أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - يحيى الطاهرعبدالله وإعادة تشكيل الواقع إبداعيًا















المزيد.....


يحيى الطاهرعبدالله وإعادة تشكيل الواقع إبداعيًا


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 3614 - 2012 / 1 / 21 - 11:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


من بين الأعمال الإبداعية المتميزة للكاتب يحيى الطاعر عبدالله ، تلك القصة الطويلة أو الرواية القصيرة (تصاوير من التراب والماء والشمس) التى صدرت طبعتها الأولى فى يوليو 81 عن دار الفكر المعاصر . يتجلى التميز فى قدرة المبدع على تصوير الواقع والشخصيات : الواقع بعموميته والشخصيات بتفردها لنصل إلى حالة (واقع الشخصيات) وذلك بلغة الفن القادرة على إمتصاص الواقع ، بحيث يصعب الفصل بين الاثنين . الواقع مُجسّدًا بلغة الفن ، ولكن لا يكون الفن نقلا للواقع .
يبدو التميز فى اختيار شخصيات يصعب تصويرها إلاّ إذا اندمج الكاتب فيها وتعايش معها . إذْ أنّ القصة تتناول الواقع المسكوت عنه للمجتمع . الواقع المعتم . الواقع ال (تحت / تحتى) إنْ جاز التعبير . ليس واقع المهمشين . كما هو التعبير الشائع . ولكنه واقع الخارجين عليه . واقع المشوهين . فى ظل حقيقة تؤكد جدلية العلاقة بين كونهم إفراز لهذا الواقع وكونهم من صانعيه .
فى هذا الواقع الذى تنعدم فيه أدنى وسائل المعيشة الإنسانية . فلا سكن ولا وظيفة ولا أسرة . فى هذا الواقع يتعرّف القارىء على شخصياته : قاسم الذى بدأ حياته فى القاهرة شيالا فى سوق الخضار. وانتهى بالانخراط فى حياة الصعاليك بعد وفاة ابنه وأم ابنه . ثم شخصية رجب الذى تخصّص فى سرقة الطيور من البيوت . وشخصية فتح الله اللص المحترف المتخصص فى سرقة الأشياء الثمينة. ثم شخصية اسكافى المودة الذى ترك مهنته وأسرته وأدمن شرب الخمرة السوداء التى ((ربّت له العفن فى معدته وخرمتها)) (ص22) ومع ذلك لا يستطيع التوقف عن الشرب . كما أنه لا يستطيع التوقف عن الاحتيال من أجل الحصول على هذه الخمرة . فنتج عن ذلك علاقة عضوية بين أساليب الاحتيال والحصول على هذه الخمرة . وكان الكاتب موفقًا إذْ جرّده من اسم مميز كأى إنسان . واكتفى بمهنته التى لا يزاولها . وإنْ كانت كل تصرفاته وأقواله تشير إلى شخصية خالدة فى الأدب المصرى . شخصية تظل حية فى عقل ووجدان القارىء . يتذكّرها كلّما تذكّر مبدعها . إنها شخصية المحتال الأعظم . صاحب فلسفة فى الصعلكة والاحتيال والموت والحياة . ولا أغالى إذا قلت أنّ هذه القصة لو تُرجمت إلى اللغات الأوروبية لكانت شخصية اسكافى المودة خالدة فى الأدب العالمى .
تبدأ القصة بمعزوفة رثاء من اسكافى المودة إلى صديقه قاسم ((الناس بالناس . والناس للناس . وصاحبى الطاعن فى السن فى كرب . فبعد موت ابنه ماتت أم ابنه . ووقفتى أمام الصاحب مكتوف اليدين مرذولة)) (ص3) ولم يقف مكتوف اليديْن بالفعل . فلابد من المواساة . و((مادامت الخمرة سترفع الحزن)) فإنه يدعو صاحبه إلى خمارة مخالى . رغم أنّ اسكافى المودة مفلس . وبعد أنْ جاءت الخمرة حكى الاسكافى عن المصيبة التى حلّت بصديقه قاسم ل مخالى صاحب الخمارة اليونانى الذى تعاطف مع الموقف وقال ((كلنا من التراب وكلنا للتراب)) ثم أضاف وهو ينظر إلى قاسم (( الصبر حلو . والله كبير )) (ص8) .
ورغم الخمرة التى شربها قاسم ظلّ حزينًا . لم ينس الواجب حيال الراحليْن – زوجته وابنه – والواجب يتلخص فى ضرورة قراءة القرآن على روح الفقيديْن ، فقال له الاسكافى ((لا تطلب قرّاء القرآن بأجسادهم ياقاسم . كلهم يطلبون الأجر وأنت لاتملك الفدادين . حاور الفقر بالحيلة)) والحيلة تتلخص فى الحصول على جهاز تسجيل ((وأشرطة تلف بحجم الكف وتتكلم ومنها نسمع الأغانى والحكايات ومنها أيضًا نسمع القرآن بالمجان)) فيرد قاسم (( لن أطلب من مخلوق جهازه . أقدر على الحزن . سأحزن حتى يأخذنى الموت . أطلب لى خمرة )) ( ص 9 ، 10 ) .
ولكن عقلية المحتال الأعظم (اسكافى المودة) تبتدع الحل لكل مشكلة . فذهب إلى خص صديقه رجب ((جامع الخرق وسارق الطيور من بيوت الحريم الغافلات)) والذى عاد من ليبيا بجهاز تسجيل هو كل ما يملك . حكى له الاسكافى عن مأساة صديقهما قاسم . وأنه تركه فى خمارة مخالى ((يشرب الخمرة على حسابى . والخمرة تزيح الحزن فى حين . وتجلب الحزن فى حين . إلاّ أنّ كلام الله وحده هو الذى يلم الأحزان من النفوس)) ثم يطلب منه الجهاز . وعندما يتردد رجب ، يضع الاسكافى يده فى جيبه ويقول (( هل تريد مالا يا رجب ؟ هل تبغى الضمان الذى يحفظ لك حقك ؟ )) أحسّ رجب بالإهانة . ونفى تهمة النصب عن الاسكافى وقال ((فهمتنى غلط يا ابن العم . أنا أعجبك فى المواقف . لكنى رأيتُ الموت . قطعتُ الأسلاك بأسنانى . وهربتُ من حدود مصر إلى حدود ليبيا . تسلّخ جلدى وأنا أزحف على الرمل الساخن ونفدت بروحى من رصاص القناصة النهابين قطاع الطرق أولاد على بمعجزة من الله )) ( ص 13 ، 14 ) .
بعد حصول الاسكافى على جهاز التسجيل ، يتوقّع القارىء أنْ تكون الخطوة التالية هى أنْ يجلس مع صديقه قاسم لسماع القرآن . وهذا لم يحدث . إنما قام الاسكافى ببيع الجهاز لمخالى . أما قاسم ، صاحب المصاب فى فقيديْه ، فقد عبّ الكثير من الخمر وانساب يحكى للاسكافى عن الواقعة التى فقد فيها احدى عينيه عندما زار صديقًا له ((ماسح النعال الذى يدخل البناء المخصص للعلوم)) فى هذا اليوم كان الطلبة يتظاهرون . وحاصر البوليس المبنى ((فسالت دموع وسالت دماء وتكسّرت ضلوع وأصابنى البارود فى عينى وفقدت عينى)) أما الاسكافى فيحكى عن العلة الموجعة فى معدته وأنه لا يرتاح إلاّ إذا ذهب إلى الخلاء . وينتهى المشهد بأنْ (( ضحك الاثنان . ضحكا بدموع . فهاهما فى الحياة . هنا فى خمارة مخالى قاعدان يشربان)) وفوق ذلك قبض الاسكافى ثمن الجهاز من مخالى .
أما رجب ( صاحب جهاز التسجيل ) فيدخل خمارة مخالى (( فى وقت تهدّمتْ فيه كل الحوائط : لحمة مشوية وخمرة وألفة أبناء بحر مصر واليونان . رمى رجب نفسه فى البحر وعام وضرب باليديْن . وعبّ بالفم حتى انتفخت بطنه وثقلت جفونه . والبصر فى الرأس الثقيل يبحث عن شط أى شط . والصوت البعيد للمغنية البعيدة من الجهاز البعيد يأتى ويروح : ثم عمّ صمت)) (من 16 – 18) .
فى صباح اليوم التالى يسأل رجب عن جهازه فيقول له الاسكافى ((خذ سيجاره . جهازك نسيناه البارحة بالخمارة . لاتخف يا رجب . الجهاز موجود . والخمارة موجودة . ومخالى موجود)) (19) .
وتنشط عقلية (اسكافى المودة) كيف يسترد جهاز رجب من مخالى ؟ (( مخالى يخشى الفضيحة . ويتمنى الاستقرار . مخالى يخاف الحكومة . والحكومة حكومة بالقانون . والقانون حكومة والحكومة قانون . أنا سرقت جهاز رجب . وأنت يا مخالى دفعت المال فى جهاز مسروق . أنت شريكى فى التهمة يا مخالى . لو جاء العسكرى سيجرنى من قفاى ويجرك من قفاك لأنك تشترى مسروقات . يا ناس نادوا الحكومة لىّ ولمخالى . إرضخ يا مخالى . إعطى الجهاز لرجب . ومالك عند الاسكافى )) ويرضخ مخالى وهويصيح (( بينى وبينك ربنا . بينى وبينك حد لا تدخل خمارتى)) (من 20 – 22)
وهكذا يقفز الاسكافى من حيلة إلى أخرى لتدبير ثمن الخمرة والطعمية. وهما كل ما يطلبه من ملذات . وكما بدأت القصة بمأساة قاسم الذى فقد ابنه وزوجته ، تنتهى بوفاة قاسم . ففى الفصل الأخير يدور حديث الأصدقاء الصعاليك الأربعة حول انتخابات مجلس الشعب . ويناقشون من سيأخذ قماش اللافتات بعد انتهاء الانتخابات . وبينما رجب يُحذّر أصدقاءه من سكان القبور . ويرى أنهم ليس لهم الحق فى قماش الانتخابات . ويكفيهم أكفان الموتى . فى هذه اللحظة يقفز قاسم مرعوبًا من احتمال سرقة كفن زوجته . فترقد فى قبرها عارية . فيجرى فى الشوارع كالمجنون . فتضربه سيارة مسرعــة . ينقله أصدقاؤه إلى المستشفى رقم (1) فيحوله الأطباء إلى المستشفى رقم (2) فيحولونه إلى المستشفى رقم (3) وهناك يموت ،لأنّ أصدقاءه عجزوا عن تدبير الدم اللازم لإنقاذ حياته .
واسكافى المودة رغم صعلكته وأميته يملك فلسفة خاصة به . فهو مثلا فى لحظة يأس يسند ظهره على حائط متهدم ويخاطب نفسه (( تنقشع الليالى والنهارات . وتغور وأغور أنا بعد عمرى الشقى إلى حفرة مظلمة وتأكلنى الديدان ويسيل من فمى وأذنى صديد وقيح . ثم يحضر إسرافيل وميكائيل وبيد كل منهما مرزبة ويشبعان الاسكافى ضربًا لأنه شرب الخمرة الحرام وفعل الإثم الحرام وخالف أمر ربه )) (24 ،25) ونداء الموت يلاحقه دومًا فيقول فى وضع آخر (( من مات أكله الدود . ومن سيموت سيأكله الدود . والفاعل الغلبان على الأرض فساء فى ريح )) (30) فى لحظات اليأس هذه ، يذكّرنا الاسكافى بأمير الدنمرك (هاملت) فى رائعة شكسبير، فى مشهد حفار القبور ، وهو يتحدث عن الدود الذى يأكل الإنسان . والإنسان الذى سيأكل الدود بعد ذلك ، وهو يأكل السمك الذى أكل الدود . وكأنها دورة الحياة . تتلاحم فيها قوى الطبيعة . وتتآلف فيها كل الكائنات الحية . من أصغرها (الديدان) إلى أكبرها وأرقاها (الإنسان)
وعن حياة الصعلكة واحتمال دخول السجن فى أية لحظة يُكلّم الاسكافى نفسه (( أنا أكره السجن . ولا أخاف السجن )) وهو يُدرك أنه يهرب من مواجهة واقعه إلى الخمر. لذلك يقول فى لحظة مكاشفة مع النفس ((هربت يا عاطل إلى خمارة مخالى . وفى الخمارة هربت من حالك . إلاّ أنك فى ختام كل يوم تقع فى عين الحفرة التى حفرها الغالب للمغلوب)) (31) وبعد أنْ تنقشع لحظة المكاشفة يعود إلى طبيعته البوهيمية المتمردة ليقول ((الدنيا بنت الحيلة . ومثلى إنْ لم يتحايل على المروق من خرم الإبرة مات ميتة الكلب الجربان)) (33) ورغم أنه يحترف النصب والاحتيال ، إلاّ أنه يعاتب رجب دائمًا ويغضب منه لأنه (( يسرق طير الأرملة ولما يسمع صراخها لاتدمع له عين )) ولكنه يتوقف عند حدود العتاب والغصب . وبعد أنْ يهدأ فإنه يُفلسف تصرفات رجب ((رجب عاص لا مجرم . والمحتاج معذور إنْ سرق . هناك لص كبير ولص صغير. وسرقة حياة الناس هى أكبر السرقات)) (42) وعندما يصاب بالعجز النفسى والجسدى والمادى ويكف عن معاشرة النساء ، يُفلسف الموقف ((حيلى مهدود والزنا حرام . الشقيان مثلى متعته خروج البول السخن من قضيبه)) (29) .
الصعاليك ومفهوم الحلال والحرام :
يتميّز هذا العمل بوعى الكاتب بمفردات الواقع والشخصيات . وقدرته على صياغة هذه المفردات فى مناسبات طبيعية وغير مقحمة . مازجًا فيها الجد بالهزل الذى يصل إلى حد الفكاهة الراقية . من ذلك مثلا اعتراض الاسكافى على المبلغ الذى دفعه مخالى فى جهاز التسجيل . إذْ أنّ حجة مخالى أنّ الجهاز قديم فيقول له الاسكافى (( يُعوّضنى رب المسلمين يا كافر)) وابتسم . فيرد مخالى مبتسمًا ((أنا نصرانى مؤمن كفرت لما عشت معكم يا مسلمين)) (17) والاسكافى يعترض على سرقة الطيور ، والسبب لديه أنّ لحم الطير مسروق . وعندما يقول له قاسم ((إذن لن تأكل معنا؟)) فإنّ فيلسوف التحايل يرد ((سآكل . لم لا آكل؟ ربنا سيحاسبنى على ذنوبى ولن يحاسبنى على ذنوب رجب)) (28) وعندما يرى قاسم الاسكافى جالسًا أمام بيت أم بالوظة الراقصة يقول (( الرقص ببطن عريانة وصرة مكشوفة حرام )) فإنّ الاسكافى يرد ((الرقص حرام والكلام عن أم بالوظة بكلام فيه غمز ولمز حرام يا قاسم )) (29) وبعد أنْ أكل قاسم من البطة المسروقة قال (( الحرام مر)) فصرخ رجب (( قم يا قاسم وتقيّأ ما أكلته)) فتراجع قاسم (31) ورجب بعد أنْ عبّ كثيرًا من الخمر شعر بألم فى معدته فقال قاسم ((ما فعلناه حرام . لولا الحرام لما توجّع رجب)) ولأنّ الكاتب يعى أهمية تعدد الأصوات . وبالتالى تعدد الأفكار ، فإنه يطرح وجهة النظر الأخرى على لسان الاسكافى الذى قال (( أنا وأنت شربنا . هل تشكو من وجع يا حمار؟ )) ثم يأتى رد رجب ليحسم الموقف الفقهى حول الحرام والحلال فيقول (( لن أموت يا قاسم . لماذا أموت ؟ أنا تعبان . الخمرة تتعبنى لإنى أحب الحشيش)) (34) .
وكلمة ( الحرام ) ودلالاتها تتردد كثيرًا على ألسنة الشخصيات تعبيرًا عن فلسفتهم فى الحياة . وفى حوار ممتع بين الاسكافى المدافع عن الخمرة وفتح الله المدافع عن الحشيش قال الأخير(( أنا لا أشرب الخمرة. الآدمى منا لو شرب الخمرة يكثر كلامه ويخف عقله وتتعارض أفعاله وتهتز يداه . والخمرة مُحرّمة بأمر الله وكلام النبى . أما الحشيش فمكروه . والمشايخ وأهل الطرق يشربونه . والحشيش يجعل النور نوريْن والخوف خوفيْن . ومن هنا فالحشاش حريص على الدوام)) فيرد الاسكافى المحب للجدل (( الخمرة حرام لكنها لا تضر إلاّ شاربها . أما اللص فيضر الغير لما يسرقهم )) فيشعر فتح الله ( اللص المحترف ) بالإهانة فيرد عليه بعد أنْ أقسم ((فى حياتى لم أسرق من محتاج )) وينتهى المشهد بالتصالح بين محب الخمرة ومحب الحشيش الذى يوضح أنه لابأس من شرب البيرة أحيانًا (( فالبيرة تغسل البطن وتنظف المصارين وتدر البول وتفتت الحصوة فتسلم الكلية)) فيرد عليه الاسكافى (( أنت تتكلم بالحكمة . وصداقة رجل مثلك كنز لا يفنى . والناس أحرار فيما يحبون وما يكرهون . والعدل غائب . ومن سرق وهو محتاج لاحساب عليه . أما السجون فمملوءة بالمظاليم )) (42 ،43) .
وفى سياق تعدد الأصوات والأفكار ، التعدد الذى يُضفى أهم سمة للإبداع ، أى الجدل الدرامى ، فإنّ الكاتب يختتم قصته بمناقشة للأصدقاء حول سرقة أكفان الموتى : هل هى حرام أم لا ؟ فيرى قاسم أنها حرام . فيرد عليه رجب (( هم يسرقون أكفان الذكور والنساء ويمتنعون عن سرقة أكفان الأطفال )) وعندما يرد عليه قاسم ((هذا صحيح)) يقول له رجب (( لا. هذا الكلام باطل . إنهم يسرقون أكفان الكبار لكثرة القماش . وذات يوم خالفتهم وغافلتهم وسرقت كفن طفل رضيع وصنعت لنفسى مخدة أرفع عليها رأسى لما أنام )) (55، 56) .
ويتميّز هذا العمل بوعى الكاتب بمفردات المعتقدات الشعبية التى تدخل فى صميم الثقافة القومية لشعبنا المصرى . من ذلك مثلا أهمية قراءة القرآن على روح المتوفى . والسبب كما قال السلف لقاسم (( تبقى الروح معلّقة مجروحة بجروح البدن حتى يتصدّق أهل الميت على الروح بسورتيْن من كتاب الله)) (ص9) أما رفض اللصوص سرقة أكفان الأطفال فإنّ السبب فى عرفهم وفى ثقافتهم القومية يعود إلى أنهم ((يظنون أنّ من يسرق كفن طفل لا يفارق القبر الضيق المظلم حتى يأتيه الموت بعد عذاب الجوع والعطش)) .
يتميّز يحيى الطاهر بقدرة فائقة فى استخدام اللغة العربية بوجدان مصرى . بحيث يشعر القارىء المصرى أنّ الكاتب يخاطبه بلغته الحية . الأمر الذى يخلق درجة عاليه من التواصل بين الكاتب والقارىء . وأنّ هذا التواصل هو الذى يحقق التفاعل بين المبدع والمتلقى . وعلى سبيل المثال فهو يكتب عن شخصية قاسم (( عصر يوم بعيد . جاء قاسم من بلده البعيد على ظهر مركب تحمل الجــرار . ودخل سوق المدينة وشال كيس بطاطس يزن أردبيْن ورماه على ظهره ولفّ بحمله لفتيْن ثم حطه على الأرض وسأل أهل السوق : أى عمل يا جماعه . وصبح اليوم أجبر الموت – فى السوق اللامه أشتات الناس ولمامة البلدان – صاحب البدن المهدم على البكاء بعين مملوءة بالدمع والدم)) (ص4) وعن اللقاء بين الاسكافى ورجب كتب (( بين نور وظلام وعلى أرض موحلة طالعه نازله . وبعد مشقة بلغ الاسكافى خص رجب جامع الخرق وناداه وسمع رده فحمد الله . جلسا متقابليْن على كوم من الخرق . رحّب رجب بالاسكافى وقال (( أعمل لك شاى؟ )) رد الاسكافى ((لا. نشرب خمره)) ولكى يُقنعه بمأساة قاسم يصفه هكذا (( المسكين كالبيت الذى هدّته دبابة)) (ص12) .
ولكن هذه القدرة على صياغة الوجدان المصرى إهتزّت كثيرًا فى يد الكاتب عندما أصرّ على أنْ يستنطق شخصياته الأميين باللغة العربية. من ذلك مثلا عندما يضع هذا الحديث على لسان الاسكافى (( الأرض ظلومة يا قاسم . ظلمتنا وظلمت معنا البغل والحمار. حتى الطير فى الدنيا مقسوم ياقاسم . طير مشرّد فى السماء وطير على الأرض يُمسك ويُذبح)) (29) والقارىء كى يفهم الكلمتيْن الأخيرتين عليه أنْ يضع علامة الضمة على حرف الياء فى بداية كل كلمة. فهما هنا مبنى للمجهول. وهذه اللغة غريبة تمامًا عن الاسكافى الأمى . وكان بوسع الكاتب أنْ يكتب (وطير على الأرض يتمسك ويندبح) فتكون الصياغة أقرب لمستوى الشخصية من ناحية ، ولم تبتعد كثيرًا عن اللغة العربية من ناحية ثانية. ويقع الكاتب فى مأزق المثنى والجمع عندما يكتب أنّ الاسكافى قال لصاحبيه ((تعالوا نلعب)) (31) وأعتقد أنه انحاز للوجدان المصرى فى استخدامه لصيغة الجمع التى هى الصيغة المستخدمة لدى المصريين للعدد اثنين فأكثر. وأعتقد أنّ انحياز الكاتب لهذه الصيغة ، أنه أدرك أنّ صيغة المثنى ثقيلة نطقًا ولاتتّسق مع الشخص الأمى إذا قال لصاحبيْه الأمييْن (تعاليا نلعب) وكذلك تبدو اللغة غريبة عن الشخص الأمى عندما يقول الاسكافى ((كنا أربعة. ولم نعد أربعة. وفى الذى جرى قولان . وجرمٌ له دافع وجنونٌ حاصد)) (51) ويقول قاسم لأصدقائه وهو بين الحياة والموت (( لا أبغى ترك حياةٍ أنتم فيها حتى لو عشتُ شقيًا)) (56) فالمصريون المتعلمون لا يستخدمون أدوات الرفع والنصب فى لغتهم الحية اليومية ، فكيف يستخدمها قاسم الأمى؟ والاسكافى يخاطب زجاجة الخمر(( أنتِ أمٌ لمن لا أم له. وأختٌ لمن لا أخت له. وأنت الأب والبنين والأهل وسنين النيل وعمر النخيل)) (52) فهذه صياغة دخيلة على المناجاة النفسية لشخصية الأمى .
كما أنّ هذا العمل المتميز أضعفه بعض الموضوعات الدخيلة على واقع الشخصيات وعلى الاطار العام للقصة. مثل الحديث عن اليهود المصريين ورحيلهم من مصر بعد أنْ أمّم عبدالناصر ممتلكاتهم (49) ومثل الحديث عن معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل وهجوم العرب على مصر بسبب هذه المعاهدة (53 ، 54) وذلك دون أى مبرر درامى .
للكاتب الأمريكى جون شتاينبك رواية بديعة بعنوان (تورتلا فلات) أبطالها مجموعة من الصعاليك الذين يُمثلون قاع المجتمع الأمريكى . ويحترفون التحايل والنصب والسرقة حتى سرقة الدجاج من بيوت الفقراء مثلهم . ويتمتّعون بحس فكاهى ، مثلهم مثل أى (أولاد البلد) فى أى مجتع إنسانى . وكلّما تذكّرتُ (تورتلا فلات) تذكّرتُ أيضًا (تصاوير من التراب والماء والشمس) وسواء قرأ يحيى الطاهر هذه الرواية أم لا، وسواء تأثر بها أم لم يتأثر، فإنّ ما يجمع بين الرواية الأمريكية والقصة المصرية هو الصدق الفنى ، وأنّ ما يُميز شتاينبك هو وعيه بمفردات شخصياته وقدرته على صياغة هذه المفردات بلغة الفن ، وهو ذات الشىء الذى نجح فيه يحيى الطاهر ، أى قدرته على استخدام لغة الفن التى تعيد تشكيل الواقع . ولكن انطلاقًا من هذا الواقع ، لغة الفن التى تحوى وتعبر عن أهم خصائص الإبداع . أى الصدق الفنى . ذلك الصدق الذى يتوّج بتعاطف القارىء مع الصعاليك المشوهين المتمردين على واقعهم ، رغم رفضه لسلوكياتهم .
اختار يحيى الطاهر لقصته عنوانًا دالا يرمز للعلاقة بين مكوّنات الطبيعة (التراب والماء والشمس) وبين الحياة . ومن خلط التراب بالماء يتكوّن الطين . والطين بعد أنْ يتشكّل ، ولكى يجف ، وقبل اكتشاف النار، فإنّ الشمس هى العنصر المكمل لقصة الخلق فى الأساطير التى أبدعتها الشعوب فى العصور القديمة ، وذلك وفق البحث الجاد الذى قام به جيمس فريزر فى مجلداته المهمة والتى نشرها تحت عنوان (الغصن الذهبى) وكتب أنّ شعوب الحضارات القديمة تتشابه (مع الاختلاف فى بعض التفاصيل) أساطيرها حول قصة خلق الإنسان من طين . وفى الأساطير المصرية القديمة ، فإنّ الإله (خنوم) خلق الإنسان على آلة الفخار. وفى ثقافات الشعوب المختلفة أنّ الإنسان خُلق من تراب وإلى التراب يعود . وهكذا هى مسيرة الحياة . من لحظة الميلاد إلى لحظة الموت . وهى المسيرة التى أكدها المحتال الأعظم الاسكافى . فيلسوف المودة والمرح والتسامح والحب والاحتيال والنصب والتمرد على الواقع الذى أفرزه .
*****



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جمال البنا والتربص لكل مختلف مع الكهنوت
- مفهوم الوطن فى رواية بيوت بيضاء
- شهر زاد على بحيرة جنيف
- عبدالرحمن أبوعوف وثنائية الإبدع والقمع
- ثمن الحرية وحصاد عام من الدم
- جميل عطية إبراهيم والتأريخ بلغة فن الرواية
- العلاقة بين (المواطنة) و (القومية)
- النبل والبؤس فى طاحونة الحياة
- سناء المصرى : ضميرحى وعقل حر
- التنوير المصرى والجامعة الأهلية
- بورتريه لابن عمى المليونير م . م
- تونا الجبل : ميلاد مُتجدد للحضارة المصرية
- ميس إيجيبت وجدل العلاقة بين الثقافتين المصرية والعربية
- سليمان فياض : الواحد المتعدد
- النص الدينى والتفسيرات المتعددة
- العالمانية والاستقرارالاجتماعى
- هل يؤمن الأصوليون الإسلاميون بالديموقراطية
- مأزق السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل
- الأدب واتعبيرعن التغيرات الاجتماعية
- لاتُصالح ودوائرالثأرالجهنمية


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - يحيى الطاهرعبدالله وإعادة تشكيل الواقع إبداعيًا