أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - معادلات سياسية تحكم الثورة المصرية الراهنة















المزيد.....



معادلات سياسية تحكم الثورة المصرية الراهنة


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3609 - 2012 / 1 / 16 - 08:41
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


معادلات سياسية
تحكم الثورة المصرية الراهنة

1: قد يكون عنوان هذا المقال غريبا لأنه قد يوحى بإضفاء طابع الرياضيات على السياسة وبالأخص على ثورة شعبية يغلب عليها طابع العفوية من الناحية الأساسية، وليس طابع الحساب الدقيق، فيكون من الصعب تماما التنبؤ بتطوراتها التى تحكمها عوامل بالغة التعقيد والتشابك. وكأمثلة بارزة: لم يكن بمستطاع أحد أن يتوقع اندلاع ثورة شعبية هائلة كثورة 25 يناير 2011 رغم نضالات كبيرة سبقتها، وحتى رغم اندلاع مظاهرات 25 يناير، ورغم تردى الأوضاع الاجتماعية-الاقتصادية للشعب؛ وهذا على كل حال شأن كل الثورات السياسية الشعبية التى يستحيل التنبؤ بها؛ ولم يكن بمستطاع أحد أن يتوقع أن تتطور الأحداث على طريق الانقلاب العسكرى وتنحية الرئيس بصورة أقرب إلى السيناريو التونسى بدلا من سيناريوهات أخرى كانت واردة منها السيناريو الليبى أو اليمنى أو السورى وبالتالى اختيار طريق التصفية التدريجية للثورة بدلا من طريق الحرب الأهلية؛ وكان كثيرون لا يتوقعون أن يكون اكتساح الإخوان المسلمين والسلفيِّين بهذا الحجم المفزع؛ بالطبع بالاعتماد على الفقر والجهل والمرض أىْ الحالة الفعلية لقطاعات واسعة من الشعب وباستخدام تزييف إرادة الشعب بكل الوسائل ومنها الترويع والتزوير المباشر. لم يكن بوسع أحد أن يتصور تطورات الثورة فضلا عن أن يتوقعها أو يتنبأ بها غير أننى أقصد بهذا التعبير وقائع وحقائق وعوامل وأوضاعا تحيط بالثورة والثورة المضادة وبهذا الصراع المفتوح بينهما وهى بطبيعتها وبجانبها الأكبر أقرب إلى "الوقائع" منها إلى "التوقعات والتنبؤات". ومثل هذه الوقائع أشياء عنيدة مهما قيل إن الثورة المصرية نسيج وحدها بحيث لا يمكن تقييمها على أساس العلم السياسى المقارن ولا على أساس السوابق التاريخية للثورات السياسية المماثلة فى العالم الثالث أو العالم كله، فى التاريخ الحديث أو المعاصر، ومهما قيل عن ارتباط هذه الخصوصية الفريدة بطبيعة الشعب المصرى وسماته وخصائصه الفريدة وطبيعة مكوِّنه الحضارى بحيث يرتبط هذا النوع من التفكير فى كل الأحوال بتفاؤل لا تشوبه شائبة من الشك أو التشاؤم وبمبالغة قد تصل إلى أن ثورتنا سوف تغيِّر العالم مادامت قد انتقلت شرارتها وعدواها المباركة إلى المراكز الرئيسية للنظام الرأسمالى وإلى كثير من توابعه فى العالم الثالث. وبطبيعة الحال فإنه لا يمكن إنكار خصوصية وفرادة وعبقرية كل ثورة سياسية والصعوبة البالغة فى تقدير المدى المتوقع لنجاحها؛ غير أنه لا يمكن أيضا تجاهل خصوصية وفرادة وعبقرية الواقع الاجتماعى السياسى المحلى والإقليمى والعالمى ومختلف القوى الفاعلة فيه والتى قد تكون شروطا مواتية أو غير مواتية لنجاح الثورة والتى لا يمكن مع ذلك أن تضع حدودا جبرية حديدية تسجن بداخلها كل جدل الصراع المفتوح بين الثورة والثورة المضادة بكل جوانبه الأساسية وبكل تفاصيله. فما هى هذه الحقائق الفاعلة فى تطورات ثورتنا والتى لا ينبغى تجاهلها بحال من الأحوال والتى ينبغى أن نجعل من فهمها على وجهها الصحيح قوة مضافة إلى الثورة وقواها الحقيقية.
2: وتتمثل المعادلة الأولى والأساسية للثورة فى سياقها التاريخى. فهى ثورة من الثورات السياسية النموذجية لشعوب العالم الثالث (إذا وضعنا نضالات حركات الكفاح المسلح جانبا)، لأنها ثورة سياسية فى سياق التبعية الاستعمارية والرأسمالية التابعة كما هو حال العالم الثالث. ولا شك فى أنها ليست ثورة اشتراكية لأنها ليست ثمرة نضال اشتراكى ثورى للطبقة العاملة بقيادة حزب شيوعى ثورى فى سبيل انتصار الثورة الاشتراكية. كما أنها ليست ثورة سياسية تتوِّج ثورة اجتماعية لتحويل مصر إلى بلد صناعى مستقل فى الإطار التاريخى للنظام الاجتماعى الرأسمالى؛ ذلك أن حالة الثورة السياسية الرأسمالية يسبقها تحول رأسمالى تدريجى طويل للصناعة الحديثة والسوق الرأسمالية والرأسمالية الزراعية والتقدم العلمى والثورة الفكرية والأدبية التقدمية التى تمهِّد للتغيير الثورى، وهو تحوُّل يحتاج إلى ثورة سياسية تزيل كافة العراقيل من طريق هذا التحول الرأسمالى ليواصل تطوره على مدى زمن طويل آخر بعد الثورة السياسية إلى أن يحقق النظام الرأسمالى نضجه واستقراره؛ ولم تعرف مصر ولا بلدان ثورات الربيع العربى ولا بلدان العالم الثالث مثل هذا التطور نتيجة لوقوعها تحت سيطرة التبعية الاستعمارية فى المستعمرات وأشباه المستعمرات. وإذا كانت إحدى المهام الكبرى للثورة السياسية فى سياق ثورة اجتماعية أىْ فى سياق تحول رأسمالى جذرى تتمثل فى نقل السلطة السياسية من أيدى طبقة اجتماعية قديمة إلى أيدى الطبقة الرأسمالية التى قادت الثورة بمصالحها والأيديولوجيا الخاصة بها فإن ثورات العالم الثالث لا تنقل السلطة من طبقة إلى طبقة؛ فباختصار تتواصل التبعية الاستعمارية وتتواصل سيطرة الرأسمالية التابعة وتتواصل سلطتها السياسية. وهناك استثناء وارد عندما يتسع نطاق المواجهة من خلال حرب أهلية أو من خلال انقلاب عسكرى حيث تجرى إعادة تكوين طبقة رأسمالية تابعة جديدة من حيث أفرادها مستمرة من حيث طبيعتها الرأسمالية التابعة أىْ أنه لا يتغير شيء جوهرى من وجهة نظر مصلحة الشعب حيث لا فرق بين طبقة رأسمالية تابعة قديمة تتكون حول شاه إيران وطبقة رأسمالية تابعة جديدة تتكون حول آيات الله فى إيران الجديدة. ومن هنا شهدت مصر ثورة 1919 وانقلاب 1952 العسكرى الذى أيده الشعب فصار بنعمة الله ثورة شعب وتشهد الآن ثورة 25 يناير 2011؛ غير أن التبعية الاستعمارية والطبقة الرأسمالية التابعة تتواصلان رغم إعادة تكوين الطبقة المالكة مرتين على الأقل فى أعقاب الانقلاب العسكرى فى 1952 ومن خلال سياسة الانفتاح وبيع القطاع العام فى عهدىْ السادات و مبارك. وهذه معادلة اجتماعية اقتصادية سياسية تحكم ثورتنا والثورات العربية الراهنة فهى ليست ثورات اشتراكية كما أنها ليست حتى ثورات رأسمالية لخلق بلدان صناعية مستقلة وهى تجرى بالتالى فى سياق استمرار التبعية الاستعمارية والطبقة الرأسمالية التابعة؛ فهل يجوز بعد كل هذا وصفها بأنها ثورات سياسية مع أنها لن تنقل السلطة السياسية إلى الشعب من خلال ممثلين حقيقيِّين له ولثورته؟ والواقع أن السلطة تبقى للرأسمالية فى واحد من شكليْها المحتمليْن: سلطة نفس الطبقة المالكة الرأسمالية التابعة الراهنة فى حالة الثورتيْن المصرية والتونسية، فى حالة استمرار نفس السيناريو الحالى، أو سلطة طبقة رأسمالية تابعة جديدة تتكون من خلال نُخَب جديدة تتمخض عنها الحرب الأهلية كما يحدث الآن فى ليبيا وكما يُحتمل أن يحدث غدا فى سوريا وربما فى اليمن. فلماذا نصف هذه الثورات بأنها سياسية مع أنه ليس من الوارد أن تستولى الثورات أو الشعوب على سلطة الدولة؟ الحقيقة أننا نصف هذه الثورات بأنها سياسية لأنها تهدف - إلى جانب أهداف ومطالب العدالة الاجتماعية وتغيير أسس توزيع الثروة – إلى إعادة تنظيم أسس ممارسة السلطة السياسية انطلاقا من تحقيق وممارسة الديمقراطية الشعبية من أسفل، وهذا مفهوم للثورة السياسية يختلف تماما عن المفهوم الكلاسيكى للثورة السياسية فى العصر الحديث كما حدثت فى البلدان التى صارت بلدانا صناعية متقدمة.
3: وبطبيعة الحال فإن القوى الفاعلة التى تشكل ذلك الحَدَّ من المعادلة الذى يخص الثورة المضادة أىْ بالسياق التاريخى المتمثل فى التبعية للرأسمالية العالمية المشار إليها فى الفقرة السابقة تتألف من تحالف واسع النطاق محليا وعربيا وعالميا: الرأسمالية الإمپريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والأنظمة العربية بقيادة المملكة العربية السعودية فى تحالف واسع مع الأنظمة المحلية وهو تحالف بعيد تماما عن البساطة. وفى مصر تتألف قوى الثورة المضادة من الطبقة الرأسمالية التابعة المالكة وكان "حُكْم الشخص" (مبارك وأسرته) يمنع الطبقة المالكة من أن تكون طبقة حاكمة كما كانت تمنع الحزب الوطنى الديمقراطى "الحاكم" من أن يكون حزبا حاكما حقيقيا، وبالتالى كان جانب كبير من الاضطهاد والقهر يقع على الطبقة المالكة والحزب الوطنى الديمقراطى رغم المصالح وحتى الإمپراطوريات الاقتصادية الواسعة ورغم قِيَم وممارسات الفساد الواسعة النطاق التى شملت الحياة السياسية والاقتصادية والدولة والمجتمع من القمة إلى القاع. وتتألف هذه الطبقة الحاكمة التابعة للإمپريالية العالمية من قطاعات ذات أيديولوچيات سياسية متباينة فهى قطاعات يملكها رجال أعمال ينتمون إلى الحزب الوطنى وجماعة الإخوان المسلمين والسلفيِّين والأحزاب الليبرالية القديمة والجديدة بالإضافة إلى ما يملكه الجيش كمؤسسة وچنرالاته كرجال أعمال بصورة مباشرة أو غير مباشرة. فإذا كانت الثورة بعيدة تماما عن أن تكون ثورة اشتراكية وعن أن تكون ثورة اجتماعية ذات محتوى رأسمالى صناعى استقلالى، وإذا كانت سلطة الدولة ستبقى لنفس الطبقة، ومادامت تتصارع طموحات قوى سياسية متنوعة تنتمى إلى نفس الطبقة للانفراد بالسلطة أو للمشاركة فيها بقوة، فى وقت يتصاعد فيه مطلب تسليم السلطة من المجلس العسكرى إلى المدنيِّين ويتقدم فيه حزب الإخوان المسلمين بأغلبيته الپرلمانية بالائتلاف مع السلفيِّين أو غيرهم باعتباره المقصود بالمدنيِّين مع معارضته لفكرة الدولة المدنية، فما هى المعادلات السياسية التى تحكم التطورات السياسية المقبلة من أعلى أىْ من حيث إعادة بناء مؤسسات الدولة وأجهزتها؟
4: رأينا فى الفقرة الثانية أن المعادلة السياسية التاريخية البنيوية الإستراتيچية تحكم على الثورة بألا تتجاوز الحدود التاريخية لثورة فى العالم الثالث حيث تتواصل التبعية الاستعمارية واقتصاد وسلطة الرأسمالية؛ كما رأينا أن الانقلاب العسكرى الذى أطاح ب مبارك تحت ضغط الثورة الشعبية لحماية النظام وتصفية الثورة اختار سيناريو التصفية التدريجية للثورة بدلا من سيناريو الحرب الأهلية؛ لماذا؟ لأن سيناريو الحرب الأهلية المتواصلة إلى النهاية لا مناص من أن يؤدى إلى نجاح الثورة وتصفية النظام الحاكم والطبقة المالكة ذاتها وتكوين طبقة رأسمالية تابعة جديدة وإعادة بناء سلطتها كما تبيِّن تجارب تاريخية كثيرة. وبالتالى فإن هذه المعادلة السياسية الظرفية، أىْ سيناريو التصفية التدريجية للثورة بدلا من سيناريو الحرب الأهلية التى هى من الناحية الجوهرية تصفية عنيفة للطبقة المالكة ذاتها ودولتها ونظامها، تحكم على قوى الثورة المضادة فى مصر بالدخول، مهما تحالفت واتحدت فى مواجهة الثورة وقواها، فى مرحلة مباشرة من الصراع على السلطة فيما بينها، وهنا تتعدد الانتخابات الپرلمانية والرئاسية والاستفتاءات ويتكاثر المرشحون المحتملون لرئاسة جمهورية لم يوضع الدستور الذى سيقرر هل ستكون رئاسية أم پرلمانية ولم يتحدد بالتالى مدى أهمية منصب رئيس الجمهورية فى الترتيبات القادمة، ويشتد على وجه الخصوص اشتباك قوى الثورة المضادة فى صراع محتدم على الانفراد بالسلطة أو تقاسمها. ولا جدال فى أن تناقضات المصالح بين قوى الثورة المضادة تصب فى مصلحة تطور الثورة وسيرها إلى الأمام ونجاحها حيث تمثل قوة مضافة إلى قوى الثورة.
5: وفى هذا السياق للمعادلة للبنيوية الإستراتيچية والمعادلة الظرفية التاكتيكية تتكاثر التقديرات والتوقعات والتنبؤات سواء من حيث استمرار انتهاج المجلس العسكرى الحاكم للسيناريو التدريجى فى تصفية الثورة بعيدا عن سيناريو الحرب الأهلية فى ليبيا وسوريا واليمن أو من حيث الصفقات والتحالفات والائتلافات فيما بين المجلس العسكرى والإسلام السياسى والليبرالية اليمينية والحزب الوطنى المنحل قانونا القائم فعليا وهى الصفقات والتحالفات والائتلافات التى ستحكم التطورات المؤسسية القادمة. فهل يستمر وإلى متى سيناريو التصفية التدريجية للثورة من خلال احتوائها وتفريغها من محتواها؟ من الجلى بطبيعة الحال أن المذابح التى ارتكبها المجلس العسكرى الحاكم فى ماسپيرو وشوارع محمد محمود وقصر العينى ومجلس الشعب والشيخ ريحان وغيرها تدفع فى اتجاه تصوُّر أن يتخلى چنرالات المجلس العسكرى بصورة تدريجية عن السيناريو الحالى منزلقين فى اتجاه سيناريو الحرب الأهلية ضد الثورة. غير أن احتمال هذا التحول ضئيل للغاية فى تقديرى الذى يقوم على أخذ مصلحة الطبقة الرأسمالية التابعة ودولتها ونظامها ومجلسها العسكرى فى الاعتبار، ذلك أن سيناريو الحرب الأهلية سيكون مدمِّرا تماما للطبقة الرأسمالية ذاتها، ولا ينبغى مطلقا أن نستبعد أن چنرالات المجلس العسكرى ومستشاريه المحليِّين والأمريكيِّين يدركون هذه الحقيقة بكل وضوح. وهناك سبب آخر بالغ الأهمية هو أن سيناريو الحرب الأهلية يمكن أن يؤدى فى مرحلة من مراحله إلى رفض المجتمع الدولى للنظام المصرى إدراكا منه لحقيقة أن بلوغ الحرب الأهلية إلى مرحلة خطيرة تكاد تساوى نهاية النظام مما يجعل من صميم مصلحة الغرب الرهان على خيول أخرى. على أن بين هذين السيناريوهين مساحة تجعل المذابح غير مستبعدة دون أن تصل إلى حد الانزلاق إلى الخيار الأسوأ الذى يشكل كارثة على الحكام قبل المحكومين. وبالطبع فإن معادلة تفادى الحرب الأهلية، هذه المعادلة التى تتفق مع مصلحة الطبقة الحاكمة، تتوقف فى نهاية المطاف ليس على مجرد وجود المصلحة بل على السلوك السياسى الفعلى بما يتفق معها بعيدا عن الغباء السياسى الذى يعتمد الحل الأمنى بصورة كلية كما رأينا غير مرة مع الاستعانة بأبواق الدعاية دون تقديم أىّ تنازل حقيقى، ولا شك فى أن الغباء السياسى عامل أساسى من عوامل التاريخ كله قديمه وحديثه ومعاصره.
6: أما الصفقات والتحالفات والائتلافات فيما بين المجلس العسكرى وأحزاب الإخوان المسلمين والسلفيِّين وأحزاب الليبرالية اليمينية وأحزاب الحزب الوطنى، وهى الصفقات والتحالفات والائتلافات التى ستحكم التطورات المؤسسية القادمة، فإنها تثير أسئلة لا تنتهى: هناك أولا سؤال تطرحه بكل قوة تطورات ترتَّبت عليها تقديرات أكدتها تطورات جديدة، فقد فتحت الثورة الباب واسعا لجماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية والجهادية المختلفة للإسلام السياسى بدخول معترك الحياة السياسية الرسمية بفضل الشرعية التى اكتسبتها هذه القوى من خلال المشاركة فى بعض أيام الثورة فى أواخر يناير وأوائل فبراير 2011، ومن خلال تفاوضها مع نظام مبارك قبل تنحيته ومع المجلس العسكرى بعد ذلك، وتوطدت صفقات الإخوان المسلمين بالذات مع المجلس العسكرى فأبلوا بلاء حسنا فى مقاومة الثورة وقواها واحتجاجاتها ومظاهراتها واعتصاماتها وإضراباتها وعملوا كاسرى إضراب لمصلحة المجلس العسكرى وترسخت الصفقة بتصدى الإسلام السياسى كله لتمرير مهزلة التعديلات الدستورية والإعلان الدستورى وكل فرمانات المجلس العسكرى وللدفاع عن المجلس فى كل إجراءاته وحتى جرائمه فى كثير من الأحيان وصولا إلى الانتصار الساحق فى الانتخابات الپرلمانية من خلال تزييف إرادة الشعب مستعينين بالجهل والفقر والمرض لدى قطاعات من الشعب وبالترويع والتزوير المباشر، وصولا إلى الإصرار على تشكيل الحكومة وإعداد الدستور والبحث عن مرشح ملائم لهم لمنصب رئاسة الجمهورية بالإضافة إلى الاتصالات مع أمريكا والتطمينات لأمريكا وإسرائيل بشأن معاهدة السلام وووعود وإشارات التأقلم مع المجتمع الدولى. وبطبيعة الحال فإن السؤال المنطقى مع كل هذا هو: هل يعنى تسليم المجلس العسكرى السلطة للمدنيِّين تسليمها لحزب العدالة والحرية الإخوانى ولأىّ ائتلاف محتمل له مع السلفيِّين؟ ويرد المجلس العسكرى بالقول بأن مدنية الدولة خط أحمر، وبأن الجيش سيتمتع دستوريا بحصانة ميزانيته، وبأن تشكيل لجنة إعداد الدستور لن يُترك للإسلام السياسى، وينشر شائعات حول انزعاجه الشديد بسبب الانتصار الساحق للإخوان والسلفيِّين وسوء أداء الليبراليِّين كما قيل، كما يروِّج لفكرة أن مصر جمهورية رئاسية وأن تشكيل الحكومة بالتالى لا يقوم على الأغلبية الپرلمانية لحزب أو تحالف بين أحزاب بل يكلف رئيس الجمهورية من يشاء رغم أن الممارسة الفعلية فى عهود عبد الناصر و السادات و مبارك تمثلت فى تكليف حزب النظام الذى كان دائما حزب الأغلبية (فى شكل الاتحاد القومى أو الاتحاد الاشتراكى أو الحزب الوطنى الديمقراطى) بتشكيل الحكومة؛ وكل هذا لا يُطَمْئِن كثيرين يرون أن الطغمة العسكرية والولايات المتحدة والسعودية تعمل معا على تسليم السلطة للإخوان باعتبارهم الأقدر سياسيا وأيديولوچيًّا على تصفية الثورة وحماية النظام الرأسمالى التابع للإمپريالية. ومهما يكن من شيء فإننا لا نستطيع أن نتجاهل مصاعب حقيقية أمام هذا الاحتمال الذى لا يجوز أيضا استبعاده بصورة مطلقة. ذلك أن "تمكين" السيطرة الإخوانية سوف يشكل تهديد محتملا إلى حد كبير على المجلس العسكرى وچنرالاته ويهدد بحبس الطبقة المالكة التى تريد أن تعيش فى العالم المعولم اقتصاديا وثقافيا وترفيهيا فى قمقم نظام أشبه بالسعودية منه بتركيا بالإضافة إلى أنه لا يملك حلا سحريا للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية لمصر ولا قدرةً على تحقيق أهداف ومطالب الثورة ولا رغبةً فى ذلك ولا مهربا من ذلك، كما أنه بحكم طبيعته الأيديولوچية وبحكم حلفائه المرجَّحين والجماعات المتطرفة التى ستنشأ تحت مظلته أو تهبط من معطفه، وبحكم عدم خبرته فى الحكم والإدارة، سيكون الأكثر استعدادا للانزلاق إلى مواجهة تفتح الطريق أمام سيناريو الحرب الأهلية والصراع الطائفى؛ هذا السيناريو الذى سبق أن رأينا أنه سيكون كارثة على الطبقة ودولتها ونظامها. وبالتالى فإن احتمال صعود الإسلام السياسى إلى سدة الحكم فى مصر لا يزعج الثورة والمثقفين فحسب بل يزعج أيضا قطاعات حاسمة من الطبقة الحاكمة والنظام. على أن أنصاف الحلول جاهزة على كل حال وهى تتمثل فى السيطرة الفعلية من وراء الكواليس للمجلس العسكرى مهما كانت الأغلبية الپرلمانية ومهما كان الحزب الذى سيشكل الحكومة ومهما كان شخص رئيس الجمهورية وذلك لفترة طويلة بما فيه الكفاية لاستقرار النظام من جديد. لماذا؟ لأن المجلس العسكرى هو الذى يمثل القوة الأساسية المؤهلة لحماية النظام فى نظر القوى المحلية والعالمية والعربية الفاعلة فى التطورات فى مصر والعالم العريى وعلى وجه الخصوص أمريكا والغرب وكذلك دول الخليج (بالإضافة، فيما يتعلق بدول الخليج، إلى دعم قوى الإسلام السياسى فى مصر خاصةً من جانب السعودية وقطر). ورغم أن الغرب لم يعد يرحب بالانقلابات العسكرية والأنظمة العسكرية التى تتمخض عنها فإن دوله تحدد مواقفها وفقا لمصالحها وليس وفقا لمبادئها الديمقراطية المزعومة، كما أنها ستبرر موقفها من النظام المصرى بدعوى أن الانقلاب جاء فى سياق ثورة شعبية ضد نظام مبارك وأنه كان ضروريا لتفادى مستويات أعلى من العنف. ولكن هل يمكن أن ينقلب موقف الإخوان المسلمين إذا أصرّ المجلس العسكرى على إقصائهم مما يرون أنه حقهم الطبيعى فى تشكيل الحكومة وتكوين لجنة إعداد الدستور بحيث يتحولون إلى معارضة حقيقية للنظام العسكرى؟ غير أنهم جعلوا المجلس العسكرى أملهم وبوابتهم إلى مستقبل قد لا ينبغى تعجُّله وكما كانوا يهادنون مبارك على طول الخط ويريدون الآن أن ينفردوا بغنائم إسقاطه دون وجه حق من نضال حقيقى ضد نظام مبارك ودون مشاركة حقيقة فى الثورة ضده مستخدمين مشاركتهم الانتهازية القصيرة جدا فى الثورة (لمدة أسبوعين) كمؤهل للقفز على السلطة تحت السيطرة الفعلية العليا للمجلس الأعلى فإنهم ومن باب أولى سيقدمون فروض السمع والطاعة للمجلس العسكرى الذى "اضطر" فى ظروف عصيبة إلى منحهم فرصة عمرهم السياسى.
7: وبالطبع فإن التعارضات والتناقضات فى صفوف قوى الثورة المضادة لا تقف عند هذا الحد غير أن التناقض بين القطاعات الحاسمة من الطبقة المالكة، التى تتطلع الآن إلى أن تكون طبقة حاكمة حقا بحزب يعبِّر عنها، مع الأيديولوچيا السياسية للإخوان والسلفيِّين وبالتالى التناقض بين هؤلاء الأخيرين وبين المجلس العسكرى الذى يعمل على تحويلهم إلى بيادق فى لعبته الكبرى هما أهم هذه التناقضات وبإدراكها والاستفادة منها يمكن للثورة أن تأتى بقوة مضافة إلى قوتها وقواها من خارجها، حيث تفتح شبكة معقدة من العلاقات والتعارضات بين القوى الرأسمالية المحلية والإقليمية والعالمية ثغرة حقيقية فى وحدة ليست جرانيتية بالمرة بين قوى الثورة المضادة. وذلك بدلا من إغماض العين عن هذه التناقضات والنظر إلى وحدة مختلف قطاعات الطبقة المالكة فى مصر وكأنها وحدة فولاذية أو جرانيتية لا تترك مجالا لاختلاف الرؤى وحتى المصالح الفرعية داخل الطبقة وكأن مبارك والإخوان كانوا يمثلون تحالفا مقدسا ليقوم بإحيائه الإخوان والمجلس العسكرى!
8: وفى هذا السياق من العوامل الحاكمة لسيرورة وصيرورة جدل الصراع بين الثورة والثورة المضادة فى مصر، وهى تتمثل فى عوامل سلبية تحدد طبيعة الثورة وتَحُدّ من آفاقها ولا تفتح أمامها سوى أفق الأهداف العقلانية بعيدا عن أوهام الرؤوس الساخنة كما تتمثل فى عوامل أخرى إيجابية بصورة واضحة؛ فى هذا السياق لا تكتمل المعادلة إلا بوضع حَدِّها الآخر فى مكانه، وأعنى قوى الثورة التى تتصاعد أنشطتها الثورية التمهيدية هذه الأيام استعدادا لموجة كبرى مأمولة من موجات ثورة يناير. وفيما تقترب الذكرى السنوية الأولى لثورة يناير المجيدة المستمرة، تتطلع قوى الثورة إلى تلك الذكرى على أمل تحويل الذكرى إلى إحياء وتجديد وإلى انطلاقة كبرى جديدة. فهل يوجد لهذا الأمل فى إحياء الثورة ما يبرره حقا؟ والواقع أن الثورة لم تمت حتى نفكر فى إحيائها، ولن نعود بالذاكرة إلى الوراء سوى أسابيع قليلة لنرى الثورة فى عنفوانها فى موجتها التى بدأت فى 19 نوڤمبر وتواصلت حتى الثلث الأخير من ديسمبر، أىْ الشهر الماضى، بعد أن أسقطت حكومة عصام شرف، وفرضت على المجلس العسكرى بهلوانيات جديدة مثل تقديم تاريخ تسليم السلطة لرئيس جمهورية منتخب وتشكيل المجلس الاستشارى، على أن الإنجاز الأهم لتلك الموجة الثورية تمثل فى تلقين المجلس العسكرى درسا بالغ القسوة فحواه ألا يفكر مرة أخرى فى استخدام العنف ضد احتجاجات الشعب كما فعل مع مجموعة صغيرة من المحتجين من أهالى الشهداء والمصابين فكان ذلك الحدث شرارة انطلاق موجة 19 نوڤمبر الثورية التى كانت فى جانب من جوانبها علامة بارزة فى مسيرة الثورة فى مجال الدفاع عن الممارسة الفعلية لحقوق وحريات الاحتجاج والتظاهر والاعتصام والإضراب دون تدخل أمنى، وكانت من الناحية الموضوعية بالطبع تمهيدا مباشرا للفعل الثورى فى الذكرى السنوية الأولى للثورة فى 25 يناير 2011. أىْ أنه لا يفصلنا عن نهاية تلك الموجة الثورية سوى أقل من شهر! كما شهد هذه الشهر الفاصل بين موجة ثورية مضت وموجة ثورة كبرى مأمولة نشاطا لم يتوقف: مؤتمرات ومسيرات وحملات فى الأحياء فى سبيل مزيد من تسييس الشعب وفضح سياسات وممارسات وأكاذيب الثورة المضادة بقيادة المجلس العسكرى؛ ولم يمرّ يوم واحد دون احتجاجات جديدة فى كل مكان بمسيرات وإضرابات واعتصامات ومظاهرات ووقفات احتجاجية وقطع للطرق والسكك الحديدية على نطاق واسع رغم دهشة رئيس الوزراء الجديد القديم، الجنزورى، متسائلا عن كنه الصلة بين الانتخابات وقطع الطرق متناسيا أن قطع الطرق والسكك الحديدية ارتبط ليس بالانتخابات بل بتفاصيل بعينها فيها ولكنْ أساسا بسبب رغيف العيش مرة وأنبوبة البوتاجاز مرة أخرى وجوع الشعب إلى الخبز والوقود والدفء فى شتاء الجنزورى القارس، وطوال الفترة التالية للثورة وحتى الآن تشهد ردود الفعل الجماهيرية البالغة القوة وحتى العنف على الأوضاع المتردية على أننا فى زمن الثورة وعلى سبيل المثال تحوَّل الاحتجاج على مصنع أجريوم الخطير إلى ثورة فى دمياط كما تحوَّل الاحتجاج على محطة الضبعة النووية فى محافظة مرسى مطروح إلى اقتحامها وتدمير المنشآت النووية فيها ومثل هذه التطورات عديدة ومعنى هذا أن الشعب المصرى قد ابتعد عن الاستكانة وصار يرد على المظالم بقوة وحسم رغم مطالبة المجلس العسكرى للشعب بالصبر على الجوع والتشرد والمرض صبرا جميلا إلى أن يأتى فرج قريب ليس على الله ببعيد! ويضاعف من الغضب الشعبى والثورى الموقف المتواطئ الذى يقفه المجلس العسكرى تجاه الانتخابات الپرلمانية، فرغم الوقائع التى تتواتر أنباؤها عن تزوير واسع النطاق يصل حجمه وفقا لبعض التقديرات إلى ملايين الأصوات، ورغم صناديق بطاقات الانتخابات التى كانت ملقاة فى الشوارع والطرق، ورغم اتساع نطاق الانتهاكات لقانون الانتخابات، ورغم اتساع نطاق الطعون والشكاوى والشكوك، لا يحرك المجلس العسكرى ساكنا محتفلا بهذا العرس الديمقراطى الفريد الذى كان فى الواقع من أسوأ الانتخابات فى تاريخ مصر وكان أسوأها من حيث خوضها تحت رايات طائفية مسعورة، ويسلك المجلس العسكرى هنا أيضا سلوك النعامة التى تدفن رأسها فى الرمل فلا ترى؛ غير عابئ برد الفعل الشعبى والثورى على هذا السلوك استمرارا لنفس الغباء السياسى، ولكنْ أيضا استمرارا بالخطة الجهنمية التى وضعها لإغراق الشعب والثورة فى سلسلة لا نهاية لها من الانتخابات والاستفتاءات المتكررة كسلاح أساسى فيما يسمى بالمرحلة الانتقالية لإبعاد الشعب عن الفعل الثورى. وتمثلت نتائج الانتخابات التى لا يصدقها عقل يعرف مبادئ حساب الاحتمالات، أو حتى أىّ حساب، فى هذا الپرلمان الطائفى الشائه الباطل الذى جاء على هذا النحو بفضل كل وسائل وأدوات تزييف إرادة الشعب ومنها التزوير المباشر والأصوات المدفوعة الثمن وتصويت ملايين الأميِّين وتسويد البطاقات الانتخابية. فنحن إذن على موعد لا شك فيه مع ردّ الفعل الثورى على كل هذا فى الذكرى الوشيكة للثورة!
9: ومنذ الإضرابات العمالية فى المرحلة الأولى من الثورة واتساع نطاق الاحتجاجات العمالية والمهنية المسماة بالفئوية ورغم انتشار احتجاجات واسعة الانتشار ولكنْ فى مناطق متباعدة طوال الفترة السابقة، ظل تركيز الفعل الثورى العام المركز فى ميادين وشوارع مصر تتخذ شكل الموجات الثورية التى كانت تحقق منجزات مهمة وتكشف عن مستويات أعلى من الوعى والتسييس وعن انقشاع الأوهام عن المجلس العسكرى أو عن حكومة عصام شرف وتأتى مرة بالرئيس السابق إلى القفص متَّهَما بارتكاب أبشع الجرائم وتسقط حكومة عصام شرف مرة أخرى إلى جانب منجزات أخرى عديدة أهمها جعل ممارسة حقوق الاحتجاج بكافة أنواعه خطا أحمر لا يجوز للمجلس العسكرى أن يتخطاه. ويمكن القول إن حركة الثورة من خلال هذه الموجات الثورية اقتصرت على القوى الثورية اليسارية والتقدمية والاشتراكية والليبرالية اليسارية والديمقراطية الأكثر إخلاصا للثورة وأهدافها، أىْ أنها اقتصرت على دائرة واسعة ملأت الميادين والشوارع ظلت نواتها الصلبة هى القوى التى مهدت للثورة وأطلقت شرارتها وقادتها واستمرت بها من خلال الموجات الثورية وفيما بينها. وصمدت هذه القوى الثورية بصلابة وبسالة فى مواجهة كل قوى الثورة المضادة وبالأخص المجلس العسكرى وأدواته الأمنية والإعلامية المباشرة وقوى الإسلام السياسى من إخوان مسلمين وسلفيِّين، هذه القوى التى ظلت تهاجم الثورة والثوار بضراوة وحشية. وإذا كنا نتحدث عن فعل ثورى كبير مأمول فى المدى الوشيك الذى تمثله الذكرى الأولى للثورة فإنما نتحدث فى المحل الأول على فاعلية هذه القوى الثورية، التى يظل التحدى الكبير أمامها هو مدى قدرتها على أن تكون قاطرة تجذب إلى الفعل الثورى من جديد الملايين من بنات وأبناء الشعب المصرى. ومن المتوقع بالطبع أن تفرض الدولة وقوى الإسلام السياسى طابعا احتفاليا خالصا على يوم 25 يناير بالذات غير أن الفترة اللاحقة يمكن أن تكون ملكا خالصا لقوى الثورة بعزيمة متجددة.
10: على أن الحدّ الثورى الكبير فى معادلة الصراع المفتوح بين الثورة والثورة المضادة يتمثل فى الطبقة العاملة وبقية الطبقات الشعبية. وكانت الثورة قد اكتسبت طابعها الطبقى بانضمام عشرات الملايين من أفراد هذه الطبقات مدفوعة بضرورة تغيير شامل وعميق لأوضاعها الاجتماعية الاقتصادية المتردية ولم تتغير تلك الأوضاع بل تفاقمت وازدادت تدهورا خلال العام المنصرم بعد الثورة مع تفاقم التضخم والبطالة. وكان الطابع الطبقى للثورة يتأكد ليس فقط من خلال انفجار غضب الملايين فى الشارع والميدان بل كذلك من خلال الإضرابات العمالية التى كانت حاسمة فى الأسابيع الأولى للثورة. كما كان هذا الطابع الطبقى المباشر للثورة يتأكد من خلال التركيز على المطالب المتعلقة بالحد الأدنى الأجور وبأدوات النضال المتمثلة فى حق تكوين النقابات وحق الإضراب وغير ذلك. وزعم المجلس العسكرى أن تحقيق هذه المطالب مستحيل من الناحية المالية فى الوقت الحاضر وقدم نصيحته الغالية بل أمره العالى للشعب كله بالصبر الجميل. ولأن الثورة حلقات متماسكة فإن من شأن عودة الطبقة العاملة إلى الإضراب الواسع النطاق لتحقيق أهداف الثورة من شأنها أن تجذب إلى الاحتجاج والثورة كافة العاملين والمهنيِّين والعكس صحيح. ومن الخطأ الفادح بطبيعة الحال أن نجزم باستئناف الطبقة العاملة والطبقات الشعبية لحركتها الإضرابية فى فترة بعينها استنتاجا من تردى أحوالها الاجتماعية الاقتصادية التى كانت قائمة على كل حال طوال عقود طويلة. غير أن واقع أننا نعيش فى زمن الثورة، فى زمن شهد حركة إضرابية خلال العام المنصرم وبالأخص فى بداياته دون أن تتحقق أهداف تلك الحركة، فى زمن ثبت فيه أن نظام الطغمة العسكرية لا يحمل بشارة للشعب، فى زمن شهد تنظيم مذابح لبنات وأبناء الشعب، فى زمن عمدت فيه الدولة إلى إرهاب الدولة باستخدام العنف المفرط من جانب الشرطة والجيش واستخدام واسع النطاق لسلاح الترويع بتنظيم جيش كامل من البلطجية وإطلاق سراح المجرمين ليعيثوا فى الأرض فسادا؛ ... هذا الواقع يجعل من استئناف الحركة العمالية الإضرابية فى مدى منظور احتمالا له ما يبرره بل حتى يرجِّحه. ومهما يكن من شيء فإن حقيقة أن ثورة الطبقة العاملة فى سبيل تحسين شروط استغلالها وأدوات نضالها من العوامل الحاسمة فى المعادلات السياسية التى تحكم الثورة تجعل من انفجار هذه الثورة شرطا لا غنى عنه لنجاح الثورة فى تحقيق أهدافها التى أمكن إيجازها فى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، كما يمكن إيجازها أيضا فى عبارة الديمقراطية الشعبية من أسفل. ويخشى كثيرون أن تكون هذه الثورة مستبعدة انطلاقا من الاكتساح الانتخابى الذى حققه الإخوان المسلمون والسلفيون بما يعنى تأييد الطبقة العاملة والطبقات الشعبية والفقراء كافة للإسلام السياسى الذى يقف بحزم ضد الثورة والذى يجعل من المجلس العسكرى صنما معبودا من دون اله . غير أننا رأينا الوسائل التى تحقق بها هذا الاكتساح. وإذا كان الإسلام السياسى ينطلق ليس من الأيديولوچيا الخاصة به بل من مصالح الطبقة المالكة التى يمثل تعبيرا سياسيا عن قطاعات مهمة فيها فإن الطبقة العاملة بدورها لها مصالح لا تلتقى بمصالح تلك الطبقة وتدركها بوضوح متزايد مع التسييس المتزايد الذى تأتى به الثورة كل يوم.
11: والحقيقة أن الديمقراطية الشعبية من أسفل هى الثمرة النضالية الحلوة التى تخرج بها الشعوب من ثوراتها الناجحة فى كل مكان. وهى لا تعنى أن المجتمع أو البلد قد صار ديمقراطيا أو أن الدولة قد صارت ديمقراطية. فالمجتمع الطبقى لا يكون ديمقراطيا كما أن الدولة التى هى أداة فى أيدى الطبقة الاستغلالية الحاكمة لا يمكن أن تكون ديمقراطية، بل لا مناص من أن يكون هذا المجتمع ديكتاتوريا ولا مناص من أن تكون هذه الدولة ديكتاتورية. وتعنى الديمقراطية الشعبية من أسفل أو الديمقراطية من أسفل أو الديمقراطية ببساطة أن تمتلك الطبقات الشعبية أدوات النضال والحقوق والحريات التى انتزعتها وصارت تمارسها، والإطار العام الديمقراطى الذى صارت تفرضه على الطبقة الحاكمة ودولتها ونظامها وتنظيمها للمجتمع. وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية الشعبية من أسفل فى الأحزاب المتعددة المستقلة عن سلطة ونظام ودولة الطبقة الحاكمة، هذه الأحزاب التى تفرض التعددية الحقيقية على البلاد، وتتمثل فى النقابات العمالية والمهنية المستقلة التى تدافع بفعالية عن حقوق وحريات الطبقات الشعبية فلا تمثل نفوذ السلطة الحاكمة على هذه الطبقات كما يكون الحال فى الدولة الإدماجية (الكورپوراتية)، وتتمثل فى مختلف أشكال جمعيات المنتجين الصغار واتحادات المستهلكين، وتتمثل فى الصحافة الحرة التابعة للأحزاب والنقابات ومختلف الجماعات التى تنتمى إلى الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين وفقراء الريف والمدينة، وتتمثل فى استقلال القضاء والتحقيق الفعلى لكل المطالب العادلة للقضاء الجالس والقضاء الواقف وتمتُّع المواطنين جميعا بالتقاضى أمام قاضيهم الطبيعى بعيدا عن القضاء الاستثنائى والعسكرى، وتتمثل فى انتزاع مكاسب عينية كبرى مثل التحقيق الفعلى للحد الأدنى العادل للأجور المربوطة بتطور الأسعار وتحسين شروط العمل وبدلات البطالة للعمال ولكل العاملين، ومثل التحقيق الفعلى لمطالب الفلاحين المتعلقة بالجوع إلى الأرض وبالأسعار المجزية وبمختلف صور تطوير نوعية حياة الفلاحين، ومثل التحقيق الفعلى للرعاية الصحية المتكاملة والشاملة والتأمين الشامل وتطوير المستشفيات والحل الجذرى لمشكلات الأطباء وباقى العاملين فى المجال الطبى والصحى من حيث الأجور وتحسين شروط وأوضاع العمل، وتتمثل مكوِّنات الديمقراطية الشعبية من أسفل فى التطوير الجذرى للتعليم بكل مراحله وتحقيق مجانيته الكاملة وإنصاف المعلمين بمرتبات مجزية مربوطة مثل كل أجور العاملين فى البلاد بالأسعار، وتقتضى الديمقراطية من أسفل التحقيق الدستورى والفعلى للمساواة بين المواطنين دون تمييز بسبب الدين أو المعتقد أو اللون أو الإثنية، وكذلك التحقيق الفعلى لتضمين كل الحقوق والحريات المنتزعة فى الدستور بصياغات واضحة قاطعة حاسمة لا يجرى تقييدها بقوانين، مع إعادة صياغة القوانين كإطار عام يعكس قدرة الديمقراطية من أسفل، عن طريق نضالاتها المتواصلة، على فرض السيادة الفعلية للقانون. ومن البديهى أنه بقدر ما يتم النجاح فى إجبار السلطات المعنية الحالية والقادمة على التحقيق الفعلى لمطالب الثورة سيجرى تأمين أن تسير الحياة الطبيعية وكذلك الإنتاج وإعادة البناء بصورة طبيعية جنبا إلى جنب مع تطورات الثورة التى لا تريد الفوضى ولا تعمل على تعطيل الحياة بكل مقتضياتها وضروراتها بل تعمل على إنصاف الشعب من خلال انتزاع حقوقه وحرياته وأدوات نضاله فى سبيل التطلع ليس فقط إلى حياة كريمة بل كذلك إلى تصنيع البلاد وتحديثها على قدم وساق كشرط لإنقاذها من المصير البائس الذى ظلت تتجه إليه، مع العالم الثالث كله، بسرعة مخيفة وللتحقيق الفعلى للاستقلال، هذا الاستقلال الذى لا يتحقق إلا بالتحول إلى بلد صناعى كشرط لا غنى عنه للتخلص من التبعية الاستعمارية؛ وهذا أفق لا ينبغى إغلاقه أمام الثورة بشرط استمراها بعمق متزايد وعلى مدى طويل معتمدة فى كل ذلك على عمق ونضج وجذرية الديمقراطية الشعبية التى تنجح الثورة فى تحقيقها.
16 يناير 2011



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إشكالية مدرسة فرانكفورت (بين النظريتين النقديتين: الأصلية وا ...
- كتابى -من أجل نحو عربىّ جديد- فى نقاط أساسية بقلم: خليل كلفت
- من أجل نحو عربى جديد (الجزء الثانى)
- من أجل نحو عربى جديد - الجزء الأول
- آدم وحواء وقصص أخرى من أمريكا اللاتينية
- حكاية سَكَنْدَرِيَّة - ما شادو ده أسيس
- العاصفة تهب (حول انهيار النموذج السوڤييتي) - كريس هارم ...
- محاضرات سياسية عن أوروپا وتركيا وأفريقيا والهند
- العقائد الدينية والمعتقدات السياسية
- إلى أين يقود علم الوراثة؟ - چان ڤايسينباخ
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الثانى
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الأول
- القرن الحادي والعشرون: حلم أم كابوس؟
- الذكرى الأولى للثورة تقترب والمجلس العسكرى يسير بنا على الطر ...
- الحوار بين الثورة والواقع
- مطالب وأهداف الموجة الثورية الراهنة
- موجة 19 نوڤمبر 2011 الثورية الجديدة
- مرة أخرى حول مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى مصر
- الاحتجاجات المسماة بالفئوية جزء لا يتجزأ من الثورة
- مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية من ضرورات استمرار الث ...


المزيد.....




- بوتين: ليس المتطرفون فقط وراء الهجمات الإرهابية في العالم بل ...
- ما هي القضايا القانونية التي يواجهها ترامب؟
- شاهد: طلاب في تورينو يطالبون بوقف التعاون بين الجامعات الإيط ...
- مصر - قطع التيار الكهربي بين تبرير الحكومة وغضب الشعب
- بينها ليوبارد وبرادلي.. معرض في موسكو لغنائم الجيش الروسي ( ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف مواقع وقاذفات صواريخ لـ-حزب الله- في ج ...
- ضابط روسي يؤكد زيادة وتيرة استخدام أوكرانيا للذخائر الكيميائ ...
- خبير عسكري يؤكد استخدام القوات الأوكرانية طائرات ورقية في مق ...
- -إحدى مدن حضارتنا العريقة-.. تغريدة أردوغان تشعل مواقع التوا ...
- صلاح السعدني عُمدة الدراما المصرية.. وترند الجنازات


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - معادلات سياسية تحكم الثورة المصرية الراهنة