء أكد عليه أنه بدل موقفه من أبي حابس، وكذلك فيها يخص الشعار (( نتركه في حاله ويتركنا في حالنا ))، إذ أننا لن نتركه في حاله هذه المرة، لأنه لم يتركنا في حالنا، وهو كان على موعد معه في الخفاء. وثالث شيء أكَّد عليه، في المرتبة الثالثة، وهذا لأنه متواضع، أنه لم يزل أبا غزة وصفد واللد والرملة وسبع الذي مات في الطريق، وهو كان قد اقترح التخلي عن كل المهمات. حث الفدائيين علي الاستشهاد، فماذا يهم عشرة عشرون ألف شهيد في سبيل فلسطين! وضمن لهم جنان الرحمن! أنهى المؤتمر الصحفي بسرعة، بسبب الظروف الحرجة، فقد قال الأساسي، ولا داعي للف والدوران!
أخذ صحافي أمريكي يثني علي لغة أبي غزة الإنجليزية، ومن خلف الصفوف، كان أبو حابس يجلس متابعًا الأسئلة والأجوبة، ثم ذهب إلى الكواليس، وهنأ أبا غزة أعظم تهنئة، فحمل أبو غزة حابس، ووضعه علي ركبته، وراح يقبله من خده إرضاء لأبيه قبلاته التي بالمئات. كان أبو حابس راضيًا أشد الرضاء، لهذا ترك حابس معه، وسارع إلى الميدان. وفي الميدان، النار أطفأتها الريح، وفي الميدان الدخان يتصاعد إلى السماء، والجثث كالبذار، والدماء موج يتلاطم، ومراكب العودة محطمة، وفي الميدان الأمل احترق، والبرق أشجار.
جرف أبو غزة شعور غير متوقع، لأول مرة يأتيه شعور مثل هذا نحو حابس: ولد مكتنز! أحس به طريًّا، زبدًا، حريريًّا! أحس به لوزيًّا، سكريًّا، زبيبيًّا! فخفق فخده، وخفق قلبه، ونظر برعب إلى وجهه الجميل، وابتهل باسم الله الرحمن الرحيم! أبو غزة يكتشف أخيرًا مثل هذا الجمال! أبو غزة لا يكتشف إلا أخيرًا كل هذا الجمال! والولد العفريت قد فهم معني الرغبة، وعذاب الشوق، ولسعة السوط. وعندما راح أبو غزة يلهث علي أعتاب الاقتحام، تهارب الولد حابس، وغدا أمنية متمردة! ركض أبو غزة لاحقًا به، وهو يبتهل باسم الله الرحمن الرحيم، وفندق الإنتركونتيننتال أكبر من كبير! مسح غرفه غرفة غرفة، وممراته ممرًا ممرًا، وطوابقه طابقًا طابقًا، وعندما لم يقع عليه قال يا للعجب! ولكنه وجد الأعجب: المخادع الحمراء التي تتصارع فيها الأجساد، النهود ضخمة، والبطون رخصة، والزنود التي كالعقارب ملتفة، والخصور، والصقور، والديوك، ولحم الدجاج الأبيض، وشتى أنواع اللحوم! رأى قاعة القمار ممتلئة بأجانب شقر وعرب سمر أنيقين وخدم سود وأعيان وثوار والنقود بالأطنان والخمور كالأنهار تجرف كل شيء، والقهقهات طبيعية لا تبالي بالدمار! مر بإحدى الشرفات، وفيها كان صحافيون من أوروبا يتابعون في الظلام بعض أقواس النار: هذه نار أمريكية، وهذه نار إنجليزية، وهذا دخان تشيكي! ويا لمدافعنا الجبارة! أمسكوا بأبي غزة، وسألوه، فأبدى بأقواس النار، هو الآخر، إعجابه. وشتم عن غير قصد منه نار الصين ونار اليابان لأنهما تشبهان بعضهما، حتى ولو كانت مدافع الصينيين في طرف الفدائيين! أطلق الصحافيون القهقهات، وعادوا يزجونه خالص التهاني. كان أبو غزة يريد أن يجد حابسًا،
لا شيء غير حابس، وليذهبوا جميعًا إلى الشيطان! مارد هو الولد حابس! ولد ومارد! يا رب العباد! أراد أصحاب الكروش الضخمة جذب أبي غزة إلى صواني المناسف العملاقة والخرفان المحمرة والإوزات المشوية والمقبلات والمتبلات والسلطات وباقي ما تيسر من الأطباق. كانوا يسمونها قاعة هارون الرشيد، فتخيل أبو غزة نفسه الخليفة، ومن حوله الجواري الحسان، والطبل والزمر وهز البطن. وبعد تقدم وتقهقر، والتهام قطعة لحم من هنا، وحفنة لوز من هناك، تذكر أبا نواس، وذهب بحثًا عن حابس! فكر بدهشة لذيذة: صرت أشتهيه أكثر من إوزة مشوية! وكلما وصلته أصداء قنبلة اشتهاه أكثر. هل يكبله ولد في آخر حياته؟ هو الأجمل! هو الأروع! هو الأبطل! مسبب الحروق هو! صانع الهزائم! زارع الحرائق! منبت المشانق! مسقط المدائن! مفجر آبار النفط في المضاجع! أبو غزة وصفد واللد والرمل وسبع الذي مات في الطريق! إلى أن وجده علي سطح الفندق، فوق الليل، فوق الدنيا، فوق العالم، هناك يقهقه بلذة المنتقم. وأبو غزة قد راح يهمهم بلذة الجريح: تعال إليّ، أيُّها المليح! تعال إلى هذا الذبيح!
وبعد كر وفر، وفر وكر، وصراع، لم يستطيع أبو غزة إلقاء القبض علي حابس، فتداعى، وفكر، لأول مرة في حياته، أنه انتهى. ولكن الحنش الذي له راح يتمطى، ويتمطى، حتى غدا طوله مترين. لفه حول خصره، وعاد يجري من وراء حابس. وبعد كرٍّ وفرٍّ، وفرٍّ وكرٍّ، وصراع، تداعى أبو غزة، مرة أخرى، وبيد منخذلة، فك الحنش الدائر بخصره، وجعله يربض في حضنه. وفي لحظة يأس أو انتقام هجم عليه بأصابعه، وهجمت الأماني بالتحرير، وحلم بفلسطين، فجاءته علي شكل ثدي أهوج أدماه بأسنانه.

20
كانوا تعبين، علي الرغم من بزوغ شمس الصباح، وكان إسكندر يجلس علي الأرض، وفي حضنه سلاحه. القتال في انتظار، ورغم الانهيار لم يرحل الأمل طائرًا. كانوا من حوله يستلقون أو يجلسون كتماثيل البرنز: الشاويش الإربدي يرمي برأسه علي السرير الذي دفعوه في عرض الحائط، ويبدو عليه الغياب، أو أنه يدندن لحنًا صامتًا. وأبو فريد الغزاوي يفك سلاحه في زاوية، وهو لحركته البطيئة عليه يبدو كمن يفحص فخذ عجل سمينًا (أليست تلك مهنته؟) قبل الشروع بجرد لحمه عن عظمه لأجل وليمة انتصار غزة القادم... وأحد الفدائيين يلصق ذقنًا متراخية علي حافة النافذة، ويراقب أدنى حركة علي الرصيف. وفدائي آخر ينقلب على ظهره، وسلاحه تحت رأسه، يتابع بعينيه النصف المفتوحتين الشروخ التي قلمت السقف الواطئ. وفاطمة تضم أخاها نضال إلى صدرها بذراعين خدرتين، ونضال ينام، وخصلات شعره بين أصابعها! كانت تلك (( قلعتهم ))، وهم على طرف، وعمان أمامهم، وفكرة واحدة تجمعهم: الحياة! ريثما يتم صعود شمس الصباح، ففي صعودها أكثر من معنى، ولربما أكثر من مفاجأة. تجمعهم الحياة، وتربطهم المفاجأة، فيتنفسون، وينظرون إلى بعضهم.
فكر إسكندر في فاطمة، فقال لنفسه إنها قربي! تطلع إلى يده النازفة، وتطلع إلى فاطمة، ورأى أن شحوبًا ينحت وجهها، وأن على محياها الذي يظل جميلاً حزنًا أشد جمالاً. هذه السمراء الطفلة! هذه الطفلة السمراء! في حضنها أخوها، وعند قدميها سلاح منتظر! لقد قتل إبراهيم نفسه من أجلها، من أجل أن تتحرر، وتأتيني! ومن قلب عمان الصامتة أتاه صوت إبراهيم موافقًا، فخاف، ولم يبتسم الرجل المبتسم، ألم يكن هذا لقبه الماضي؟ ولكنه الماضي، وصوت إبراهيم القتيل يشقيه، يصعد من الموت ليؤكد في نفسه رغبة صارخة! لو كانا وحدهما لأخذها بين ذراعيه، وزرع وجهها قبلاً، هو اللئيم، هو العاشق، هو الأناني! رحيق الرصاص يسبب له الصداع، فيبقى يقظًا. رحيق فاطمة يعدو به إلى موسم الرحيل، ولكن الصداع لا يغادره. كان لا يريد أن يموت غدًا، فيقترب من نفسه أكثر، لأجل ذلك يقاتل اليوم، ويحب فاطمة. نعم، لأجل ذلك. وهو معهم لأجل ذلك، وعليه إيقاف النزيف. لكنه نظر إلى يده عاجزًا، أصبح جرحها عميقًا، ولم يعد يشعر بدمها. كان مخدرًا بألمه، وبسبب الألم كانت له القدرة علي الانتظار.
التفت إسكندر إلى الشاويش، فرأى يده، وهي ترتفع في الفضاء، وهي تخفق علي كتف أبي فريد:
- هل بقي عندك سجائر؟
انتفض أبو فريد الغزاوي متفاجئًا، لأنه كان ذاهبًا في عناق السلاح، ولأنه كان يفكر أنه سينتصر على الرغم من كل شيء، أنه سينتصر، وأنه سيقيم وليمة عظمى لكل أهل غزة ولكل شعب الأردن وشعب فلسطين. دفع يدًا خشنة في جيب سرواله، وأخرج صندوق سجائره:
- بعد أن تأخذ واحدة تبقى لي اثنتان.
أخذ الشاويش واحدة، وأشعلها، وأبو فريد يقول:
- ليست هذه سيجارتك الأخيرة، يا شاويش، وغدًا ستكون كل إربد بانتظارنا.
حط أبو فريد الغزاوي سيجارة من فوق كل أذن، وراح يبتسم، والشاويش يمج الدخان دون توقف، ثم ما لبث أن أطفأ سيجارته، وخبأها في جيبه، وقال:
- سأتركها إلى وقت آخر.
غضب أبو فريد:
- ألست واثقا من كلامي؟ غدًا سينتهي كل شيء!
لم يتردد الشاويش:
- علي كل حال إنني أترك نصف السيجارة إلى وقت آخر.
قذفه أبو فريد بسيجارتيه، ونبر:
- هاأنذا أعطيك كل ما لدي، وغدًا سندخن باكيتًا كاملاً في إربد بلدك قبل أن ندخن خرطوشًا برمته نحن وبحر غزة. بماذا تراهن؟
أشعل له عود ثقاب، وأجبره على التدخين، ثم استدار نحو الفدائي الذي يقوم بالمراقبة، وهتف:
- هل من جديد؟
تراخي الفدائي أكثر، وتساقط فكه:
- لا جديد.
أغمض الشاب المستلقي عينيه، وهمهم:
- يفكرون في النكاح!
صاح أبو فريد الغزاوي به مؤنبًا:
- ألا تخجل أن تقول هذا وبصحبتنا امرأة؟
لم تكن فاطمة تسمع لهم، كانت تفكر في إسكندر، وتنظر إلى يده النازفة، ولا تستطيع أن تفعل شيئًا.
- ماذا قلت؟ الذي قلته فقط يفكرون في النكاح، وليس في هذا كلام يجرح المشاعر!
نظروا إلى فاطمة، وفاطمة تحدق في اليد النازفة. كان إسكندر قد نهض، وقال لهم:
- دعونا نعدل موضع السرير.
أخذ نضال من حضنها، حطه علي السرير، ورمي عليه دثارة. نظر إليها، في عينيها، وفي عينيه سهام الدم. أيمكنه أن يحبها أكثر من دمه؟ أيمكنه أن يحفظ لها حبه؟ أن يحفظها من حبه؟ أعطاها ظهره، أطل بحذر من النافذة، وراح يجيل نظره في شارع الموت، فسمع أبو فريد يقول، وقد لانت نبرته:
- أتدري، أيُّها الشاويش؟ إنني أفكر في أولادي! لقد وعدتهم بسفينة ترسو إلى الأبد على ساحل غزة، يلعبون بها لعبة القراصنة، ويتراشقون في ردهاتها بالحجارة، ثم يحطمونها تحطيمًا.
قال إسكندر لنفسه إن السبب لتفكير أبي فريد في أولاده هو نضال الذي ينام في الحرب مطمئنًا! سمع الشاويش يجيبه بحدة:
- يا له من تفكير أحمق في مثل هذه الساعة!
- أفي هذا خطأ أن يفكر المرء في أولاده؟
- فكر في أولاد مخيم الوحدات.
- أفكر في أولاد مخيم الوحدات أيضًا. ترى لماذا أقاتل؟ لأنني أفكر في هذا، في كل هذا، وفي أولاد أبي حابس!
وبعد قليل أضاف:
- لقد تركت أولادي هناك في حضن البلد.
- وستعود إليهم.
اتسعت ابتسامته، وهتف:
- أنت أحسن شاويش في الدنيا!
- ولكن شاويشك جائع!
راح أبو فريد الغزاوي يقهقه:
- في الغد سأذبح لك خروفًا تأكله كله بلحمه وعظمه وحدك!
تمتم الشاويش دون رضاء:
- كلما تكلمنا عن اليوم تكلم جزارنا عن الغد!
صاح:
- أنا جائع الآن، وليفتح الله غدًا!
نهض يحفر بموساه الباب، ويلوك خشبه، وأبو فريد يقول:
- أما أنا، فلي ربع معدة فقط، لهذا لا أحس بالجوع، رغم أنني لم أتناول لقمة واحدة منذ أيام ثلاثة. هذه نعمة من عند الله، أليس كذلك؟
همهم الشاويش:
- يا لك من شقي!
- هل آذتك قصتي إلى هذا الحد؟
قالت فاطمة:
- سأذهب لأبحث لكم عن طعام.
اتجهت صوت الباب، فشدها إسكندر من ذراعها:
- ستجدين الطعام أين؟
- سأحاول. نضال أيضًا لم يأكل منذ مدة.
- تعالي هنا!
نهض الفدائي المستلقي بنصفه الأعلى فجأة:
- كمية الذخيرة نقصت، ألم يفكر أحد في هذا!
طمأنه إسكندر:
- أنتظر أن يأتينا بين لحظة وأخرى من يمدنا بالذخيرة والطعام.
عاد الفدائي يستلقى من جديد، ولم يكف الشاويش عن أكل الخشب. كان الجزار قد انتهى من تنظيف سلاحه، وراح ينظر بحذر إلى شارع الموت. أحس إسكندر بأصابع فاطمة تأتيه، وأحس بيده النازفة بين أصابعها، أحس بشللها، فابتسم، وتركها تضمدها، هل يحدثها؟ هل يقول لها أحبك بصوت مرتفع؟ لكنها تفهم صيحة الرصاص! وتفهم أيضًا صيحة الجرح! ولا تذهب بالجرح بين أصابعها إلى شفتيها البعيدتين! تبتسم له، ويحلم بشعرها، فيسقط في الليل، وشمس الصباح في الخارج تتصاعد فوق جبال عمان، وإسكندر يضيع في الشمس السوداء، وفاطمة تبتسم دومًا، وهو قد توقف عن الابتسام، تكفيه أصابعها الحانية. فجأة، اندفع الباب، ودخلت سليمة.


21
- مرحى، يا إخوان!
- مرحى، يا سليمة!
وضعت سليمة سلة قصبية، وخرجت لتعود بصندوق تحمله معها فتاة أجنبية:
- هذه ماتيلد، فرنسية تزوجت من فدائي مات قتلاً!
نظروا إلى بطنها المنتفخ وإلي ثوب (( النوريات )) الذي ترتديه، وإلى وجهها الموشوم، ويديها المحناتين كقدميها، فابتسموا لها، وابتسمت لهم، وسليمة توضح:
- هي من الهيبز، حامل في الشهر السابع، وجِدُّ طيبة!
تابع إسكندر قامة سليمة الفارعة في ثوب قروية يجر علي الأرض، فابتسم لها، وقال:
- كنت أتوقع قدوم أحدهم بين الحين والآخر، ولكن لم يخطر علي بالي التفكير أنه أنت!
قالت سليمة:
- وقع الاختيار علي.
استدارت نحو فاطمة باسمة:
- لم أكن أعرف أن معكم فتاة جميلة!
ابتسمت فاطمة خجلى، فقدمها لها إسكندر:
- هذه فاطمة!
سلمت عليها، وكأنها تعرفها منذ زمن بعيد، قالت إنها لا بد تعبة، فهذه الحرب اللاحقة لسابقتها، السابقة للاحقتها، قد أتعبت الجميع، وفاطمة تبتسم، وتعبس، وتشير إلى أخيها الطفل، وتتمني لو كانت طفلة لنامت مثله في الحرب. طلب إسكندر إلى سليمة:
- كيف حصل أنك نفذت إلينا؟
- تحصنت بالوطن!
وهي تشير إلى ثوب القروية الذي ترتديه.
- ثم قطعت أنا وماتليد أزقة لا تخطر ببال!
بدت أرجة كوردة:
- كان قطع الشارع هذا الذي تشرف عليه بنادقكم من البساطة بحيث بدوت للناظر وكأنني أقوم بنزهتي الصباحية!
أطلقت ضحكة جزلى:
- لربما لم ينهضوا بعد من نومهم! ثم خلفية الشارع مهدمة تمامًا من جراء القصف!
- أكثر من شارع الموت هذا؟ أكثر من شارع الجحيم!
- هذا شارع الجنة بالنسبة إلى غيره من الشوارع! أنتم في نعيم!
يا ليتكم ترون ماذا فعل أبو حابس وزميله أبو غزة بعمان!
هتف أبو فريد الغزاوي ووجهه العريض المدور ينتفض كرغيف خارج من طابون غزة:
- والطعام؟ الطعام؟ صاحبنا أكل الخشب، فهو لم يأكل منذ أيام!
اهتز شاربا الشاويش، ونفى:
- يكذب عليك، فهو يطلبه لنفسه!
عتب عليه أبو فريد:
- أنا أبو ربع المعدة! أتستحي من سليمة الآن؟
كانت سليمة قد أحضرت سلة القصب إلى الشاويش، فراح يخرج منها أرغفة يبست، وعلبة فيها زيتون، وأخرى فيها جبن أبيض، وقربة ماء دفع فوهتها كالطفل في فمه، وسليمة توضح:
- آخر ما تبقي في المستودع.
قال الشاويش:
- خير الله كثير!
حثه أبو فريد:
- عجل إذن في التوزيع.
بدأ الشاويش يوزع عليهم الخبز، ويسقيهم. تربع الفدائي الذي يقوم بالمراقبة علي الأرض، وراح يأكل، فيند عن مضغه صوت كمضغ الهر. اتجهت فاطمة إلى أخيها تريد إيقاظه، لكن سليمة أوقفتها:
- من الأفضل أن ينام، وسنترك له حصة كافية.
ثم توجهت إلى إسكندر الذي يعض رغيفًا:
- ألا يوجد لديكم عمل لهذه القروية؟
وهي تشير إلى نفسها. وقبل أن يرد إسكندر عليها، أوضحت:
- لدي أمر بالبقاء معكم أنا وماتيلد، فمركزكم صار حسَّاسًا.
أمعن إسكندر النظر في العنق العاجي، ثم تطلع إلى بطن ماتيلد التي في شهرها السابع، وابتسم:
- يمكن لكما تناوب العمل مع فاطمة.
- هذا أمر سار أن نتناوب العمل مع فاطمة.
وسحبت من حضن الشاويش سلة الأكل:
- هذا يكفي، يا شاويش، فالطعام لأيام ثلاثة، وقد أكلت قدر حصتك مرتين!
لم يكن يتوقع المفاجأة:
- أقسم أنني لم آكل بقدر ربع المعدة التي للجزار!
لكنها أعادت:
- هذا يكفي!
دفعت السلة تحت السرير، بينما ضحك الجميع. نظر الشاويش إلى شفتي ماتيلد، وراح يتابع ابتسامتها، فاستضاء بها، وابتسم لها. وعندما طلبت سليمة إلى ماتيلد أن تعينها علي فتح الصندوق، نهض الشاويش مكانها، وقال:
- المرأة حامل، فاتركوها ترتاح! هل انتهت الدنيا من الرجال؟
فتح الصندوق، فقالت سليمة فخورة:
- انظروا إلى كل هذا الجمال، أيُّها الرجال!
كانت الأسلحة وليدة، جديدة، والذخيرة جميلة كحور الجنان! أضافت سليمة منبهة:
- هذا أيضًا لثلاثة أيام.
- خير الله كثير!
ذهبت تسأل فاطمة، والرجال يوزعون السلاح فيما بينهم والذخيرة:
- أنت طالبة؟
- كيف عرفت؟
- من حيائك.
ضحكت فاطمة، وسليمة تضيف مبتسمة:
- كنت مثلك أنا، كان ذلك في البداية. تركت المدرسة بعد حرب حزيران لألتحق بالمقاومة. حتى الآن يرفضون أن أحمل سلاحًا.
وانغلقت علي نفسها:
- تفهمني الحرب أكثر منهم!
عادت تبتسم:
- أتمني أن نصبح صديقتين.
- وأنا أيضًا.
أشارت سليمة إلى الرجال:
- انظري إليهم، عندما يجدون أنفسهم مع الأسلحة ينسوننا!
رأت فاطمة إسكندر يحتضن سلاحه كمن يحتضن امرأة:
- أحقًّا قصفوا المخيمات؟
- الدبابات والمدافع من ناحية والطائرات من ناحية ثانية. أبادوا
80 % من مخيم الوحدات، الحال لم يقف عند هذا، فالبؤس يخيم على عمان. أبو حابس لا يهمه شيء كما ترين! لا شيء يوقفه أمام تحقيق أهدافه! الأهداف التي تملى عليه!
نظرت سليمة إلى الرجال، كانت ماتيلد تجلس على طرف، والرجال كل يغرق في صمته. الانتظار صعب وقت الحرب، هدير المعارك أخف وطأة!
- في ماذا تفكر، يا أخ إسكندر؟
التفت إسكندر إلى سليمة، ونظر إلى عنقها العاجي. كلما نظر إلي سليمة استلفت انتباهه عنقها العاجى! هل يخون الأمل، ويقول لها الحقيقة؟ كانت لديهم أسلحة لثلاثة أيام وطعام وذخيرة. هل يقطع الغد دون انتظار، ويقول لها لا فائدة، موعدنا القادم في شارع الموت؟
- أفكر أنهم يريدون الانتقام من فلسطين ذاتها، وبعد ذلك، سيصرخون في إذاعاتهم: آه، يا فلسطين الشهيدة!
نبرت سليمة مستنكرة:
- من المحال أن يفعلوها!
نعم، فهي لديها أسلحة وطعام وذخيرة لثلاثة أيام، وهى تؤمن بالمفاجآت! راح يرمق ثوب القروية الذي ترتديه، وانتقل، مرة أخرى، إلى عنق العاج، وخلط بينها وبين فاطمة. تخيلها تأتيه بشفتيها، وفي الوقت ذاته، بدت له جبال الجثث، والموت الزاحف مع الدم، وحاول النهوض بالتاريخ، فأحس بنفسه منسحقًا، ولكنه حاول عدم السقوط، وبينما هو يدور بينهم متأرجحًا، سمعوه يردد:
- هل هو ذنبي أن أدافع عن وجودي؟ أن أقاتل لأبقى؟ وأن أحاول الانتصار الآن هنا لأنتصر غدًا هناك؟ هذه هي حقوقي اليوم، وهم لهذا يريدون قتلي!
لحظتذاك، انبثق صوت واثق شق آفاق فلسطين كلها في لحظة واحدة وعاد متصاديًا:
- إنه لمن المحال! إنه لمن المحال! إنه لمن المحال!
ولأول مرة، فكر إسكندر في أبي غزة كما فكر أسعد قبله بكثير: ليس أبو غزة العصفور الذي أقاتل من أجله! بعد أن وقف على سر الموت فيه: كان الهدف والذريعة! الجنون والأنانية! المشروع والهزيمة! تبدى له في ثوب أبي حابس، وهو يقتل، ويحرق مثل أية دمية متحركة، فنادى: يا إبراهيم! ذلك موقع للذين عرفتهم ورفضتهم بانتحارك. وعزم علي الدفاع عن موقعه هذا حتى الموت، لعله يجد أسعد، لعله يجد إبراهيم.


22
كل نزلاء مستشفى الأشرفية يحبون مديرته الست ماري، وأسعد يحب خضرة. خضرة القمح! خضرة الجرح! خضرة الحقائق! خضرة الحدائق! خضرة المعارك! وخضرة مرور الريح! هكذا كان أسعد يقضي الوقت، وهو يحلم بخضرة. يعرف أنها على مقربة منه تحميه، ويعرف أنها تقود عشرة رجال، وهي تقود كعشرة رجال. لم ييأس أسعد علي الرغم من أنهم طوعوا معظم مخيم الوحدات. كانت خضرة دومًا معه، ومع رجال المليشيا دومًا بنادقهم. كانت خضرة معهم، ومعهم كانت بنادقهم، فهل كان كل هذا لأسعد كافيًا كي يلتئم الجرح؟
جاءته الست ماري بصحبة ممرضة وطبيب، وتفقدوا ساقه. ابتسم الطبيب للجرح، وادعى أنه يلتئم، ولكن الست ماري لم تبتسم. سأل أسعد نفسه: منذ متى لا تبتسم الوردة؟ رأى علي وجنتي الست ماري دموعًا جافة، ففكر في خضرة، ومره أخرى في الورد، وفكر في شالوم، في الفدائي سلام، وفي رحلة بعيدة، ثم وصلت أصداء القتال، فتركوه مع جرحه وحيدًا، وذهبوا مسرعين.
كانوا يخافون أن يقصفوا المستشفى كالبارحة، وكانوا يخافون أن يأتيهم الفدائيون بجرحى آخرين، ولا مكان لساق نازفة، أو لإصبع منكسر، لا مكان لصرصار! ولا ماء، ولا دواء، والابتسامة عن شفتي الست ماري رحلت! لكنه تخيل خضرة، وهي تقاتل مع عشرة رجال، كعشرة رجال، فابتسم للخيال. فكر أنه يحبها منذ زمن، ومنذ زمن كان جبانًا. هل يجدها بعد أن خسر كل شيء؟ كانت خضرة تقاتل هناك لتحميه، وهو مضطر للجلوس هنا، رهين ساقه النازفة. عاد الطبيب يبتسم للجرح، وادعى أنه يلتئم، والجرح منجم لم يكتشف بعد. كان يهوى الابتسام، يعطيه القوة علي الاحتمال! لكن أسعد قد عزم علي الذهاب إلى خضرة، ليجدها في اللون الأحمر، فالقمح يسقى بالدم، ليجدها في لون الفحم. ستميته عيناها المكحلتان، عيناها الليلان، ستميته شفتاها الناضجتان، وسيموت طائعًا للثمر. هل حقًّا سيموت؟ وجدته إلى جانبها، فانتهرته:
- اذهب من هنا، أيُّها المجنون!
رمى بنفسه في الخندق:
- أريد أن أراك، يا خضرة.
وهي تشتم، وتقول:
- لا تأتي إلى هنا، أيُّها المجنون!
- أريد أن أتزوجك، يا خضرة.
توقفت عن القتال، ونظرت إليه غير مصدقة، فأعاد:
- أريد أن أتزوجك بعد أن ينتهي القتال، يا خضرة.
احتمت خضرة بالسؤال:
- تتزوج ممن؟ وبعد ماذا؟
- أتزوج من خضرة بعد أن ينتهي القتال.
قهقهت خضرة:
- أتكون قد جننت حقًّا؟
أخذت تقاتل دبابة، فنهض أسعد منسحبًا، وصاح:
- سأتزوجك، يا خضرة، بعد أن ينتهي القتال.
رأى ابتسامتها، ابتسامة كل ليالي الوصل.
وهو علي بعد عشرة أمتار منها، انفجرت في الخندق قذيفة، فعاد إلى دم خضرة، ولحم خضرة، وبرق خضرة، يجمعها. أوصته بابنتها سعدة، وماتت.


23
جرى إسكندر ومن معه ليأخذوا أماكنهم الدفاعية إثر سماعهم بعض طلقات آتية من البناية المقابلة، والفدائي الذي يراقب من النافذة يسب، ويتساءل:
- تراهم كيف تسللوا؟
كان نضال قد نهض مذعورًا، واقترب من فاطمة، ولكنها انتهرته:
- اذهب أنت بعيدًا هناك!
لم يشأ الانصياع، ظل يقف قربها معاندًا إلى أن ضمته ماتيلد، أجلسته في زاوية، وقلبت أمامه السرير خوفًا من رصاصة تحب الأطفال أو شظية تريد أن تلعب معهم، والفدائي لا يتوقف عن السباب والقتال والبكاء، فعلق الشاويش:
- يبكي من القر دمعًا مشفقًا وسلاحه يضرب أبدًا!
انبثق صوت الإذاعة المتنقلة لراديو الثورة يعلن عن خطاب هام سيلقيه أبو غزة، وفي الوقت ذاته، قوس إسكندر متسللاً، وتفجر دمه علي الجدار. رأى الشاويش متسللاً آخر، وقد نهض نصف نهضة بعد أن نفضته يد خفية إلى أعلى، ثم ترامى علي حافة النافذة. دق إسكندر بمرفقه بطن أبي فريد مشيرًا إلى ثلاثة يحاولون التسلل إلى بنايتهم، فابتسم الغزاوي ابتسامة تذكر بسمك غزة، وأعاقهم عن التسلل بضربه المتواصل.
- لا تبذر رصاصاتك!
- كان علي أن أوقفهم.
صاح إسكندر بمن معه:
- لا تطلقوا إلا عند الضرورة القصوى!
بدت فرقة تخرج من قلب شارع الموت، بينا تتقدمها عربة مصفحة تسحب في ذيلها مدفعًا، وإسكندر يفكر: هم وحدهم من بقي صامدًا في المنطقة، فوكرهم أصبح مكشوفًا، وفرقة المتسللين هناك تقف في العراء متحاشية الاقتراب من مرمي بنادقهم. رأى إسكندر أحد الذين يختبئون وراء الأنقاض يريد قطع الطريق إلى رصيفهم، وفي الوقت ذاته، انصبت طلقات الشاويش عليه، فرآه يخبط بدمه، كمن باغته سكين قدره.
- أراد العبور إلينا!
جمجم أبو فريد:
- آه، لو أنك تركته لي!
أطلق الشاويش عليه رصاصة أخيرة، فتراخت قدمه، وجمدت، وماتيلد تبتسم كأنها تتابع فيلمًا أعجبها. طبطبت علي كتف الشاويش، فأخذ يدها، وقبلها، وراح يضحك بسعادة. فجأة، صاحت فاطمة:
- انتبه، يا إسكندر!
خفض إسكندر رأسه بعجلة، وإذا بشحنة رصاص تخترق الحائط، وفاطمة تزرع نصل السنجة في قلب أحد المتسللين. رأوها ترتعد، فضمتها إلى صدرها سليمة:
- أنقذت إسكندر! وأنقذتنا!
وإسكندر يحتضنها بنظراته، يبدو بها فخورًا. فخره بها أضاقه، لأن كل هذا جنون! كان بإمكانه أن يموت. كره نفسه. كره العالم. كره أباه. لكنه أحب فاطمة أكثر. ليس لأنها أنقذته. لكنها بالفعل أنقذته. أنقذته ليبقى لها، فلن يجعلهم يأخذونه منها! كان غضب الرشاش في يد أبي فريد قد انطلق شديدًا، فأردى باقي المختبئين في الركام. والفدائي الشاب لم يتوقف عن البكاء، ولا عن إرسال الشتائم. والفدائي الآخر، كان يقاتل، وهو عابس. رأى إسكندر يدًا تطير في الفضاء، ورأى أصابعها المفتوحة، فنظر إلى يده الذبيحة، ولم يعد يحس بها. خيم علي المكان صمت عميق، ومن بعيد، أصداء بعض المعارك. سيشنون هجومًا كبيرًا عما قليل! رأوا مصفحة ثانية تتقدم، وثلاثة مدافع. تقدمت سليمة من إحدى البنادق، وحملتها بخفة. نظرت إلى إسكندر، فقال إسكندر للغزاوي:
- سنأخذ مواقعنا أنا وأنت في الطابق الأرضي، علينا توزيع القوى لبعث الشك في صدورهم، فيحسبون أننا كثر، وكذلك للمواجهة من أكثر من زاوية.
غدت لأبي فريد الغزاوي شفتان بلون الرصاص:
- سيضعف مركزنا هنا.
نظر إسكندر إلى سليمة، وهي تشد البندقية، وأوضح:
- سليمة ستقاتل هنا بدلاً منا.
كانت فاطمة قد حملت سلاحًا، وكذلك فعلت ماتيلد، فابتسم إسكندر، ولكن أبا فريد بقي مترددًا، ثم رافق إسكندر الذي أوقفه نضال:
- إلى أين أنت ذاهب، يا إسكندر؟
لم يستطيع إسكندر انتزاع نفسه من السؤال، ولا من نظرة الطفل، ومع ذلك، فالأمر لا يبدو معقدًا إلى تلك الدرجة. تذكر أسعد وعصافير أسعد، فابتسم، وقال:
- يقتلون العصافير وأنا ذاهب كي أمنعهم!
نهض نضال، وجرى إليه:
- خذني معك، فأنا أحب العصافير!
لم تشأ فاطمة البكاء، ولكنها ابتعدت بوجهها إلى شارع الموت، ونظرت إلى الدماء والركام. لم يفه إسكندر للطفل بكلمة، خلاه، وأقفل من ورائه الباب. ومرة أخرى، نشبت المعركة، ونشب صوت الإذاعة المتنقلة لراديو الثورة يعلن عن خطاب أبي غزة الهام. سمع الشاويش أنينًا يعاركه هول الدوي، فالتفت صوب جاره الشاب الذي ينحني على رفيقه، وهو يضمه، ويبكي. شاهد دموعه، وهي تتفجر بغضب العنب المقاتل، وفجأة، ألقى به كصخرة، وراح يتصايح كمجنون:
- الموت! الموت! الموت!
وهو يطلق الرصاص الحنون.
نعم، في الأخير، الموت يأتي في الأخير! ها هو يطلق الرصاص حتى الموت، وفي ظنه يصنع الموت في الطريق. إنها قوة الهلاك الأخيرة! كان الشاويش قد نظر إلى البنات، وهن يشاركنه القتال، وفكر في ماتيلد، في بطنها، وجنين الشهر السابع. تمنى لو تلده الآن، لتنقذه من قوة الهلاك الأخيرة! ابتسم علي الفكرة، وحاول ألا ييأس قبل الأوان. عاد إلى سلاحه صلبًا كمرساة، قادرًا كفأس، وإسكندر يفكر: سيتواردون من كل صوب عما قليل! نظر إلى شفتي أبي فريد الغزاوي الضخمتين، وراح يفكر فيهما، بشفتيه. قال سيدخن غدًا باكيت سجائر كاملاً في إربد! سمعه ينادي عليه:
- يا إسكندر...
ولم يكن بإمكانه أن يسمعه:
- لا أريد أن أفقد الأمل، يا إسكندر!
كان الرصاص شديدًا، وهو قد تابع حركة شفتيه:
- لا أريد أن أفقد الأمل! لا أريد أن أحلم باليأس!
نظر إلى يد إسكندر المشلولة، وهتف:
- لن أدعهم يمسونك بأذى!
وإسكندر لا يسمع شيئًا، كان صخب الرصاص أقوى، وهو لا يفعل سوى متابعة حركة الشفتين. جذبته قوة الرصاص إلى المعركة مرة أخرى، فراح يضرب كيفما اتفق، وهو يفكر في الوطن القتيل! وراح يفكر في الوطن الماضي، فجاء صوت من مكبر كأنه الهزيم:
- أنا الضابط رؤوف، فلسطيني مثلكم، باسم الحاكم العسكري سلِّم نفسك تسلم، سلِّم نفسك تسلم، تُسَلِّمُون أنفسكم لي تَسْلَمُون!
راح أبو فريد الغزاوي يبذل صوتًا كالهزيم:
- لا أريد أن أفقد الأمل، أيُّها الرفيق!
والصوت من المكبر يردد:
- سلِّم نفسك تسلم! سلِّم نفسك تسلم!
سقط السلاح من قبضة أبي فريد الغزاوي أو أنه أسقطه، وراح يلطم وجهه. حاول إسكندر تهدئته، فضربه أبو فريد بقبضته، ونهض إلى سفينته الغرقى، إلى الضابط رؤوف، ويداه إلى أعلى. قال إنه من غزة الأولى التي في جزيرة العرب أو من تلك التي بينها وبين القيروان نحو ثلاثة أيام، ولكنهم أصابوه في قلبه، فراح إسكندر يشتم الضابط رؤوف، ويلعنه، فاعتذر هذا عن الخطأ، وقال: يا أخ إسكندر لا تزعل، فهو ليس قيادة، ولو كان قيادة لقدم للمحاكمة، لهذا سلَّم، يا أخ إسكندر نفسك، ولا تخش شيئًا.


24
سعدة كل من تبقى لك، حمتك أمها، وعليك أن تحميها! أيُّها الأمل المنطفئ كيف يشعلك الوجد؟ وفي قلب الحرائق العملاقة راح أسعد يتقدم ببطء. ساقه النازفة كانت عثرته، وعقاب الدم كان جزاءه! وأسعد يتحقق في التقدم البطيء، وفي السماء سحاب يمضي! إلى أين تذهب به مراكب السحاب في خريف عمان؟ لم يسأل نفسه كيف تجد هدفها، كان يريد هدفه، وهدفه كان سعدة. أن يحميها! وهو في قلب الموت كان مسحورًا! يسحره الموت، ويبكي من التعاسة، ويحس علي خده بالدموع، فيقول أنا موجود! أنت موجود، يا أسعد، تسحب ساقك النازفة منذ يوم ميلادك، تسحبها من أريحا! بعيدة هي أريحا! وكذلك ((اليونانية))! قريبة بجسدها القتيل! بينك وبينها يقف جبل الموت، يحاول طائر الموت اصطيادك، وتقول لربما ينجح في الأخير! تريد أن تذهب بك اللعبة إلى نهايتها! فما فائدة ألا تغرد العصافير؟ لهذا يتفجر الدم في كل مكان، لهذا يتفجر الدم، يتفجر الدم، يتفجر الدم، لهذا يتفجر الدم! قدرك الدم، فهل تؤمن بلعنة الآلهة، وأنت الكافر في كل شيء إلا في خبزك المدمى! هل تؤمن بلعنة الآلهة في الأخير؟ وتعطي لها عنقك قربانا؟ بعد الفدائي سلام وبعدك لن يتصاعد إلا صوت الغربان الناعق. هم حملة الأنصاب والشعائر، وهم وحدهم أصحاب العالم! أما أنت وقضيتك وسعدة القادم إليها، فغرباء خالدون!
دفع أسعد الباب المحطم علي سعدة، فوجد على بطنها واحدًا من المرتزقة، واحدًا برمته على بطنها، تناول سكينًا، وحاول القتل لأجل سعدة، لكنهم قتلوه لأجل خضرة.


25
قذفوهم بقنبلة، فانفجرت القنبلة علي مقربة منهم، وتضاعفت جبال الركام وبراكين النار. بدوا خائفين، كأن يدًا عملاقة خرجت من جوف تنين هادر، قبضت عليهم، وراحت تلوح بهم في الفراغ السحيق. ولم يقف صوت الضابط رؤوف عن مخاطبتهم:
- باسم الحاكم العسكري أكرر: سلِّم نفسك تسلم! سلِّم نفسك تسلم!
وإسكندر يعتصر سلاحه بأصابعه المشلولة، ويبحث علي خشبة مسرح الدماء عن صاحب الصوت النابر. وقلب فاطمة يدق، يريد أن ينفذ من حصاره. اشتعلت فوق رؤوسهم قذيفة كالشهاب، وانطلقت هنا وهناك بعض الأقواس، والضابط رؤوف يكرر:
- باسم الحاكم العسكري، سلِّم نفسك تسلم!
صاح ابن إربد بغضب:
- الموت للحاكم العسكري!
وفي الوقت ذاته، تساقطت في خيالهم دمية عملاقة، وشبت مرة أخرى في عروقهم الصيحة الغاضبة:
- الموت للحاكم العسكري!
قفزت سليمة إلى وسط الشارع، وصاحت:
- الموت للحاكم العسكري! الموت للصباح الخائن! الموت لكم
يا عاشقي ثديي!
جرى الفدائي الشاب، وجذبها:
- هل جننت؟
لكنها انفجرت تبكي، والضابط رؤوف لم يزل يكرر:
- باسم الحاكم العسكري أكرر...
ماذا ينفع التكرار، وقد عزموا علي القتال حتى النهاية؟ كان قرارهم منذ أكثر من عشرين عامًا، منذ أكثر من ألفي عام، وها هم اليوم، اليوم فقط، يجدون الفرصة لتحقيق قرارهم. رفع إسكندر رأسه إلى السماء، ورأى حزم الضوء بين الدخان. وفي البناية المقابلة كانوا ينتظرون تنفيذ أوامر الحاكم العسكري، والضابط رؤوف يكرر. إلى متى سيبقى يكرر؟ بدا إسكندر شاحبًا. أحس بنفسه محاصرًا كحزم الضوء بالدخان وبالصوت القوي. لمس وجهه، كان باردًا، يقطر عرقًا. اختلس النظر إلى فاطمة المشغولة بفكرة الموت. لقد قرروا ذلك منذ أكثر من ألفي عام، وسلاحه هذا شاهد عليهم. لا بد أن تتحقق النهاية الأولى. لقد قرر معهم الهدف هو الآخر. لقد ساهم بالقرار القديم، وقال لسلاحه، وقد تعب الضابط رؤوف من الترديد: كم هذا جميل يا صديقي أن نكون معًا! باغتتهم فكرة أنهم سيطلقون الرصاص من جديد، والشاويش ينظر إلى ماتيلد، وماتيلد تنظر إلى الشاويش. نظر في عيني كل منهما، فرأى طفلهما. كيف يمكنني أن أحمي هذا الطفل إذا أطلقوا الرصاص من جديد؟ سمعوا صوت الإذاعة المتنقلة لراديو الثورة يعلن دومًا عن خطاب أبي غزة الهام، فهمهم الشاويش:
- طوال عمري، وأنا لا أثق بأبي غزة، وثقت بأبي فريد الغزاوي فقط، ولم أزل أثق بروحه.
ابتسم، فسألته ماتيلد عن سر الابتسامة، فقال:
- لأنني طوال عمري لا أثق إلا بسلاحي وبأرواح رفاقي طيور عشقنا القادم.
أضاف بعد قليل:
- ولأنك هنا!
مد يده إلى بطنها، فضحكت، وقالت:
- لم يتحرك منذ أيام!
- هل عمره سبعة شهور؟
- عمره سبعة شهور.
- ولم يتحرك منذ أيام؟
- لم يتحرك منذ أيام.
عبس الشاويش، وهو يجسها خائفًا عليه، ثم ابتسم فجأة، وقال:
- أحسه يتحرك!
ابتسمت ماتليد:
- يظنها يد أبيه!
عبس الشاويش من جديد، وهمس:
- إياك أن تسقطيه!
خافت ماتيلد، ونظرت من النافذة. رأت الجثث تتحرك، كانوا يصنعون منها المتاريس، وبدوا علي أهبة لاقتحام وكرهم، فحذرهم إسكندر:
- سيشنون هجومهم الأخير!
بحث عن عيني فاطمة، كانت تنظر إلى نضال. أصبحت سليمة بشعة، والفدائي الشاب قد شاخ. لم يقل لهم ليس لنا خيار آخر. رآها تنقل عينيها إلى عينيه، ثم إلى يده المشلولة. جاءه الطفل، ولف ذراعه علي كتفيه، فطلب إليه أن يمكث في الزاوية.
عاد صوت الإذاعة المتنقلة لراديو الثورة يعلن عن خطاب أبي غزة التاريخي، فطلع عليهم صوت الشاويش كمن يطلع من عالم آخر:
- يزحفون كالنمل! يزحفون كجهنم!
راحوا يطلقون كل نارهم، فلم يكونوا قادرين إلا على الإطلاق! لم يكن لديهم خيار آخر! المعزوفة يجب أن تنتهي. المعزوفة التي لم تنته بعد، ها هم يكملونها علي آلاتهم. فكر إسكندر: بقية اللحن تتبع، وكذلك فكرت سليمة، والشاويش، والفدائي الشاب، وفاطمة، ونضال، وماتيلد. وراحت يد إسكندر المشلولة تنتفض في ذاكرة الشاب، فالمعزوفة لم تنتهِ بعد، واللحن يتبع، وكل شيء ينهض من الموت. لقد قتل اليأس أبا فريد الغزاوي، وأنا سيقتلني الأمل! عندما رآهم الشاويش، وهم يتراجعون من وراء الجثث، أطلق نفسًا مرتاحًا. نظر إلى ماتيلد، وابتسم، ولكن ماتيلد انفجرت تبكي. كانت الجثث هناك تنفجر دمًا. أراد أن يهمس في أذنها: الدم قدرنا، أيَّتها الحسناء! وكم هذا مرعب! شيء
لا يتصوره العقل! نهاية العالم! ومع هذا، فهو شيء حقيقي، أيَّتها الحسناء! همهم إسكندر بعد أن تراجعوا مرتاحًا هو الآخر:
- النهاية الأولى!
لاحظ في الحجرة أمرًا ليس عاديًا، كانت فاطمة جريحة جرحًا خفيفًا، جاءها، وضمها. لأول مرة يضمها بين ذراعيه. أحس بالقوة أكثر على الصمود. نظرت إليهما سليمة طويلاً، وفكرت أنها أنانية، لكنها رغبت في الموت، فابتسمت، وقالت لماتيلد:
- في باريس يذهبون الآن إلى السينما!
مسح إسكندر لها جرحها، رفع بأصابعه شعرها، وأراد أن يبقى هكذا إلى الأبد معها. من يمنعه من البقاء؟ لكنه نهض إلى موقعه، وراح ينظر إلى شارع الموت. بعد لحظات، سمع فاطمة تسأل برعب:
- هل رأيتم نضال؟
كان إسكندر قد رآه في قلب شارع الموت يلاعب بندقية. ظنه عصفورًا، فقال يا للغرابة! ثم نسيه مثل قصة قديمة. فاطمة وحدها التي كانت تملأ ذاكرته، رغم ابتعاد أصابعه عن جرحها.
راحت فاطمة تجري لإنقاذ أخيها، وهم من ورائها يصيحون بها:
- فاطمة! حذار!
هل ستصله بهم؟ إذا استطاعت سيخسرون الرهان! خانتها الطفولة حين قذفوها بالنار، فركض إسكندر إليها ومعه سليمة، والآخرون يغطونهما بالرصاص، وحملها بين ذراعيه شبه قتيلة.
حتى أنت، يا فاطمة! تخونينني، وتذهبين! حتى أنت! أخذت فاطمة، كالأخ أبي مطيع، تشير إلى مسدس إسكندر مطالبة بقتلها. الألم أقوى من الموت! الألم هو الأقوى! ولم يتردد الذئب الرؤوف فيه هذه المرة، نصب مسدسه في رأسها، وخلصها من ألمها.

26
صرخت سليمة:
- الموت للحاكم بالموت!
وبقي إسكندر منحوتًا، وهو يتابع تحديها بذهول. فكر في فاطمة: قتلتها أم قتلوها؟ أحس بنفسه غريبًا، فقبض علي سلاحه بيده السليمة، وترك الأخرى تسقط كالعلم المنكس.
ترددت في رأسه هذه الكلمات المنتقمة منه: قتلتها لأنهم قتلوها لي! زحفت في شرايينه مواكب السحالي، والشاويش يصيح كجيش لا يرغب في الانهزام:
- يشددون الهجوم! يشددون الهجوم!
انتزعه من تمثاله، من الأفواه النهمة للسحالي، من شعر حبيبته الدامي:
- يشددون الهجوم!
كانت طلقات الفدائي الشاب وماتيلد وسليمة مطرًا من سجيل اليأس والبطولة، أراد إسكندر أن يفكر فيها لآخر مرة، لكنه لم يجد الوقت الكافي، كان قد ذهب إلى القتال، وهم قد عادوا يزحفون بعدد هائل، وجثث متاريسهم تتساقط: ذراع انفصلت عن كتف، ورأس انقذف من جسد، وجسد انعجن على جسد، ولحم، ودم، وعظم! ولحم، ودم، ودم! ودم، ودم، ونجم!
والشاويش يصرخ بكل ما تبقى من قواه:
- سأهتك عرضكم، يا أشجع الأبالسة، فتعالوا إليّ!
وهم يخرجون من الدم، تنهض الجثث، تصير شجرًا، وتتساقط كعارضات الأزياء! سقط شعر إسكندر في عينيه دون أن يتوقف عن ضرب الرصاص: إنه يدافع عن المواقع الأخيرة، حتى يتمزق النحاس، وتعود الأجنحة إلى عش تحجر في أريحا وحجر سيقول للأيدي إن إرادته الآن تتمثل في جذب الزناد، وفي الاستمرار رغم أنف الموز حتى النهاية الأخيرة. وانفجر إسكندر يقهقه بإرادة: الاستمرار حتى النهاية الأخيرة! إذن تعالي، يا سعادة القتال، وفرح الرصاص القاتل! راح يقتل، ويقهقه، ويقول: لم تقل لي وداعًا قبل أن تموت! هل سيجدها بعد النهاية الأخيرة؟ تخدر عنقه جزلاً، وتخدرت أصابعه، وتخدرت شفتاه، والرصاص لا يتوقف عن إبداء العشق، ونار العشق جزلى مدمرة! إسكندر الذي دمر غزة عام 332 قبل ميلاد المسيح يعرف هذا مذ كان في قريته (( جِفنا ))، حين قبّل أول امرأة في الكروم، وقطف العنب بشفتيه. أحس، فجأة، بسقطة جامدة علي رأسه، وذهب في غيبة مثلجة قصيرة، ثم راح يسعل بقوة إثر ضبابة الدخان والغبار. أراد أن يرفع صدره، فلم يستطيع. كانت فجوة عميقة في الحائط، والحجارة والحطام والرمال تعمل من فوقه كنيسة صامتة، كان كل شيء يسقط في الصمت، وعلى مقربة منه كانت سليمة جميلة! كانت سليمة قتيلة، والفدائي الشاب كان قتيلاً، والشاويش كان جريحًا، وماتيلد كانت جريحة، تنظر إلى الشاويش في عينيه، والشاويش ينظر إليها في عينيها. كانا يحاكيان بكلام العينين، يقولان نحن القادة! ويأتيها بجرحه ليضمد جرحها، يرفعها بين ذراعيه، فتبتسم، وتهمس:
- انتبه علي جرحك، أيُّها الشقيّ!
فيبتسم، ويهمس:
- تعالي إلى جرحي، أيَّتها الشقية!
يمد يده تحت ثوبها، ويمر بأصابعه علي محاسنها، ويترك أصابعه تنتظر حركة الطفل علي بطنها، فتهمس منتشاة:
- إنه يتحرك! إنه يتحرك!
فيجمجم الشاويش:
- يظنها يد أبيه!
تطلق ماتيلد آهة، وتشير إلى جرحها، إلى تاريخها الحديث. يلتحم الجرح بالجرح، ويصبح الجسدان جسدًا واحدًا، فتعالي أيَّتها الأحلام الذاهبة... في الدمار يتحطم كل شيء! في الدمار يتحقق كل شيء! في الدمار ينهض الحلم الجماعي! ويأخذان في العودة إلى البداية الأخيرة! يرى الشاويش نفسه في ثياب الهيبز مثلها، ثم كيف هو وماتيلد يتعانقان عاريين في شارع الشانزلزيه البعيد، وبودلير المعاصر يراقب العناق وبيده قطة ومسدس، والأعلام الملونة تصفق في الريح. كل شيء تأتي به الريح! كل شيء تذهب به الريح! ماتا ملتحمين، ولم يستطيع أحد فصلهما.

27
أمر أبو حابس الضابط رؤوف أن يرمي بعض القادة بالرصاص، وعندما لاحظ تردده، وعلم بعدم اتفاقه معه، لأنه شريف، وقد أعطى لهم كلمة شرف، أمر برمي الضابط رؤوف برصاص مأموريه، فنفذ مأموروه الأمر بسرعة، ولكن بخيبة.
خيبة الأمل هذه لأبي حابس كانت مقلقة، ولكي لا يبقى إلا الأمل دون الخيبة، وخاصة أن الضابط رؤوف فلسطيني ابن فلسطيني، أمر بفصل أصحاب الرتب من الفدائيين عن أصحاب عدم الرتب، ووضعهم في الشاحنات، ليبعث بهم إلى معتقل في الصحراء، والصحراء احتراق، والصحراء اختناق، والصحراء إعتاق اليأس من الأمل! كيف يسعنا الندم بعد كل هذا الدم؟ الدم المكحل للعين، والعين فحم، والنجم مركبة للموت! كل شيء انتهى، وصوت الإذاعة المتنقلة لراديو الثورة يعلن عن خطاب أبي غزة التاريخي، وأكد الصوت الذي بُحَّ أن الخطاب سيتم بثه من منطقة مجهولة، والخريف لا يسمع إلا انتزاع الورق عن بدنه. أهناك مجهول بعد كل هذه الحقيقة القاتلة؟ بعد كل هذه الحقيقة القتيلة؟
راح الطفل نضال يتابع زحف أحد سارقي الأشياء من الجثث والأسلحة، وحوله تتراكض كتيبة من الجرذان الجائعة. رأى دخانًا دمويًّا ليس بعيدًا لبركان من الأجساد القتيلة، فشد إلى قلبه سلاحه المنتظر الوحيد الباقي، ومن هلام الأشياء انبثق أحد الملائكة، فتناول السارق عن الأرض ذراعًا مقطوعة، وراح يقاتله بها. أيمكن للذراع الانتقام لجسدها؟ أيمكن للذراع القتيلة تحقيق أهداف القتال الفائتة؟ لكن الملاك كان عصبيًّا، جهنميًّا، بارعًا مثل فناني روما. أطلق الرصاص، وتناول الذراع بلهفة، وقطع أصابعها، ثم انحنى على يدي السارق، وقطع أصابعها. صف بحذق الفنان الروماني عشرة أياد فوق بعضها، وبضربة سيف لائب قطع أصابعها. اختار أجمل الأيادي التي جسها، وشمها، وبسم لها، ثم قطع أصابعها، واقتلع أظافرها، وتقدم من إحدى الجثث القابضة على بندقية ملتاثًا، انقض بالبرق عليها، وصعق أصابعها، وجلس على الأرض لاهثًا، دائخًا، متعبًا. أخرج من صدره عددًا من الأصابع، وراح يحصيها، ونضال ينظر إلى الأصابع في فم الملاك وفي منخريه وحول أذنيه والملاك ينظر إلى السلاح في حضن نضال كإصبع كبير يريد التقدم والانتقام لأشقائه القتلى. وعندما حاول أن ينزع السلاح المنتظِر المنتظَر من اليد التي تقبض عليه بكل أصابعها، سدد نضال هدفه في قلبه، وأطلق، ثم غدا حمامة دموية، قلبها أكبر من العزلة.
جاء صوت أبي غزة ملعلعًا كأنه ابتلع معركة، فدعا الفدائيين من جديد إلى الاسشتهاد، ودعا لنفسه بطول عمر القيادة، هو أبو غزة والصفد واللد والرملة وسبع الذي مات في الطريق، الذي مات في طريق العودة، ومن يمت في طريق العودة، يرفرف طيرًا في سماء فلسطين! وهو سيبقى، باختصار، أبًا لفلسطين! فتقدموا أيها الأشاوس، عمان مربط خيلنا، والطريق إلى القدس تمضي من هنا! اسألوا رفيقي الدكتور المقدسي الذي انهزم منذ الدقائق الأولى... وها أنا معكم من منطقة مجهولة من مناطق عمان المحررة، فقاوموا، وقاوموا، وقاموا،
يا أشاوس، وثورة حتى النصر! وحين أنهى أبو غزة خطابه التاريخي، سارع إلى حانة عزيزة على قلبه في قلب بيروت القديمة، قرب ساحة البرج الوفية، وفاتن حمامة الشقراء، وأنيتا إكبرغ السمراء، وحسنية الجهنمية، طلب بطحة عرق أتحفه صاحب الحانة معها بمائة صحن من المازة يخص بها فقط العزيزين على قلبه. وبعد أن دار العرق في رأسه، ونسي أبو غزة أن له رأسًا، لمس على خاصرته جسدًا غريبًا يتدلى، ثم اكتشف، وهو يطلق ضحكة ساخرة من نفسه، أنه مسدسه الذي لم يستعمله مرة واحدة في حياته. أمسك بزناده، دون أن يعرف ناره تخرج في أي اتجاه، وضغط على الزناد، فتساقط دون أدنى ضجة، دون أن يعرف أنه مات.
يموت الجميع، وتبقى أنت حيًّا مثل أي ذئب في الطرف الآخر أو تمساح، هكذا قال إسكندر لنفسه تعسًا، وهو ينهض من تحت الأنقاض. والأنقاض فحم ودم وهدم وردم ونمل ورمل ودود وحجارة، تبني رحلة الخلق والدمار القادمة. وفي الحال، وضعه عدد من التوانسة والسودانيين في إحدى الشاحنات الذاهبة إلى المعتقل الذي في الصحراء، وشاهد مصرع بعض المقاومين الأخيرين. هل يموت في الصحراء؟ والصحراء سحر اللهب، والصحراء انفجار الظمأ، والصحراء سلام الظباء! هل ينتهي عند حافة بئر خانت يوسف، وجعلت من وجوه الكواكب بصاقًا؟ والسوط الدموي هل يتحرر في السجن من قبضة عاشقة؟ وعمان هناك! صيحاتها، دمعاتها، أصابعها، نبعك المتفجر، يا عمان، هناك وجسد فاطمة! راحت الشاحنة تسير في الطريق المبتعدة عن عمان، وفي الشاحنة ملاك ينظر إليه كتمثال جعله يفكر في صديقه الكاتب، فرفع أصابعه إلى جيب قميصه الصغيرة، وأخرج رسالته إليه، لكنه ما لبث أن أعادها تنام في جيبه، وقال لا بد أنه يموت الآن في باريسه كما نموت الآن هنا في صحرائنا، كما يموت الكون المطل علينا، أو أنه انتحر، فقد تكلم في رسالته عن خيار هو في حقيقته انتحار في الظروف الراهنة، وندم لأنه نسيه كل هذه المدة، مدة حرب واحدة فقط، فضحك، وقفز من الشاحنة إلى حيث مده الضحك بالقوة على الذهاب ... إلى عمان! إلى صيحاتها، ودمعاتها، وأصابعها، إلى يدها المشلولة، ونبعها الجاف، وبنادقها المحطمة! راح يجري، وراح يخلع ثيابه ليصلها في الفجر عاريًا كنجوم الصباح، وراح يطير في الأجواء بأجنحة من الذهب والدم والمني وبين ذراعيه بطون حوامل زانيات وأعضاء رجال مخصيين وظلال عمالقة تتصارع مع وحوش تلد أناسًا مروا من هنا وصاروا ملائكة جبارين.



الكتابة الأولى باريس يوم الأحد 27 سبتمبر 1970
الكتابة الثانية سبتمبر 1985
التنقيح أفريل 1992
الإعداد للطباعة نوفمبر 1993 في عمان
العنوان السابق للرواية الأجنحة








ذكريات من بيت الموتى


كانت آرام سعيدة، وهي تقود سيارتها الصغيرة، هنيئة بما تزمع القيام به، كما لو كانت ذاهبة إلى معبد تزاول فيه طقسًا من الطقوس الدينية الغير المألوفة. استطعت أن أميز في حركاتها توق العاشق إلى الدخول في نظام من الأشياء تكون فيه لذات الشهوة كل شيء، ولم يكن للتعارض في حالها مدلول آخر غير تأكيد الذات في مظهرها الأكثر ذاتية. كانت المرة الأولى التي أراها فيها حرة وجميلة من خارج شرطها كامرأة من عندنا، وتمنيت لو أراها كذلك كل يوم، فمن العادة أن تكون من الحمام أكثره اخضرارًا وأقله اختيارًا، ورقاء في عالم من الأقفاص. وكان إلى جانبها جودت الذي لم يكن، هو أيضًا، يخفي سعادته. عندما تأخذه حالة انشراح كتلك التي كانت تجتاح كل معالمه، كان يبتسم من عينيه، وكانت شفتاه ترتعشان، ووجنتاه تحمران، بتوتر من طيب بالشيء نفسه. كان يحرك رأسه على الجانبين بحثًا عن شيء لا يراه، فهو، في الواقع، لم يكن ليبحث عن شيء. كنت في وضع لا يسمح بمثقال ذرة من السعادة، فعمان الجاحدة لم ترأف بعائد مثلي لم يضع القدم فيها منذ عشرات السنين، ولم تشأ الخروج معي إلى عالم الحلم والحب والجمال، فرضيت لنفسها بقدر ليس قدرها، وبروح ليست روحها، وبقبور ليست قبورها. كانت فكرة أن أقيم بين ظهراني أمة هي في معظمها من الأحياء الأموات تقض مضجعي، وكان صديقاي، الوحيدان اللذان يفهمان وضعي، يفعلان كل ما بوسعهما في سبيل طرد هاجس الحياة ميتًا من رأسي. قالا إنهما لن يأخذاني اليوم إلى مكان عادي، وإنما إلى منزل "رسمي السهل" بعينه. لقد حدثا المؤتمن على أسرار رئيس الوزراء السابق، فرحب بالزيارة، وهو الآن بانتظارنا، لكنهما سيذهبان أولاً إلى الجامعة الأردنية لاصطحاب الصديقة العراقية بعد أن وعداها بمرافقتنا.
أول شيء خطر على بالي، وأنا أفكر في رسمي السهل، وهذا أمر طبيعي، أيلول الأسود، فقد جرى تقديمه على أنه العقل المدبر للمجزرة. وفي اللحظة ذاتها، سمعت جودت يقول، وكأنه قرأ أفكاري: "كل ما قيل عن حرب 70 كان مبالغًا فيه، للتهويل، ولإخفاء الكثير من الحقائق، وكذلك كل ما قيل عن الرجل الذي كان يقرأ كل ما تقع عليه يداه، والذي كان محبًا للعلماء والأدباء، معليًا من شأنهم!" أحسست في كلمات جودت أسف الشاعر الذي كانه، وأثارت ذات الكلمات فيّ ندم الروائي الذي كنته. طاردني شعور الكاتب باليتم في عزلته القسرية، كما طارد صديقي القلق من شرطه الاجتماعي. لم يكن أبدًا راضيًا عن وضعه، كما لم أكن أبدًا راضيًا عن تركي باريس، كانت معاناتنا من شرط الوجود ذاته. نظر جودت في عينيّ، وهو يعيد: "كان محبًا للعلماء والأدباء، معليًا من شأنهم!" وابتسامته قد اتسعت أكثر، فأكثر. لم يعد يبتسم فقط من عينيه، بل من كل وجهه، وعلى الخصوص، وهو كان يصغي لصديقته مؤكدة أن رسمي السهل لم يلعب الدور الذي حاولت وسائل الإعلام إلصاقه به. وما لا يعرفه الناس عنه أنه كان فحل العشائر، وحلم النساء، وسيد الرجال قاطبة! راحت تبتسم، هي الأخرى، من كل وجهها، فظننت أنني أرى لجودت وجهين متماثلين. ودون أن أتوقع ذلك منها، سمعتها تضيف: "لو بقي رسمي السهل حيًا لاستطاع أن يبدل عقلية الناس بما يتماشى مع تطور العصر، ولمنعهم من إرغامي على الزواج من رجل عاجز جنسيًا، أضعت معه سنوات عديدة من عمري قبل أن أحصل على طلاقي!" ابتسمتُ على الرغم من عدم تصديقي لما سمعت عن رئيس الوزراء الدموي، أو ربما كان ذلك بسبب طبيعة الكاتب السهلة الكسر التي لي. أحسست أن لي التعبير ذاته الذي لجودت وآرام، وبدأت أجساد آلاف القتلى تتطاير في خيالي، وأنا منشرح الصدر لرؤيتها. طرت معها إلى يوم بعيد، وتذكرت أبي، لما كنت في مقتبل العمر، عندما كان يعود بي من عمان إلى نابلس، مدينتنا ذات الجبلين الأزليين. ونحن في طريق السفر، كان يشير إلى منزل حجري، منعزل، يقوم على هضبة مرتفعة، ويقول لي إنه بيت رسمي السهل. كنت أنظر إلى المنزل الفخم باهتياب وإعجاب، وأفكر أن من المستحيل الوصول إليه، فكيف الولوج فيه؟
جلست أنتظر في السيارة عودة آرام وجودت من مكتبة الجامعة، وتذكرت اليوم الذي استقبلنا فيه رسمي السهل، نحن المتعاقدين الأوائل مع الجزائر، للاحتجاج على شروط عقد التعليم المجحفة. كان ذلك في العام 1965، في أحد أيام الصيف المعتدلة الحرارة، وذلك شيء نادر في عمان، فتفاءلنا، واعتبرنا أن الحظ إلى جانبنا. وزادنا الأمر تفاؤلاً عندما جلسنا على طاولة وحدنا مع رئيس الوزراء، وكأنه رفيق لنا، دون أن يكون برفقته أحد من مساعديه. كان يدوّن مطالبنا على ورقة صغيرة، وينظر إلينا بوجه شديد السمرة، ممتلئ، عابس، لم يعرف الابتسام له طريقًا. هل كانت طريقته في السيطرة على محدثيه أم أن ذلك كان جزءًا من طبيعته؟ أيخفي الظاهر لديه الجوهر فيه؟ ألهذا السبب صدقنا المواقف الكريهة التي عرف بها أم أن الأمر أعقد من ذلك بكثير؟ كنت لا أريد أن أصل إلى هذه الخلاصة السهلة: في شخصيته اثنتان، وقد كانت الزائفة هي الأقوى! حتى ازدواج الشخصية يمكن لأجهزة الربط والفك فبركته، وتوظيفه لصالحها. لكن الذي يمكنني أن أسجله، وذلك لسوء حظنا كما برر البعض ذلك، أن وعود رسمي السهل قد ذهبت أدراج الرياح، فلم يعد معظمنا إلى بلد كان عشقنا للثوري فيه لا يكفي خبزنا اليومي، وكانت خيبتنا كلية.
لم يطل غياب صديقيّ كثيرًا، كانا قد ظهرا من بين أرتال السيارات الواقفة في الساحة المخصصة لذلك بصحبة الصديقة العراقية، وهي ترسم على شفتيها ابتسامة أوسع من تلك التي تقبل على شفتي صديقيّ وتدبر عنهما. كنت أراها لأول مرة، ومنذ اللحظة الأولى التي سلمت فيها عليّ، فهمت أنها تبتسم، وتغالي في الابتسام، لتبدو أقل سنًا في ناظري. كانت تظن أن ابتسامتها التي تجاوز المدى وسيلتها إلى محو غضون زاويتي فمها. سمعتها تقول إنها منذ مدة تريد التعرف عليّ، وشكرًا لرسمي السهل الذي سمح لها بذلك! كنت قد فهمت من آرام، في أحاديث متفرقة عنها، أن مكوثها بعد إدراكها في بيت أبويها قد طال، ولم تجد الشخص الذي تقترن به، وأن عمان قد غدت بالنسبة لها مدينة التحدي لوضعها كعانس، فهل يصبح رسمي السهل وسيطها من أجل الوقوع على زوج؟ كانت آرام تريدها لي في غربتي العربية عاملاً لتهدئة الأبابة.
تحدثنا، ونحن في طريقنا إلى بيت رسمي السهل، عن أخيه الذي تعرف عليه جودت بفضل مهنته كصحافي. قال إنه قد غدا صديقه، وقد وعده مرات عدة أن يأخذه إلى بيت المرحوم من أجل افتتاحية يزمع كتابتها عنه، دون أن يفي بذلك. سيقول له لقد قام بالزيارة دون حاجة إليه! بدا كمن يقهقه من عينيه! كان ذلك أشبه بتحد، وأقرب إلى رهان، وفي الوقت ذاته، كانت هناك رغبة في حل شبكة من الأوهام والرموز دارت حول رئيس الحكومة القديم زادها تردد أخيه غموضًا. رأيت آرام تضاعف من سرعة سيارتها، وكأنها تريد أن تختصر الدقائق، أو، بكل بساطة، أن تلغي الزمن، لندخل في ماضي الرجل الذي شغل العالم في لحظة ما من حياته. نسيت أهوال الحرب التي كان رسمي السهل طرفًا أساسيًا فيها، من خلال ابتسامة الصديقة العراقية التي تصر على ألا تبهت، ووجدتني أشعر بالذهاب ليس إلى البيت المنعزل، وإنما إلى تاريخ الرجل الجبار، والذي تحول في خيالي، بقوة خارجة عن إرادتي، إلى شيء أشبه بالخرافة. كان جودت يسعى إلى شيء من هذا، إلى ما هو خرافي، إلى شخص عظيم وقوي، ليس له وجود، شخص ينصف كل ذي ضيم، ومن أجل ذلك يجترح المعجزات. وقد استطعت أن أقف، ونحن نلج الممر الطويل المشجر للبيت الحجري، على كل الوهم في ابتسامته وابتسامة صديقته المتماريتين. كان يريد الدخول في الميثي، في الخرافي، في الميتافيزيقي، وقد وجد في رسمي السهل ضالته.
أوقفنا حارس هرم، وهو يبتسم لنا بفم خال من الأسنان. كان يبدو أكثر من سعيد، وهو يدعونا إلى حجرة كل شيء فيها قديم مهترىء. وجدناه قد أعد لنا قهوة، فقلنا نشربها بعد انتهاء الزيارة. اتجه إلى هاتف عصر وسطوي أداره من يد جانبية، وأخبر نجيّ رسمي التل بقدومنا. عدنا نركب السيارة، والحارس يلح على أن نشرب القهوة عنده. قال إنه منذ مصرع رئيس الحكومة، قليلون هم الذين شربوا القهوة عنده. خمسة وعشرون عامًا آه ما أطولها! وأخذ يسعل بحدة، وغضون وجهه تكاد تتمزق.
توقعنا أن نجد نجيًا لرئيس الوزراء أكثر هرمًا من الحارس الذي كان له، فإذا برجل طويل القامة، قوي الأسنان، ثابت النظرة، أملس التعابير، يرحب بنا كما لو كان يرحب بزوار رسمي السهل منذ ربع قرن. سلم علينا بحرارة، وقال أول ما قال إن رئيس الحكومة كان يستقبل في هذا الوقت مضيفيه، بعد قيلولته المعتادة. وصلتنا أصوات طير لم نصدق سماعنا لها، فأخذَنا إلى مكان في الحديقة مسيج، فيه عشرات من دجاج الحبش. قال النجيّ إنها لم تزل تتناسل على الرغم من غياب دولة رئيس الوزراء الذي أحضرها من الهند، ورباها بنفسه، وكان يسميها بالدجاج الهندي. طلب إليها أن تسكت، فضاعفت الصراخ. ابتسم، وهو يشرح لنا، أنها لم تر ضيوفًا منذ زمن طويل، وهذه طريقتها في الترحيب بنا، عادة ورثتها عن آبائها، وإلا فهي أليفة وهادئة إلى حد أن المرء ينسى حضورها. ولهذا السبب، عني الأستاذ رسمي السهل بها، أضف إلى ذلك أنها ألذ لحم طير يمكن تقديمه في المآدب والحفلات.
تخيلنا الموائد التي كانت تقام في صحن البيت، وابتسمنا لبعضنا. أشار النجيّ إلى نبات يلتوي على الأشجار ذي زهر غريب، وقال انه من زراعة دولة رئيس الوزراء، أحضره من ضفاف دجلة يوم كان سفيرًا في بغداد، واسمه ست الحسن. عدنا نبتسم لبعضنا، والصديقة العراقية تبتسم معنا، وتقول إنها لم تر زهرًا كهذا في كل العراق. أجابها النجيّ: "هذا لأن دولته ما كان ليثير اهتمامه المتداول، والمعروف، وإنما الفريد، الأخاذ."
لاحظ جودت أن الحديقة صنعت على شكل سلاسل، وسأل إن كانت واحدة من أفكار رئيس الوزراء. لم تكن فكرته فقط، وإنما كل هذا من صنع يديه! هكذا أجاب النجيّ فخورًا، وكل الماضي يتراقص في عينيه. كان دولته عاشقًا للحجر وللتراب، وقد كرس الكثير من وقته الثمين لبناء حديقته وزراعتها. كان يعمل بيديه، ودون أن يطلب عونًا من أحد، يحفر، ويزرع، يبني، ويعلي. هذه "الجنائن المعلقة" التي تركها من ورائه ستبقى ما بقي إنسان مخلدة لذكراه!
قلت لنفسي: هذا الرجل الذي يعيش في ظلال الماضي قد وجد الحل الذي أعجز العلماء مذ كان علم في الوقوف على سر البقاء فتيًا! أن توقف الزمن، وتعيش مع الذكريات! أن لا تضيع من الزمن شيئًا! أن تتصرف كما لو أن الماضي حاضر أبدًا! أن تجعل من الغد شأن الآخرين!
انتزعتني من أفكاري امرأة راحت تصعد "جنائن رسمي السهل"، وقبل أن تختفي من وراء ثلاثة قبور، التفتت إلينا. كانت من البياض والجمال ما لم تقع عليه عيني إلا لمامًا. أوضح النجيّ أنها الممرضة الروسية، وهي التي تشرف على علاج السيدة دولت، زوجة رئيس الوزراء. لم نسأل مم تعاني، وإذا ما كان أمرها خطيرًا، حتى أن النجيّ لم ينتظر منا ذلك، إذ أشار إلى القبور الثلاثة، وقال إن الذي في وسطها لهو قبر المرحوم، على يمينه تربض أمه، وعلى يساره ابنته الوحيدة، المرأتان الوحيدتان اللتان أحبهما في حياته. أمه التي ورث عنها كل طباعها، وابنته التي أورثها كل طباعه. الأولى ماتت، وهي في أوج مجدها، والثانية، وهي في أوج شبابها. الأولى بسبب مرض عضال، والثانية بسبب حادث سيارة. توقعنا أن تسيل قطرة دمع على خده للحزن الذي غلب على صوته، لكنه ابتسم، ودفعنا لنقرأ الفاتحة على روح الموتى. راح جودت يصعد إلى القبور الثلاثة، وهو يبتسم ابتسام المظفرين. خلته وزيرًا أو أميرًا، وسحابة من الرضى تمطر في عينيه، وكأنه وصل إلى كل أهدافه. وكانت آرام ترتعش، وهي تدمدم الفاتحة، وكأنها في حضن حبيب. التفت إلى الصديقة العراقية، فوجدتها تلتفت اليّ، وكأنها تدعوني إلى الارتماء في الجحيم. بعد ذلك، طلب النجيّ منا دخول الصالون من باب خلفي، وإذا بنا أمام مسبح لا ماء فيه. قال انه كان يملأه من وقت إلى آخر، ليأخذ دولة رئيس الوزراء حمامًا. وكان هذا الأخير يحب أن يشرب القهوة على حافته، ويقرأ الصحف والمجلات. وفي الليالي التي كان يزوره فيها شخص هام، كان يجلس وإياه هنا أو هناك.
أردنا الدخول إلى الصالون، لكنه أوقفنا، وقال انه عندما ماتت ابنة المرحوم، وأحضر له قهوة بعد ذهاب المعزين، كان يجلس في ذلك المكان، على ذلك المقعد، وحيدًا متأملاً. شرب قهوته بهدوء وروية، قال النجي، ولما سألته إن كان يريد أخرى، أجاب إنها قهوة ابنته الغالية على قلبه، حداده عليها قد بدأ مع آخر رشفة منها، وهو لن يتناول أخرى إلا في مثل هذه الساعة من السنة القادمة. وبالفعل، بعد مضي عام، وفي الوقت المحدد، ناداني، وطلب مني أن أحضر له فنجان قهوة. أمام دهشتي، ذكرني بأنه قد أوفى بتعهده تجاه وحيدته، وابتسم للمرة الأولى منذ مماتها.
ابتسمنا من جديد لبعضنا، وأخذنا ندخل قاعة الاستقبال الواحد تلو الآخر. وقع نظرنا أول ما وقع على صحن نوجا بالفستق الحلبي موضوع على طاولة واطئة وسط صالون متواضع، فوقفنا حائرين، ننظر حوالينا، ونحن لا نكف عن الابتسام لبعضنا. تقدمت من بك أب وعدة اسطوانات أخذت أنظر إليها، كانت كلها ستينية، بيتلز، الفيس، وتويست. سمعت النجيّ يقول من ورائي إن الموسيقى الكلاسيكية كان يحتفظ باسطواناتها في غرفة نومه، فهو دائمًا ما كان يستمع إليها في فراشه. لكنني لم أتوقع أبدًا أن يقتني رئيس الوزراء القديم الأسطوانات ذاتها التي كنا نرقص عليها أيام شبابنا الأول. قلت ربما كانت لابنته، أو، لم لا؟ لزوجته. وعلى أي حال، تلك كانت موسيقى العصر، وقد أعادتني إلى أيام حسبتها ذهبت دون رجعة، ونحن نرقص، ونحن نضحك، ونحن نصيح، ونحن نتصايح، ونحن نعشق، ونحن نموت عشقًا، ونحن لا نفكر في موتنا.
ذهبت ألحق بجودت، وقد أخذ يحدق في مرآة كبيرة موضوعة على بوفيه من رخام. كان في عينيه ألق غريب، وكان صامتًا لا يفوه بكلمة. تجمعنا حوله، وأخذنا ننظر أينما ينظر، فلا نقع إلا على صورنا. رفع عينيه، وثبتهما في عيني النجيّ الذي راح يبتسم، ويهمهم. ظننت أنه يقول "بأمر دولتكم"، "تحت أمر دولتكم"، أو " تحت أمرك، يا دولة الرئيس". بدا على محيا الصديقة العراقية الخوف، وارتبكت آرام. كان عليّ أن أفهم الأمر في اللحظة التي سمعت فيها جودت يقول إن الأموات يظلون أحياء ما بيننا، نراهم كلما ننظر إلى أنفسنا في المرايا!
في الطابق العلوي، كانت غرفة نوم رسمي السهل. صعدنا إليها على درج ضيق، ولم نتوقع أن يكون التقشف سمتها: سرير حديدي عال لشخص واحد، بناموسية، وخزانة ذات دفة واحدة، وبك أب على طاولة ليل قصيرة مع بعض الأسطوانات الكلاسيكية. كانت الغرفة تؤدي مباشرة إلى حمام بدائي مقام على ثلاث درجات حجرية، إلى جانبه غرفة للغسيل وحبال للنشر. لم أستطع البقاء طويلاً في عالم نوم رئيس الوزراء العادي، كان عالمه صدمة بالنسبة لي، كل عالمه: دجاجه الهندي، وست حسنه، وجنائنه المعلقة! لم أدرك امتداح النجيّ لها الذي أضفى عليها هالة من الافتتان والإعجاب، ولم ينقصه إلا أن يجعل من سيده قديسًا! أما جودت، فقد لعب اللعبة ذاتها في اللحظة التي جعلنا فيها ألا ننظر إلى صورنا في المرآة. ألأن الزيارة لم تنته بعد؟ أكان يريد للخرافي الذي في رأسه ألا يتلاشى؟ ألم يحن بعد وقت الاعتراف بالخطأ، وأن رئيس الحكومة الذي تم قتله لم يكن سوى مجرم حرب؟ تركت أصدقائي والنجيّ يحدثهم عن طقوس سيده، حمامه قبل النوم، موسيقاه الكلاسيكية في الفراش، عمله في مكتبه حتى الصباح. تسللت من الممر الضيق إلى مكتبه، وإذا بي في حجرة ضيقة تسع بالكاد لبعض رفوف من الكتب معظمها عن القضية الفلسطينية، فسألت نفسي: أهذه هي مكتبة الرجل الذي كان محبًا للعلماء والأدباء ومعليًا من شأنهم؟ عند تلك اللحظة، ذهب عني كل وهم، وتأكدت من خطأ صديقي. أحسست بالاختناق، وأردت ترك بيت رئيس الوزراء دون أن أنتظر أحدًا. كانت حقيقة الأحياء الأموات قد غدت أقوى من كل شيء، والكذبة التي كانها رسمي السهل قد صارت رافدًا لها. لماذا الأحياء الأموات؟ لماذا لا أقول الأموات بكل بساطة، والذين أرفض أن أكون واحدًا منهم؟ لكن ما لفت انتباهي صورة كبيرة معلقة لعائلة أرستقراطية أكثر ما شدني فيها وجه امرأة شديدة الجمال سمرتني في مكاني. كان عليّ أن أكمل الزيارة، وكان عليّ أن أقف على الفاجع في كل هذا. سمعت النجيّ يقول من ورائي إنها عائلة زوج رئيس الوزراء، وهذه الفتاة التي تضاهي القمر في جماله لهي امرأته السيدة دولت عندما كانت في عز شبابها، وهذا أبوها رئيس الوزراء التركي في زمانه، وهذه أمها، وهؤلاء إخوتها وأخواتها، كلهم أو معظمهم الآن موتى.
عدنا إلى الصالون لنشرب قهوة أعدتها خادمة سريلانكية في ريع الشباب، قدمتها لنا، وهي تغدق علينا أحلى ابتساماتها. قرّب النجيّ منا صحن النوجا بالفستق الحلبي، وهو يقول إنها الحلوى التي كان يقدمها رسمي السهل لمضيفيه. تناولت واحدة، وأنا أقول إنها حلوتي المفضلة، وإنني لم أذقها منذ مغادرتي البلاد في الستينات. أخبر جودت نجيّ رئيس الوزراء أنني لم أضع القدم في عمان منذ ثلاثين عامًا، وإحضارهم إياي إلى "معبد" رسمي السهل لهو بمثابة احتفاء بي. كان يكذب بخصوص الاحتفاء بي، فقد فهم جودت كما فهمت بعد أن زال الوهم أن لا احتفاء هنا إلا بالموت. قال النجيّ إنه لشرف عظيم أن يقوم باستقبالي نيابة عن المرحوم، وإن المرحوم لو كان على قيد الحياة لجرى الأمر على غير هذا الشكل، فهو وحده من يعرف كيف يحتفي بمضيفيه. كانت كلماته تغلف الفاجع في عمق معناه، ولكي أزيده عمقًا على عمق، اعترفت أنني لم أكن أحلم قط بالوجود بين جدران بيت رئيس الوزراء القديم. أخبرتهم بما كان يقوله لي أبي، ونحن عائدون إلى نابلس، وشعوري بأنه لمن المستحيل الصعود إلى منزل قائم على مثل تلك الهضبة المرتفعة والدخول فيه. رحت ألتفت من حولي، فالستائر مسدلة في كل مكان، وأنا حائر، من أي النوافذ سأنظر إلى طريق السفر القديم؟ نهض النجيّ، وأزاح إحداها، فقمنا جميعًا نتابع إصبعه الذي يشير إلى خط أسود، وسيارات كاللُعب الصغيرة غادية آيبة. أصابني الدوار للعلو الشاهق، فسارعت إلى الجلوس. أغمضت عينيّ، وفتحتهما. خلت رسمي السهل بكل أناقته، وهو يتقدم بصحبة شخص آخر كان يدعوه بيا سعادة السفير! عاد الجميع إلى الصالون، والنجيّ يسألني إن كنت أريد كأس ماء بارد. رفضت، وقلت إنني لم أتوقع أبدًا أن يكون بيت رئيس الوزراء على مثل هذا الارتفاع. من تحت يبدو مرتفعًا، أما من فوق، فهو أعظم ارتفاعًا. أضف إلى ذلك، أن الهوة عميقة، لا يمكن أن يفكر فيها المسافر العابر من والى عمان، وبين الهَويّ والهُويّ تقوم الهاوية. أفضل أن تدفعني يد من قمة هذه الهضبة على أن أوافق، يا سعادة السفير. ولكنك ستوافق، يا دولة رئيس الوزراء. افتعال أزمة من أجل صراع طائفي بين فلسطيني وأردني وشركسي وأرمني لتبرير وجود دولة يهودية والاعتراف بها، هذا ما لم يخطر لي ببال، يا سعادة السفير. ولكنه سيخطر لك ببال، يا دولة رئيس الوزراء. لست الرجل الذي تبحثون عنه، يا سعادة السفير. ولكنك ستكون الرجل الذي نبحث عنه، يا دولة رئيس الوزراء. أنا موحد العشائر لن أقوم بضربها ببعضها، ولن أدفع بها إلى ضرب غيرها، يا سعادة السفير. ولكنك ستقوم بضربها ببعضها، وستدفع بها إلى ضرب غيرها، يا دولة رئيس الوزراء. أنا… أنت لم تحبني، لماذا تزوجتني إذن؟ لجمالي؟ لجاهي؟ لعراقة أسرتي؟ أنا أعرف أنني هنا من أجل مهمة، يا سعادة السفير. بل من أجل مهمات، يا دولة رئيس الوزراء. أنت لم تحبني قط، تعرف من أجل ماذا أنت رئيس للحكومة، ولا تعرف من أجل ماذا أنت زوج. تعال إلى غرفتي، كف عن سماع تشايكوفسكي، والحق ببجعتك! أنت في هذا المنصب بأمر عال، هذا صحيح، ولكن ليس من أجل صراع عائلي. أمك العظمى ماتت، وابنتك لم تصبح أمًا عظمى. أنا أعظم النساء إن أردت. وان لم أرد؟ إن لم يرد دولتكم التنفيذ، قذفنا بالعالم العربي كله في أجيج صراع طائفي، وقطعناه إربًا إربًا، وجعلنا منك كبش فداء على الرغم من إعجابنا بك. أنا أعظم النساء إن أردت، لكنهم لن يريدوا. سيقتلونك لإعجابهم بك، لغيرتهم منك. أنت لا تريد، إذن طلقني. أنت رئيس وزراء، وعليك التنفيذ. لو لم أكن رئيس وزراء، وكان عليّ أن أختار الرجل الذي أكونه، لكنت اخترت عمر الخيام. لا تجعلني أغير منهم. أتكون شاعرًا لرباعيات الموت؟ ألهذه الدرجة ترفض الاستمتاع في أحضاني؟ لن أكون المتعة التي تدمرك!
خلنا أنفسنا في قعر المسبح الذي لا ماء فيه قيامًا قعودًا هائمين ظامئين. كنا عراة، كنا أنفسنا، وكنا غرباء: آرام ترزح تحت وطأة عقدة العجز الجنسي التي أوقعها فيها مطلقها، والصديقة العراقية تحت وطأة سن اليأس، وجودت تحت وطأة شرطه الاجتماعي، وأنا تحت وطأة هاجس الحياة ميتًا، والنجيّ تحت وطأة هاجس الموت حيًا.
لم نطلب أن نزور أجنحة البيت الأخرى التي قال النجيّ إنها محتلة من طرف السيدة دولت، وإننا سنزعجها. توجه بالحديث إلى جودت، وتمنى عليه أن يقرأ مقالته قريبًا. فهمنا أن الزيارة انتهت، فرحنا نخرج من الباب الخلفي للصالون كما دخلنا، ومنه إلى مرأب فتحه النجيّ ليرينا سيارة الرولس رويس الرياضية، الهدية الملكية لرئيس الوزراء الراحل. كان الغبار عليها طبقات كما لو كانت تابوتًا، وكانت عجلاتها مثقوبة. كانت الشيء الوحيد الملموس لفاجعة كنا على وشك أن نتركها من ورائنا، فقد حضرت في ذاكرتي صورة نقيضة لها، عندما كنت قد رأيت رسمي السهل فيها أمام مجلس النواب، سبع أو ثماني سنوات قبل الحرب. نزل منها طويلاً عابسًا بقميص ذي كم قصير، وتحت إبطه ملف لم يثر اهتمامي في ذلك الوقت البعيد، كنت مأخوذًا بالسيارة الجديدة، الجميلة، التي كانت تبرق بلونها المعدني، لون الموت. سمعت النجيّ يقول إن السيارة في مكانها منذ اللحظة التي عاد فيها دولة رئيس الوزراء من القصر لغرض السفر إلى القاهرة. كان يعلم بالخطر الذي ينتظره هناك، ولكنه قال إنه الأمر العالي، وهو في حياته لم يخالف أمرًا عاليًا. كان يعلم أنه سيقتل، وعلى الرغم من ذلك ذهب، كان ذهابه بمثابة انتحار. غطى وجهه بيديه، وانفجر باكيًا مرددًا: "يا ليتني مت بدلاً منك، يا سيدي العزيز الغالي، يا ليتني مت بدلاً منك!" عندما كشف عن وجهه، عقدت ألسنتنا الدهشة للشيخوخة المفاجئة التي احتلته. بدا وكأنه نزع قناعًا كان يغطيه به، والآن ها هو يبدو مغضنًا ودميمًا على حقيقته.
سمعنا حركة غير عادية قريبة منا، فراح جودت والصديقتان ليطلوا من نافذة إلى داخل غرفة، ثم ما لبث جودت أن عاد، وعقدة كبيرة بين حاجبيه. قال لي بصوت مرتعش:
- تعال انظر آخر مشهد من الفاجعة!
تطلعت من النافذة، فوجدت الممرضة الروسية وخادمتين سريلانكيتين، وهن يحاولن حمل زوجة رئيس الحكومة إلى مكان ما، وقد حطمها العجز، وطحنها الكبر: كانت مثل كتلة من العجين البشعة تتساقط من بين أصابعهن، وهن يحاولن عبثًا جمعها.
قبل أن نغادر بيت الموتى، تناولنا القهوة مرة أخرى في حجرة الحارس الهرم، قهوة مُرة كتلك الني يشربها المعزون في المآتم والأتراح.



أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) إسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004


[email protected]


تروي هذه الرواية قصة حب خالد بين إسكندر وفاطمة ترقى إلى مستوى قصص الحب الكلاسيكية في الأدب العالمي، وتعرض لاستبسال الفدائي، وغضبه، واستشهاده، إلى جانب خيبته، وحلمه الضائع، ومطاردته لفراشة مات من أجلها، رغم أن ذلك يجري على بعد عشرات الكيلومترات من (( جِفنا ))، القرية الفلسطينية النائية، في عمان، مسرح أحداث هذه الرواية عام 1970.
هذا ولا يأتي نشر إسكندر الجفناوي اليوم لنكء الجراح التي اندملت، وإنما لتأكيد الوحدة الأبدية بين الشعبين الأردني والفلسطيني، وللتعبير عن أسمى مشاعر المؤلف تجاه صديق طفولته الدكتور إسكندر عودة، الذي استشهد في أمريكا دفاعًا عن قضيته الوطنية… وكل هذا بأسلوب أفنان القاسم الرمزي، التصويري، التأملي، وعالمه ذي الانفعالات العميقة.
أما ذكريات من بيت الموتى، فهى حصيلة الجمع بين الحقيقي والخيالي للزيارة التي قام بها أفنان القاسم لبيت وصفي التل في العام 1995، هذا ويذكّر العنوان بعنوان الرواية الشهيرة لدوستويفسكي.


* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مدام حرب
- النقيض
- شارع الغاردنز
- لؤلؤة الاسكندرية
- باريس
- بيكاسو
- قل لنا ماذا ترى في حالنا؟
- القدس
- الشعراء
- البرابرة
- الأخرق
- الباشا رواية النكبة الأولى
- تراجيديات
- تحليل قصيدة صفد لسالم جبران نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا
- فلسطين الشر
- المواطئ المحرمة
- العاصيات
- غرب
- العودة
- وظائف الكلام في قصة الزكام لنبيل عودة


المزيد.....




- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - إسكندر الجفناوي