أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - نقد ثقافة الضحية















المزيد.....

نقد ثقافة الضحية


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1069 - 2005 / 1 / 5 - 10:04
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ان تكون صاحب حق لا يضمن في شيء أن تكون محقا في كل ما تفعل، ولا يعفيك من وجوب تقدير النتائج المحتملة لأفعالك على الآخرين. وأن تسيء تقدير هذه النتائج، وان تظلم وتكون أفعالك غير مسؤولة ردا على ظلم لحق بك، لا يجعل من ظَلَمك عادلا ولا يلغي حقك في العدل.
أن تكون مظلوما لا ينفي احتمال ان تكون ظالما لغيرك. وظلمك للغير لا يستغرقك أو يدثرك كلا وجميعا، لتمسي ظالما فحسب. فالمظلومية والظالمية، إن صح التعبير، ليست هويات للبشر، وإنما هي نعوت لأفعال موصوفة يقومون بها، وربما لأوضاع محددة يندرجون ضمنها.
لكن الظلم ذاته ليس شيئا متماثلا مع ذاته؛ إنه نسب ومقادير، وكثير وقليل. هناك ظلم وظلم. ومن يقتل ليس كمن يصفع، ومن يقتل فردا ليس كمن يقتل عشرات أو مئات الألوف. وحده الحق في العدل متساو للعادلين والظالمين، وهم اصلا لا يوصفون بعدل أو ظلم قبل هذا الحق.

الضحية كهوية
في البال عند كتابة هذه السطور المأزق الفلسطيني المتمادي المتولد عن عدوان جائر لا شك فيه، لكن كذلك عن ردود انفعالية وغير سديدة على العدوان؛ وفي البال ايضا ذلك التثبت الحرون على شعور بالعدالة الذاتية يميزنا نحن العرب ويكاد يشكل هوية قومية لنا؛ وفي البال أخيرا تحول بعضنا من النقد الضروري لثقافة الضحية إلى نقد الضحية ذاتها، وصولا إلى تدمير ثقتها بنفسها وبجدارتها الانسانية والحضارية.
ثمة شعور راسخ في النفس العربية المعاصرة بأن إيقاع الظلم على العرب يجعل الحق هوية لنا بصرف النظر عن أفعالنا وردود أفعالنا. وهذا الشعور تصعيد لعجزنا المتكرر عن التحرر من الضعف، يلبي حاجتنا إلى احترام الذات رغم الضعف، لكنه يشكو من خللين في المنطق. الأول: انه يضع استحقاقنا للحق بيد من يفترض انه المعتدي، الأميركي أو الإسرائيلي او الغربي..، دون أن نحتاج نحن إلى فعل شيئ أو حتى لو فعلنا أي شيء. فنحن على حق لمجرد أنه هو معتد علينا أو ظالم لنا. وهذا تنصل من المسؤولية السياسية والأخلاقية وقبول ضمني بالقصور. ويتمثل الخلل الثاني في الانتقال غير المشروع من إدانة أفعال وممارسات محددة إلى إدانة الطرف الذي تصدر عنه هذه الافعال، ثم إسناد الإدانة إلى ثقافة الطرف أو بلده او دينه او عرقه، اي نسبة أفعاله إلى هويته. وبالمقابل نكون نحن، أمة وثقافة ودينا...، عادلين ماهويا. والعلاقة بين الظالمين والعادلين ماهويا لا يمكن ان تكون غير علاقة تناف وإقصاء، تتفجر حربا مطلقة وعنفا طليقا.
وقد نضيف خللا ثالثا يتمثل في تشوه النظرة إلى العالم بحيث نرى في كل ما لا يلائمنا فعل اعتداء يصدر عن عدو متربص، أو فعل تآمر يقوم به فاعل واع مريد مغرض. وفي هذه البيئة النفسية تصنع نظرية المؤامرة، أو التفسير التآمري للتاريخ. والنظرية تلك ليست خللا في معرفة التاريخ ووقائع التآمر المحتملة، بل بالأحرى خلل في الهوية وعلاج لخلل في الهوية. وهي لا تعمل إلا في خدمة الهويات وسياسة الهوية (أو لعلها تستخدم الهويات وتلعب بها). فليس كالمتآمرين مساعدون على بلورة هوياتنا ووعينا الذاتي. بل يمكن القول أن لا هوية ولا وعي قوميا بلا مؤامرة. فالهويات والقوميات جميعا هدايا من الأعداء، من المتآمرين.

من ماهية إلى اخرى
هذا الشرط يكمن خلف مزاج وسيكولوجيا وثقافة الضحية التي نستكين في حضنها. لقد استبطنا شرط الضحية إلى درجة أننا نكاد نبذل التضحيات من أجل أن نبقى في وضع الضحية. فلوم الغير يمنحنا الشعور بأننا على حق، ويسهم في إنقاذ اعتبارنا الذاتي، ويمكننا تاليا من تحمل بؤسنا. ذلك أن عملية اللوم تقوم على إسقاط البؤس على خارج موصوف بالظلم، ومن ثم التحرر منه.
ويثبتنا على هذا الموقف أن من تمكنوا من الكف عن اللوم منا لم يفلحوا في ذلك إلا بإنكار وقوع الظلم أصلا، أي تحولوا إلى موقف معاكس ينكر وقائع الظلم. وهذا الموقف الذي يتبناه أناس يسمون دون وجه حق "ليبراليين" يشتغل هو الآخر على مستوى الشعور لا الوعي. وهو يلبي حاجة نفسية لا تختلف كثيرا عن تلك التي يلبيها لوم الغير، أعني إسقاط الشعور بالبؤس على الخارج، لكن بعد تغيير جهته عبر التماهي مع الظالم السابق: تأثيم العرب يحتاج إلى تماه مع الأميركيين (وفي حالات نادرة مع الإسرائيليين)، عبر وسائط مفهومية وعقيدية كالليبرالية والعلمانية والحداثة ومحاربة الإرهاب.
لكن هذا الموقف طباق موقف الضحية الدائمة. فهو لا يتحرر من لوم الغير إلا بإنكار واقعة الظلم وتنزيه الغير عنها، ولا ينزع التماهي العربي إلا بتثبيت تماه أميركي. فهو حركة على مستوى الماهيات والهويات، لا تمر بنقد ثقافة الضحية ولا تحتاج إليه. وغياب النقد يمكن من الانتقال من ثقافة ماهوية إلى أخرى، من ثقافة الضحية إلى ثقافة لوم الضحية، من مؤمنين إلى مؤمنين دون محاولة للتعرف على الشيطان ودون التعرض لإغواء المعرفة.
خلافا لذلك يقر التناول العقلاني بالظلم لكنه يرفض ثقافة الظلم، ويعترف بعمليات التماهي ونزع التماهي المنتجة للهويات والنازعة لها، لكنه لا يجعل من الهويات معايير اخلاقية ومن الأمم مستودعات للحق او العلم. فالنقد العقلاني لثقافة الضحية ليس لوماً للضحية ولا هو تضامن مرسل معها. إنه تحليل "دنيوي" (إدوارد سعيد) لوقائع وعلاقات وقوى ومعان متحركة يتفاعل ضمنها أفراد وجماعات في أوضاع غير متناظرة دائما. ويتأسس النقد العقلاني لثقافة الضحية على الفصل بين الأخلاق (العدل والظلم) والهوية. إنه نقد علماني يخذله العلمانيون العقائديون الذين يكتفون بتبادل المواقع مع خصومهم العقائديين الدينيين.
ولا تقوم الذات الأخلاقية، اي استقلال الضمير، دون نقد ثقافة الضحية أو المفهوم الماهوي للحق. وهي بالتأكيد لا تقوم على تمجيد الضحية ولا على طباقها: تأثيم الضحية. فاستقلال الضمير هو استقلاله عن العقائد والهويات، عن النحن وعن ضد النحن.


ما الذي نضحي به من أجل الحفاظ على وضع الضحية؟ نضحي ب (1) إدراك ما نلحقه بالغير من ظلم وعدوان، و(2) القدرة على شرح الظلم الفعلي الواقع علينا نحن بالذات. فلما كنا مظلومين جوهرا وماهية، كما تملي ثقافة الضحية، فكل فعل نتأثر به هو فعل ظالم. وحين تغدو كل الأفعال ظالمة وعدوانية فإن معيار تمييز الظلم المختلف عن كل ظلم، يتعطل او يتشوش أو يزول بالمرة، ولا يبقى تاليا شيء ظالم وعدواني. فاختلاف الظلم وتفاوته هو ما يجعل الظلم ظلما (ولو كان كل الظلم متساويا لما قام عدل قط؛ هذا ما كانت "الاشتراكية" تحتاجه بين اشياء اخرى كثيرة).
ثم إن السكون إلى شرط الضحية او المظلومية هو العائق الأقوى امام وعي المظالم الفعلية التي تقع علينا. ودون التغلب على هذا العائق لن نتوصل إلى إدراك عادل لسوء أفعالنا المحتمل، ولن نتمكن من نيل العدالة والتحرر من وضع الضحية، والأهم من كل ذلك اننا لن نتكون كفاعلين اخلاقيين متبصرين بدوافع أفعالهم مسؤولين عن نتائجها.
إذن خلافا لما قد يظن بعضنا، وخلافا لما قد يفضل بعضنا أيضا، لا يهدف نقد ثقافة الضحية إلى تأثيم أو تشرير العرب على غرار ما هو جار بعد 11 ايلول الأميركي بصورة خاصة، بل هو أول التحرر من الظلم وأول تحقيق العدل. ونقول اول التحرر وأول العدل لأن الأهم من رفع ظلم وتحقيق عدل هو جلاء معايير التمييز بين الأفعال الذي يفترض بان يكون نقد ثقافة الضحية مدخلا له. فبينما قد يتحقق رفع ظلم بانقلاب عسكري أو بثورة شعبية، أو بمحض الانتقام و"شفاء الغليل" وفقا لمنهج الإرهاب الإسلاموي المعاصر، فإن جلاء المعايير وبناء الفاعل الأخلاقي هو الذي يحرر رفع الظلم من أن يرتد إلى محض تبادل مواقع مؤقت بين ظالمين ومظلومين. إن هدف نقد ثقافة الضحية هو توضيح معايير الفعل العادل.
الصلة منقطعة أيضا بين نقد ثقافة الضحية والنقد الذي يحبّره ليبراليون مزعومون، فقدوا القدرة على التعاطف ليمارسوا فضيلة تزداد شيوعا وتطالب لنفسها بأوصاف الحرية والحداثة: فضيلة التضامن مع الأقوى. فبممارستهم نقدا نسي جذوره الأخلاقية الأصلية (تسديد كفاح المظلومين من أجل العدل)، ونسي موقعه (بين الضعفاء ومعهم)، يثبّت هؤلاء في الواقع ماهوية الظلم والحق ويكتفون بقلبها قلبا بسيطا. فيغدو العرب الذين كانوا ضحية مطلقة معتديا أو شريرا مطلقا، بينما يحتل الأشرار السابقون الذين كانت تستغرقهم أوصاف الامبريالية والاستعمار والرأسمالية، بعد شحنها شحنات تشريرية مفرطة، يحتلون موقع الأبرار الجدد. (بارك أحد العقائديين الجدد للرئيس الأميركي بوش انتصاره في الانتخابات الأميركية ووصفه بأنه "رئيس الحرية الإنسانية". واستخدم هذا المناضل المتعصب ذاته كلمة "عربان" بدل عرب ليغمر من يفترض انه هاديهم نحو الحرية في تبخيس ماهوي مقيم. وفي مقال عن الانتخابات الأميركية بعنوان "الأميركان.. وحقارة العربان" وصف آخر العرب بالغباء، وراى أنه "يجب على العرب ان يرحموا العالم من غبائهم وتخلفهم وجهلهم ويقلعوا عن عادة انتقاد الآخر حتى ترتقى جباههم الى مستوى حذاؤه [كذا]").
وهذا القلب لا يجلو معايير، ولا يسهم في شحذ حس العدالة والإنصاف، ولا يخدم مطلب استقلال الضمير، روح كل اخلاقية منسجمة. بيد اننا عند هذا المستوى من الإسفاف نكون سلفا خارج معايير اي تفكير واي ذوق واي تسامح، وبالخصوص أية روح ليبرالية حقة، وفي قلب التعصب والسفاهة وسقم الذوق.
إن من شأن نقد ثقافة الضحية أن يساعد على إضاءة مشكلاتنا الأخلاقية، وبالتأكيد أن يسهم في تحرير وعينا المعاصر من مسالك التحلل والقسوة والعنصرية المقلوبة.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين النقد والاتهام
- نقد ذاتي
- معاناة -السيد ياسين- ومغامراته في عالم -الصحيح الواقعي-
- مفهوم لخط الفقر السياسي
- عن الحرب العادلة والإرهاب والدولة
- سوريا ممكنة دون معتقلين سياسيين!
- قانون الأحزاب وتحرير الحياة السياسية في سوريا
- المستحيلات الثلاث في -الشرق الأوسط-
- سوريا غير المتطابقة مع ذاتها
- حلفاء ضد التحليل: التبريريون والتشريريون في معركة الإرهاب
- أجهزة أمن اكثر = أمن اقل؛ والعكس بالعكس
- موت آخر المحاربين
- مشاركة في انتخاب الرئيس الأميركي!
- اي مستقبل لبلادنا دون الخط الثالث؟ 2 من 2
- أي مستقبل لبلادنا دون الخط الثالث؟ 1 من 2
- إصلاح حزب البعث والإصلاح السياسي في سوريا
- حول الطريق الثالث ... مرة ثالثة
- اسحقوهم بتناسب، وحطموهم برفق، واقتلوهم بلطف!
- الاستقطاب والاختيار: حول مفهوم السياسة 2 من 2
- الاستقطاب والضعف : حول الخط الثالث مجددا 1 من 2


المزيد.....




- انتشر بسرعة عبر نظام التهوية.. لحظة إنقاذ كلاب من منتجع للحي ...
- بيان للجيش الإسرائيلي عن تقارير تنفيذه إعدامات ميدانية واكتش ...
- المغرب.. شخص يهدد بحرق جسده بعد تسلقه عمودا كهربائيا
- أبو عبيدة: إسرائيل تحاول إيهام العالم بأنها قضت على كل فصائل ...
- 16 قتيلا على الأقل و28 مفقودا إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة ...
- الأسد يصدر قانونا بشأن وزارة الإعلام السورية
- هل ترسم الصواريخ الإيرانية ومسيرات الرد الإسرائيلي قواعد اشت ...
- استقالة حاليفا.. كرة ثلج تتدحرج في الجيش الإسرائيلي
- تساؤلات بشأن عمل جهاز الخدمة السرية.. ماذا سيحدث لو تم سجن ت ...
- بعد تقارير عن نقله.. قطر تعلن موقفها من بقاء مكتب حماس في ال ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - نقد ثقافة الضحية