أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جابر حسين - الفنان والحاكم -3- ريح وشبت ، نار وهبت !















المزيد.....


الفنان والحاكم -3- ريح وشبت ، نار وهبت !


جابر حسين

الحوار المتمدن-العدد: 3624 - 2012 / 1 / 31 - 16:46
المحور: الادب والفن
    


(ها أنا الآن في حضرة الطيف والماء والخُضرة الباسقة!.
ولتسامح ضميري إذ
يُبايع موقفك السمهريّ النبيل!
ويُبايع فيكَ الوطن؛
من سهوبٍ وغابٍ،
وزرعٍ وضرعٍ،
وطينٍ وجرفٍ ونيل؛
ويُبايع فيكَ الفداء الجليل،
ويُبايع فيكَ الوفاء الذي
يملأ النهر بالماءِ
والغناء بالرؤية المُبدعة،
ويُبايع فيكَ جلال الصمودِ وهيبته الساطعة
ويُبايع فيكَ الحضور الذي يُخَصِّب الأرض بالبذرةِ النافعة!،
ويُبايع فيكَ الوطن بضراعاته وصراعاته المُبدعة!. (1)
كان يرى وطنه، يراه ويعيشه، بالقلبِ والرؤيا معاً. ويحدِّق في أرضه، فيراها أرض المناديل ذات اللون القرمزي، وذات اللون الفيروزي البراق؛ أرض الأواني والجِرَار والفاكهة المنفلقة تحت سِربٍ من الحشرات هنا وهناك، طائرةً أو زاحفةً، أرضٌ يُجلِّلها مطر الخريف الباذخ والفيضانات التي تأتي كيفما اتفق؛ فتتداعى من جرائها بيوت الفقراء فيصبحوا ـ بليلٍ ـ في العراء الفسيح. أرضٌ هي كحقل الصبار ذو مدادٍ أزرق فولاذي، وذو تاج من الأشواك الصفراء كما الدبابيس. وبخياله المُجنّح الشفيف يرى أنهاره ونيله العظيم وغاباته الكثيفة التي استعصت على الجفاف والتصحّر وعسف الحكومات، ويرى شعبه الذي أعطاه عمره الشخصي، وعمره الفني الخلاق، وهو يصارع صراع الضواري حتى يظفر بحق الحياة الشريفة المطمئنة؛ تلك الحياة التي ظلَّ يطلبها له في أناشيده وأغانيه كلها! يرى كل ذلك ويحس بأنه هائل، وأنه عريق، وأنه جدير بهذه المسيرة المضيئة بين الإبداعات الكثيرة العريقة في الوطن الكبير! لقد عاش تجربته عبر إطلالات متوهجة من عصافيرٍ ومن أساطير، معمورة حتى أطرافها كُلّها بصراع الإنسان السوداني في الزمن، في الراهن الذي يُشقّقه ويصدّعه الصراع ليخرج من حطامه الجديد والأفضل للإنسان وللوطن!.
كان يقول: إنه ليسرني ويصيبني بالغبطة والانشراح هذا التنوع والتعدد الشعبي المثير في وطني، وتطيب لي فاكهتة وأُناسه المتميزون في أصنافهم وطبقاتهم كلها؛ أنني لأعشق بلدي الحبيب، لهذا أسعى سعيي كُلّه لكيما أبيِّن خصائصه وأرفع من ميزاته حتى يتباهى بها شعبي أمام الدنيا قاطبةً! إنك لترى من خلال إرشاداته المضيئة، ومن خلال أخطائه الكبيرة، السلسلة نفسها من الكرم السخي جداً، من الحيوية، من الخصوبة المعطاءة الدائمة أبداً!.
كان الوطن يرزح تحت وطأة الديكتاتورية وكابوسها المُرعب، و (الحكومة) تسوم الناس العسف والظلم والقمع والمسغبة! (لأن الحكومة بلا ماعون دستورى تصبح مُعرَّضة للانمساخ لمجرد عصابة من الأشخاص الذين يحتلون كراسي الحُكم لحماية مصالحهم الضيقة، ولو كلفهم ذلك تنظيم الفِتن العرقية بين أقوام السودان، وترحيل السكان وتدبير عمليات القتل الجماعي، إلى آخر المخازي التي صارت جزءاً من إسم السودان في الإعلام العالمي. لقد تعودنا في السودان على سعي الحكومات الإنقلابية لتغيير ماعون الدولة بما يتماشى مع مصالح القِلَّة القابضة على السلطة السياسية، ولو استمر تبديل البناء الهيكلي على هذا النهج الجائر، حسب نزوات المتردين على سدة الحُكم، فقد يجيء وقت (تنحلج) فيه آلة الدولة تماماً وتفقد معناها في خاطر المجتمع. إن من واجب الدولة السودانية تأمين حاجيات المواطنين كافةً بما فيهم المبدعين. بيد أن قيام الدولة بواجبها تجاه المواطنين، لو تم، لا ينبغي له أن يصرفنا عن الدولة، كون هذه المؤسسات الحُرَّة تُعبِّر عن الخصوصيات السياسية والثقافية والإقليمية المتنوعة التي ينطوي عليها واقع التعدد الثقافي والعِرقي والجغرافي للسودان، بل إن مؤسسات المجتمع المدني تبقى، في التحليل الأخير، أفضل ضمانة سياسية لتأمين الرقابة الشعبية على أخلاقية وعدل أداء المؤسسات المنبثقة من أجهزة الدولة.(2).
كان الشاعر في الوطن، والفنان في المنفى، إنني أتحدث هنا عن أُسطورتان: محجوب شريف الذي أصبح يُمثِّل بطلاً شعبياً ضمن الميثولوجيا اليسارية؛ فمحجوب، على المستوى الأيقوني، يحتل صورة البطل الشعبي الثوري بكفاءةٍ نادرة، كونه بطل بسيط قريب للجميع، فضلاً عن كونه بطل ينتج أدباً فاعلاً ضد واقع القهر والاستبداد الذي يطال الجميع في السودان منذ عقود. فمحجوب يتحدث باسم المقهورين ويصنع لهم من الكَلِم ما يُيسِّر لهم أن ينطلقوا في لسانه ويسكنوا تجربته النضالية (والعاطفية) الطويلة. وهذه حظوة لم ينالها إلا قلة في تاريخ الميثولوجيا الشعبية السودانية!) (3)، لقد قدَّم محجوب، طوال مسيرته الحياتية والشعرية، أسطع تجربة شعرية عرفتها بلادنا على الإطلاق، ودفع مهراً عزيزاً من حياته الشخصية وصحته لكيما تترسخ هذه التجربة وتسطع وتُضيء! ووردي ـ أيضاً ـ عانى الأمرين حتى يمهر تجربته ومشروعه الفني الضخم بماء الحياة والخلود، نبراساً ورؤية عالية لشعبه ولوطنه! وكلاهما ـ الشاعر والفنان ـ عانا من عذاب المرض وسطوته؛ أُصيبا بالفشل الكلوي وتعب النضال الطويل، في السجن والمنفى، ومعاناة الحياة الخشنة في الوطن!.
لكن الجدير بالتقدير والإجلال إنهما ـ معاً ـ أبداً لم ينحنيا لجلادٍ أو طاغية ولم تهن عزيمتهما ولا ضعفت صلابتهما! هذا الثبات الصلب على المبادئ والقناعات هو الذي ـ ضمن عوامل وأسباب عديدة أخرى بالطبع ـ أكسبهما حب الشعب السوداني وتقديره الكبير! يحدث هذا الشموخ بينما (الصراع في السودان يستهلك الكثير من طاقة المُبدع والكاتب، ولاشك أن ظروفاً كثيرة قد تضافرت لخلق هذا الوضع، فقد وجد المثقف السوداني، مبدعاً أو غير مبدع، وجد نفسه في طليعة من شعبه وعليه أعباء النضال الوطني، ويبدو هذا الأمر واضحاً منذ فترة النهضة في الثلاثينيات من القرن السابق. وقد تصدَّى الكُتاب والمبدعون للمهام المُلقاة عليهم بهمة ومسئولية وكان هذا على حساب الإبداع والعبقرية، إلا أن الفشل المتكرر للنخب السودانية هو في حد ذاته فشل للمشروع الوطني أو الحداثي الذي انبرت هذه النُخب لتأسيسه!) (4).
الصمود والغناء، ذلك ما كان يشتغل عليه وردي في أعماله الوطنية، حتى عندما ذهب إلى أحراش الجنوب، حيث مقاتلي الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، ذهب لا ليرفِّه عن المقاتلين، أو يؤانسهم ويمتعهم بمنوعات الفن والعروض الغنائية الترفيهية، بل إن ما قدمه هناك من أعمال غنائية وأناشيد وطنية، كانت هي ذاتها جزءاً من العملية الحربية، باعتبارها حشداً معنوياً وشحناً وجدانياً وفكرياً جديداً، وإنعاشاً قتالياً لمقاتلين يدافعون عن وطنهم وعن أهلهم وعن حريتهم وحقهم في الحياة!.
(ها نحن مريم،
نرسم الطرقات في الليل المُلبَّد،
نرصد الطلقات تتبعنا
ونقفز مثل عصفورين بين قذيفة و قذيفة.
ها نحن، مريم، نهبط الدرجات نحو الملجأ الليلي،
نُحصي الطائرات مغيرة
ونقول: أمنا
ونمشي، خلسةً، للبحر
نجلس خلف أكياس التراب
ونرقب الأمواج تهدر، والشبابُ مقاتلين،
ثيابهم مخضرة كالصخر عند شواطئ المتوسط
إنتظري قليلاً، كي نقول لهم: سلاماً.
كي نُبارك بالدموعِ سلاحهم،
كي نمسح الخصلاتِ بالماءِ القليل،
ونمضغ الخبز المجفَّف صامتين!.
والعُشاق يمتشقون رشاشاتهم
والبحر يهدأ،
ينصت الأطفال للصوتِ المُباغت،
فى البعيد حرائق،
والطائرات تدور في أُفقٍ رصاصي.
لكِ العُشاق والطلقاتِ، مريم!) (5).
لقد قاتل وردي كثيراً لأجل الثورة السودانية، ولأجل ازدهار وطنه ونهوض شعبه!.
إن الفنان يكون مشدوداً بين طرفي توتر لا بد أن يُفضي إلى فعلٍ ما، إلى أُغنيةٍ مكتملة التكوين والبهاء، أو إلى نشيد صاخب مدوٍّ يشدّ من أذر أُمته ويُحفّزها للنضال وللصراع، ولكنه لا يستقر أبداً على حالٍ ساكنة، ولا هو يركن للهدوء المخالف لنواميس الفن ووجدان الفنان، خائضاً في الساحة وهو جهير الصوت، مُبشِّراً بالغد الآتي، وساخطاً، السخط كله، ضد الحاكم وأجهزته وناسه وأدواته كلها، كأنما وهو إذ يفعل ذلك مثله مثل "بروفروك" في قصيدة تي. إس. أليوت الذي يتساءل في جسارة كيما يُحفِّز نفسه ذاتها للفعل والصراع: (أأجرأ على أن أُقْلِقَ الكون؟)، وأعرف أن وردي كثيراً جداً مايُناقش نفسه ويُحاسبها، يفعل ذلك في أغانٍ وأناشيد كثيرة، بل ويكتبها قصائد جميلات، كُلما أحس بأنه قد تقاعس قليلاً هنا أو هناك، أو حين ينتابه قلقٌ ما في لحظة ضعف إنسانية صغيرة، يحس بأنها سوف تقعده عن النضال والمُشاكسة، وسرعان ما يستعيد سخطه ونقمته في وجه الحاكم، وهكذا تسير أغانيه وأناشيده وقصائده مُتصاعدة زخماً، وعنفاً، ولظى؛ محوِّلاً تمرده الذاتي إلى تمرّدٍ عام، ويا للعجب، يكاد لا يلتفت إلى ما يُهم الفنانون عادةً من لذات الدنيا، وهو قد أعلن، منذ بواكيره، أنها لا تفتنه ولا يعيرها في حياته اهتماماً، إلا في ما يشبه الخلسة من نفسه! إن في تحديه للواقع المُزري، وللحاكم بكل جبروته وصولجانه الباطش، أشبه بمرايا الظلال الهائلة التي يُلقيها المستقبل على الحاضر كما يقول شلي! والحال كذلك فليس غريباً أبداً أن يكون هذا الغناء الغضوب، المتوعد، الدامي، يتلوه المثقفون ويتناقلونه ويشهرونه سلاحاً في وجه حُكام ظَلَمَة لا حيلة لهم به، إن فنه راح يُمازج تيار الحياة الفكرية والعاطفية لدى الناس، لا سيما الشباب من بينهم، كما تُمازج مياه النيل العظيم الوعي واللاوعي منهم، وهو يموج بصورٍ شتى لهذه المياه، في زهوها وحَردها، في هونها وفورانها، كما لا يموج أي غناءٍ آخر! ويبقى صوته هادراً في آذان الحاكم والمحكومين على السواء، يأتيهم ـ كالفجأة ـ من حيث يكون هو، داخل الوطن أو خارجه، سيان! إنه رافض ومتمرد وساخط وغاضب ومقلق، وأغانيه وأناشيده هي شواظه ولظاه، يلهب بها وجه الحاكم أينما حل وحيثما وُجد!.
(الإسْم الكَامِل، إنْسَان،
والشَّعْب الطَّيَّبْ وَالدَيَّ
الحِزْب حَبيبِي وُشِريَانِي
أدَّانِي بَطاقَة شَخْصَّية
مِنْ غِيرُو الدُّنْيا وقُبّالوُ
قدَّامِي جَزَايِرْ وَهْميَّة
لاََ لَونْ، لاَ طَعْم ولا رِيحَة
وَأيَّام مَطْفيَّة مَصَابِيَحا
زَي نَجْمَة بَعِيَدة وُمَنْسيَّة
المِهْنَة، بنَاضِل وُبتعلَّم
تِلميذ في مَدرسَة الشعْب
المَدَرسَة فَاتْحَة على الشَّارِع
و الشَّارِع فَاتِح في القَلْب
والقَلْبِ مَسَاكِنْ شعبيَّة
وَديني مِحِل مَا تودِيني
شرَّد أخواتي وأخَواني
فَتِّش أصْحَابي وجيَراني
خلِّيني في سِجْنَك واَنْسَانِي
في سِجنك جُوَّه زَنَازِين
أرِمينِى وُكتَّف إيدَيَّ
عَلَشانْ مُسْتْقبَل إنْسَانِي
مِنْ أجْلِ النَّاسْ الطَّيبين،
وُعشَان أَطْفَالنَا الجَّايين،
والطَّالِع مَاشِّي الورَديَّة
وحيَاة الشعبْ السُودَانِي
فِي وشْ المُدفَع تَلْقانِي
قِدَّام السُنِكي حَتَلْقَانِي
وأَنَا بْهتِف تِحت السَّكين؛
والثَّورَة طَرِيقي
وأيَّامِي،
وُتْحَيا الحُريَّة!) (6).
أن الأُغنية عندما تخوض معركتها الحقيقية تنجز ما يفوق الخيال،، وإنها يمكن أن تنهض بدور فكرى ونضالى بارز، فتصبح – في معيتها وبسبب منها ـ الأفكار والأراء والمواقف والمعتقدات السياسية والفكرية ـ تهتز وتتحد لتتحول إلى ضوء وإلى إنجاز شعبي في واقع الحال، ولهذا نستطيع القول أنه عندما تبدأ تُقرع طبول الديكتاتورية، أية ديكتاتورية، يكون للثقافة والفن سيرة مختلفة، تُغيّر المفاهيم والموازين المعروفة، وتحول ساكن الحياة إلى حركة وصراع ونضال لا يفتر، ويبدأ أيضاً ـ وفي ذات الوقت ـ تطلع من صفوف الشعب سير مضيئة من البطولة والفداء، كأنها السحر المُداهم أو الصحوة المنتفضة تطلع من بين الركام والموات العقيم!.
ذلك انكشافٌ كبير يحدث للجواهر الكامنة في رحم الشعب الولود! ويحدث أيضاً ذلك الإمتحان "الرهيب" للمثقفين والفنانيين، إمتحان لانتماءاتهم الفكرية ولقناعاتهم العقلية في ارتباط الفكر بالموقف، وفي النضال ضد مظاهر القمع ووجوه الديكتاتورية المتعددة في ما بين الدولة وأدواتها جميعها، وفي الدفاع عن تقدم الشعب وحريته، وفي الدفاع عن تقدم الوطن. وهو أيضاً امتحانٌ شخصي، يتجسد في اختبار النذالة والنبل، شجاعة الروح وجبنها، التردي إلى الوحل والعطن، والسمو الإنساني الجميل. تلك قيم سامقة نبيلة خاض غمارها الشرفاء من أبناء وبنات شعبنا، وكان في طليعتهم، على جبهة الغناء، فناننا عظيم القامة باذخ الكبرياء والمجد، محمد وردي!
لقد جعل من الأُغنية، رغماً عن ظلال الديكتاتورية القاتمة، تلعبُ دور النشرة والمطبوعة أو الدورية والجريدة، والإذاعة والتلفزيون، نعم، قامت الأغاني بالأداء الإعلامي الذي غطى كل ساحات الفعل والمقاومة، مع الشعب في صبحه وفى لياليه الداميات، ذلك كله مافعلته الأغاني في وجدان الناس! وتبدأ تتسع دوائر الفعل والمقاومة وسط المثقفين، بالكلمات أو بالمقالات، بالقصائد أو بالغناء، بالرسم أو بالتحليل. إن نضال الشعب في سبيل حريته وتقدمه يكتسب وهجه ولمعانه من هذه المساهمات الجسورة للمثقفين والفنانين! إنني لأعرف أن هنالك شبان وشابات أقدموا ـ بجسارة وكبرياء عظيمين ـ وسط الأجواء الخافته للديكتاتورية، على تلحين وأداء لقصيدة توفيق زياد "أُناديكم" وسجلوها على أشرطة الكاسيت، فانتشرت في الناس ودخلت بيوتهم من نوافذها وأبوابها المشرعة للرياح:
(أُناديكم
أشُدُّ على أياديكم
أبوس الأرض تحت نعالكم
وأقول: أفديكم.
وأهديكم
ضياء عيني، ودفء القلب أعطيكم
فمأساتي التي أحيا
نصيبي من مآسيكم
أناديكم!).
لقد ظلت كثيراً من الأُغنيات والأناشيد ـ السابقة للديكتاتورية أو المعايشة لها ـ تكتسب حضوراً جديداً وسطوعاً ومغزى ينبت من حشا اللحظة الراهنة. ووردي، بإسهامه الكبير في مسار النضال لأجل الديمقراطية والحرية، وبأغانيه وأناشيده؛ جعل خطوط وألوان اللوحة القادمة تتضح أمام شعبه، تتجلى في وضوح هذا الفجر الذي نشهده الآن برفقة فنجان القهوة وكوب الشاي، وأُغنية ساحرة مناضلة تدفع حواسنا إلى التيقظ والحب ونشوة الشعور بأنكَ تُناضل وتُدافع عن أشرف وأعظم القيم الوطنية لشعبنا!.
إن تضخيم هذه التجربة العظيمة في الغناء، وجعلها خميرة في الخلق الفني العظيم لشعبنا تبدو، وهي مُحاطة بأكاليل المجد والفخار، بجمالها الأخَّاذ المحتدم، وهي تسير في دروب الآلام المليئة بالشوك الكثيف والتضحيات الجسام، وبالوعي الكامل بالواقع الحي للناس العاديين في حياتهم اليومية الخشنة، كُلها تبدو كشروطٍ لازمة وضرورية لكل نتاج روحي لجماهير شعبنا. تلك هي بعضاً يسيراً من ملامح التجربة الكبيرة، تجربة الفنان الكبير وهو يُقارع الحاكم وينازله، بالأغاني كُلّها والأناشيد كُلّها، ويكبر، يكبر في التجربة ذاتها ويزدهر فنه في كل صباح جديد، فقد كان كالمنارة، صامداً ومضيئاً أكثر من خمسون عاماً، أبداً لم يتصالح مع الحاكم، فظل وفياً للشعب والوطن:
(لا تُصالح ولو منحوك الذهب
أترى
حين أفقأ عينيك ثم أُثبِّت جوهرتين في مكانهما،
هل ترى؟
هي أشياء لا تُشترى!.
لا تُصالح
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ،
والرجال التي ملأتها الشروخ،
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم،
وسيوفهم "العربية" قد نسيت سنوات الشموخ!.
لا تُصالح
فليس سوى أن تريد
أنت فارس هذا الزمان الوحيد
وسواك، المسوخ! ). (7)
هــوامش:
1.علي عبد القيوم – الخيل والحواجز – ص (119).
2.حسن محمد موسى – محجوب شريف بين العمل العام وعمايل العوام – مجلة "الوسيلة" العدد الثاني مارس 2007م. ص (17/18).
3.المصدر السابق نفسه.
4.د. محمد المهدى بشرى – مخطوطة كتاب بعنوان: "المثقف والسلطة".
5. سعدي يوسف – عن حصار بيروت – " الثقافة تحت الحصار". حلمي سالم، دار شهدي للنشر ص (91).
6.محجوب شريف – الأطفال والعساكر.
7. أمل دنقل "لا تُصالح".
الشاعر، مُتصالحاً مع السلطة
بعيداً عـــن الناس!
الصديق العزيز / شنقر، نبدأ فنقول: مقالتك المثيرة "الشاعر في حالة كونه ظالماً! " مَسَّتْ مني الشغاف، وخفزتنى للكتابة، لما فيها من وهجٍ وإشراق! يا صديقي، لقد أخرجت الجمر من خلل الرماد، ووضعته أمام العيون، وهو ملتهب، حارق ومُحرق! إن المبدع يعني أن يكون في صف الجماهير وقضايا حياتها المتنوعة، وعندما تقف هذا الموقف بجلاء تستطيع أن تكتب وأن تبدع وبضمير مُطمئن! وذلك وحده هو مجد الشعر، شرفه وكبرياؤه! وحيث يكتب الشاعر، مُندداً بالظلم وفاضحاً له، فإنه، في ذات الوقت، يتداخل ويتحد صوته مع أصوات المظلومين وضد الظَلَمة، ثم أنه يجد أيضاً لغته الملائمة للكتابة الشعرية المُبدعة! أن يكتب الشاعر عن قضايا الجماهير، فذلك يعني بالضرورة أن يكتب ضد السلطة، ضد النظام المؤسس والمُدجج بالقمع والعسف، وذلك يعني أن يضع الشاعر عنقه تحت السكين! تلك ـ ياعزيزي ـ مراقٍ صعبة، ومجاهل وعرة، لأن الشاعر يحقق لنفسه ولشعره فيما يحققه للناس، لأن الجماهير هي التي تزود عنه، مثلما هو يزود عنها، يؤسس شعره لها، ويمضي معها إلى المستقبل الوضيء!.
يقول الصادق الرضي:
(الآن لن نبكي
ولكن مَنْ يُساوم بالغدِ الآتي
وماذا سوف نخسرُ؟!
لا تثق بالقلبِ: إن العشق يُؤذي،
بينما يُجدي التحّّّّرك في السكون!
وفي مساحات الأنا
وعي التكوّن
وابتكار الفرد مجموعاً
يوازي سُلطة الإطلاق، تحديد المواضع
بالإشارة نحوها بالإسم
تفتيت الهلام!
واختراق السرّ
فتح نوافذ الأشياء،
تكريس التفاصيل الدقيقةِ
قوةً تنسف الأحلام والذكرى
وأشباه الحبيبات – الدُمى، والأصدقاء!
لا تَثق بالقلبِ: كي يتصاعد الضوء
على كل المساحات
وحدِّق جيّداً
واختر مكانك واحترق حيث انتهيت!
وأنتَ الاشتعال – النارُ
مجمرة الغضب!).
الحلنقي وأزهري محمد علي، وأضيف إليهم كامل عبد الماجد، جميعهم يمتلكون "موهبة" الشعر الخصيبة، ولكنهم يفتقدون ناره المقدسة ولهيبه اللافح ولواعجه المُقلقة! شعراء عاطفيون أغنوا مسيرة الأُغنية السودانية، وجعلوا الحبيبة السودانية أكثر إشراقاً وبهاءً! ولكنهم ـ في ذات الوقت ـ ابتعدوا عن قضايا الجماهير المُلتهبة التي تكاد تحرق جلود الناس وتحوِّل حياتهم ومعيشتهم إلى سعيرٍ وإلى نيرٍ يُحكِم حلقاته حول أعناقهم الخُضر!.
ما حدث للصحفيين والكُتَّاب والعاملين بصحيفة "الأضواء" لهو مأساة كبيرة يُحيط بها الصمت الكثيف! لم يكتبوا مقالاً أو قصيدة أو بيان تضامني مع تلك الحيوات الشريفة وأُسرهم التي ظلت تُعاني الظُلم والمسغبة شهوراً طويلة!! أبداً ماسمعت صوتاً يُدين ما جرى، ولو عبر التناول الرمزي الشفيف للقصيدة الحديثة! ماهذا الصمت يُسمَّى بالله عليكم؟.
يتحدث الناس، هنا أو هناك، أن الأرباب إدريس هو صاحب المال ورب العمل للصحيفة، ثم أنه هو الذي أتى بهم "للأضواء" كما أتى بكثير من الكُتاب والفنانين والشعراء ومحبي الرياضة وفاعليها إلى دائرته الشخصية والمالية! ولكن أيكون ذلك هو ثمن السكوت؟! هل ذلك ماجعل "الشاعر في حالة كونه ظالماً؟!" ثم كيف للشاعر أن يكون مُطمئناً إلى رؤاه، وإلى إبداعه وإلى مشروعه الشعري، ومتى القلب في الخفقان اطمئن كما يقول أمل دنقل؟!.
إن الاقتراب من السلطة الظالمة يُباعد بين الشاعر وجماهير الشعب وقضاياها المركزية في الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ومن أوجب تلك الواجبات أن تُصان حقوق العاملين، وأن تبتعد عنهم وأُسرهم مظالم التشريد ومظاهره العديدة في حياتنا! يجب أن تكف يد السلطة عن هذا الفعل الجائَر! نقول "السلطة" ونعني بها ـ أيضاً ـ كل تجلياتها؛ سواءً أكانت مؤسسات تتبع لها أوأشخاص ذوي سلطان مالي نافذ يُموِّلون ويُوْقِعُون ذلك الظلم ويكرِّسونه واقعاً بين الناس تحت مظلة السلطة، يفعلون ذلك، وهي ترى، وهي تسمع، ثم بالصمت واللامبالاة تُشارك في تلك الجرائم والمظالم! ولكن، أين هو صوت الشاعر الذي هو صوت الأُمة وضميرها وحادي ركبها؟! إن غياب صوته في مثل هذه الحالات من شأنه أن يقتل الشعر والإبداع، بل إنه يُصيب الشاعر نفسه بالعطب والإنزواء، فيبدأ شعره في الذبول، أو في أفضل الفروض يذهب عنه وهجه ولمعانه، ويكف عن أن يصبح خالداً في ضمير الناس! وربما، يوماً ما، يتوفر لنا أو لغيرنا الوقت لبحث ودراسة هذه (الظاهرة الثقافية) التي تجعل من الشاعر، ساكناً صامتاً، السكون كله والصمت كله إزاء قضايا أمته الحيوية، وفي ذات الوقت نجده جهير الصوت عالي النبرة بشأن القضايا العاطفية في وجوهها الرقيقة وملامحها التي تأتي بسمات الرومانسية من مكامنها القديمة؛ فتسوقها وتضفيها على الواقع المزري الخشن لجماهير الشعب السوداني! لو فعلنا ذلك فإننا، بلاشك، سوف نظفر بدرسٍ عظيم يُفيد لحظتنا الراهنة ـ اجتماعياً وتاريخياً وثقافياً ـ حينما نضع يدنا على تحليل عميق يبرز أصول وتجسيدات هذه (الظاهرة) التي تجعل من الشاعر ـ كرخويات القواقع ـ يعيش في أعماق البحر ولكنه لا يدرك كنهه، بعيد عن صخبه وتياراته ودواماته!.
إن للشاعر دوراً هاماً يجب أن يقوم به تجاه شعبه وشعره على حدٍّ سواء؛ أن يناضل دفاعاً عن المظلومين، ومنتمياً لشعبه ولقضيته العادلة في الحرية والعدالة والتقدم!.
ولكن: كل العزاء يا صديقى شنقر، إن هنالك في بلادنا الكثير من الشعراء الذين لهم رؤاهم وقناعاتهم الرافضة لمثل هذه المظالم، العصية على التدجين والإنضواء، المليئة بالسخط الطامح وبالصدق الجسور! ونحن حقاً لا نبكي تلك المواقف، ولكننا ننظر بإشفاقٍ لتلك (السقطات) تحدث من بعض شعراؤنا فتحدث من حولنا دوياً صامتاً!.
ألم يقف أكبر شعراء أميريكا، ت. س. أليوت عزرا باوند، مع الديكتاتور موسليني، وراح يدعو عبر راديو (إيطاليا الحُرة) يُمجد الفاشية ويدعوا لسيادتها على العالم إبان الحرب العالمية الثانية؟ تلك ـ إذن ـ هي التجليات الهشة للشاعر والشعر في الحياة! وطوبى للصحفيين والعاملين بالأضواء وأُسرهم، هي الدنيا، هي الدنيا.!
-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
* مجتزأ من مخطوطة كتابي : " كلمة في تبجيل الفنان وردي " ...



#جابر_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وجع الحبيبة في الليل !
- لكني أحبك !
- الفنان والحاكم -2-: في المنفي ، قريبا وفي الوطن !
- عاشقة الطمي والحبو !
- الفنان والحاكم !
- علي عبد القيوم ، أسامره الليلة !
- القصيدة التي لم ترضي عنها مني !
- الأغاني أو... شجوية الطرب البديع !
- بين حكمة وإيلوار و ... أنا !
- للوطن الآن ، جراح و ... نزيف !
- إلي السوسنة ، وفي تنائيها إقتراب !
- زمن البراءة ، أو رومانسية الأغنية السودانوية !
- أنه يصحو ، أنه يحيا !
- كيف عاد كجراي من المنفي !
- أستاذ كرسي أسلمة المعرفة !
- الأغاني تنتمي للفرح الجميل ، حقول مطر و نوافذ ياسمين !
- ليست أحزانا شيوعية !
- بريق العيون ، هل يكون حبا ؟
- رسالة صغيرة جدا لمحمد الصادق الحاج * !
- أسميها السوسنة !


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جابر حسين - الفنان والحاكم -3- ريح وشبت ، نار وهبت !