أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد عمامي - مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل: دار لقمان على حالهاً(2)















المزيد.....

مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل: دار لقمان على حالهاً(2)


محمد عمامي

الحوار المتمدن-العدد: 3609 - 2012 / 1 / 16 - 16:20
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


4/ الوفاق حول البرنامج: العودة إلى رأسمالية الدولة

أكّد عبيد البريكي في كلمته أنّ الإتحاد سيكون في المرحلة القادمة سياسيا بلا منازع. وهو يريد التأثير في مجرى الإعداد للدستور الجديد. لذلك ينوي لفّ الجمعيات ومنظمات "المجتمع المدني" حول مشروعه الذي سيطرحه من خارج المجلس التأسيسي. وإذا قارنّا التأسيس الأول 1957 والتأسيس الحالي يبدو الاتحاد الحالي عبثيا وغير مسؤول. . فالامكانات البشرية و المادية و التنظيمية التي كان يملكها عند انطلاق الثورة، و بعد سقوط الدكتاتور وتفكك الحزب الحاكم، تفوق كل الأحزاب مجتمعة.

ولم يكن حزب النهضة – فما بالك بحزيبات الربع ساعة الأخير- قادرا على مضاهاته ومن ثمّ الهيمنة على المجلس لو دخل الانتخابات كمنافس جاد لها. ولقد صوت اليسار النقابي والقوميون لصالح الانسحاب من الانتخابات توهّما أنّ ذلك سيترك المجال لحزيباتهم كي تحتل موقعا في المجلس والحكومة المؤقّتة. وكانت الحجة: المحافظة على استقلالية الاتحاد (اقرأ استقالته).

إنّ الحسابات الحزبية الضيقة – في الواقع الحلقية ما قبل الحزبية- هي التي وقفت وراء تهميش الإتحاد والتقاعس عن دور سبق أن لعبه في ظروف مغايرة، اتسمت بهيمنة الحزب الدستوري ذي القاعدة الوطنية العريضة والمصداقية الجماهيرية. ومع ذلك حاز الاتحاد آنذاك على خمس المقاعد، وكان كوادره حاسمين في صياغة الدستور، بغضّ النظر عن موقفنا من ذلك الدستور ومن الدّولة التي أسس لها.

ولم يتوقف الأمر بالاتحاد الحالي عند هذا الحد، بل تعداه إلى الاتفاق مع الأمريكي فلتمان الذي هندس الالتفاف مع جميع تلك الأطراف ومهّد للإستراتيجية الأمريكية القائمة على التحالف/التوازن بين الإسلاميين والليبراليين والجيش، بهدف الحفاظ على/ وإعادة هيكلة النظام القائم دون بلوغ الثورة أهدافها. ولقد كان الاتحاد العام التونسي للشغل حجر الزاوية – كما أسلفنا- في تجسيد تلك الخطة، بتوفيره الوفاق حول "الانتقال الديموقراطي" الفوقي، وانسحابه في آخر لحظة من المنافسة تاركا المجال، للنهضة (لا ننسى أنّ أول ظهور جماهيري ذا شأن للنهضة منذ ربع قرن، كان برعاية الاتحاد الجهوي بصفاقس).

واليوم، وبعد أن فرش بيروقراطيو الاتحاد الأرض للأصولية الإسلامية كي تخرّب الثورة، يلوّحون بالمعارضة السياسية ويعدون بدستور خارج إطار السيادة المكلفة بكتابته. ولا أظنّ ان قيمة دستورهم ستتعدّى قيمة "المجلس التأسيسي المدني" الذي لوّح به محسن مرزوق، إن هو إلا حركة بهلوانية جديدة تبرّر تواطؤهم مع القائمين على "المسار الديموقراطي الانتقالي".

ويستعيد التقرير الأدبي للمؤتمر ما ورد في الوثيقة المسماة "أرضية عمل اقتصادية اجتماعية" التي أعدت قبيل انطلاق اشغاله، ويزعم كونها تلخص التوجهات الكبرى للمرحلة القادمة. وهو يعد بالنضال من أجل تكريسها. وفي عودة جديدة مأساوية للماضي، تتشابه تلك الأرضية مع برنامج أحمد بن صالح الذي دافع عنه سنة 1956 حين كان أمينا عاما للاتحاد العام التونسي للشغل قبل أن يطيح به، بسببه، بورقيبة بواسطة حبيب عاشور.

وفي انقلاب بورقيبي مألوف، عاد ليعيّن بن صالح على رأس عدّة وزارات بعد أن تبنّى برنامجه ذاك. وهو ما طبّق طوال الستينات وسمي بـ"سياسة التعاضد"، أو بـ"الاشتراكية البورقبية" التي لم تكن سوى رأسمالية دولة صادرت بيروقراطيتها الأملاك وقمعت الحريات العامة والفردية وجعلت من البلد محتشدا كبيرا من المجنّدين في سبيل مراكمة متسارعة "للرأسمال الوطني".

ويبدو جليا التقاء بيروقراطيي حزب دستور العهد البورقيبي وبيروقراطيي الاشتراكية الستالينية وبيروقراطية القوميين العرب حول مشروع مراكمة رأسمالية وطنية. وهم يتوهّمون كون نظام حمائي، شديد المركزية، تقوده بيروقراطية ذات أصول بورجوازية صغيرة، سيمكّن البلاد من السيادة الشعبية والاستقلال الاقتصادي عن الرأسمال العالمي ويخرجها من دائرة التبعية.

ألسنا نعيد هنا صياغة نفس الأنظمة الجاثمة على شعوبنا منذ الخمسينات؟ وإذا أمكن تجسيد ما سمي بالطريق الثالث (لا رأسمالي ولا اشتراكي) والذي لم يكن سوى رأسمالية دولة متخلفة وتابعة، مباشرة إثر نزع الاستعمار بشكله القديم، وضمن التوازن بين الإتحاد السوفيتي والمحور الأطلسي طوال الحرب الباردة، فإنّ نفس المشروع يصبح، زمن العولمة والهيمنة المطلقة للرأسمالية، مجرّد وهم.

أضف إلى ذلك ما راكمته الشعوب من تجربة في ظل هكذا أنظمة، تخوّل لها استنتاجا بديهيا مفاده أنّ الأنظمة القومية والوطنية التي انبثقت عن الحركات الوطنية والحركة القومية العربية لم تكن سوى دكتاتوريات دموية ومتخلفة (سلالية، عشائرية، جهوية، طائفية، عنصرية، قومية أو أثنية...). وإن انحطاطها هو الباعث الأساسي، ومن رحمها، للتيار الظلامي في المنطقة. أضف إلى ذلك كون حمائيتها تكشفت عن فساد لا مثيل له ووطنيتها تكشفت عن عمالة مقنّعة. ومع هبة الشعوب، سقطت جميع أقنعتها.

ويعيد قادة الوفاق البيروقراطي شعارات وتصورات سوفيتية/صينية، صالحة لكل زمان ومكان من نوع "التراكم الداخلي" القائم ضرورة على التصنيع و" تطوير النسيج الصناعي في عمقه وذلك بالارتقاء به من إنتاج مواد الاستهلاك إلى إنتاج وسائل الإنتاج " و"رصد حوافز انتقائية لتشجيع الرأسمال الوطني على الاستثمار"... ويكون تطوير الرأسمال الزراعي بتجميع الملكيات المشتتة ممّا " يستوجب التشجيع على بعث تعاونيات تشاركية بين الفلاحين الصغار والمتوسطين بهدف تكوين مستغلات تسمح مساحاتها باستعمال التقنيات الحديثة قصد تطوير المنتوج الفلاحي وتحسين مدخول الفلاحين"... (من التقرير الأدبي للمؤتمر). وعلى غرار أنظمة رأسمالية الدولة في بداياتها بالخصوص، يقرّ البرنامج المقترح إجراءات ومكاسب اجتماعية لصالح الطبقات الشعبية تتعلّق بالتغطية الاجتماعية والتشغيل وتحسين المقدرة الشرائية والتعليم.

5/ احتمالات الوفاق و/أو التصادم مع الحكومة


كل تلك المهام التي تزخر بها الوثيقة تحيلنا إلى سؤال بديهي. أية حكومة ستطبق هذا البرنامج؟ وأية آليات أعدّها الإتحاد لفرضه عليها؟ إننا نفهم أن يقدّم اتحاد الخمسينات والستينات برنامجا حكوميا لكونه كان فاعلا أساسيا في تأسيس الدّولة ومشاركا في هياكلها. أمّا أن تقوم قيادة الاتحاد الراهن بكل المناورات كي تهمشّ قواعدها (700000 منخرط على الأقل)، وتذرّرهم وتجعل منهم كثافة انتخابية لأحزاب معادية/أو مستنكفة من الثورة، ثمّ تقدّم لتلك الأحزاب، بعد أن رفعتها إلى سدّة الحكم، برنامجا معاكسا لبرامجها فهو العبث عينه والنفاق الموجه للاستهلاك الداخلي لا غير.

إنّ حجة التوازن حجّة واهية لأنها تفترض، منطقيا، التعادل في القوّة من جهة، والموقع من السلطة من جهة أخرى. ونحن أمام وضع لا يتلاءم مع ذلك المنطق. فإذا قارننا القوة الجماهيرية والتأثير في الآجال السياسية وجدنا الاتحاد هو الأقوى والأكثر شرعية باعتبار موقع قواعده من الثورة ومن تمثيلية مصالح الشغالين وعموم الطبقات الشعبية. ومقابل ذلك، هو لا يملك نصف قدم في السلطة. فقد استقال بمحض إرادته وفسح المجال لمن هم أضعف منه كي يغنموا من الثورة. وهو انسحاب يهنئ عليه البيروقراطيون أنفسهم وقواعدهم بلا حياء.

ويعلم النقابيون، وعلى رأسهم القيادة الحالية، أنّ الحكومة أعلنت منذ انتصابها، انخراطها الكامل في المنظومة الرأسمالية الليبرالية وتبنّت موازنات السنة الجديدة التي أعدتها الحكومة السابقة تحت إشراف خبراء الرأسمال المعولم. وهي بالتالي غير معنية لا من قريب ولا من بعيد بالمقترحات التي يقدّمها الإتحاد.

إنّ النضال الجوهري كان، إذن، وقبل كل شيء النضال من اجل السلطة لا من أجل تنميق البرامج الميتة. من أجل سلطة الشعب التي تتناقض جوهريا مع السلطة التي أفرزتها الانتخابات ولا حتّى السلطة التي يعمل من اجلها التآلف البيروقراطي المكون للوفاق النقابي.

فالسلطات الرأسمالية الوطنية و/أو القومية اندمجت، منذ عقدين على الأقل مع ممثلي الرأسمال المعولم، أو سمّهم ما شئت (عملاء الامبريالية، كمبرادور...). وهكذا تحوّل "الوطنيون" أنفسهم، والحمائيون و"المعادون للامبريالية" وكثير من الاشتراكيين - بفعل تطوّر للرأسمالية العالمية، واندحار الاشتراكية البيروقراطية - إلى شركاء فعليين للراسمال العالمي. ولا يمكنهم القطع معه إلا إذا انفصمت شخصيتهم وأصيبوا بالمازوشية كي يعملوا ضدّ مصالحهم.

فأبسط رأسمالي سليم العقل، لا يمكنه التموقع في "سوقه الوطنية" (تعبير مجاز) دون أن يكون، قبليا، قد اختار محوره ضمن السوق العالمية، وحدّد شركاءه المباشرين وغير المباشرين، وكذلك منافسيه لا فقط على أرض "وطنه" (تعبير أكثر مجازية من الأوّل) بل أيضا في جميع أنحاء العالم.

إنّ القطع، إذن، مع ما يدعى "إمبريالية" هو نفسه القطع مع المنظومة الرأسمالية العالمية باعتبارها لا تعدو كونها شكل تطوّرها وهيمنتها على العالم. ولن يكون، إذن من الممكن القطع مع "الإمبريالية" في ظل هيمنة "رأسمالية وطنية" و لن يكون ذلك القطع ممكنا سوى بفعل فاعلين اجتماعيين من خارجها، قوى على هامش تلك المنظومة ولا مصالح لها في روابطها واستمرارية آلياتها، ملايين من المقصيين والمسحوقين، شغالين وعاطلين عن العمل، نساء وشباب ومواطنين من درجة دنيا ضحايا التمييز القومي والعرقي والجهوي والعقائدي والجنسي إلخ.

وأيضا، لن يكون ذلك القطع ممكنا بدون القطع مع الآليات التي تفرضها وتدافع عنها في وجه الشعوب الثائرة، وهي آليات سياسية، ثقافية، إعلامية وغيرها، تتمحور حول الدولة أساسا، وتتظافر أكثر فأكثر أجهزة حزبية ونقابية وجمعياتية لإسنادها والإحاطة بها، وربما تشذيبها وصقلها ونقد "تجاوزاتها" حتى تتلاءم مع مبدء "الحكامة الجيدة" والمتوازنة.

ويستبق الرأسماليون إمكانية طرح البديل الوحيد الذي بيّن، في الواقع، أهليته في الإطاحة بالرأسمالية، وأعني الاشتراكية. فيسارعوا إلى الصياح ضد هذا المشروع المجتمعي، باستحضار مآسي الاشتراكية البيروقراطية على الطريقة الستالينية السوفيتية أو الصينية. وهي مآسي أفقدت المشروع الاشتراكي مصداقيته وتوهّجه الذين حضي بهما في بداية القرن العشرين.

وهذا الخلط المقصود بين النظام الاجتماعي والاقتصادي الاشتراكي وبين سلطة الدولة البيروقراطية الشمولية لا يزال يفعل فعله بقوّة، ويدفع الجماهير، في لحظات اليأس، نحو التيارات الظلامية، طمعا في مخرج من هذا المأزق الذي يتسم بثنائية عبودية: عبودية الرأسمال الجشع والمدمر لأسباب الحياة، وعبودية الدكتاتورية والتسلط البيروقراطي المدمر للحريات والتطور المتوازن للأفراد والجماعات.
في الحقيقة، جعلت الدعاية البرجوازية من التلازم بين الاشتراكية والدكتاتورية الشمولية، من جهة، وبين النهب الرأسمالي والديموقراطية، من جهة أخرى، حجر الزاوية في حملاتها ضد المشروع الاشتراكي باعتباره المنظومة الوحيدة التي بينت تفوّقها من حيث العدالة الاجتماعية على الرأسمالية. ولكنّ ضعفه القاتل، غياب الديموقراطية وهرس الفرد باسم الضرورة الجماعية، جعل من هزيمته تتحوّل إلى عار وعقدة لدى معتنقيه الذين تحوّلوا بكثافة إلى ليبراليين أو رأسماليين حمائيين أو إسلاميين.

وتبدو تلك العقدة جلية في خجل النقابيين واستنكافهم من الاستناد إلى بند قديم لا يزال يرصّع قانونهم الأساسي ونظامهم الداخلي: "إنشاء اقتصاد وطني اشتراكي مستقل متحرّر من كل تبعية. وتحقيق توزيع عادل للثروات الوطنية بما يضمن طموحات جميع الشغالين والفئات الشعبية." (القانون الأساسي: الفصل الثاني من باب التعريف بالاتحاد). إنّ هذا الفصل يعتبر من المنسيات في قوانين الاتحاد الأساسية. ودون التجريء على إسقاطه، وقع تناسيه وتعويضه بعموميات تدور حول المشروع الرأسمال الوطني بالنسبة للبعض أو القومي بالنسبة للبعض الآخر.

6/ هل سيعيد الإتحاد التفريط في الآجال الانتخابية القادمة؟

يندرج مشروع الدستور الذي أعدّه الاتحاد العام التونسي للشغل ضمن نفس التصوّر البرنامجي. فهو يؤسّس لدولة ديمقراطية برجوازية تقوم على ديمقراطية نيابية (مجلس الشعب الذي ينتخب بالاقتراع السري والعام مرة كل خمس سنوات)، تفصل فيها السّلطات الثلاث ويحدّ من صلاحيات الرئيس ويستقل القضاء... زد على ذلك ما يعد به الشغالين والفئات الشعبية من حقوق ومكاسب أهمّها:
ضمان الحريات العامة والفردية، اعتبار حق السّكن والشغل والصحة والتعليم حقوقا أساسية تلتزم الدولة بتوفيرها لكل مواطن. حق الجهات المحرومة في التنمية الموازنة...

وفي ما يخصّ التنظيم الاداري للدولة، يقترح الاتحاد العام التونسي للشغل، في نفس المشروع، الحد من مركزية الدّولة وإتاحة المجال أمام تشريك الجماعات المحلية في التسيير مستلهما من بعض الديموقراطيات الغربية بما يحدّ من المركزية المشطّة.

إلا أنّ تلك الحقوق تفقد معناها إذا وضعناها ضمن سياق تخلّي الاتحاد عن مسؤولياته في التصدي لمسألة السلطة كما سبق أن بيّنا. وهو التخلّي الذي ترك المجال واسعا للإسلاميين والليبراليين لينفردوا بالسلطة ويواصلوا تكريس الرأسمالية الليبرالية المتوحشة.

السؤال المطروح الآن هو : هل سيواصل الاتحاد نفس السياسة أم سيضع إمكاناته على ذمّة المقاومة الشعبية وينخرط فعليا في معارضة سياسية مفتوحة للإتلاف الحاكم؟ وإذا انخرط في المعارضة -كما يفهم من تأكيده على تعزيز دوره السياسي المحتمل- فهل سيشارك في الآجال الانتخابية القادمة أم سيواصل سياسة الحياد والمحافظة على التوازنات ورعاية المحاصصة الحزبية؟

الانطلاقة الجديدة للثورة: أي دور للاتحاد؟

من الواضح أن المطالب الاجتماعية والسياسية للثورة، بما في ذالك الجزء المعبّر عنه في مشروع الاتحاد، لا تتلاءم مع برامج وأهداف الحكومة التي أفرزتها انتخابات المجلس التأسيسي. وأكثر من ذالك، فهي تتناقض مع كل حكومة يمكن أن يفرزها اقتراع عام" (فصل 32 من مشروع الدستور الاتحاد) مركزي، فوقي، يضع الشعب أمام خيارات محدودة من بين قائمات أوليقاركيا حزبية متنفّذة ومدعومة ماديا وإعلاميا.

إنّ وضع كامل السّلطات بين أيدي فريق صغير من محترفي السياسة، يحكم نيابة عن الشعب لمدة 5 سنوات، ويحتكر جميع الصّلاحيات ويتمتع بامتيازات واسعة ونفوذ قوي لن يؤدّي إلاّ إلى إعادة إنتاج النظام الاستغلالي والقمعي التي قامت ضدّه الثورة. إنّ الانتخابات على هذا النحو تقوم على خدعة أوّلية، هي خدعة الديمقراطية الشكلية التي تكتفي بالمنافسة بين الكبار وتهمّش الأفراد والجماعات الفقيرة. إنها ديمقراطية الأسياد. ولا دور للشعب فيها سوى "اختيار من سيجلده".

إن السبيل الوحيد لتحقيق أهداف الثورة إذن يمرّ عبر استنباط أشكال جديدة لممارسة السلطة وتنظيم الانتخابات ومراقبة المنتخبين. ولا يجب أن يبقى النقابيون بمعزل عن هذا المسار. فحين خرج الشعب الثائر ليطيح برموز السطلة، المنصّبين، ونظم المجالس الشعبية والروابط والتنسيقات الشعبية أصدر بذلك حكمه على مثل تلك الحكامة. غير أنّ بيروقراطيي اليسار رؤوا في استقلالية الهياكل المحلية والجهوية والقطاعية التي تكوّنت بصفة عفوية أثناء الحركة الثورية، خطرا على طموحاته الهيمنية وعلى حظوظ "زعاماته" في القفز إلى كراسي المشاركة في الحكم البائد. وبهذه الروح عمل ما وسعه لوأدها أو تهميشها أو دفعها في أحظان أعداء الثورة.

وإذ يطرح الاتحاد العام التونسي للشغل في مشروعه بعض المطالب الجوهرية دون الانخراط في المسار الثوري الكفيل وحده بتحقيقها يفرغها عمليا من كل محتوى ويفقدها كل مصداقية. فلكي نوفّر الإمكانيات المادية لتفعيل حقّ السكن والتعليم والنقل والعلاج للجميع، يجب إرساء سلطات تباشر فورا الاستيلاء على الأملاك المنهوبة من الشعب واستعادة الأملاك العمومية والثروات الطبيعية المصادرة والمخوصصة، ووضعها تحت تصرّف مجالس محلية وجهوية أو قطاعية منتخبة انتخابا مباشرا يتدرّج من المحلي إلى الجهوي إلى الوطني. ولا يمكن طبعا الحديث عن مثل هذه الإجراءات بدون استكمال مهمة أساسية تعدّ شرطا لكل بناء ثوري: تفكيك دولة الرأسماليين وخدمهم بكلّ أجهزتها وهياكلها التمثيلية والإدارية والقمعية. إن هذا المسار سيعوض الوالي بمجلس ولاية منتخب والمعتمد بمجلس معتمدية منتخب وكذلك الامر في البلديات والعمادات ومجالس إدارة المؤسسات...

ولا بد من التأكيد على الصلاحيات الكاملة لمجالس ممثلي الشعب المنتخبين في التسيير الذاتي وفي التصرف في أملاك الشعب والسهر على توفير الخدمات الاجتماعية المجانية بعد طرد المسؤولين المعيّنين من قبل السلطة المركزية المنحلة وهو ما يتناقض جذريا مع الروح الهيمنية للسياسيين الذين يجتهدون في تهميش لجان "حماية الثورة" الحالية وجعلها مجرّد هياكل صّورية يهيمن عليها المنصّبون، وينحصر دورها في الاستشارة.

إن النقابيين مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بالقطع مع سياسية التوازن والتوافق مع الأعراف ودولتهم، والانحياز بكل وضوح إلى الحركة الثورية التي لا زال يخوضها الشباب والنساء ومواطني الجهات المحرومة بهدف مواصلة الثورة حتّى تحقيق أهدافها. والاتحاد العام التونسي للشغل بما له من طاقات و خبرة في النتظيم والتأطير والتعبئة قادر على إعطاء الثورة زخما حاسما للوصول إلى غاياتها. وبالنظر لواقع المنظمة النقابية آنف الذكر، لن يتسنّ لها أن تلعب مثل هذا الدور إلا متى تحرّرت قواعدها من هيمنة الجهاز البيروقراطي، من جهة، و من هيمنة الأجهزة الحزبية للقوى السياسية الفاعلة في صلبه من جهة أخرى.



#محمد_عمامي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل: دار لقمان على حالهاً (1)
- ديموقراطية الحكماء وديموقراطية الدهماء
- الإسلاميون وحالة الكمون الجديدة
- تونس في مفترق الطرق
- المطالب الاجتماعية الملحة والمهام الثورية
- ليسقط جلاد الشعب لنستكمل مهام ثورتنا!
- اعتصام المصير: استقالة النقابيين لا يجب أن تستمر
- رسالة مفتوحة لأعضاء المؤتمر الوطني لحماية الثورة
- بعض الملاحظات السريعة على بيان جبهة 14 جانفي
- ليس هذا ما يحدث في اتحاد الشغل !
- المعارضة البرجوازية الليبرالية والديمقراطية


المزيد.....




- شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال ...
- مصادر تكشف لـCNN كيف وجد بايدن حليفا -جمهوريا- غير متوقع خلا ...
- إيطاليا تحذر من تفشي فيروس قاتل في أوروبا وتطالب بخطة لمكافح ...
- في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشارالمرض ...
- لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟
- 3 قتلى على الأقل في غارة إسرائيلية استهدفت منزلًا في رفح
- الولايات المتحدة تبحث مسألة انسحاب قواتها من النيجر
- مدينة إيطالية شهيرة تعتزم حظر المثلجات والبيتزا بعد منتصف ال ...
- كيف نحمي أنفسنا من الإصابة بسرطانات الجلد؟
- واشنطن ترسل وفدا إلى النيجر لإجراء مباحثات مباشرة بشأن انسحا ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد عمامي - مؤتمر الاتحاد العام التونسي للشغل: دار لقمان على حالهاً(2)