أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وليد مهدي - الماركسية الانثروبولوجية















المزيد.....


الماركسية الانثروبولوجية


وليد مهدي

الحوار المتمدن-العدد: 3617 - 2012 / 1 / 24 - 11:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الماركسية والانسنة

يرى مارتن جاردنر بأن ما تبقى من تصورنا عن المادة ككرات نيوتن الصلدة القديمة قد تلاشى تماماً ، لم يتبق لدينا اليوم سوى " عرى " خيطية مهتزة ، او اجساماً نقطية غير محددة الكيان ..
فما نعرفه بالمادة السنجابية للدماغ ما هو إلا تعبيرات رياضية في تكوينها الدقيق تحت الجزيئي لا نعرف عنه شيئاً ، وبصريح العبارة يقول جاردنر في مقاله " هل الحاسبات الالكترونية قريبة من العتبة ":
" لا شيء ، ما عدا النماذج الرياضية ، له وجود على المستوى الكمي .."
كما ينقل جاردنر عن الفيزيائي الشهير روجر بنروز في نفس المقال بأن دماغنا كما نعرفه خلايا عصبية تتذبذب بذبذبات كهربائية تنقل الطاقة عبر التشابكات العصبية والنواقل الكيمياوية ، و نحتاج لنفهم المادة في المستوى دون الكمي ( الرياضي الرقمي ) الغامض كي ندرك حقيقة الوعي والذكريات..

مثلما كان الفلاسفة اوصياء على المعارف في عصر ما قبل النهضة ..
يعتبر علماء النفس اليوم انفسهم ، وكذلك علماء واختصاصيي الاعصاب بانهم اوصياء على العقل البشري ..
ومثلما تفرعت العلوم إلى تخصصات وهمشت الفلسفة لتنحصر اليوم بمنهج البحث العلمي ..
فليس بعيداً ذلك اليوم الذي تنزع فيه وصاية السيكولوجيا وعلوم الاعصاب عن العقل البشري وفهمنا للوعي الانساني حين تتطور المعرفة والعلوم في المستوى دون الكمي للفيزياء ، ويصبح " علم العقل البشري " علماً تخصصياً له طرائقه وادواته المتنوعة في البحث العلمي في مسار يحمل العديد من السمات والخصائص الاضافية التي تميزه عن دراسة علم الاعصاب وعلم النفس باعتبارها علوماً تهدف لمعالجة اعتلالات واختلالات وظيفية دائمة او طارئة في آلة العقل البشري ، الدماغ ..
وفي انتظار ذلك اليوم ، ما هو الذي يمكن ان يكون بين ايدينا من فلسفة علم يمكنها ان ترشدنا لفهم المسار الذي تطور به الدماغ وفعالياته العقلية منذ ماضي الازمنة ، وماهي الوجهة التي يمضي بها هذا التطور في المستقبل ضمن تصورنا الفلسفي الجديد عن " الانسان " المستوحى من الماركسية ومحاولتها رسم السكة الكلية لعلم الاجتماع البشري في ضوء تطور وسائل الانتاج منذ فجر التاريخ وحتى نهايته " الحتمية " بالمجتمع الشيوعي ؟
كيف هو الدماغ البشري في قادم الايام ، وكيف يمكننا رسم تصور " ماركسي " جديد عن العقل البشري يكمل التصور الذي بداته في الاعوام الماضية عن علاقة الهوية والحضارة بالانسان فيما اسميته شخصياً " الانثروبولوجيا الماركسية " ..؟
الموضوع يحتاج إلى " بداية " كتلك التي رسمها ماركس عن الصراع الطبقي على مر الازمنة والعصور ..
لكنها هذه المرة تدخل في عمق تكون دماغ الانسان الآني والمستقبلي وليس حاجته ومعيشته كإنسانٍ فردٍ فقط ..
بداية تستبدل الصراع الطبقي بين شرائح من المجتمع البشري واخرى ، بالصراع الفردي البيولوجي مع " الطبيعة " ومسار تحول التكوين الدماغي الحيوي والعقلي الثقافي في ظل تاريخ طويلٍ من هذا الصراع ..
بداية ، تعيد رسم خريطة التاريخ لتطور الدماغ البشري بدءاً من ادمغة الاسماك في البحار الاولى مروراً بدماغنا نحن بني البشر ، ووصولاً إلى الشكل المستقبلي القادم من تطور الدماغ والاحتمالات المتعددة التي سيؤول إليها ..
فقد لا افترض " حتمية " لشكل معينٍ محددٍ من الدماغ والوظيفة كما هو التصور الشيوعي للمجتمع الانساني ..
الباب سيترك مفتوحاً لاحتمالات متعددة قد يكون احد نماذجها هو النموذج الكوني الموعود بناء على معطيات ومبانٍ علمية دقيقة ..

الماركسية الانثروبولوجية

وعوداً على ما بداته في المقدمة ، فإن دراسة علم الاعصاب والسيكولوجيا لم تعد كافية وحدها لفهم العقل البشري وملكاته وحقيقة وجوده وانبثاقه كنشاطٍ للدماغ ، هذه المادة الرمادية القابعة في تجويف الجمجمة ..
البشرية ، و كما يذهب العديد من العلماء ، بحاجة إلى ثورة حقيقية في هذا المجال تعيد صياغة معرفتنا بصورة جذرية ..
مع ذلك ، وكما وجد ماركس في " التاريخ " العزاء لاعادة رسم خريطة تطور المجتمع البشري لتظهر " المادية التاريخية " بابهى واجلى صورها ..
فإن " علم التطور Evaluation Science " سيكون عزائنا لفهم " الغاية " التي يجري عليها تاريخ تطور الدماغ البشري ..
سيرسم لنا تطور الدماغ وتشكله البنية الحقيقية للادراك العقلي ومآله في آفاق المستقبل ..
هي دعوة ان نرجع عدة خطوات للخلف ، من اجل وثبة تاريخية جبارة لرؤية انسانية نحو المستقبل ..
وكما اكدت الماركسية بقراءتها الاقتصادية الاجتماعية بان صراع الطبقات هو الحافز الاساس في تطور المجتمع وتحولاته ، فإننا بهذه القراءة الانثروبولوجية للماركسية نؤكد بأن " معاناة " الكائنات الحية بما فيها الانسان على مر التاريخ هي التي طورت البنية الجسمية ببروز صفات تكيفية مع هذه " المعاناة " بما في ذلك حاجة التطور العقلي التي تطلبها هذا التكيف في دماغ البشر كما سنوجزها بالمسار الآتي ..

المسار التاريخي لتطور الدماغ

لو اجرينا معاينة مختصرة لمراحل تطور الجهاز العصبي ، ودققنا بإمعان في خريطة تطوره عبر التاريخ ، سنجد أنه لابد من وجود مراحل لتشكل الوعي بمختلف درجاته في الكائنات صاحبت مراحل تشكل الدماغ عبر ملايين السنين في سلم التطور البيولوجي ..
فابتداءاً من الأسماك في البحار الأولى القديمة مروراً بالبرمائيات فالزواحف فالثدييات وصولاً إلى الرئيسيات العليا و منها الإنسان ، يكون الدماغ قد مر بثلاث مراحل أساسية في تطوره تتضمن ظهور أجزاءٍ فيه مصحوبة بنشاط جديد يترافق مع هذا التطور التكويني :

المرحلة الأولى :

ظهور الدماغ الأولي المتمثل بساق المخ Brain Stem مع كتلة أولية من الخلايا العصبية..
ففي هذا الدماغ البدئي كانت المسؤولية " العقلية " منحصرة بالسيطرة على الغرائز الأساسية المسببة لبقاء الكائن الحي ، التنفس والشم والسيطرة على ضربات القلب ، السيطرة على الجهاز الهضمي ، الخوف والهرب من المخاطر ، الجنس والتكاثر ..
هذا الدماغ البدئي الذي ساد في الحيوانات الفقرية ومن بينها الأسماك والبرمائيات الأولى كان هو المظهر الأساسي للدماغ قبل ملايين السنين .. ويدعى كمنظومة متكاملة للسيطرة على وظائف الغريزة الأساسية بالجهاز اللمبي Limbic system . ( المسيطر على الغرائز الدنيــا )
وهذا يعني ، بأن الجانب الكلاسيكي من الوعي أو العقل هو الجانب الغرائزي الانفعالي المتعلق بالبقاء هو الذي ظهر في مسرح تطور الدماغ ( كآلة ) والعقل ( كنشاط لهذه الآلة ) ابتداءاً ..

المرحلة الثانيــة :

ظهور الدماغ الثانوي في الزواحف و اللبائن الأولى ، حيث أضيفت إلى الكتلة العصبية في ساق المخ المسيطرة على الغرائز الأساسية خلايا دماغية جديدة على مر ملايين السنين بتزامن " معاناة " الاسماك القديمة وتحولها التدريجي إلى زواحف ..
تسمى هذه الخلايا القشرة المخية Neocortex ، بتكون هذه القشرة بدأت أولى مظاهر الأمومة بالظهور ، وكذلك تطور مظاهر الألفة لدى الحيوانات ( الغرائز العليــا )
ويمكننا ان نلحظ اليوم الاسماك التي تفتقر لهذه القشرة لا تزال تاكل صغارها ..
وكذلك يمكننا مشاهدة الافاعي الصغيرة في البرية وهي تفرُ غريزياً من امهاتها بعد تفقيسها مباشرة ..
وحتى اليوم ، لا تزال بعض القطط تبدي جنوحاً غريزياً نحو ذلك الماضي البيولوجي السحيق حين تاكل صغارها في حالات شاذة ما يضع العلماء في حيرة ودهشة ..
( مع انها موضوعية وواقعية بالنسبة للماركسية الانثروبولوجية ولا تثير الاستغراب !)
او تقوم بعض الطيور ( وفي حالات شاذة ايضاً ) بتكسير و " اكل " بيضها الذي تحضنه ..
و بغض النظر عن التفسير العلمي لهذه الظواهر الغامضة ، فهي ومضات من اعماق ماضي التطور " العقلي " القديم للكائنات ، وتعبر عن " اساس " الغريزة القائم على بقاء الفرد بالمقام الاول قبل العلاقة الوثقى التي تربطه بعائلته او جماعته التي ظهرت كاستجابة لحماية الفرد ضمن الجماعة ..
ويمكننا ان نقول بانها مرحلة بناء الميولات الغريزية " ما بعد الفردية " في الكائنات ضمن البنية الدماغية ..


المرحلة الثالثة :

ظهور الدماغ الحالي الذي يشمل المنطقتين السابقتين ، الدماغية الشمية ( الزاحفية ) والدماغية العاطفية ( الامومية ) إضافة إلى تنامي حجم الدماغ كثيراً في الإنسان Homo sapiens.. ممثلاً بالقشرة الخارجية والداخلية ..( Inner cortex & outer cortex )
فعبر تنامي القشرة المخية ، و باستمرار عملية التطور ظهر الوعي والعقل في الإنسان ، وظهر التفكير المنطقي الذي حول الإنسان إلى كائن اجتماعي بامتياز ..
الكائن الذي يجعل من العلاقة الاجتماعية مع بني جنسه وطبيعتها هي اهم سمات انسانيته ..
لقد احتاج الإنسان عبر " معاناته " وخوضه الصراع التاريخي الطويل مع البيئة إلى تطوير مراكز للغة في الدماغ ، وتزايد تعقيد خلايا الدماغ التي تحلل الاصوات في المراكز السمعية وكذلك تلك التي تحلل المعلومات البصرية ..
فضلاً عن تطور القشرة العلوية من خلايا الدماغ وتطور فص التفكير المنطقي في المقدمة الدماغية ..
بتظافر عمل هذه الاجزاء المطورة جميعاً ، ظهرت اللغة والتاريخ والمعرفة والدين والفن والأدب ..
وهي كلها حسب الماركسية الكلاسيكية انعاكسات لتطور وسائل الانتاج وطرق حصول الانسان على غذائه وحاجيات عيشه الاساسية ..
لكن ، في ماركسية بحثنا هذا الانثروبولوجية التي نحاول بها انسنة الماركسية في جانب مهم من جوانب " الصراع " التاريخي للكيان البيولوجي ( الجسد ) مع الطبيعة والمجتمع ، نجد بأن " واقع المعاناة " للكائن الفرد هو اساس تحوله لاختيار وسائل انتاج مناسبة توائم البيئة التي يعيش فيها ..!
فالرئات كوسائل انتاج وتنقية للهواء لم تطور الاسماك لتجعلها زواحف ..
لكن ، معاناة الاسماك في المياه الضحلة في البيئات الحارة قليلة الاوكسجين الذائب ، والتي تجف تدريجياً على مدار العام ، هي التي انتهت بعد بضعة ملايين من السنين إلى " تخليق " الرئات ..
وبالتالي ، الماركسية الكلاسيكية تصبح جزءاً من الماركسية الانثروبولوجية لان الاخيرة اعمق واشمل ..
الماركسية الانثروبولوجية تقدم " المعاناة البيئية " كاساس في اختيار وصناعة وسائل الانتاج من قبل كل الكائنات الحية وتجعل من وسائل الانتاج نتيجة وليست سبباً اولياً اساسياً ثابتاً في تحريك التأريخ ..
وهكذا ، معاناة الانسان الطبيعية هي التي طورت وسائل انتاجه القديمة على صعيد اجتماعي ، ووسائل انتاجه التكوينية على صعيد جسدي ممثلة في الاعضاء الجسمية المختلفة ، ومنها الدماغ الذي ابتدع وسائل مختلفة للتكيف مع بيئته وتطوير حياته ومنها الاجزاء المنطقية واللغوية للنشاط الدماغي ..
كان من الطبيعي ان تتطور اجزاء القشرة المخية الخارجية تدريجياً بعد الحياة الاجتماعية بما يتناسب و " معاناته " في هذه الحياة بامتداد مختلف الاجناس البشرية بمدى زمني يتراوح بين السبعة والخمسة ملايين عام لموضعة الإنسان الفرد ضمن " الجماعة " ..
فإذا كانت المرحلة الاولى " الزاحفية " فردية بامتياز بغايتها لاجل البقاء ، والثانية " الثديية " أو " اللبنية " هي امومية بامتياز وقد عززت حالة من التوازن لدى الفرد بين الفردية والغيرية لما اشاعته من مناخ " الالفة " في التاريخ الكوني للعقل والدماغ ، فإن هذه المرحلة الثالثة هي المرحلة " البشرية " أو " المنطقية " في مسار تطور هذا التاريخ وقد جائت مكملة للمرحلة التي سبقتها واشاعت الغيرية بشكلها الاشمل ممثلة في ظهور قيم " الاجتماع " التي تحدد طبيعية وقوانين العلاقات الاجتماعية وموقع الفرد فيها ..
لكن ، هل انتهت معاناة الانسان كفرد بظهور هذه المرحلة من تاريخ تطور العقل والدماغ ..؟؟
الحقيقة ، الانسان الفرد دخل في صراعٍ جديد مع التاريخ يضاف لكفاحه الدائب ضد الطبيعة..
إنه صراعٌ مرير وطويل سبق ظهور دويلات المدن الاولى في سومر قبل سبعة آلاف سنة ..
وهو صراع الفرد الواحد .. في مواجهة " الجماعة " ، وكذلك الجماعات المنبوذة .. في مواجهة الجماعات الكبيرة ، وما ادى هذا إلى نشوء " قيم " خاصة وشاذة دعمتها البنية المنطقية اللغوية للعقل البشري في هذه المرحلة ..
وهكذا الدويلات الصغيرة دخلت في صراعٍ طويل .. في مواجهة الامبراطوريات التي شكلتها الجماعات الاكبر ( الدولة ) منذ سبعة الآف سنة في وادي الرافدين ووادي النيل والنهر الاصفر ..
وهكذا ، كان لدينا هذا التناقض بين جنسي النياندرتال والكروماكنون البشريين ..
فبعد ان كانت للنياندرتال خيالاته الاولى التي وجدناها في الكهوف ممثلة في حيوانات عملاقة كثيفة اللحم يحلم في صيدها ، اصبحت " السلطة " و " الجاه " تعقيدات اضافية ومعاناة دائبة يومية تستحث دماغ الجنس الحالي وجنس الكروماكنون الاوربي القديم على زيادة تكييف الدماغ وامكانياته اللغوية المنطقية ..
ربما لهذا السبب ، كانت الاجزاء البصرية اكثر تطوراً لدى النياندرتال ، وربما لهذا السبب كان تطورها على حساب " اللغة " و " التفكير المنطقي " الذي تمتع به جنسنا الحالي ..
فاللغة ، اهم عوامل تأسيس الجماعات الكبرى لدى جنسنا المعروف بالهوموسابينز ..
وقوة جسد النياندرتال ، وقوة بصره ، ربما جعلته صياداً ماهراً لا يحتاج للعمل ضمن جماعات كبرى مثل اسلافنا ، وهو يعني قلة احتياجه إلى لغة معقدة ومصطلحات ومفاهيم اجتماعية متعددة ..
وهو ما يعطينا سبباً ولو بسيطاً على الاقل في الكيفية التي يمكن بها ان ينقرض جنسٌ يتميز افراده بالقوة والقابلية على البقاء بصورة فردية في احلك البيئات الصعبة في شمال الكوكب مثل النياندرتال في مواجهة جماعات افرادها اقل قوة وقابلية على الاحتمال البقاء فرادى .. لكنهم ذوي مقدرة اجتماعية عالية على التنظيم وتحشيد اكبر عدد من الجماعة بسبب العقل المنطقي والتطور اللغوي العامل الاهم في بناء الجماعات ما يضمن لهم ديمومة وبقاء بمقابل اجناس اخرى سواء بالنزاعات المسلحة ( حروب الابادة ) او التزاوج وذوبان الاقلية في الاغلبية ( وهما من نظريات انقراض النياندرتال لدى علماء الانثروبولوجيا ) ..
وشخصياً ، استبعد النظرية الاحدث عن انقراض النياندرتال في كونه استبعد بيئياً في بيئة كان يعيش فيها على الاقل لمئة الف سنة ..!

ما هي المرحلة الرابعة ؟

والسؤال الذي يتوجب علينا اجابته الآن :
ما هي طبيعة المعاناة التي اوجبت تطور الاجزاء البصرية وكبر الدماغ بصورة عامة بما يتفوق على جنسنا الحالي لدى جنس النياندرتال ؟
وهي المرحلة التي نمر بها نحن حالياً ولم تكتمل لدينا بعد ، لكنها ربما تكاملت في جزءٍ منها لدى جنس النياندرتال بسبب البيئة الطبيعية القاسية التي عاش بها في شمال الكوكب لمدة قد تزيد على المئة الف سنة كما كشفت الابحاث الأثرية..
إن اللافت هنا هو تطور الدماغ الخلفي وتنامي حجم الاجزاء البصرية كثيراً بسبب الحاجة المستمرة لاستخدام البصر في تلك البيئة القاسية الباردة المعقدة ..
فبالإضافة لحدة البصر ، يعني تنامي الاجزاء البصرية تطوراً كبير لا يمكن ان نتوقعه نحن في " الاحلام " ..
فضلاً عن تطور الحركة واساليب الجري والانتباه و " الحدس " الذي يتميز به ذهن النياندرتال الصياد ..
هذه كلها تقود إلى تطور مفاهيم هذا الانسان عن الدين والقوى الكونية المسيطرة على الطبيعة..
إن تطور ملكة فائقة للتخيل تتفوق علينا كثيراً تكون مسرحاً لــ " وعي جمعي " يحجم من فردية الانسان ويذوبه كلياً في كيان كلي شامل للوجود ، ممثلٍ في اولى ارهاصات " التدين " التي كانت واضحة بشكلٍ كبير لدى النياندرتال ، إنما يعني إن ما ورثناه من هذه الارهاصات هو فيضٌ قليل من كثير لا تزال البشرية في انتظاره ..
فتطور الاجزاء البصرية من قحف الدماغ كان ربما بمثابة مرحلة " ثالثة " من تطور دماغ النياندرتال مثلما كان تطور الدماغ المنطقي اللغوي هو المرحلة الثالثة لجنسنا نحن ..؟
بالتالي ، هل يمكن ان تكون المرحلة الرابعة هي " المنطقية " التي كانت في بداياتها لدى النياندرتال كمرحلة رابعة غير مكتملة ، بدليل بدائية " اللغة " لدى هذا الجنس كما كشفت هذا الدراسات على جمجمته ..؟؟
وهل يمكن ان المرحلة " التخيلية " البصرية كانت هي المرحلة الرابعة غير المكتملة في جنسنا نحن .. بدليل ظهور " الاحلام " كعرضٍ غامضٍ من اعراض تطور الدماغ المقبل كما ناقشناها في المقالين السابقين " ملكوت الله القادم " ؟؟

الراسمالية والعقل

وفق هذه القراءة ، وهذا المنهج من تتبع مسار تطور العقل البشري كنشاط والدماغ كآلة يصدر عنها هذا النشاط ، فإن الإشتراكية هي ذروة تكامل المفاهيم لدى العقل المنطقي اللغوي في بني البشر ، والرأسمالية وما تنادي به من إفراط في الفردانية يخرج عن سيطرة الدولة تدريجياً ليبلغ ذروة الانفلات في " النيو ليبرالية " ما هي إلا " نزعة " جوهرية متجذرة في صميم تكون " العقل الزاحفي " المتطلع نحو السيطرة والسلطة ضمن دائرة الصراع القديم بين " الفرد " و " الجماعة " ..
الراسمالية مجرد افراز مركب بين المعاناة والحلم بالسيادة ..
معاناة " الفرد " تجاه الظلم والاضطهاد الذي تمارسه الجماعة ضد افرادٍ محدودين ، بدليل ، ان جل الراسماليين الذين اسسوا البنوك واخترعوا الاوراق النقدية قبل مئتي عام كانوا من الاقليات العرقية كاليهود في اوربا أو الدينية مثل البروتستانت الذين يمثلون اقلية مسيطرة كلياً على اقتصاد العالم المسيحي الكاثوليكي الارثوذوكسي ، بل وكل عالم اليوم ...!
أوالمنبوذين من اعراق مختلفة الذين تمكنوا من تاسيس الولايات المتحدة الامريكية ، التي لا تزال البروتستنتية صاحبة الصوت الاعلى فيها وكذلك الاقلية اليهودية ذات القدرة الاقتصادية المهيمنة على اسواق الاسهم والبنوك في عموم العالم الغربي ..
فالبروتستنتية في تحالفها مع الصهيونية العالمية وتكوينهما لكيان عقائدي " سري " مشترك ممثلاً بالجمعيات السرية المتعددة التي انضمت تحت لواء " الماسونية " انما هي انموذج حي و " طبيعي " لبناء هرم اقتصادي عالمي متجانس الصلابة والقوة من الراس وحتى القاعدة ..
الراس الذي تتمثل به هذه الاقليات المتحالفة في قمته ، والقاعدة العريضة التي تمثل المسيحيين والهندوس والمسلمين والكونفوشيين والبوذيين من فقراء وكادحين ..
فهيمنة هذه الاقليات التي كانت تشعر بالاضطهاد ابتدأ بتاسيس مثل هذا النظام الذي يسمح للفرد مهما كان انتماءه وعرقه ولونه ان يسود ، المعاناة كانت هي المبدأ ..
لكن ، السلطة وحب السيطرة والافراط في الفردية امتد وتوسع وتحول إلى " تراجع " قيمي صارخ نحو الفردية المفرطة التي تهدد الكيان البشري ومسيرة تطور العقل الانساني نحو التوحد والعدالة الاجتماعية بالخلاص من الاستغلال " الطبقي " الذي احدثته البنية الهرمية للنظام الراسمالي التي تسمح للاقلية من ان تضطهد الاغلبية كما نشهده في عالم اليوم ..
مع هذا ، هي هيمنة " طارئة " وليست حقيقية في هيكل التاريخ ..مصيرها ان تزول إن عاجلاً او آجلاً ..
لم يبلغ عمر سيطرتها " الفعلي " بعد سوى قرنٍ ونصفٍ من الزمن ، فالتوحد الكلي هو " الغاية " المثلى التي يمضي نحوها التاريخ الاقتصادي على صعيد المجتمع ، والبنية الدماغية المنطقية " اللغوية " الاجتماعية – الاشتراكية في الدماغ والبصرية الكلية الجمعية الشاملة في المستقبل ..

المرحلة الرابعة : الدماغ والدين

في حين كانت اللغة والتفكير والعقلانية افرازات طبيعية للمرحلة الثالثة من مراحل تطور العقل البشري ، المرحلة المنطقية ، فإن الدين لدى الاجناس البشرية عموماً و النياندرتال بوجه التخصيص ، كإفراز لتنامي " الخيال " و " الهواجس " المقلقة لحياته اليومية وما يخوض فيها من معاناة وطموح بواقع افضل ، ما هو إلا مقدمة للمرحلة الرابعة من تطور الدماغ و العقل..
الاحلام والحاسة السادسة " التنبؤية " ، هي المرحلة الرابعة من تطور العقل الانساني ..
الرسالات السماوية ، والديانات عموماً ، وظواهر الباراسايكولوجي كلها افرازات ثقافية لمعاناة الانسان ضمن البيئة الاجتماعية ..
كلها نتاج للتفاعل بين " الدماغ " في الفرد والقيم الموروثة الثقافية ، وبغض النظر عن صدق الانبياء من كذبهم ، فإن الجنس البشري يمضي في عمومه ليكون كل فردٍ فيه " نبي " ..
ولعل اصدق ما يمثل هذه الغاية مقولة المسيح المشهورة :
" من عمل عمل نبي ، اجر نبيٍ ياخذ "
الدين ليس افيون الشعوب " فقط " وفق هذا المنظار ، هو حالة من تخمر القيم والموروث الفكري الثقافي عبر الاجيال نتيجة لتحول الانسان الصاعد من الفردية المطلقة التي سادت في الزواحف .. إلى الكلانية الطاغية العادلة الشاملة التي ستاتي في المجتمع ما بعد الاشتراكي ، والتي ستكون مدعومة من تحولات العقل البشري الإدراكية الدماغية ..
فالمجتمع القريب القادم خلال العقدين القادمين هو المجتمع الاشتراكي الذي سيظهر ما بعد الازمة المالية وتداعياتها الكارثية المحدقة بالإنسانية ، قبل ان تكون الانسانية مؤهلة لما بعده ..

المواضيع القادمة سنتحدث فيها عن هذه التحولات استكمالاً لـ " ملكوت الله القادم ".



#وليد_مهدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملكوت الله القادم(2)
- ملكوت الله القادم (1)
- إمرأةٌ .. أمام مرآة !
- الطريق إلى بابل
- السيناريو الروسي لحرب الشرق الاوسط
- سوريا قاعدة للجهاد الاميركي الجديد !
- بابل و واشنطن و حربٌ على ضفة التاريخ
- البحث عن ملكوت الله (3)
- الإلحاد المزيف و المعرفة
- البحث عن ملكوت الله (2)
- البحث عن ملكوت الله (1)
- من يقود الحرب الامبريالية ؟ آل الصباح وشل الانجلوسكسونية اُن ...
- الوعي الثقافي الإنساني من ديكارت إلى ما بعد الماركسية
- الروحانية و العقل Spirituality and Mind
- الانوثة والروحانية Femininity and spirituality
- النبوة و العقلانية Prophecies and Rationality
- ثوار النيتو .. غرهم في - اميركا - الغرور
- وحيٌ من جهة موسكو ! تجربتي مع الزمن
- التاسع من اكتوبر
- متى ستنتهي الرأسمالية ؟


المزيد.....




- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - وليد مهدي - الماركسية الانثروبولوجية