أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - أحمد صلاح هاشم - ميوعة التاريخ وتحيز المؤرخين















المزيد.....

ميوعة التاريخ وتحيز المؤرخين


أحمد صلاح هاشم

الحوار المتمدن-العدد: 3609 - 2012 / 1 / 16 - 20:45
المحور: السياسة والعلاقات الدولية
    


تغلق باب شقتك خلفك لتترك عناء يومك وحده في الصقيع بالخارج، تقسم في قرارة نفسك أنك لم تلق يوما أسوأ في حياتك (وغدا ستقسم على مثل ذلك)، ما زالت ضوضاء المواصلات تعتمل في داخلك، وأرق الغد يشغل بالك، واللحظة الحالية تقلقك.. تلقي بنفسك على أقرب أريكة تحتضنك في خشوع، تدير ريموت التلفاز فتطالعك صورة لفتاة حسناء (تبدو كذلك من خلال الشاشة.. لن يمكنك أن تراها بعد الأستوديو على أي حال) معها ضيف، يبدو من هيئته وطريقته في الكلام أنه غير معتاد اللقاءات التلفزيونية خارج مكتبه (إن كان له مكتب) كما يبدو على الحسناء (المذيعة) أنها غير معتادة محاورة الضيف سوى في منزلها (إن كان لها واحد).. اللعنة! كيف لم أنتبه لذلك؟! إنها القناة الأولى المحلية، كيف لم يستثرني ذلك اللوجو المتدلي من جانب الشاشة كثمرة فات حصادها. يتلعثم الضيف قائلا: الإخوان المسلمين ليس لديهم رؤية واضحة لهذه المرحلة.. يظنون أنهم يملكوا كل شيء بفوزهم في الانتخابات الأخيرة (يبدو أنه غير مولع بالإعراب.. يظن أنه بحشوه كلامه بـ«رؤية» و«انتخابات» فإنه قادر على مجاراة المذيعة، الأقل منه ولعا بالإعراب وبمثل هذه المفردات) يكمل كلامه، بعد أن يرتشف بعضا من المياه لكي يفثأ توتره، غامضين في خطابهم الموجه.. غائمين في مضمون كلامهم.. يقاطعه صوت لم تلتفت إلى مصدره الكاميرا: يا سيدي، لا تضع الإخوان في سلة واحدة مع الفلول.. (تنتبه الكاميرا لخطئها فتطالعك صورة ضيف آخر.. شاب هو على ما يبدو، على الأقل يبدو كذلك لولا اللحية التي تخفي سنه الحقيقية)، يصرخ الضيف: لا تقاطعني لو سمحت.. الحقيقة أن الشاب لم يقاطعه، ولكن الضيف الأول نفذ رصيده من الكلام الضخم والتعبيرات المخيفة فلجأ هو إلى مقاطعة كلمة قالها الملتحي ثم سكت.. هدوء يسود اللحظة، تكتشف المذيعة أن مديرها يدفع لها مقابل اقتناص مثل هذه اللحظات، فتقول بسرعة (قبل أن ينتبه أحد الضيفين): هل لحضرتك أن توضح مثالا يؤكد للمشاهدين غموض خطابهم الإعلامي.. وتسكت هي الأخرى كأنها تقول: «الكرة في ملعبك».
تقول في نفسك: يا لي من أحمق، نسيت أن الريموت معي.. تغير القناة بكل بساطة، فتطالعك صورة لمذيع يجلس مع أحد الوجوه المألوفة على قناة فضائية (يبدو ذلك لأن اللوجو ليس متدليا كثمرة ناضجة..إلخ) يقول المذيع: سيدي اللواء هل تنوون تسليم السلطة والعودة إلى الثكنات وترك الأمور وترك السلطة بعد نقل السلطة إلى رئيس مدني منتخب؟؟ (لاحظ كمية السلطة في الكلام). يرد اللواء ببشاشة تذكرك بماما سامية: المجلس العسكري لا ينوي إطلاقا الاحتفاظ بالسلطة، وقد أكدنا ذلك في غير موقف.. وها أنا أؤكده مرة أخرى.. (ما زلت تشعر بالملل؟؟ هل نسيت؟! ما زال معك الريموت) تغير القناة تجد مذيعا تبدو عليه الصفاقة (لا أدري إن كانت الصفاقة قد تظهر على وجه إنسان، لكن لو كانت تبدو على الوجوه، فهو صفيق بكل تأكيد): قولتولي ليه؟؟ المجلس العسكري رفض ضرب الناس بالنار، المجلس العسكري هوا اللي حما الثورة (يبدو أنه غير مولع بالفصحى أساسا).. قناة أخرى بها ضيف يجلس أمامه محاور عجوز (لحظة أليست هذه قناة الرياضة؟؟ منذ متى صار مصير المباراة يحدده نائب برلماني؟؟) يقول العجوز: ماذا ينوي الإسلاميون فعله في شواطئ العراة ونوادي القمار.. ياااااااه عاد هذا الحديث الممل..! تغلق التلفزيون.. وقد رسخت لديك فكرة واضحة: «ليس ثمة فيلم في التلفاز».
لماذا تصر القنوات الإخبارية والمنوعات (وربما الأغاني في مرحلة لاحقة) بالزج بمحللين في تحليل وضع هو قائم بالفعل.. ولم ينته، ولا يبدو أنه سينتهي قريبا؟؟!! فكما أن الاستوديو التحليلي إذا قطع المبارة يصبح تافها وغير معبر، فكذلك محاولة نقد وتحليل مستقبل لم تتضح صورة حاضره بعد، وكأننا نريد بخيط دخان رسم صورة.
لو افترضنا جدلا أن مثل هذا الإعلام كان موجودا في أيام ثورة يوليو التي قام بها الضباط الأحرار؛ ماذا كنت ستطالع: مذيع متأنق أمامه مايكروفون كبير الحجم يسأل أحد الضباط: سيدي ما خطتكم المستقبلية؟ كيف يرى الضباط الأحرار المستقبل في مصر..؟ يبتسم الضابط الشاب النحيف قائلا: الضباط ينوون العودة إلى ثكناتهم وتسليم البلاد إلى حكومة ائتلافية ليحكمنا للمرة الأولى في تاريخنا رجل فلاح من أبناء جلدتنا، بعيد عن المحسوبية.. ثم تدير مؤشر القناة لتجد مذيعة تلبس تنورة قصيرة تبدو عليها ملامح الخيلاء، تقول بابتسامة: سيدي الشيخ، كيف ينظر الإخوان المسلمون إلى ما ستؤول إليه الأمور؟ يبتسم الشيخ كابتسامة الضابط وهو يقول: أظن أن الأمور كلها تحت السيطرة، مصر كان يحكمها رجال القصر لا الملك، لن نقع في مستنقع الفوضى، وأنا من منبري هذا (لا أدري أي منبر يتحدث الجميع عنه) أؤكد دعمنا لرجال الجيش وللضباط الأحرار الذين انحازوا إلى الشعب في لحظة يتوقف عندها التاريخ.
ماذا حدث؟ كيف تحول هذا الحديث الحلو إلى حكم قمعي يركله الضابط لضابط، كيف غدا هذا التوافق بين الإخوان والضباط الأحرار، إلى قطيعة وصراع، أسفر عن تشتيت وسجن وتعذيب وقتل (أحيانا)، كيف تداخلت الأحداث حتى أفضت إلى 25 يناير..! للأسف، التاريخ لا يتوقف كثيرا عند برامج التوك شو، والنخبة من المثقفين والضالعين في الأمور وحتى القريبين من دوائر صنع القرار، كلهم لا يغيرون من مسار الأمور، وهم في وقت احتدام الصراع، مثلنا جميعا، يديرون قنوات التلفاز، ليحاولوا استنباط الأحداث.. فلماذا إذن صار الجميع مؤرخين، وصار الكل قادرا على استنباط ما ستؤول إليه الأمور؟
لتحليل ذلك، نوضح التالي: قنوات التلفزيون نوعان؛ إما باحثة عن الإعلانات؛ فلا يهمها من يتكلم، وجل ما يهمها هو أن الضيف والمذيع مقبولين محبوبين وبذلك تنهال الإعلانات، لمشاهدة أكبر عدد من الناس لهما، وإما لها أجندة وصاحبها رجل غني أو مؤسسة ذات توجه، وساعتها لا يهمها المال، ولا هدف لها إلا القضاء على حرية التفكير وتوجيه المتلقي (ولو بالقوة) إلى اتجاهها الفكري الخاص (ولا يستثنى من ذلك تلفزيون الحكومة)، والضيف هو الآخر نوعان؛ إما صاحب رأي يحاول أن يفرضه فرضا على المتلقين، أو رجل يهتم بالشهرة وبعد المال القليل الذي سيحصل عليه إن تم اللقاء على خير، وبين هذا وذاك يقع المتلقي ضحية إعلام موجَّه أو تائه.
لا يحكم على التاريخ رجل يعيش فيه، بل قد لا نتجاوز إن قلنا: ولا حتى يحكم على التاريخ القريب منه، التاريخ شخص له نفوذ، يشتري البعض، ويزوي البعض، وربما يُري البعض الأهوال، والكل (دون استثناء) متأثر به سلبا أو إيجابا، مما ينفي الموضوعية عن الكاتب، وربما نشبهه (التاريخ) بمحل عطور كبير، لا محالة سيصيب كل من اقترب منه شيئا من الرائحة الحسنة، مما ينفي عدم التأثر بالمحل حال الحديث عنه. سيصبح كل من يتحدث عن المحل (التاريخ هنا) مندوب دعايا لوجهة نظره، يناصره في ذلك الأدلة السهلة التي حصل عليها من المحل (زجاجة عطر أو شيء علق بملابسه)، لذا نقول: يجب أن يمضي على الحدث فترة كافية تتصلب فيها ميوعته، وتتحدد فيها معالم الطريق، فإذا وقفت في نهاية الطريق، فأنت لا جيرِ قادر على وصف ما سرت منه.
المرحلة الحالية تقتضي التدوين، والتدوين يكون بالورقة والقلم لا بالصراع والصراخ والتنبؤ بالغيب، المرحلة الحالية تقتضي الحيادية والبعد عن الأحداث لكي نقترب منها.
مازلت أذكر في حوار لإبراهيم عيسى مع الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل (المرشح المحتمل لمنصب رئيس الجمهورية) كيف ابتسم عيسى قائلا: أحب أن أطمئنك بأن الأحزاب الدينية لن تحصل على أغلبية أبدا، كما يتصور البعض، وهذا المقطع (والكلام لعيسى) موجود على «اليوتيوب»، وفي كل مكان وسيعلم الناس أني على حق عند انتهاء الانتخابات..
ومضت الأيام، وظل المقطع (كما تنبأ عيسى) على «اليوتيوب»، بينما الواقع كذب تنبؤه الأساسي بخصوص خروج الأحزاب الإسلامية خائبة.. كيف ننظر إلى كاتب في مقامه. هل نصدق منه استلهاما للمستقبل بعد الآن، كيف وضع رأسه تحت مقصلة التاريخ؟!
عوامل الحكم على التاريخ ترتبط ارتباطا قويا بالموضوعية في تناوله، والقدرة على تنحية الذات في مقابل النظرة الكلية، فلم تنجح الرواية إلا بتنحية الراوي، ولم ينجح الشعر إلا بعد موت الراوية.
ولكي تتضح الصورة أكثر، يمكننا أن نوجز الحديث على هذا النحو:
إن لم تستطع أن تكون أبا للتاريخ فكن ابنا للحظة.. صفها بكل حيادية، اعرضها بكل دقة.. ولكن إياك أن تتصدى للتاريخ، فالتاريخ كائن مستقل بذاته طفل يحبو لن يمنعه من المشي إخبارك للجميع بأنه لن يقوم.
وعلى هذه القنوات التي تضيع وقتها (ووقت المستمعين بالتأكيد) التحول من الوضع كما ينبغي أن يكون إلى (الوضع كما هو كائن).. بالطبع لا أقصد بكلامي هذا أن ينكفئ الجميع على اللحظة الحاضرة، وأن يغلقوا عقولهم على الراهن، وأن لا ينبسوا ببنت شفة فيما يخص مستقبل بلادهم، ولكن.. أقصد أن لا نتعرض للمستقبل إلا فيما يتقاطع مع الحاضر تقاطعا مباشرا، وفيما يدور حول (أظن.. أعتقد)، لقد عشنا ثلاثين عاما بإعلام يصور لنا اللص شخصا معقود الحاجبين.. يضحك ضحكة شريرة (لأنه شرير) في نهاية كل مشهد، ويصور لنا الرجل الطيب مثاليا ساذجا سطحيا.. عشت أظن ذلك حتى اصطدمت بلصوص ظرفاء وبطيبين يغضبون أحيانا..!! صور لنا الإعلام بنات الجامعة بغايا والمرأة خائنة والرجل أبله مضحوكا عليه أو رجلا (فهم الفولة) وانضم إلى ركاب الأغنياء، فرض علينا الإعلام وجهة نظر أحادية تتلاقى مع أحادية الحزب وأحادية التفكير والتوجه، ولم ندر ونحن نرى كل ذلك أن الواقع مختلف، وأن هؤلاء لا يصورون إلينا الواقع وإنما واقعهم هم ورؤيتهم هم وفكرهم المتخاذل.
درسنا في البلاغة أن قوما عميانا اصطدموا بفيل في طريقهم، وكانوا لا يعرفون كيف يبدو الفيل؛ فتعجبوا، وظن الذي يمسك بأنفه أن الفيل عبارة عن خرطوم ضخم ينتهي بِكُرة ضخمة، وظن الممسك برجيله أنه يشبه عمودين ضخمين وملتفين إسطوانيا.. إلخ، ولكن من نظر إلى الفيل من بعيد هو الوحيد الذي رآه فيلا كاملا.
آن الأوان ليحل المنهج الوصفي محل المعياري، وأن نمشي في ركاب الأحداث بدلا من محاولة عابثة لجعل الأحداث تمشي في ركابنا نحن..



#أحمد_صلاح_هاشم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البحث عن الواقع التونسي عبر المشاهد والظلال.. دراسة في المجم ...
- مظفر النواب: مكاشفة شعرية تظهر آيديولوجياته


المزيد.....




- شاهد..قرية تبتلعها الرمال بعد أن -تخلى- عنها سكانها في سلطنة ...
- الأمن الروسي يعتقل 143 متورطا في تصنيع الأسلحة والاتجار بها ...
- وزارة الخارجية الروسية تصر على تحميل أوكرانيا مسؤولية هجوم م ...
- الحرب على غزة| وضع صحي كارثي في غزة وأيرلندا تنظم إلى دعوى ا ...
- ضغوط برلمانية على الحكومة البريطانية لحظر بيع الأسلحة لإسرائ ...
- استمرار الغارات على غزة وتبادل للقصف على الحدود بين لبنان وإ ...
- تسونامي سياسي يجتاح السنغال!!
- سيمونيان لمراسل غربي: ببساطة.. نحن لسنا أنتم ولا نكن لكم قدر ...
- قائد الجيش اللبناني يعزّي السفير الروسي بضحايا هجوم -كروكوس- ...
- مصر تعلن موعد تشغيل المفاعلات النووية


المزيد.....

- الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن / مرزوق الحلالي
- أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا ... / مجدى عبد الهادى
- الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال ... / ياسر سعد السلوم
- التّعاون وضبط النفس  من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة ... / حامد فضل الله
- إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية / حامد فضل الله
- دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل ... / بشار سلوت
- أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث / الاء ناصر باكير
- اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم / علاء هادي الحطاب
- اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد ... / علاء هادي الحطاب
- الاستراتيجيه الاسرائيله تجاه الامن الإقليمي (دراسة نظرية تحل ... / بشير النجاب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - أحمد صلاح هاشم - ميوعة التاريخ وتحيز المؤرخين