أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - لؤلؤة الاسكندرية















المزيد.....



لؤلؤة الاسكندرية


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3616 - 2012 / 1 / 23 - 11:20
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
الروايات (14)

د. أفنان القاسم

لؤلؤة الاسكندرية
رواية



إلى ذكرى وليام فوكنر



الفصل الأول

كانت مجرد فكرة الذهاب إلى الاسكندرية تجعلني أغوص في أحلامي، فكم من سنة مضت دون أن أضع القدم فيها، وكم من ذكرى ضاعت دون أن أعيد البحث عنها. لم تستطع كل تلك السنين محو آثار شبابي الأول في نفسي، آثار كُتبت ورائي هناك في مدينة كل الأحلام. قلت لنفسي لقد انتهى الأمر بعودتي إلى ذراعيها، لقد انتهى الأمر بذهابي إلى حضنها، وراح المستحيل، الحلم المستحيل يزهر فيّ حتى أطراف الأصابع. كان الحلم هنا. كانت الأحلام هنا. غُصت في أحلامي الماضية، ومع ذلك كانت الساعة الحادية عشرة صباحًا. اختطفتني كل تلك القصص الغابرة، ومع ذلك كنت أسمع امرأتي بينما أنظر إلى ساعتي وكأني أريد التأكد من أن الزمن لم يزل يجري وأن الحقيقة لا تفعل سوى أن تخلي المكان للذكريات. كنت أسمع امرأتي، وهي تعد طعام الغداء لبنتينا اللتين لن تتأخرا عن الرجوع من المدرسة. كنت أسمعها، وهي تدق هاونها في المطبخ، وأنا أفكر في الاسكندرية التي لم أعد إليها منذ ثلاثين عامًا. كانت تدق. وكنت أفكر. كم من السنين مضت، وكم من الذكريات ضاعت دون أن أسعى إلى إيقاظها وإعادة الحياة إليها في رأسي؟ وتواصل امرأتي الدق، وتستبسل مع مِدَقّها. كانت تسحق على التأكيد بهاراتها مثل كل مرة تعد فيها طبقًا من عندنا. كان طبقًا من عندنا خاصًا بيوم الأحد لما فيه من تعقيد ولما يحتاجه من وقت طويل. لكن زوجتي في إجازة أُمومة لعدة شهور أخرى، وكل يوم لها كان الأحد. كانت كل يوم تفاجئنا بطبق لا نتوقعه. وكانت تواصل ضرب مدقها. توقفت فجأة ثم عادت إلى الدق. كانت تدق، تدق، تدق... وأخذت تناديني، وهي تواصل الدق. كنت أفكر أن البنتين لن تتأخرا عن الرجوع، ولكن ما دامت تدق، طبقها لم يكن بعد جاهزًا. انفتح باب في رأسي. وكانت تدق. وكانت تكلمني من المطبخ، ولكني لا أسمع جيدًا ما تقوله طالما بقيت تدق. سمعت أحد أصدقائي يقول لي شيئًا. ونادتني، وهي تدق. لم أميز بعد وجه ذلك الصديق. وقال لي شيئًا. وكانت تدق، تدق، تدق. وكانت تدق... قال لي شيئًا، ولم أميز وجهه. وتسارعت الدقات في الهاون. كانت تدق... كانت تدق... وقال لي شيئًا، سمعته يقول "إسكندرية". وكانت تدق، تدق، تدق...
في البداية، كانت فكرة الذهاب إلى الاسكندرية أقرب إلى المزاح، لم يكن الأمر جادًا على الإطلاق، لأن رسم حلم ساحر بالكلمات شيء، وقضاء عطلة الصيف في مدينة السحر شيء آخر. لأن الاسكندرية كانت مدينة بعيدة، وبناتي ما زلن صغيرات، لم يغادرن بعد سنهن الهشة التي تظل ثلومة وما يترتب عنها من مخاطر هن في غنى عنها. لم تزل زوجتي تدق، ولم أميز لا وجه صديقي ولا صوته ما عدا ذلك الهمس الخفيف المتصاعد من أعماق الذكريات: إسكندرية. كانت تدق، وتدق. وقررت في النهاية أن أرد على نداءاتها.
- أنا آتٍ! لا تنادي هكذا، ستوقظين البنت، قلت لها صائحًا.
خفت دقاتها، وقالت لي:
- أناديك من أجل هذا. اذهب ورَ إن كانت نائمة، يا عزيزي.
- من؟ إيناس؟
- ومن غيرها؟ اذهب ورَ إن كانت تنام دائمًا. إيناس لا تنام في الليل، وعليها أن تكون بصدد النوم في رأيي.
- ولكن مع هاونك...
- اذهب ورَ إن كانت نائمة، يا عزيزي.
- أنا ذاهب، أنا ذاهب...
وعادت إلى الدق.
- ولكن كُفي قليلاً عن الدق هكذا...
- بهاراتي يابسة، إنها من نوعية سيئة.
- أنت مع ذلك تعرفين في البهارات.
- اذهب ورَ إيناس، اذهب ورَ إن كانت تنام.
- إيناس، إن كانت...
- إن كانت تنام، يا عزيزي.
وعادت تدق، تدق، تدق أيضًا. فتحتُ باب الغرفة التي تنام فيها إيناس بهدوء، ومن ورائي أمها التي تدق، وتدق. تقدمت من دميتي، ووجدتها تنام نومًا عميقًا. ابتسمت لها، بينما تواصل أمها الدق في المطبخ، والدق أيضًا وأيضًا... وبعد ذلك توقف الصخب فجأة. توقفت زوجتي عن الدق، ففتحت إيناس عينيها، وابتسمت لي.
لم تكن زوجتي من تلك النساء اللواتي يركبن الأهوال والأخطار، إلا أنها كانت من الحماس بحيث اقترحت ألا نزور الاسكندرية فقط بل ومدن مصر كلها، ومدن المنطقة كلها. الجزائر كانت تعرفها، وتعرف كل شواطئها شاطئًا شاطئًا، ولكن الشرق، لم تضع فيه قدمها في حياتها مرة واحدة. أضف إلى ذلك أن الاسكندرية كانت كالحلم لها الذي يجدر بها اكتشافه. لم يتحقق الحلم بعد، وفي المستقبل كان قائمًا. توقفت عن الدق تمامًا. ابتسمتُ لإيناس. حملتها بين ذراعيَ، وقبلتها، وعدت أبتسم لها، وعدت أقبلها. ابتسمت لي أجمل ابتسامة. لن يبسط أمها أن تراها بين ذراعيّ.
- لماذا أيقظتها؟ صاحت بي ما أن رأتني أدخل المطبخ والصغيرة على صدري.
- هذا بسببك. لماذا توقفت عن دق بهاراتك؟
- لأن الصغيرة تنام الآن مع الصخب؟!
- فتحت عينيها في اللحظة التي توقفت فيها عن الدق في هاونك. صخب الهاون كالموسيقى كان لها.
- كل هذا الصخب موسيقى؟ يا عزيزي!
- كانت تنام على إيقاع دقاتك.
- اذهب لتضعها في السرير، وبعد ذلك رح لتحضر غيداء ودينة. الساعة تقارب الحادية عشرة والثلاثين، يا عزيزي.
- لن تعود إلى النوم.
- ستعود إلى النوم. لم تنم طوال الليل وعليها أن تغفو من جديد. هذه الصغيرة لا تنام بما فيه الكفاية.
ضحكت إيناس، وهي تفتح عينيها على سعتهما بعد أن طار النوم منهما تمامًا.
- وماذا لو أخذتها معي لإحضار أختيها؟
- لا، عليها أن تعود إلى النوم، يا عزيزي.
- لن تعود إلى النوم، ولكن كما تريدين، سأعيدها إلى سريرها. إنه لخطأك بعد كل هذا. لماذا توقفت عن الدق في هاونك؟
- بعض البهارات لا تُدَق طوال النهار.
- دقي بهارات أخرى إذن.
- أنت تقول أي شيء، يا عزيزي!
- لن تعود إيناس إلى النوم.
- لا تقلق من أجلها، ستعود إلى النوم، يا عزيزي. هيا اذهب لتضعها في السرير وعجل الرواح لإحضار البنتين.
انغلق الباب في رأسي، اختفى صوت صديقي وخياله في اللحظة التي توقفت فيها دقات الهاون. دفعني حماس زوجتي على فكرة قضاء عطلة الصيف في الاسكندرية إلى قول إن شهرًا لا يكفي لرحلة كهذه بعيدة، فاقترحت أن نقدم موعدها، أن نقوم بها في الربيع كي نبقى حتى الصيف. قلت لها أن تفكر في مدرسة البنتين، فوعدت بالسهر على غيداء من أجل إتمام المنهج معها. وفيما يتعلق بدينة، دينة لم تزل في الحضانة، ولن يؤثر ذلك عليها شيئًا. أما إيناس، فستعمل بالطبع على فطامها، وينتهي الأمر. ستحمل زوجتي كل العلاجات الضرورية معها، في حال مرض إحداهن. وزيادة على ذلك، الطب في مصر متطور بمستوى الطب في أوروبا، وكل الأدوية، على عكس الجزائر، موجودة هناك. لكنها تساءلت إذا ما كان بإمكان شقيقتي حسناء استقبالنا بعد الزلزال الذي وقع في القاهرة. أجبت أن الزلزال وقع في القاهرة لا في الاسكندرية والصدوع التي حصلت في جدران بيت حسناء ليست بذي بال. اتفقنا على ألا أكالم أختي إلا بعد أن ننهي أمور الحجز، ونعرف تاريخ وصولنا.
- أنت ما زلت هنا، يا عزيزي؟ سألتني زوجتي.
- لا تريد إيناس العودة إلى النوم.
- عليها أن تعود إلى النوم، لم تنم طوال الليل.
- طيب، ولكنها تبكي.
- دعها تبكي، ورح لتحضر البنتين، يا عزيزي.
- لا أحب أن أسمعها تبكي.
- رح لتحضر البنتين، ودعها تبكي، يا عزيزي. ستتوقف عن البكاء بعد قليل.
- أنا أعرف إيناس، لن تتوقف عن البكاء، ستستمر في البكاء، وأنا لا أحب أن اسمعها تبكي.
- أتركها لي، وأنت، أنت ستذهب لإحضار أختيها، الساعة تجاوزت الحادية عشرة والثلاثين، يا عزيزي.
لم ينفتح باب المصعد، وسمعت أحدهم يدق. هناك من سد المصعد، وبعض الجيران راحوا يدقون، وينادون. انفتح الباب في رأسي من جديد، وعند ذلك عرفت صديقي بوضوح لا أشد منه: كان حاتم. سمعت جيدًا صوته، صوت ناعم كصوت البنات. عدت أعيش تلك اللحظة في نابلس، مدينتي. كان حاتم يقترح عليّ الذهاب إلى الاسكندرية بدله. ستذهب أولا إلى القاهرة، قال لي، وبعد ذلك ستأخذ القطار، وتذهب إلى الاسكندرية. سأذهب إلى القاهرة، وبعد ذلك سآخذ القطار إلى الاسكندرية، قلت له، سأذهب بدلك، ولكن لماذا؟ سأشرح لك فيما بعد، قال لي. أتى شريف، فقلت له سأذهب إلى القاهرة بدل حاتم، وبعد ذلك سآخذ القطار إلى الاسكندرية. قال لي شريف إنه كان يعرف. لم يسألني إذا ما كنت موافقًا: بالنسبة له ليس هناك ما يدعو لعدم الموافقة. هذا ما كان بين الأصحاب: إذا كان عليّ أن آخذ مكان حاتم لسببٍ أو لآخر عليّ أن آخذ مكانه. هكذا كنا ما بيننا نحن الأصحاب. حتى ولو كان ذلك من أجل الذهاب إلى جهنم بدله. كانت الصداقة أقوى من كل شيء. لكن حاتم لم يقل لي لماذا لا يمكنه الذهاب أولاً إلى القاهرة ثم إلى الاسكندرية، ولأي سبب عليّ أن آخذ مكانه. كان يبدو على شريف أنه على علم بكل شيء. لم أجرؤ على سؤاله لماذا لا يأخذ هو مكان حاتم، لماذا كان عليّ أنا أن أذهب بدله، ولأي سبب. لم يكن حاتم يمزح. كنت أراه جادًا فيما يقول، وكانت له سحنة قلقة. لم يكن يمزح. لم يشأ شُرب قهوته. شريف أيضًا لم يكن يمزح، على غير عادته. كان متضامنًا مع حاتم، وأنا، كان عليّ أن أذهب في مكانه إلى القاهرة وبعد ذلك إلى الاسكندرية. لماذا؟ لم يقولا شيئًا. كانا ينظران إليّ كلا الاثنين، وكانا ينظران إلى نفسيهما، وكانا لا يقولان شيئًا. بدأت أشعر بصداع في رأسي، وكلاهما يواصل النظر إليّ، ولا يقول شيئًا.
أخذت الدرج، ونزلت الطوابق العشرة بسرعة، وكأني أزلق في فجوة. زلقت، زلقت، ووجدتني في عصر الاسكندرية. كان الضباب ينسحب من شواطئها، وكانت إحدى البواخر تظهر: لؤلؤة الاسكندرية. كانت الباخرة ترسو غير بعيد من شاطئ سيدي جابر. كانت أضواؤها تتلألأ كالنجوم، وكانت انعكاساتها على صفحة البحر تشدني إليها. كل ذلك كان شيئًا غامضًا بالنسبة لي. دفعني الفضول إلى استجلاء ما تحتوي عليه باخرة كتلك ليست كغيرها من أسرار، وخاصة أنها لا ترسو في أحد مينائي المدينة الشرقي أو الغربي، عندما أتت الأنغام المتقاطعة مع الأمواج بعد أن تتمزق على الرمل.
وبقي حاتم صامتًا بسحنته القلقة، كانت له نظرة قاتمة. ستذهب بدلي إلى القاهرة أولاً وبعد ذلك ستأخذ القطار إلى الاسكندرية. وصَمَتَ. نظرت إلى شريف، لكن الآخر كان صامتًا هو أيضًا. صَمَتُّ عند ذلك، وأخذت أشرب قهوة حاتم بعد أن شربت قهوتي لأخفف من أوجاع رأسي. بقينا دون أن نقول كلمة واحدة خلال ما يزيد عن ساعة عندما دخل المقهى رجل ذو شارب كث أسود، فأشار له حاتم بيده، ثم استدار نحو شريف، وسأله إذا كان الشيء في جيبه. هز شريف رأسه. غدا حاتم أصفر كله كالحامض. أعطني إياه بسرعة! قال لشريف. لمحت عند ذلك من تحت الطاولة مسدسًا صغيرًا يمضي من يد شريف إلى يد حاتم. ولكن على عكس ما كنت أتوقع أبدى الرجل أدبًا جمًا. طلب من حاتم أن يعطيه ألف دولار "خلال أسبوع كآخر أجل". قال حاتم نعم بهزة من رأسه، وهو يفلت المسدس في جيبه. عاد إلى سحنته الاطمئنان، وغادر الرجل بأقصى سرعة.
الاسكندرية، الاسكندرية...
حكيت لزوجتي كيف كان ركاب الباخرة يستقلون قوارب صغيرة من أجل الذهاب إلى الشاطئ كلما أرخى الليل سجوفه. كان الشبان ينزلون منها وعلى أذرعهم تتعلق أجمل الفتيات إلى الملاهي التي كانت تملأ الكورنيش، وكانوا يبقون حتى بياض الفجر. قلت لها إنني لم أر في حياتي أبيض من تلك الفتيات ولا أشف منهن. ابتسمت زوجتي، وبانت في منتهى السعادة. بدا لي أنها كانت تهمس: إسكندرية، إسكندرية... طلبت مني أن آخذها إلى تلك الملاهي، وإلى كل مكان في مدينة إسكندر الكبير يجعلها تظفر بأعظم متعة، وراحت تمني النفس بقضاء أيام هانئة هناك، أهنأ أيام عطلة قضتها في حياتها.
ثم أعاد حاتم المسدس لشريف، ابتسم الاثنان، وتوجه حاتم بالحديث إليّ بسحنة عمها الارتياح، وأعاد عليّ أنني سآخذ مكانه للذهاب إلى القاهرة وبعد ذلك إلى الاسكندرية. عندما رأى أنني كنت على وشك الصياح من غائر كياني، التفت إلى شريف، وطلب منه أن يشرح لي، فشرح لي شريف. قال لي إن حاتم قد جمع عشرة آلاف دولار من أهالي الطلبة المسجلين في جامعتي القاهرة والاسكندرية، وعشرة بالمائة من هذا المبلغ ستعود إليه بما في ذلك الإقامة وتذكرة الطائرة، لكنه صرف نصفه. إذا بدّل خمسة الآلاف الباقية في السوق السوداء الأردنية التي هي مربحة أكثر سيوفق في الدفع للجميع. وعليّ أنا نقل النقود. جسّ المسدس في جيبه، وقال لي إنه حقيقي. أجبته طبعًا، كنت أعرف أنه حقيقي، وأن حاتم كان سيطلق النار على الرجل، وأن جريمة كان يمكن أن تُرتكب، ويلعن دين كل مواخير الخراء التي أنتما منها، وأريد أن أفعل فيكما أنتما الاثنين، واذهبا إلى الشيطان أنتما والاسكندرية! أعاد لي حاتم أنني أنا من يجب عليه أن يمر بالقاهرة أولاً، وبعد ذلك، أن يأخذ القطار إلى الاسكندرية. طمأنني، وبابتسامته الملائكية، قال لي إنني هكذا أقدم له خدمة كبيرة. "الموضوع انتهى مع الرجل، أكد لي. خلال أسبوع سأحصل على إرثي، سيكون بإمكاني أن أدفع للرجل ذي الشارب الأسود والكث." ووعدني على قضاء أجمل أيام عمري في القاهرة ثم في الاسكندرية. لكني لم أفهم كيف سيحصل على إرثه وأبوه لم يزل حيًا يرزق. أكد لي أنه سيرث أباه في حياته، لأن أباه كان يكرهه، ووعدني مرة أخرى أنني سأقضي، خاصة في الاسكندرية، أروع أيام حياتي. فقلت له: "بما أن الأمر كذلك، لماذا لا تنتظر الحصول على إرثك لتذهب أنت بنفسك إلى القاهرة ثم إلى الاسكندرية، ولن يحتاجك ذلك إلى تبديل الدولارات في السوق السوداء؟" قال لي شريف إن أهالي الطلاب لا يمكنهم الانتظار يومًا واحدًا أكثر، أولادهم هناك محتاجون إلى النقود، وبالتالي عليّ أن أسافر أنا غدًا إلى القاهرة وبعد ذلك إلى الاسكندرية. قلت له: "لكن الرجل ذا الشارب الأسود والكث وافق على الانتظار!" أجاب حاتم أن الرجل ذا الشارب الأسود والكث شيء آخر. ولم يحدد لي ما كانه، ذلك "الشيء الآخر". عدت إلى التفكير في المسدس –في المسدس الحقيقي كما قال شريف وكما كنت أعرف- وفي الجريمة التي كانت ستقع، وطلبت من حاتم أن يقول لي ما كانه، ذلك الشيء الآخر الذي بينه وبين الرجل ذي الشارب الأسود والكث. انزعج حاتم، وقال لي أن أهتم بما يعنيني. استعمل معي لهجة مهددة، لكن ذلك لم يتماش مع صوت البنت الرقيق الذي كان له، فالتفتَ إلى شريف الذي كان يجسّ المسدس في جيبه مرددًا بصوته الأجش أن أهتم بما يعنيني، فرميت فناجين القهوة أرضًا، ونهضت. "بما أن الأمر كذلك، فلتذهبا إلى الجحيم، صحت في وجهيهما، لن أذهب إلى القاهرة ولا إلى الاسكندرية!" حافظ حاتم على هدوئه بشكل لا يصدق، وقال لي ليس هكذا يسلك الصاحب مع صاحبه عندما يحتاج إليه. وطلب مني أن أعود إلى الجلوس. "إذن لماذا تخفيان عني ما تخفيان؟" قلت له. "لقد تكلم الرجل ذو الشارب الأسود والكث أمامي، يجب أن أعرف ما هو الموضوع. في حال ما أن يصادفني يومًا في الطريق ويهددني سأعرف كيف أتصرف." لكن حاتم لم يشأ أن يقول لي شيئًا، ودفعني شريف على مقعدي، ويده دومًا على المسدس في جيبه. "لست عدوًا لكما، يا ماخور الخراء! صحت بشريف. ارفع يدك من جيبك!" أطاع، سحب يده من جيبه، وبعد لحظة ابتسم لي، وقال لي إن المسدس لم يكن معبأ بالرصاص. عدت عند ذلك إلى سبهما هما الاثنان، إلى سب العالم، إلى قول إنني لن أذهب إلى القاهرة ثم إلى الاسكندرية، وإنني لا آبه بأهالي أولئك الطلبة الكريهين سبب مشاكل حاتم. عند ذلك تبدل حاتم تمامًا في موقفه، ونعم صوته الراجي فجأة كما يليق بصوته الأنثوي، وطلب مني أن أساعده. لكني كنت أفكر في الرجل ذي الشارب الأسود والكث: لو كان معه مسدس معبأ بالرصاص لكنا في عداد الموتى نحن الثلاثة لأقل خطأ. شريف أيضا بدل لهجته، وقال لي وابتسامة واسعة على شفتيه إن الأشياء لن تصل إلى هذا الحد، وإن الموضوع سيُحل بما أن حاتم سيرث أباه الأسبوع القادم، وأن الألف دولار ستُدفع.



الفصل الثاني

حالما أنجزنا أمور الحجز أخذتني امرأتي من ذراعي من ساحة الأوبرا إلى شارع هوسمان لشراء الهدايا، وبدأت معركة الإنفاق في المتاجر الكبيرة. طقم واحد لشقيقتي حسناء لم يكن كافيًا، ولا قميص واحد لزوجها، أو تيشيرت واحد لابنهما عامر، وفستان واحد لابنتهما برنسيس. أرادت زوجتي أن تكون الهدايا بقيمة المهدى إليهم بل وأكثر بعد كل ذلك الغياب. وكانت قدمها لا تذهب إلا إلى الماركات الكبرى، لأنهم كلهم في مصر يركعون على أقدام ناف-ناف وكريستيان ديور وإيف سان-لوران. في البداية كانت تأخذ رأيي:
- ما رأيك، يا عزيزي؟ مشيرة إلى قميص من الحرير.
- وما يدريني؟
- مليحٌ هذا كقميص لمرتضى، زوج حسناء، يا عزيزي.
- قميص حرير زهري، هذا بالأحرى لحسناء.
- لا تكن ذكوريًا أكثر من الذكور من فضلك، يا عزيزي.
- أنا ذكوري في القمصان!
- هذا اليوم على الموضة، قمصان من الحرير زهرية للرجال. ذكرتني، سأشتري واحدا لمرتضى وواحدًا لك، يا عزيزي.
- كل شيء إلا القمصان الزهرية لي!
- قمصان زهرية من الحرير، من فضلك، يا عزيزي.
- لأن هذا يبدل شيئا، قميص من الحرير زهري؟
- لأن هذا يبدل كل شيء، قميص من الحرير زهري، إذا كنت لا تعلم، يا عزيزي.
- لا، لم أكن أعلم.
- أنت تعلم الآن، هذا يبدل كل شيء، قميص من الحرير زهري. إذا لم يكن قميصًا من الحرير زهريًا، لن يكون القميص الزهري قميصًا للرجال، إذا كنت لا تعلم، يا عزيزي.
- طيب، وبعدين؟
- سآخذ إذن قميصًا من الحرير زهريًا لمرتضى وآخر لك، ولك أيضًا هذا القميص الحريري الأصفر، وهذا القميص الحريري البرتقالي.
- وماذا أيضًا؟
- وهذا القميص الحريري الأسود.
- من الأريح لك أن تأخذي كل التشكيلة!
- عندك الحق، سآخذ كل التشكيلة لك، يا عزيزي.
- هل أصبحت مجنونة أم ماذا؟!
لكنها لم تسمع لي، وصارت في مكان آخر لشيء آخر، وفي كل مرة كانت تأخذ رأيي في هذا الشيء أو ذاك: ومهما كانت إجابتي بنعم أو بلا هي نعم لها، يا عزيزي. وعندما بدأ هذا التبضع اللايصدق يتعبني، ومهما كان جوابي بنعم أو بلا تشتري ما تريد شراءه أصبح رأيي إيجابيا دومًا... ثم لم تعد زوجتي تسألني الرأي في شيء، وخاصة عندما انتهت من شراء الهدايا، وبدأت بشراء ما سيلزمنا من حاجات لهذه الرحلة الكبرى.
وبعد ذلك قال حاتم لشريف أن يقول لي كل شيء بخصوص الرجل ذي الشارب الأسود والكث، وسأله شريف إذا كان متأكدًا من ذلك، فغضبتُ من شريف، وقلت له بأنه لم يكن صاحبًا حقيقيًا. وقال لي حاتم إنه موضوع حساس بعض الشيء، ولهذا السبب كان شريف مترددًا في قوله لي، وهذا لا علاقة له بالصداقة في شيء، وإن شريف صاحب حقيقي، ولأنه صاحب حقيقي، لم يشأ أن يحكي لي الحكاية، لا وحتى لصاحب حقيقي آخر، لأنها في الواقع حكاية فخذين لا أكثر. حكاية فخذين! زعقت. حكاية فخذين، أعاد حاتم هازًا رأسه. حكاية فخذين، أكد شريف. إذا كانت حكاية فخذين احكياها لي سأكون ممتنًا، قلت لهما. لكن حاتم اكتفى بالإعادة مرة أخرى أنها لم تكن غير حكاية فخذين. كررت طلبي: ليحكيا لي حكاية الفخذين هذه، بما أنها حكاية فخذين ليس الأمر خطيرًا إلى هذه الدرجة. وهز حاتم رأسه، وقال حكاية فخذين كهذه حكاية خطيرة، ولهذا السبب كان شريف مترددًا في سردها لي. أخرج المسدس من جيب شريف، وقال لو أنه كان معبأ بالرصاص، وأن الرجل ذا الشارب الأسود والكث لم يبدُ متسامحًا، لأطلق عليه، لأن حكاية فخذين كهذه حكاية خطيرة، وأنه لم يشأ لصاحب حميم مثلي أن يدخل نفسه فيها. وقلت حكايات الفخذين الخطير منها أعرفها، أريد القول سمعت عنها. وسألت إذا كانت البنت عذراء أم عاهرة. وقال لي حاتم كانت الاثنتين عذراء وعاهرة. لم أفهم شيئًا مما يقول، فرميته بدهشتي: " عذراء وعاهرة، هذا شيء لا وجود له!"
استمر ماراثون التبضع أيامًا عديدة إلى أن وجدتُ كل باريس عندي، ليس باريس اللبس فقط وإنما باريس العطر أيضًا وباريس الدهون وباريس المساحيق وباريس كل باقي الماكياج وباريس وباريس وباريس... وباريس الشوكولاطة. يبدو أن المصريين يعبدون الشوكولاطة السويسرية... ولكننا كنا هنا في فرنسا، ورغم أن الشوكولاطة السويسرية موجودة في فرنسا إلا أن ما كانت تشتريه زوجتي شوكولاطة فرنسية. ولكن للمصريين الشوكولاطة الفرنسية كانت شوكولاطة سويسرية. وكانت مبسوطة من نفسها. تفرعت الهدايا من الأقربين إلى الأبعدين، حتى لأصدقاء محتملين افترضت امرأتي الالتقاء بهم هناك في الاسكندرية. وتراكمت المشتريات لبناتنا، مشتريات تتناسب وفصل الربيع وفصل الصيف وفصل الخريف، على اعتبار أننا سنبقى عدة شهور، عدة شهور؟ عدة فصول. كانت التذاكر التي اشتريناها مفتوحة كالحلم الذي كان اسمه "الاسكندرية". وراحت بنتاي تخلطان بين الاسكندرية والجزائر ونيس، وتعيدان بصوت عال على مسمع الجميع ما كنا نقوله أنا وزوجتي بصوت منخفض، فتؤنبهما امرأتي: لا تقولا هذا يا بنات، واخفضا صوتكما يا بنات، يجب ألا تقولا هذا يا بنات، وكونا كتومتين يا بنات. كانت رحلتنا إلى الاسكندرية غالية على قلوبنا ، رحلة لنا وحدنا، لا نريد لأحد أن يعرف بها لشد ما كنا نخاف من مشاركة الآخرين لنا ذلك الحلم الاسكندراني الفريد في نوعه والذي صنعناه قطعة قطعة بأنفسنا ولأنفسنا. هل تسمعاني، لا تقولا هذا يا بنات، واخفضا صوتكما يا بنات، يجب ألا تقولا هذا يا بنات، وكونا كتومتين يا بنات... ولم يكن شيء يؤثر فيهما، كانت الصغيرتان تعيدان بصوت عال ما كنا نقوله أنا وزوجتي بصوت منخفض.
وبعد ذلك تنحنح شريف وقال: لأنني كنت صاحبًا حقيقيًا لم يكن يريد أن يحكيها لي، حكاية الفخذين تلك. فأعدت: حكاية فخذين بخصوص بنت عذراء وعاهرة لم أسمع بذلك أبدًا. كما قال حاتم، أقسم لك، قال شريف، بنت عذراء وعاهرة... إذا أردت، بنت عذراء قبل أن تصبح عاهرة. وقال حاتم بصوته الصغير صوت البنت وبابتسامة عريضة، لأنني أنا. لأنك أنت، ماذا؟ سألت. وواصل حاتم الابتسام، ثم انفجر ضاحكًا هو وشريف. قل له، قال حاتم لشريف. لكن شريف لم يتمكن من التخفيف من ضحكه، كان يضحك كالطفل البالع لبطيخة، ضحكات كبيرة لم يمكنه كبح جماحها، وأخذ حاتم يسبه وهو يضحك، وأخذت أنا أيضًا بالضحك مثلهما، ثم أخذ شريف يضرب الطاولة بيده، فهو لم يعد قادرًا على أن يتمالك نفسه عن الضحك، كان يقول بين ضحكاته "عذراء وعاهرة". ووقف حاتم وهو يضحك، لم يعد قادرًا هو أيضًا على أن يتمالك نفسه عن الضحك، كان يضحك كالبنات الصغيرات في دُور الحضانة عندما يأخذون عصرونة لذيذة، ثم جلس وهو يضرب الطاولة بيده وهو يردد "عذراء وعاهرة"... وأنا كنت أضحك معهما، حتى دون أن أعرف شيئًا من تلك الحكاية. ذهبت أوجاع رأسي، ولكني كنت قد ضحكت كثيرًا لدرجة أن صدغيّ تألما لذلك.
أخبرتُ أختي حسناء على الهاتف بتاريخ وصولنا، فارتبكت، وسألتني أن أؤجل السفر أسبوعين، لأن في بيتها ورشة بسبب الصدوع في الجدران. رفضت بالطبع. كيف ننتظر أسبوعين أكثر مما انتظرنا لدخول الاسكندرية، لدخول حلمنا؟ أسبوعان طويلان! لا ثم لا! كان ذلك وكأنها تريد أن أعلق نفسي على عقرب الزمن وأن أبقى منتظرًا ها هنا دون حراك. أن أعلق الحياة. فساومتني، وطلبت أن أؤجل السفر أسبوعًا واحدًا فقط، أسبوعًا صغيرًا جدًا. كان لا يمثل لها ذلك إلا أسبوعًا جد صغير، ولنا، أسبوع انتظار كهذا كان طويلاً بشكل رهيب، طويلاً بشكل لا يقاس، للأسباب التي ذكرتها: كان كل فضاء الزمن والحياة التي تفصلنا عن حلمنا. أسبوع صغير جدًا، قالت، تكون خلاله قد أتمت ترميم الحجرة التي سنقيم فيها. أخبرتها أن التاريخ المحدد للسفر لا يمكن تبديله لأن الرحلة من نوع "تشارتر" التأمين لا يَدْفَع مقابلها في حالة التأجيل، وقد اخترنا هذا النوع لشدة ما كنا متأكدين من السفر.
وتوقف حاتم عن الضحك، مما أوقف ضحكات شريف فورًا، وبعد ذلك ضحكاتي. ولكن لعدة ثوان فقط. لأن حاتم عاد إلى الضحك بقوة أكبر جارًا إيانا نحن الاثنين في جنون جديد من المرح الصاخب. كان حاتم يردد "عذراء وعاهرة"، وفي كل مرة كان يدفعه ذلك إلى الاختناق من كثرة الضحك. ثم هدأ فجأة، وبصوته الصغير صوت الصبي ذي الخمس السنين رجا شريف أن يحكي الحكاية، والذنب ذنبي إذا ما حصلت لي متاعب بسببهما، ذلك ما كنت أسعى إليه. قلت لحاتم إن الصاحب الحقيقي حقيقي لهذا، ليشارك متاعب الأصحاب الحقيقيين الآخرين. لكن شريف لم يكن متفقًا معي. بالنسبة له، على الصاحب الحقيقي ألا يورط صاحبًا حقيقيًا آخر. قلت له إنني لست متفقًا معه، وإن في الأمر نقاشًا. باختصار، وحكاية الفخذين هذه؟ قال لي إن حاتم افتك عذارة بنت ال... وعاد وحده إلى الضحك بينما كنا أنا وحاتم ننظر إليه بهيئة جادة. عند ذلك قطع ضحكه، وأعاد قول إن حاتم افتك عذارة بنت الرجل ذي الشارب الأسود والكث وصنع منها عاهرة. بِقَبول أبيها؟ سألت. هز شريف رأسه. وهز حاتم رأسه، وقال إن الأب أوقعه في الشرك، ليسلبه الألف دولار. أب كهذا لا يوجد مثله اثنان، قلت. وقال حاتم على العكس هناك الآلاف. وأضاف شريف أن هؤلاء الناس يعيشون في الحاجة، فيعهرون بناتهم. كنت أريد أن أعرف أكثر، فحكاية فخذين كهذه ليست كباقي حكايات الفخذين الأخرى. أين جرى كل هذا؟ سألت. وقال لي شريف أين تريد أن يجري هذا؟ في طريق جنين الذاهب إلى فلسطين.
بعد عدة أيام، جاءت رسالة مستعجلة من حسناء –بالأحرى قائمة كبيرة من المشتريات لهم قبل وصولنا- قطع غيار لتلفزيونهم الجديد كما تقول لكن الرطوبة قرضته، تريننغ شيك، وإنما شيك، لكل من عامر وبرنسيس، وأشياء أخرى سيزهوان بها من طرف "خالو"، شيء لا أدري ما هو لها، شيء لا أدري أيضًا ما هو لمرتضى زوجها، وشيء لا أدري ما هو، وشيء لا أدري ما هو، وشيء لا أدري ما هو... مما أسعد طبعًا زوجتي! هي التي اعتادت تمام الاعتياد على ارتياد المحلات التجارية وتوقيع الشيكات... ومن جديد عادت إلى شراء لها ولنا ما كنا في غنى عنه.
ليلة سفرنا، قلت لزوجتي:
- كم أتمنى لو كنت أحسن العوم!
- وأنا، ماذا أفعل هنا، يا عزيزي؟ سأعلمك، قالت لي.
- لا، ليس من أجل هذا.
- تتمنى لو تحسن العوم، هذا من أجل العوم، لا؟
- لا.
- عندما نتعلم العوم هذا من أجل العوم، يا عزيزي.
- قلت لك لا.
- من أجل ماذا إذن؟ من أجل العوم نتعلم العوم، يا عزيزي.
- كنت أتمنى لو أحسن العوم من أجل الذهاب حتى الباخرة.
- أية باخرة؟ تريد أن تتعلم العوم من أجل الركوب في باخرة؟ لستَ في حاجة لهذا، يا عزيزي.
- بلى.
- أنا لا أفهم، أوضح لي قليلاً.
- لو كنت أحسن العوم لذهبت حتى لؤلؤة الاسكندرية كي أرى ما كان يجري على متنها.
ابتسمت لي زوجتي.
- تظن أن العوم من الصعب تعلمه؟ طَمْأَنَتْني. سأعلمك العوم في اليوم التالي لوصولنا إلى الاسكندرية، لا تقلق من أجل هذا، يا عزيزي.
- ولؤلؤة الاسكندرية، تلك الباخرة، تعتقدين أنها ترسو هناك دومًا؟
إذن وقع حاتم في الشرك، وما حصل جرى في طريق جنين الذاهب إلى فلسطين. أوضح لي حاتم أنه انتبه إليها، إلى البنت، التي كانت تشير لهما من بين شجرات الزيتون. أوقف سيارته، وتبعها. عرب رُحَّل، قال شريف لنفسه الذي كان ينتظر حاتم في السيارة عندما سمعه فجأة يصرخ. وقال لي حاتم إنه صرخ ليس لأن الرجل ذا الشارب الأسود والكث كان يضربه، لا، لم يكن الأمر على علاقة بالرجل ذي الشارب الأسود والكث، ولكن لأنه، هو، حاتم، افتض بكارة البنت، وكانت تنزف، وعرب رُحّل الناحية لم يكن بإمكانهم أن يفعلوا شيئًا لوقف النزيف. عند ذلك صرخ خوفًا على البنت. وعندما سمعه شريف يصرخ، سارع لرؤية لماذا صرخ. وعندما رأى البنت غائبة عن الوعي، نقلها مع حاتم والرجل ذي الشارب الأسود والكث في السيارة من أجل أخذها إلى مستشفى. أضاف حاتم أنهم خلال نقلهم البنت المغمى عليها إلى المستشفى، طلب منه الأب، أي الرجل ذو الشارب الأسود والكث، ألف دولار ليصلح ما فعل وألفي دولار إذا ماتت البنت. ثم قال شريف إنه سب الرجل ذا الشارب الأسود والكث ودعاه بالقواد، وهذا كان يبتسم. لم يكن قلقًا على ابنته إطلاقًا: في الظاهر كان يتمنى موتها لأنه طلب من حاتم ألف دولار مقابل ما فعل وألفي دولار إذا ماتت. وقال حاتم ويا للحظ أن البنت تم إنقاذها وأنه لن يدفع إلا ألف دولار لأنه كان قد صرف نصف نقود الطلاب التي كان عليه نقلها إلى القاهرة ثم إلى الاسكندرية. ثم سكت حاتم وأخذ شريف الكلام وقال إن هذه الحكاية المجنونة دفعت أبا حاتم إلى أن يجعل من ابنه وريثه في حياته وبعد ذلك لا يريد أن يسمع به أبدًا. وسألتُ حاتم إذا ما كان الرجل ذو الشارب الأسود والكث هناك بينما كان يفعل الحب مع ابنته؟ أجابني أنه لم يكن بعيدًا جدًا عن الخيمة التي كان يفعل الحب فيها مع البنت، وأعاد أن ذلك كان شركًا أوقعه الأب فيه، وأن ذلك كان عملة دارجة عند العرب الرُّحَّل. أي بربريٍّ أنتَ! قلت لحاتم. تخترقها وتجعلها يغمى عليها! هذا رجل عن حق وحقيق! وقال شريف إن هذا الحاتم ذا الصوت الأنثوي، نيا... نيا... نيا...، أكثر رجولة من كل الفلسطينيين، وانفجرنا ثلاثتنا ضاحكين.




الفصل الثالث

وهو كان يأخذني في سيارته إلى مطار قلنديا، قال لي حاتم قبل الذهاب إلى الاسكندرية يجب عليّ أن أُمضيَ بعضَ أيامٍ في القاهرة، الوقت الذي أتصل "بزبائنه". زبائنك، أي زبائن؟ سألته. الطلبة إياهم، أجاب. وقال له شريف إن عليه ألا يعتبر هذا مهنة، وستكون آخر "صفقة" له. صفقة، أية صفقة؟ سألت شريف. الدولارات التي يراد نقلها، أجاب. وقلت لهما لا تستلطخا نفسيكما يا صاحبيّ، لا شيء يربط هذا بالتجارة. أنتما تظنان نفسيكما من؟ روتشيلد؟ وقال لي حاتم إنه أبدًا لم يعتبر نفسه روتشيلد، ولكن، بما أنه سيرث أباه في حياته، سيكون لدية الكثير من المال، وعند ذلك سيعتبر نفسه روتشيلد. وقال له شريف اعتبر نفسك روتشيلد إذا أردت، ولكن ليس بنقل دولارات طلاب القاهرة والاسكندرية دومًا. وأضاف إن تلك الرحلة التي سأقوم بها بدله يجب أن تكون الأخيرة. وقلت عنده الحق شريف، وهذه الرحلة التي أقوم بها بدل حاتم ستكون الأخيرة. ولكن حاتم لم يكن ليقول شيئًا، كان يحدق في الطريق التي كانت الحفر في بعضها كثيرة ليتحاشى الوقوع في إحداها. وقال شريف إن على حاتم أن يقوم بتجارة حقيقية بما أنه سيرث أباه في حياته وبما أنه يريد أن يعتبر نفسه روتشيلد. تجارة حقيقية. وسمعت حاتم يهمهم "تجارة حقيقية"، ولم يستطع تفادي ثُلمًا، سارت السيارة عليه، وهزتنا بعنف نحن الثلاثة. أخذ حاتم يسب وشريف قال له انتبه لأن عجلة مثقوبة ستجعلني أفوّت طائرتي. وهززت رأسي، وبدوري قلت لحاتم أن ينتبه لأن عجلة مثقوبة ستجعلني أفوّت طائرتي، عندما سمعناه فجأة أنا وشريف يعلن أنه سيشتري ماكينات لكسر الحجارة وأخرى لخلطها بالقار من أجل إصلاح كل الطرق المحفرة. لكن شريف انفجر ضاحكًا، وسأل إذا ما كانت هذه هي التجارة الحقيقية التي ينوي القيام بها. لست أنت جادًا! وأشار حاتم بإصبعه إلى الصخور الزرقاء التي كانت في كل مكان حولنا، وقال إن هذا البلد لا يخلو من الحجارة، يكفي أن نكسرها وأن نخلطها بالقار من أجل أن نعمل أجمل شوارع في العالم.
- سوف نقطع أجمل شوارع العالم المؤدية إلى الاسكندرية، قلت لزوجتي.
- أنت تقول أي شيء، يا عزيزي! تعجبت زوجتي. للذهاب إلى الاسكندرية سنأخذ الطائرة.
وهي تقف قرب هرم من الحقائب، سمعتها تسألني منذ متى لم أسقِ النبتات في الأصص.
- النبتات ظامئة شديد الظمأ، أضافت وهي تشير إلى نبتة تتدلى أغصانها برخاوة كالشعر الطويل على وجه حزين.
- أوه! إنها بالفعل بالفعل ظمأى، قلت وذهولي كان كبيرًا على مرأى نبتتي المفضلة.
كان ترابها قد تشقق، وزهرها الأبيض الذي أمس فقط كان يرقى بفخر وأناقة على ساقه قد انحنى.
- إنها بالفعل بالفعل ظمأى، يا بابا، قالت لي دينة حزينة لمصير النبتة.
- إنها النبتة التي أحبها الأكثر، قلت.
- أنا أيضًا، هي التي أُفضّل، قالت غيداء ابنتي الكبرى. ماذا سنفعل بها؟
- لن نرميها، ردت دينة.
- آه! لا، لن نرميها، قالت زوجتي. هذه النبتة أُهديت لنا في اليوم الذي ولدت فيه إيناس. اعمل شيئًا من أجلها، يا عزيزي.
- سأسقيها حالاً، قلت.
سارعتُ إلى إحضار الماء، وصببت منه أكثر مما يجب. أردت أن أعيد الحياة في عروقها بسرعة ودفعة واحدة.
- هل ستموت، يا بابا؟ سألت غيداء.
- نعم، هل ستموت؟ قل لنا، يا بابا، قالت دينة.
- لماذا تقولان هذا، يا بنات، تدخلت أمهما التي بدا عليها أنها ارتابت في أمرها فجأة، واستدارت نحوي.
- هل ستموت، يا عزيزي؟ سألتني بصوت راجف. إنها هدية إيناس في يوم ميلادها.
كانت الصغيرة صغر الإصبع إيناس تعرف أننا نتكلم عنها، فراحت تثغثغ لنا أحلى ثغثغة، وهي جالسة في عربتها. نظرت إلى وجهها الريان، وجهها الصغير المفعم بالحياة والحيوية وطمأنتهن:
- لا، لن تموت.
انفجرت ثلاثتهن ضاحكات وبمرح كبير أخذن يساعدنني في سقي النبتات الأخرى.
- سأطلب من حارسة العمارة الصعود لسقيها أثناء غيابنا، قالت زوجتي قبل أن تحثنا على الإسراع، فساعة الذهاب إلى مطار رواسي قد دنت.
وبعد ذلك بدل حاتم رأيه، قال إن على هذه الصخور الزرقاء التي كانت في كل مكان حولنا ألا تُكسر أبدًا من أجل ملء الحفر. من الأفضل تأمُلها على بيوت تُبنى منها، بيوت بواجهات زرقاء وواجهات حمراء. توجد حجارة حمراء قرب البحر الميت، أضاف. رأى منها في كل مكان، في كل مكان، قرب البحر الميت. كان ينتظر أن يعلق شريف على كلامه، لكنه بقي صامتًا. كان ينظر إلى الصخور الزرقاء على طريق القدس، ويفكر في شيء آخر. مما أزعج حاتم، لأنه كان ينتظر أن يقول شريف شيئًا بخصوص البيوت التي يريد أن يبنيها، بيوت بواجهات زرقاء وواجهات حمراء. وبقي شريف صامتًا دومًا. لم ينطق بكلمة واحدة. فاستدار حاتم نحوي، وقال لي ستذهب أولاً إلى القاهرة ثم ستأخذ القطار إلى الاسكندرية. ما أعطيتك من دولارات ثلاثمائة أرها لرجال الجمارك إذا ما طلبوا منك ذلك، ولكن لا تنفقها، ستعيدها لي عند عودتك. أنت، ستنفق قسمًا من الجنيهات المصرية التي تنقلها إلى الطلبة. وعلى أي حال، ستنزل عند أصحابنا، وإلا ما نفع الأصحاب، الأصحاب الحقيقيين؟ وقلت إن الصاحب الحقيقي تجده عندما تكون في حاجة إليه، وأنا صاحب حقيقي. واستدار حاتم نحو شريف، وقال له أن يقول لي إنني لست في حاجة إلى قول ما قلت بما أنه يعرف أنني صاحب حقيقي. لكن شريف بقي صامتًا، وفي النهاية سأله حاتم عما به، ولماذا بقي صامتًا هكذا؟ ولم يجبه شريف، بقي صامتًا. ولكن حاتم قال إنه يظن أنه يعرف لماذا شريف بقي صامتًا. قال لي إن شريف كان يريد أن يقوم بتجارة حقيقية. عنده الحق، أجبت. هل تعرف ما هي التجارة الحقيقية بالنسبة له؟ سألني حاتم. لا، ما هي؟ التجارة الحقيقية بالنسبة له هي تجارة اللحم. تجارة اللحم؟! نعم، تجارة اللحم، قال حاتم وهو يتحاشى في اللحظة الأخيرة ثُلما على طريق القدس. وما أن عادت السيارة إلى وضعها، قال لي حاتم إن شريف كان يريد المتاجرة ببنات العرب الرُّحّل. وعند ذلك فهمت كل شيء. وعند تلك اللحظة، فتح شريف فمه، وقال إن العرب الرُّحّل مستعدون لكل شيء، وببضع مئات الدولارات يمكننا شراء كل بناتهم. هذه هي التجارة الحقيقية.
ذهبت أنا وغيداء ودينة إلى المطار في القطار، وذهبت امرأتي مع إيناس في سيارة خالها. تركنا أمكنتنا للحقائب العديدة التي لن تسعنا وتسعها، وعلى الخصوص أن سيارة الخال عجوز تلهث من حمل صاحبها، فكيف من حملنا كلنا؟
في مطار رواسي، أخطأت في ركوب الحافلة المكوكية إلى النهائي الذي سنطير منه. بدأنا ندور أنا وبنتاي وكأننا ندور في دوامة، وأضعنا وقتًا كبيرًا. إذن كانت تلك هي التجارة الحقيقية بالنسبة لشريف، تعهير بنات العرب الرّحّل. كنا ندور. وقلت لشريف إنه قذر، وإن لدى حاتم الحق أن يرفض. وأصبحت الطائرة على وشك الإقلاع، ونحن ندور على متن حافلة مكوكية لكل نهائيي المطار. لكن حاتم قال إنه لم يرفض، لم يقل لا، لا ولا نعم. وكنا ندور، وقلت لحاتم إنه قذر هو أيضًا. وكنا قد وصلنا إلى المطار، والحافلة المكوكية تدور، وبدأ القلق يبين على وجه بنتيّ. كنا على وشك أن نفوّت طائرتنا، ونخسر تذاكرنا، فنحن لم نعمل تأمينًا على كل ما هو طارئ. وأخذتُ حقيبتي، وتركت حاتم وشريف من ورائي، وهما يناديان عليّ، ولكننا تركنا الحافلة المكوكية، والصاحبان يناديان عليّ، وبدأنا نركض أنا وبنتاي كالمجانين، وتقدمتُ من مكتب تسجيل الحقائب. لكني لمحت من بعيد الخال وهو يبتسم. سجلت حقيبتي. كان يقف على الرصيف، وهو يحرك يده طالبًا منا عدم الإسراع. وسارعت لأعبر الحدود، والصاحبان يناديان عليّ. وأنا أرميهما بكلمات: ما أنتما سوى قذريْن، ولو لم أكن صاحبًا حقيقيًا لعدت إلى نابلس، تلك المدينة العاهرة. هذه هي التجارة الحقيقية لكما، تجارة العاهرات في مدينة عاهرة. مدينة ماخور! هذه هي التجارة الحقيقية! أبلغني الخال أن متسعًا من الوقت لم يزل أمامنا بما أن موعد الإقلاع قد تأجل. صاحب حقيقي. تجارة حقيقية. ماخور حقيقي! صاحب ماخوري وتجارة ماخورية ومدينة ماخورية! ووجدت نفسي وجهًا لوجه مع المحقق في مكتبه الذي يطلب مني الجلوس. استأذننا الخال بالذهاب دون أن ينتظر إنهاء معاملات سفرنا. أصحاب حقيقيون. كانت في جيبي عشرة آلاف جنيه مصري، وقلت للمحقق إن كل ما معي ثلاثمائة دولار. سألني المحقق وهو يقطب حاجبيه إذا ما كنت متأكدًا مما أقول. قلت إنني متأكد، وفي داخلي كنت أسب الأصحاب الحقيقيين. لم يقولا لي شيئًا، لم يقولا لي إنني سأجد نفسي أمام محقق، القذران، قوادا بنات العرب الرّحّل، لم يقولا لي إن ضابطًا ذا شكل بربري سيستجوبني وسيسألني إذا ما كنت أنقل جنيهات مصرية. لم يحدثاني عن المخاطر التي تواجه من ينقل النقود، لم يكلماني على الخصوص عن خطر الذهاب إلى المعتقل إذا ما وجد هذا الفاشستي النظامي معي عشرة آلاف جنيه مصري كما كشف لي على اعتبار أن الأمر يعتبر تهريبًا في عرف القانون. تجارة عاهرة! وأكدت أنه لا يوجد معي غير ثلاثمائة دولار وأردت أن أريها له وقال لي إنه لا يريد أن يرى الدولارات ولكن الجنيهات المصرية التي أحملها وقلت له إنني لا أحمل جنيهات مصرية، وبدأت الآلاف العشرة من الجنيهات المصرية تسخن في جيبي، تُسَخِّن لي أضلعي. وسمعته يقول إنه سيفتشني فابتسمت وقلت إن بإمكانه أن يفتشني لأن لا شيء عندي أخفيه. أصحاب عاهرون! لن يجد عندي سوى الثلاثمائة دولار، ووضعت يدي في جيبي لإخراجها وفي الوقت ذاته لمست آلاف الجنيهات المصرية العشرة. أصحاب عاهرون! أصحاب حقيقيون هؤلاء العاهرون، قذرون حقيقيون! ولمست بأصابعي حزمة النقود وابتسمت وقلت للضابط البربري إذا رغب في أن أفرغ جيوبي أفرغتها. وهو كان يردد المعتقل، يهددك خطر المعتقل. وأنا كنت أبتسم وأقول ليس عندي سوى ثلاثمائة دولار ها هي، وأصابعي بقيت جامدة حول الرزمة الضخمة للأوراق النقدية المصرية. أصحاب عاهرون! وهو كان يردد المعتقل، يهددك خطر المعتقل.
المعتقل. المعتقل.
ونحن نجتار حاجز الشرطة، أخبرتني زوجتي أنها بكت: عندما رأت أننا تأخرنا كانت متأكدة من عدم ذهابنا إلى مدينة أحلامها، الاسكندرية. حاولت التخفيف عنها قائلاً ليس هناك ما هو مؤكد مع رحلات التشارتر، وهمنا الوحيد هو ألا ينتهي انتظار حسناء وزوجها لنا في مطار القاهرة بإتعابهما. عندما تذكَرَتْهما أضاءت بسمتها. كانت لا تبالي بانتظارهما لنا أكثر مما كان متوقعًا، كان ما يهمها أن يكون هناك أحد لاستقبالها على الطرف الآخر من العالم. تمنت أن نصل سريعًا بعد كل ذلك الانتظار، بأسرع ما يمكن، والبنات من حولنا يلعبن ويصرخن من عِظَمِ سعادتهن على فكرة أن نجد أنفسنا في بلاد الفراعنة خلال بضع ساعات. قلت لزوجتي سنصل خلال أربع أو خمس ساعات، فكوني مطمئنة. وأردت حمل إيناس، لكنها رفضت. شدتها إلى صدرها وقالت لها إنها تحبها كثيرًا وعليها أن تبقى عاقلة فلا تعذبها. أخذت إيناس تضحك، وتضيء بعض اللآلئ في ثغرها الصغير. رمت بنفسها بين ذراعيّ، وهي ترمي أمها بنظرة ماكرة. كانت تسعى إلى إثارة غيرتها. ولما فهمت الأم، اختطفتها مني، وراحت تعضعضها من وجنتها، والصغيرة تطلق أعذب ضحكاتها.



الفصل الرابع

في النهار، كنت أرى بعض البحارة على ظهر الباخرة، ولم يكن أحد يبين من الركاب حتى ساعة متأخرة من بعد الظهيرة. كانوا يسهرون معظم الليل تقريبًا، وينامون معظم النهار تقريبًا. رأيت راكبين أو ثلاثة يقفزون في البحر، وبعض الفتيات جئن ينظرن إليهم من وراء المتراس. أخذوا يتخاطبون، ويتضاحكون. كنت لا أسمع جيدًا كلامهم، فلم أعرف بأية لغة كانوا يتكلمون. كنت أغبطهم. كنت أتمنى لو ألقي بجسدي في خضم الماء الصافي، وأذوب بتلذذٍ في زرقته.
في ذلك اليوم، مشيت طويلاً على الكورنيش دون أن أهتم بالعابرين. كنت أغوص في أحلامي دون أن أحس بسوط الشمس. كانت تلسع رأسي صور الفتيان المتأبطين أذرع أجمل فتيات العالم على متن لؤلؤة الاسكندرية، والميناء القادم الذي ستقف فيه الباخرة: أثينا، مارسيليا أو روما. اجتاحني ظمأ لا يروى إلى الرحيل، إلى اللحاق بنجمة البحر أينما ذهبت. تمنيت أن أعيش تعاقب الفصول في المدن البعيدة، وأرى الفرق بين ربيع هذه المدينة أو تلك، صيف هذه المدينة أو تلك، خريف هذا المدينة أو تلك. كان زمن الاسكندرية يدعوني إلى اكتشاف كل أزمان كل مدن العالم، ويؤجج في نفسي رغبة لا تروى في السفر وطرق أبواب المجهول.
والمحقق يردد المعتقل، يهددك خطر المعتقل، فالأمر يعتبر في عرف القانون تهريبًا، وكم من مرة أُلقي فيها شبان مثلك في المعتقل لأنهم يقومون بتهريب الجنيهات المصرية. وقلت إنهم حتمًا طلاب بحاجة إلى النقود من أجل متابعة دراستهم هناك، ولكني أنا لست طالبًا، أنا سائح وليس معي سوى ثلاثمائة دولار من أجل إقامة قصيرة في القاهرة ثم في الاسكندرية. وقطب المحقق حاجبيه أكثر، وقلت لنفسي لقد ارتكبت حماقة. لم يكن من اللازم قول إنني كنت سائحًا، فالسائح يمكن أن يسمح لنفسه بتهريب الجنيهات المصرية مرة كل سنة أو كل سنتين، ويمكن أن يستنتج المحقق أن الثلاثمائة دولار كانت عمولتي. أصحاب حقيقيون! لم يكلماني عن كل هذه المصيبة، لم يقولا لي ألا أقول إنني كنت سائحًا، لم يحدثاني عن خطر المعتقل. ووقف المحقق فجأة، فسحبت يدي من جيبي، وغدوت أصفر اللون كحاتم في ذلك اليوم عندما رأى الرجل ذا الشارب الأسود والكث يصل إلى المقهى، ولكني بقيت أرسم على شفتيّ ابتسامة طبيعية. لقد وقعت! قلت لنفسي. إنه المعتقل. هؤلاء هم الأصحاب الحقيقيون، التجارة الحقيقية، التجارة الحقيقية لعاهرات بنات العرب الرّحّل في مدينة عاهرة. ماخور! أصحاب عاهرون ومدينة عاهرة! وفتح المحقق الباب بحركة حانقة كمن يريد طردي، وقال لي بلهجة مهددة إن علي أن أنتبه في المرة القادمة، ولن يكون الأمر أشبه به اليوم. كان يعرف... كان يعرف، هذا الفاشستي الذي ليس كغيره... كان يعرف أنني كنت أحمل أوراقًا نقدية مصرية، كثيرًا من الأوراق النقدية، كان يعرف. أصحاب عاهرون! وتركني أذهب.
كانت الطائرة تطير فوق محيط من القطن، وزوجتي إلى جانبي تتنهد، وتقول إنها تركت كل الغيم في باريس، وإنها ذاهبة إلى شمس الاسكندرية، لتحرق لها الشمس بدنها، وتشويه. كانت تتهلل، في منتهى السعادة. قطعتُ حبل الصمت الذي خيم علينا فجأة وقلت:
- قمت من النوم على صفارة الباخرة التي تقول لنا وداعًا، ورأيت لؤلؤة الاسكندرية، وهي تغرق في ضباب الصباح الباكر. كانت تشق عُرض البحر، وأنا، بقيت واقفًا في مكاني، أنظر إليها دون حراك إلى أن ابتلعتها الأمواج.
تعلقت زوجتي بذراعي، وابتسمت.
- أنت تحب البحر.
لم أجبها. بين ذكراي وابتسامتها اخترت الصمت.
- أنت تحب البحر، أعادت. لماذا لم نسافر إلى الاسكندرية بالباخرة من مارسيليا طالما أنك تحب البحر؟ لقد ارتكبنا خطأ، يا عزيزي.
- أنا أحب البحر، نعم.
- أنا لا أحتمل دوار البحر، ولكني من أجلك، أنا مستعدة لكل شيء، يا عزيزي.
- نعم، أحب البحر. أحب على الخصوص...
أعادتني إلى أرض الواقع نقرات خفيفة على زجاج النافذة في الشقة المجاورة. رأيت مريم تشير بيدها إليّ، فابتسمت. لم أكن في الاسكندرية إلا لعدة أيام، وكان صديقي أَلِكْسْ الذي أنزل عنده قد قال لي إنه مغرم بمريم، وإن مريم فتاة صعبة. ابتسمت لها، وأشرت إلى الباخرة التي تركت الشاطئ تاركة في نفسي فراغًا كبيرًا من ورائها. فتحت مريم النافذة، وقالت لي إنها هي أيضًا تعودت على وجودها. ثم نادتها أمها، وذهبت بسرعة.
- أحب على الخصوص زرقته التي تمتد إلى ما لا نهاية.
- أنت تحب البحر.
- نعم، أنا أحب البحر.
كانت الرحلة إلى القاهرة طويلة، فقمنا من وقت لوقت، وقعدنا، قمنا لنقوم بدورة، لنخدع الوقت. تحدثنا مع الركاب من حولنا. أقامت بنتاي الصغيرتان علاقات سريعة مع بنتين صغيرتين أخريين فرنسيتين كانتا بصحبة أمهما في المقاعد المقابلة لمقاعدنا. أخذن يضحكن معًا، ويلعبن. قالت الأم إنها تعبد القاهرة، وإنها ليست رحلتها الأولى إلى مدينة الأهرامات. أخذت البنتان تعدان الدقائق الباقية على وصولنا، وتقولان إن مصر أجمل بلد في العالم، وإن ناسها أطيب ناس في الدنيا. تضاعفت سعادة زوجتي على سماعهما، وعاتبتني لأنني لم آخذها إلى مصر من قبل. قالت إنها ستزور القاهرة، قلت لها وهو كذلك. النيل، قلعة الفاطميين، الأهرامات، قلت لها وهو كذلك. خان الخليلي، حي السيدة زينب، جامع سيدي الحسين، قلت لها وهو كذلك. رَفَعَتْ إيناس إلى أعلى ما يمكن، والصغيرة تضحك من كل قلبها.
بعد الظهر، قفزت مريم من النافذة، وقطعت الشرفة المؤدية إلى حجرتي لترتمي بين ذراعيّ. أهذه هي الفتاة الصعبة؟ قالت لأننا نحب نحن الاثنين الباخرة نفسها. ولكنها في الواقع وقعت في غرامي منذ اللحظة التي رأتني فيها، اعترفت لي. كانت الفتيات المصريات رومانسيات ككل شعب الحشيش والشمس والملح. رومانسيات فوق اللازم. كانت أمها تقيل، وأَلِكْسْ في الكلية، كلية العلوم السياسية. قضيت إذن كل بعد الظهر، وأنا أقبلها. عندما علمت أنني أعبر الاسكندرية عبورًا، طلبت مني أن آخذها معي. رومانسيات بالفعل فوق اللازم. أول لقاء، أول مداعبة، أول قبلة، وها هي تطلب مني أن آخذها معي. حتى إلى آخر الدنيا كانت تريد أن آخذها معي. اقترحَتْ أن أطلب يدها من أمها وأن آخذها معي. كانت مريم جميلة، خروبية الشعر، وعينها عسلية. كانت طويلة، وجد مثيرة.
- أمك لن توافق، قلت لها.
- ستوافق، أجابت وهي تقبلني.
- أمك لن توافق وأنا، لم أستعد بعد للزواج.
- لماذا؟
- لماذا ماذا؟
- لماذا لن توافق أمي، لماذا لم تستعد بعد للزواج؟
- لن توافق أمك لأنني لن أبقى في الاسكندرية مدى العمر، ولم أستعد بعد للزواج، عمري لم يتجاوز التاسعة عشرة.
- العمر لا يهمني، وأمي...
- ولكني أنا يهمني، بلا شهادة، بلا عمل، بلا مستقبل واضح، أنا لا أستطيع الزواج وعمري لم يتجاوز التاسعة عشرة.
- إذن سأهرب معك بالانتظار.
- بانتظار ماذا؟
- بانتظار أن تكبر قليلاً.
ضحكتُ، وهي تبكي. ذرفت دموعًا حارة. قالت إنها ستنتحر إذا ما تركتها.
عندما عاد أَلِكْسْ، حكيت له كل شيء.
- هذه البنت مجنونة، قال لي.
نصحني بالابتعاد عنها.
- أنت تقول هذا لأنك تحبها، قلت له.
- لا، أقسم لك، لم أعد أحبها. ويا لحظي، لأن الزواج لمن هم في عمرنا شيء غير مريح أبدًا. هذه البنت مجنونة ككل المصريات.
أخذني إلى مطعم يوناني في محطة الرمل. كان المطعم يوجد في زقاق مبلط، مغسول بالصابون، رائحته كانت لطيفة. أخذنا مجلسًا على الرصيف لنأكل كبابًا لذيذًا. مرت أمامنا كوكبة بحارة تسبقها جوقة عسكرية، فعلا الصخب حتى وصل سقوف الاسكندرية. أتى الناس من كل ناحية، وملء وجوههم الفرح والابتهاج. وبعد ذلك، أركبني أَلِكْسْ حافلة حمراء ذات طابق لنذهب إلى قصر الملك السابق فاروق، المنتزه، وقد تحول إلى متحف. صعدنا إلى الطابق العلوي، وتأملنا شوارع الاسكندرية الجميلة والنظيفة. وأعاد لي أَلِكْسْ أن عليّ أن أبتعد عن مريم. على الرغم مما يدعي، كان يحبها. ولكن ليخفي مشاعره، تظاهر بالحديث عن شيء آخر، وأخذ يقارن بين نابلس والاسكندرية.
- لولا البحر، قال أَلِكْسْ، لقلت عن الاسكندرية نابلس للتشابه الكبير بينهما.
- لولا جبلينا، تريد القول، أجبته.
لم يعلق، لكنه قال لي للمرة الألف إن عليّ أن أبتعد عن مريم.
استعرنا طريقًا مشجرًا إلى قصر المنتزه، أشجار كثيفة، أشجار كثيرة، عملاقة. كان بعض العشاق هنا وهناك. وأَلِكْسْ:
- عليك أن تبتعد عنها.
هذه المرة، لم أعلق أنا. قطعنا الحدائق بسرعة لنجد أنفسنا أمام قصر متواضع ذي طابقين. شدت انتباهي ظِلّة في وسط الباحة. قال لي صديقي هناك كان الموسيقيون يجلسون ليعزفوا أجمل الألحان، فتخيلت كيف كانت تتمارى في أمواج البحر القريبة أجساد أجمل الفتيات. رافقنا دليلٌ كان أقرب إلى الحارس. أدخلنا أول ما أدخلنا إلى المطبخ من باب خلفي صغير. أرانا مصعدًا صغيرًا كان الطباخ يرسل الأطباق بواسطته إلى الطابق العلوي، ثم جعلنا نصعد على درج واسع، وأرانا الغرف الملكية واحدة واحدة. أكثر ما شدني حمام الملكة ناريمان الفستقي الرخام، وحمام الملكة نازلي الوردي الرخام، كما شدني السيف الذهبي المرصع بالجواهر هدية الملك سعود. قال لنا الدليل قبل أن يغادر الملك المخلوع دون رجعة حمل معه ما خف وزنه وثقل ثمنه. أشار إلى الميناء الخصوصي للقصر، وقال من هنا ركب الملك يخته، وأبحر كيلا يعود أبدًا.



الفصل الخامس

عدنا إلى سيدي جابر في ساعة متأخرة من الليل، كانت الليلة زاهرة، وكان الناس يستمعون إلى أغنية جديدة لأم كلثوم. كانوا جالسين على شرفاتهم أو عتبات عماراتهم، في جو من الابتهاج والمرح. قدم لي أَلِكْسْ عصير مانجا، فشربت من دم إفريقيا الحلو، ثم أخذني إلى الملاهي الليلية. كنا ندخل للحظات قليلة، فنلقي نظرة على الراقصة التي كانت تنهض للرقص أول ما ترانا على موسيقى الأوركسترا العازفة لنا وفقط لنا. وكنا نخرج حالما يتقدم النادل منا، فيقع كل شيء في الصمت كما كان. في ليلة كتلك حيث يصدح صوت أكبر مغنية شعبية في كل البيوت من شبابيكها المفتوحة، ما كان الناس ليذهبوا إلى مثل تلك الأماكن المغلقة. جاءنا من ناحية الشاطئ غناء صبي بلغة أوروبية، كان له صوت يقطع الفؤاد كصوت الناي. ها هو منافس لأم كلثوم، قال لي أَلِكْسْ، وهو يبتسم بمرح. كان شيئًا مستحيلاً الوقوع على منافس لمن يملك صوتًا ماسيًا إلا في تلك الليلة المرصعة بالنجوم، وبمناسبة لحدث غير عادي. وفي الواقع، كانوا يحتفلون بعرس يوناني. رأينا العروس والعريس جالسيْن تحت عريش، ومن حولهما باقات ضخمة من الورود. قدموا لنا ليمونادة، وحلوى باللوز. بقينا قليلاً، ثم عدنا نسير على الكورنيش. ونحن ننظر إلى الوراء من بعيد، رأينا لمبات العريش الملونة التي تضيء ضوءًا ضعيفًا في الليل، وسمعنا الأمواج التي تذوب ذوبًا عميقًا في الرمل.
كانت العمارة التي يسكن فيها أَلِكْسْ عمارة صغيرة من ثلاثة طوابق، ومن حولها حديقة كبيرة تطل على الكورنيش. كان لها باب زجاجي كبير ومدخل كبير بمرايا في كل مكان، وكانت أرضه من الرخام. كان البواب أسود، وكان يرتدي بزة رسمية بأزرار مذهبة كبزة الحرس الجمهوري. لم يكن هناك في تلك الساعة، بينما مريم، هي، كانت على الشرفة بانتظاري. عندما لمحها أَلِكْسْ همهم شيئًا من نوع "أنظر لي هذه المجنونة!" وعتمت ملامحه. ثم سمعته يقول "ابتعد عنها!" لكني فعلت العكس مما يقول. فتاة تنتظرني إلى تلك الساعة المتأخرة، كان ذلك شيئًا فوق العادة بالنسبة لي. قالت لي إن أمها نامت منذ قليل، منذ انتهاء أغنية أم كلثوم الماراثونية، أغنية دامت ساعات وساعات، ككل الأغنيات الأخرى لتلك المطربة المعجب بها أيما إعجاب شعب الحشيش والشمس والملح. كانت كل أغنية جديدة للصوت الماسي عيدًا لكل ذلك الشعب الرومانسي، وقد قورن ذلك الصوت بالمخدر، وحكومة تلك الأيام كانت تخدر الناس، وهي تغض نظرها عن تعاطي الحشيش، وتبث أغاني أم كلثوم من كل المحطات الإذاعية. كانت تلك الحكومة "الثورية" تريد تأميم صوت الماس لحسابها الخاص! وبعد ذلك، تركتني مريم أدخل إلى حجرتها. قضيت باقي الليل معها، وأنا أقبلها. كانت تقبلني، وتبكي. ومن جديد، هددت بالانتحار إذا تركتها.
وصلنا إلى مطار القاهرة، وأخذ الركاب يصفقون للقبطان عندما حطت الطائرة بنا على الأرض المصرية، غير أن دينة أخذت تبكي لألم شديد في أذنيها. حملتها، بينما حملت امرأتي إيناس، وغيداء راحت تقفز أمامنا. اختفت البنتان الفرنسيتان وأمهما مع شخص أتى حتى قدم سلم الطائرة ليأخذهن. كنّ ربما أفراد عائلة دبلوماسية. ولكن ما شد انتباهنا أكثر هواء القاهرة الساخن الذي راح يداعب وجوهنا. شممنا في الهواء رائحة الرمل والملح ورائحة النيل، وابتسمنا لبعضنا خدرين. لم تدم تلك السعادة إلا بين خروجنا من الطائرة ودخولنا إلى بناية المطار، وعلى التحديد حتى مرورنا أمام ضابط الحدود الذي سألني، دون أن أتوقع أبدًا مثل ذلك السؤال، ما هو بلدي الأصلي. أجبته، لكنه أعطى جوازاتنا إلى شرطي اختفى في الحال، وحثني على الذهاب إلى قائد المطار كي أحل "مشكلتي" معه. بالطبع، كنت أعرف كم كان حقد بعض المسئولين المصريين كبيرًا على كل فلسطيني، وكيف كانوا يمارسون سياسة التمييز في حقه. كنت أعرف ما يلحق الفلسطينيين من تعذيب في أقبية المطار، وكنت أتابع البؤس المحيق بكل فلسطيني مقيم في البلد أو عابر. ولكن فيما يخص واحد مثلي، واحد معروف في العالم العربي، وفوق هذا حامل لجواز سفر فرنسي، الحق أنني لم أتوقع ذلك.
سألت الضابط أية مشكلة عليّ حلها، وأنا لدي تأشيرة حسب الأصول.
- مشكلتك، مشكلتك، ردد الضابط بنبرة جافة.
- ولكنه جنون، يا عزيزي، قالت لي زوجتي.
صحت:
- أية مشكلة؟
وزوجتي للضابط:
- الآخر، الأشقر الذي تركته يعبر، له نفس جواز زوجي ونفس الفيزا التي تعطيها قنصليتكم للفرنسيين.
- اذهبوا لرؤية القائد وحلوا مشكلتكم معه، ألح ضابط الحدود.
- ولكن أية مشكلة؟ أية مشكلة؟
- مشكلتكم.
أخذت بناتي يبكين. قبلني من وجنتيّ أحد المسافرين التوانسة في اللحظة التي بدأنا فيها نصرخ ونقول نريد الاتصال بالسفارة الفرنسية. أخيرًا أتى القائد، وهو يلوح بجوازاتنا، وقال لي إنني أسأت معاملة الضابط، وإنه شخص مثقف، عنده ليسانس في الأدب، وفوق هذا هو صاحب رتبة. طلب أن أستسمحه، وزوجتي كلها دهشة لم تتوقف عن ترداد "ولكنه جنون، يا عزيزي... ولكنه جنون..."، وإيناس انفجرت تبكي. لمغادرة المطار بأقصى سرعة، كنت مستعدًا لكل شيء. أدخلني القائد في صندوق ضابط الحدود، فقدمت نفسي، وما أن عرفني الرجل حتى تبدل في سلوكه نحوي تمامًا، وقال إنه قرأ بعض أعمالي. عند ذلك، ألقى القائد عليّ تحية عسكرية.
- نحن كلنا أنت، يا سيدي الكاتب، قال لي. في المرة القادمة تعال عندي مباشرة أختم لك جوازك دون المرور بشرطة الحدود.
لم تتوقف إيناس عن البكاء. كنت أرمي إلى الذهاب بكل وسيلة، بينما زوجتي تردد دوما "ولكنه جنون، يا عزيزي... ولكنه جنون، يا عزيزي...".
في الخارج، كانت حسناء ومرتضى وبرنسيس وأخوها الأكبر عامر على أحر من الجمر بانتظارنا، فالكل خرج ما عدانا. وزوجتي: "ولكنه جنون، يا عزيزي... ولكنه جنون، يا عزيزي...". وكان سامر، زوج أخت مرتضى، هناك أيضًا، فكل هذه الحقائب التي لنا كانت تحتاج إلى سيارتين. ولكنه جنون، أعادت زوجتي أيضًا وأيضًا في نفس الوقت الذي كانت فيه تضم الجميع. شرحت ما حصل بينما امرأتي تردد دون أن تتعب "ولكنه جنون...". وهم، بكوا. لم نر بعضنا منذ سنوات طويلة. ونحن، بكينا. ثم ضحكنا جميعًا. ضحكوا، وضحكنا. توقفت امرأتي عن ترداد "ولكنه جنون". وَجَدَتْ برنسيس ذات الثمانية العشر ربيعًا جميلة وجديرة بالعبادة. كان عامر يخبئ نفسه من ورائها. كان عامر منغولي الخلقة. نظرت بناتي إليه، وتوقفن عن البكاء. عامر لم يضحك، ولم يبك. كان يخبئ نفسه من وراء أخته، وينظر إلينا.
ركبنا سيارتي البيجو البيضاوين اللتين بعمر أمي، وانطلقنا بعيدًا عن المطار. كانت شمس القاهرة على وشك المغيب، وكان عالمها الفرعوني ينبض كالقلب على مقربة منا. كنا نحس به، وهو ينبض، في كل مكان من حولنا. كان الماضي المجيد لهذا البلد العظيم هنا دومًا، لا يمحي مع الشمس الغاربة، منذ أربعة آلاف سنة، وهو لا يمحي. كان هنا، في كل ناحية. كنا نشمه عبر رائحة الرمل والملح. كان هنا، ذلك الماضي المجيد. كان حاضرًا. أدركته تحت شكل راقصة تارة، وتارة تحت شكل طائفة من المشيدين الرافعين على ظهورهم هرمًا أو مسلة. ونحن نشق الأوتوستراد المؤدي إلى مصر الجديدة، فكرت أنني أخيرًا في القاهرة بعد كل تلك السنين من الغياب، عشرات السنين، وكأنها لم تكن، فما موقع الزمن في زمن هذه المصر الخالدة؟ وهل للزمن من أثر غير أثر ريشته على أجسادنا؟ كنت أذهب على وَرِكِ القاهرة، وهواء القاهرة يمس وجهي مسًا خفيفًا، ومعه الذكريات، هذه الذكريات التي كدت أنساها.




الفصل السادس

كنا أنا وعابد قد التقينا يزيد صدفة. سأل عابد إذا كان قد احتفى بوصولي إلى القاهرة كما يجب، وهو يغمز بعينه. تكلم دون مواربة عن ذلك البرقاوي من عندنا الذي ذهب ما أن حطت قدماه في القاهرة عند أول امرأة قبلت به، وظل يضاجعها بلا توقف حتى مات. قال لي لن تكون هذه حالي، ولن أعود وأنا على حالي، يعني دون مس أقل امرأة. سار بنا مشيًا على قدمينا إلى حي شعبي في العجوزة. كان أصحاب الدكاكين يجلسون على عتباتها بين أكياس الفول والترمس، وهم يدخنون النارجيلة، ويتحادثون بصوت عال. وأبي وأخي وابني والله يسامحنا والله يسامحنا... دخل يزيد عمارة كانت على وشك التهدم، وكانت امرأة تكلم أخرى من النافذة. وأمي وأختي وابنتي وقلت لها وقالت لي وأيضا أمي وأختي وابنتي والله يسامحنا والله يسامحنا... وحماتي وحماي وسلفتي وسلفي وكنتي وقلت لها وقالت لي وقال لي والله يسامحنا والله يسامحنا... عقارب، الأقارب عقارب، كما يقول المثل. لم يتأخر يزيد عن العودة مع فتاة طويلة، نحيفة، نحيفة جدًا، بأسنان كبيرة، قدمها لنا تحت اسم زيزي. أخذت النساء يشتمن الفتاة والرجال يرمونها بكلمات الغزل، وهي تضحك ضحكات المعتوهة. كانت ضحكاتها على وشك أن تثقب لي طبلة الأذن. أصابني الخجل. ليس من ضحكاتها. ولكن لأنها لم تكن الفتاة التي أحلم بها، ولأن لها شكلاً سوقيًا. لاحظ عابد ما كان بي من خجل، اعتَقَدَ أنني كنت خجلاً لأنها كانت تضحك بتلك الطريقة كالمعتوهة. أخذني من ذراعي، وتقدم بي عدة خطوات بعيدًا عن الفتاة الطويلة ذات الأسنان الكبيرة والضحكات العالية. أشار بإصبعه إلى أبواب الدكاكين الراسية في الأرض –خليط من أوساخ ورمل- وقال لأنها لا تغلق أبدًا لا في النهار ولا في الليل.
- في أحد الأيام، قال عابد، مات أحد أصحابها، ولتحضير الجنازة أراد أولاده أن يغلقوا الدكان، ولكنهم لم يفلحوا، لأن الباب الذي لم يغلق أبدًا منذ سنوات طويلة بقي مغروزًا في الأرض.
- القاهرة هي المدينة الوحيدة في العالم التي لا تنام في الليل، رميت كلماتي معلقًا.
- والبضاعة...
أسرع يزيد الخطى:
- البضاعة؟ أية بضاعة؟ آه! البنات. هل أعجبتك البنت؟ سألني، عندما حاذاني.
قلت لا برأسي. انحنى على زيزي، وهمس في أذنها شيئًا جعلها تطلق ضحكة رنانة. دخلنا عند ذلك في أزقة قذرة لم نفرق فيها بين الكلاب التي تزكم رائحتها الأنفاس من القذارة وتنبح وبين الأطفال الذين يركضون في كل الجهات. سأل عابد بشيء من القلق إلى أين كنا نذهب، وإذا بنا أمام ساحة مدرسة مليئة بالبنات. نادت زيزي إحداهن من وراء سياج. "تعالي هنا يا حسنات!" قالت بنبرة آمرة. تقدمت حسنات، فكلمتها زيزي وهي تضحك. وبعد ذلك، رفعت السياج، وجعلتها تمر من تحته. في تلك اللحظة على التحديد، اصطفت البنات، وبدأن ينشدن نشيدًا في تمجيد عبد الناصر. كانت حسنات في السادسة عشرة، ممتلئة، ساذجة النظرة. كانت تفوح منها رائحة الريف. انحنى يزيد على أذني، وسأل إذا أعجبتني البنت هذه المرة، فأجاب عابد بدلا مني، وقال إنها أعجبته، هو. ولم تتوقف البنات عن النشيد في تمجيد عبد الناصر. حار يزيد في أمره، لكنه غمز بعينه، وقال ستكون لنا نحن الاثنين، فانفجرنا ضاحكين، بينما كانت البنات في الساحة ينشدن وينشدن نشيدًا في تمجيد عبد الناصر. بدأت مجموعة من الناس تصل من آخر الطريق، كانوا كلهم فلاحين، فخرج المكوجي من دكانه، وراح يطلق صيحات الفرح. كانوا ينشدون هم أيضا نشيدًا في تمجيد عبد الناصر، وهم يحملون أدواتهم على أكتافهم، يطبلون، ويزمرون.
نام يزيد مع زيزي وعابد مع حسنات، كان ذلك على الأقل ما كنا نعتقده أنا والشاب الذي كان يشارك عابد الشقة. عندما ذهب يزيد مع الفتاتين دون أن ينال الشاب "حصته"، بدا على وشك الجنون، كان لا يستطيع تجرع فكرة أن يقضي يزيد غرضه في سريره، بينما هو نفسه لم يفعل شيئًا. أقسم أن يقتل يزيد، فهو لم يكن القواد الذي يظنه، وبيته لم يكن ماخور كل عاهرات القاهرة. أقسم أن يقتله، وأن يقتلهما معه، البغيين. ويا عاهرة الخراء! ويا عاهرة الخراء! ضرب جبينه، ومن جديد أقسم أن يقتل يزيد، وأن يقتل البنتين. ضرب جبينه أيضًا وأيضًا، ويا عاهرة الخراء! ويا عاهرة الخراء! ويا ماخور الماخور! وليهدئه، اعترف عابد أنه لم يفعل شيئًا مع حسنات. صفا الجو، لكن الآخر لم يصدق أذنيه. كانت عاهرة، أليس كذلك؟ قال عابد إنها كانت تربط نفسها تحت حجة دورتها الحيضية، فانفجرنا ضاحكين. ولكن في رأيي، كان عابد مفتونًا باكتشافه، وذلك لأول مرة، عالم النهدين. وكان بعينيه الوامضتين لا يتوقف عن ترداد "الله ما أروع ذلك! الله ما أروع ذلك! الله ما ألذ ذلك! إنه ألذ ما في الوجود!"
عندما وصلنا إلى العمارة التي يسكن فيها سامر، صهر مرتضى، جاء البواب وبعض العمال الذين يبنون العمارة المجاورة ليصعدوا حقائبنا. طلب مني مرتضى ألا أحمل شيئًا، أن ألحق امرأتي وبناتي، وأن أرتاح. وأنا على الدرج، التقيت بشبان حيوني، وهم يهبطون بخطوات سريعة من أجل المساعدة. قلت لنفسي إنهم رأونا حالما وصلنا من النافذة. استقبلتنا عبير، أخت مرتضى، على عتبة شقتها، وهي ترتفع كهرم بقدر ما كانت سمينة، ولكنها كانت تبتسم لنا بحياء، كطفلة. أخذت منال، ابنتها ذات الثانية عشرة، بناتي مع برنسيس، واختفت بهن في عتمة البيت. كانت الشمس قد غابت، ومضيفونا لم يشعلوا الكهرباء. عدة دقائق فيما بعد، كان الكل هنا. كلنا، وكل حقائبنا، تكومنا في المدخل الذي يشبه إلى حد بعيد مدخل أحد المعابد. وأهلاً وسهلاً... وأهلاً وسهلاً... والتلفون لم يتوقف عن الرنين. كان سامر يكبس على زر، ويتكلم دون أن يرفع السماعة. كان الكل يتابع الحديث وكأنه موجه إلى الكل. وكما يبدو، لم يكن هناك سر يسعى الواحد أو الآخر إلى إخفائه. كان انسجام غريب يسود ما بيننا، وكان هذا هو انطباعي الأول على الأقل. وأهلاً وسهلاً... وأهلاً وسهلاً... وعامر، ابن حسناء المنغولي كان ينظر إلى ساعته الواقفة ويعيد "أهلاً وسهلاً... أهلاً وسهلاً..." من ورائهم.
- هذا أخي سمير، قال لي سامر وهو يقدم لي شاباً شابَ قبل الأوان لم يكن وجهه عني غريبًا. هل تذكره؟
لم أذكره.
- جاءك في باريس.
لم أذكره.
- وجهه ليس عني غريبًا، قلت.
- وهذا إيهاب، خطيب ابنتي نجوى. وهذا عمرو ابني.
وأهلاً وسهلاً... وأهلاً وسهلاً... وابن أختي حسناء كان ينظر إلى ساعته الواقفة ويعيد "أهلاً وسهلاً... أهلاً وسهلاً..." دون توقف. قالت عبير العشاء جاهز. لم نكن جائعين، ومع ذلك أخذنا مكانًا من حول طاولة ملأى بالعديد من الأطباق: أطباق لحم، وبيض، وجبن. الشهية تأتي مع الأكل، قال سامر الذي امتنع عن مشاركتنا الوجبة: أنا فيما بعد، فيما بعد، قال. في الحقيقة، الشهية تأتي مع الأكل. ذقنا كل الأطباق. وحسب العادة المصرية، كانت تحلايتنا خيارًا بالعسل. وفي الأخير، قدمت لنا عبير عصير الجوافا. ثم دعانا زوجها إلى الذهاب للنوم وطلب الراحة، فذهبنا كلنا، عائلة أختي وعائلتي، إلى داخل غرفة ضيقة ذات أسرّة معلقة فوق بعضها البعض.
في اليوم التالي، التقينا بالصدفة أنا وعابد زيزي على سطح كازينو قصر النيل. كانت بصحبة شاب يرتدي بدلة وغرافات، ولم تكن له هيئة زبون بل بالأحرى هيئة خطيب، فتظاهرنا بعدم معرفتنا الفتاة. ومع ذلك، نادت عابد، وقالت له في أذنه إن حسنات وقعت في غرامه، وهي تريد أن تراه.




الفصل السابع

لم نر شيئًا من القاهرة، قالوا لنا: "عندما تعودون من الاسكندرية، احسبوا حسابكم لقضاء يومين ثلاثة نريكم خلالها كل معالم القاهرة الهامة، النيل، الأهرامات، وقلعة الفاطميين". كانت حسناء على عجلة من أمرها، لأن ابنها عامر لا يتوقف عن النظر إلى ساعته الواقفة ويقول "أهلاً وسهلاً... أهلاً وسهلاً...". وكان زوجها مرتضى يغلق باب الصمت المطلق عليه، ويبتسم، وكأن الابتسامة ملصقة بشفتيه. أهلاً وسهلاً... أهلاً وسهلاً... وكان يبتسم. لابنه، للعالم. إلى ما لا نهاية. وأحيانا كان يردد هو أيضا: أهلاً وسهلاً... أهلاً وسهلاً... ويبتسم، يبتسم. إيهاب الستيوارد قال لنا إنه سيستقل الطائرة إلى اليابان وإلا أخذنا إلى خان الخليلي ومسجد سيدي الحسين. وقالت لنا خطيبته نجوى الستيوارد هي أيضًا إنها ستستقل الطائرة إلى إسبابنا وإلا أخذتنا إلى قلعة الفاطميين، ومن هناك، جعلتنا نرى الصخرة الشاهقة التي رمى عليها المملوك المتمرد بنفسه مع حصانه لينجو من حد السيف. وقال لنا سامر الستيوارد هو أيضًا إنه سيستقل الطائرة إلى أسوان وإلا أخذنا إلى الأهرامات. وقال الشاب عمرو إنه مشغول مع أحد السياح الألمان وإلا أخذنا لنرى كل شيء نريد أن نراه، فهو بعد تخرجه من الجامعة سيعمل في السياحة، وهو يعرف القاهرة معرفته لما في جيبه. وبعد أن صلى مرتضى مرتين، اقترحت العملاقة عبير، وهي ترسم على شفتيها ابتسامة البنت الصغيرة، أن تأخذنا حسناء ومرتضى إلى روكسي، الحي التجاري الشهير في مصر الجديدة، لنرى كل تلك المحلات الفرنسية التي "تحتل" البلد، وروكسي ليس بعيدًا جدًا، إنه على بعد خطوتين من هنا. لم تعلق زوجتي، ليس لأن حبها للتبضع قد طار، وإنما لأنها هاربة من كل شيء فرنسي، وبما أنها كانت تواقة إلى المشي على أرصفة القاهرة وافقت على الذهاب. كانت حسناء تغبطها على ذلك، وتتمادى حتى على الدخول في أفكارها، وتقول إنها في كل حياتها، في كل حياة امرأتي طبعًا، لم تحلم أبدًا بوضع قدمها يومًا على أرصفة روكسي، بينما لم يتغير علينا الأمر في شيء، العمارات التي تعودنا عليها في باريس هي ذاتها هنا، الشوارع العريضة، الدكاكين الغالية، اللهم إلا تلك باريس وهذه القاهرة.
سخر عابد من وقوع حسنات في غرامه، ودعاني إلى السينما. ونحن في طريقنا لشراء التذاكر، رأينا فتاتين تشبهان بعضهما شبهًا كبيرًا: الشعر طويل، والاسمرار خفيف. رأينا أول ما رأينا أنهما لم تكونا مصريتين. قال لي عابد، وهما تسمعان، إنهما من "بلدياتنا"، فابتسمتا لنا. تبعناهما، وجلسنا في الصف الأدنى من صفهما. تبادلنا بعض الكلمات، وعرفنا أنهما كانتا بالفعل من عندنا، وأنهما تسكنان عمان. قفزنا من فوق الكراسي، وجلس كل منا إلى جانب الفتاة التي اختارتها الصدفة له. لم نتوقف عن الضحك، ومع ذلك لم يكن الفيلم يضحك إلى تلك الدرجة. انتهى الفيلم، وانتهت علاقتنا بتلك المخلوقتين –أريد القول الخياليتين- اللتين كان اسمهما "رباب"، وكانتا طالبتين في كلية البنات بحلوان.
سافرت حسناء وابنها عامر في باص "الجيت" إلى الاسكندرية، ونظر الولد إلى ساعته الواقفة، وردد "أهلاً وسهلاً... أهلاً وسهلاً..." بدلاً من أن يقول لنا مع السلامة. أخذنا أنا وزوجتي وبناتي وبرنسيس السيارة مع مرتضى. خرج بنا من الطريق الدائرة بالقاهرة، وأرانا طرفًا من النيل أقرب إلى المستنقعات الراكدة، وطرفًا من أهرامات الجيزة أقرب إلى علب الكرتون. تعمد المرور أمام مقبرة القاهرة، وأسهب في الحديث عن سكانها. قال عن القبور إنها ليست كباقي القبور مثلما يزين لنا التلفزيون الفرنسي، كل قبر عبارة عن فيلا بناها الباشاوات بباب وحديقة وسور. تنهد، وقال: "لهم الحظ أولئك الذين يسكنون فيها!" وزوجتي تهمس: ولكنه جنون، يا عزيزي! دون أن أميز إذا كان ما في صوتها من لونٍ للسخرية أم للدهشة.
اتفقت مع عابد على الذهاب إلى حلوان لنرى "الربابتين"، أخذنا القطار، ومن حولنا كان الكثير من العمال في بزاتهم الزرقاء. كان عابد فخورًا بهم، كان فحورًا "بمصانع عبد الناصر" الموجودة في منطقة حلوان. رأيت وميضًا في عينيه، الوميض نفسه عندما تكلم عن نهدي حسنات. بادلته نظرات الاعتزاز، وامتلأت أنفي برائحة الزيت الثخينة.
في حلوان، لم نتمكن من دخول كلية البنات، فهي كانت للبنات، ونحن كنا لا نعرف عن "حبيبتينا" شيئًا سوى اسمهما. ضحكنا أنا وعابد على نفسينا، ودخلنا إلى مطعم لنأكل كبابًا. اخترنا قطعة اللحم التي أردناها من الخروف المعلق، فحضّرها صبي، وشواها على الجمر، ونحن ننظر إليه. وعندما وضع الصبي طلبنا على الطاولة، مرت من أمامنا مجموعة من العمال بثيابهم الملطخة ووجوههم الملوثة. كانوا يرفعون المطارق، ويلقون الهتافات في تمجيد عبد الناصر. انطلقت أغنية وطنية من الراديو، وطنّ صوت المذيع الشهير أحمد سعيد حاثًا الجماهير على النهوض، على تحطيم الرجعية العربية، وعلى رمي اليهود في البحر. هتف عابد: قريبًا سيكون تحرير فلسطين! نهضتُ من شدة الحماس، وأخذت أصفق. قفزت قطة على الطاولة، وأكلت الكباب بشراهة. لم نصح عليها إلا بعد فوات الأوان. كانت قد أنهت على كل ما في طبقينا، وكان العمال قد ذهبوا، وعاد الصمت يسقط علينا كسكين الفرم. اجتاحني القلق، وبدا على وجه عابد الضيق. خرجنا من المطعم إلى محطة القطار. وفي القطار، لم ينطق أحدنا بأقل كلمة. كنا قد نسينا لماذا ذهبنا إلى حلوان.




الفصل الثامن

أخبرنا يزيد أنهم وجدوا حسنات قتيلة تحت أحد الكباري وقد تمزق رباطها وبُترت حلمتاها، وطلب منا أن ننكر كل علاقة لنا بها في حال ما أتانا رجال الشرطة، وسألونا عنها. قلت لعابد مهمتي انتهت في القاهرة، وعليّ السفر إلى مدينة العلوم، لأن النقود التي أحملها للطلبة هناك من واجبي إعطاءها لهم. رافقني إلى محطة باب الحديد، فلاحظت أثناء عبوري كيف ينزلون تمثالاً لأبي الهول عن قاعدته في الساحة العامة ويعلون مكانه تمثالاً لعامل يحمل مطرقة. كان رجل هرم من بين المتجمعين يبكي التمثال، ويقول لفتاة إنه يبكي لأن هذا التمثال يذكره بأيام زمان، لما كان يشتري في عهد النحاس باشا بقرش واحد عشرة أرغفة. انقض عليه اثنان من رجال المخابرات، وضرباه بوحشية، والفتاة بدورها تضربهم، وتطلق الصرخات. وفي الأخير، لاذ المخبران بالفرار. ومن المسجد الواقع في الوجه المقابل، أخرج رجال الشرطة بعض الملتحين بقوة السلاح.
قبل أن ندلف إلى طريق القاهرة-الاسكندرية، توقف مرتضى أمام مطعم للأكل السريع، وقال أطيب شاورما في البلد تباع هنا.
- أنا لست جائعة، قالت برنسيس.
- البنات لن يأكلن من هذا، يا عزيزي، قالت زوجتي.
- ماذا سنفعل؟ سألت.
- ومع ذلك اشتروا لنا، يا عزيزي.
نزلت مع مرتضى، فسألني كم ساندويتش عليه أن يشتري لكل واحد. ساندويتش واحد، قلت، وأنا أظن أن الساندويتش ساندويتش. سألني مرتضى إذا كنت أفضل الفلافل على الشاورما، قلت أفضل الشاورما على الفلافل. تعجبت عندما طلب لكل منا بدلاً من ساندويتش واحد ساندويتشين. قلت لنفسي لأن الطريق طويلة، وربما أكلت البنات معنا، إلا أنه طلب بطاطا مقلية واحدة. تعجبت ثانية، وأنا أفتح الكيس على ما طلب، والسيارة قد انطلقت بأقصى سرعة: كان يحتوي على ساندويتشات عبارة عن لقمة ونصف. أكلت برنسيس، التي لم تكن جائعة، ساندويتشي أبيها، وهي تستمع إلى أحد كاسيتاتها المفضلة، والتهمت معظم البطاطا المقلية. وعندما اقترحت عليها امرأتي أحد ساندويتشيها، قالت إن كل هذا لن يساعدها على الريجيم الذي تزمع عمله، ومع ذلك، التهمته بثانية واحدة، وتحلت بعشرات حبات الملبس.
كنا في طريق الاسكندرية، طريق مستقيم، مستقيم إلى ما لا نهاية، كأنه اختط بالمسطرة، وكان الراديو كاسيت في حضن برنسيس يزعق، والريح الساخنة تصفع من النوافذ المفتوحة، فجهاز التبريد كان معطلاً، وكان إغلاق النوافذ وكأننا نغلق على أنفسنا في علبة معدنية ألقيت في النار. على الرغم من زعيق كاسيت برنسيس، أشعل مرتضى الراديو، والابتسامة لا تفارق شفتيه، لسماع الأخبار التي كانت كالعادة تركز على تمجيد فرعون البلد. وسيادة الرئيس، وسيادة الرئيس... لم يتأخر مرتضى عن إطفاء الراديو. كان يبتسم إلى ما لا نهاية. أشار بإصبعه إلى الشجر المزروع على جانبي الطريق في أرض الرمل والشمس، وراح يمتدح مشروع تشجير الصحراء. الأشجار، هذا ما يلطف الجو، قال مرتضى وهو يمسح العرق بمنديله لجبينه الساخن. هذا ما يأتي بالثمار، أضاف وهو يبلل شفتيه بلسانه لفمه الناشف. كانت حسنات تصرخ وكانت ترجو. الفائدة فائدتان، قال مرتضى. كانت تصرخ أكثر فأكثر وكانت ترجو. كان عليها أن تبقى عذراء لزوجها. كم كنت أتمنى شراء عشرة هكتارات، قال مرتضى. لزوجها. ليعمل منها مزرعة مثل هذه أو تلك، قال وهو يشير إلى مزرعة قريبة وأخرى أبعد محاطة بحائط طويل مصبوغ بالكحلي. لزوجها. لكن حسناء رفضت ذلك. وبسكاكينهم، بضعوا رباطها. تريد أن تشتري رملاً، قالت له حسناء. أخذوها واحدًا واحدًا تحت الكوبري. وها هو الرمل يصبح أرضًا خضراء! صاح مرتضى. قطعوا لها حلمتيها، ثم زرعوا سكاكينهم في بطنها. كان الهكتار لا يساوي شيئًا، قال مرتضى، كان باستطاعته شراء مائة هكتار، مائتين، ثلاثمائة. لزوجها. لوالدي. سيأتي بوالدي، ويتركه يزرع ويسقي، لأنه هو، الفلاح منذ مولده، الفِلاحة تسري في دمه، ومرتضى لا يبحث إلا عن سعادة والدي.
طلبتُ من برنسيس أن توطئ صوت كاسيتها، فأوطأته ثم رفعته. كانت إيناس تنام في حضن أمها محمرة الوجه كالوردة، وكانت دينة تخبئ وجهها من الشمس بظهر غيداء، وغيداء تلعب مع شخص لامرئي، وتحاكي نفسها، وكانت برنسيس تغني مع كاسيتها بصوت متظارف لم يصنع للغناء.
سألت برنسيس أباها التوقف في محطة الباصات القادمة لتشرب ماء باردًا، فمد لها زجاجة تتدحرج تحت قدميه. لمستها، وقالت هذا الماء ساخن، وهي، هي تريد ماءً باردًا، والعصير سيكون أفضل.
- لم تأكل البنات شيئًا، يا عزيزي، قالت زوجتي.
- سيأكلن في المحطة القادمة، قالت برنسيس.
لم نتوقف في المحطة القادمة ولا في التي بعدها. قطعنا نصف الطريق وشمس الصحراء تلطخ وجوهنا. كان مرتضى يسير على حواف اللهب، وهو يبدو راضيًا، وابتسامته الملتصقة بشفتيه لا تمحي. أطفأت برنسيس الراديو كاسيت، ونامت، وكذلك فعلت امرأتي وبناتي، وعاد مرتضى إلى إشعال الراديو على موسيقى ناعمة. لاحظني أتململ في جلستي، فأشار إلى أشجار شبكوها بأنابيب مثقوبة يهرب منها الماء قطرة قطرة، وعاد إلى الحديث عن تشجير الصحراء، أعظم مشروع في الوجود، على حد قوله. تصنعت النوم، ولكنه لم يتوقف عن المماحكة حتى أحسست بتوقف السيارة. فتحت عينيّ على سماعي أصوات الباعة الجوالين الذين أحاطوا بنا من كل جانب، وكذلك فعلت كل البنات، فتحن أعينهن، فطرد مرتضى البائعين ثم سألنا إذا كنا نريد أن نشتري منهم شيئًا. قالت برنسيس نريد شيئًا باردًا، فقال لنا انزلوا واذهبوا إلى الارتواء في التواليت هناك.
عادت زوجتي إلى السيارة، وهي تبدو سعيدة لأنها استطاعت غسل وجوه البنات وبدلت لإيناس. لمس مرتضى قارورة الحليب الممتلئة في يدي زوجتي، وسأل إذا كانت تحتاج إلى حليب للصغيرة.
- أحتاج إلى حليب، لا، قالت زوجتي، وهي تحرك القارورة تحت عيني مرتضى، لكن غيداء ودينة لم تأ...
قاطعها مرتضى:
- سنأكل حال وصولنا إلى العجمي.
- إلى العجمي! تعجبت برنسيس.
ظننت أن صيحة التعجب التي أطلقتها برنسيس لأن العجمي لم تزل بعيدة، ولأنها، هي، كانت جائعة. لكن أباها أوضح أننا سنمكث في العجمي يومين ثلاثة، في شقة من ثلاث غرف غير بعيدة عن الشاطئ ريثما ينهي العمال ترميم شقتهم في الاسكندرية.
- غير بعيدة عن البحر، يا عزيزي! قالت زوجتي وهي تقطر سعادة.
لم نكن في حال تسمح لنا بالعوم في بحر سعادتنا، ولكن بالنسبة لنا، نحن القادمين من الشمال، مجرد التفكير في قضاء بعض الوقت في شقة إلى جانب البحر كان متعة ما بعدها متعة. لم تأبه زوجتي للحزن الذي ارتسم على جبين برنسيس ولا لكلامها عندما قالت إن الشقة واقعة في مكان منعزل، وصمتت صمت القبور بعد أن وضعت كاسيتها في جهازها ورفعته إلى أقصى حد.
وصلنا إلى العجمي، وبدأ مرتضى بابتسامته الأبدية يحكي عن الأهمية السياحية للمنطقة. هذه الفيلا للوزير الفلاني وتلك الفيلا للممثلة العلانية، وأنت، أنت لا تجد مكانًا تضع فيه قدمك في الصيف، فالعالم كله يأتي لقضاء عطلته هنا، وليس أي عالم، كل برجوازيي هذا البلد. السيارات الفخمة في كل مكان، البنات –اتسعت ابتسامته- كل جمال مصر. كان يحاول بقدر الإمكان تحاشي الحفر في الطريق إلى أن انتهى به المقام إلى الدخول في طريق رملي، وتوقف عند عتبة عمارة صغيرة من طابقين، مهجورة، لا روح فيها ولا حياة، وقد غزاها الرمل.
تكومنا كلنا مع حقائبنا في المدخل الذي كانت تحيط به دواشك أشبه بدواشك الحمام التركي وبعض الكراسي النصف المحطمة. اختفت ابتسامة زوجتي عندما خرجت من غرفة الحمام، قالت إن المواسير محطمة والماء يسيل على الأرض والرطوبة تغزو المكان. سارع مرتضى إلى قول إن إقامتنا هنا لن تدوم أكثر من يومين ثلاثة. نظر إلى البحر الهائج، وهو يخرج بكله من النافذة باحثًا عنه، وقال سنذهب إلى البحر حالما تأتي حسناء، ثم تركنا ليشتري بعض ما نأكل. رجته برنسيس إلا يتأخر، لكنه لم يعد إلا في ساعة بعيدة من المساء. خلال ذلك، كانت امرأتي قد ذهبت مع برنسيس إلى دكان للبقالة، وملأت سلة برمتها للبنات اللواتي لم يأكلن شيئًا طوال النهار. نَظَرَتْ من حولها، واكتشفت أن الرطوبة تعشش في الشقة، وأن العفونة تزحف في كل مكان، على الجدران، على الأثاث، على الشراشف. بدأت العفونة تزحف في رئتينا.
- هل تذكر ما قاله الطبيب عن إيناس، يا عزيزي؟ أودعتني زوجتي والدموع تكاد تنبجس من عينيها، قال مع إيناس، علينا أن نأخذ حذرنا من الوساخة.
- الشقة ليست وسخة.
- الشقة عفنة، قالت دون التوصل إلى الإمساك بدموعها. هذا أسوأ، يا عزيزي!
- إيناس في صحة جيدة! ستدافع عن نفسها ضد الميكروبات التي ستتعايش معها خلال عدة أيام.
- لن أتعايش مع الميكروبات حتى في قصر، صاحت دون أن تتمالك عن غضبها.
وأصرت على الذهاب إلى فندق غدًا.


الفصل التاسع

وصلت حسناء مع ابنها عامر عند سقوط الليل في ضوضاء بحر هائج. قالت إنها وجدت لنا شقة مقابل شقتها، وإن المفتاح في شنطتها، لكنها شقة قذرة للطلاب، ووعدت بحل المسألة في الغد. قلنا لها إننا كنا نكاد نختنق، ونحن نجلس طوال الوقت بين أربعة حيطان. وفوق ذلك، الأدوات الصحية في حال يرثى لها.
- سيصلحها مرتضى حال عودته من الكنج، قالت.
- من الكنج؟
- سيصلح كل شيء حال عودته من الكنج.
أوضحت لنا برنسيس أن الكنج مكان في ضواحي الاسكندرية حيث لهم فيلا يبنونها، وأضافت حسناء أن مرتضى ذهب ليراقب البنائين، ويحضر بعض الفرشات. ومن ناحية أخرى، تلفنت لعبير كي تطمئنها: لقد وصلوا وكل شيء على ما يرام، قالت لها. أحضرت بقايا الباذنجان المقلي أول أمس بما أنها كانت أمس في القاهرة، وكذلك عشرة أرغفة وصحن فاصولياء خضراء مطبوخة أول أمس بلحم يابس يبوسة نعل، عملت إلى جانبها بعض الرز. انتقدت برنسيس العشاء، لكنها أكلت بقدرنا كلنا، ولم تترك شيئًا على التقريب لأبيها. ظل عامر، الابن المغولي، يجلس في زاوية دون حراك. كان ينظر إلى ساعته الواقفة، ولا يكلم أحدًا. وعلى أي حال، لم يكن أحد يكلمه. كان يتكلم مع نفسه أحيانًا أو يتكلم معي دون أن يتوجه بالكلام إليّ قائلاً "أهلاً وسهلاً... أهلاً وسهلاً...". سألتُ أمه عن سبب انزوائه الدائم، "لأنه مكسوف أمام الغرباء."
- نحن لسنا غرباء، سارعت إلى القول دون أن أفكر في وضعه.
رأيت الحزن ينبثق فجأة من عيني أختي، وفهمت مأساتها. كانت تتألم كثيرًا! فاعتذرت لها، لكنها ابتسمت دون أن يذهب الحزن عنها، ورمت نظرة على ابنها الذي جهر لأول مرة ودومًا دون أن يتوجه بالكلام إليّ: "أهلاً وسهلاً، يا خالو!"
- أرأيتِ، قلت لحسناء للتخفيف قليلاً من ألمها. لم أعد غريبًا بالنسبة له.
لم تقل شيئًا، وهي تداوم على النظر إلى عامر بعينين كليلتين.
غادرتنا حسناء ومرتضى في الصباح الباكر بينما كانت زوجتي على وشك الانهيار. كانت إيناس تبكي في حضنها، وغيداء ودينة تلعبان على الدواشك، وهما تضحكان. لم يغير عامر زاويته، كان يكلم نفسه، ويكلمني دون أن يتوجه بالكلام إليّ. ألحت زوجتي على ذهابنا إلى فندق إذا لم نجد حلاً، عارضتها على غير رضى مني، وقلت لها سيُزعل هذا حسناء. وطمأنتها: ستحل حسناء المسألة حتمًا.
أرادت غيداء ودينة الذهاب لتلعبا أمام العمارة، فوافقت أمهما شرط ألا تلوثا نفسيهما بالرمل.
- طيب، يا ماما، قالت البنتين.
- كما أقول لكما، لا تلوثا نفسيكما بالرمل، أعادت الأم.
- سأنتبه إلى نفسي، أنا، يا ماما، قالت دينة.
- وأنت، يا غيداء، أنت الكبرى، انتبهي إلى أختك، فلا تلوث نفسها بالرمل.
- ارتاحي قليلاً، قلت لها. ستنتبهان إلى نفسيهما، فلا تتلوثان بالرمل.
- بالرمل.
- لا تتلوثان بالرمل، أكدتُ. آه! يا غيداء، انتبهي إلى نفسك وإلى أختك.
- ليس هناك ماء ساخن لحمامهما، عادت أمهما إلى القول، ولا أريدهما أن...
- ... تلوثا نفسيهما بالرمل. ألا تريدين أن ترتاحي قليلاً؟
- في وضعنا هذا، لا أقدر، يا عزيزي.
وبعد لحظة:
- أهذا هو الحلم الذي وعدتني به في الاسكندرية؟
- هنا، ليس الاسكندرية، قالت برنسيس.
- لا تدافعي عن خالك، يا برنسيس، من فضلك.
- أنا لا أدافع عن خالو، أنا...
وعامر من ناحيته دون التوجه بالكلام إليّ:
- أهلاً وسهلاً، يا خالو، أهلاً وسهلاً، يا خالو...
- أنت تدافعين عن خالك، يا برنسيس.
- هي لا تدافع عني، قلت. برنسيس لديها الحق، هنا، ليس الاسكندرية.
- الاسكندرية شيء آخر، قالت برنسيس. الاسكندرية هي...
- ... الجنة على الأرض، قالت زوجتي متهكمة.
- الاسكندرية هي... الاسكندرية!
- الاسكندرية هي العفونة! رمت زوجتي.
وقاطَعَتْ برنسيس قائلةً لغيداء ودينة:
- كما قلت لكما، لا تلوثا نفسيكما بالرمل.
- لا، يا ماما، لن نلوث نفسينا بالرمل، قالت البنتين.
- ليس هناك ماء ساخن للحمام.
- طيب، يا ماما.
- اذهبا، تستطيعان النزول لتلعبا، ولكن لا تلوثا نفسيكما بالرمل.
كان الرمل يتراكم أمام العمارة، وكان الطريق كله رملاً، والرصيف كله رملاً، والجدران، والأعمدة. كان كل شيء رملاً. كل شيء. كل شيء على الإطلاق. جاء كلب ضائع على صوت البنتين اللتين نادتا علينا، فأخذت عامر معي، وطردناه. طلبت من عامر أن يمشي معي حتى الشاطئ، لكنه رفض. كلمني، بكلماته المفرومة قال لي إنه يريد أن يبقى ليطرد الكلب إذا ما عاد. اقتلع حجارة مزروعة في الرمل، وصفّها على بعضها كالهرم. ابتسمت له، واتجهت صوب الشاطئ الذي لم يكن بعيدًا. غطست في الرمل، والتصق الهواء الرطب بجلدي. كانت عمارة كبيرة تُبنى قرب الشاطئ، وكان العمال يحملون على ظهورهم قفف الإسمنت، ويصعدون على صقائل متعارضة، وهم يغنون. كانوا يحمسون بعضهم للإسراع في إنجاز عملهم قبل أن يجف الإسمنت.
وقفت على الشاطئ وسط أكوام من أعشاب البحر وطحالبه، وكانت هناك أكوام من علب الكوكا كولا وأوراق الجرائد. كنت وحدي على الشاطئ، والبحر قربي. كنت أظن أحيانًا أن أمواجه ستنقض عليّ، لكنها كانت تنسحق عند قدميّ. نظرت إلى العمارات العالية، الفارغة، التي تحيط بالشاطئ اللامتناهي، ورأيت الاسكندرية من بعيد. كان هناك بعض الصيادين، وفي قلب البحر كانت هناك باخرة لبعدها بدت صغيرة جِد صغيرة كدمية للأطفال. باخرة تجارية، أو باخرة شحن تنقل البترول. مرت سفن لم أر منها سوى الصواري. كانت صواريها تنبثق من قلب الأمواج ثم تذهب منحرفة. لم أمكث طويلاً، كانت الريح تزداد أكثر فأكثر قوة، وكانت الغيوم كالسفن تبحر مبتعدة.
عند عودتي إلى الشقة، سمعت امرأتي تصرخ، لأن دينة ملأت شعرها بالرمل، ولا يوجد ماء ساخن لحمامها.
- ومع ذلك قلت لكما، ومع ذلك قلت لكما... رددت زوجتي.
وعامر:
- ومع ذلك قلت لكما، ومع ذلك قلت لكما...
- ومع ذلك قلت لكما أن تنتبها إلى الرمل.
وعامر:
- ومع ذلك قلت لكما، ومع ذلك قلت لكما...
سَخّنَتْ زوجتي ماءً في طنجرة، لكن ما لبث الغاز أن انتهى. حَمَلَتْ إيناس بحركة حانقة، وخرجت مع برنسيس، وعيناها تتوقدان كاللهب. لم تقل لي أين ستذهب، ولخوفي من ضربها لدينة، لم اسألها شيئًا. لتحتمي بي أو لتعتذر عما فعلت أو لكليهما، جاءت دينة تجلس على ركبتيّ. سقط الرمل من شعرها، ولوث ثيابي، وخوفًا من زجري لها، قبلتني من خدي قبلات صغيرة كثيرة. وعامر: "ومع ذلك قلت لكما، ومع ذلك قلت لكما..." وشت دينة بغيداء قائلة إن أختها الكبرى لعبت أيضا بالرمل، ولوثت نفسها. ناديت غيداء، وسألتها لماذا لعبت بالرمل.
- لأن رمل الاسكندرية ناعم ولا يوجد رمل ناعم في باريس، قالت غيداء. ولأنني بحثت عن الأصداف في الرمل، لكني لم أجد منها شيئًا.
- أنا أيضًا، بحثت عن الأصداف، ولم أجد منها شيئًا، قالت دينة.
أشرت إلى البحر.
- الأصداف، نجدها هناك.


الفصل العاشر

بعد الفرشات، أحضر مرتضى بعض الأغطية، وابتسامته الخالدة تلتصق بشفتيه، فلم نتفاءل خيرًا. أصلح المغسلة، والمرحاض. ذهب عند بائع الخردوات لشراء ما يمكنه تبديل هذه الوُصْلة أو ذلك الوَصْل، وبقي يكب على عمله طوال ساعات، ونحن ننفخ من شدة الاختناق والضيق.
- لم كل هذا التعب، ونحن سنترك الشقة اليوم؟ قلت له.
- هذا لأختي، قال.
- تعمل هذا لأختك؟
- لعبير، أختي. عندما تأتي لتعسكر هنا في الصيف، ستجد كل شيء على ما يرام.
- لأختك.
- هذه شقتها.
- لم أكن أعلم أنها شقتها.
- شقتها وفكرتها.
- للإقامة هنا؟
- ليومين ثلاثة.
- سأترك هذه الشقة اليوم، يا عزيزي، قالت زوجتي من المدخل.
- طيب، طيب، لا تقلقي، قلت لها وأنا أرفع صوتي.
- ليومين ثلاثة لا أكثر، أعاد مرتضى.
- اليوم، يا عزيزي.
- طيب، طيب، اليوم.
نظر مرتضى إليّ بابتسامته الخالدة، ولكي أمنعه من إعادة قول "ليومين ثلاثة"، خرجت من صالة الحمام. وبعد جهد جهيد دام عدة ساعات، والابتسامة تضيء كل وجهه، جاءني يقول كل شيء على ما يرام، وباستطاعتي في الوقت الحاضر الذهاب لغسل يديّ. عندما فتحت الحنفية، تفجر كل شيء، وأغرقني الماء من قمة الرأس إلى أخمص القدم.
كللنا من كثرة التعلق على الشباك بانتظار حسناء، وبرنسيس لا تكف عن ترداد: "لماذا كل هذا التأخير؟ لماذا كل هذا التأخير؟" نَظَرَتْ إلى زوجتي التي كانت دموعها على وشك التفجر، وغَضِبَتْ. لماذا كل هذا التأخير؟ لماذا كل هذا التأخير؟ وعامر يقول من ورائها: "لماذا كل هذا التأخير؟ لماذا كل هذا التأخير؟" وينظر إلى ساعته الواقفة ثم ينظر من النافذة. سقط الليل، وعلا صوت البحر، وبانت أضواء سيارة حسناء أخيرًا. لقد وصلت! لقد وصلت! صاح عامر، وهو يقفز من الفرح، وينزل إلى لقاء أمه. أحضرت هي أيضًا بعض الأغطية، لأننا لسنا بعد في الصيف، ولأن الليل بارد في شقة على شاطئ البحر، قالت. شرحت لنا كيف فشلت في استئجار شقة تناسبنا. اعتذرت ألف مرة، واعتذر عامر، واعتذر. زجرته، لكنه داوم على الاعتذار. رفعت يدها، وكادت تصفعه، فسكت لحظة، ثم عاد إلى الاعتذار. لم تجد أمه ما تفعل، وملء نظرتها اليأس. تجاهلته، وأعلمتنا أننا سننام هذه الليلة هنا، ولكن سنذهب إلى شقتها غدًا رغم أن ورشة العمل فيها لم تنته بعد، ستهيئ لنا حجرة برنسيس، الحجرة الوحيدة التي لم تصب بكبير سوء.
ابتسمت امرأتي على مضض منها، فهي كانت تريد ترك الشقة اليوم. نظرت إليّ وكأنها تريد أن تقول لي ليلة وستمضي، ليلة أخيرة سنمضيها رغم كل شيء. غدًا ستكون نهاية كابوسي! قالت إن حليب إيناس الذي أحضرته من باريس انتهى، فطلبت حسناء من زوجها الذهاب لشرائه وشراء قنينة غاز. ألحت زوجتي على أن يكون الحليب معقمًا، ومرتضى يهز رأسه إيجابًا. عند عودته، قال إنه لم يجد حليبًا معقمًا، ومع ذلك، من أجل حبه لإيناس، كان مستعدًا لشرائه حتى ولو أنه أغلى من الحليب العادي. كانت زوجتي تستمع إليه حائرة، فقالت حسناء لا بأس في ذلك إذا غليناه.
لم ندر كيف نمنا ليلتنا في العفن والرطوبة. في الصباح، أرسلت أختي وزوجها برنسيس وعامر في الباص. اقترحا علينا أن نستغل الفرصة، فنتصور على شاطئ البحر قبل مغادرتنا. قلت البحر وسخ، فقالا الكاميرا تجمل كل شيء. حتى الوساخة جميلة على الفيلم! أخذنا مظلة مكسرة، وكرسيين ينطويان، وغطاء. وضعت شريطًا في كاميرتي الفيديو، ومشينا كلنا في الرمل حتى البلاج الخالي. لم يكن البحر هائجًا كأمس، وعلى العكس كانت الأمواج تركض لتقبل أقدامنا. أشار مرتضى إلى العلب المعلقة، وابتسامته تلتصق دائما بشفتيه، وقال إن كل هذه العمارات تمتلئ بالناس امتلاء السموات يوم القيامة، وعلى هذا الشاطئ أنت لن تجد موطئًا لقدمك. حسناء، هي، تكلمت عن أسعار الشقق الخيالية. لاحظتُ أن أختي على عكس زوجها تَقْطِبُ حاجبيها ولا تبتسم. أوضح مرتضى أن تلك الشقة العفنة التي لم نحتمل إمضاء يومين ثلاثة فيها لا يجدها وزير لنفسه حتى ولا أمير، ثمنها كذا، وإيجارها كذا.
أخذت غيداء تلتقط الأصداف مع أختها دينة.
- هذه الأصداف سنأخذها معنا إلى باريس، قالت البنتان.
فقدت دينة توازنها، وسقطت في موجة. انفجرت تبكي، وأمها ترفعها، وقد ابتلت كلها، وتقول إنها مضطرة الآن لتعمل لها حمامًا. فكر مرتضى في قنينة الغاز التي لم يمض وقت طويل على شرائه لها، واقترح أن تأخذ الصغيرة حمامًا عندهم في الاسكندرية، لكن زوجتي أصرت على أن تأخذ حمامًا هنا. أمس الرمل، واليوم الملح، والبنت لم تأخذ حمامًا منذ ثلاثة أيام.
ونحن نغادر العجمي، قام مرتضى بدورة في الشارع الرئيسي، وقال، والابتسامة تشق له شفتيه حتى أذنيه، في الصيف تمتلئ الأرصفة بالطاولات والكراسي، ولكثرة الناس، أنت لن تجد موطئًا لقدمك. الناس هنا، الناس هناك، الناس هنا وهناك يشربون العصير أو يتنزهون. اقترح أن نشرب عصيرًا إلا أن حسناء رفضت رفضًا قاطعًا.
- أما إذا أردتم، فلا تحسبوا حسابي، أنهت.
أعاد مرتضى السؤال علينا، هل نريد أن نشرب عصيرًا. أجبنا لا، كحسناء.
ونحن على أبواب لوران، بدت حسناء حائرة. طلبت إلينا أن نتمتع بروح رياضية، فالوضع في البيت ليس كما يجب. ولكي نخفف من حيرتها، قلنا إنها عطلة، والمهم أن نكون معا في الاسكندرية.




الفصل الحادي عشر

دخلنا شارع إبراهيم بك الألفي من ناحية البحر، ومرتضى يقوم بدور الدليل: هذه الشركة على اليمين شركة بترولية من الخليج، وهذه الأرض على اليسار كل ما تبقى من فندق "البوريفاج". هدموه ليبنوا ناطحات سحاب تضاهي كل العمارات الجاثمة على صدر الاسكندرية، وتكاد تخنقها، ولكن بسبب اختلاف الشركاء فيما بينهم، تركوا كل شيء معلقًا بانتظار أن تقول المحاكم كلمتها الأخيرة. توقفت السيارة قرب مدخل ترابي أشبه بالحوش، فلاحظت أول ما نزلت منها كرسيًا ضخمًا باليًا دون أقدام لكنه موضوع على دكة كان لا بد ذا شأن فيما مضى، وكان يجلس عليه رجل عجوز ذو وجه حرثته السنون، يرتدي جلبابًا ممزقًا، وعلى رأسه طاقية وسخة. قال لي مرتضى إنه العم إبراهيم، البواب. ناداه ليحمل حقائبنا مع عامر الذي هبط يجري أول ما رآنا من النافذة. جاء بعض العمال ليساعدوا هم أيضًا، وحسناء تطلب إلينا، إلى زوجتي وبناتي وإليّ، أن نتبعها عبر أكوام الرمل والحجارة. كان مدخل العمارة محفرًا، وكان علينا أن نقفز من فوق حفرة كبيرة إلى أول الدرج. توقف أحد العمال عن تحطيم عمود الأساس الضخم، ومد يده للبنات. صعدنا على درج دائري مبقع بأطنان الغبار، وكدنا ندوخ مع كل تلك الدرجات التي لا تتوقف عن الدوران. كانت شقق الطابق الأول والطابق الثاني والطابق الثالث مفتوحة، وكانت الأعمدة في الداخل شبه محطمة، وهناك ثقوب كبيرة في الجدران. لاحظت في إحدى الشقق بيانو سقط غطاؤه على الأرض، واكتسى بالغبار ولطخات الإسمنت.
كل هذا إذن ليس بسبب الهزة الأرضية التي وقعت في القاهرة، ولكن لواقع أن العمارة كلها يراد ترميمها. شرحت لنا حسناء أن العمارة كانت على وشك الانهيار لأنها لم تُبن كما يجب، لهذا هم يعملون الآن على تكسير الأعمدة التي غدت هشة مع مرور الزمن، وبناء أخرى أكثر قوة. أدخلتنا إلى حجرة برنسيس بعد أن أشارت إلى الأعمدة المستطيلة العملاقة في خاصرة الصالون، وقالت لولا إلحاحها قرب الباش مهندس لما تم إنجازها. كان مجيئنا سببًا في إقناع الكل على إعطاء الأولوية لترميم شقتها. في حجرة برنسيس، وَضَعت فرشاتٍ على الأرض من ناحيتي الباب المؤدي إلى الشرفة.
- هنا ستنام البنات، قالت حسناء.
رفعت غشاية كتيمة تغطي الجدار، فرأينا ثقبًا أشبه بالثقوب التي تحدثها المدافع وعمودًا لم ينجز بعد يقف في الهواء، فاعتمدت زوجتي على ذراعي، وخرجنا إلى الشرفة.
- هنا نحس بالأمن أكثر، يا عزيزي، قالت زوجتي.
تشبثنا بالحاجز الحديدي، والريح التي تأتي بها الأمواج من ناحية الشمال تهب علينا.
- أليس كذلك، يا عزيزي؟ هنا، نحس بالأمن أكثر.
لم أجبها.
قالت حسناء يومين ثلاثة وينتهي كل شيء. أشارت إلى الناحية الأخرى مما كانه فندق البوريفاج، وأعلمتنا أنهم كانوا قد استأجروا شقة "شيك قوي" في العمارة المقابلة. دفعوا مبلغًا باهظًا مدة تسعة شهور عسى أن يتم خلال ذلك ترميم البيت، لكن شيئًا من هذا لم يحصل، فوجدوا أنفسهم مضطرين إلى العودة إلى شقتهم، والبقاء في الخراب، كي يستحي الباش مهندس مختار، ويفي بالتزاماته، فهو متفق مع العمال على تطويل الشغل ليقبض مرتبه شهورًا وشهورًا، والعمال، هم، لن يجدوا أنفسهم في عرض الطريق عند انتهاء الترميم، والعاطلون عن العمل يملأون الدنيا. ومرة أخرى، قالت لنا إن الزلزال وقع في القاهرة، في القاهرة، ولكن كل زلازل العالم أهون مما هم فيه. الحقيقة أن هذه العمارة كانت ملكًا لشقيق زوجها الطماع العابد للمال البخيل، بناها من قفا يده، وعندما بدأ التصدع بالتعدد والازدياد، باعها، ولم يهمس بكلمة لأحد، حتى لهم، عن كل هذه البلاوي.
لاحظت أنهم حولوا أرض فندق البوريفاج السابق إلى باحة مخصصة لوقوف السيارات، فأوضحت حسناء أنها سيارات موظفي شركة بترول الخليج المجاورة. تحت، كان عامر يذم العمال كيلا يوقعوا الحقائب، وينهرهم.
- انتبهوا إلى حقائب خالو، انتبهوا إلى حقائب خالو... كرر وهو ينظر إلى ساعته الواقفة.
وحسناء تسمعه يقول "خالو" كانت أسعد امرأة في الوجود.
- عامر يقول انتبهوا إلى حقائب خالو، انتبهوا إلى حقائب خالو... قالت بحماس وأنفة.
ثم قهقهت.
- أين إيناس، يا عزيزي؟ سألت زوجتي فجأة والقلق يبدو على وجهها.
جاءت برنسيس، وبين ذراعيها إيناس. كانت تدللها، وتقبلها، وهي جِد سعيدة بالإلتقاء بنا ثانية في بيتها، حتى وإن كان "بيتها" أنقاضًا. قالت إن صديقاتها ينتظرن بفارغ الصبر أن يأتين ليسلمن علينا، وخاصة مريم التي تسكن في الوجه المقابل. أشارت حسناء إلى خطوط التراموي ناحية الجنوب يمينًا ثم إلى علم إسرائيل، وقالت إنها قنصلية الدولة العبرية، فلم أهتم باسم صديقة برنسيس كثيرًا.
رن جرس الهاتف، فصاحت حسناء فرحًا: ما أسعد أن يمشي التلفون في كل هذا الخراب! كانت عبير التي تريد أن تطمئن على وصولنا الثاني سالمين. كلمتها حسناء عن قنينة الغاز التي اشتراها زوجها، وقطع الغيار التي بدلها في الأدوات الصحية، والجهود التي بذلها لأجل أن تكون إقامة أخته في الصيف أمتع إقامة. كانت تتكلم المصرية، أو على الأقل هذا ما كانت تظنه، ، لأنها كانت تتكلمها بشكل رديء، رديء جدًا. كانت تقلد بالأحرى عبير، ولا تصل إلى القبض على كل "المصرية" التي في لهجتها. وزعنا الهدايا، ففرح الكل ما عدا مرتضى الذي بقي عابسًا دون أن تمحي بسمته الخالدة. لم يرضه أن نقول له إن إحدى قطع الغيار التي طلبها لم يعودوا يصنعونها لقدم التلفزيون الذي لهم. لم يشأ الفهم. ومع ذلك، أنا لم أتعمد عدم إحضارها. تركته، وخرجت إلى الشرفة رافعًا رأسي إلى العلم الإسرائيلي المرفرف على إحدى النوافذ. كانت نوافد القنصلية المحتلة لطابقين كلها مغلقة، وكانت الحراسة عند مدخل العمارة مشددة، والناس يفضلون المشي على الرصيف المقابل. جاء القطار الأزرق، ولضخامته، عمل ضجة ساحقة، وهزت عجلاته الأرض هزًا. أحسست بالشرفة تتحرك تحت قدميّ، وقلت لنفسي التصدعات في عمارة أختي بسبب القطار الأزرق وليس بسبب الغش في البناء. نظرت إلى البحر من ناحية الشمال، ولاحظت لأول مرة أن للأمواج لونًا بنيًا. كان صائدان يقفان على صخرة، ولم يكونا يتحركان. جاءت زوجتي، وقالت إنني وعدتها الذهاب إلى الملاهي، والسهر حتى الصباح. حدقت عند ذلك في البحر، وبحثت عن لؤلؤة الاسكندرية، فلطمت جدران مخيلتي الأمواج.
قَلَتْ حسناء لحمًا بقريًا محفوظًا خلطته بالبيض، فراح مرتضى طوال نصف ساعة يبتسم أكثر من المعتاد، وهو يمدح زوجته لطبق لا يساوي شيئًا مرددًا: "تسلم إيدك، يا حسحس، تسلم إيدك، يا حسحس!" وضعت حسناء على الطاولة صحن جبنة بيضاء التهمتُ معظمها لكثرة ما كانت تقول عنها والدتي كم هي لذيذة. كانت قد قامت بزيارتهم منذ عدة سنين، وكانت تقول إن مرتضى يحضرها طازجة من مصنع الألبان الذي له.
في المساء، أعادت زوجتي أنني وعدتها الذهاب إلى الملاهي، والسهر حتى الصباح. لكن حسناء أخبرتنا أن الملاهي ليس موسمها بعد، وأنها كلها مغلقة. نصحتنا الذهاب إلى أحد النوادي، فكشف مرتضى عن تلفزيونه المهجور في زاوية.
- أنظر! قال لي مع ابتسامته الخالدة. لم يزل جديدًا لولا الرطوبة التي التهمت له دماغه! لو أحضرت قطعة الغيار التي نسيتها لشغلته لكم ولكان أحسن من مليون ملهى.
- لم أنس إحضار قطعة الغيار، ولكنهم لم يعودوا يصنعونها، قلت مستاءً.
- هل هي غالية إلى هذه الدرجة؟ سأل، وهو يبدي أسنانه وتجاهله التام لكلامي.
- قلت لك لم يعودوا يصنعونها، أجبت بعصبية.
- صحيح، قالت زوجتي، لم يعودوا يصنعونها.
- خسارة أن تكون قد نسيتها، قالت حسناء.
- ولكني لم أنسها!
- اهدأ، يا عزيزي، قالت زوجتي لإخماد غضبي.
كنت على وشك أن أقول لهم كل هذه الهدايا التي كلفتنا آلاف الفرنكات هي البرهان على أننا لم ننس قطعة الغيار الصغيرة بثمنها الزهيد حتمًا، ومع ذلك سكت. وضعت زوجتي الصغيرات في "السرير" بينما راح مرتضى يعبث بالتلفزيون الصغير جدًا الآخر الأسود والأبيض دون أن تُرى الصورة فيه، تلفزيون بالأحرى للرمي في المزبلة.
- انتظروا أن أصلح لكم هذا، ووفروا عليكم نقودكم، رمانا مرتضى بقوله.
لكننا خرجنا بصحبة برنسيس وعامر من أجل الذهاب إلى نادي البحرية المجاور. أوصتنا حسناء ألف وصية الانتباه إلى السيارات، فالسائقون لا يهتمون بالعابرين. "مجانين!" قالت. وعامر: "مجانين!" قال وهو ينظر إلى ساعته الواقفة. وأنا: "مجانين!" وزوجتي: "مجانين!" وبرنسيس: "مجانين!" كان عامر أسعد إنسان على وجه الأرض: "مجانين!" كان يردد، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة. ذهب خجله قليلاً، وحاولتُ هدم الجدار القائم ما بيننا. "هيه! عامر؟ مجانين!" وهو: "هيه! خالو؟ مجانين!" دون أن ينظر إلى ساعته الواقفة هذه المرة.
كانت قاعة النادي محجوزة لعرس ابنة أحد كبار ضباط البحرية، فأخذنا مكانًا على السطح المطل على البحر. كان الظلام يلف البحر، ولم نكن نراه، كنا نحس به فقط. سمعنا صرخاته، وعامر قد عاد يردد: "مجانين!" فضحكنا. "هيه! خالو؟" ثم بدأ بقول "السلام عليكم" لكل الذين كانوا يجلسون غير بعيد منا أو الذين كانوا يمضون بنا، مما أثار حنق برنسيس. أنبته، وهو: "السلام عليكم!" قالت زوجتي إنها الأسعد في العالم.
- وأنت، يا عزيزي؟
- وأنا، أنا سعيد.
تنهدَتْ. وعامر: "السلام عليكم!" فضحِكَتْ. قالت برنسيس الساخطة على أخيها إننا سنأكل قطعة حلوى على حسابها، وإنها ستذهب لإحضار جاتو بالشوكولاطة للجميع، فهو أحسن ما هو موجود من حلويات في هذا النادي. وعامر: "السلام عليكم!" في الواقع، كانت تريد الهرب من أخيها بأي ثمن، لكنه تبعها. وكذلك فعلت زوجتي. بقيت وحدي. تنفست الصعداء. كنت في الاسكندرية. أخيرًا. أعدت لنفسي ما قالته حسناء عن "المعبد المهدم": يومين ثلاثة وينتهي كل شيء. بَرَقَ في رأسي اسم مريم، صديقة برنسيس، فتذكرت مريم الأخرى التي عرفتها منذ عشرات السنين، لكن الرابط بين مريم هذه ومريم تلك كان مستحيلاً. عادت امرأتي وبرنسيس وعامر بيد فارغة، لقد استهلك المدعوون إلى العرس كل الحلويات. اقترحت برنسيس علينا أن نذهب لنتذوق حلويات "لابوار" ليس بعيدًا من هناك، فتركنا النادي في الحال، وأخذنا طريق الكورنيش.
كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة، وكان الكورنيش خاليًا من العابرين. كان صائدٌ يقف على صخرة وسط الموج وحيدًا متوحدًا. بدت الاسكندرية التي لا تنام الليل في الصيف قد غفت بهدوء غير معتاد. فكرت فجأة في مدينة الموتى الفرعونية، وأنا أحاذر الوقوع في شباك القلق. وجدنا "لابوار" مغلقة، ورفض بائع في الداخل أن يفتح لنا، فأخذتنا برنسيس إلى دكاكين حلويات أخرى على الكورنيش، ولكنها كالملاهي كانت كلها مغلقة اللهم إلا النوادي الخاصة بالموظفين. ومع ذلك، كنا سعداء. لم ننزعج لذلك. كنا نتأبط أذرع بعضنا نحن الأربعة سائرين على الكورنيش. كنا نسير، كنا نركض، وكنا نصرخ، وكنا نغني. أضحكنا عامر، وذهب عنه خجله تمامًا. قال بكلماته المفرومة إنه لا يعرف بعد بأية واحدة من صديقات برنسيس سيتزوج. وفي الأخير قال إنه سيتزوج من امرأة خالو، وامرأتي تضحك من كل قلبها. سحبها من ذراعها بقوة الرجل التي له، وطبع على خدها قبلة ببراءة الطفل. أوضحتُ له أنه لا يمكنه الزواج من امرأة خالو، وهو يصغي إليّ بانتباه. قالت برنسيس إن خالو سيخطب له فتاة فرنسية. كان يصغي، وكان يروّل. لاحظت أن السيارات تقف ثم تذهب، فجن جنوني.
- يرونني معكم، قلت لزوجتي ولبرنسيس. يرون عامر الذي بطول الحائط!
- إنهم أغبياء، يا عزيزي، قالت لي زوجتي وهي في أقصى سعادتها.
وعامر:
- إنهم أغبياء، يا عزيزي!
قهقهت زوجتي. قهقهنا كلنا. وجدنا أخيرًا دكان حلويات مفتوحة. اختارت برنسيس لنفسها أكبر قطعة جاتو بالشوكولاطة، وإلى الجحيم الريجيم! ولنا تورتة بالمانجا. عدنا من حيث أتينا، ونحن نأكل، ونضحك. كنا في أقصى نشوتنا عندما توقفت سيارة نزل منها اثنان. تقدمتُ منهما، وأخذت أنادي على الشرطة، وأصيح:
- هذه زوجتي، وتلك ابنة أختي، ألا تفهمون، يا كلاب!
وعامر:
- هذه زوجتي، وتلك ابنة أختي، ألا تفهمون، يا كلاب!
ارتعد الرجلان من الجبن، وهربا بأقصى سرعة، بينما نحن نضحك، ونضحك، ونحن نقهقه، ونقهقه.


الفصل الثاني عشر

عندما نهضنا من الفراش في صباح اليوم التالي، لم يكن أحد في البيت غير عامر. كان يخرج بنصفه الأعلى من النافذة، ويتكلم مع عم إبراهيم البواب الجالس على كرسيه العظيم كرسي الأمجاد الغابرة، وعم إبراهيم يجيبه باقتضاب أو لا يجيبه. وعندما رآنا نطل من النافذة، أبدى لعامر من اللطف ما يرضينا، لكن عامر سبه، فأخذ عم إبراهيم يطلب من الله أن يسامحه. عاتبت عامر على سلوكه، فقال لي بكلماته المفرومة إن عم إبراهيم تفاهم مع الباش مهندس سي مختار على عدم إنجاز ترميم الشقة، وغضب غضبًا شديدًا. فتح الباب، وأخذ يشتم العمال من أعلى الدرج، والعمال يطلبون من الله أن يسامحه. ثم نادى عم السيد، رئيس العمال، فأتى في الحال: في الخمسين، قصير، لكنه صلب البنية كالحديد. قال له عامر إنه بانتظاره منذ مطلع الفجر كي يأتي، ويرمم الأعمدة، فتوجه عم السيد بكلامه إليّ:
- آخذ أوامري من الباش مهندس سي مختار، وسي مختار أمرني بإنهاء الشقة التي تحت.
أرغى عامر وأزبد وقال إن ماماه حسحس سترميه في الحبس، لكن الرجل ذهب دون أن يفوه بكلمة.
لم يكن هناك حليب، فنزلت زوجتي إلى الدكان التي في الوجه المقابل، واشترت حليبًا معقمًا. اشترت أيضًا لبنًا رائبًا فرنسيّ الصنع، ووجدت أن الأسعار تفوق ثلاثة أضعاف أسعار الحليب العادي واللبن الرائب المصري، وما اشترته أغلى هنا مما هو عليه في باريس.
- ماما حسحس وصلت! صاح عامر الذي كان يراقب مجيء أمه من النافذة.
ابتسم سعيدا كطفل، ولم يعرف ماذا يفعل: هل يذهب إلى لقائها، ينتظر صعودها، يعود إلى النافذة؟ أخذ يروح إلى المطبخ، ويجيء إلى الصالون، يجيء إلى الصالون، ويروح إلى المطبخ. وما أن اجتازت حسناء الباب قالت إنها كانت في السوق، وطلبت من عامر أن ينزل لإحضار الأكياس. أخبرها ابنها بكلماته المفرومة المطهمة بالصيحات أنه شتم العمال كلهم لأنهم تركوا شقتهم من أجل إنجاز الشقة التي تحت، فجن جنونها. جرت إلى عم السيد، وقالت له لا يجوز هذا، عندها ضيوف، والشقة التي تحت لا أحد فيها، حق الأولوية يعود إليها، ولا يمكنه أن يتركها هي وضيوفها في الغبار. وعدها إن يصعد أول ما يحضر سي مختار، وطلب منها أن تكلمه هي أيضًا، وأن تقول له إن عندها ضيوفًا.
- يعرف أن عندي ضيوفًا، سي مختار، أكدت. يعرف أن عندي ضيوفًا.
ومن جديد، عادت تلح على إنجاز كل شيء عندها أولاً.
- يعرف سي مختار أن عندي ضيوفًا، يعرف.
صعدت، وبدأت تفرغ الأكياس.
- في المرة القادمة، خذيني معك، قلت لها.
هزت رأسها، وهي تردد لنفسها "يعرف سي مختار أن عندي ضيوفًا، يعرف". ثم استدارت نحو امرأتي، وقالت هذا الحليب كله لإيناس. لم يكن الحليب المعقم الذي طلبته زوجتي. قالت زوجتي لها إنها اشترت من أجل اليوم، ولكن من أجل الغد... لم تجد أختي غير أن تقول:
- ستغلينه، وستعقمينه أنت بنفسك.
لاحظتُ عليها أن الفراولة التي اشترتها مخمجة، لكن حسناء رفضت قبول ما لاحظت، وهي تقضم ثلاثًا أو أربعًا منها.
- سأعمل لك "جيجو" من أجل الغداء، قالت لي، والآن سأعد لكم الفطور.
وضعت على طاولة من البلاستيك محشورة بين المطبخ والتواليت بقايا الجبنة البيضاء والزبدة والمربى، وفتحت علبة بسكوت حتى أسناني القوية لا تستطيع كسرها. لم تتوقف عن النظر إلى ساعتها، وهي تقول ستخرج برنسيس من الثانوية خلال ربع ساعة، خلال عشر دقائق، خلال سبع دقائق، وعامر يعيد من ورائها، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة. على الساعة الحادية عشرة والنصف، لم تغادر النافذة. وبسبب عامر الذي كان يريد هو أيضًا مراقبة وصول أخته والذي أزعجها، جرت إلى الشرفة، وراحت تنتظر دون صبر أن تطل ابنتها من آخر الطريق.
عادت برنسيس متأخرة نصف ساعة، وخلال النصف الساعة تلك، كانت حسناء على وشك الإصابة بالصرع، وقد أضناها عدم صبرها. توقفت عن الكلام، لم ترتب مشترياتها، وأهملت فطورنا. أخيرًا رأت ابنتها بصحبة صديقتين، وأتت تعلن لنا، وهي تبتسم ابتسامة بمدى كيلومتر، أن برنسيس ستصل مع اثنتين من صديقاتها للسلام علينا، وأنها تأخرت لهذا السبب حتمًا.
دخلت برنسيس، وهي تحيي خالو الذي لم يكن بالطبع أحدًا آخر غيري، وتحيي امرأة خالو، وبنات خالو. ضمتنا بحرارة، وقبلتنا، وهي تكاد تطير في منتهى السعادة.
- أقدم لكم صديقتي نهاد، قالت لنا برنسيس.
قبلت نهاد زوجتي وبناتي، وشدت على يدي، وهي تخاطبني بيا "أونكل"، وتخاطب زوجتي بيا "تانت".
- وأقدم لكم صديقتي مريم.
سمرتني مريم في مكاني: كانت مريم التي عرفت منذ ثلاثين سنة. لم تؤثر السنون فيها شيئًا: لم تهرم، لم تسمن، شعرها الخروبي، عيناها العسليتان، ابتسامتها...
ذهبن كلهن مع زوجتي وبناتي إلى حجرة برنسيس، وعامر لا يتوقف عن قول "أهلا وسهلا" لمريم. كانت تبتسم له، وتشكره، فأظن أنني أسمع صوت مريم الأخرى يأتيني مع صوت البحر. كنت أظن أنني أحس توسلاتها، أنفاسها، قبلاتها. لم أجرؤ على الذهاب إلى رؤيتها. ولكنها لم تكن تلك، كان من الجنون التفكير في كونها هي بعد كل تلك السنين. لم تكن مريم الزمن الماضي، مريم التي كانت تهدد بالانتحار إذا ما تركتها، التي كانت تريد المجيء معي، التي كانت تريد الزواج بي. غادرت الشقة، وذهبت إلى الكورنيش. كادت إحدى السيارات تدهسني. لم يكونوا ليأبهوا بالعابرين، سائقو الشيخ حسب الله أولئك! لم يكونوا ليكترثوا لترك نفسي للقتل من أجل ذكرى. ذكرى تركتها ثلاثين عامًا من ورائي. كانت الصدفة تريد أن أعيش من جديد تلك الذكرى، تلك اللحظة الضائعة، ولكن بالثمن الأغلى: الموت.
قلت لا للموت، وعدت إلى الشقة متمنيًا أن تكون مريم قد ذهبت. أخبرتني برنسيس أن مريم ونهاد انتظرتاني لتقولا لي مع السلامة، لكنهما ستعودان. لم أشأ التفكير في مريم، فلعبت مع بناتي. لم يكن عامر يجرؤ على اللعب معنا. كان ينظر إلى البنات وهن يضحكن، فيضحك وحده، وهو جالس في زاويته. ثم أخذ بناتي التعب من اللعب. كن جائعات، كنا جائعين. بقينا حتى الساعة الثالثة بعد الظهر بانتظار الغداء. سألت برنسيس إذا كنا ننتظر أباها، لكن أمها أخبرتها أن مرتضى ذهب مباشرة بعد انتهاء عمله إلى الكنج ليشرف على بناء فيلاتهم.
- وماذا ننتظر كي نتغدى؟ صاحت برنسيس.
أخذت مجلسًا قبلنا جميعًا على طاولة البلاستيك المحشورة دومًا بين المطبخ والتواليت، وبدأت تلتهم كل ما تطوله يداها: زيتون، خيار مخلل، حامض مخلل... ورغيفان أو ثلاثة ذهبت إلى حيث لا نعلم. حسبتها كتيبة من الديناصورات الجائعة. لم تنتظر أن نجلس، ولم تنتظر أن نأكل. كانت أمها سعيدة كل السعادة على مرآها وهي تلتهم كل شيء. غرفت لها عدة مرات، وفي كل مرة تضع لها المزيد والمزيد. بطاطا. كثير من البطاطا. لتُذاكر جيدًا، قالت. الامتحانات على الأبواب. لم أعلق، لم أفه بكلمة واحدة، لكني لم أسكت على الجيجو، فلم تبق منه سوى عظمة ضخمة مكسوة بالشحم. قطعت حسناء منه أحسن قطعة، القطعة الوحيدة التي تؤكل مما تدعوه أختي جيجو، قالت لزوجها. عندما تركنا كل شيء، ونهضنا، التقطت برنسيس كل ما تبقى في صحوننا، واستمرت تلتهم وتعض إلى أن نهضت الأخيرة.
- غدا سأفعل ريجيم، هذا وعد مني، قالت وهي تتجشأ. والآن عليّ الذهاب إلى المذاكرة.
- نعم، قالت أمها، روحي بس، وذاكري، يا ابنتي الصغيرة، يا معبودتي! أتعرفون، قالت لنا محاولةً ألا يسمعها عامر، كما لو لم يكن لي غيرها بعد كل هذه التعاسة...
أشارت إلى عامر بحذر، ومنعت دمعة من السيل على خدها. أخذت على عاتقها إخلاء الطاولة، وغسل الصحون، كما لو كانت تريد نسيان ما هي فيه.
عاد مرتضى في ساعة متأخرة عصرًا، صلى مرتين، أكل، وأخذ يعاتبني وهو يبتسم على ما فوّتّ، لأن الجيجو حاجة هائلة جدًا! لم يتوقف عن الابتسام وامتداح زوجته وشكرها: "شكرًا لك، يا حسحس! شكرًا لك، يا حسحس!" وعامر الذي تغدى مع أبيه للمرة الثانية: "شكرًا لك، يا حسحس!" شكرًا لك، يا حسحس!"
ثم مرتضى مع ابتسامته الخالدة:
- سأعرف كيف أتفاهم مع سي مختار، قال لحسناء.
- نعم، تفاهم معه. هو من يمنع عم السيد عن إتمام عمله في شقتنا.
- لا تقلقي، هذه المرة سأقصف له عنقه لو يلزم، كعظم هذا الجيجو اللذيذ، أكد بصوت عال وقوي مع ابتسامته الخالدة.
ومن جديد:
- شكرًا لك، يا حسحس!
وعامر: "شكرًا لك، يا حسحس!"
- سآخذكم إلى محطة الرمل، قالت لنا حسناء مشيرة إلى برنسيس التي كانت تدرس أو تتظاهر بالدراسة. لتجد ابنتي بعض الهدوء كي تدرس.
وعامر: "شكرًا لك، يا حسحس!"
- لكني انتهيت من الدراسة، يا ماما، قالت برنسيس,
وعامر: "شكرًا لك، يا حسحس!"
تأسفت حسناء لأن ابنتها لم تعد تعثر على الوقت ولا على الهدوء الذي هي في أمس الحاجة إليه لتحضير شهادة الثانوية العامة. طمأنها مرتضى، سيعد لها شيئًا ما في زاوية الصالون ليمكنها الانعزال.
- شيء ما؟ سألت حسناء.
وعامر: "شكرًا لك، يا حسحس!"
- شيء ما ماذا؟
- شيء ما، اكتفى مرتضى بالإعادة، وابتسامته تفيض لتغرق كل وجهه.
- شيء ما؟ قالت حسناء حائرة.
- ستعرفون المفاجأة عند عودتكم من محطة الرمل. يا لها من فكرة رائعة محطة الرمل! هكذا ستكون لي كل الحرية اللازمة لتهيئة شيء ما لبرنسيس كي تغلق على نفسها وتدرس على راحتها.
- شيء ما! أعادت حسناء حائرة.
- نعم، شيء ما.
أخذتني برنسيس من يدي إلى الشرفة، وأشارت إلى العمارة المقابلة. قالت لي هناك تسكن مريم.
مريم... أيضا!
- الطابق الثاني كله لهم، أوضحت.
أضافت إن أباها من أصحاب الشأن، جنى الكثير من المال في الإمارات عندما كان يعمل هناك. كان على وشك أن يغدو أميرًا لكنه فضل العودة. نظرتُ باهتمام. كانت كل النوافذ مغلقة، وكانت على الشرفة قطعتا ثياب تتأرجحان في الهواء. جاء عامر ليقول لي إنه يريد المجيء معنا إلى محطة الرمل. صدته برنسيس بعنف. نادى أمه، وصرخ. قالت أمه إن لا مكان له في السيارة، سيأتي في المرة القادمة. ولكنه فهم أنها وافقت على مجيئه، فهمس: "شكرًا لك، يا حسحس!"
- لا تشكرني.
تظاهر بفهمه العكس.
- شكرًا لك، يا حسحس! أعاد.
- لا تشكرني، يا عامر. لم أقل إنك ستأتي.
ومع ذلك:
- شكرًا لك، يا حسحس!
- لن تأتي. ستبقى لتعين أباك على إعداد هذا "الشيء ما" في زاوية الصالون لأختك.
- شيء ما.
- نعم، شيء ما في زاوية الصالون لبرنسيس.
- لي؟
- لبرنسيس.
- وأنا؟
- لبرنسيس، لبرنسيس. شيء ما لبرنسيس.
- شيء ما.
- نعم، شيء ما.
- لبرنسيس.
وانفجر باكيًا.
ونحن نغادر الشقة، سمعنا عامر يهمس باتجاه أمه:
- شكرًا لك، يا حسحس!
ركنت حسناء سيارتها في باحة مخصصة لوقوف السيارات، وقالت سنتابع مشيًا لاكتشاف محطة الرمل جزءًا جزءًا. بدأت تعلق: هذه أقدم مئذنة بنيت في العهد الإسلامي الأول، وهذا أعظم تمثال لسعد زغلول القائد الوطني، وهذه أروع عربة يجرها حصان في كل الاسكندرية... والكاميرا في يدي تشتغل. صورت المئذنة والتمثال والعربة. داعَبَتْ زوجتي الحصان، صعدت غيداء قرب التمثال، أعطت دينة قطعة نقد صغيرة لولد كسيح كان يلاحقها زاحفًا على قدميه. عندما وجدنا أنفسنا في قلب شارع صفية زغلول، زوجة القائد الوطني، قالت لي زوجتي:
- كأنه شارع العربي بن مهيدي الذي لنا في الجزائر، يا عزيزي.
كانت الدكاكين في كل مكان، بفترينات كئيبة بسبب البضاعة الغامقة التي فيها: ميد إن ايجيبت طبعًا! وكانت وجوه العابرين عابسة، والأرصفة قذرة. مشينا في الشارع حتى نهايته، ثم قطعناه إلى الرصيف المقابل، وعدنا أدراجنا. دعتنا حسناء إلى شرب عصير قصب السكر، فهو أرخص من عصير المانجا أو عصير البرتقال. لم تشرب البنات منه. اقترحتُ أن أقدم لهن عصير برتقال، لكن زوجتي قالت إنه ليس طازجًا. أرادت أن يعصر البائع البرتقال أمامها، فرفض. ذرعنا الأزقة المجاورة، كانت مليئة بالبشر، وكان الناس يغوصون في الغبار. تبعنا رجل يحمل ابنه بين ذراعيه أينما ذهبنا، كان يريد أن أصوره. حين أدرت الكاميرا نحو واجهة أحد المحلات الغريبة، انطلق كالسهم، ووقف في قلب حقلي الرؤيوي. ابتسم، رفع يد ابنه، ولوح بها، وهو في أقصى سعادته. توقف باص أزرق في حالة يرثى لها قربنا، فخرج الرجل من المشهد، وصعد في الحافلة، وهو في أقصى تعاسته.
- كانت هناك حافلات حمراء في الاسكندرية، قلت لحسناء.
- حافلات حمراء! قالت دَهِشَةً.
- حافلات حمراء بطابق كحافلات لندن.
- أنت غلطان، لم تعرف الاسكندرية أبدا طوال تاريخها حافلات حمراء، وفوق هذا بطابق!
- أقول لك حافلات حمراء، حمراء، وبطابق.
- حمراء وبطابق؟
- صعدت في إحداها مع أَلِكسْ، تذكرين أَلِكسْ؟ عندما كان يدرس هنا، في الاسكندرية.
- أنت متأكد؟
- تذكرين أَلِكسْ؟
- أذكر أَلِكسْ.
- صعدت معه في حافلة حمراء بطابق لأرى الاسكندرية من فوق.
- أنت واثق من مجيئك إلى الاسكندرية قبل اليوم؟
- نعم، منذ ثلاثين عامًا. حافلات حمراء بطابق... عندما كان أَلِكسْ يدرس هنا، في الاسكندرية.
- هل كان يدرس هنا، في الاسكندرية، صديقك؟
- هنا، هنا، أَلِكسْ كان يدرس هنا، في الاسكندرية. لو كان هنا لقال لك بنفسه، لقد درس هنا، وصعدت معه في حافلة حمراء بطابق كحافلات لندن.
تجاهلت حسناء كلامي تمامًا، وأعادت أن الاسكندرية لم تعرف أبدًا طوال تاريخها مثل تلك الحافلات.



الفصل الثالث عشر

"الشيء الما" الذي أعده مرتضى لابنته لم يكن شيئًا آخر غير تجميع بعض الخزانات من حول سرير في زاوية الصالون مع شرشف بمثابة باب، انعزلت برنسيس فيه حال عودتنا من محطة الرمل، وجلسنا غير بعيدين عنها إلى ساعة متأخرة من المساء دون عشاء. قلت هي عادة من عادات المصريين لا ريب: يتناولون فطورهم في وقت غدائهم، وغداءهم في وقت عشائهم، وعشاءهم في وقت فطورهم! مدت حسناء ساقًا أمام تلفزيونهم التعب، وجلست إلى جانب زوجها الذي يبتسم ابتسامته الثابتة على شفتيه، ويقصقص بزر البطيخ المحمص، وراحا يتابعان مسلسل "الجميلة والجريء". بدأت بناتي بالشكوى من الجوع، فأشارت حسناء بطرف أصابعها إلى ناحية المطبخ دون أن تحيد بعينيها عن الشاشة الصغيرة، الصغيرة جدًا، وقالت لزوجتي امسحي لهن قليلاً من الزبدة على قطعة خبز. التحقت برنسيس بوالديها، ولإسكات جوعها التهمت نصف بزر البطيخ المحمص قبل أن تصرخ صائحة إنها لم تزل جائعة، وإنها لم تعد تطيق صبرًا، فنهض مرتضى بابتسامته الخالدة لعمل بعض الساندويتشات من بقايا الجبنة البيضاء والفلافل. أخذ يأكل مما يعمل، وهو يشكر زوجته: "شكرًا لك، يا حسحس!" ومع ذلك الفلافل اشتراه من السوق والجبنة صنعها في معمله. لم تتحرك حسناء من مكانها، وكأن عامر قد فهم كل شيء، فلم يردد بعد أبيه عبارته الشهيرة "شكرا لك، يا حسحس"، حتى أنه لم ينه ساندويتشه.
عندما نهضنا في اليوم التالي، كانت حسناء قد ذهبت إلى السوق دون أن تصطحبني معها كما طلبت منها، وكان عامر يتكلم إلى نفسه وحده وهو ينحني على النافذة دون أن يتوقف عن النظر إلى ساعته الواقفة. ظننت أنه يتكلم مع عم إبراهيم البواب، فنظرت من النافذة، لكني لم أر أحدًا في ردب الرمل. كان الكرسي الملكي المهترئ يسقط في العزلة، وكانت في وسط الطريق المسدودة سيارة جيب مكشوفة ودون محرك تقوم على عرش تخلى الكل عنه. ألقيت نظرة على واجهة العمارة الصفراء المقابلة، ورأيت صدوعًا عديدة فيها. كانت البلاكين مليئة بالأصص الفارغة، والنوافذ بعناقيد الثوم الجافة. أشار عامر إلى إحداها، وقال إننا هناك سنسكن. كانت الشقق شققًا للطلبة... ومع ذلك لم أر فيها طالبًا واحدًا. وعلى العكس، رأيت امرأة صعيدية تفتح نوافذها في شقة من شقق الطابق الأرضي، وتفرش على حوافها مخداتها وأغطيتها. أشار عامر إلى قطة جاءت لتنام عليها، وقال لي إن أمه حسحس ستشتري له قطة مثلها. دخلت سيارة فيات بيضاء في الزقاق، فأخذ عامر يصيح "سي مختار المهندس جاء!" نزل من السيارة رجل أكرت الشعر، ممتلئ الوجنتين، وعامر يصرخ به:
- لماذا هربت؟ أمي حسحس انتظرتك يوم أمس طول النهار، ونحن عندنا ضيوف... سترميك ماما حسحس في الحبس!
- ترميني في الحبس، أنا، ماما حسحس! تعجب الرجل. الله يسامحك!
- لم تبعث لنا عم السيد، وتركتنا في الغبار. سترميك ماما حسحس في الحبس.
ابتسم لي المهندس. كانت حسناء قد وصلت. ضربت باب سيارتها، وتقدمت بسرعة من المهندس مختار. كلمته، وقد بدا عليها الغضب، في الوقت الذي كانت تشير فيه من وقت إلى آخر باتجاهي بينما كان عامر يصيح من النافذة "لماذا هربت؟ انتظرتك ماما حسحس يوم أمس طول النهار... تركتنا في الغبار... ونحن عندنا ضيوف... سترميك ماما حسحس في الحبس". توقفت حسناء عن التحدث إلى المهندس، ونادت عامر ليحمل الأكياس التي بقيت في السيارة. نادى سي مختار عم السيد ليحمل هو الأكياس، وبدا أن أختي قد توصلت إلى اتفاق معه.
دخلت حسناء، وهي تبتسم ابتسامة واسعة، وقالت إنهم سيأتون الآن لإتمام أعمال الترميم. وضعت من يدها كيس خضار، وأحضر عم السيد الأكياس الباقية قائلاً إنه سيعود بأدواته حالاً. أخذت حسناء تفرغ ما في الأكياس: بندورة مضروبة، خيار مكسو بالغبار، جمبري صغير بحجم الصراصير، وهي تتباهى قائلة إنه أغلى جمبري في البلد! عاتبتها لأنها لم تأخذني معها، فتذرعت بنومي.
- المرة القادمة، قلت لها، حتى ولو كنت نائمًا أيقظيني. أريد أن أكتب شيئًا عن سوق الاسكندرية.
- تكتب شيئًا عن سوق الاسكندرية! قالت ساخرة. إنه سوق كباقي الأسواق في العالم. ماذا تريد أن تكتب عن سوق الاسكندرية؟
- أريد أن أكتب ما أريد أن أكتب... من كل أسواق العالم سوق الاسكندرية هو السوق الأكثر الذي يهمني.
أحضر عم السيد ومساعده محمد أدواتهما، وأصعدا الطوب والإسمنت. أوضح لحسناء أنه من غير الممكن ترميم الأعمدة هنا قبل الانتهاء من ترميم الأعمدة التي في الطابق السفلي لأنها تركب على بعضها. ومع ذلك، بدأ بصب العمود في الغرفة التي ننام فيها، ومساعده بإغلاق الثقب الكبير الذي في الحائط. خرجت إلى الشرفة لأتأمل يد عم السيد، وأعجب بمهارته. رفعت رأسي، مع مجيء القطار الأزرق، ورأيت العلم الإسرائيلي. كانت إحدى نوافذ القنصلية مفتوحة. أتى قطار آخر على الخط الثاني، وشاهدت بعض المتسلقين على دبره. حدقت في الإعلان المكتوب على طوله: شاي القويري ما يعدلش المزاج غيري. وعندما ذهبت بعيني إلى العمارة التي كانت تسكن فيها مريم، صديقة برنسيس، رأيت امرأة سمينة جدًا تقطع الشرفة.
أتكون مريم التي كنت أعرف؟ مريم أُم صديقة برنسيس؟ هل كبرت وترهلت إلى هذه الدرجة؟ أتكون مريم التي كانت تريد الانتحار من أجلي؟ التي كانت تقضي طوال الليل بين ذراعيّ وتبكي؟ اختفت المرأة من الشرفة وأنا أرتعش أمام تلك التساؤلات. لم أكن أتوقع أن أراها على تلك الحال. كانت بشعة وهرمة كثيرًا. كيف كان يمكنني احتمالها لو تزوجتها؟ هل كنت سأقبلها؟ هل كنت سأربط مصيري بها؟ أعلنت زوجتي الشابة من وراء ظهري أن الفطور جاهز، وعندما استدرتُ لاحَظَتْ وجهي الشاحب.
- ما بك، يا عزيزي؟ سألت قلقة.
- لا، لا شيء، قلت. أشعر ببعض الصداع، وبعد القهوة سأتحسن.
على الطاولة، أخذت زوجتي تُشرب الحليب لإيناس، فسألتها إذا غلت القارورة.
- القارورة أم الحليب الذي في القارورة، يا عزيزي؟ سألت.
- الحليب والقارورة، قلت.
- القارورة ليس مهمًا غليها، تدخلت حسناء.
ولم تترك لي مجالاً للرد.
- عندما يعود مرتضى من الكنج سنذهب إلى المعمورة، قالت.
نادت عامر الذي كان يريد مساعدة العمال بينما كان بالأحرى يعيقهم عن العمل.
- سنذهب كلنا مع بابا إلى المعمورة، قالت له.
كان عامر سعيدًا بسماع ذلك.
- اذهب إذن واغتسل، قالت له أمه، والبس التريننج اللي جلبه خالو لك من باريس.
عندما رآنا عامر نتناول فطورنا، قال إنه لم يأكل بعد، فذكرته أمه أنه تناول فطوره معها في الصباح الباكر. ومع ذلك جلس، وطلب من أمه أن تصب له قهوة بالحليب، وأن تدهن له زبدة على رغيف، فأذعنت. مسحت له بظاهر يدها فمه الذي كان يسيل منه اللعاب دون توقف، وقدمت له قهوة بالحليب ورغيفًا مدهونًا بالزبدة، فالبسكوت كان من الصلابة بحيث أن أسنانه لم تكن تستطيع كسره، المسكين، وليس أسناننا، نحن المساكين الحقيقيين! نظر عامر إلى ساعته الواقفة، وذكرها ببرنسيس عندما قال إنها تأخرت، وإنها لن تذهب معنا إلى المعمورة. وعلى أي حال، هي لن تذهب معنا، أوضحت أمه، فمن أجلها نذهب إلى المعمورة، ستحظى هكذا ببعض الهدوء لتذاكر. تبدل لون وجه حسناء عندما سمعت عامر يعيد قول إن برنسيس تأخرت، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة. ذهبت تنظر من النافذة، ثم من الشرفة، ولم تتأخر عن العودة مخبرة إيانا أن برنسيس في الطريق، لكن ابنتها تبدو حزينة، لا بد أن شيئًا ما قد وقع لها في الثانوية.
- شيء ما، قال عامر وهو يشير إلى القرنة التي أعدها مرتضى لابنته.
- شيء ما، أعادت حسناء مفكرة دون أن تنتبه إلى ابنها. لا بد أن شيئًا ما وقع لها في الثانوية.
لم تصرخ بابنها كما هي عادتها: سارعت الذهاب إلى ابنتها التي رمت بنفسها بين ذراعيها أول ما دخلت، وانفجرت باكية كالبنت الصغيرة. جن جنون أمها، وسألت عما بها، وماذا وقع لها. أخذت ابنتي دينة تبكي، وعامر يقاتل من أجل إنهاء رغيفه المدهون بالزبدة هامسًا "شيء ما". بدت ابنتي غيداء صفراء كلها، حتى أن الصغيرة إيناس ثبتت نظرتها المضطربة على برنسيس. وفي الأخير، أوضحت بكر أختي قائلة إنها تكره مريم أشد كره، وإنها تتمنى لو تخنقها بيديها هاتين لأنها بنت أنانية. جذبت أمها إلى حجرتها، وأغلقت عليهما الباب. رأيتهما جالستين على السرير من ثقب في الجدار لم تفلح قطعة كرتون في تغطيته. كانت برنسيس تواصل ذرف دموعها الحرى بصوت عال، وكانت أمها تحاول تهدئتها. بعد عدة دقائق، خرجت المرأتان، وبرنسيس تبتسم ابتسامة عريضة أشبه بابتسامة أبيها.
- ...وعلى الخصوص، يجب عليك ألا تظهري ضعفك، نصحتها أمها. يجب عليك أن تظهري للملأ أنك قوية.
كانت أختي تقول ذلك كما لو كانت تقوله لنفسها، كانت تبدو ضعيفة، وكانت تعاستها كبيرة. صرخت بابنها لأنه وسخ نفسه، حتى أنها ضربته. صاح عامر، وهو يتظاهر بالبكاء كأخته قبل قليل، ولم تأخذه أمه بين ذراعيها. أمرته الذهاب ليغتسل فورًا لأننا سنذهب كلنا إلى المعمورة. ما عدا برنسيس، التي ستستغل فرصة غيابنا لتدرس جيدًا من أجل شهادتها الثانوية العامة. ضمتنا برنسيس بقوة، وقبلتنا. وضعت دينة في حضنها، وهمست لها في أذنها أن عليها ألا تبكي، أن ذلك لم يكن شيئًا يحوجها إلى البكاء. حملت إيناس، وبدأت ترفعها في الهواء إلى أعلى عدة مرات، ثم داعبت غيداء. سألتها أمها إذا كانت جائعة، فقالت جدًا. وفي الحال، شمرت حسناء عن ساعديها، وأخذت تنقي الجمبري، تقشر البطاطا، تحضر المقلى. رجت زوجتي أن تقلي البطاطا. وبالانتظار، قضمت برنسيس عدة بسكوتات. أخرجت فراولة البارحة من الثلاجة، وهي تأكل نصف العشرة، وترمي نصف العشرة، وأمها تصيح بها، وتقول حرام من عند الله أن نرمي الأكل هكذا. ملأت حسناء لبرنسيس طبقًا كبيرًا من الجمبري والبطاطا المقلية قائلة: "أما نحن، فسنأكل فيما بعد". لم تزل برنسيس جائعة، عادت تقضم عدة بسكوتات أخرى، وأمها تطمئنها: "ستعودين إلى الأكل معنا فيما بعد". لم تتمالك زوجتي التي زجرت برنسيس عن غيظها:
- قريبًا، لن تتمكني من المرور عبر الباب!
لم تستمع برنسيس إليها. عادت إلى بقايا الجمبري تقضمها وتمصها.
- عليك أن تعملي ريجيم، نصحت زوجتي.
- لست متفقة معك، صاحت حسناء. لن يساعدها الريجيم على المذاكرة جيدًا.
رمت كبيرتها الصغرى بنظرة والهة، كبيرتها الصغرى التي كانت لها شهادة ثانوية عامة تحضّرها، وكان الريجيم لا يساعدها جيدًا على المذاكرة.
- برنسيس ليست سمينة إلى هذه الدرجة، همهمت حسناء.
- هل صحيح، يا خالو، أنني لست سمينة إلى هذه الدرجة؟ سألتني ابنة أختي وهي تستدير نحوي.
تأملت خديها المنتفختين كأرغفة الخبز الخارجة من الفرن، ولم أشأ إزعالها.
- قليلاً، قلت.
أضفت، وأنا أنظر بطرف عيني إلى حسناء، فأجدها ليست راضية إطلاقًا:
- عليك أن تستمعي إلى زوجة خالو.
لم تشأ حسناء سماع ما لا يرضيها، ذهبت لترى عامر في الحمام. بعد عدة دقائق، انطلق عامر من الحمام كالسهم، وهو يرغي، ويزبد. كان وجهه ملطخًا بالصابون، وهنا وهناك بعض الجروح. قال إن أمه تريد أن تحلق له، وهو، هو يريد أن يحلق لنفسه بنفسه، لأنه رجل! ذهب عند عم السيد، وبدأ يصرخ به، وبعدوانية يأمره: اعمل هذا! لا تعمل هذا! وعم السيد يدعو الله أن يسامحه.
- أنا رجل! بصق عامر في وجه عم السيد. أنا أحلق لنفسي بنفسي!
- حذار! إياك أن تجرح نفسك، ابتسم عم السيد. دعني أرى! ها أنت قد جرحت نفسك!
- إنها ماما حسحس، صرخ عامر. ماما حسحس لا تعرف كيف تحلق لأنها ليست رجلاً!
صرخت أمه من الحمام، فخاف. عاد إلى الدخول فيه دون أن يفوه بكلمة. بعد فترة قصيرة من الصمت، سمعنا عامر يصيح قائلاً إن أمه جرحته لأنها لا تعرف كيف تحلق، لأنها ليست رجلاً، لأنها لا تعرف شيئًا، وإنه سيقول كل شيء لعم السيد.

الفصل الرابع عشر

تغدت برنسيس معنا للمرة الثانية، أخذت بالأكل دون أن تنتظرنا، أكلت بقدر مدينة ساغبة، وذهبت نصائح زوجتي أدراج الرياح. ومثلما لم تضع صحنًا على الطاولة لم ترفع عنها صحنًا تحت ذريعة المذاكرة. رفعتها زوجتي، وغسلتها. اعترفت حسناء أن الذنب ذنبها إذا كانت برنسيس هكذا، فهي لم تعودها على مساعدتها منذ صغرها.
- ستقدم التوجيهية هذه السنة، قلت، والبنات اللواتي في سنها لهن زوج وبيت وأولاد.
لم تشأ أختي سماعي، ورفضت وجهة نظري، لم تقتنع بأنني ما كنت لأقول ذلك إلا لمصلحتها. رمت عامر بنظرة، وهو يبدو بكامل أناقته، ويعبث بالراديو بانتظار أن يأتي أبوه من أجل الذهاب إلى المعمورة. تنهدت، وقالت إن برنسيس وعامر كل ما لها في الوجود. لكنها بدت حزينة، مسحت لعاب ولدها، وبدت تعيسة. تمتم عامر "شيء ما"، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة، وصاح بأمه أن تتركه وشأنه، فقامت على رؤوس أصابع قدميها لتنصت إلى ابنتها وهي تذاكر.
- ما يمزقني مستقبلهما، اعترفت، خاصة مستقبل عامر.
كانت أمنيتها أن تزوجه من فتاة حنونة وصبورة، ستكتب فيلا الكنج باسمه، وستضع المتجر الذي ستشتريه له باسمه، لئلا تنقلب امرأته عليه.
- قيل لي إنك وعدته ببنت حلال فرنسية، قالت وكلي دهشة على سماع ذلك.
- أنا، وعدته؟...
- يا ليتك تجد له بنتًا يتيمة، أضافت جادة، هناك الكثير من الفتيات الفرنسيات اللواتي يقبلن الزواج من واحد مثل عامر، بشرط أن أكتب كل شيء باسمه.
كدنا ننفلق من طول انتظار مرتضى، وعامر لا يتوقف عن النظر إلى ساعته الواقفة متمتما "شيء ما". دخل "الموسيو" عند غروب الشمس، مع ابتسامته الثابتة على شفتيه. أخبرنا أننا سنلف شوارع الاسكندرية، وغدًا، إن شاء الله، سنذهب إلى المعمورة. كظمنا غيظنا، ونزل عامر ليشرب قنينة سفن أب عند عم إبراهيم البواب. قالت برنسيس هذا لأننا لم نشأ أن نأخذها معنا، وبالمقابل، طلبت من أبيها أن يشتري لها تفاحًا، فاكهة من فواكه الترف في مصر. صلى أبوها مرتين، وتغدى، أو تعشى، حسب الساعة التي كانت. عاد عامر، وهو يتمتم "شيء ما" لنفسه ناظرًا إلى ساعته الواقفة، فسألته أمه إذا كان عم إبراهيم قد أرجع له "الفكة". أخرج الولد من جيبه بعض القطع المعدنية، وأراها إياها، فاطمأنت حسناء: لقد أعاد عم إبراهيم البواب الصرف لابنها. استطعنا في الأخير أن نغادر الشقة عدا برنسيس طبعًا على الرغم من توسلاتها.
- أنهيت كل شيء، والله، يا ماما، قالت برنسيس.
- ولماذا ترانا نخرج في رأيك؟ لنتركك تدرسين بهدوء. إذن لا.
- لكني درست كل شيء.
- لا. ما عليك سوى مراجعة ما درست.
- لكن لا شيء عندي للمراجعة.
- ومع هذا قومي بالمراجعة.
- لكن ماما...
- لا.
صعدنا في سيارتيهما الاثنتين، البيجو البيضاء الهرمة والفيات الحمراء القريبة من الموت. بعد كل تلك السنين، امتد الكورنيش إلى ما لا نهاية. هناك في منطقة كلية فيكتوريا من فوق، كانت عمارات كثيرة من حال العمارة التي تسكن فيها أختي: التصدعات التي لا تعد ولا تحصى، والأعمدة الرفيعة التي يعاد صبها لتصبح ضخمة كأعمدة المعابد الفرعونية القديمة. وفوق كل هذا، الغبار. في كل مكان. قلت، ونحن نتمشى على رصيف أحد الشوارع، أصبحت الاسكندرية مدينة غبراء.
- إنها رمال البحر، احتج مرتضى، وهو يبتسم ابتسامته الخالدة.
كان عامر إلى جانبي يحيي الجميع: "السلام عليكم! السلام عليكم!"
- العمارات تتساقط، رددت، وسحب الغبار في كل مكان. وليس هذا فقط. أنظر إلى أطنان القمامة التي تملأ الشوارع.
- ليس هذا صحيحًا، رد مرتضى بدوره، وابتسامته تلصق دومًا على شفتيه.
ادعى أن الناس في مثل هذا الموسم من كل سنة يجصصون واجهات عماراتهم ويرممون ما عليهم ترميمه استعدادًا لقدوم الصيف. في الصيف، هنا وهناك، أنت لن تجد أين تضع قدمك. الاسكندرية شيء آخر في الصيف: مظلات وكراسي البحر في كل مكان، وفي كل مكان الناس في المايوهات يشربون العصير والكوكا كولا! هبت عاصفة من الغبار، فأخذ مرتضى يعطس، ويستغفر. توقف عامر عن قول "السلام عليكم" للعابرين، وأعاد ما قلته منذ قليل:
- الاسكندرية مدينة غبراء!
وانفجر ضاحكًا. ردعه أبوه، فلم يرتدع لا بقليل ولا بكثير.
- هيه! خالو؟ الاسكندرية مدينة غبراء!
ومن جديد، انفجر ضاحكًا. ومن جديد، ردعه أبوه، لكن عامر أعاد:
- الاسكندرية مدينة غبراء!
ضحكت وإياه، كان في غاية السعادة.
- هيه! خالو؟ الاسكندرية مدينة غبراء!
- الاسكندرية مدينة الغبار والذباب، قلت.
طلبت من مرتضى أن يرى كيف يطارد ذباب الاسكندرية العابرين مطاردة الجراد لكل ما هو أخضر.
- ليس هذا صحيحًا، رد مرتضى دون أن يتمكن من طرد ذبابة التصقت بعنقه.
- أن يطارد الذباب هكذا العابرين، لم يحصل هذا في أية مدينة من مدن العالم، أطلقت كالسهام كلماتي.
- الاسكندرية مدينة الغبار والذباب! سخر عامر.
قال مرتضى كم هو راض من العيش في الاسكندرية، ليس لأنه من مواليدها، ولكن لأنه يفضلها على القاهرة، مدينة الغبار والذباب حقًا أو باطلاً. بدا سعيدًا. ومع ذلك، لم يكن باستطاعته التخلص من تلك الذبابة الملتصقة بعنقه.
- أنا سعيد، قال.
أيدته زوجته.
- أنا سعيدة أيضًا، قالت.
- ولكن تلك الذبابة التي تلتصق بعنق مرتضى شيء جنوني، يا عزيزي، قالت زوجتي.
- أنا سعيد، أعاد مرتضى، وهو يضرب بيده عنقه.
في المساء، تعشينا ساندويتشات الفلافل والجبنة البيضاء، على الأقل ما تبقى منهما. تمالكت عن غيظي. لاحظت دودة على فم عامر. كان قد التهم نصف ساندويتشه بالجبنة البيضاء. سمعت زوجتي تصيح: "شيء جنوني، يا عزيزي!" فرأت حسناء الدودة على فم ابنها، وأبعدتها بسرعة. وعلى العكس، تركت ابنها ينهي ساندويتشه. لم أتابع "الجميلة والجريء" معهم حتى النهاية. رميت تلفزيونهم المعطوب بنظرة سريعة، وقلت لنفسي: جديد لكنه متروك! ثم قمنا أنا وزوجتي وبناتي لننام. بقيت حسناء وزوجها ساهرين إلى ساعة متأخرة من الليل. كنت أسمعهما، وهما يكسران بزر البطيخ المحمص، ويمضغانه، إلى أن انتهت كل البرامج التلفزية. كان الحر شديدًا، ولم أنم طوال الليل. نظرت إلى بناتي الصغيرات، وهن ينمن في أحضان الإسمنت، عند قدم العمود الضخم الذي تم صبه. كان الثقب الكبير في الجدار قد تم إغلاقه. لم أستطع احتمال الإهتزازات التي يتحرك لها كل شيء مع مرور القطار الأزرق. نهضت إلى الشرفة كي أتنسم هواء البحر أعمق تنسم. ألقيت نظرة على الموج الفضي من ناحية الشمال، ثم على العمارة المقابلة حيث تسكن مريم. في تلك اللحظة، انطفأ الضوء المتسلل من إحدى النوافذ.



الفصل الخامس عشر

في الغد صباحًا، نهضنا، ولم نجد أحدًا. تعجبت من عدم وجود عامر على النافذة، وخلصت إلى أن أمه أخذته إلى السوق معها. سخنت زوجتي حليب إيناس، وهي تقول لي إن حسناء سبق لها أن غلته، لكن إيناس رفضت شربه، فصاحت أمها بها صياحًا أرعبها، وأجبرتها على شربه كله دون أن تترك قطرة واحدة منه. أرعبت أيضًا بصياحها غيداء ودينة، فشربت الصغيرتان حليبهما بالشوكولاطة المصرية التي تكرهانها غصبًا عنهما. أرادت إرغامهما على أكل قطعة من الجبنة البيضاء، فأوقفتها، وألقيت بالجبنة البيضاء في صندوق القمامة. كانت زوجتي مرتعبة على صحة بناتها.
- لقد نحفن، يا عزيزي، قالت لي.
- لا، لم ينحفن، قلت وأنا ألاحظ رغم ذلك أنهن نحفن بالفعل.
- لقد نحفن، وأنا خائفة أن يمرضن.
- لا تقولي أي شيء رجاء.
بكت، فأكدت:
- لم ينحفن.
ولكني كنت مضطربًا.
- بلى، لقد نحفن.
وضعتُ يدي على كتفها، ونظرتُ إليها دون أن أجرؤ على معارضتها. نَظَرَتْ إلى الأعمدة العملاقة من حولها، إلى أكوام الرمل في الزوايا، إلى الغبار المنتشر أينما التفتت، وارتعشت من القلق. ذكرتها بذهابنا اليوم إلى المعمورة، وعدتها بأن نخرج كل يوم من الصباح إلى المساء، وألا نعود إلا للنوم. لم أقنعها. رمت من حولها نظرة مروعة، وهي تشد إيناس بقوة إلى صدرها، ولولا قدوم العمال لانهارت زوجتي.
دخل عم السيد مع معاونه محمد يتبعهما صبي اسمه حسنين. قال محمد، من أجل جبل الإسمنت. بدأوا يقصرون الأعمدة والجدران، فوقفت غير بعيد عنهم أنظر إليهم، وأسمع ضوضاء بناتي اللواتي يلعبن في غرفة برنسيس. نسين دموع أمهن، ورحن مع لعبهن وضوضائهن أكثر فأكثر، وكأنهن مدرسة بأكملها. تابعت بنظري يد عم السيد الماهرة، تلك اليد التي تعرف عملها معرفة سحرية، وهي ترشق الإسمنت بدقة، وهي تملسه برشاقة، كما لو كان ظهر امرأة. أعدّت زوجتي شايًا بالنعنع، وقالت لهم إنها عملته على الطريقة الجزائرية طريقة أهلها، فانحنوا أمامها احترامًا، وهمسوا لها آيات الشكر.
تفاجأنا بعودة حسناء مع برنسيس، كانتا عند الطبيب لأن برنسيس نهضت في الصباح باكية بسبب أوجاع رأسها. أعطاها أبوها حبتي أسبرين، لكن أمها أصرت على أخذها عند الطبيب. أشربتها أمها الدواء كما لو كانت رضيعتها، بينما بدت لي برنسيس في أحسن صحة. بعد عدة دقائق، نسيت أنها كانت مريضة، وراحت تلعب مع بناتي، ثم نزلت إلى الدكان التي في الوجه المقابل، واشترت لهن كمية كبيرة من الحلوى. حملت إيناس، ورمتها في الهواء عدة مرات. قبلتها، وضحكت معها. قلت لحسناء إن برنسيس في أحسن صحة، لكن أمها أصرت على كونها مريضة.
- وأين عامر؟ سألتُ أختي.
- ذهب مع أبيه إلى شركة القطن، أجابت.
- إلى معمل الجبنة البيضاء.
- معمل الجبنة البيضاء شيء إضافي.
- إضافي إلى ماذا؟
- إلى شركة القطن.
- لم يزل محاسبا إذن.
- في شركة القطن.
- لكن أمي قالت لي...
- نعم، له معمل الجبنة البيضاء، لكنه يحتفظ دومًا بعمل المحاسبة في شركة القطن.
- في شركة القطن.
- هناك أخذ عامر، إلى شركة القطن حيث يعمل محاسبًا.
- ليعين أباه في المحاسبة.
لم تبتسم حسناء. بدت مشغولة البال. أضافت أن زوجها كبير المحاسبين في شركة القطن. منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وهو يغرق في الأرقام. سأَلَتْ إذا كنا قد أفطرنا، فقلنا أفطرنا. قالت زوجتي إنها أعدت شايًا بالنعنع للعمال، فأعدت حسناء شايًا آخر.
- كما يعمله المصريون، قوي ومر، أوضحت. هكذا هم يحبونه، قوي ومر.
قدمت لهم شايها القوي والمر، وهي تتكلم مع عم السيد بمصرية مكسرة. شكرته، وشجعته على إتمام كل شيء في أقرب وقت ممكن، لإسعاد الضيوف، قالت مشيرة إلينا، وعم السيد مكب على عمله، لا يضيع ثانية واحدة، ولا يرفع إليها عينيه. بعد ذلك، جلست أختي من وراء الطاولة البلاستيك المحشورة بين المطبخ وبيت الماء، ونادت زوجتي. طلبت إليها أن تساعدها في تنقية الفاصولياء الخضراء. قلت لها: "أريد أن أساعدك أنا أيضًا". جاءت برنسيس، وهي تحمل بين ذراعيها إيناس، وأخذت تثني على أناقة خالو. وَجَدَتْ قميصي الحريري البرتقالي جميلاً جدًا. "أقدمه لك"، قلت. لكنها رفضت.
على الساعة الثالثة، عاد عامر، وبين ذراعيه كيس كبير من البرتقال الذابل. "للعصير"، قال. كان يبدو في غاية السعادة. قال إنه عاد من الشغل، وإنه وجد لنفسه عروسًا. نظرت إليه حسناء دون أن تنظر إليه، كانت غائبة، تغرق في أفكارها. كانت لها هيئة التعيسة التي تزداد يومًا عن يومٍ تعاستها. وجد ابنها عروسًا للزواج منها، وهي، وهي تشعر أنها تعيسة تعاسة تزداد يومًا عن يوم. ثم رسمت بسمة حزينة على شفتيها عندما سمعت ابنها، وهو يعطي أوامره للعمال. اعملوا هذا ولا تعملوا هذا. اعملوه جيدًا. وإلا منعت عنكم "الماهية". غادر العمال المكان، وعامر يقول من ورائهم: "لا تتأخروا غدًا، وإلا منعت عنكم "الماهية!" رجع بعد ذلك وهو حزين. تمتم "شيء ما"، وحدق في ساعته الواقفة.
ما أن دخل مرتضى حتى استفسرته حسناء عن العروس التي وجدها عامر لنفسه، فأوسع ابتسامته، وقال إنها مدام مرسي. اصفرت حسناء، وأخذت ترتعش.
- لا ولا ولا، صرخت.
- لا ولا ولا، صرخ عامر إلى جانبها.
شدت عامر من أذنه.
- مدام مرسي بعمر أمك، قالت لابنها، وأنت، عليك أن تجد بنتًا بعمرك.
- مدام مرسي بعمر... أعاد عامر، وأذنه تشدها له أمه دومًا، وأنت، عليك أن تجد...
كشر مرتضى دون أن تمحي ابتسامته عن شفتيه.
- كل الأمر ليس إلا مزاحًا، رمى مرتضى. كل زميلاتي أحببنه، وقلن إن عامر جميل.
- كل الأمر ليس إلا... رمى عامر، وأذنه مشدودة دومًا، كل زميلاتي أح...
- لا ولا ولا، استمرت حسناء تصرخ.
- لا ولا ولا، صرخ عامر من جهته، وأذنه مشدودة دومًا.
- أنا لا حظ لي، شكت حسناء، أضعت حياتي من أجله.
- أنا لا حظ لي، شكا عامر، أضعت...
- كان بإمكاني أن أصبح محامية كبيرة، تابعت حسناء، ولكن بسببه، أنظر أية حياة أحيا.
- كان بإمكاني أن أصبح محامية ك... تابع عامر، وأذنه مشدودة دومًا، ولكن بسببه...
- ضحيت بكل شيء من أجله، من أجل أخته، من أجلكم كلكم، وهذا هو جزائي بعد كل ما فعلت.
- ضحيت بكل شيء من أجله... وهذا هو جزائي بعد كل...
- هلا خرست؟
- هلا خرست؟
لكنها شدته، وهو يصرخ: آي ي ي ي ي ي ي ي ي ي!
كان مرتضى يشد الجريدة طوال الوقت بيده، ويصغي صامتًا. كان يبتسم. فقط. رفع صوته في الأخير، والابتسامة دومًا هناك، تلتصق بشفتيه.
- لماذا أنتِ دومًا هكذا، يا ماما؟ عاتبها.
- لست أمك، رمت حسناء بحدة.
- أعرف، يا ماما، كرر "جرمه" مرة ثانية.
- هذه ماماي حسحس، قال عامر، وأذنه مشدودة دومًا.
- كل الأمر ليس إلا مزاحًا، عاد مرتضى إلى القول، وهناك في الجريدة شيء ما أهم.
- شيء ما، تمتم عامر، وأذنه مشدودة دومًا، دون أن يستطيع النظر إلى ساعته الواقفة.
- شيء ما، قالت حسناء. ما هذا الشيء الما؟ ليس هناك أهم من مدام مرسي، امرأة بعمري، وجدها ابنك (وعامر: آي ي ي ي ي ي ي ي ي ي! لأن أمه شدته من أذنه بقوة أكثر) للزواج بها. وأنا، آخر من تعلم.
- شيء ما، شكا عامر، وأذنه مشدودة دومًا.
حاول النظر إلى ساعته الواقفة دون أن يفلح. بكت حسناء. لكن مرتضى صاح بأعلى صوته:
- اسمعي فقط ما سأقوله.
وابتسم.
توجه بالكلام إلى زوجتي، قال لها إن عليها منذ الآن ألا تتكلم بالفرنسية أبدًا، بعد سلسلة الاعتداءات على السياح الأجانب. ارتاعت زوجتي، خاصة بعد أن أضاف مرتضى أن كل محاولات ضبط المعتدين فشلت، حتى اعتقال هذا أو ذاك أو الحكم على هذا أو ذاك لم يمنع تكرار وقوع مثل هذه الاعتداءات. تركت حسناء أذن ابنها الذي تمتم "شيء ما"، وهو ينظر جيدًا إلى ساعته الواقفة. أصغت إلى ما يقوله زوجها بانتباه. وكل هذا لشل السياحة، هذا العصب الحساس للبلد. العملة الصعبة بفضل السياحة، والسياحة بفضل السياح. وحسب مرتضى إنه الصراع بين الإسلام وأبي الهول.
قلت لا شأن للإسلام في الأمر، وكل هذا تمثيل بتمثيل فقط لا غير. وافقني مرتضى، لكني هززته:
- ولماذا أرعبت زوجتي هكذا؟ ألا ترى أن هذا يميتها من الخوف.
ابتسم. كانت زوجتي على وشك الانهيار.
- لا تخافي، قلت لها. كل هذا لن يؤثر على معنوياتنا، كل هذا لن يمنعنا من قضاء أجمل عطلة في حياتنا.
- أحقًا، يا عزيزي؟ سألتني زوجتي بحنو.
- حقًا.
عند ذلك، سمعنا عامر يهمس في أذن أمه:
- أنت عروسي، يا ماما.
فانفجرت حسناء باكية.




الفصل السادس عشر

أكلنا فاصولياء خضراء بلحم يابس كنعل، سألت إذا كان اللحم طازجًا. قالت حسناء لي إن اللحم طازج. هل هو لحم خروف؟ أكدت حسناء إنه لحم خروف، ثم تراجعت، إنه لحم بقر قالت. ليس طريًا؟ لا أكثر منه طراوة. ماذا يعني لا أكثر منه طراوة؟ قال مرتضى، وهو يبتسم ابتسامته الخالدة، يعني "طازجا"، وتركني أحزر ماذا يعني ذلك: يعني ذلك أن اللحم آتٍ مباشرة من المسلخ. كنت على وشك أن أقول لهم "اللحم الذي لا أكثر منه طراوة" إذن هو كل ما يُرمى من لحم. لكني سمعت مرتضى يقول لزوجته إن طبقها من أطيب ما يكون، و"شكرا لك، يا حسحس!" وعامر: "شكرا لك، يا حسحس!"
جاءت نهاد، صديقة برنسيس، وقالت إن مدرّستهن غائبة بعد الظهر، وطلبت أن تأتي برنسيس عندها للمذاكرة ومراجعة دروس الصباح. وافقت حسناء دون رغبة منها، وما لبثت الفتاتان أن غادرتا المنزل. ذهب مرتضى لينام قليلاً رغم أن القيلولة لم تكن ربته على سطح الأرض، وقال إننا سنذهب إلى المعمورة أول ما ينهض. ابتلعت عدم رضائي. قرأتُ في عيني امرأتي "ولكنه جنون!"، وتابعتُ حسناء التي انطلقت كالسهم نحو الهاتف. سمعتها تسأل عن وصول برنسيس إلى بيت نهاد التي لم تصل بالطبع وهي لم تغادر إلا منذ دقائق. رجت محدثها الاتصال بها حال وصولها. مسحت لعاب ابنها، وهي تتأمله بدفقة من سعادة مفاجئة، وتلمس وجنتيه، وتداعبه من شعره، لكنه أبعدها قائلاً إنه رجل! تذكر عامر المشاحنة التي جرت بين أمه وأبيه بسبب مدام مرسي التي كان يريد الزواج بها، وقال إنه لن يتزوج إلا بنهاد. وبخته حسناء: "لا"، صاحت. تدخلت، وقلت: "آه! لو كانت نهاد تقبله. بنت ناعمة وخمرية وذات ابتسامة ساحرة." لكنها عارضت فكرة زواج ابنها، أجمل الأبناء بالنسبة لها، من نهاد، صديقة برنسيس. "صديقة أختك مثل أختك"، أضافت لعامر. لربما كانت تحلم بكنة فرنسية، إلا إذا كانت لا تريد تزويجه من أحد لتحتفظ به لنفسها، لنفسها وحدها. لقد كرست له كل حياتها، فعامر إذن لها. سيكون لها، مع كل ما قاست من عذاب، وليس لأي شخص آخر.
هيأتُ الكاميرا من أجل المعمورة، ثم غفت عيني قليلاً، لكني استيقظت مذعورًا على صراخ حسناء في الهاتف: "أين ذهبت برنسيس؟" أغلقت السماعة بعصبية، وكادت تكسرها. ذهبت تنظر من الشرفة، وما لبثت أن عادت إلى الهاتف. رفعت السماعة، وهي تقول لنفسها: "أمعقول أن تكون عند مريم وأمس كانت تبكي منها؟" كانت برنسيس بالفعل عند مريم. كانت على الطرف الآخر من الخط، وكانت تقول لأمها إنها عندها من أجل درس الإنجليزي الذي تأخذه ونهاد معها.
- ولماذا لم تقولي لي؟ زعقت حسناء وهي أقرب إلى الجنون.
- بكل بساطة لأنني تذكرت ذلك في آخر لحظة، أجابت برنسيس بكثير من الهدوء.
- بكل بساطة! أعادت حسناء وهي تصرخ دومًا.
- ولكن يا ماما، ليس الأمر على مثل هذه الخطورة، نرفزت برنسيس بعض الشيء.
- بلى، هو على مثل هذه الخطورة.
- اهدأي، يا ماما.
- اهدأي، يا ماما، تهكمت حسناء. بكل بساطة لأن الآنسة تذكرت ذلك في آخر لحظة.
- اهدأي، من أجلي!
- سأهدأ، سأهدأ.
- طيب.
- ولا سيما ادرسي جيدًا.
مرتضى الذي كان ينام مبتسمًا نهض مبتسمًا على صراخ زوجته، وهي لم تزل ترتعش، عَمَلَ على تهدئتها، وهو يهمس في أذنها، ويدغدغها: "ولكن ابتسمي لي قليلاً! ولكن ابتسمي لي قليلاً!" وعامر: "ولكن ابتسمي لي قليلاً! ولكن ابتسمي لي قليلاً!" لم تبتسم. أخيرًا، استعددنا للذهاب إلى المعمورة. سبقنا عامر إلى النزول ليشرب زجاجته السفن أب عند العم إبراهيم البواب. ونحن في السيارة، جاء عامر، وهو يلحوس شفتيه. سألته أمه بعدائية إذا ما أرجع له العم إبراهيم "الفكة"، وعم إبراهيم ليس بعيدًا هناك، يجلس على كرسيه الملكي القديم، ويسمع كل شيء. وهو يسوق، سعى مرتضى إلى التخفيف من حدة الجو. كلم إيناس بالفرنسية، وهي في حضن أمها، البيبي إيناس، مخاطبًا إياها بصيغة الجمع: "وأنتن، يا آنسة إيناس... وأنتن، يا آنسة إيناس..." وعامر: "وأنتن، يا آنسة إيناس... وأنتن، يا آنسة إيناس..." وإيناس تضحك، وتزقزق.
وأنتن، يا آنسة إيناس... أخبرنا مرتضى أن الدخول إلى المعمورة لا يمكن إلا ببطاقة خاصة، وأشار بإصبع الخيلاء والغرور إلى البطاقة التي وضعها وراء الزجاج الأمامي للسيارة. سمح لنا الحارس بالدخول، وصف مرتضى سيارته بين سيارتي مرسيدس.
- هنا لا تجد إلا سيارات مرسيدس، قال لي بابتسامة الخيلاء والغرور دومًا.
- سيارات مرسيدس؟
- سيارات مرسيدس آخر موديل.
تمشينا داخل المركّب السكني، فالمعمورة ما كانت سوى مركّبٍ سكنيٍّ على شاطئ البحر، وكان مرتضى يريدنا أن نُعجب بالفيلات التي كانت كلها مغلقة أو على التقريب مغلقة قائلاً المعمورة في الصيف لن تجد مكانًا تضع فيه قدمك! الكل هنا من الناس الأكابر! بدت حسناء فجأة على أحسن ما يرام، وسط كل تلك الفيلات، كل تلك الشقق المُترفة، كل تلك النخلات. جعلتنا نمر أمام بناية من طابقين، أشارت إلى إحدى الشقق، وقالت إنها لأخي مرتضى صاحب عمارتهم السابق الذي تزوج بخادمته، وانظروا في أي عز تعيش!
ونحن في طريقنا إلى الشاطئ، بدأ عامر بإلقاء التحية على العابرين: "السلام عليكم... السلام عليكم..." وبخته أمه، فخفض صوته: "السلام عليكم... السلام عليكم..." رغبتُ في تصوير المكان، البحر الهائج، بناتي اللواتي يضحكن من أعماقهن. كانت المرة الأولى منذ وصولنا إلى الاسكندرية التي نمر فيها قرب البحر، ونمشي فيها على الرمل. لم أر في عدستي سوى نقاط سوداء. لم يبسطني ذلك. غطت حذائي طبقة سوداء. أوضح مرتضى أنها مخلفات الفندق الفخم الذي بَنَوْهُ بجوار قصر المنتزه. أشار إلى الطرف الآخر من الشاطئ، فرأيت في الرذاذ كيف ينبت الفندق كالفطر على كتف القصر الشهير فيما مضى. بَرَدَ الجو، فرفضت حسناء الذهاب إلى مقهى.
- اعزمنا أنت، يا عزيزي، قالت زوجتي.
احتج مرتضى:
- أنا من يعزم، أَقْسَمَ.
ومع ذلك، أخذت حسناء طريقًا إلى المقاعد المزروعة في الرصيف، وهي تقفقف من البرد. عرض مرتضى أن يحضر لنا شيئًا ساخنًا من دكان الساندويتشات المجاورة، فقالت زوجته اشتر لكل واحد ساندويتش، الساندويتش الصغير جدًا الذي صرت أعرف الآن حجمه. سيكون عشاءنا.
- شيء ما، همهم عامر، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة.
ما أن أنهينا ابتلاع ساندويتش اللقمة ونصف، ونحن نقفقف من البرد، اقترح علينا مرتضى أن يأخذنا إلى أبي قير، شاطئ آخر ليس بعيدًا من هناك. عارضته زوجته، لكنه ألح على الذهاب.
- ليروا الاسكندرية تحت كافة وجوهها، رمى وهو يوسع ابتسامته أكثر ما يكون. ثم، أبو قير ميناء شهير في التاريخ.
لم أر في حياتي مكانًا محفرًا مثل أبي قير، لم يلد التاريخ أكثر منه تحفيرًا. كانت جدرانه محفرة، وأرصفته محفرة، وطرقه محفرة، وأعمدته محفرة، ودكاكينه محفرة، ووجوه الناس محفرة، صدورهم، أياديهم، سيقانهم، أقدامهم. كان الناس يمشون في الحفر، يقفون في الحفر، يقومون ويقعدون في الحفر. رأيتهم في المقاهي يجلسون في الحفر، وهم يدخنون النارجيلة، ورأيتهم في حوانيت المواد الغذائية، وفي مطاعم الوجبات السريعة، وفي الساحات العامة، في كل مكان، وأطفالهم يلعبون حولهم، ويترامون في الحفر. قرأت على الجدران المحفرة شعارات إسلامية، ولكني لاحظت أن الجدار الوحيد الخالي من الحفر هو الجدار المحيط بمبنى رجال الدرك.
شهقت حسناء.
- لماذا أتيت بنا إلى هنا؟ سألت زوجها بحدة. أخفت زوجة أخي، وحذرتها من نطق كلمة واحدة بالفرنسية، وتأتي بنا إلى معقل للإخوان المسلمين!
- هذا جنون، يا عزيزي، همهمت زوجتي، وهي معجونة بالخوف.
وعامر: "هذا جنون، يا عزيزي..."
- سنذهب بسرعة إلى الشاطئ، أجاب مرتضى، وهو يبتسم دومًا.
ضاع، ولم يعرف كيف الخروج من تلك الورطة. غرقت سيارته في برك من الوحول والفضلات التي تقيئها المجاري المحفرة. ومن بعيد، رأى مجموعة من الشبان انطلق صوبها. كنت دائخًا لكثرة ما خضتني السيارة، فلم أتمكن من سماع الحديث الذي دار بين مرتضى والشبان. امتطى أحدهم مقدمة السيارة، وأشار إلى مرتضى ليتبع الاتجاه الذي يحدده له. قطعنا مسافة طويلة تبعًا لإشارات الشاب: من هنا، لا، ليس من هنا، من هناك، وكان يغني، كان ينكّت مع الناس الذين نمر بهم، وكان لا يتوقف عن عمل الإشارات، وكان يغني ويغني. ترك مرتضى ابتسامته تتساقط من شفتيه لتتفشى مثل لطخة من الزيت، وحسناء تكاد تنفلق، تنتقد فعلة زوجها، وتطلب منه إنزال الشاب حالاً، والعودة من حيث أتينا. ترك مرتضى ابتسامته تتساقط من شفتيه أكثر.
- انتظري قليلاً، يا ماما! قال.
وعامر: "انتظري قليلاً، يا ماما"، ثم نظر إلى ساعته الواقفة.
وفي الأخير، أوصلنا الشاب إلى شاطئ خاص. نزل مرتضى ليستعلم لكنه ما لبث أن عاد يقول للسباحة علينا أن ندفع، وإذا أردنا أن نسبح، لِمَ لا، فهو سيدفع.
- لا نريد أن نسبح، صاحت حسناء بهستيرية.
لأول مرة كانت حسناء على حق، كان الجو باردًا جدًا، ونحن لم نحضر أغراض السباحة.
- انتظري قليلاً، يا ماما، قال من جديد.
وعامر: "انتظري قليلاً، يا ماما"، ثم نظر إلى ساعته الواقفة.
تدخلت.
- ليس الوقت وقت سباحة، قلت.
- لم نأت لنسبح، قالت حسناء، وقد ارتاحت لكلامي.
- انتظري قليلاً، يا ماما، قال مرتضى يائسًا.
وعامر :انتظري قليلاً، يا ماما"، ثم نظر إلى ساعته الواقفة.
- إذا أردتم السباحة، لِمَ لا، فأنا سأدفع، أعاد مرتضى.
- لا! صاحت حسناء بأعلى صوتها، وقد بدا عليها أنها ستنفجر.
وعامر: "لا!" ثم نظر إلى ساعته الواقفة.
أراد الشاب الصعود على مقدمة السيارة ليدلنا على طريق العودة، لكن حسناء جمدته بصياحها في مكانه. اضطر مرتضى إلى أن يدفع له، وأن يصرفه. وطوال عودتنا حتى المكان المحفر، قلد عامر الشاب، وهو يشير بيده، وهو يغني حتى استطاعت حسناء في الأخير أن تسكته. نظر إلى ساعته الواقفة، وهمهم "شيء ما" بينما انفجرت ابنتي غيداء ضاحكة. "شيء ما"، قالت مقلدة إياه، وهي تنظر إلى ساعة غير مرئية. كانت دينة تنام في حضني، وإيناس في حضن أمها التي وضعت يدها على جبهة طفلتنا، وبدأت تقول بالفرنسية، ثم غيرت رأيها فجأة، وقالت بالعربية يخيل لها أن عند إيناس بعض الحمى، فلمست حسناء لها جبهتها، ولكنها قالت هذا لأنها نائمة هي ساخنة.
ونحن نغادر تلك الحفرة الكبيرة التي كانتها أبو قير، لاحظنا أن فلاحي المنطقة يعرضون للبيع عنبًا وجوافا وتينًا على طول الطريق. توقف مرتضى، وكمن يريد الاعتذار عما حصل، اشترى لنا بضع حبات من الجوافا.
- أبو قير بلد الجوافا، ابتسم أكثر من عادته.
- الجوافا في أولها، ردت حسناء، وهي لم تزل يابسة ومرة.
عاد مرتضى يسوق سيارته.
- ربما كنتَ تريد عنبًا، سألني.
- لا، أشكرك، قلت.
- العنب أيضًا في أوله، علقت أختي. مصر بلد حار، كل فواكه الصيف هذه أو آخر الصيف تجدها مع حلول الربيع. وليس منها ما هو حلو هذه الأيام سوى الفراولة.
- عند إيناس بعض الحمى، يا عزيزي، قالت زوجتي قلقةً من جديد.
- عجل بالعودة إلى البيت، يا مرتضى، قالت حسناء، عند إيناس بعض الحمى.
تركت مرتضى، ونحن نقطع الكورنيش، يحاكي نفسه، كما لو كان أسعد مخلوق على وجه الأرض، عن انبعاث الاسكندرية في الصيف، وانتعاش الحياة، واشتداد الحركة على الكورنيش، هناك حيث لا تجد مكانًا يمكنك أن تضع القدم فيه. أغمضت عيني من أجل ألا أفكر في شيء، أو بالأحرى من أجل أن أفكر في إيناس. قليلاً. عندها بعض الحمى طفلتي الصغيرة. كان شبح الصيف يحفر لي دماغي، وكنت أحس بنفسي معلقًا على حافة صخرة، ولا يتوقف موج البحر عن سوطي.
عند عودتنا، لم نجد برنسيس في البيت، فجن جنون حسناء. أقسمت أن تحرمها من العشاء. نَسِيَتْ أن حرماننا من العشاء نحن قد حصل، فلم يكن الساندويتش الصغير كافيًا. كانت جائعة. كانت على وشك الجنون. خاصة عندما قالت لها أم مريم على الهاتف إن الصديقات الثلاث قد خرجن مباشرة بعد درس الإنجليزية. أخذت حسناء تنط من النافذة إلى الشرفة ومن الشرفة إلى النافذة، وعامر ينط خلفها مثل كلبها. أزعجها، فطردته، فاستمر ينط خلفها، فضربته، فبكى، وأقسم أن يضرب برنسيس كما ضربته أمه، أن يذبحها حتى. خلع ساعته الواقفة، وراح يضربها في الكنبة. عادت حسناء إلى مهاتفة أم مريم ساخطةً شاكيةً باكية. دخلت برنسيس في اللحظة التي وضعت حسناء فيها السماعة ، كانت بصحبة نهاد، وحسناء لغضبها لم تمنع نفسها عن تأنيب ابنتها أمام صديقتها. اختلت بابنتها في غرفتها، وسمعنا كلماتها الشديدة القسوة. ثم حط صمت طويل، خرجت حسناء بعده من غرفتها، وابتسامة واسعة على شفتيها. قالت لنا إن برنسيس لن تكرر فعلتها ثانية. خرجت برنسيس بدورها وغمزت صديقتها. قبلتنا، ثم سألتني إذا صورت المعمورة، لأنها تريد أن ترى الكاسيت فيديو في المساء. زعلت عندما علمت بالعطب الذي حصل. نقاط سوداء. ضرب مرتضى جبينه، واعترف دون أن يكف عن الابتسام بكونه السبب: لعب "بالزوم" عندما ذهبتُ إلى النوم مساء أمس.


الفصل السابع عشر

بدأت أنكت أنا وعامر على مشوار المعمورة: كان المشوار مصيبة كبيرة! دعوناها "المحفورة"، وبلمعة ذكاء لم أتوقعها منه، ربط عامر بينها وبين المدينة الغبراء التي هي الاسكندرية، وانفجرنا ضاحكين.
اعتذر مرتضى، والابتسامة تلتصق دوما بشفتيه، وقال إنه مقصر، يريد أن يرينا كل معالم الاسكندرية، ولكن لا وقت لديه. غدًا عليه الذهاب إلى الكنج، كان عليه أن يذهب إليه اليوم ليدفع للعمال "ماهياتهم". وإن شاء الله سيأخذنا إلى الفيلا في يوم قادم كي نقضي فيها نهارًا كاملاً. قال سنشوي لحمًا، وسنستنشق هواءً نقيًا. قضمت برنسيس حبة جوافا قائلة إنها ليست طيبة: هي، هي تريد تفاحًا. نهض أبوها على التو، واتجه نحو الباب، وهو يقول إنه سيشتري لها تفاحًا وموزًا.
- في طريقك اشتر لبنًا رائبًا ميد إن فرانس للبنات، طلبت حسناء، ولا تنس الحليب المعقم لإيناس.
- ولي لبنًا رائبًا وحليبًا وتفاحًا مثل برنسيس، قال عامر.
صاحت به برنسيس، بالغيور عامر، وصاح عامر بها. زعلت، وخرجت إلى الشرفة. طلبت مني حسناء أن أذهب إليها وأن أكلمها. قالت إنها سلبية جدًا مع أخيها! وأخذت تعيد للمرة الألف كم ضحت وكم صبرت وكم ضيعت وبرنسيس الآن أصبحت كبيرة، عليها أن تساعدها بخصوص عامر، وتزيل عن ظهرها بعض العبء.
لحقت ببرنسيس، كانت الريح تعج، وتهز الشرفة. وكانت بنتاي تلعبان معها، وتتطايران في قلب الريح، كالعلم الإسرائيلي في سماء الاسكندرية. كانت الريح تهب بقوة لدرجة أن العلم كاد يتمزيق. قلت لبرنسيس، وأنا أشير إلى البنتين، إنهما ستصابان بنزلة صدرية. أجابت أن مجرى الهواء عنيف الليلة، ونظرت ناحية البحر من الشمال. لمست قميصي الحريري، وعبرت عن إعجابها به. عزمتُ على تقديمه لها بعد أن تغسله زوجتي وتكويه. ستكون مفاجأتي لابنة أختي. أشارت إلى مجموعة من الشبان تحت عمود الكهرباء.
- لو كان عامر مثلهم، همهمَتْ، لكان معهم.
بدت حزينة.
- عليك أن تكوني أكثر حدبًا على أخيك، فهو بحاجة إليك.
أقسمت أنها تحبه أكثر من كل شيء. نادته، وأعطته طنًا من الحلوى، وكذلك أعطت غيداء ودينة. غار عامر منهما رغم كل الذي أعطته أخته إياه. كلمته بنتاي، لكنه زجرهما.
- أترى؟ قالت لي برنسيس. هو الذي لا يحب أحدًا. لم يتكلم مع غيداء ودينة كلمة واحدة منذ وصولكم.
- هذا لأنه خجول.
لم تشأ الفهم.
- كل هذا سببه أمي، قالت برنسيس. عوّدته على أن يكون هكذا، ألا يتوقف إلا عليها، كما لو كانت خيط حياته.
- ولكنك أنت لست كغيداء ودينة، قلت، أنت أخته.
بدلت الموضوع، وهي تشير إلى العمارة المقابلة.
- أتعرف؟ قالت باسمةً. مريم معجبة بك. عندما تكون على الشرفة، تراك بالمنظار. تقول إنك جميل. لكني حذرتها، لا تلمسي خالو، خالو له زوجته.
انفجرت دينة تبكي فجأة، فغيداء سلبتها حلواها. ركضت وراء غيداء، ولا أدري كيف شددتها من شعرها. ارتعدت حسناء من شدة الخوف عليها، وخلصتها. ضمتها بحنان إلى صدرها، وأنبتني.
- إياك والدماغ! حذرتني. ألم تأخذ العبرة من التعاسة الدائمة التي أنا فيها؟
نادى عامر أمه لغيرته. كان يريد أن تضمه هو أيضًا الذراعان اللتان تدفآنه. ولما لم تأت حسناء، اقتحم زاوية برنسيس المحاطة بالخزانات، وألقى أقلامها أرضًا. أنبته أمه، فأخذ يصرخ. طلبت أمه منه أن يهدأ، وأن يخرس، لكنه لم يهدأ، ولم يخرس، واستمر يصرخ. دفعته في الحمام، وأمرته أن يغسل وجهه ليهدأ، ويخرس. لم يتوقف عن الصراخ، وما لبثنا أن سمعنا صوت زجاج يتحطم.
اقترحت زوجتي أن نخرج أنا وهي وبرنسيس الوقت الذي يهدأ فيه عامر. أخبرتني أن إيناس تنام على غير عادتها، ولديها بعض الحمى. ستعطيها عند عودتنا كيسًا من الكاتالجين. سارعت برنسيس إلى وضع طن من المساحيق على وجهها، مما دفع زوجتي إلى انتقادها: أولاً لأننا لا نذهب إلى علبة ليل، ثانيًا لأن المساحيق تفسد بشرة الفتيات الشابات اللواتي هن في مثل سنها. فتيات باريس لا يضعن مسحوقًا واحدًا، ويكتفين بقليل من الكحل. تدخلت حسناء، وقالت إن ابنتها بالمساحيق أكثر جمالاً، يعطيها هذا هيئة امرأة. ابتسمت لها بوله، وأمرّت يدها على خدها. همست لها "اذهبي بسلام مع خالو وامرأة خالو". انبثق عامر، وقد هدأ تمامًا، وطالب الذهاب مع خالو وامرأة خالو. كشرت برنسيس، ثم بعد بعض التردد قالت له تعال.
- بشرط ألا يقول "السلام عليكم" لكل عابر، قالت زوجتي.
- هل سمعت، قالت حسناء لابنها، ستذهب معهم بشرط ألا تقول "السلام عليكم" لكل عابر.
- السلام عليكم، همهم عامر، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة.
ونحن كلنا بصوت واحد:
- لا، بشرط ألا تقول "السلام عليكم".
ابتسم، ورال بوفرة.
- نحن أيضًا سنأتي، قالت غيداء.
- نعم، نحن أيضًا، يا ماما، قالت دينة.
- أنتن أيضًا، قالت أمهن.
انبسطت أسارير حسناء، كانت تتوهج على رؤية برنسيس وهي تأخذ أخاها من ذراعه، رأيتها تومض كفضة الموج. أمسكتُ غيداء بيد ودينة بيد، وخرجنا، وحسناء من ورائنا تحذرنا من السيارات ومن التكلم بالفرنسية.
عند عودتنا، وجدنا حسناء ومرتضى يمددان ساقيهما، وهما يفصفصان بزر البطيخ المحمص، ويتابعان حلقة من مسلسل "الجميلة والجريء". نسي عامر الساعة المرحة التي قضيناها بالتمشي على الكورنيش، وأخذ يحكي لأبيه عما فعلت به برنسيس. سأله عما فعل بأخته هو، عامر، أولاً، وقال له ان ينسى.
- انس! انس! رمى أبوه وهو يلصق ابتسامته الشهيرة على شفتيه.
حرك عامر يده بعصبية، وأعاد: "انس! انس!" عن دون اقتناع. عادت برنسيس من المطبخ وهي تقضم تفاحة صغيرة، وتحمل موزة أصغر. تساءلت لماذا هاتان الفاكهتان المفضلتان لديها صغيرتان إلى هذه الدرجة بينما رأت في باكوس، حي الأغنياء، تفاحًا كبيرًا بهذا القدر وموزًا كبيرًا بهذا القدر؟ اكتفى مرتضى بتوسيع ابتسامته أكثر، ولم يجب. سألت ابنة أختي ابنتيّ إذا كانتا تريدان تفاحًا وموزًا، فقلت عمدًا "بعد العشاء". تململت حسناء، أختي، في جلستها، وفي اللحظة ذاتها، جاءت زوجتي مضطربة، وهي تحمل بين ذراعيها إيناس.
- إيناس مصابة بالإسهال، يا عزيزي، شكت لي.
أخذت حسناء الصغيرة بين ذراعيها، ووضعت خدها على جبينها.
- لديها بعض الحمى، همهمَتْ.
- أتمنى أن تكوني قد أحضرت شرابًا ضد الإسهال، قلت لزوجتي.
هب مرتضى واقفًا.
- لدي شراب ضد الإسهال، شراب ناجع ليس مثله شراب!
أعطت زوجتي منه ملعقة صغيرة لإيناس، ومرتضى يطمئنها، ويعيد "شراب ناجع ليس مثله شراب! مفعول هذا الشراب سحري!"
- سترين، أضاف، في الغد تكون إيناس قد ارتاحت.
أخذ يضرب بأصابعه على الطاولة، ويصفر، وابنتي البيبي تتأرجح على الإيقاع، فضحكنا. أحضرت زوجتي كيسًا من الكاتالجين كي تشربه البنت مع الحليب المعقم الذي كان على مرتضى شراءه مع التفاح، فكان الحليب المغلي إياه كالعادة، واللبن الرائب إياه المصري.
- البنات لا يحببن هذا النوع من اللبن الرائب، يا عزيزي، شكت زوجتي. والآن علي أن أغلي الحليب، وأنتظر حتى يبرد.
فوّرت حسناء الحليب مرة واحدة، وبردته بماء الحنفية بعد أن صبته في زجاجة الرضاعة. أضافت زوجتي كيس الكاتالجين، وأعطته لإيناس التي شربته حتى آخر قطرة. قَلَتْ حسناء لحمًا بقريًا محفوظًا بالبيض، وعملت عدة ساندويتشات. التهمت برنسيس نصفها، وهي تنظر إلى زوجتي، وتقول لها إن الريجيم الذي وعدتها القيام به سيكون ابتداء من الغد، وزوجتي تضحك. ذكرتها أمها بأخذ الدواء، ولم تأخذه.
في صباح اليوم التالي، وجدنا عامر معلقًا على النافذة. كان يحكي مع العم إبراهيم أو يحاكي نفسه، وينظر إلى ساعته الواقفة بانتظار أن تعود أمه. أعلمتني زوجتي أن إسهال إيناس مستمر، فقلت لها أن تعطيها ملعقة صغيرة من الشراب الذي أحضرته من فرنسا. أعطتها، وقالت لا بد من عرضها على طبيب. وفوق هذا، لم يخفف الكاتالجين من الحمى شيئًا. ذَهّبَتْ، وجعلتها تبتلع قنينة حليب كاملة. ذَهَبْتُ، وأخذت أصور "المعبد" الذي هو شقة أختي. سجلت أطنان الغبار، واجهات الإسمنت، الأعمدة العملاقة. صرنا الآن إذا أردنا التحدث مع بعضنا البعض نحني رؤوسنا عبر الأعمدة، وإذا أردنا التنقل نتبع سِنان أسهم وهمية لئلا يصطدم أحدنا بالآخر. صورت التلفزيون المعطل، والمرايا التي أُنزلت من أماكنها، والثريات المغطاة. صورت حجرة السفرة، وجبال الأثاث الموضوعة فيها. ألححت على خيوط الكهرباء المنتزعة، وبسط البلاستيك المحترقة، والبرادي المثقوبة. ومن جديد، صورت أطنان الغبار. تخيلت رؤوس ثعابين متوحشة تنبت منها، وتحاول الالتفاف عليّ، الالتفاف على زوجتي وبناتي، بينما تزين هذه الثعابين سواعد أختي وزوجها وولديهما مثلما كان الفراعنة يتزينون بها في الماضي. كانت الثعابين تنتصب على رؤوسهم إشارة إلى العظمة والمجد.
فاجأتني حسناء بعودتها من السوق مع أكياسٍ ملء ذراعيها، وأنا أصور "المعبد". أخذت تصيح طالبة مني التوقف عن تصوير كل ذلك الخراب.
- ماذا سيقول الناس الذين سيرون كل هذا؟ سألت. هذا عيب، وعيب العيب! خسارة أنك لم تر كيف كان بيتي: السجاد، القطيفة، الحرير، كل هذا بل وأكثر.
رجتني أن أمحو كل شيء، لكني رفضت.
- سيبقى كل شيء للذكرى، قلت. ولأقارن بيتك ببيتك عندما أجيء في المرة القادمة.
أخبر عامر أمه أن سي مختار المهندس هرب كيلا يرسل العمال لإتمام عملهم. نظرت معها من النافذة، ورأيت الجيب المكشوفة، ولم أر سيارة الباش مهندس. ومع ذلك، على عكس ما قال عامر، جاء الصبي حسنين ليرش الأعمدة بالماء قبل أن يقصرها عم السيد للمرة الثانية. سمعنا فجأة إزميله على جدران الشقة السفلى متبوعًا بصدى.
- غدًا سينهي عم السيد عمله، قال حسنين لحسناء.
للاحتفال بهذا الخبر السعيد، أخبرتني حسناء أنها ستعد لي طبقًا من الملوخية آكل أصابعي من ورائه.
- بالأرانب؟
- بالفراخ، أجابت.
- ولكني لا أحب الفراخ، قلت.
جمدت حسناء على مرأى دموع زوجتي التي جاءت وهي تحمل إيناس بين ذراعيها.
- إسهال إيناس يزداد أكثر فأكثر، يا عزيزي! قالت ناحبة. حرارتها لا تهبط! يجب عرضها على طبيب.
رمت حسناء كل شيء من يديها، وهبت مع زوجتي تجري في طلب طبيب.



الفصل الثامن عشر

أخذ عامر ينتقل في الشقة من طرف إلى آخر بانتظار عودة أمه، نظر من النافذة، ونظر من الشرفة، ثم من النافذة، ثم من الباب.
- ماما حسحس، لماذا لم تأخذني معها؟ كان يتساءل.
- ماما حسحس لن تأخذك معها عند الطبيب، قلت له.
- ماما حسحس، لماذا وقعت مريضة؟
- إنها إيناس.
- إيناس، لماذا وقعت مريضة؟
- لأنها...
- إيناس، كان عليها ألا تمرض.
- نعم، ولكن...
- ماما حسحس... ماما حسحس... أعاد وهو يزوي فمه كالطفل الصغير.
جلس حزينًا، وهمهم لنفسه: "ماما حسحس... ماما حسحس...". لأحاول التخفيف من حزنه، أخذت أعلمه كيف يصفر أو كيف يفرقع إصبعيه. حاول دون أن يفلح، ثم نظر إلى ساعته الواقفة. قال لي برنسيس تأخرت، وسألني متى ستعود أمه، ومن جديد نظر إلى ساعته الواقفة. سألني متى سيعود أبوه، ومتى ستعود زوجتي، وفي كل مرة، كان ينظر إلى ساعته الواقفة، ثم قال إن أمه التي أهدته إياها.
سمعتُ غيداء تسعل، لكنها تواصل اللعب. كانت تفضل اللعب على كل شيء. كانت تلعب دون انقطاع، وكانت دينة تقلدها في كل شيء. ناديتها، ووضعت يدي على جبينها بينما هي تسعل، لكن لم تكن لديها حمى. طبعت قبلة على خدها، وتركتها تعود إلى اللعب. بعد قليل، سمعت دينة تصيح. إنها غيداء، لقد ضربتها. صحت بغيداء، وامتنعت عن ضربها، وكلمات حسناء ترن في أذني: "إياك والدماغ! ألم تأخذ العبرة من التعاسة الدائمة التي أنا فيها؟" وعامر من ناحيته: "ماما حسحس... ماما حسحس...".
خرجت إلى الشرفة، وشمس الاسكندرية تلسع الأجساد والأدمغة. لاحظت أنهم ضاعفوا من تشديد الحراسة حول القنصلية الإسرائيلية، فقلت لا بد أن اعتداء على السياح قد وقع. في قلب الشارع، كان هناك مستودع كبير للقمامة، وكانت عربات ضخمة تجرها حمير هزيلة تصل بأقصى سرعة. كان سائقوها يتسلقون المستودع، ويقفزون فيه، ويأخذون بنبش محتوياته من القاذورات بحثًا عن أشياء "غريبة". وبدورهن، جاءت نساء ملوثات برفقة أطفال ملوثين، تسلق الجميع المستودع، ووجدوا بين القاذورات أشياء أخرى دومًا، خاصةً قناني البلاستيك والكراتين. فجأة، سمعت قرع جرس، ووصلني دبيب عجلات. ومن بعيد، رأيت بائع الكاز. كان حصانه يجر صهريجًا كبيرًا، وهو يخب بسرعة كما لو كان في سباق، والبائع يصيح بأعلى صوته: "كاز! كاز!" بينما يجيبه بائع خضار: "بطاطا! بطاطا!" وكان كل منهما يصفّ عربته بين السيارات بدقة كيلا يخدشها.
عادت برنسيس من الثانوية، فهلل عامر فرحًا، وذهب إلى لقائها. أخبرها بكل شيء عن إيناس وماما حسحس التي لم تأخذه معها. كانت تسمع له ببرود، فقلت لنفسي بسبب الحرارة. كان التناقض واضحًا وغير منطقي لكن سلوك برنسيس هو الذي اقترح عليّ تلك الفكرة. لم تكن تسمع له، لأخيها. لم يؤثر فيها مرض إيناس. كانت تعقد بين حاجبيها في بقعة الشمس اللاسعة.
- اليوم يوم بحر، قلت لها.
لم تفه بكلمة. أعطت غيداء ودينة طنًا من العلكة، وقليلاً لعامر، فقط لأنه طالب بها. سألتها عما بها، فامتنعت عن البكاء، وقالت لي إن مريم أنانية ومتكبرة، وإنها تعتقد أنها بفلوسها تستطيع استعباد كل الناس، وارتداء أجمل الثياب، والتباهي بكونها الأجمل. تريد من الكل أن يخضع لها، ولِمَ لا أن ينتحر من أجلها! ذكرني هذا الكلام بمريم الأخرى التي كانت تريد الانتحار من أجلي، والذهاب معي، والزواج مني بأي ثمن. خلال عدة أيام إن لم يكن عدة ساعات انتهكت مريم كل سلطة، خاصة سلطة أمها، من أجل الارتماء بين ذراعيّ. ومع ذلك، وصفها لي صديقي ألِكْسْ بالفتاة صعبة. ثلاثون عامًا فيما بعد، أفهم الخُلق الذي كان لمريم. كانت صعبة حقًا حتى اللحظة التي أحبت فيها. ثلاثون عامًا فيما بعد، أعرف أن مريم كانت تحبني حقًا. أردت أن أقول لبرنسيس إن صديقتها تتصرف هكذا لأنها لم تكن عاشقة، لكني فضلت السكوت.
دخلت زوجتي، وهي تحمل إيناس بين ذراعيها، وتنفخ من شدة الحرارة. رفض الطبيب إعطاء الصغيرة أي دواء، لكنه شدد على أن تشرب كثيرًا، خاصة سفن أب بعد إفراغه من الغاز الذي يحتويه، وذلك بتحريكه قبل تناوله. تبعت حسناء بوجه أحمر، فجرى عامر لملاقاتها: "ماما حسحس، تأخرت! لماذا؟" أمرته أن ينزل حالا ليأتي من عند عم إبراهيم بكرتونة سفن أب، وهي تؤكد أنها حاسبته. ما أن رأت حسناء سحنة برنسيس حتى فهمت أن هناك شيئًا لا يمشي. أخذتها إلى غرفتها، وبعد عدة دقائق، عادت الأم وابنتها. نصحت حسناء برنسيس أن تتم دروس الإنجليزية مع مريم، فما هي سوى بضعة أسابيع على انتهاء السنة الدراسية، وبعد ذلك أن تقطع كل شيء معها.
- لو لم تكن إيناس مريضة لذهبنا كلنا نسبح في المعمورة، رمت حسناء لتبديل الموضوع.
- حقًا الجو حار، علقت زوجتي، لكن الوقت ليس وقت سباحة بعد. لا تنسي أننا لم نزل في شهر أفريل، وموجة الحر هذه عابرة.
لم تشأ حسناء الفهم، ومرة أخرى بدلت الموضوع.
- هل أنت جائعة، يا حبيبتي؟ سألت ابنتها.
- جدًا، أجابت برنسيس.
- أنا أيضًا جائع جدًا، قال الغيور من أخته، وهو يضع كرتونة السفن أب على الأرض.
- وأنا أيضًا جائعة جدًا، قالت دينة.
- وأنا أيضًا، قالت غيداء.
أعدت حسناء طبقًا كبيرا من المعكرونة بالانتظار. وبعد ساعة، كان طبق الملوخية بالفراخ جاهزًا.
- لن ننتظر مرتضى، قالت حسناء، عليه الذهاب إلى الكنج.
وغرفت للجميع.
غاصت برنسيس بأصابعها العشرة في الملوخية بحثًا عن قطعة فراخ كما تغوص الكركدنات في مستنقع. التفتت حسناء فجأة إليّ.
- إيناس لا شيء عندها، قالت لي، فلا تحمل همًا.
كانت الملوخية لا طعم لها، والدجاج زنخًا لم آكل منه إلا قليلاً، وكذلك فعلت زوجتي وبناتي. وعلى العكس، قامت برنسيس وعامر عن طاولة الأكل كفيليْن. كان كلاهما يلهث، ويمشي بصعوبة. كانا يميلان على الجانبين. ذكّرت زوجتي برنسيس بالريجيم الذي كانت قد وعدت القيام به. سأقوم به ابتداء من الغد على التأكيد، أجابت. ثم طلبت زوجتي من الفتاة أن تعاونها في غسل آنية المائدة، لكن أمها تدخلت:
- على برنسيس الذهاب إلى الثانوية.
- وسريري، يا ماما، لا تنسي أن ترتبيه، قالت برنسيس.
رتبت حسناء سرير ابنتها، كنست الزاوية التي تحتلها، وابتسمت لأقلامها وكراريسها.
رفضت حسناء أن تغسل زوجتي قميصي الحريري، أرادت غسل كل ثيابنا بنفسها، وقالت لزوجتي أمس كانت معلمتها ولكن اليوم هي أختها. حكت عن أيامها الخوالي في الجزائر، أحلى أيام عمرها. انزرع عامر أمامها، وقال، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة، إنه جزائري، ألم يولد هناك؟ خلعت له أمه حذاءه، وفكت له حزامه، وطلبت منه أن يذهب مثل خالو وينام. نامت إيناس، ونامت دينة، واستمرت غيداء تلعب حتى المساء.
بعد القيلولة، سألت إذا ما عاد مرتضى من الكنج. لم يعد إلا بعد ساعة من سؤالي تعبًا، والابتسامة تلتصق بشفتيه. أعطاني الجريدة، وهو يقول إن وزيرًا كان ضحية اعتداء. لاحظت أنه بلا نظارات. حاولت أن أتذكر أي لون هي دون أن أفلح. سمعته يقول لزوجته إنه عهد بها إلى نظاراتي ليشد براغيها، وإنه لن يسترجعها قبل الغد ظهرًا. حكت له حسناء عن إيناس، وكيف أخذتها عند طبيب برنسيس.
- ولِمَ لا عند طبيب خاص بالأطفال؟ سأل مرتضى بابتسامة عريضة.
- لم يكن الأمر بذي بال، قالت. ثم طبيب برنسيس شاطر، أشطر طبيب!
صلى مرتضى مرتين، ثم أنهى طبق الملوخية الذي أعدته زوجته، وأنا أسمعه بين مصدق ومكذب يمتدح حسناء: "شكرًا لك، يا حسحس... شكرًا لك، يا حسحس..." وعامر الذي أكل مع أبيه للمرة الثانية: "شكرًا لك، يا حسحس... شكرًا لك، يا حسحس..."، وحسحس تتعلق على الهاتف. قالوا لها إن درس الإنجليزية عند مريم انتهى وإن برنسيس غادرت مع نهاد منذ لحظات قليلة. لم تقف حسناء في مكانها، كادت تتسلق النافذة، فالبلكون. تفاجأنا بظهور برنسيس بيننا، وهي على وشك الانهيار.
- أمي؟ أين أمي؟ سألت كالمجنونة.
- في الشرفة، أجابها عامر، في الشرفة. كان يبدو محتارًا.
ارتمت برنسيس بين ذراعي أمها، وهي تبكي. أوضحت بين زفرتين أنها تخاصمت مع مريم. أنها قطعت علاقتها بها نهائيًا. وحكت: تراشقتا بالكلام، وبعد درس الإنجليزية، طلبت منها مريم أن تخرج، وأن تغلق الباب من ورائها. أخذها أبوها إلى الكورنيش ليحكي معها، ويرفع من معنوياتها، فزعل عامر. أراد أن يأخذه أبوه، هو، إلى الكورنيش، ليحكي معه، ويرفع من معنوياته. وبخته أمه، فخلع ساعته الواقفة، وأخذ يضربها بالكنبة. بدت حسناء مضطربة، كالريشة التي أُلقيت من نافذة عالية. كنا على وشك الاعتقاد بكونها هي من حملت عبء كل تلك الإهانة. لم تكن مريم عاشقة، ولم تكن من تلك الفتيات اللواتي يضعن الحب فوق كل الباقي. في حال برنسيس، أريد الكلام عن الصداقة. كانت مريم الأخرى تعتبر الحب شيئًا مقدسًا. أشعر الآن بعد ثلاثين عامًا مضت بعيدًا عن قبلاتها وعن لمساتها بالقدسيّ والسكريّ لدموع حبها. أشعر بعناق كل تلك الآلهات الفرعونيات منذ ألفي عام ثلاثة آلاف عام أو أربعة آلاف، كل تلك الملكات الملعونات، لأن حبهن القدسيّ قد جرى تدنيسه في المعابد. رأيت أجسادهن العارية تحت السياط، رأيت ظلالهن، وأحسست بأنفاسهن على وجهي، كل تلك الآلهات الملعونات، لأن حبهن القدسيّ قد جرى تدنيسه. بينما الآن، مريم دون حب، والحب لها لا يمكن أن يكون قدسيًا، لأن منذ آلاف السنين قد جرى تدنيسه، وسيبقى إلى الأبد مدنسًا.
عدت إلى الواقع على زوجتي وهي تصيح بغيداء، كانت تريدها التوقف قليلاً عن اللعب لأن إيناس ترفض احتساء السفن أب.
- غدًا سنأخذها عند طبيب خاص بالأطفال، قلت لها.
- لديها إسهال دومًا، يا عزيزي، شكت زوجتي.
- اغلي لها جزرًا.
- لا جزر لدى حسناء، شكت زوجتي أكثر وأكثر.
- اغلي لها رزًا.
- الرز ليس مفعوله بقوة الجزر.
- اغلي لها رزًا بالانتظار.
عندما عاد مرتضى مع برنسيس، كانت ترسم على شفتيها ابتسامة أبيها نفسها. قبلتنا جميعًا، وخصت إيناس بأحلى قبلاتها. أخذتها بين ذراعيها، وقالت لها عليها أن تبرأ لتشتري لها كل الحلوى التي في الاسكندرية.
- الحلوى خطيرة على إيناس الآن، قلت لها.
- أعرف، أجابت.
- لا، أنت لا تعرفين.
- أقسم لك يا خالو، أعرف.
- لا أريدك أن تعبري عن حبك لها بمقدار كمية الحلوى التي تشترينها لها.
- أعرف يا خالو، أعرف.
قدمت لغيداء ودينة أطنانًا من الحلوى، وهي تخفي ضحكة ماكرة، وملأت يدي عامر. أخذت زوجتي لإيناس حرارتها: خفت الحرارة قليلاً، فارتحنا كلنا. راح مرتضى يضرب بأصابعه على الطاولة ليسلي الصغيرة، والصغيرة تهز رأسها على الإيقاع. ذهبت زوجتي مع برنسيس إلى الشرفة، وأخذت الاثنتان تدردشان. حاولت غيداء اللعب مع عامر، فصدها بعنف. جلس وحده في زاوية، وحاول أن يصفر أو أن يفرقع إصبعيه.




الفصل التاسع عشر

صباح اليوم التالي، نزلنا بسرعة، ونحن نحمل إيناس بين أذرعنا. ارتفعت حرارتها بشكل رهيب، واحتد إسهالها بشكل غير طبيعي. رماها العمال بنظرة تساؤل وارتباك، وتوقف بعضهم عن ضرب الجدران أو الأعمدة. في الزقاق المسدود، رفع لنا عم إبراهيم يده، وهو يجلس على كرسيه الملكي المحطم الأقدام. كان إلى جانبه رجل آخر يشبهه شبهًا غريبًا، وكأنه توأمه. نادته حسناء: "عم متولي!" بلهجة آمرة جعلته يقفز في مكانه، ونبهته إلى طي غطاء السيارة. وضع الغطاء في صندوق السيارة بعد أن طواه، ثم أغلق الصندوق، ووقف كمن ينتظر أمرًا آخر.
- إنه حارس فندق البوريفاج القديم، قالت لنا حسناء.
وهي تقود، أوضحت حسناء لنا أن عم متولي ينظف السيارات في الوقت الحاضر، يفرش، ويطوي أغطيتها. كنا نسمع لها، ولكننا كنا نفكر في صغيرتنا، أنا وزوجتي. كانت حسناء ترمي إلى "تبديل الموضوع" لتنسينا قليلاً مما نحن فيه، فإيناس كانت بالفعل مريضة.
عند وصولنا إلى باكوس، اتجهنا إلى مستشفى الفتح. قالت لنا مسئولة الصندوق إن هناك مريضًا واحدًا قبلنا، وعلى أي حال، لم يحضر الطبيب بعد. رجت حسناء أم المريض أن تتركنا ندخل قبلها لارتفاع حرارة إيناس ووضعها الحرج. وافقت المرأة الطيبة، ودعت لشفائها. ما أن أتى الطبيب حتى دخلنا عليه، وما أن بدأت حسناء تعرض له وضع إيناس حتى أدخلوا له قهوته.
- أُم البنت جزائرية! صاح إعجابا.
اهتم بالأم أكثر من البنت المريضة، وراح بها مدحًا ومجاملة. وفي الأخير، قرر أن يأخذ لإيناس حرارتها، ويَجُس نبضها، ثم التفت إلى زوجتي التي ترتعش من الخوف على طفلتها الغالية.
- لا تخافي. ابنتك زي الفل! الاجتفاف الذي أصيبت به يمكن أن يصاب به أي طفل. عليك أنت يقوم واجب إسعافها.
- فقط قل لنا كيف، قالت زوجتي.
أعاد لها ما قاله طبيب الأمس: بالسوائل، سفن أب، وغيره. لكن إيناس لا تحب السفن أب، فطلب الطبيب منها إرغامها على شربه. رفض إعطاءها أقل دواء، لا شيء، حتى ولا دواء يساعد على إيقاف الإسهال أو التخفيف من الحمى.
- والحليب، دكتور؟ سألت زوجتي.
- الحليب لا علاقة له بالأمر، قال. اغليه فقط يا سيدتي.
ودعنا بابتسامة عريضة معيدًا من وراء امرأتي: "ابنتك زي الفل! وبعد يومين، احضريها للاستشارة".
ونحن نركب السيارة، ابتسمت حسناء.
- أرأيت؟ قالت لزوجتي. ليس لدى إيناس شيء، سنشتري لها ماء معدنيًا، وإياك أن تتوقفي عن إعطائها سفن أب.
- إيناس نحفت كثيرًا، يا عزيزي، قالت لي زوجتي مشغولة البال.
- من يفهم أكثر أنت أم الطبيب؟ وبختها حسناء.
- لكن إيناس لا تحب السفن أب.
- أعطيها إذن شيئًا آخر، فقط اختاري، لدينا كل ما تشائين.
توقفت عند الساعاتي لإصلاح ساعة عامر، وبعد ذلك توقفت أمام كشك تديره امرأة "غلبانة"، كما قالت أختي، واشترت لعامر قلمًا وكراسًا. أوضحت أنه يريد أن يكتب مثل أخته، وإيناس تنظر إلى أمها تارة، وتنظر إلى أبيها تارة، وعلى غير عادتها لا تبتسم.
- إيناس لا تبتسم، يا عزيزي، قالت زوجتي.
- اخزي الشيطان، وبختها حسناء من جديد. إيناس زي الفل، كما قال الطبيب.
عند عودتنا إلى البيت، توقف العمال تمامًا عن ضرب الجدران والأعمدة لئلا يزعجوا إيناس. أخذوا يعملون أشياء أخرى أقل ضجيجًا كالقصارة أو الصباغة أو نقل الأثاث. رأيتهم يدفعون بيانو الطابق الثاني. طرقوا على حسناء الباب، وقالوا سنقصر الأعمدة للمرة الثالثة والأخيرة. . قدم عم السيد لحسناء المعلم مصطفى، أشهر معلم في القصارة! وعامر يعيد من بعده: "المعلم مصطفى، أشهر معلم في القصارة!" كان مع المعلم مصطفى شاب خجول، قال عنه إنه ذراعه اليمنى. راقبت المعلم مصطفى، وهو يعمل بحركات رئيس أوركسترا. كانت يداه ترسمان ما تفعلانه كما لو كان ذلك على إيقاع سيمفوني، وكان الإسمنت المجبول يتحول تحت أصابعه كما لو كان جسدًا حيًا، وكنت أكاد أسمع الإسمنت ينطق.
حذرت حسناء زوجتي: "انتبهي إلى أيدي الغرباء، همست في أذنها. انتبهي إلى الحقائبّ!" كانت حقيبة أدوات رضاعة إيناس مفتوحة. شخص ما لعب بها. لم تسكت حسناء. أخبرت عم السيد ما أن ذهب عم مصطفى وصبيه. وفي الحال، ذهب عم السيد ليخبر عم مصطفى بما حصل، وما لبث أن عاد ليقول لحسناء إنه صبي المعلم مصطفى الذي فتح الحقيبة، وهو قد حاول سرقتهم هم أيضًا، فطرده المعلم مصطفى.
أتاني سعال دينة هذه المرة، كانت تلعب مع غيداء في الشرفة، وتسعل. طمأنتني حسناء، وقالت إنها ستأخذ غيداء ودينة إلى طبيب برنسيس بعد الغداء. تذكر عامر ساعته، فسأل أمه عنها. أعطته أمه إياها قائلة إنها أصلحتها.
- إنها تمشي الآن كالشمس! رمت.
ألقاها عامر أرضًا، كان لا يريدها أن تمشي. حاولت أمه إقناعه بأن الساعة الواقفة ليست ساعة. عاند. حملها، وراح بها ضربًا في الحائط حتى لم تعد تمشي. ابتسم، وهمهم: "شكرا لك، يا حسحس... شكرا لك، يا حسحس..." وهو ينظر سعيدًا إلى ساعته، وقد توقفت من جديد، فغرقت حسناء في الصمت. اكتأبت، وهربت من ابنها، هربت منا، وذهبت إلى المطبخ. وفي وقتٍ قياسيّ، نصف ساعة تقريبًا، عملت بازيلاء "بالنعل"، وبكلام آخر بلحمها اليابس. مع رز أحمر. انتظرنا وصول برنسيس، وهي، هي لم تكن تنتظر أحدًا. أخذت مكانًا على الطاولة حال وصولها، وبدأت تأكل كمدينة ساغبة. غضبتُ، وصحتُ بها، أفهمتها قلة ذوقها، استعبادها لأمها، هي التي تتهم مريم باستعبادها للجميع. أنهت أولاً أكلها، نعم، كمدينة ساغبة، ثم ذهبت إلى غرفة أمها، وراحت تبكي. سمعت حسناء تقول لها:
- خالك بمثابة أبيك، له الحق في التدخل في كل شيء يخصك إذا كان لذلك ثمة داع.
- ودروسي، هل نسيت دروسي؟ سألت برنسيس.
لم تجب حسناء.
أتت برنسيس، واعتذرت لي. ستعمل الريجيم الذي وعدت القيام به، وستعين أمها في كل شيء. نظرتُ إلى أمها، فلم تكن راضية. قدمتُ لابنة أختي قميصي الحريري، فطارت من الفرح، وراحت تشكرني. غابت بعض اللحظات ثم بانت من جديد، وهي ترتدي قميصي.
- سآخذكم للتمشي في الحي والتطلع إلى الفترينات، قالت لنا.
أعاد عامر: "سآخذكم للتمشي في..."، لكن أخته أوقفته. سكت، ونظر إلى ساعته الواقفة. سمعت حسناء تقول:
- غدا الخميس، مرتضى لا يعمل. سأذهب معه إلى الكنج في الصباح، وبعد الظهر سنأخذكم إلى قصر المنتزه.
- ومعالم الاسكندرية الأخرى؟ قلت.
- ستزورون كل شيء، المتحف، القلعة، المنار، وسوق الخضار في باكوس.
- أنا أيضا سأزور كل شيء، قال عامر وهو ينظر إلى ساعته الواقفة.
- أنت أيضا ستزور كل شيء، قالت أمه.
ثم دعت لإيناس بالشفاء العاجل كي نزور كل شيء، وقلبنا مرتاح.
وضعت زوجتي إيناس في عربتها بينما قفز عامر يسبقنا إلى عم إبراهيم ليشرب زجاجة سفن أب. صاحت به أمه، فالبيت ملآن بالسفن أب، لكنه قال إنه يريد أن يشتري سفن أب بفلوسه. نزل الدرج كالفيل الثمل بقدر ما كان خائفًا من الوقوع، لأنه زلق في أحد الأيام، ومنذ ذلك الوقت يخاف أن يفقد توازنه. نطت غيداء كالشيطانة، وتخلصت دينة من يد برنسيس، وتبعتها. درنا من حول البوريفاج أو ما تبقى منه بعد أن اشترت برنسيس من البقالة التي في الوجه المقابل طنًا من العلكة وزعته على الجميع.
- العلكة أيضًا ممنوعة في حال ما ستعملين ريجيم، ذكرتها زوجتي.
ابتسمت، وقالت: "أعرف". تعلّقَتْ على ذراعي، وشدتني بحنان. ونحن نمر أمام القنصلية الإسرائيلية، من الناحية الأخرى لخطوط الترامواي، صاح عامر: "يسقط أبو الهول الإسرائيلي!" وانفجر ضاحكًا. حدق فيه الجنود، وأصابعهم على الزناد، ولم يتحركوا. أنبته برنسيس.
- من علمه أن يقول هذا، يا عزيزي؟ سألتني زوجتي مندهشة.
- لا بد أنه سمع هذا في التلفزيون.
- يقولون هذا في التلفزيون؟
- المتظاهرون.
- يقول المتظاهرون هذا في التلفزيون؟
- الناس ضد "التطبيع".
- ويقولون هذا في التلفزيون؟
- نعم، يقولون هذا في التلفزيون.
- ولماذا هم ضد "التطبيع"؟
- لأن هذا سلام الحكومات وليس الشعوب.
- ولهذا هم يقولون هذا في التلفزيون؟
- لهذا.
بشكل من الأشكال، كان عامر يسعى إلى إرضائي. نظر إليّ، ونظر إلى ساعته الواقفة دون أن يخفي ابتسامته. يسقط أبو الهول الإسرائيلي! كان مثل هذا القول شيئًا أقرب إلى الجنون. في وضح النهار، وعلى مسمع ومرأى كل تلك الأسلحة المشهرة في صدور العابرين. تحية لك يا عامر! بعد قليل، التقط في الهواء جو الكبت ذاك، وانتصب معارضًا أخته. لم يعد يضبط نفسه، فسحبته، وهمست في أذنه كأبيه في المرة الماضية: "انس... انس...". هدأ، وأعاد لنفسه: "انس... انس..."، نظر إلى ساعته الواقفة، وتجاوزنا بضع خطوات.
أرتنا برنسيس الملابس المصنوعة في فرنسا، وقالت آه ما أحلاها وما أحلى ثمنها! طلبت زوجتي أن ترى ملابس ميد إن إيجبت، وخاصة الملابس المصنوعة من قطن مصر الشهير، لأنها تعرف جيدًا كل هذا، الملابس الفرنسية، فهي آتية من فرنسا، وفرنسا بلدها. وبلا حماس، أدخلتها برنسيس والأطفال إلى أحد المحلات تاركة إيناس معي. حررتها من عربتها، وأخذتها بين ذراعيّ. قبلتها، وهي تبتسم لي بجهد ابتسامة متعبة.
- لا تقلقي، يا حبوبتي، قلت لها. لا تقلقي، يا لؤلؤتي. سأعنى بك. ستقفين على قدميك، وتتعلمين الركض كأختيك، ولن تتوقفي عن اللعب طوال الوقت. طيب؟ أنا أعدك.
لم يعجب زوجتي شيء من الملابس القطنية، كانت هابطة النوعية، وليست جميلة على الإطلاق. أخبرتني أن دينة سعلت سعالاً حادًا في الدكان، وأنها ستأخذها حالاً كي ترى طبيبًا.
عدنا إذن إلى البيت، وما أن وضعنا القدم في العمارة حتى توقف العمال عن الهدم، وسألوا عامر إذا كانت العروس الصغيرة بخير. "بخير"، قال لهم. وأمرهم بالعودة إلى أعمالهم، وإلا خصم عشرة جنيهات من ماهياتهم. سعلت دينة وغيداء في الريح أمام باب البلكون، كان الريح يهب آتيًا من البحر، وكان على وشك إسقاط العمارة. ارتدت حسناء ثيابها بسرعة، وعادت تذهب مع البنتين.
بعد ساعة من ذلك، رجعت حسناء مع غيداء ودينة، وبين ذراعيها كيسًا كبيرًا من الأدوية. قالت إنها أخذتهما إلى مستشفى الثغر التخصصي، وإن طبيبًا ماهرًا كشف عليهما. كانت لديهما نزلة صدرية صغيرة بسبب تغيير الجو لا أكثر.
سألت:
- تغيير الجو أم التغيير بكل بساطة؟
- هنا شيء آخر عن باريس طبعًا، أجابت. وجو الاسكندرية متقلب.
كانت حال إيناس التي تشغل بال زوجتي أكثر من أي شيء.
- إسهال إيناس يتفاقم، يا عزيزي، شَكَت زوجتي. حرارتها متواصلة، وهي تزداد يومًا عن يوم نحافة.
- لننتظر حتى الغد، قلت. إذا بقيت على ما هي عليه عرضناها على طبيب مستشفى الثغر التخصصي.

الفصل العشرون

صباح اليوم التالي، قال لنا عامر إن أمه ذهبت مع أبيه إلى الكنج، ثم نظر إلى ساعته الواقفة، وتابع قائلاً إن برنسيس لن تتأخر عن العودة، لأن اليوم الخميس. خرج بنصفه الأعلى من النافذة، وأخذ يثرثر مع عم إبراهيم. أما إيناس، فقد ازدادت حالها سوءًا. فتحنا لها فمها بالقوة لنرغمها على شرب السفن أب الخالي مما يحتويه من غاز. صاحت صغيرتي المسكينة، ونادت غيداء ودينة، لكن أختيها كانتا تلعبان في الحجرة.
- سنأخذها عند الطبيب أول ما تعود حسناء، قلت لزوجتي.
أرتني غائطها المائع، ولم أعرف ما أفعل.
- أنا خائفة أشد الخوف على إيناس، يا عزيزي، همهمت زوجتي. لقد نحفت، وضعفت، وحرارتها لا تهبط.
- أول ما تعود حسناء سنأخذها عند طبيب، يا عزيزتي.
نادت زوجتي غيداء ودينة كي تتناولا فطورهما وتأخذا أدويتهما، لكنهما لم تشربا شوكولاطتهما بالحليب.
- اذهب واشتر لهما الكاكاو الفرنسي مهما كان ثمنه، قالت لي زوجتي. نحفت البنتان هما أيضًا، وعليهما أن تأكلا شيئا مع الأدوية.
وأنا على الباب، حضر عم السيد. بعد أن صبح وسلم وتمنى كل خير العالم لي، سألني عن صحة البنات، ثم أخبرني أنه جاء بناء على طلب سي مرتضى ليهدم الحاجز الذي يقسم الصالون إلى قسمين. أدخلته، وهو يسأل إذا كان هذا لن يزعج العروس الصغيرة. دعا لها بالشفاء، ثم ذهبتُ لأشتري كاكاو ميد إن فرانس.
عندما عدت، وجدت أن زوجتي قد عملت شايًا بالنعنع لعم السيد، وأن عم السيد قد هدم معظم الحاجز، وأن عامر قد جمع الركام وعمل منه أهرامات صغيرة.
- هذه أهرامات إسرائيلية، يا خالو، رماني ابن أختي وهو ينظر إلى ساعته الواقفة.
وبقدمه ضربها، وهدمها، وانفجر ضاحكًا. انفجرت أنا أيضًا ضاحكًا، وانفجر عم السيد أيضا ضاحكًا، وقال إن عامر أعظم ولد في كل الاسكندرية. عامر جدع!
وأنا أعطي لزوجتي علبة الكاكاو الفرنسي، لاحظت في يدها قميص الحرير الذي أهديته لبرنسيس. وَجَدَتْهُ مرميًا مع الأحذية. طلبتُ منها أن تعيده إلى مكانه، مع الأحذية أو مع الشياطين، فلم يعد القميص لنا. أعادته، وهي تنفخ غير راضية. ويا للحظ أن برنسيس وصلت قليلاً بعد ذلك، وبصحبتها نهاد، ونهاد لا تكف عن الابتسام بخجل، ومخاطبتي بيا "أونكل"، ومخاطبة زوجتي بيا "تانت". حملت برنسيس إيناس، وقبلتها قبلات طويلة. قالت بنبرة قلقة إن حرارة إيناس مرتفعة. خافت نهاد على إيناس هي أيضًا، وطلبت أن نعرضها على طبيب يعمل على خفض حرارتها وإيقاف إسهالها. طمأنتُ الفتاتين:
- سنعرضها على طبيب أول ما تعود حسناء.
استأذنت نهاد بالانصراف لأن أمها بانتظارها، فسألت برنسيس إذا كان كل شيء على ما يرام مع مريم. أكدت أن كل شيء قد انتهى بينهما. أنهى عم السيد عمله، وانصرف. جلس عامر في زاوية، وحاول فرقعة إصبعيه. كان ينجح تارة، ولا ينجح تارة. ذهبت إلى المطبخ، وهناك، لم أتوقع على الإطلاق ما رأيت: كانت ابنة أختي واقفة أمام المجلى، وهي تغسل الفناجين والكؤوس، وزوجتي إلى جانبها تشجعها، وتثني عليها بينما برنسيس جامدة كتمثال من رخام.
- ستزعل مني أمي، أنا متأكدة من ذلك، رمت. عليّ واجبات كثيرة، وأنا لا أعمل هذا إلا لإرضائكم.
لم تعد حسناء على الغداء، فأعدّت زوجتي معكرونة للجميع. ولم تعد حسناء بعد الغداء، فأخذت زوجتي تضرب كفًا بكف، وتقول بقلق يجب أن يرى إيناس طبيب حالاً. ضربت برنسيس كفًا بكف هي أيضًا، ورددت: "ماذا سنفعل؟ ماذا سنفعل؟" كانت المستشفيات بعيدة، وكنا بحاجة إلى سيارة للذهاب إليها. تذكَّرَتْ فجأة أن هناك طبيبًا للأطفال غير بعيد، فذهبنا كلنا مع إيناس ليعاينها. ونحن ننزل الدرج بخطوات عجلى، كان عامر يصيح من ورائنا طالبًا منا أن ننتظره. لم يعد خائفًا، وأخذ يقفز دون أن ينظر من ورائه. عندما رأى العمال فزعنا، توقفوا عن أعمالهم، وهم يشخصون ببصرهم إلينا ذاهلين. رأيت، وعيني تغتصب الغبار في الشقق، طرفًا من البيانو القابع بين الركام.
أخذت أركض على طول خط التراموي، وإيناس تحدق فيّ، وهي بين ذراعيّ، دون أن تفوه بكلمة. أحسست بجسد العصفور الذي لها ساكنًا على قلبي. وعلى العكس، كان قلبها يدق دقًا قويًا كما لو كان قلب كل الاسكندرية. ارتعشت خائفًا من أن يبذل هذا القلب الصغير كل دقاته دفعة واحدة. ضاعفت الجري، وأنا لطفلتي الغالية على قلبي أهمس: "سأنقذك، يا حبيبتي! سأدرأ عنك الخطر، يا لؤلؤتي!" كان عامر يجري لاهثًا من ورائي، ويطلب مني أن أنتظره. حَمَلَتْ زوجتي دينة، وجرت. أمسكت برنسيس غيداء من يدها، وجرت. كنا نجري لنصل عند الطبيب قبل أن تسبقنا إيناس لترسو على شاطئها الأخير، فنندم أشد الندم على تركنا إياها تذهب وحيدة.
أرشدنا البواب إلى عيادة الطبيب في الطابق الثاني، لكننا وجدنا العيادة مغلقة. عدنا إلى البواب الذي تذكر أن اليوم خميس، وأن الطبيب لا يعمل بعد الظهر. سألناه إذا كان يعرف عيادة أخرى أو مصحة، فأشار بيد كسولة إلى أعلى الشارع، وقال اذهبوا إلى "جليم"، هناك مصحة فاتحة ليل نهار. أوقفت برنسيس سيارة أجرة، وتكدسنا كلنا فيها كالسردين. كسر عامر مقبض الباب، وهو يغلقه، فانفجرنا ضاحكين، والسائق يتلفظ بألفاظ لم أفهمها. ونحن ندخل المصحة، قالت لي ابنة أختي إنه رمى عامر بأقذع الشتائم، ولتخفف من سورته ضاعفت له الأجرة.
في كلينيك الهلال الأبيض، أحاطت الممرضات بزوجتي، وطمأنّها قائلات لها إن الاجتفاف لا شيء، وإنه لم يقتل في الحياة أحدًا. أغمضت زوجتي عينيها. لم تشأ أن ترى الطبيب، وهو يزرع إبرته في فخذ إيناس. لم تضبط نفسها. انفجرت باكية، والطبيب يؤكد لها أن لا خطر هناك. عندما علم أننا آتين من فرنسا، أخبرنا أنه درس في ألمانيا. تكلم معنا بالألمانية. أوضح لنا أن على الإبرة أن تعمل على هبوط الحمى المرتفعة للصغيرة. كتب لها عدة أدوية، وطلب منا العودة لرؤيته، حتى ولو كنا نسكن بعيدًا، ليفحصها من جديد، ويتذكر ألمانيا.
كان مفعول الإبرة سريعًا، هبطت حرارة إيناس، وابتسمت، وابتسمنا. تشجعت برنسيس، فذهبت إلى الصيدلية، واشترت الأدوية للصغيرة، وأكياس بودرة بالفيتامين شوكولاطة وجزر وموز للريجيم الذي ستتّبعه، ثم أخذنا القطار الأزرق للعودة إلى البيت، قطار من القرون الوسطى. كان ضجيجه يقض مضاجع السماء، ورجاته تهز حتى قمم الجبال. لم نلتزم ب"التقليد" المتبع، النساء في مقصورة والرجال في مقصورة. بقينا كلنا معًا ونحن نصحك من أعماق قلوبنا على عصياننا. كادت زوجتي تموت محصورة، وإيناس بين ذراعيها، لأن هذا القطار البطيء جدًا كأنه خارج عن الزمان، لهو على العكس سريع جدًا عندما تنفتح أبوابه أو تنغلق. خلصناها أنا وعامر بفارق قليل من الثواني، ونحن نضحك، خاصة عامر الذي بدا في غاية السعادة.
خلال ذلك، بحث عنا مرتضى في كل مكان، ذهب إلى طبيب أطفال الحي، قرب فندق ستيفانو، ووجده مغلقًا، قال وهو يُعنى بذكر اسم الفندق ليثبت صدق قوله وذهابه بالفعل، وليعبر أيضًا عن انشغال باله على إيناس. ومع هذا، سألت إذا كانت عيادة طبيب الأطفال تقع قرب فندق ستيفانو، أكدت برنسيس ذلك، فاستنتجت أنني مررت أمامه، وأنا أركض، دون أن ألاحظه.
- وإيناس؟ إنها إيناس التي تشغل بالنا أكثر من أي شيء، رمت أختي أول ما رأتنا نصل.
- حرارتها هبطت بعد الإبرة التي أعطاها إياها الطبيب، أجابت زوجتي التي كانت على وشك البكاء.
استعادت في رأسها رؤية كل شيء، فدائمًا ما أثارت الإبر مشاعرها. حمدت حسناء الله، وطلبت منا السماح لتأخرها في الكنج. الواقع، لا يتقدم العمال في بناء فيلّتهم إلا إذا وقف أحد على رأسهم. أعطت زوجتي الأدوية لإيناس، وانعزلت غيداء ودينة مع برنسيس في إحدى الحجرات.
- يجب عليك أن تذاكري، يا ابنتي، رمت حسناء من وراء برنسيس.
- غدًا الجمعة، يا ماما، سيكون لدي كل الوقت اللازم للمذاكرة، أجابت ابنة أختي.
- كما تشائين، ولكن يجب عليك أن تذاكري.
- ولكن، يا ماما...
- كما تشائين قلت، ولكن يجب عليك أن تذاكري، التوجيهية ليست شيئًا سهلاً.
- ولكن، يا ماما...
- يجب عليك أن تذاكري.
سكتت حسناء على مضضٍ منها، وهي تمسح لعامر رّيْله السائل على ذقنه فصدره بعصبية. يجب عليها أن تذاكر، همهمت. وعامر من ورائها: "يجب عليها أن تذاكر"، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة. لاحظت حسناء أن هدم الحاجز لم يجعل الصالون واسعًا. دعست جرائد ممزقة، ومشت على بقايا إسمنت. فكرت بصوت عال في طريقة تدفع فيها الأعمدة الضخمة ليتسع الصالون. بدت قلقة، فاقترحتُ أن تهدم الجدار الفاصل بين قاعة الأكل والصالون لتجعل منهما حجرتين مفتوحتين على بعضهما كما هو الحال في باريس. أعجبتها فكرتي، وأيدتها زوجتي، ولكن مرتضى بقي صامتًا مع ابتسامته الخالدة اللاصقة بشفتيه. رفع السماعة، وطلب طبيبًا يقطن في العمارة التي يقطنون فيها، وكلمه عن إيناس. كانت تلك طريقته في معارضة زوجته. وما أدهشني أكثر من كل شيء أن أعلم أن أحد جيرانهم طبيب، وأن لا أحد قال لي ذلك. أوضح مرتضى لي أنه طبيب نسائي، وأنه نصحه بعرض إيناس على طبيب ممتاز يعرفه في مستشفى الميرة بباكوس.
- سنرى أولاً كيف هو مفعول الأدوية التي وصفها طبيب اليوم، قلت.
- وماذا سنخسر؟ قال مرتضى.
- في رأيي...
- سآخذها أنا بنفسي لرؤية الدكتور أيمن. غدًا الجمعة، وأنا لا أعمل. هذا المستشفى الحكومي يفتح كل أيام الأسبوع.
- الواقع أن...
- ولكن ماذا سنخسر؟
- تعدد الفحوصات لدى أطباء مختلفين ليس...
- ولكن قل لي ماذا سنخسر؟
تركت برنسيس البنتين تلعبان، والتحقت بنا. طلبتُ منها أن تكنس الصالون، وتنقيه من كل ذلك الغبار وكل ذلك الإسمنت، إلا أن أمها تدخلت. عندما تسافرون، قالت، سأطلب إلى خادمة أن تنظف كل البيت. بدلع، أخبرت ابنة أختي أمها أنها غسلت الفناجين والكؤوس، فتناولت حسناء يدها، وأخذت تفحص أصابعها. وضعتها على ركبتيها، وراحت تداعبها كالبيبي، وتؤكد قائلة: المذاكرة قبل كل شيء. تلك الجحشة قليلة التهذيب لم تزل تعتبر نفسها بنتًا صغيرة، كانت لها هيئة الدائخ بين ذراعي "ماماها الصغيرة".
- البنات لم يأكلن شيئًا طوال النهار، يا عزيزي، قالت لي زوجتي، والكل يسمعها.
لم تحرك حسناء ساكنًا، واصلت شد ابنتها في حضنها، وعامر يسحب أخته، يريد أن يأخذ مكانها. قَلَتْ زوجتي لنا بيضًا. أذابت برنسيس كيس بودرة بالشوكولاطة، وأخذت بسكوتتين، وأعلنت بنبرة من عافت نفسه أن ذلك كل عشائها. فتح والداها عينيهما على سعتهما.
- هل بدأت الريجيم؟ سألا بصوت واحد.
- ابتداء من الآن، كما تريان، أجابت برنسيس. في الواقع، أجد نفسي فظيعة.
- لست متفقا معك على الإطلاق، رد أبوها بغضب، والابتسامة على شفتيه، أولاً لأنك حلوة كده، وثانيًا لأن الريجيم سيحرمك من كل الطاقة التي تلزمك للمذاكرة. ولا تنسي أنك على أبواب الامتحانات.
رمى زوجتي بنظرة متحدية.
- لا أعرف من الذي يشجعك هكذا على خسارة صحتك، ختم وهو يوسع ابتسامته حتى ابتلعت كل وجهه.
- نعم، عند حق، أكدت حسناء وهي تنظر جيدًا إلى زوجها.
ثم وهي تدير نظرتها إليّ:
- لا أحد يتعشى في مصر.
ثم باتجاه ابنتها:
- أما أنتِ، يجب عليك أن تتغدي جيدًا وتتعشي جيدًا، لأن الامتحانات على الأبواب.
طارت برنسيس من الفرح، أبعدت صحنها جانبًا، وهجمت تلتهم كل شيء، حتى الخشب التهمته.
للمرة الثانية على التوالي، صرخ عامر في وسط الليل، ونادى أمه التي وبخته، وطلبت منه أن يعود إلى النوم، لكنه عاد إلى الصراخ، فضربته. بكى، وصرخ، وسمعتُ حسناء تقول: "يا للمصيبة، آه! يا إلهي. يا للمصيبة!" وانفجرت باكية.

الفصل الحادي والعشرون

حملنا إيناس في الصباح الباكر، ونزلنا الدرج أربعًا أربعًا، والعمال الذين كانوا قد نهضوا إلى أعمالهم منذ قبيل الصباح الباكر ينظرون إلينا حائرين. كان الحزن يُقرأ على وجوههم، وكانوا يتفادون أن تتلاقى نظراتهم بنظراتنا. تظاهروا بعمل أي شيء بعد أن توقفوا عن ضرب أزاميلهم. ألقى مرتضى تحية الصباح على عم السيد، وابتسامته المعتادة على شفتيه، فلم يرد عم السيد التحية عليه. همس زوج أختي في أذني، وهو يبتسم، العمال زَعِلونَ على إيناس. طوى عم متولي غطاء السيارة أول ما رآنا قادمين، ونظر هو أيضًا إلى إيناس بين ذراعي أمها حائرًا، وهمهم داعيًا لها بالشفاء العاجل. لم يكن عم إبراهيم يتربع على كرسيه، فبدا كالعرش المتروك. قبل أن أركب السيارة، سمعت نفير باخرة يأتي من البحر، لكن صوت المحرك طغى على كل شيء.
طلب منا بواب مستشفى الميرة الانتظار قرب المصعد ريثما يصعد، ويبلغ الدكتور أيمن بوجودنا. جلسنا على كنبة نصف محطمة، وبعد مضي بعض الوقت، عاد البواب، وأخبرنا أن الدكتور أيمن في حجرة العمليات، لكنه تمكن من إخباره بانتظارنا له. رجانا أن ننتظر قليلاً على قليل، وصعد بكرتونة من العقاقير سلمته إياها ممرضة سمينة، ومرتضى لا يفوه بكلمة. وضع في فمه علكة راح يمضغها ببطء، وعلى شفتيه تلتصق ابتسامته.
انفتح باب المصعد على البواب، وهو يشير إلينا بالمجيء. صعدنا معه، وكلما توقف المصعد، كان البواب يتحدث مع الداخلين أو الخارجين. في إحدى المرات سد باب المصعد، وقفز يسأل إذا كان الدكتور أيمن قد خرج من حجرة العمليات. قالوا له إنه خرج، فعاد بسرعة، وصعد بنا إلى الطابق الأخير.
- اذهبوا إلى رؤية السكرتيرة، وقولوا لها الدكتور أيمن ينتظركم، قال لنا.
وبالفعل، كان الدكتور أيمن ينتظرنا. طبيب شاب كان طبيب أطفال وطبيب جراحة. بحثت الممرضة عن سرير فارغ في كل حجرات الطابق إلى أن وجدت واحدًا. كشف الطبيب على إيناس، وقال لا شيء عندها اللهم سوى إسهال حاد. وصف لها عدة أدوية، وألح على أن تأخذ شراب اللوموتيل ثلاث مرات يوميًا. أما بخصوص الحرارة الشديدة، فليس هناك أحسن من الكمامات. طلب من مرتضى إبلاغ الطبيب النسائي جاره أحر السلام، وأضاف إنه يداوم في المكان الفلاني من الساعة كذا إلى الساعة كذا، ورجاه أن يحضر إيناس متى يشاء. شكره نسيبي، وهو يوسع ابتسامته الخالدة أكثر فأكثر، وقبل أن نغادر المستشفى، بحث عن البواب ليعطيه جنيهًا، لكنه لم يجده.
رفض مرتضى أن أدفع ثمن أدوية ابنتي، لأن إيناس غالية على قلبه جدًا جدًا جدًا. لم نجد اللوموتيل في الصيدلية المقابلة للمستشفى، فذهب بنا إلى صيدلية أخرى: ساندرا، شارع الإقبال. قال إن الصيدلانية دكتورة تعرفه، وهي ستحضر له الدواء الناقص من تحت الأرض لو يلزم. وبالفعل، عاد مرتضى بكل الأدوية، وابتسامته تتضاعف فخارًا.
عند عودتنا إلى العمارة، توقف العمال عن الدق. أصبح الأمر لديهم طقسًا من الطقوس، كانوا لا يريدون أن يسببوا لإيناس أقل إزعاج. كان شفاؤها يتوقف عليهم هم أيضًا، وكان عليهم أن ينهوا "مهمتهم" بنجاح، وبنجاح كامل. أخبرتنا حسناء أن عبير تلفنت للسؤال عنا، وأنها زعلت عندما علمت بمرض إيناس. كان الوقت وقت غداء، فسألت برنسيس إذا كان الغداء جاهزًا. أحضرت صحنها وشوكتها وسكينها، وبدأت تلتهم الأكل التهامًا قبل أن نأخذ نَفَسَنا. كان الطبق فاصولياء خضراء بدجاج رائحته طالعة إلى جانب أرز أحمر. أكلتُ قليلاً، وكذلك فعلت زوجتي ويناتي. أكل عامر كالخنزير، وهو يوسخ كل شيء حوله، ويوسخنا. ولأنه أكل كثيرًا، نام على الطاولة، وهو يواصل الأكل، كأخته. فضلت حسناء انتظار زوجها الذي ذهب إلى الصلاة في المسجد، إذ من عادته أن يصلي الجمعة مع الإمام لمضاعفة ثوابه عند الله.
- بعد الغداء، سيأخذنا مرتضى إلى قصر المنتزه، أعلمتنا حسناء.
- في الوضع الذي هي عليه إيناس، أنا لا أستطيع الذهاب، يا عزيزي، قالت لي زوجتي.
- إذا لم تذهبي، قالت أختي لزوجتي، أنا لن أذهب.
عاد مرتضى من المسجد، وعلى وجهه تضيء قناعة الرهبان. كان يبتسم، وكأنه التقى الله بشخصه. عدّل البرنامج. سيأخذني وحدي للتمشي في محطة الرمل، شرط أن نذهب كلنا غدًا إلى نادي شركته: سيكون عيد شم النسيم، عيد الربيع، أول مايو. ستكون إيناس قد برئت، والمعنويات قد ارتفعت، قال والابتسامة تلتصق بشفتيه. طلبت زوجتي حفاضات وكحولَ تسعينَ الدرجة، فدار مرتضى على كل صيدليات محطة الرمل ليجد الحفاضات الأرخص. ابتسم أكثر فأكثر على مرآي، وأنا أحمل كيسين كما لو قدم لي أكبر خدمة.
- فرق الثمن ليس كبيرًا، قلت له، ونحن، نحن لم نتمش في محطة الرمل كما كان ذلك متوقعًا.
- سنتمشى، فلا تقلق، رماني مرتضى، والابتسامة مشدودة ببرغي على شفتيه.
جعلني أمر أمام بعض الدكاكين المغلقة، وهو يشرح لي أن أصحابها مسلمون، واليوم الجمعة.
- لكن الشوارع تبقى حية، أضاف، لأن معظم أصحاب الدكاكين أقباط، وهم يغلقون يوم الأحد.
- ويوم السبت؟ قلت مازحًا
- لا يوجد الكثير من اليهود بعد أن رحلوا، قال مرتضى والابتسامة أكثر من مشدودة ببرغي على شفتيه.
- ولماذا إذن القنصلية؟
- لأنها الاسكندرية، ولأشياء أخرى يفهمها أكثر ما يفهمها إسكندر المقدوني، رمى وقد تكسر البرغي على شفتيه لشد ما شد به ابتسامته.
تذكرت كحولَ تسعينَ الدرجة الذي طلبته زوجتي، فلم نجده بالدرجة التي نريدها: سبعون درجة، قال لي صيدلاني عجوز.
- الظاهر أن كحولَ التسعينَ الدرجة لا يوجد إلا في باريس، قال لي بفرنسيته المكسرة.
عند ذلك، كلمني الصيدلاني بفرنسية لا غبار عليها، وقال لي إن بإمكانه أن يطلبه لي من باريس، لكن ذلك سيأخذ وقتًا كبيرًا. لم يكن يعذب روحي كحولَ تسعينَ الدرجة ولا الحفاضات، ولكن حال ابنتي التي لا تتحسن. كشفت عما في قلبي لمرتضى الذي يبتسم ابتسامة الشمع، فطلب مني ألا أقلق. سترى، قال، عند عودتنا ستكون قد برئت تماما. الله يحب أن يترك الأطفال أحياء. إنهم مستقبل الإنسانية. ولكن عندما عدنا، وجدت أن صحة إيناس قد تدهورت. لم تهبط حرارتها رغم الكمامات والأدوية التي وصفها لها آخر طبيب. بقينا أنا وزوجتي قرب سريرها إلى ساعة بعيدة في الليل عندما فجأة، عاد عامر إلى الصراخ. هل هو كابوس يوقظه الآن للمرة الثالثة في نفس الساعة؟ صرخ، ونادى أمه التي ضربته دون أن توبخه هذه المرة، والتي انفجرت بعد ذلك باكية بينما واصل عامر الصراخ. ضربته من جديد وهي تهمهم: "يا للمصيبة، آه! يا إلهي! يا للمصيبة!" صرخ عامر أكثر فأكثر، فأغلقت له بيدها فمه، وضغطت بقوة تريد خنقه. صرخ، وأختي أخذت تصرخ مثله، تطلب العفو من عند الله، تقول إن هذا الطفل يستحق الموت، إنها تستحق الموت.



الفصل الثاني والعشرون

عادت حسناء بإيناس إلى طبيب مستشفى الفتح، كانت قاعة الانتظار ملأى، فجلسنا في الممر إلى جانب امرأة في حضنها طفل. راحت تثني على الطبيب قائلة إنه أنقذ ابنها من موت محقق. عندما عَرَفَتْ ما تشكو إيناس منه ضحكت، وقالت إن الاجتفاف لم يقتل في العمر أحدًا.
ومع ذلك، كانت إيناس تغلي من شدة الحرارة، نحلت كثيرًا، وضعفت كثيرًا. كانت تنظر إلينا دون أن ترمش، أو تغمض عينيها دون أن تتحرك. تأخر دورنا، ونحن نغلي مثل إيناس. كانت حمى إيناس تجتاح أجسادنا، رؤوسنا، وجودنا. كنا نشعر بأنفسنا، وكأننا في فرن، الجحيم على بعد خطوتين منا. كنا نهلك معها. وبشكل متناقض، بدا الطبيب بعيدًا كل البعد عما تعانيه إيناس، عما نعانيه. بدا بعيدًا كل البعد عنا، عن مخاوفنا، عن آلامنا. بدا محبورًا وسعيدًا في فردوسه. رفض أن يستمع إلى حسناء التي كانت تريد القيام بدور المترجمة: على أم الطفلة أن تقول له ما بها. جزائرية أم غيره، هو يفهم الجزائرية، أليست لغة عربية كباقي اللغات؟
عند ذلك، وصفت زوجتي أعراض إيناس والطبيب يبتسم محبورًا وسعيدًا في فردوسه. خاصة عندما تستعمل كلماتٍ مصرية، فيضحك، حتى أنه يصفق. وفي النهاية قال إن أم الطفلة تدبرت أمرها، وإنه فهم كل شيء. ضحك مرة أخرى، وصفق. ثم لبس لباس الجد، وطلب من حسناء أن تخلع ثياب إيناس على طاولة الفحص. أخذ لها حرارتها، وهو عابس، وهمس "42". وفي اللحظة التي قرص فيها لحم بطن البيبي الرخو، انفجر الغائط كالنافورة، ولوث كل شيء، الطاولة، الأرض، يدي الطبيب، حتى مستقبلنا التعس. رأيناه يقفز نحو الباب، وينادي: "يا تمرجية! يا تمرجية!" انهارت زوجتي، وقلت لنفسي دخلت إيناس في حالة خطرة، وسيأمر بنقلها إلى غرفة من غرف المستشفى في الحال. لكن المفاجأة الكبرى كانت أنه طلب من التمرجي الذي حضر تنظيف كل شيء. بعد ذلك، تقدم من زوجتي، وقال لها، وكله ابتسام:
- بنتك زي الفل!
- وحرارتها المرتفعة جدًا؟ صاحت زوجتي.
- اعملي لها حمامًا باردًا.
- وإسهالها الذي لم تعد تسيطر عليه؟
- داومي على إعطائها سفن أب.
- ولكن أعطها شيئًا يساعدها على إنزال الحمى.
- لا.
- شيئًا يساعدها على إيقاف الإسهال.
- لا.
- ولكن، يا عزيزي، قالت لي، وهي تستدير إليّ، وترجوني أن أفعل شيئًا.
- لا.
- ولكن، يا عزيزي...
- كما أقول لكِ، الحمام البارد والسفن أب.
ثم:
- بنتك زي الفل!
في الطريق، قالت حسناء سنعمل لها حمامًا باردًا، وسنداوم على إعطائها الأدوية التي وصفها طبيب أمس. رمت إلى التهوين من وضع الصغيرة للتخفيف عن زوجتي من الآلام ولو القليل، وهي تراها منسحقة في المقعد الخلفي للسيارة، محدقة في إيناس التي تغلق عينيها في حضنها غائبة عن كل شيء من حولها. مرت حسناء على الساعاتي، واشترت لعامر ساعة جديدة. اجتازت سوق باكوس، وهي تقول هذه هي سوق باكوس الشهيرة. مرت بدكان شقيق زوجها، وقالت لنا إنها دكان أحد تجار البلد الكبار. مرت أمام كنيسة تعانق جامعًا، وأشارت إلى يمينهما، وقالت هذه هي سوق السمك. تأوهت، وقالت إنهم كانوا يريدون أن يأحذونا إلى كل مكان في مدينة إسكندر الكبير لو لم تكن إيناس مريضة. كان القطار الأزرق على وشك العبور، فأوقفنا شرطي جالس في صندوق زجاجي. عبر القطار ثقيلاً وبطيئًا، وسائقو السيارات يزمرون لنفاد صبرهم. أخيرًا قطعنا خطوط السكة الحديدية، وتوقفت حسناء أمام التعاونيات واحدة واحدة دون أن تشتري شيئًا. كان الجو جميلاً، الشمس لطيفة، والهواء خفيفًا، لكن شمس إيناس محرقة، وأنا أينما نظرت في مدينة إسكندر الكبير تلك لا أرى سوى صيدليات ومستشفيات وعيادات أطفال.
- لنعد إلى الدار بسرعة، قلت لأختي. إيناس تحترق!
عندما دخلنا حي حسناء، تبدل الجو، وغدا باردًا. لسعتنا أنسام الهواء، وسقطت على رؤوسنا الأمطار. ارتدى الناس معاطفهم، وأخذ البحر يهدر. أخذت أمواجه تجتاح الكورنيش، حتى أن إيناس فتحت عينيها فجأة، وحدقت فينا بهلع. أخذت تهدر كالبحر، وأمها تحاول تهدئتها دون فائدة. أخذت تهدر هي الأخرى، والدمع من عينيها ينبجس كالنبع. حررتُ البنت من ذراعيها المطوقتين لها، وحاولت تهدئتها. أوقفت حسناء السيارة، وأتت تجلس إلى جانبها، وهي تشدها بقوة إلى صدرها، وبدورها لم تتأخر عن الانفجار باكية. نظرت من حولها عسى أن يمر أحد تعرفه، وهمهمت برعب: "يا للمصيبة، آه! يا إلهي! يا للمصيبة!"



الفصل الثالث والعشرون

في يوم شم النسيم، انتظر مرتضى أن تبرأ إيناس بقدرة قادر من أجل الاحتفال به في نادي الشركة التي يعمل فيها، لكن وضع ابنتي لم يتغير، بقيت حرارتها على حالها، وإسهالها على حاله، ولم نعد نسمع صوتها، حتى من أجل البكاء لم نعد نسمع صوتها، لم يعد يمكنها ذلك للضعف الذي اجتاحها.
- اذهبوا أنتم، يا عزيزي، قالت زوجتي، سأبقى أنا مع إيناس.
لم ترتدِ حسناء ملابسها، أرادت البقاء، هي الأخرى، إلى جانب إيناس.
كنا من بين الأوائل الذين وصلوا النادي، أنا ومرتضى والأولاد. اختار مرتضى مكانًا جيدًا لإيقاف سيارته، وطاولة جيدة قرب الألعاب. جربت غيداء ودينة كل الألعاب: الأرجوحة، الحلبة الزالقة، الأحصنة الخشبية... صورتُهما، وصورتُ عامر الذي لم يتزحزح من مكانه، والذي لم يتوقف عن النظر إلى ساعته الجديدة. صورت برنسيس ومرتضى الذي كان يبتسم للكاميرا أكثر من المعتاد، وبدوره صورني. قضينا وقتًا طيبًا رغم انشغال بالي على إيناس.
- هذه الساعة لا تمشي جيدًا، يا خالو، قال لي عامر، وهو ينظر إلى ساعته الجديدة.
- بلى، إنها تمشي جيدًا، قلت له.
- لا، إنها لا تمشي جيدًا كالأخرى.
- الأخرى كانت لا تمشي جيدًا.
- الأخرى كانت تمشي جيدًا، لم تكن العقارب تتحرك، كانت الساعة الواحدة والنصف دومًا.
- تعال أشرح لك...
- هذه الساعة لا تمشي جيدًا، يا خالو.
- بلى، بلى، بل تمشي جيدًا جدًا. تعال أشرح لك...
- إنها لا تمشي جيدًا كالأخرى.
- اقترب قليلاً كي أشرح لك...
- إنها لا تمشي جيدًا.
- أنظر إلى العقارب كيف تتحرك، قلت، وأنا أشير إلى إطار ساعتي.
- هذه الساعة لا تمشي جيدًا، يا خالو.
فكها، ورماها، فسارع أبوه إلى التقاطها، ووبخه.
- إنها لا تمشي جيدًا، عاند.
لم يكن عامر يعرف، لم يكن يريد أن يعرف كل تعقيدات العقارب. كانت الساعة بالنسبة له الواحدة والنصف دومًا. حاول أبوه أن يشرح له كيف يتقدم الوقت، ساعة بعد ساعة، ولكن دون فائدة. كانت الساعة بالنسبة له الواحدة والنصف على العاشرة صباحًا أو عند منتصف الليل. ليهرب من شرح أبيه، حاول أن يصفر أو أن يفرقع إصبعيه، وطبعًا دون أن ينجح. نظر إليّ، ونظر إلى معصمه دون ساعة، وابتسم.
لم تتوقف برنسيس عن الذهاب والإياب، كانت تغيب طويلاً ثم تعود وتقول لنا إنها التقت بصديقتها فلانة أو بصديقتها علانة. وفي إحدى المرات، جاءت لاصطحاب غيداء ودينة كي تشاهدا مباراة كرة قدم. سألها أبوها منذ متى تحب مباراة كرة القدم. أجابت أن ذلك من أجل غيداء ودينة، وأنهما فريقان مدرسيان.
- سآتي إذن لتصوير المباراة، قلت لها.
- لا، يا خالو، أرجوك، سارعت إلى القول.
- لماذا؟
- أرجوك، يا خالو.
- ولكن لماذا؟
- إنهما فريقان مدرسيان لا أهمية لهما، يا خالو.
لكني ألححت على تصوير البنتين على الأقل. تركتني برنسيس، وراحت تجري إلى الملعب. كانت مضطربة لا أدري لماذا. لاحظت شابًا جميلاً يأخذ مكانًا خلفها، فصورته عن غير قصد مني.
وقت الغداء، أحضر لنا مرتضى علبًا فيها دجاج محمر، علبة لكل واحد. وترك ثلاث علب جانبًا، قال إنها لحسناء وزوجتي وإيناس. أوضح أنه سبق له وطلبها ودفع ثمنها. فضلت غيداء ودينة اللعب على الغداء، لم يتعبهما اللعب، ولا حرارة الشمس المتصاعدة، ونسيتا سعالهما تمامًا. لعبتا كما لو لم تلعبا أبدًا. تصاحبتا مع صغيرات مصريات بعمرهما، ومع ذلك لم تكونا تعرفان كلمة عربية واحدة.
أخذتني برنسيس من يدي، وقالت لي إنها تريد أن تريني النادي. ونحن نتمشى في جنباته، كشفت لي أن أمها ترفض انتسابها إلى هذا النادي أو إلى أي ناد آخر، رغم النشاطات الكثيرة التي يمكنها ممارستها، وأنها تعتبرها كبنت صغيرة تارة، وتارة كبنت كبيرة تخشى عليها من الاختلاط بالجنس الآخر. قالت لها أمها إن بإمكانها مصادقة الأولاد في الجامعة، وفقط في الجامعة، بشرط ألا تأتي بهم إلى البيت. ماذا سيقول الناس؟ نحن لم نتعود على هذا! أخذت برنسيس بالشكوى، بقول إنها كبرت، وإنها غير مقتنعة بالكثير من مواقف أمها، وإنها ليست متفقة مع أمها حول كثير من المواضيع. صحيح إنها تفهم كل ما عانته أمها بسبب عامر، ولكنها هي، هي ليست عامر. هي، هي تريد أن تحيا. قالت لي إنها ستذاكر جيدًا كما تطلب منها أمها دون توقف، وإنها ستحصل على أعلى الشهادات في سبيل إرضائها، ولكنها تريد أولاً أن تحس بأنها كبرت بالفعل، وخاصة بأن أمها تثق بها.
عندما رجعت وبرنسيس إلى طاولتنا، وقعت على مرتضى، وهو يلتقط بقايا الأكل ليأخذها إلى البيت. كان له شكل القرفان، وصارت له رغبة مفاجئة في ترك المكان بأقصى سرعة. سمعته يقول:
- يجب المغادرة من أجل إيناس.
في طريق العودة، واصلت بنتاي اللعب، وواصل عامر النظر إلى معصمه قائلاً إن الساعة الواحدة والنصف، وإن إيناس ماتت. عنفه أبوه، هزته برنسيس بعنف، وتوقفت غيداء ودينة عن اللعب فجأة، بينما نظر عامر إليّ، وأعاد حزينًا إن إيناس ماتت.



الفصل الرابع والعشرون

ما أن فتحت حسناء لنا الباب حتى سألتها عن حال إيناس.
- جيدة، قالت بنبرة لم أطمئن إليها.
ركضتُ صوب البنت، فوجدتها تنهار في حضن أمها، وأمها تبكي.
- إيناس تموت، يا عزيزي، أنّت زوجتي، يجب عليك أن تفعل شيئًا.
خرجت من الحجرة كالمجنون، فأخبرتني برنسيس أن أمها وأباها ذهبا لإحضار طبيب يعرفانه. أخذت أصرخ أن الوقت ليس وقت إحضار طبيب، وعلينا أن نأخذ إيناس إلى أقرب مستشفى. هبطت الدرج كما لو كنت أطير من أجل اللحاق بهما، ركضت في الشارع، لكني لم أجدهما. عدت إلى الركض في كل الاتجاهات دون أن أدري ماذا أفعل. كانت إيناس تموت بالفعل، كل ما تسقيها أمها تنزله في اللحظة نفسها، وهذا منذ ليلة أمس. لم تقفل أمها عينيها لحظة واحدة، ولم تتوقف لحظة واحدة عن إسقائها، ولكن معدة إيناس وأمعاءها كانت كما لو رُبطت بين فمها وشرجها بماسورة. لم تكن تحتفظ بشيء. ذبلت، وجفت. حَزِنَتْ عليها غيداء ودينة، وتوقفتا عن اللعب. لم يرفع عامر عينيه عن ساعته الواقفة التي أعاد وضعها حول معصمه، وبكت برنسيس في زاويتها. جمد عم إبراهيم على مقعده القديم، ورجع العمال إلى حجرتهم التي ينامون فيها، ولم يظهروا ثانية. نام ميكانيكي شاب تحت سيارة الجيب والمحرك معلق فوقه، كان يعمل وحده، ولا ينظر إلى أحد. لمحت سيارة حسناء تأتي من بعيد، فذهبت أركض باتجاهها، وأنا أصرخ يجب أخذ إيناس إلى أقرب مستشفى. خرجت حسناء من السيارة، وجرت باتجاه الشقة قائلة إن الطبيب الذي يعرفونه أبدى عجزه عن معالجة إيناس في وضعها الحرج، ولكنه في المقابل اتصل ببروفسورة في جامعة الاسكندرية هي الآن بانتظارنا لعشر دقائق فقط، فقد كانت على وشك الذهاب.
أضاع مرتضى الطريق في سيدي بشر، ولم يجد شارع خالد بن الوليد. لم يعرف أحد أين توجد أجزخانة الدكتور عبد الله، فعيادة البرفسورة تقع قرب الأجزخانة. دقت قلوبنا بقوة شديدة، ولعنت حسناء الشيطان، وطلبت من الله الغفران، إلى أن وقعنا في الأخير على الأجزخانة التي كانت العيادة في الوجه المقابل لها.
أدخلنا التمرجي مباشرة على الدكتورة نادية التي استقبلتنا واقفة كالهرم تحت حجابها، أخذت إيناس من يدي أمها دون أن تنتظر منا شرحًا لحالها، ووضعتها على طاولة الفحص. بسملت، وبدأت بفحص المريضة جِدّ الصغيرة بينما حسناء تحكي للطبيبة كل ما جرى لها باختصار شديد وبسرعة كبيرة. طلبت البرفسورة من زوجتي ان تعيد إلباسها، وعادت إلى مكتبها.
- هذه البنت بحاجة إلى الاستشفاء حالاً، قالت متوجهة بالحديث إليّ، وأنت، أنت لك الخيار بين مستشفى نظيف وأطباء سيئين أو مستشفى غير نظيف وأطباء جيدين.
- المهم عندي هو الطبيب الجيد، قلت.
- إذن خذها إلى مستشفى الشاطبي في الحال.
كتبت رسالة إلى الدكتور إسماعيل والدكتورة نوال والدكتورة ماجدة تشرح فيها ما يجب فعله لإنقاذ إيناس، وطلبت منهم أن يخبروها بكل ما يطرأ من تطورات على وضعها أولاً بأول. وهي تعطيني الرسالة، أعلمتني أن أولئك الأطباء يعملون تحت إمرتها، وأنهم سيقومون بكل ما هو لازم، وطمأنتني.
طار مرتضى إلى مستشفى الشاطبي كالطائر الباحث عن إنقاذ صغاره، كانت طريق الكورنيش عند بداية الليل ممنوعة على السيارات الآتية من الاتجاه الآخر مما ساعده على الوصول خلال دقائق. اجتاز البوابة، وقطع بركة من الوحل، ووقف أمام باب مبنى المستشفى. كان الناس يجلسون بالعشرات على الدرجات، والبواب يمنعهم من الدخول، إلا أنه أدخلنا أول ما رآنا سائلاً أي طبيب نريد: الدكتور إسماعيل أو الدكتورة نوال أو الدكتورة ماجدة. سار أمامنا في ممر طويل، ثم صعد معنا درجًا عاليًا، وهو يقول إن الدكتور إسماعيل لم يأت بعد، وإن الدكتورة ماجدة دوامها غدًا، وإنه سيأخذنا بالتالي عند الدكتورة نوال.
لم يكن هناك أحد في مكتب الممرضات، فتركنا ليذهب في طلب الدكتورة نوال في الطابق العلوي. خرجت بعض المريضات من حجراتهن، ووقفن أمام أبوابهن لينظرن إلينا. صاحت إحداهن بأخرى تستمع إلى أغنية لأم كلثوم كي تقفل جهازها، فلم تقفله بل أوطأت صوته. كنا نغلي كإيناس، حرارتنا ارتفعت إلى أقصاها، وقلقنا اشتد، وازداد. أخيرًا جاءت امرأة محجبة بصحبة أخرى محجبة مثلها من آخر الممر، حيتنا الواحدة والأخرى، وإحداهما التي كانت تعض ساندويتش طعمية قدمت لنا نفسها: الدكتورة نوال. بعد أن قرأت رسالة البروفسورة نادية، قالت لمرتضى إنها بحاجة إلى مصل من الصيدلية وكل ملحقاته من أدوات وغيره. سجلت كل شيء على ورقة، وراح مرتضى يجري إلى أقرب صيدلية، وابتسامته تلتصق بشفتيه، ثم ما لبث أن رجع. جاءت الممرضات، وحملن إيناس إلى حجرة كانت في حقيقتها مطبخًا متروكًا. تجمعن من حول إيناس، وهن يمسكن بها فوق طاولة. وضعت حسناء ذراعها تحت رأس الصغيرة، وأخذت الدكتورة نوال في البحث عن عرق في ساعدها تغرز فيه رأس الإبرة. انهارت زوجتي بين ذراعي إحدى الممرضات التي اصطحبتها إلى الخارج بينما أخذت إيناس تصرخ. نظرت إلى الوجوه واحدًا واحدًا إلى أن وقعت على وجهي، بدا عليها تطلب مني بعينيها المحملقتين المجيء إلى نجدتها وقد استولى عليها الرعب.
- لا تخافي، يا بنيتي، إنني هنا! لا تخافي!
قالت الدكتورة نوال إن الزرق سيدوم ثلاث إلى أربع ساعات، لكن حسناء رفضت سحب ذراعها من تحت رأس إيناس. أخبرتنا أيضًا أن التبديل سيحين بعد قليل، وأن الدكتور إسماعيل هو الذي سيأخذ مكانها. طمأنتنا على حالة إيناس، وذهبت.
عادت ممرضة أخرى بزوجتي قائلة إن الاجتفاف عمره ولا قتل مخلوقًا على وجه الأرض، بينما يتتالى في رأسي آلاف الأطفال الصوماليين الموتى بسبب هذه الآفة، آلاف الأطفال البنغاليين، آلاف الأطفال المكسيكيين. سألت الممرضة زوجتي من أين هي، وزوجتي غائبة مقعية من فوق ابنتها، وقد تركت دموعها تتفجر. لاحظت أن للممرضة شعرًا أشقر، وأن لون عينيها أخضر، وأن ابتسامتها تتلألأ بألف ضوء. عندما وجدتنا نغرق في أفكارنا قلقًا على إيناس، تركتنا، وذهبت على رؤوس أصابع قدميها.
قال مرتضى لزوجتي، والابتسامة تلتصق بشفتيه، إن هذا المصل سيعوض إيناس عن كل ما فقدته من أملاح، وعما قليل ستعود لوجهها كل نضارته. تنهدت زوجتي أملاً، وطلبت من حسناء أن تسحب ذراعها، لتأخذ مكانها، لكن أختي رفضت. مسحت بكفها رأس إبناس التي أخذها النوم في أحضانه الحنونة، وقطرات المصل تتساقط قطرة قطرة، والحنفية من ورائنا يهرب الماء منها قطرة قطرة في مجلي معدني. لانزعاجه، أحكم مرتضى إغلاقها. لاحظت عندئذ بقعًا حمراء تلوث المجلى، وقوارير مصل فيه فارغة. رفعت رأسي إلى السقف، ورأيت جمهورية من العناكب المتصارعة. ابتسمت حسناء فجأة، وقالت بدأ وجه إيناس يستعيد نضارته.
- ألم أقل لكِ، سارع مرتضى إلى القول لزوجتي. بدأت إيناس تستعيد ألوانها.
- أوطئ صوتك، أمرته حسناء.
ذهب إلى النافذة، فتبعتُهُ، وسمعت صوت البحر الذي لم يكن بإمكاني رؤيته بسبب المبنى الملحق بالمستشفى. لاحظ مرتضى أن صوت البحر الرتيب يشير إلى أنه هادئ هذه الليلة. رفع رأسه، ورفعت رأسي معه. رأينا ملايين النجوم في السماء.
- أنت لا ترى هذه النجوم إلا في الاسكندرية، قال مرتضى موسعًا من ابتسامته إلى أقصاها.
بدا في غاية السعادة.
تركنا دون أن يقول لنا إلى أين هو ذاهب، لكنه ما لبث أن عاد بعلبة من الحلوى وزعها علينا. أكلنا منها، وعطشنا. حذرتنا ممرضة دخلت ببيبي صغير جدًا بين ذراعيها من الشرب من ماء الحنفية. اقترح مرتضى الذهاب لشراء عصير، لكن حسناء قالت إن عطشها زال. جاءت امرأة بدت على وجهها صروف الحياة حسبناها أم الطفيل، لكنها كشفت عن كونها جدته، وكون هذا البيبي توأم بيبي آخر له سباعي. هذا ستربيه هي، وأخوه ستربيه أمه. وهذا كأنه لم يشأ أن تربيه امرأة أخرى غير أمه، أضرب عن شرب الحليب، وأصيب بالاجتفاف. أشارت بإصبعها إلى إيناس:
- هي أيضًا، الاجتفاف؟
- هي أيضًا، أجابت زوجتي.
- لكن هي، هي لم تضرب عن شرب الحليب مثله، قالت حسناء.
أضفت:
- ما أصاب إيناس من قلة الحذر.
- الحذر لا يمنع القدر، قالت المرأة.
هيأت الممرضة الطفل على الطاولة إلى جانب إيناس، بحثت عن عرق تغرز فيه إبرة المصل دون أن تجد عرقًا واحدًا. كان الطفل مغروزًا في كل مكان من رأسه وعنقه وساعده، وكان يصرخ صرخات مكتومة تكاد لا تسمع كلما غرزته الممرضة. عندما نجحت في الأخير، التقطت إحدى قوارير المصل المستعملة، وربطتها بالأنبوب. علقتها، ودوزنتها. أمام رخاصة عود الرضيع، تساءلتُ في قرارة نفسي عن الفائدة التي ستعود على نصف الطفل هذا الذي ستكون له الحياة السريعة الزوال للفراشة. لكني سمعت المرأة تقول له وهي تداعبه بحنان: "ستكبر، وإن أطال الله عمري، سأربي أولادك وأولاد أولادك!" انقطعت الكهرباء فجأة، فضحكت المرأة على صيحات الدهشة والاستنكار التي أطلقتها أختي وزوجتي. أخرجت من جيبها شمعة وعلبة كبريت، فانتشرت عن لهب الشمعة دائرة من الضوء خافتة راحت تهتز. أتانا من النافذة ضوء كهرباء، فأوضح لنا مرتضى أنه يأتي من المبنى الملحق بالمستشفى حيث تدور العمليات الجراحية، وذلك بفضل محرك يعمل دون انقطاع. أشار في الليل إلى جهة فيها المحرك، وقال إنهم الفرنسيون الذين زودوا قسم العمليات بكل الأدوات الحديثة التي لن نجدها في كل مصر.
- الفرنسيون يحبون الاسكندرية، أنهى.
اعتمد على حافة النافذة، واعتمدتُ على حافتها مثله. نظر إلى النجوم، واصغى إلى صوت محرك الكهرباء. نظرتُ إلى النجوم، وأصغيتُ إلى صوت الأمواج. أخذ يحكي عن أيامه التي أمضاها في فرنسا، أحلى الأيام. عندما ذهب ليتعلم الفرنسية قبل أن يعمل أستاذًا للمحاسبة في الجزائر. راح يتكلم بالفرنسية، وهو يلفظ ال "b" "p" وال "p" "b"، ويبدو مفتونًا بهذا الماضي. كانت الشمعة تبذل من ورائنا أشعتها المتكسرة عندما سمعته يتمنى فجأة، وابتسامته الملتصقة بشفتيه تبتلع كل وجهه، كل جسده، لو يعمل معي مشروعًا ليذهب إلى باريس هو وكل أسرته.
- ظننتك سعيدًا في الاسكندرية، قلت له. أسعد مخلوق في الكون!
- إسكندرية شيء وباريس شيء آخر، همهم، وقد تبخرت للمرة الأولى ابتسامته.
همهمت:
- إسكندرية...
وهو:
- باريس...
أتانا نفير سفينة راحلة، فغمق لون مرتضى، وسكنت نظرته، وبدا غائبًا. عادت الكهرباء، فعاد لمرتضى لونه. عادت الحركة إلى نظرته، عادت ابتسامته التي اعتدتها تلتصق بشفتيه. التفت إلى حسناء المنحنية دومًا، بذراعها الممتدة تحت رأس إيناس، وقال لها: "آه! على فنجان شاي من تحت يديك، يا حسحس."
مضت ساعة، ونحن صامتون. كنا ننظر إلى إيناس التي تنام نومًا هادئًا، ونقول لأنفسنا إن الخطر قد ابتعد، فنغتبط كلنا في دخائلنا دون أن نفوه بكلمة واحدة. جاء الدكتور إسماعيل ليرى إيناس عدة مرات، لكننا لم نعرف أنه هو. أعلمنا البواب بذلك، وطلب أية خدمة يمكنه تقديمها لنا قبل مغادرته المستشفى، فشكره مرتضى، وخرج معه. فكت جدة الطفل أنبوب المصل عند انتهاء الزرق، وسدته بقطعة قطن. حملته مع حفيدها قائلة هكذا تبقى الإبرة في مكانها، فلا يتعذب المسكين ثانية. أعطتها حسناء ما تبقى من حلوى، فشكرتها المرأة جزيل الشكر. اقترحت علينا فنجان شاي من تحت يديها: الشاي موجود، والسكر موجود، ووابور الكاز موجود. شكرناها كلنا الواحد بعد الآخر متمنين للبيبي الشفاء العاجل. تمنت لإيناس الشفاء، وراحت تدعو، وهي ترفع عينيها إلى السماء.
على الساعة الثانية صباحًا، جاء الدكتور إسماعيل مع انتهاء المصل، وسمح لنا بالذهاب إلى البيت، وهو يوصينا العودة بإيناس قبل الثامنة ساعة انصرافه، من أجل زرق ثان. فتحت إيناس عينيها، وبحثت عني أول ما بحثت. ابتسمت لي، وأبهجت تلك الابتسامة قلوبنا. قهقهنا كلنا معًا، وحط مركب إيناس بنا على تخوم السعادة. راح مرتضى يصفر لإيناس، فأوقفته حسناء.
- ليس هذا وقته الآن، قالت والابتسامة تأتلق على شفتيها.
- برئت إيناس، يا عزيزي، قالت زوجتى بكل سعادة الوجود.
وأنا أهمهم، بكل سعادة الوجود أيضًا:
- برئت إيناس...
دعا مرتضى:
- نشكرك يا الله، وابتسامة حقيقية على شفتيه.
غادرنا المستشفى، ومرتضى ينطلق بنا على الطريق الموازية للكورنيش. كنا وحدنا تحت سماء الاسكندرية المرصعة بملايين النجوم، ومن بعض الأماكن، كنا نرى البحر. كان هادئًا هدوءًا مطلقًا، وكان ينادينا: كم كان ذلك رائعًا أن نرمي فيه بأجسادنا التعبة، وأن نذوب بين ذراعيه!
عند وصولنا أمام عمارة حسناء ومرتضى، رأينا ضوء مصباح معلق على سيارة الجيب. كان الشاب الميكانيكي يواصل عمله بِجِدٍ، وقد أعاد وضع المحرك في مكانه. تلاقت عينانا، لكنه تحاشى نظرتي دون أن يقطع عمله، وكأن رهانًا سريًا كان ما بيننا: أن ينهي كل شيء في الوقت المحدد.




الفصل الخامس والعشرون

عندما نزلنا في الصباح الباكر، كانت العمارة شبه المحطمة ساكنة لا حراك فيها، لكن الشاب الميكانيكي في الخارج لم يزل يعمل برباطة جأش على تركيب محرك الجيب. ابتسم مرتضى ابتسامته المعتادة، وابتسمت أنا لإعجابي واندهاشي.
عاد مرتضى إلى مِقْوَدِهِ، وبقيت حسناء في البيت لتنام. أخذ صهري في البحث عن توصية من إحدى مسؤولات المستشفى كان يعرفها، ليهتم أطباء مستشفى الشاطبي بإيناس أكثر، لكنه أضاع الطريق، ولم يعرف عنوان المسؤولة. أخذ يدور، والساعة تدور، وتكاد تصل الثامنة. صحنا به أنا وزوجتي بصوت واحد: لا وقت لدينا، الطبيب سيذهب، ونحن يمكننا الوثوق به، سيفعل كل شيء من أجل إيناس، ولا حاجة بنا إلى توصية من أحد.
ودون أن يفوه بكلمة واحدة، أخذ مرتضى الطريق إلى المستشفى بأقصى سرعة. ما أن وصلنا، أعطى البواب نقودًا ليذهب من أجل شراء المصل وملحقاته، فذهب هذا في الحال. قابلنا الممرضة ذات الشعر الأصفر، وهي على وشك مغادرة المستشفى، وسألناها اين يوجد الدكتور إسماعيل.
- انتظروه في قاعة الاجتماعات التي هناك، وسيأتي حالاً، قالت لنا.
لوح، مقاعد، طاولات، كانت قاعة الاجتماعات أشبه بصف مدرسي، ولم يكن ذلك ليبدل شيئًا بالنسبة لنا. ما كنا نريده أكثر من أي شيء أن نخلص من مرض إيناس. لم يلبث البواب أن عاد بظرف كبير، فشكره مرتضى، وبابتسامته الملتصقة أبدًا بشفتيه دعاه إلى اللحاق به في الممر. بعد عدة ثوان، عاد، وأخبرنا أنه أعطى البواب ما أعطاه، وهو بالطبع يعني مبلغًا غير صغير.
- في حال بمثل هذه الخطورة، يجب أن تعرف كيف تحظى بفضل الناس ليقدموا لك يد العون، رمى هذه الكلمات وكله ابتسام.
وصل الطبيب بصحبة ممرضة ترفع حامل قارورة المصل، وسأل إذا شربت إيناس حليبها.
- لا، قالت امرأتي. لقد رفضت ذلك.
- لا تقلقي، قال الطبيب، هذا لأن جسدها مشبع بالأملاح.
- جسدها مشبع بالأملاح، أعادت زوجتي.
- كما قلت لك، تدخل مرتضى، جسدها مشبع بالأملاح.
- المصل هو من يشبع جسدها بالأملاح، قال الدكتور إسماعيل.
مدد إيناس على طاولة أقدامها على وشك الانهيار، فدفعها مرتضى على الحائط، ودس يده تحت رأس طفلتي الغالية على قلبي. غزها الطبيب في ساعدها، وزوجتي تنظر إليه بجرأة مباغتة. دوزن تساقط القطرات، وأعلمنا أنه سيبقى بشكل خاص من أجل إيناس حتى الساعة التاسعة. نظر إلى وجوهنا المرهقة، ونبهنا إلى تواصل الزرق ثلاث ساعات.
- سننتظر حتى ولو ثلاثين ساعة لو يلزم! قلت.
ابتسم الدكتور إسماعيل، ونظر إلى زوجتي.
- أنت تعبة، فاذهبي، وتمددي على مقعد، اقترح عليها.
رفضت زوجتي، لكني أنا عملت باقتراحه.
أتى الدكتور إسماعيل ليرى إيناس للمرة الأخيرة قبل ذهابه، شد جلد بطنها، وقرصه، ثم قال لنا إن الخطر قد ارتفع عنها، إلا أن علينا انتظار الدكتورة ماجدة لتفحصها بداية بعد الظهر على الساعة الثانية. شكرته.
- على يديك ستكون أمة عظيمة، قلت له ممتدحًا مندفعًا على الرغم مني بنوبة حمى تاريخية.
ابتسم، وذهب.
اقترحت على مرتضى أخذ مكانه، لكنه رفض قائلاً إن ذراعه لا تؤلمه. بقي وذراعه تحت رأس إيناس طوال ثلاث ساعات حتى نهاية الزرق. أتت عند ذلك الممرضة لتحرر إيناس وذراع مرتضى الذي سأل إذا كنا نريد أن نأكل شيئًا، فقلنا لا نريد. أخذ مرتضى يضاحك الصغيرة، وقال الحمد لله إيناس استعادت صحتها. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بكثير، ودومًا لم تأت الدكتورة ماجدة. أبدى مرتضى سخطه، ومع ذلك كانت ابتسامته أبدًا هناك. خرج، وإذا بصراخ يصلنا وصخب ووقع خطوات متلاحقة. خرجت بدوري لأرى ما كان يجري، فإذا بالممرضات يجرين، والمرضى يخرجون من حجراتهم، والكل يندفع صوب الدرج. بعد عدة دقائق، عاد البعض، وقال لنا إن إحدى الممرضات أصيبت بسكتة قلبية، وماتت. كان الحزن ينتشر على وجوه الكل، فالكل يعرفها، ويحبها. وما حيرني أكثر ما حيرني سلوك مرتضى: كان موت الممرضة له فرصة لا تعوض لمغادرة المستشفى. جمع أغراض إيناس، وهو يبتسم دائمًا وأبدًا، ووضعها في كيس، وقال مع كل ما حدث الدكتورة ماجدة لن تأتي اليوم لترانا، وعلينا العودة إلى البيت. أرابني منه أمره، فذهبت بحثًا عن ممرضة أعرفها أو أخرى لا أعرفها لأستفسرها لكني لم أجد أية ممرضة. فتحت بابًا زجاجيًا عن غير قصد مني، فوجدتهن كلهن يشددن بعضهن البعض، وهن يبكين. في الطابق الأرضي، سألت في قسم الاستقبال عن الدكتورة ماجدة، فقالوا لي إنها وصلت منذ قليل، وإنها ستأتي لترى إيناس حالما تنتهي مع الممرضة الميتة.
وبالفعل، حضرت بعد قليل، ومرتضى يرزح تحت ثقل الخجل. فحصت إيناس بعناية وبانتباه شديد، وبعد وقت طال فحصًا وتمحيصًا أكدت لنا زوال الخطر تمامًا عن ابنتنا الصغيرة، ولا حاجة لها بزرق ثالث. ومع ذلك، رجتنا البقاء حتى الساعة الرابعة لترى إذا قبلت إيناس أن تشرب قليلاً من السفن أب. لفتت انتباه زوجتي إلى الصدأ الذي يأكل حديد المقاعد، وذهبت، طويلة، أنيقة بحجابها، ومن بعيد، أشبه بالبروفسورة نادية.
هرب مرتضى إلى الممر، وذهبت إلى التواليت، فراعني أن المبولة والحمام والمجلى شيء واحد. لم أستطع إقفال الباب من ورائي، وللعبور إلى بيت الماء كنت مضطرًا إلى المشي على أطراف أصابعي في مستنقع من البول والمرق.
في طريق عودتي إلى قاعة الاجتماعات، نظرت من باب مفتوح لإحدى حجرات المرضى، فرأيت عددًا كبيرًا من الأسرّة في صف مستطيل. اجتمع حول كل سرير كل أفراد الأسرة، مع قططهم، وكلابهم، ودجاجهم. كل هؤلاء الناس لم يكونوا هنا لزيارة عابرة بل لإقامة دائمة. كانوا يقومون مع المريض ويقعدون سواء أكان رجلاً أو امرأة، طفلاً أو شيخًا. كان بعضهم يتسلق النافذة، وقد فرش على حافتها فراشًا بعد أن سيجها بما يحميه، وكان بعضهم يقيم رفًا، وقد وضع عليه طناجره وباقي أدوات الطبخ.
على الساعة الرابعة إلا الربع، قام مرتضى بالمناورة نفسها التي قام بها من قبل: جمع أغراض إيناس، ووضعها في كيس، ثم، والابتسامة تلتصق بشفتيه، قال لنا إن الدكتورة ماجدة لن تأتي لترى صغيرتنا المريضة. لم أخفِ عنه غضبي، وطلبت إليه الذهاب، فلا أحد يجبره على البقاء.
- أنت فهمت خطأ، قال لي، والابتسامة هذه المرة تلتصق بكل وجهه. لم تطلب منا الدكتورة ماجدة الانتظار.
- وأنتِ، ماذا فهمت؟ قلت وأنا أستدير ناحية زوجتي.
- مثلك، يا عزيزي، أجابت زوجتي.
- مثلي ماذا؟
- الدكتورة ماجدة تريد المجيء لترى إذا قبلت إيناس أن تشرب قليلاً من السفن أب.
- تريد التأكد من ذلك؟ تعال معي، واسألها بنفسك، قلت لمرتضى.
نزلنا جميعًا إلى الطابق الأرضي بحثًا عن الدكتورة ماجدة دون أن نجدها. عرضت على أحد زملائها الأمر، فقال سأذهب، وأطرح عليها السؤال. كانوا يتحركون كالنمل من حولنا، ويغلون بلا انقطاع: من يحمل ذراعه المكسورة، من يحمل قارورة دم مغروزة في ساعده، من يحمل معدته بين يديه أو أحشاءه. جاء أب بابنه الصغير يجري، والصغير أصفر الوجه دون حياة. دخل على طبيب، والأم والجدة تتبعانه. لم يبق عند الطبيب طويلاً، خرج، وهو يجر من ورائه أذيال الخيبة. أخذت الجدة تضرب الأم قائلة لها إن كل شيء بسببها: لولاها لما مات الصغير، والأم تلطم، وتبكي.
- نعم، انتظروا الدكتورة ماجدة كما قالت لكم، أكد لنا الطبيب الآخر.
ودون أن يفوه بكلمة واحدة، أحضر مرتضى، والابتسامة تلتصق بشفتيه، زجاجة سفن أب راح يخضها ليفرغها من الغاز الذي تحتويه، لكن إيناس رفضت أن تشرب جرعة واحدة. أعلمنا الدكتورة ماجدة التي قالت أعيدوا الكرّة معها في البيت، فما جاء رفضها إلا لأن جسدها لا يزال مشبعًا بالأملاح، ولم تصف لها أي دواء.
- ارجعوا لرؤية البروفسورة نادية، قالت لنا.
وسمحت لنا بالمغادرة.
أمام عمارة مرتضى، أتانا صوت محرك. كان الشاب الميكانيكي يسوق الجيب، مر بها أمامنا، وهو يبتسم ابتسامة واسعة، وذهب باتجاه البحر، فلم أمسك نفسي عن الضحك، أخذت أضحك من السعادة، وزوجتي تسألني وكلها دهشة من أمري: "لماذا تضحك، يا عزيزي؟" لم أجبها، قبّلت ابنتي، وأنا أقول لنفسي إنها ستبرأ تماما دون أدنى شك.
حال عودتنا، جاءت غيداء ودينة تجريان. نظرتا إلى وجنتي أختهما الصغيرة المتوردتين، وضحكتا مطمئنتين. قالت لنا برنسيس إنهما تضحكان لأول مرة منذ الصباح، جلستا طوال الوقت في زاوية، كسرتا كل الصدف الذي جمعتاه في العجمي، ورفضتا اللعب معها.
- لكني احتفظت لك بهذه، يا خالو، قالت لي، وهي تقدم لي صدفة ملونة.
- صدفة كبيرة ملونة؟
- احتفظت بها لك، أعادت ابنة أختي.
- صدفة كبيرة ملونة لك، يا بابا، قالت غيداء.
- إنها لك، يا بابا، الصدفة الكبيرة الملونة، قالت دينة.
- إنها لي.
- إنها لك، يا خالو. احتفظت بها لك.
- شكرا، يا برنسيس.
- إنها لك، يا بابا، قالت دينة من جديد.
- كسرنا كل الصدف ما عدا الكبيرة الملونة. إنها لك، يا بابا، قالت غيداء.
جذبتهما برنسيس إليها، وراحت تلعب معهما.
- إنها لك، الصدفة الكبيرة الملونة، يا خالو، قال عامر من ورائي.
فرقع إصبعيه، وشعاع من السعادة يضيء عينيه.
- أعرف كيف أفرقع إصبعيّ مثلك، يا خالو.
كانت لحسناء سحنة داكنة، ولم يكن ذلك لأنها لم تنم جيدًا، ولكنها كانت تعبس، وتلقي بنظرة معتمة. كانت تبدو مشغولة البال. كانت تهمهم لنفسها: "يعرف كيف يفرقع إصبعيه في الوقت الحاضر." وعامر، هو، كان يفرقع إصبعيه أيضًا وأيضًا. طلبت أمه منه بعصبية أن يتوقف، فلم يتوقف. كان يفرقع إصبعيه أيضًا وأيضًا وأيضًا. زجرته أمه. توقف للحظة ثم أعاد الكرة. فرقع إصبعيه.
- لماذا علمته بالله عليك أن يفرقع إصبعيه؟ سألتني أختي. لن يتوقف من الآن فصاعدًا. لن يتوقف عن فرقعة إصبعيه، لا يتوقف أبدًا عندما يتعلم فعل شيء. والشيء الآن هو فرقعة إصبعيه.
ومن جديد، فرقع عامر إصبعيه. صرخت أمه به، وطردته.
- لماذا أنتِ هكذا، يا ماما؟ عاتبها مرتضى، والابتسامة تلتصق بشفتيه.
- قلت لك ألف مرة إنني لست أمك.
- اتركيه يفرقع إصبعيه، جيد أن يتعلم فرقعة إصبعيه.
- جيد لك وليس لي، هذا يعذب لي روحي التي تتوجع.
- لكن...
- أتركني!
- أتركك، أتركك، يا ماما.
وعامر الذي يعيد: "أتركك، أتركك، يا ماما."
- نعم، أتركوني كلكم. هذا أكثر ما يلائمني!
أطلقت آهة. كانت المرة الأولى التي أرى فيها أختي على هذه الحال، التي أسمعها فيها تقول إنها تتوجع. اليوم الذي استعادت إيناس فيه طعم الحياة، هي، كانت هي تُبدي كم كان قاسيًا ما تحياه. لاحَظَتْ نظراتي المتسائلة، قلقي، خوفي، فالتفتت إلى زوجتي، وقالت لها إن عبير تلفنت لتسأل عن إيناس، وإنها ستتلفن مرة أخرى في المساء لتكلمها.
- هذا أكثر ما يلائمني، أن تتركوني، قالت بعد ذلك كمن تقول لنفسها.
- قولي لي ما بك، يا ماما، رجا مرتضى.
- كما لو كان لا يعرف ما بي، همهمت.
- ستقولين لي.
- أتركها، هي تعبة، الكل تعب، وأنت الأول. حال إيناس لم تكن سهلة.
- المحامي عصمت اتصل بك من القاهرة عدة مرات، قالت حسناء لزوجها كما لو لم تكن تسمعني.
وأنا:
- المحامي عصمت؟ من هو المحامي عصمت؟
- واحد أعرفه من زمان، قال مرتضى، والابتسامة تلتصق بشفتيه. يعقد صفقات وغيره، محامي، لكن اختصاصه هو السوق.
- اسأله لماذا يحتفظ بهذه الابتسامة الملتصقة بشفتيه وهو يتكلم عن المحامي عصمت، رمت حسناء باتجاهي ساخرة.
- أعرف، أعرف، اليوم ليس يومك، أجاب مرتضى. من وقت لوقت تغرق في الكآبة، واليوم...
ألححتُ:
- هي تعبة.
- لا، ليس لأنني تعبة، قالت أختي، وهي ترتعش.
- أردت العودة بأسرع ما يمكن، أقسم لك، وأنا أفكر فيك، اعترف مرتضى. كنت أعرف أن اليوم ليس يومك.
حاولتُ تبديل الموضوع، وتخفيف الجو قليلاً:
- يجب مراجعة البروفسورة نادية كما طلبوا منا في المستشفى.
- كان يعرف أن اليوم ليس يومي، هل سمعتم؟
- هذا ما طلبوه منا في المستشفى.
- ولكن هل سمعتم؟ يومي! كان يعرف أن اليوم ليس يومي.
- اهدأي، يا ماما.
وعامر: "اهدأي، يا ماما."
- أهدأ، أهدأ.
- أهدأ، أهدأ، أعاد عامر.
لبست حسناء حذاءها، وهي تهمهم "كان يعرف أن اليوم ليس يومي". وذهبنا.
ونحن ننزل الدرج، كان العمال ينظرون إلى إيناس، ويبتسمون، دون أن يتوقفوا عن عملهم. حمد عم السيد الله لإنقاذه إيناس، فشكرته، وهو لا يتوقف عن تمليس عمود بضخامة أعمدة المعابد، راسخ في الأرض، قوي كعمود فقري. فكرت فيه، وقد عادت لإيناس صحتها، كان يسخر بصحته. الحياة غالية جدًا هذه الأيام، مائة مرة أغلى مما كانت عليه منذ ثلاثين عامًا، وعليه أن يعمل كثيرًا. ومع ذلك، كان يعمل الكثير مقابل القليل. كان ذلك خيرًا من القعود بلا عمل. فكرت في أسرته التي ربما تركها في الصعيد، في كل أفراد أسرته، الذين يعملون كالبهائم لئلا يجدون أنفسهم في عرض الطريق. نظرت إلى حاجبي أختي المقطبين، وقلت لنفسي هو، هو يواجه التعاسة بقوة ذراعه لئلا يسقط في الحاجة، لئلا يجد نفسه وحيدًا في الحياة، ليحتفظ بكرامته. كان لا يريد التقاط "اللآلئ" من مستودعات القمامة كالآخرين، أبناء الحياة غير المرغوب فيهم. وأنا عند نهاية الدرج، سمعت عاملاً يدق، والعمال الآخرين يجيبون. سمعنا موسيقى الأزاميل.
أول ما استقبلتنا البروفسورة نادية، قالت لنا إن حال إيناس كانت خطيرة جدًا جدًا جدًا، فانفجرت زوجتي باكية. رمت طبيبة الأطفال الكبيرة باللوم على إهمال الأم، ولم تشأ سماعي، وأنا أقول، بل على العكس، لولا اعتناء أمها بها ليل نهار لكنا فقدناها. اطّلعت على وصفات الأدوية، وغضبت.
- الطبيب الذي وصف لها اللوتوميل جحش! فهو دواء ممنوع الاستعمال، نددت.
- هل تسمع، يا عزيزي، قالت زوجتي. وعادت تنفجر باكية.
أول ما وصفت للؤلؤتي أن تعود إلى حليب البودرة المشترى من الصيدليات، وأن نطبخ لها أكياس الجزر والخضروات المشتراة أيضًا من الصيدليات. ألحت على إعطائها سفن أب دون توقف، سفن أب بارد جدًا، وشاي بالحامض بارد جدًا، وماء مملح دعته بالمحلول. قالت لزوجتي أن تعطيها كل هذا بشكل متعاقب طوال الليل، وألا تترك إيناس تنام. وصفت لها دواء ضد الحمى، وآخر ضد الإسهال، وذهبنا على أن نعود غدًا.
اشترينا كل شيء من صيدلية الدكتور عبد الله في الوجه المقابل ما عدا أكياس الجزر: لفّت حسناء كل المدينة، وسحنتها دومًا داكنة، إلى أن وجدتها. تحول عالم الاسكندرية الحديث إلى صيدلية كبيرة فيها كل أنواع الأدوية وأكياس الخضروات إلا أكياس الجزر التي تتوقف عليها حياة ابنتي، كما لو كانت أكياس الحياة، فحقدت على الجزر. نظرتُ إلى إيناس، ووجدتها تبتسم لي.
عند عودتنا، رأينا عامر يتعلق على النافذة بانتظار أمه التي صاحت به أن ينزل، وأن يُصعد صندوقي سفن أب من عند عم إبراهيم. حالما دخلنا الشقة بدأت امرأتي بمعالجة إيناس. قلت لها لن أنام: سأبقى ساهرًا إلى جانبها كل الليل، وسأمنعها من النوم مثلما طلبت الدكتورة نادية. خلال ذلك، أعدت حسناء العشاء في وقت قياسي، العشاء الذي كان الغداء. والحق أننا كنا على جوع بطننا منذ البارحة: دجاج، دجاج بالثوم، وبطاطا إلى جانبه. كان ذلك بمثابة اعتداء على شهيتي! أخذت مكانًا حول الطاولة وأنا متردد. كانت حسناء مقطبة دومًا، وكان زوجها مبتسمًا دومًا. وقبل أن يبدأ الأكل، راح بها مدحًا: "شكرًا لك، يا حسحس! شكرا لك، يا حسحس!" والابتسامة تلتصق بشفتيه. وعامر من ناحيته: "شكرا لك، يا حسحس! شكرا لك، يا حسحس!" أكلت قليلاً من البطاطا، وتركت على طرف صحني قطعة الدجاج الفائح بالثوم.
- أما أعجبك هذا؟ سألت أختي، وهي تَقْطِبُ حاجبيها.
- لا أحب الدجاج، وهذا، أنتِ تعرفينه جيدًا.
أوسع مرتضى ابتسامته، وعضت حسناء قطعتها، فقمت عن الطاولة، وبناتي من بعدي.التفتُ، ورأيتُ حسناء تلتقط قطعة الدجاج التي تركتها في صحني، وترميها في صحن برنسيس، لتلتقطها برنسيس، وتمزقها بأسنانها بعصبية، وتلتهمها كما لو كانت وحدها قبيلة من الديناصورات البائدة.
في المساء، شاهدت معهم مسلسل "الجميلة والجريء" كي يمكنني السهر من أجل إيناس. تلفنت عبير، وحكت مع زوجتي. أعربَتْ عن مشاعرها الطيبة، وتمنت لإيناس الشفاء العاجل. تلفن كذلك المحامي عصمت، فرحب به مرتضى بحرارة. فهمنا من كلامه أن محدثه يريد أن يسأله عن تكلفة طن من القطن الطبي. وضع مرتضى السماعة، والتفت إليّ، وهو يبتسم نفس ابتسامته الملتصقة بشفتيه.
- قطن طبي من أجل مستشفيات الحكم الذاتي في غزة والضفة.



الفصل السادس والعشرون

بين بزرة بطيخ محمصة وبزرة، أفهمني مرتضى أن فلسطينيي تونس هم الذين كلفوا المحامي عصمت بصفقة القطن الطبي، ومن أجل ماذا؟ من أجل مستشفيات الحكم الذاتي. أوسع ابتسامته دون أن يتوقف عن تكسير بزر البطيخ المحمص بأسنانه قبل أن يقول:
- معنى هذا أن هناك حلاً في الطريق.
- المفاوضات في طريق مسدود، قلت له ساخرًا.
- هذا بالضبط لأنها في طريق مسدود... صفقة القطن الطبي هذه تعني أن الأشياء عادت تتحرك.
- تتحرك وهي في الطريق المسدود؟
- تتحرك للخروج من الطريق المسدود، إن لم تكن قد خرجت.
لم يقنعني. لم تعد حسناء تتابع مسلسلها المفضل، أخذت تتابع بالأحرى حديثنا، وهي تواصل تكسير عدد لا يحصى من بزر البطيخ المحمص بأسنانها، أحيانًا كانت تنجح، وأحيانًا كانت لا تنجح، فتقضمه بقشره، ثم ما لبثت أن لامت زوجها، وهي تقطب حاجبيها، وتلقي بسحنتها الداكنة عليه.
- هدف هذا المحامي... قالت.
- عصمت، المحامي عصمت، قال لها زوجها وهو يبتسم أبدًا.
- المحامي عصمت، هدفه واضح كالشمس في رائعة النهار، أن يستغلك، قالت بنبرة عدائية.
- يستغلني، أنا! لماذا؟ قال مرتضى، وهو يبتسم إلى ما لا نهاية، وهو يمسك ببزرة بطيخ محمصة بين سِنّيْه.
- طوال عمره هو هكذا، قالت لي أختي، واليأس بادٍ عليها. هو هكذا، هو هكذا!
- أنا هكذا كيف؟ سأل مرتضى، وهو يقضم بزرة البطيخ التي ظلت بين سِنّيْه قبل أن يعيد بصق جلدها.
- هو هكذا، هو هكذا! رددت أختي، وهي تتابع الكلام إليّ.
- ولكن قولي لي، أنا هكذا كيف، يا ماما؟ وهو يبتسم دومًا، ولكن مع شيء من عدم الصبر.
- طوال عمره هو هكذا، تابعت الترداد متجاهلة إياه تمامًا. هو هكذا، هو هكذا. يقدم خدمات للآخرين دون أن يفكر فينا. هو هكذا. أقول له الأولاد كبروا، وعلينا مضاعفة دخلنا بصفقة، صفقة كبيرة، ولكن صفقة بالفعل كبيرة، لضمان مستقبل عامر، وإعانة برنسيس على الحصول على أعلى الشهادات. عامر، عبئي أنا، بصفقة كبيرة جدًا. وبرنسيس، لأنها طموحة جدًا، ابنتي، على عكس أبيها. ابنتي الصغيرة الغالية على قلبي. وكل مرة كأنني أصرخ في واد. عامر. عبئي أنا...
- وعبئي أنا أيضًا، قال مرتضى دون أن يتوقف عن تكسير بزر البطيخ المحمص بسرعة هائلة.
- لا، عبئي أنا، أنا.
- نعم، عبئك أنت، أنت، يا ماما. ولكن إياك أن تنرفزي. كنت أعرف أن اليوم ليس يومك.
- عبئي أنا... عاري!
- ماذا تعنين، يا ماما؟ عارك أنت؟
- عاري أنا! عاري أنا!
ثم متوسلة:
- يا للمصيبة، آه! يا إلهي.
ترك مرتضى بزر البطيخ المحمص يسقط من يده، ونظر إلى زوجته بابتسامة مجمدة.
- ماذا تعنين، يا حسحس؟ اكتفى بالقول.
- ماذا أعني؟ ماذا أعني؟ لم تعد حالنا ترضيني، تابعت كلامها إليّ. أريد نقودًا كي أمحو العار. ولكنه هو لا يفعل شيئًا من أجلنا، ويفعل كل شيء من أجل الغير. عاري أنا! عاري أنا!
- سآتي إليها بكل فلوس العالم، قال مرتضى وهو يتوجه بكلامه إليّ... في حينه.
- في حينه، في حينه، في حينه متى؟ قل له متى؟ عندما أكون في قبري؟ هل هذا في حينه؟ في قبري؟
- قل لها في حينه يعني في حينه.
- متى في حينه؟ أريد فلوسًا الآن وليس في حينه، فلوسًا كثيرة كي أمحو العار.
- فلوس كثيرة في حينه.
- ولكن متى في حينه؟
- في حينه.
- أريد فلوسا كثيرة كي أمحو العار. أنا لا أنام الليل، وأنا أفكر في طريقة لكسب فلوس كثيرة لكبح العار، بينما هو، هو يغط إلى جانبي. هو هكذا.
- صبرًا جميلاً، يا ماما! سيكون لك كل مال الدنيا.
- ولكن متى؟
- في حينه.
عامر الذي كان في المطبخ حضر فجأة.
- في حينه، ردد، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة.
لكن أمه صفعته، وطردته معيدة: "يا للمصيبة، آه! يا إلهي. يا للمصيبة، آه! يا إلهي." نهضَتْ، وأقفلت عليها باب حجرتها بينما واصل مرتضى ابتسامه لي، ووجهه أخضر من شدة الخجل.
لم تنم زوجتي طوال الليل، وهي تسقي إيناس ملاعق الشاي بالليمون والمحلول والسفن أب. كلما غفت عين إيناس هزتها وأيقظتها. وفي الأخير، أخذت إيناس تبتلع ملاعقها، وهي نائمة. أنا، كنت أنظر إليها، وأفكر في أختي. في روحها المعذبة. في عبئها. في عارها. أي عار هو؟ لماذا عامر؟ عامر. عارها، عبئها، مصابها. لماذا عامر؟ لماذا كل هذه الدموع، كل هذه الآهات؟ لماذا لم تعد تملك نفسها؟ لماذا تقول هذا كما لو كانت تريد تهدئة عذاب كبير فيها؟ عذاب أكبر من عذاب ابنتي؟ لماذا كل هذه الحدة ضد زوجها، وعَبْرَهُ، ضد كل العالم؟ لماذا كل هذه العدائية؟ هذا الحزن؟ هذه السويداء المستترة؟ هذا الرهان الخاسر؟ هذا الاستسلام؟ هذا اليأس؟ لم أجد جوابًا، وعلى عكس امرأتي، لم أستطع مقاومة النعاس. نمت دون أن تؤثر فيّ الاهتزازات التي يحدثها القطار الأزرق.
في الصباح، صحوت على عامر، وهو يفرقع إصبعيه. كانت زوجتي برفقة حسناء في المطبخ، وهي تواصل سقي إيناس ملاعق سوائلها. كانت غيداء ودينة تلعبان، في تلك الساعة الباكرة من الصباح، وهما تطلقان أعذب ضحكاتهما. أعدّت لي حسناء الفطور، وهي عابسة، وظلت صامتة. نظرت إليها، ووجدت أن لها سحنة جِد تعسة. ألبَسَتْ عامر حذاءه، وربَطَتْ له حزامه. سمعتها تقول له إنه سيأتي معنا لمراجعة الدكتورة نادية، وعامر لم يكن سعيدًا.
- تاني! تذمر، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة.
لم تجب أمه، فضلت أن تظل صامتة. نظر عامر إليّ، وضحك.
- تاني، يا خالو؟
كان يبحث عن إفهامي أن تذمره ما جاء إلا إشفاقًا على إيناس.
- أنظر، يا خالو.
فرقع إصبعيه.
- برافو، قلت له.
لم تكن أمه سعيدة، لكنها ظلت دومًا صامتة.
- عليك أن تتعلم الآن كيف تصفر.
حاوَلَ، ولم ينجح.
- استمر، قلت له.
- لا، صاحت أمه.
- لا، لا تستمر، قلت لابن أختي الذي يواصل رغم ذلك محاولته. توقف، يا عامر، هلا توقفت؟
حاول الصفير أيضًا وأيضًا دون أن ينجح.
عادت برنسيس من الثانوية، وقالت عليها مذاكرة كثيرة: لم يند عن أمها أي رد فعل، ظلت صامتة. قشرت برنسيس عدة برتقالات ذابلة، ستكون وجبتها اليوم، وخلت إلى نفسها. انتظرنا مرتضى لنتغدى معه. على الساعة الثالثة، ظهر على عتبة الباب، وابتسامته تسبقه. قامته القصيرة، بطنه الكبير. لم يذهب إلى الكنج ليمكنه أخذ إيناس عند البروفسورة نادية. صلى مرتين، ثم ذهب إلى المطبخ ليتكلم مع زوجته التي ظلت صامتة. انفجرت حسناء فجأة.
- سأرى ماذا سيفعل لي عندما أذهب إلى باريس عنده! صاحت.
انضم مرتضى إلينا من حول الطاولة، ولم يجد أكثر اعتذارًا من ابتسامته الملتصقة بشفتيه. تظاهرت زوجتي بعدم سماعها، وأنا بعدم إظهار تضايقي. كانت أختي تتعذب بالفعل، ولم أكن أعلم لماذا. بعد ثمانية عشر عامًا من البؤس – عمر عامر – يعتاد المرء بؤسه. لا تعود للبؤس نفس الحدة. هذه هي حال كل أنواع البؤس بما فيها بؤس الروح. ومع هذا تشير الروح المعذبة لحسناء إلى أن بؤسها قريب العهد، لا يبدأ بيوم ميلاد ولدها. عبء، كما تقول. عار. وكانت المفاجأة أن الأكل دجاج أيضًا، فلم أتمالك عن غيظي. أخذت أمام صمت أختي والابتسامة اللاصقة لزوحها أصرخ أنني لا أحب الدجاج. لم آكل منه البارحة، ولن آكل منه اليوم.
- اشتر ما تحب من أكل، يا عزيزي، قالت لي زوجتي.
- اتركوني أشتري ما أحب من أكل، قلت لمضيفيّ.
فوجئت ببرودهما التام: لم تجب حسناء. ظلت صامتة، ولكن على الخصوص كان يبدو من صمتها أنها تقول: "سنتركك تشتري ما تحب من أكل، لقد أطلت علينا الوقت، يا أخي!" ترك مرتضى ابتسامته تذوب كالشمعة وتسيل حتى الأرض. جاءت برنسيس على صراخي. ودون أن تسأل لماذا، أخذت مكاني، وراحت بقطع الدجاج تمزيقًا. كانت زوجتي حائرة، لا تعرف ما تفعل. نادت غيداء لتريني بقعًا حمراء على كل جسدها.
- أنظر إلى هذه البقع الحمراء، يا عزيزي، قالت لي بشيء من القلق.
- سنأخذها معنا عند الدكتورة نادية، قالت حسناء قاطعة الصمت، ستراها هي أيضًا.
ذهبت بنا حسناء وليس مرتضى عند البرفسورة نادية، عبّرت الطبيبة الكبيرة عن رضاها عن حال إيناس بعد أن كشفت عليها. قالت لزوجتي إذا أرادت إيناس النوم، أتركيها تنام. وأوصت بإكمال الوصفة نفسها، خاصة ما يتعلق بشرب السوائل الباردة جدًا لتحريض عضلات المعدة التي تعودت على الكسل. شخصيًا، كنت أفكر في حال أختي، في عبئها، في مصابها، في عارها. فكرت في انفعالي، وقلت لم يكن من اللازم أن أنفعل هكذا لا لشيء إلا لفخذٍ من الدجاج. كانت تتعذب، أختي. ولكن كيف يمكنني عونها؟ سمعت زوجتي تقول للطبيبة إن إيناس بدأت تسعل.
- سنعالج السعال فيما بعد، قالت البرفسورة نادية. الآن الإسهال، وفيما بعد السعال.
سألتنا متى سيكون سفرنا، فأجبنا قريبًا. كانت تتعذب، أختي. وكان عليّ أن أفعل شيئًا من أجلها. طلبت الدكتورة نادية أن ترانا لآخر مرة قبل سفرنا، وبعد ذلك، كشفت على غيداء، والتفتت إلى حسناء تسألها إذا كانت توجد براغيث في بيتها. ظلت حسناء صامتة. كما لو لم تسمع شيئًا. كانت تتعذب. أكدت الطبيبة أن كل تلك البقع من قرص البراغيث. لكن حسناء لم تنبس ببنت شفة. كان هناك ما هو أخطر من البراغيث بالنسبة لها، والبراغيث لم تقتل في الحياة أحدًا.
ونحن في طريق العودة، قلت لأختي إننا سنؤخر سفرنا أسبوعًا من أجل إيناس، لكنها ظلت صامتة. كان صمتها عميقًا، وكانت تغرق في صمتها قليلاً قليلاً، بهدوء وسكينة، وبإرادة من يدمر نفسه.


الفصل السابع والعشرون

- وُلِدْتَ من لحمي دون أن تكون لحمي، في ليلة داكنة لا نجم فيها. أنت تلك الليلة الخالية من الفرح التي أهداها لي مجيئك إلى العالم، الشمس سوداء، يا ولدي، يا عاري. كنتَ لا تعلم لماذا أنت عاري، ولكنك أصبحت العار، وبقيت هكذا إلى الأبد. يا لسعادتك، ويا لتعاستي. أنت المعاق لا ترى فرقًا بين تعاستي وفرحي. ولكن أي فرح هو والعالم عذاب والطفل الذي هو أنت خيانة؟ أمك خانوها، نعم، خانوها. خانها الشخص الذي صنعك فيها. أبوك. أبوك الحقيقي. خائني. غير المخلص لي. خانها وحشيّ الطباع، سيئ الأخلاق، رجل كنت أعتبره أفضل الرجال، كنت أحبه، كنت أفضله، له، وله فقط سلمته نفسي. ضحيت بالأحرى بنفسي على مذبح الحب. من أجلك، ولد الزنا. عار حياتي. وللهرب من تلك الحقيقة المرة، كرست نفسي لك روحًا وجسدًا كما لو كان يمكن أن توجد السعادة في أكثر المصائب خطبًا. كذبت على نفسي. كذبت على الآخرين. ابتساماتي لم تكن إلا من اضطرابي، ضحكاتي، مُتَعي الزائفة. أنا المرأة الوحيدة في العالم التي لم تكن هي ذاتها. أنا صورة مشوهة، ورقة نقد مزورة، قطعةُ ذهبٍ رماديّ. أخدع نفسي، وأخدع الجميع. لا أنظر إلى المستقبل إلا لأمّحي من الماضي، ماضٍ يلتصق بلحمي. أنت، يا لحمي. أنت يا من كنت غيري، وكنتني. أنت الملتصق بي، بجسدي، مع بقائك بعيدًا. أنت الملتصق بلحمي. أنت لحمي الفاسد. المنحل. أنا النظيفة ولكن العفنة. أنت عفني الخالص، وكل بحر الاسكندرية لا يمكنه غسله. كل بحور العالم. أنت المستنقع الذي أغرق فيه، الأمطار المالحة، الريح اللاهبة، الحارقة، الماحقة، التي تحيل الكون إلى ركام من رماد وغبار. أنت ابن كل ما هو شنيع، كل ما هو وضيع. أنت لحمي الشنيع، وأبوك وفائي الوضيع. لهذا السبب لم تشأ أن تكون مثل سائر أطفال العالم. بوضع المعاق الذي هو أنت تميزت بالاختلاف، وحملت لعنتك علينا كلنا، أنا الأولى، المذنبة، المستحقة للعقاب، الحاملة للشر، الأَمَة للشر. أنت الشر الأكثر كمالاً. الأكثر دلالاً. أنت ولدي وبلائي. بلواي. آفتي... آه!
سمعت أختي تبكى أحر بكاء، ورأيتها من تلم الباب جالسة على كرسي، وعامر في حضنها عاريًا، رأسه يسقط على كتفها، ويبدو نائمًا.
- يا للمصيبة، آه! يا إلهي. يا للمصيبة، آه! يا إلهي، رددت، وهي تسكب كل دموع قلبها.
انسحبت لئلا أكْلِمَها في كيانها القَصِم، لئلا أخدش روحها النازفة. كان اعترافها بمثابة صلاة لها. لم أشأ قطع عذابها الجليل.
ساعة فيما بعد، رافقتها إلى السوق. ظلت صامتة طوال الطريق. وأنا أيضًا. لم أرغب في الظهور على صورة ذلك الشخص الوضيع الذي فيها، والذي في الواقع لم يتركها أبدًا. لم أشأ التصرف كأخ كبير. تركتها تغرق في صمتها، وفضلت أن أكون الصديق لعذابها.
وبينما كنت أشتري كل أنواع الخضروات والفواكه، رأيتها تلمس بأطراف أصابعها عنقودًا من العنب، أولَ عنبٍ لفصلٍ، مثل كل شيء في الاسكندرية، مُزاحٍ، وسمعتها تقول:
- يوم ولد عامر لم تنضج أبدًا عناقيد داليتنا، بقيت خضراء، ثم اجتاحها الدود. السنة التالية لم تكن عناقيد هناك، والسنة التي بعدها ماتت داليتنا.
ابتسمَتْ. بحزن. أمسكتُها من كتفها، وعدنا إلى السيارة.
- ماتت داليتنا، هكذا، دونما سبب يمكنه تفسير ذبولها، قالت قبل أن تنطلق.
لم أستطع أن أقول لها "لا تفكري في هذا"، "توقفي عن تعذيب نفسك"، لم يكن ذلك يفيد شيئًا، صمتُّ، وظلت هي صامتة حتى باب اللحام. أردت أن أشتري خروفا كاملاً، "للاحتفاء" بعذابات أختي. كان من العبث أن تمضي فكرة كهذه برأسي. طلب منا اللحام العودة: سيأتونه بالذبائح بعد الظهر. للاحتفال بموت دالية. ستكون وليمة للعار.
في تعاونية الخبز، تقدمت حسناء صف الرجال الطويل. رأيتها كالظل من بعيد. أي ماض فظيع الماضي الذي تحمله! ماضٍ حاضرٌ دومًا. ماضٍ سينتهي بانتهائها. لم يبدل موت الدالية من قدرها شيئًا. أدرت نظرتي، ورأيت على يميني كشكًا يبيع فولاً وطعمية، زينه صاحبه بمرتبانات ضخمة خلل فيها الليمون بحباته. كان ماضي أختي ليمونة مخللة لم تزل سليمة. ألهذا كان الأكثر مكابدة، الأكثر ملوحة، الأفظع بين كل العذابات؟ على يساري، كان رجل ملوث بالدم. كان يذبح للناس ما يحضرونه من دجاج، ويرميه في برميل يسلم الروح فيه. كانت أختي روحًا ذبيحة. رأيت الرجل، وهو يضرب السكين على عنق الدجاجة ضربة خاطفة، فينفجر الدم، وتنفجر في الجو صرخة واحدة. أختي لا تتوقف عن الصراخ. منذ سنوات، وهي لا تتوقف عن الصراخ. كانت تصرخ دون أن يسمعها أحد. كانت تصرخ بدافع عذابها ومصابها، وكانت صرخاتها تضيع عند أعالي الجبال. روح ذبيحة. أغرقت امرأة شابة الدجاجة في ماء طنجرة يغلي على وابور كاز. طنجرة سوداء، وابور كاز أسود. ماض أسود. رغبة بيضاء. رغبة دون متعة. محاصرة أبدًا. أخرجت المرأة الشابة الدجاجة بعد عدة دقائق، وأخذت بنتفها. كان لها وجه أميرة إسبانية، وكانت ترتدي ثوبًا طويلاً من الدانتيل الملوث. ابتسمت لها. من أجل ذكرياتي القادمة. أختي، هي، ذكرياتها توقفت. لم تكن لها سوى ذكرى، ذكرى واحدة. كانت حياتها تُختصر بذكرى واحدة.
بعد الظهر، عدنا إلى اللحام. رافقتنا زوجتي تاركة إيناس تنام بصحبة طيبة وسط ملائكتها وأحلامها. عادت أصغر صغيراتي إلى أحلامها، بينما كانت أحلام عامر كوابيس كلها. تذكرت صرخاته، نداءاته، بكاءه. لم يكن عامر يحلم. لم تعد أمه تحلم. لم تكن الاسكندرية في آخر المطاف سوى حلم بعيد أو حلم لا يقع. انتظار حلم. انتظار يدوم. اشتريت لحمًا من كل نوع، بألف جنيه. الراتب الشهري لكل عمال عمارة أختي. لم تكن أختي تقول شيئًا. كانت تبتسم. بحزن. لم يعد بإمكانها التظاهر بالفرح. جعلتني أفكر في شيء فظيع: تعرف أختي أنني سمعتها. في شيء أكثر فظاعة: عملت كل ما بوسعها كي أسمعها. الباب المفتوح قليلاً، صوتها الراعد، عامر العاري بين ذراعيها. فعلت ذلك عن عمد.
عندما عدنا إلى البيت، فوجئنا برؤية عامر، وهو يلعب للمرة الأولى مع ابنتيّ. زوقته غيداء، مشطته دينة، وعملت له غرة. عندما رأته حسناء، بدأت تصيح. لطمته، وعاتبت زوجها.
- ولكن ماذا في هذا من أذى، يا ماما؟ ولكن ماذا في هذا من أذى، يا ماما؟ ردد مرتضى، والابتسامة تلتصق بشفتيه.
- عامر ليس بنتًا، ليس بنتًا، ليس بنتًا... دون أن تتوقف حسناء عن الترداد وقد استشاطت غضبًا.
- ولكن ماذا في هذا من أذى، يا ماما؟
وعامر يعيد باكيًا وناظرًا إلى ساعته الواقفة: "ولكن ماذا في هذا من أذى، يا ماما؟"
- ليس بنتًا... ليس بنتًا...
والمسكين عامر باكيًا وناظرًا إلى ساعته الواقفة دومًا: "ليس بنتًا... ليس بنتًا...".
في المساء، لم تترك حسناء زوجتي تعد الطعام كما هي عادتها. طبخت، وخلطت كل أنواع اللحوم. تعشى الجميع "على عكس عادة المصريين"، وحسناء لا تغادر ولدها بعينيها، بينما ولدها يبتسم لها ببلاهة كمن يريد أن تغفر له. رال، ولوث الطاولة، وجيرانه حول الطاولة، والأرض، وحسناء تملأ له صحنه كلما فرغ. ابتسم عامر لأمه، وأرغم نفسه على الأكل ظنًا منه أن ذلك يسعدها. كان يهمهم بعد كل لقمة: "شكرًا لك، يا حسحس! شكرًا لك، يا حسحس!" وينظر إلى ساعته الواقفة. لم يقل أبوه شيئًا، واكتفى بالابتسام. ابتسامة في وجه أبي هولٍ تعس. ومع ذلك، كان مرتضى تعسًا. لم تكن تلك الابتسامة التي تلتصق بشفتيه إلا قناعًا يخفي تحته العذاب الساكن في قلبه. كان يبتسم بمرارة حتى وهو يأكل. في نهاية الأمر لم تكن ابتسامته إلا لإخفاء كل الدموع التي لا يمكنه سكبها.
في وسط الليل، وأنا ذاهب إلى التواليت، سمعت صوت أختي من الباب المنفرج لقاعة الطعام حيث ينام عامر:
- أنت لست بنتًا، يا ولدي. أنت ولد كبير. لك جسد رجل ورأس طفل، ولكن أبدًا للولد الكبير جسد امرأة. متى ستكون رجلاً في رأسك؟ متى ستكون رجلاً بكل بساطة؟ الرجل الذي تحلم به كل البنات؟ واحسرتاه! لن تكون أبدًا. ستبقى بشعًا، ولكن أجمل ولد في العالم لأمك. ستبقى عيناك جاحظتين، وجنتاك مترهلتين، شفتاك الغليظتان الناضحتان بلعابٍ لا ينفك أبدًا عن السيلان، أسنانك الكبيرة والصفراء، صدرك الضخم، بطنك المنتفخ، ساقاك المشعرتان، قدماك ويداك المشوهة، ولكنك ستبقى أجمل ولد في العالم لأمك. التعاسة التي تأتيني بها على صورتك، لكنها جميلة. مختلفة. فريدة. العذاب الذي أعانيه منك على صورة نظرتك، لكنه واسع. عميق. بلا حدود. أما العار الذي تكبل به روحي، فهو خزي. هو نهايتي، نهايتنا. نعم، يا ولدي، نهايتنا نحن الاثنين... آه!




الفصل الثامن والعشرون

في اليوم التالي، عاد مرتضى من عمله باكرًا كي يأخذنا إلى قصر المنتزه، ويفسّح البنات قليلاً وقد تحسنت في الوقت الحاضر صحة إيناس. رن الهاتف، فجري ليرفع السماعة، لكن عامر كان أسرع منه.
- مرتضى ليس هنا، قال.
خلصه مرتضى السماعة من يديه، وأفاض في المدح والانحناء تملقًا وتبجيلاً كي يعبر عن بالغ سعادته لسماع محدثه الدكتور عصمت على الهاتف. أعلمه أن القطن الطبي لا يكلف شيئًا كبيرًا، فهو يصنع من نفاية القطن. ولكن الكمية التي يريد طلبها كبيرة عليه، لهذا يجب عليه الحضور بنفسه إلى الاسكندرية ليتفاهم مع الإدارة. كانت حسناء تسمعه، وتتأوه، مغيظة. أردت أن أتفادى مماحكة جديدة حول الموضوع، فسألتها عما قرروا بخصوص هدم جدار حجرة الأكل. تظاهرت بعدم سماعي. عارها كان خزيها، كان نهايتها. دفعت بقدمها الغبار تحت الطاولة. نهايتهما هما الاثنان. ألقيت نظرة على عامر. كان يعيد ما يقوله أبوه على الهاتف، وينظر إلى ساعته الواقفة. عندما أغلق مرتضى الهاتف، سألته نفس السؤال بخصوص الجدار الفاصل بين الصالون وحجرة الأكل. أجاب بالنفي.
- زحزحة بوفيه حجرة الأكل أمر مستحيل، برر ذلك. رفعناه بالونش لإدخاله من البلكون.
- أدخلوه بالرافعة من البلكون، يا عزيزي! هتفت زوجتي تعجبًا.
- من البلكون، أكد مرتضى.
- هل هو ثقيل إلى هذه الدرجة؟
- ثقيل جدًا، فرفعناه بالرافعة...
- وأدخلتموه من البلكون؟
- من البلكون.
- ولكن ما علاقة ذلك بهدم الجدار؟ لا يوجد البوفيه من الناحية الأخرى للجدار، يمكنه البقاء في مكانه.
- البوفيه ثقيل جدًا، حملناه...
- لا حاجة بكم إلى تبديل البوفيه من مكانه.
- هو ثقيل جدًا، ونحن حملناه...
لم آخذ كاميسكوبي من أجل الذهاب إلى قصر المنتزه، فلم يعجب مرتضى ذلك، لأن المنظر البانورامي شيء نادر، قال والابتسامة تلتصق بشفتيه. نادر أو غير نادر، كان مزاجي سيئًا، ولم أكن أرغب في شيء. وفوق ذلك، كنت أريد الهرب من كل صورة. فجأة، استفظعت حمل ذكرياتي في علبة كحملها في رأسي. لم أعد أريد ذكريات. كان يأس أختي يقلقني، يضغط على رأسي مثل بوفيه مرتضى. ثقيلاً. لا يمكن أن تزحزحه رافعة. نظرت إليها. كانت الحزن بعينه. رأيت فيها أم المسيح، محزنة. رأيتها في ثيابها السوداء، وهي تبكي. دون قدرة ولا إرادة. كانت تبكي على قدمي ابنها المصلوب. رأيتها تبكي على مصير الإنسانية، على قدر الأرض. رأيتها تبتسم قليلاً عندما تجفف دموعها، كانت تبتسم للفظاعة، وكنت أجدها جميلة كعارها. ضايقني زوجها، وهو يلصق ابتسامته التي غدت "تاريخية". لماذا لم أحضر الكاميرا، فالمشهد شيء نادر، شيء رائع. لم يكن يفهم. لم يفهم شيئًا. التفتُ من حولي. لاحظت أن حدائق القصر لم تكن كما كانت منذ ثلاثين سنة، كانت تبدو وقد اجتاحها الخراب. لم تعد شجرات ذلك الزمن العملاقة غير أخرى قزمة بأغصان محطمة. كان الزوار يتنزهون على بساط من العشب الممزق، أو يلعبون كرة القدم. لم أكن أريد تلك الذكريات. وبمرارة، ولكن بشكل غير متوقع، أحسست أنا أيضًا برغبة في الوصول إلى نهايتي. هل تكون نهاية أختي نهايتي؟ الموت في الاسكندرية. الانتحار. أقلقتني الفكرة التي وجدتها مع ذلك عادية في ذلك المكان الممزق الذي أصبحه قصر المنتزه. ولم أفهم خطورة كلام أختي لابنها المعاق إلا فيما بعد. هل ستنتحر؟ هل ستقتل نفسها وتقتله معها؟
تبع شاب مقعد في عربته الكهربائية زوجتي إلى كل مكان ذهبنا إليه. كانت نهاية أخرى تراجيدية تتهيأ. رمى مرتضى نكته، وهو يوسع ابتسامته إلى أقصاها: الناس هنا رومنسيون، سمعها تتكلم بالفرنسية، فقال هذا الولد المسكين لنفسه ستشفق عليّ، وتأخذني معها إلى فرنسا! لم تنبس حسناء ببنت شفة، فضلت الصمت. لاحظت أنها ابتسمت قليلاً. الابتسامة نفسها التي لمريم العذراء. ابتسامة قدسية. حيث يمتزج الورع بالعار. حيث تمتزج السعادة بالخزي. حيث يمتزج الفرح بالألم وبتلك النهاية التي يترك آثارها سوط الموت.
قبل عودتنا إلى البيت، دار مرتضى بنا مرة أخرى في السيارة. أرانا القصر الذي لم أعد أعرفه، كانوا قد رفعوا سورًا ضخمًا من حوله، وكان هناك رجال من الحرس كثيرون يحرسونه من كل جانب.
- هنا تقضي زوجة الرئيس عطلة الصيف، قال لي.
- تريد القول زوجة الملك، قلت بمرارة.
- حتى الملك فاروق في عهده ما كان يجرؤ على فعل ما يفعله اليوم مغتصبو السلطة هؤلاء. أنظر من الناحية الأخرى... هذا القصر الذي في صدد البناء خاص بالرئيس عندما يجيء إلى الاسكندرية مع عشيقاته.
- لئلا يحرج صاحبة الجلالة الملكة... أنا آسف! سعادة المدام الرئيسة. اغفر لي زلة اللسان هذه!
اقترح علينا أن نشرب شيئًا باردًا، فرفضت حسناء رفضًا قاطعًا.
- بس ليه، يا ماما؟ أبدى مرتضى دهشته.
وعامر وهو ينظر إلى ساعته الواقفة:
- بس ليه، يا ماما؟
قلت لنفسي ليس هذا بدافع البخل وإنما لأنها لا تشعر بنفسها على ما يرام. لم يفطن مرتضى. لم يكن يفهم. طلبتُ إليه أن يأخذ طريق العودة، وأنا ألقي نظرة أخيرة على سور القصر.
عند عودتنا، أخبرتني برنسيس التي بقيت في البيت لتدرس أن أخي قد اتصل بي من عمان، وأنه سيعود إلى الاتصال بي في المساء. وهو يرى زوجته محزنة، حاول مرتضى الترويح عنها قليلاً، الترويح عنا. أحضر جرامافون قديمًا اشتراه من أحد البحارة اليونان، ووضع أغنية قديمة لعبد الوهاب. ضحكنا على غرابة صوتها، وأخذنا نغني ساخرين مقلدين دون أن ندرك جمال الكلمات. ذهبت حسناء تبكي في غرفتها. تبعها عامر.
- كم هي جميلة كلمات الأغنية! كم هي محزنة! يعيدني هذا الى الوراء بعيدًا، إلى طفولتي في نابلس. عندما كنت أنظر إلى نفسي في المرآة، وكنت أرى جديلتيّ، عندما كنت أتكئ على النافذة، وكنت أنظر إلى أولاد الحي الجميلين الذين كانوا يمضون في الشارع، عندما كنت أستقبل صديقاتي لنحكي عن الحب. هذا ما كانته مدينتي، لقاء بين صديقات للحديث عن الحب. دقة قلب. قلم حمرة. وردة رمتها يد مجهولة. كانت الذعرَ ممن تحبُّ الذي يجتاحُ قلبَكَ. السعادة الطفلة. الفكرة المترددة. التردد. كانت هذه مدينتي، نزهة على الوجوه. توغل في النظرات. أمنية. ثم كبرتُ. بدلَتْ مدينتي لونها. كان لها لون حزين لكنه جميل. كانت ألوان شبابي الأول كلها حزينة وجميلة في آن واحد. أحسست بأبابة اللون الحزين منذ حبي الأول. حب لم يبلغ أبدًا شاطئ الغرام. خوفًا من أن تعرف أمي، هي التي لم تكن تتردد عن قصف رقبتي لكلمة حب كنت ألفظها أو أكتبها. كانت لها عليّ سلطة جائرة. كنت أرتعش عندما كانت تناديني، كنت أكذب عندما كانت تريد كشف مشاعري. ليس لي شعور لأحد، يا أمي. لا أحب أحدًا غيرك. الشعور الوحيد الذي أحتفظ به في قلبي. كنت أكذب. كان كلامي يجعل منها أكثر جورًا. كانت تعتقد أنها بهذه الطريقة ستتفرد بحبي لها. لم تكن تعلم أنها كانت تدفعني إلى البحث عن الحب في مكان آخر، إلى تمردي. لكني سقطت منذ مغامرتي الأولى. سقطت في الشرك الذي كانت أمي تريد أن تتفاداه لي بأي ثمن. عرضت نفسي، فجئتَ إلى العالم كي يكتمل عقابي.


الفصل التاسع والعشرون

أعلمني أخي على الهاتف أنني مدعو لأحاضر في عمان، كان وجودي في مصر "غير بعيد" ما يفسر الدعوة. كانوا يريدون أن "يكسبوني" هم أيضًا. قلت له أنا في الاسكندرية للهرب من كل نشاط فكري، لكنه ألح، فوافقت، واتفقنا على التاريخ والموضوع.
قالت حسناء رغم عدم حماسها إن على البنات أن يلبسن كالأميرات لأنهم سيصوروننا في المطار وغيره. اعترضت زوجتي، بالنسبة لها ليس هناك أجمل من بساطة الجينز والتيشيرت. رأت حسناء أن على البنات أن يظهرن بمظهر الملكات. أيدتها. أن تلف المحلات التجارية سيبدلها قليلاً، سيجعلها تنسى أفكارها السوداء. عندما أخذتنا إلى الدكاكين، نظرت إليها، ورأيتها كما كانت في السابق. كانت تتكلم، حتى أنها كانت تبتسم. حملت إيناس بين ذراعيها، وهمست لها في أذنها. التصق عامر بأمه، وعاملته أمه برقة. مسحت له فمه، واشترت لها قمصانًا ذات ألوان زاهية. لم تحب زوجتي شيئًا، ولكن لترضي حسناء اشترت بعض الفساتين للبنات. بدلت أشكالها في البيت بعد أن قصت هذا الرباط الكبير الأبيض على الصدر أو ذاك الزر الصغير الأصفر على الخصر، وهكذا خففت قليلاً من "مصريتها".
- أريد أن أشتري خاتمًا ذهبيًا، يا عزيزي، قالت لي زوجتي.
نصحتها حسناء أن تشتريه من عمان، فلا يوجد هنا إلا الذهب الأحمر الذي لا قيمة له. أخذتها مع ذلك إلى سوق الذهب لترى وتقارن فيما بعد بين ذهب مصر وذهب الأردن. جعلتنا نزور أولاً سوق الستات، سوق كالنهر الطويل، ضيق كخصر النحلة. إذا توقفت أمام أحد المحلات لتشتري مشطًا أو منديلاً وتوقف شخص أمام المحل الذي في الوجه الآخر لمس ظهرك ظهره وحكت مؤخرتك مؤخرته. اشترت زوجتي بعض الأشياء. كان ذلك عيبها. ثم ذهبنا إلى سوق الذهب. بدأت حسناء تسأل بمصريتها المكسرة عن أسعار المجوهرات، وفي ظنها أن البائعين لن يرفعوها، لكنهم رفعوها، يكفي أن نلاحظ شدة غلاء بضاعتهم الصفراء لدرجة لم تعد لدينا رغبة في شراء أي منها. لم تقل امرأتي شيئًا، وأنا كذلك. كانت أختي ترمي من وقت لوقت كلمة استياء، وتنعت باعة الذهب باللصوص. لكنها كانت جِد مرتاحة. وجدتها هادئة. حدثت عامر، قالت له طقم المجوهرات هذا سيكون لخطيبته أو الخاتم ذاك له. كان الصبي الكبير سعيدًا، وكان يهمس: "شكرًا لك، يا حسحس! شكرًا لك، يا حسحس!" وهو ينظر بالطبع إلى ساعته الواقفة.
ونحن نعود إلى البيت، تعمدت حسناء المرور أمام فيلا مسورة، وقالت إنها فيلا الأخ الصغير لمرتضى، الذي نصب على كل سكان العمارة المصدوعة، فدفعوا الثمن أغلى ثمن. كشفت لنا أن التصليحات على حسابهم، وكل وجع الدماغ هذا، ويا ليت كانت الشقة لهم.
- الشقة ليست لكم؟ قلت دهشًا.
- لا، ليست لنا، أجابت حسناء.
- لماذا لم تتركوها بما أنها ليست لكم؟
شرحت لي لماذا، لكني لم أفهم شيئًا مما شرحت. لم أشأ مناوأتها. استرجَعَتْ تناغمها السابق، وأحسسْتُ أنها استعادت طعم الحياة من جديد. رمت بسوء حظهم على أكتاف سلفها الصغير دون حزن أو تهويل. وزيادة على "اتهاماتها" ضد الأخ الصغير المقيت لمرتضى، قلت حتى أنه لم يتفضل بالمجيء للسلام علينا. ينقصه الذوق، هذا الشخص الكريه!
- ليس هو فقط، يا عزيزي، تدخلت زوجتي، ولكن كل أفراد أهل مرتضى الذين هم في الاسكندرية. لم يسألوا عن إيناس، والاسكندرية كلها علمت بمرضها.
ومن جديد، شرحت لنا حسناء، لكني لم أفهم دومًا أي شيء مما شرحت.
بعد الغداء، أخذتنا حسناء ومرتضى وعامر إلى الكنج، ليس لوليمة الشواء التي كانوا قد وعدونا بها، ولكن ليرونا فيلّتهم، وخاصة لتُذاكر برنسيس بهدوء. غدًا آخر يوم دراسي، ثم سيكون لها شهر كامل للمراجعة قبل الامتحانات. كانت تريد المجيء، فرفض والداها. وعلى عكس عادتها، لم تلح برنسيس، كانت تبحث عن البقاء وحدها لسبب أو لآخر، ولم يكن طلبها المجيء معنا إلا لتغطية ذلك. ضحكت في سري، وقلت لنفسي كل الشبان هم هكذا. سأذهب إليها عند عودتي، وسأطبع على خدها قبلة.
وجدنا الحارس قد أغلق باب الفيلا بالمزلاج قبل أن يخرج من باب الكراج، مما اضطر مرتضى إلى تسلق السور ليفتحه لنا من الناحية الأخرى. أول ما صرنا في الداخل، شرح لنا أن أشجار الفاكهة التي غرسها حديثًا كلها من أحسن أنواع الفاكهة: تفاح أمريكاني، موز طوغولي، ، جوافا فلسطينية... زرعها خصيصًا لوالديّ، ليقطفا منها بيديهما عندما يأتيان إلى الاسكندرية. الفيلاّ كلها ما اشتراها إلا لحديقتها، ليعمل فيها أبي كل ما يرغب ويشتهي، فهو يعرف أنه يحب هذا، جذوره الفلاحية البعيدة تجذبه نحو الأرض.
وهي تسمعه يفكر هكذا، غدت حسناء كلها داكنة. انحنت على أذني، وهمست،
- هل تعرف ما هي جذوري البعيدة التي لي؟ إنها جلد الأرنب ذلك الذي كانت أمي تعلقه على حائط غرفتي.
نظرت إليها في عينيها، ورأيت دموعًا على وشك الانبجاس.
- جلد الأرنب ذلك، تلك هي جذوري البعيدة، ومع ذلك لم أكن أحب الأرانب. الآن أجد أنه أجمل شيء في الوجود.
- أذكر أنك كنت تخافين من الأرانب، قلت هامسًا في أذنها.
- كنت أخاف من الأرانب، ولكن ذلك الجلد الأسود والأبيض لأرنبٍ كنتُ قد رفضت أكلها، جذوري الوحيدة. لا يربطني بالأرض أو بأي شيء من الأشياء الأخرى التي يختلقها المنفي ليحتمل المنفى، لا يربطني إلا به. إنه ذلك الجلد المعلق على حائط، هناك في وطني. لن أبدله مقابل كل أراضي العالم.
- كم أفهمك، يا أختي.
- نعم! لن أبدله.
- أود لو أثبت لك ذلك بطريقة أخرى، ولكن كيف؟
- أنا وحدي في منفاي، يا أخي، أحس بنفسي وحيدة. المنفى في جسدي. المنفى يزحف فيّ، يتبعني. لديّ كل ما يلزم كما ترى، لكن المنفى يتبعني في جسدي. أنا المنفى بعينه. كل ما هو جميل بشع في المنفى، هذه الفيلاّ، هذه الاسكندرية، هذه المصر. كل شيء دميم مقابل جلد الأرنب الصغيرة تلك المعلق على جدار غرفتي قبل ثلاثين أو أربعين عامًا.
كان مرتضى وابنه وامرأتي وبنتاي في حرم الفيلا. نظرت إلى "المنفى" يتحرك إلى جانبي كي أقول له كم أفهمك. ولكن كيف أثبت ذلك؟ تناولت آجُرّة، وكسرت إصبعي. كانت حسناء التي صاحت.
- ما أنت سوى مجنون! قالت مذعورة.
- هل اقتنعتِ الآن؟
- كنت تفهمني من قبل، كنا نتفاهم جيدًا نحن الاثنين.
- والآن؟
- نعم، ولكن هذا جنون أن تكسر عظم إصبعك هكذا.
أتت زوجتي تجري مع ماء بارد، وضعت حسناء عودًا صغيرًا على طول إصبعي، وشد مرتضى الضماد بقوة. لم يسأل لماذا فعلت هذا، وكذلك زوجتي لم تسأل. استعاد مرتضى دور الدليل الذي له، بينما كانت أختي لا ترفع عينيها عن إصبعي المحطمة. قال مرتضى إنه لم يكن يوجد غير هذا المدخل عندما اشترى الفيلا، وغرفة واحدة، لكننا أنا وأختي لم نكن نسمع له. كنت أحزر أفكار حسناء: فعل أخي هذا من أجلي، كسر إصبعه من أجلي، ليثبت أن ذلك الجلد الصغير للأرنب جذوره أيضًا. ابتسمَتْ بغرابة. كانت تعرف أنني أتألم. كانت سعيدة. كانت تعرف أن هناك أحدًا يتألم من أجلها في هذا العالم. كانت الصدفة أن يكون أخاها الكبير. إخوة كبار هكذا لا يوجد. ضربة جنون. جرى ذلك بدافع الجنون. لأقول لها ألف شيء بإيماءة واحدة. حكى مرتضى أنه أكمل بناء الفيلا حسب صورة كانت في رأسه. هو، لا يفهم. لم يعد يفهم. لم يفكر أبدًا أن يثبت أنه يفهمها بكسره إصبعه بآجرّة. وها هو يجعلنا نصعد على درج واقف في الهواء. درج دون درابزين. قال إن العمال لم ينهوا بعد بناءه، لأنهم جد بطيئين. لا يتقدمون إلا وهو هنا. لم يعملوا اليوم لأنهم لا ينتظرون مجيئة إلى الكنج. إنهم عند الآخر هناك، الذي يراقب عملهم واقفًا على رؤوسهم.
- لماذا كسرت إصبعك، سألني فجأة.
- لا، لا شيء، كانت لعبة، قلت.
- لعبة، يا عزيزي، أن تكسر إصبعك هكذا! قالت زوجتي دَهِشَةً. إنها لعبة غريبة مع ذلك.
ابتسمت لي حسناء. كنت الوحيد في العالم الذي يفهمها. استعادت ابتسامتها وهي طفلة. عدت أراها بجديلتيها، بوجهها الشاحب، بهيئتها الخجولة. عدت أراها قرب الباب بانتظار أمها. أشار مرتضى إلى غرفة وردية، وقال إن هذه الغرفة ستكون لبرنسيس. تدخّل عامر. أشار بإصبعه إلى غرفة فستقية، وقال، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة، إنها ستكون له. قال إنه سيحضر هنا عروسه.
- عندما يتزوج عامر ستكون كل الفيلا باسمه، قالت حسناء.
أعاد عامر ما قالته أمه بنفس حركته المعتادة: النظر إلى ساعته الواقفة. لم تتوقف زوجتي عن الصياح ببنتيها منبهة لئلا تقعا من الدرج الواقف في الهواء. أما أنا، فكنت أنظر إلى الحائط الفستقي، وأتخيل جلد أرنب معلقًا عليه.
تَرَكَنَا مرتضى على الفرندة، وذهب ليقلم الأشجار على طول سور الفيلا.
- لو لم تسقط إيناس مريضة لأتينا نعمل شواء، قالت حسناء وهي تشير إلى المشواة.
أخذتني من يدي، ولمست إصبعي المكسورة.
- تمام؟ سألتني وكلها ابتسام.
- تمام، قلت وكلي ابتسام.
هذه مايا أختكما الصغيرة وهذه لعبتها التي لها أتركاها وشأنها قالت ماما لا تلمسا مايا هي صغيرتي الغالية صغيرة ماما الغالية آه يا مايا أنت صغيرة ماما الغالية؟ أخذنا مرتضى في السيارة وقام مرة أخرى بدور الدليل قائلاً إن هذه المنطقة من أغنى مناطق الاسكندرية هي صغيرة ماما الغالية إذا لمستما لعبتها كان حسابكما معي قالت لي حسناء أن آخذ لعبة مايا لأنها خائفة من ماما خائفة من ضرب ماما لها ماما تفضل مايا تضربها هي ولا تضرب مايا تضربها هي إذا لمست لعبة مايا قال مرتضى إن فيلاّت الكنج يملكها عدد قليل من خاصة الناس المتميزين خيرة أبناء المجتمع منذ مدة لم يبتسم ابتسامته الملتصقة بشفتيه كأنه نسي أن يبتسم إلى الأبد وصرخة مايا تلك عندما أردت أن آخذ منها اللعبة لم تمنعني من الذهاب بما وعدت به حسناء إلى النهاية صرخة مايا تلك لم أزل أسمعها لم تكن تريد الانفصال عن لعبتها كانت تجذب من ناحيتها ونحن أنا وحسناء نجذب من الناحية الأخرى بدأت مايا تبكي وتنادي ماما لكن ماما لم تأت صرخ عامر ونادى أمه ضربته أمه كانت تحبه لكنها ضربته كانت ماما تكرهنا أنا وحسناء ونحن الاثنين كنا نجذب اللعبة من ناحيتنا كنا متضامنين ضد مايا دلعوة ماما متضامنين ومتواطئين خاصة متضامنين ضد مايا ضربته أمه حاولت خنقه همست فاكهة عاري خيرة أبناء المجتمع في الماضي كانت هذه المنطقة من بين أرخص المناطق في الاسكندرية هناك مواخير في الاسكندرية وعاهرات وهذه المنطقة... كانت حسناء تريد خنق عامر كانت تضغط بيدها على فمه بكل قواها كانت تريد لعبة مايا بأي ثمن ماما لم تأت على صرخات مايا فجذبنا أنا وحسناء بكل قوانا وكان عامر على وشك الموت خنقًا ثم تركته حسناء لم تشأ مايا ترك لعبتها هناك مواخير في الاسكندرية ومساجد نساء محجبات وعاهرات عاهرات كن نساء محجبات أشار مرتضى إلى خط سكة حديدية إنها سكة حديد القذافي نساء محجبات كن عاهرات ابتهلت حسناء إلى الله وعامر يبكي وينظر إلى ساعته الواقفة التي لم تكن على معصمه كان يقول إنه خائف لهذا كان يصرخ أنا وحسناء كنا خائفين أن تأتي ماما كنا نجذب لعبة مايا بكل قوة ومايا تصرخ وتنادي ماما التي لم تكن لتأتي ثم هدأ عامر بين ذراعي أمه التي تهدهده كالطفل الرضيع كانت تهدهده كانت تلامس شعره كانت تقول له لا تخف يا صغيري الغالي أنا هنا سكة حديد القذافي لأن القذافي من شيدها ليربط الاسكندرية بطرابلس الغرب ماما صرخت مايا واللعبة بين أصابعنا على وشك التمزق كنا نجذب أنا وحسناء من ناحيتنا ومايا أختنا الصغيرة تجذب من ناحيتها أيضًا بقدرنا نحن الاثنين كانت مايا تحب لعبتها لم تكن تريد تركها ثم أوقف القذافي العمل في منتصفه مجنون ذُهاني مصاب بمرض العظمة لم تشأ مايا التوقف عن الصراخ ماما ونحن أنا وحسناء نجذب بكل قوانا كنا نجذب ومايا تصرخ ماما هدهدت حسناء عامر وبكت عندما نام كانت حسناء لم تزل تبكي وكانت مايا تبكي وتنادي ماما جعلنا مرتضى نمر أمام عدد من دكاكين اللحامين قال هنا يباع أحسن لحم أحسن منطقة أحسن فلل أحسن لحم لأحسن سكان الاسكندرية خيرة أبناء المجتمع أحسن مواخير أحسن أطباء أطفال أحسن صيدليات أحسن مستشفيات أحسن أحسن أحسن لكن إيناس لم تشأ الموت كانت تحب الحياة كانت مايا تحب لعبتها كانت تصيح ولم تكن تتركها كانت تنادي ماما لكن ماما لم تكن تأتي ونحن الاثنين كنا نجذب بكل قوانا أنا وحسناء وقُطعت اللعبة اثنتين ماما هربنا أنا وحسناء بينما كانت حسناء تبتسم بكل سعادة رفضت إيناس الموت كانت تحب الحياة كانت تحبني كانت تبحث عني بعينيها عندما كانت في المستشفى إذا كنت تحب الكبدة الطحال القلوب اشتريت لك قال مرتضى لكن اليوم ليس يوم ذبح البهائم هناك مواخير في الاسكندرية وعاهرات وحمير كثير من الحمير حمير صغيرة تجر عربات قمامة كبيرة يجري البحث فيها عن "اللآلئ" لؤلؤتي حياتي ابنتي كان عامر ينام بين ذراعي أمه وكانت حسناء تبكي وتبكي كانت تهمهم يا للمصيبة آه! يا إلهي يا للمصيبة آه! يا إلهي يا إلهي الرحيم يا ملاذي يا رب التدين والدين يلعن دين ودين الدين ودين دين الدين ليس اليوم يوم ذبح البهائم ولكني أحب الكبدة يا دين الدين أحب الطحال أحب القلوب دارَ مرتضى حول المصانع القريبة من الكنج أحسن المصانع قال لنا إن الاسكندرية المدينة الصناعية الأولى في مصر اختبأنا أنا وحسناء كانت حسناء تضم نصف اللعبة التي لمايا وكلها سعادة طبعت على شفتي قبلة قبلتني قبلة النحل للنحل كانت تبتسم للعبة كانت تبتسم لي كنت أبتسم لها نسي مرتضى ابتسامته لم يبتسم منذ مدة طويلة وقال إن الناس يخلطون بين الاسكندرية والقاهرة بسبب مصانع حلوان لكن الاسكندرية أول مدينة صناعية في مصر لم نعد نسمع مايا تصرخ أو تنادي ماما فخرجنا من مخبئنا أنا وحسناء بعد "الانفتاح" كل الشركات المتعددة الجنسية فتحت فيها فروعًا سيشغلون البلد المواخير الصيدليات التي لا توجد فيها أكياس جزر رفضت إيناس الموت مثلما رفضتُ أنا منذ ثلاثين عامًا الزواج بمريم إيناس مريم مايا لم نعد نسمع مايا أنا وحسناء تغوطت في يد ذلك الطبيب ذلك الجحش تغوطت على يديه على رأسه على شهاداته على جهله على الجهل باختصار على العالم ورفضت الموت لكن أحدًا لا يشتري بضائعها بضائع هذه الشركات المتعددة الجنسية الخراء التي تشغّل البلد بقدر ما هي غالية أيها الماخور أطلقَ مرتضى تأوهة وقال لي إنه متفق معي نسي ابتسامته كان له وجه بشع دون ابتسامته البشعة التي تلتصق بشفتيه لم يعد يبتسم لم تعد حسناء تبتسم من السعادة راحت تبحث عن مايا لتعيد إليها نصف لعبتها رحت أبحث معها لكننا لم نجدها أنا وحسناء مايا لم تجب مايا نسي ابتسامته نسي ما قاله لي ذلك اليوم في المستشفى عندما قررت إيناس العيش سمعته يقول إننا سعداء في الاسكندرية رغم كل شيء وعامر يعيد ما يقوله أبوه وينظر إلى ساعته الواقفة على معصمه مايا لم تجب مايا بدأت حسناء تبكي وتقول مايا ذهبَتْ أخذتُها بين ذراعيّ لأهدئها مايا لم تجب مايا وعامر يعيد كل كلمة بعد أبيه وهو ينظر إلى ساعته الواقفة على معصمه مايا لم تعط مايا أقل إشارة تدل على وجودها شدت حسناء نفسها بقوة بين ذراعيّ ستعاقبها ماما كانت خائفة من ماما ستحبسها ماما في العِلِّيَّة مايا لم تجب مايا أعاد عامر كل كلمة وبخته أمه هلا خرست؟ أعاد كل كلمة بعدها اخرس قلت لك وصفعته مايا لم تجب مايا أخذتُ أبكي مع حسناء ذهبَتْ مايا إلى حيث لا نعلم وماما ستعاقبنا نحن الاثنين أنا وحسناء نظرَتْ زوجتي إلى بناتها الثلاث لأول مرة ينمن ثلاثتهن يا عزيزي مايا لم تجب مايا عادت حسناء تشد نفسها بين ذراعيّ قبلتني على فمي وبكت مايا لم تجب مايا لم تجب دوما فكرتُ في المحاضرة التي سألقيها في عمان هناك مواخير في عمان وقصور وعاهرات انطلق مرتضى يسابق الريح في الأوتوستراد وهواء البحر يطيّر لنا شعرنا ولم نغلق النوافذ انفجر عامر يضحك فجأة حسناء أيضًا وهي تشد نفسها على صدري كانت خائفة من ماما عندما ضَحِكَتْ فجأة ضحِكْتُ معها كنت خائفًا أنا أيضًا من ماما أشار مرتضى إلى مصري ينام في صندوق سيارة حسناء كان صوت مايا جرينا نحو الصوت ولم نجدها قال مرتضى الحاجة أم الاختراع اقترب حتى قارب ملامسة رجل الصندوق لم أعلق لم أقل الحاجة أم الخطر كان يمكن أن يموت هذا الشخص في أية لحظة تغوطت إيناس على كل العالم ورفضت الموت حسناء كان صوت مايا أيضًا الذي كان يأتي من مكان آخر لكننا أنا وحسناء كنا لا نجدها حسناء ابتسم مرتضى فجأة سالت ابتسامته من شفتيه على ذقنه ثم على صدره أخذت حسناء تنادي مايا تجري في كل مكان تناديها وتناديها وتقول إن ماما ستعاقبها إذا لم تُظهر نفسها إنها خائفة من ماما إن مايا أختها الصغيرة الغالية إنها تعتذر إنها ستشتري لها لعبة أخرى من مصروفها إن الأتوستراد في مصر قال مرتضى بفرنسيته الرديئة ليس على صورة الأتوستراد في فرنسا الأوتوستراد عندنا مثله مثل أي طريق عاديّ آخر في الصعيد مايا يا حبيبتي أجيبيني توقّعْ أن يقطعه قطيع من الغنم أو الخراف أو المجانين.


الفصل الثلاثون

فوجئنا بخبر أن أم مرتضى وأخويه سيأتون ليهنئونا بوصولنا، فقلنا ليهنئونا بوصولنا أم ليودعونا؟ تظاهرت حسناء بعدم سماعنا، غسلت قسمًا من أرض الصالون، وصفت بعض الكراسي. طلبت من عامر أن ينزل عند عم إبراهيم، ويحضر صندوقًا من السفن أب، وهي توصيه ألف مرة ألا يشرب أقلها قنينة بمصروف جيبه.
وصلت الأم بصحبة الأخ الأصغر لمرتضى وابنة الأخ الأكبر التي لها عمر برنسيس، ولم تأت برنسيس للسلام عليهم بحجة المذاكرة. أما عامر، فجلس إلى جانب جدته كالطفل الصغير، وجدته تمتدح هدوءه. قالت إنه عاقل، وإنه كبر، وعما قريب ستجد له عروسًا جميلة.
- سيجد لي خالو عروسًا فرنسية، قال عامر، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة.
ضحكت الجدة، ورمتني بنظرة هازئة.
- عروسة فرنسية دفعة واحدة! قالت.
- كسر خالو إصبعه بآجُرّة في الكنج، قال عامر دون أن أتوقع ذلك منه، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة.
ضحكت الجدة مرة أخرى، وهي ترميني دومًا بنظرة هازئة.
- كسر خالو إصبعه بآجُرّة، وماذا أيضًا؟ قالت غير مصدقة.
هزأ ابنها وابنة ابنها من عامر.
- صحيح ما يقوله عامر، اعترفت.
تفاجأوا. توقفوا عن الضحك، وبقوا خلال لحظة حائرين، وهم ينظرون إلى إصبعي المضمدة. للتخفيف قليلاً من الجو الثقيل الذي كان يحوم علينا، أخذت أم مرتضى تمتدح حسناء أختي، وهي لا تكف عن النظر إليّ. قالت إنها ابنتها الثانية. لم تقل حسناء شيئًا، عبست، وإذا قالت شيئًا خشن صوتها، وتكلمت بنبرة جافة.
شكا الأخ الأصغر لمرتضى هول ما رأى من حال العمارة، وانتقد حجم الأعمدة، أعمدة معبد يوناني. كانت المرة الأولى التي يعود فيها إلى العمارة منذ باعها. لم يكن يتوقع أن يجدها على مثل تلك الحال! هذه العمارة غالية على قلبه، وكذلك سكانها، قال ناظرًا إلى مرتضى رادّاً بابتسامة صغيرة على ابتسامة مرتضى الكبيرة الملتصقة بشفتيه، ابتسامة من صمغ. لكن حسناء لم تبتسم، بقيت عابسة. نظرت إليه باحتقار. رأيتُ نظرة أمي عندما كانت تنظر باحتقار إلى شخص لم يكن يعجبها. همس عامر لنفسه، وهو ينظر إلى ساعته الواقفة: "الذئب الشرير!" لم يُعِدْ ما يقوله عمه. الذئب الشرير، قال لنفسه. الذئب الشرير! الذئب الشرير!
وصل الأخ الأكبر. قدم نفسه: "الأستاذ درويش". قال "أستاذ"، وهو يتكلم عن نفسه. دعته أمه "أستاذ"، وكذلك أخواه. سلم عليّ بحرارة، واعتذر لأنه تأخر عن الحضور ليهنئنا بوصولنا. كان لا يتوجه بالحديث إلا إليّ، ومع ذلك كانت زوجتي وبناتي إلى جانبي. لم يسأل أحد من عائلة مرتضى إذا كانت صحة إيناس قد تحسنت الآن، لأنهم أهملوا السؤال عنها خلال مرضها. كانوا خجلين إذا صح القول، ويتظاهرون بتجاهل كل شيء. برر الأخ الأكبر كل ذلك التأخير لعدم مجيئه "لرؤيتي" بواقع أنه كان مسافرًا. بصفته رئيسًا نقابيًا، كانت هموم النقابة تأخذ كل وقته، وكان النضال النقابي يصادر كل حياته. أطلق تأوهة، قرأت على جبينه الخيبة وموت الأمل، لكنه ابتسم ابتسامة مرتضى نفسها، وراح بابنته مداعبًا. سأل عن برنسيس.
- برنسيس تذاكر، قالت حسناء وهي عابسة دومًا.
لكنه ناداها:
- برنسيس... تعالي!
لم تأت برنسيس.
- برنسيس... تعالي! قال عامر دون أن ينظر إلى ساعته الواقفة.
تراجع بسرعة وهو يرانا ننظر إليه مبتسمين، خفض رأسه في الحال، ونظر إلى ساعته الواقفة، وهو يهمهم "الذئب الشرير!" أتت برنسيس، وكلها ابتسام، قبلت الجميع، وعادت تذاكر.
- جميل أن تذاكر، قال الأستاذ درويش. لكني أعرف واحدة لا تحب أن تقرأ كلمة واحدة، رمى، وهو ينظر إلى ابنته، وقهقه.
قهقه الجميع عدا حسناء التي بقيت عابسة.
راق في عيني الأستاذ درويش، مع قامته الضخمة جعلني أفكر في رمسيس. كان أبصرَ من العُقاب، وعلى جبينه تُقرأ تقلبات الزمن وأوهام الشباب التي ذهبت دون رجعة. أطلق تأوهة، وحكى عن استعدادهم منذ الآن لاحتفالات 23 يوليو، عن المواكب والخطابات. منذ ثلاثين أو أربعين سنة وهم لا يفعلون سوى هذا: مواكب وخطابات. يطلبون من العمال أن يحملوا مطارقهم، ومن الفلاحين أن يرفعوا مناجلهم، ومن الموظفين أن يخلعوا رباطات عنقهم. لا شيء تبدل منذ أربعين سنة عدا الحماس، وفيما يخص الأستاذ درويش الحماس انعدم. كان يلتهمه الندم. كان على صورته. أما عن الانتخابات، فالنتائج معروفة سلفًا. بَدّلوا القوانين ليبقى فرعونهم عليهم مدى الحياة. وإذا ما احتج النقابيون هدد جلادوه بحرمانهم من العمل، برمي أسرهم في عرض الطريق. قل هذا للغربيين عندكم، هؤلاء العميان، هؤلاء المنافقون، متواطئو الدكتاتوريين هؤلاء، الذين يؤيدونهم من أجل شمسنا، قل لهم هذه هي الديمقراطية على الطريقة المصرية: رَمْيُ الأسر في عرض الطريق. كان على وشك البكاء، لكنه ضحك، وقال لأخيه الأصغر أن يرى ما فعله بأخيه الأوسط، كان يريد الكلام عن مرتضى.
- لم يعد الأمر مهمًا الآن، همهم مرتضى، وهو يضيّق ابتسامته أمام عبوس زوجته، لم يعد الأمر مهمًا!
- هذه العمارة... همهم الأستاذ درويش بدوره.
- سألقي نظرة عليها، قال الأخ الأصغر.
- لم يعد الأمر مهمًا... أعاد مرتضى.
هبط وصعد... بسرعة. قال إن العمارة صدعت له دماغه، وهو لا يستطيع الاحتمال أكثر. استأذن بالانصراف، وهو يوصي أخاه وامرأة أخيه بإحضارنا عنده قبل سفرنا، وحسناء لا تنبس ببنت شفة عابسة. على عتبة الباب، سمعتُهُ يتساءل: "لماذا تركوا البيانو تحت الركام؟"
بعد عدة لحظات، نهض الأستاذ درويش، فلديه اجتماع في النقابة، ورأيت كل مصر تنهض معه، صغيرها وكبيرها، فقيرها وغنيها، عاقلها ومجنونها، وكل صاحب حلم لم يتحقق. طلبت أم مرتضى منه أن يوصلها إلى دارها في طريقه.
- لماذا كلكم مستعجل هكذا، لم تشربوا بعد شيئًا، قال مرتضى، والابتسامة تلتصق بشفتيه.
أعاد عامر ما قاله أبوه ناظرًا إلى ساعته الواقفة، وحسناء عابسة إلى ما لا نهاية.
- سأوصلك أنا، يا أمي، قال مرتضى.
اعتمدت أمه على ذراع حفيدتها.
- أفضل العودة إلى الدار مع الأستاذ درويش، قالت.
قبّلت زوجتي ثم حسناء، وأعادت ما قالته عنها، إنها ابنتها الثانية، وحسناء عابسة. تذكرت أم مرتضى فجأة أن ابنتها عبير قد تلفنت، وأنها تسلم علينا جميعًا. على الباب، قبّلت إيناس، واضطرت إلى السؤال:
- هي التي كانت مريضة، هذه الحبوبة؟
- هي، أجابت حسناء بصوتها الخشن.
- نعم، هي، قالت زوجتي باسمةً.
دعت لها بالصحة والعافية، وقالت لهذه البنت سر المملوك المتمرد. بحثت بعينيها عن غيداء ودينة اللتين تلعبان بالصَّدّفّة الكبيرة الملونة، وابتسمت. طلبت من مرتضى إحضارنا عندها قبل سفرنا، وحسناء هي التي أجابت عابسة:
- بل أنتم كلكم ستأتون عندي للغداء أو العشاء.
هز مرتضى رأسه مؤيدًا.
توقفت أم مرتضى عن الابتسام فجأة، ورمت نظرة غير راضية على التلفزيون الجديد ولكن المعطل، على الأعمدة الضخمة، على الغبار في الزوايا. التفتت إليّ، فرأتني أنظر إليها. عادت تبتسم بطيبة، وتقول إنها هي أيضًا تشعر مثل ابنها الأصغر ببعض الصداع.
- بسبب العمارة، قالت حسناء عمدًا.
- نعم، قالت أم مرتضى. بسبب العمارة.
بعد مغادرة أم مرتضى، سألتني زوجتي:
- ما هو سر المملوك المتمرد؟
- المملوك المتمرد؟
- سر هذا المملوك المتمرد.
- هو واحد من أولئك المماليك الذين كانوا يريدون قتل محمد علي باشا، فقتلهم كلهم قبل أن يقتلوه. دعاهم إلى مأدبة كبرى أقامها في قلعته، ووضع وراء كل واحد منهم سيافًا. وبإشارة من يده كان متفَقَاً عليها، قطع السيافون رؤوس المماليك كلهم إلا واحد أحس بالخطر في اللحظة الأخيرة: قفز بحصانه من صخرة شاهقة ليموت حصانه، وينجو بنفسه بأعجوبة. احتوى حصانه بكل ثقله تلك السقطة المدوّخة، وافتدى بشكل من الأشكال فارسه.
ابتسمت زوجتي:
- إذن إيناس أيضا هوت من صخرة شاهقة، فافتداها حصانها، وأنقذها من الموت بأعجوبة.
في عمق الليل، نهضتُ على حسناء، وهي تبكي. دومًا ما كان نومي خفيفًا، وكنت أنهض أحيانًا لحركة من يدي أو لنجم ينطفئ. تركت الكل ينام نومًا عميقًا، وذهبت على رؤوس أصابعي أرى لماذا تبكي حسناء بحزن الثكالى. سمعتها تحدث نفسها، تحدث عامر. سمعت صوت أمي. رأيتني من انفراج الباب، ورأيت مايا وحسناء، ونحن نجذب اللعبة كلٌّ من جهته، ونحن نصرخ.
- ستكون نهايتي أنا، يا ولدي، قالت حسناء دون أن أراها. سأذهب وحدي. سأترك كل شيء من ورائي. من الأفضل هكذا. كنتُ دومًا وحيدة، وسأذهب وحيدة. لن يُعنى بك أحد غيري. لن تجد ثديًا آخر، يا ولدي. لن تجد مرفأً آخر، ولا حضنًا آخر. ستشتاق لقبلاتي، للمساتي. ستتعذب لا كما تعذب أحد على وجه الأرض. ستغدو عذاب العالم. عندما تناديني لن أجيبك. ستملأ نداءاتك الوديان. لن تعتاد أبدًا وضعك الجديد، سيكون كل شيء قد انتهى، سيكون موت الزمن.
دفعتُ الباب بهدوء، بكل هدوء، فرأيت حسناء جالسةً على كرسي. كانت عاريةً تمامًا. كان عامر على ركبتيها، وهو ينام على كتفها. عاريًا تمامًا.



الفصل الحادي والثلاثون

أوصتني برنسيس عشرات المرات بحضور حفل نهاية سنتها الدراسية دون أن أنسى بالطبع جلب كاميسكوبي معي. أرادت أن أصورها بينما هي تنشد، فذهبنا كلنا، أنا وزوجتي وبناتي وحسناء وعامر. استقبلتنا برنسيس وصديقتها نهاد على باب الثانوية، ومنذ تلك اللحظة، مارست عملي كمصور. صورت من كل الزوايا اسم الثانوية المكتوب في أعلى الباب، صورت العلم، صورت الناظرة التي بسحر العدسة بادلت شخصية المديرة بممثلة السينما. سلمت عليّ بحركات متعاظمة، وكلمتني بعبارات متفاصحة. أجلستنا في مكان هام من الساحة حيث سيجري الحفل. شد أستاذ الموسيقى على يدي بحرارة، وهو يرى الكاميرا من طرف عينه. طلب لنا شايًا وسفن أب، وتدبر أمره لينزرع في قلب الصورة.
تأخر البدء بالحفل لتأخر المفتش، فتأففت الطالبات، ونفخ الحضور. خرجت مريم من حيث لا أدري، وقبلت الجميع: حسناء، زوجتي، إيناس، غيداء، عامر، دينة، إلاي. لو كانت مريم الأخرى لقبلتني من فمي. ابتسمت لي ابتسامة ماكرة. عاتبتها حسناء لأنها لم تعد تأتي عندهم كالسابق، قالت ذلك دون أن تأبه بمعرفة إذا ما سمعتها برنسيس. كانت تتكلم، وعقلها في مكان آخر. كانت غائبة. كان لها وجه شاحب، نفس الوجه بخديه الهزيلين الأصفرين عندما كانت طفلة في نابلس. كانت تلقي من حولها نظرة مفرغة، وتبتسم بحزن. من بعيد، من مكانها في الصف الأول من الجوقة، تابعت برنسيس مريم بعينيها، ولم تبدُ عليها آثار السعادة. أخيرًا، وصل المفتش. كان سمينًا، سمينًا جدًا، يتبعه رجل قصير، قصير جدًا. انطلقت الموسيقى تعزف قطعة من الكلاسيكيات العسكرية، بطبول وأبواق، وأستاذ الموسيقى يحرك عصاه وحاجبيه أمام الكاميرا، مما جعل بناتي يضحكن وعامر وزوجتي، ولكن لحسناء بقيت نظرتها المفرغة، وابتسامتها المحزنة. أنشدت برنسيس هي وزميلاتها بصوت فيه الكثير من النشاز، ورغم ذلك انهمرت التصفيقات عليهن. بعد النشيد جاء الرقص، رقص بلدي، ورقص أجنبي. اقتربت حسناء بشفتيها من أذني:
- تلك البنت التي ترقص أحسن رقص ترتدي الحجاب، همست مفرغة النظرة محزنة الابتسامة.
لم أعلق. كان خداها اللذان أراهما عن مقربة، عن مقربة كبيرة، كل موسيقى المآتم، كل رقص الموت. توقفت عن التصوير، فسألتني زوجتي:
- لماذا لم تعد تصور، يا عزيزي؟
لم أدع لقلقي الظهور ولا لاضطرابي أمام خدي أختي الهزيلين.
- لم يعد فيلم لديّ.
- لم يعد فيلم لديك؟
- لا.
نظرت حسناء إليّ، وابتسمت لي متواطئة.
- إصبعك تمام؟ قالت لي وهي تلمسها برقة.
- تمام.
نظرت إليّ من جديد كما لو كانت تريد أن تملأ فراغ نظرتها بصورتي.
أعدت:
- تمام، تمام.
وبعد لحظة:
- وأنت؟
لم تجب، اكتفت بترك نظرتها المفرغة وابتسامتها المحزنة تتيهان.
- أفكر في مايا، قالت فجأة.
- تفكرين في مايا...
- في تلك اللعبة، هل تذكر؟
- نعم. تلك اللعبة...
- تلك اللعبة هي أنا.
بقيت نظرتها مفرغة، وابتسمت بحزن.
عندما عدنا إلى الشقة، وجدنا مرتضى قد عاد من الشغل، وقد اشترى كمية كبيرة من الجمبري "معيار كبير"، الجمبري الملوكي، كما قال بتباه وغرور، وابتسامته ملتصقة بشفتيه، وكمية أكبر من سمك موسى.
- هذا لأن سفركم إلى القاهرة غدًا، قال بتلبك وخرق كبيرين إضافة إلى ابتسامته الملتصقة بشفتيه.
- وخلينا نخلص! قلت بمكر.
- لا تغضب هكذا، قالت حسناء.
- أنت لا تغضب هكذا، يا عزيزي، أليس كذلك؟ قالت زوجتي.
- لا، أنا لا أغضب هكذا.
أوضح مرتضى أنه أخذ يومين إجازة كي يوصلنا بالسيارة. سألت إذا كانت حسناء وعامر سيأخذان "الجيت" ليلتحقا بنا، فنظرت أختي بعينيها الميتتين إليّ، وهزت رأسها علامة النفي. إذن لم أكن أحلم أمس، كانت تريد البقاء وحدها مع عامر، وكانت قد خططت لكل شيء. ألححت على أن تلحق بنا بالجيت. زعلت برنسيس، كانت تريد من أمها اللحاق بنا إلى القاهرة، فلربما لن نلتقي أبدًا من جديد. اكتفت حسناء بالابتسام بحزن، وبالطواف بنظرتها المفرغة. ثم نظرت إليّ، وقالت نعم، ستلحق مع عامر. اطمأن مرتضى، وراح يصلي مرتين، والابتسامة تلتصق بشفتيه. كان يبتسم هذه المرة، وهو يصلي. من السرور. لأن حسناء ستلحق بنا إلى القاهرة. سيأتي الكل إذن معنا، سنقضي اللحظات الأخيرة معًا قبل سفرنا. بعد أن أنهى مرتضى الصلاة، أخذ مكانًا إلى جانبنا حول الطاولة. نظر إليّ، وقال لي عندما يصبح مليونير سيبني مستشفى للأطفال لأجل عيني إيناس. ضحكت زوجتي، وسألت من أين ستسقط هذه الثروة على رأسه. حيرنا جوابه بعض الشيء: سيرسلها الله له إن عاجلاً أم آجلاً، ولإرضاء ربه، وخاصة ليسرع، يقوم بالصلاة مرتين. ضحكت زوجتي من جديد، وقالت له ألا ينسانا. أكلنا كثيرًا من الجمبري، وكثيرًا من سمك موسى بينما مرتضى وعامر يمتدحان بالتناوب حسناء التي كانت تبدو غائبة: "شكرًا لك، يا حسحس! شكرًا لك، يا حسحس!" نظر عامر إلى ساعته الواقفة، وأوسع مرتضى ابتسامته الملتصقة بشفتيه أكثر ما يكون، ورأس من الجمبري بين أسنانه. شكرًا لك، يا حسحس! شكرًا لك، يا حسحس! ثم أخبرنا مرتضى أنه سيأخذنا لزيارة القلعة والمنار، وأننا سنأكل بوظة.
وجدنا باب القلعة مغلقًا، فاعتذر مرتضى لنا، وهو يلصق ابتسامته الخالدة، ويقول يا للخسارة! كان يمكننا الصعود على السور، والنظر إلى البحر، كان يمكننا تأمل المنار عن مقربة. صعد سُياح على الصخور المحيطة بالقلعة، والتقطوا صورًا لبعضهم البعض. أتانا أحد البحارة، واقترح علينا القيام بجولة في البحر. كانت حسناء قد غادرت الاسكندرية، وبنظرتها المفرغة راحت تحلق فوق البحر، فوق الأرض، كابية اللون. قالت إن لديها صداعًا، وإنها لا تحتمل مثل هذه جولة. لكن البحار سحب مرتضى من ذراعه، واقترح عليه أن يرى القارب.
- ما رأيك؟ سألني مرتضى وابتسامته تلتصق بشفتيه.
نظرت إلى أختي.
- اذهبوا أنتم، أنا سأبقى، قالت لي.
فوافقت.
أخذنا البحار، أنا ومرتضى، داخل المتحف البحري. أخبرنا أن المتحف مغلق اليوم بشكل استثنائي. يا للخسارة، قال مرتضى بابتسامته المعتادة. لو كان مفتوحًا لرأيتم أجمل أنواع السمك. أخذنا ندب على جسور ضيقة من الخشب، والخشب يطقطق تحت أقدامنا. كان البحر يتنفس تحتنا، وكنا نسير على حروف مكتوبة، لم تفلح الأقدام في محوها. أصابني الذهول، وأنا أقرأ الحروف، وأعيد تركيبها هامسًا: "لؤلؤة الاسكندرية". لم أعد أقوى على الحراك. وقفت جامدًا كعجلِ بحرٍ من الشمع. تركت مرتضى والبحار يذهبان، وأخذت ألمس بأصابعي الخشب النخر، وأنظر من حولي غير مصدق: كانت كل تلك الجسور وكل تلك الأحواض قد صنعت من خشب الباخرة الشهيرة! أتاني من ناحية البحر صريف جذبني إليه، فاقتربت من بطن الباخرة العملاق، وقد حولوه إلى مقبرة للمراكب الصغيرة المحطمة أو المعطوبة.
أتى مرتضى من ورائي، وناداني قائلاً: "أين ذهبت؟ لماذا لم تأت لترى القارب؟" ودون أن أفوه بكلمة واحدة، أشرت بإصبعي المحطم المجمد في رباط إلى لؤلؤة الاسكندرية. طلب مرتضى من البحار أن يقول له ماذا أعني. وعندما استدرت نحوه، رأيت فجأة ابتسامته الملتصقة بشفتيه، وهي تمحي. اجتاح وجهه الذهول، وجمجم مرتابًا:
- ماذا أصابك؟





كان كل شيء هادئًا من حولنا، وكنا ننام نومًا عميقًا عندما أطلق عامر فجأة صرخة واحدة ثم سكت. لكن تلك الصرخة التي كانت مباغتة أكثر ما يكون، وخاطفة أكثر ما يكون، جعلتنا ننهض لنرى ما حصل له. وجدناه عاريًا تمامًا، وهو يحمل سكينًا في يده. ووجدنا حسناء عارية تمامًا، وهي تحدق بعينين مليئتين بالرعب، وتتمدد في بركة من الدم.


الاسكندرية ربيع 1993




أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004

[email protected]


الغوص في قراءة هذه الرواية لهو ضرب من ضروب المغامرة المقتحمة للأهوال، الفتانة، الأخاذة، المؤثرة، حيث يمضي الزمن بهدوء ساعة بعد ساعة ويومًا بعد يوم مرصَّعًا بتلك الأشياء الصغيرة، أشياء الحياة، والتي تنسج خِفيةً المآسي الكبرى. ودون شعور منا، نزلق من حكاية عن عطلة عائلية عادية، مع كل ما تحمل من أحداث لا قيمة لها، إلى الأعماق المظلمة للتعاسة والنفوس المعذبة.

نذهب من الضحك حتى البكاء إلى البكاء حتى الضحك، ودومًا يكمن خلف بساطة بعض الوقائع شبح عنف لا يصدق يجتاح البشر من أجل امتحانها، فتنقذ نفسها مما هي فيه أو يجري سحقها. موت أم بعث؟ بعث أم موت؟ يتعايش الأول والثاني في هذه الرواية التي تتحرك فيها مجموعة من الشخصيات المتشابكة في عواطفها وأحداثها، والتي تذكّر في دوافعها الرمزية والنفسية ببعض الصفحات الهياجة لفوكنر. وفي اللحظة التي نظن فيها قد وصلنا أخيرًا إلى ضفة الخلاص بعد أن قطعنا ما قطعنا من خطر مشئوم، يوقعنا المؤلف في شرك هبوط موجع إلى مقر نفوس الموتى دافعًا إيانا في انتفاضاتِ خاتمةٍ مأساوية ليست متوقعة.

يرسم أفنان القاسم هنا بريشة معلم جملة من الشخصيات والمشاعر والأحداث التي تم حبكها على شكل حكاية بسيطة، ولكنها في جذورها ترسخ أعمق ما يكون في عذابات الماضي.

يترك الفصل الأخير القارئ أبكم دون صوت!



* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- باريس
- بيكاسو
- قل لنا ماذا ترى في حالنا؟
- القدس
- الشعراء
- البرابرة
- الأخرق
- الباشا رواية النكبة الأولى
- تراجيديات
- تحليل قصيدة صفد لسالم جبران نحويًا ومنطقيًا ودلاليًا
- فلسطين الشر
- المواطئ المحرمة
- العاصيات
- غرب
- العودة
- وظائف الكلام في قصة الزكام لنبيل عودة
- الحجر
- نابلس
- شمس مراكش تحرق الأصابع
- بركات


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - لؤلؤة الاسكندرية