أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - الشعر النسائي العربي بين التقليد والإبداع















المزيد.....



الشعر النسائي العربي بين التقليد والإبداع


جعفر كمال
شاعر وقاص وناقد

(تôôèô‏ ؤôéôم)


الحوار المتمدن-العدد: 3603 - 2012 / 1 / 10 - 17:18
المحور: الادب والفن
    


الفصل الرابع
نتناول الشاعرة، فاطمة الفلاحي
لست أنوي أن أطلق الألقاب الكبيرة على الشاعرات العربيات بدرجة أكثر مما أعطين من إبداع، بل بمقدار ما أكون محقاً في نظرتي حول منتج إمْتُهِنَ صياغة ترف البعد الجمالي الشعري، باحترافية تذيع تطورات النص إلى المستوى المستحسن للنجاح، انطلاقا من مبدأ التقوم التشريفي، تجدني احاور نصوص هذه الأديبة أو تلك، حيث تكون في مستوى هذا الحق لا بدونه، فالإبداع النقي يجمع الأفكار النبيلة ويهذبها بخاصيته التعبيرية، التي تكون ملتقىً لدواعي إيثار يؤسس لمنفعة تتجلى بأريحية تصورها الشاعرة على إنها تجانس المدركات الحسية والمشاعرية، التي تكشف عن محاكاة تمثلها إشارات عالم يطل من خلال لغة الشاعرة على المتلقي، تدل على يقين كيفيتها تلك التي تتخمر في قارورة المحاسنة، وغايتها التمييز الإدراكي الذي يتم تحسسه عبر تَقَوْم رمزية اللغة، وأخص بهذا الشاعرات اللاتي حققن متعة توليف الاستعارة وجعلها أداة اكتشاف لخلق شعري مختلف، باتجاه معاينة المعنى والكشف عن صوره، في الوقت ذاته يحثُ على مباينة دلالات تركيب الوحدة الشعرية التي تعنى بالجاذبية التأويلية، التي تسلط الضوء على اختراق سمك اللغة لانزياح توليدي لكل ماهو متخفٍ، ولكي نبسط التباين بين مذاهبهن الكتابية على مستوى منجز إختلاف الأجناس الأدبية، علينا أن نستدل على سمات ومراتب تأملها، ومستوى خصوبة حساسيتها التلقائية، وما دمنا نستضيف الشعر، لا أرى بداً إلا أن أحرض الشاعرة على الاكتفاء الذاتي بمنتجها، دون المساس بأثر غير أصيل.
ولا أرى سبباً يخيف الشاعرة من النقد، حين يشير الناقد عبر تحليل يؤشر على منطقة خلل أو ضعف معين في النص، خاصة إذا جاءت معالجاته غايتها تبغي الأمانة، ونكران الذات، فالنقد وسيلة إيضاح ومحاسنة، تحتكم إلى مكاشفة النص كما لو أننا نضعه في مشكاة ونغربله، فنبين مواطن الجمال، ومواطن الرداءة، وليست الانحياز إلى شاعرة دون سواها على حساب نوعية النص، فهذا تقدير خاطىء، كون الشاعرة التي يتباين مذهبها الشعري بأفضلية جودة النظم، وحسن السياق، وقريبه في الفصاحة في ألفاظها، والبلاغة في معانيها نتوقف عندها، ونجلس على بساطها، نقرأ من روضها الإبداعي ما تيسر.
يفيدنا العماد الاصفهاني برأيه " إني رأيت أنه لا يكتبُ إنسانٌ كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غُيّرَ هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يُسْتَحسَن، ولو قُدمَ هذا لكان أفضل، ولو تُرِكَ هذا لكانَ أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على أستيلاءِ النقص على جملة البشير."* والمقصود هو مانسميه اليوم في معالجة النص بالتهذيب والتشذيب والتنقيح.
فالشاعرة الحق هي التي تتضح ثقتها مفتونة بمصداقيتها، تتلاقح وتتواصل مع تجارب القديم من مخابر الكلام وحديثه، وتحرص على ممارسة سلوك النزعة الإنسانية في محاسن عباراتها، وتجمع أطراف كتابتها في حلاوة اللفظ، وكثرة الصعود النغمي الشعري إلى لذة تبغيها النفس، تلك من أبحث عنها تزق الحياة في نصوصها، وترتقي بالحقيقة إلى قمتها، ولا تتوانى عن مصاحبة ومعالجة المنظوم الذكي والأليق، حيث تجدني محاوراً طيعاً للأفادة من ذلك الشأن، فما أرى في ذلك من كلفة أو مفارقة أن تتشرف أسرة كتابي بتلك الشاعرة، فالساحة الأدبية العربية تزخر بشاعرات غاية في المهارة والإبداع ومنهن: نوال الغانم، فليحة حسن، جوزية حلو، أسماء الرومي، صليحة نعيجة، وزينة جمعة الحلفي، وغيرهن. بتقديري أن النص الذي يغذيه الخيال ويميل به إلى التوحد مع شأن الصنعة الحسنة، نجده يرشد المتلقي إلى حاصل المعنى من بوابه سهله الممتنع، وهذا إبداع ينور الكاتبة حيث لا تروم إلى سواه من لزوم ما لا يلزم، ذلك هو المراد الذي يفيض توليداً بالصور المحسنة الناطقة بالحياة. فالنص الذي يقوم على أسس المتخيل النوعي يؤدي إلى مقبولية أكثر متعة، حيث لا تناقض بين نشاط إثارة تجليات المعاني الواقعية، ونوازعها الفنتازية. هذا إذا احتكمنا إلى أن قوة الأدوات التي عالجت تهذيب ذلك النص خالية من العث والتسويف.
مال المجددون في البداية إلى النظر إلى أن الفنتازيا على إنها تخابر منعطفات الوعي بين أنا الموهوب، ومدركات ما يدور حول الكاتب من المتحرك ونقيضه سلباً كان أو ايجاباً، فهي وفي الوقت ذاته محصل تخيلي تتلقاه المدركات الحسية والشعورية من الجو المحيط، فالأديبة التي تخلق لنا صورة حية ناطقة بالحياة، نجدها ذات فائدة، في الوقت نفسه تغذي الروح متعة، وتلهم المشاعر صبوة، والعكس في الصورة اليابسة الدغلة الموحشة التي تشمئز منها النفس، لا يطيب فيها التلقي، وما أكثرها وحشة عند الأغلب. وهذا ما يأخذني صوب سواحل أجد فيها ما يدعوني إلى التوقف كي احاور بينات مسالك البناء الفني التناغمي الغنائي في التجارب الشعرية النسائية، التي تعتمد مقاربة التسجيع التوليدي المعمد بالمحصنات اللغوية إلى حيث إبداع مختلف، كما هو الحال في مناهج أطوار النقلة المنقحة، بأسلوب يكشف عن غنائية العبارة المولدة للغة المضمون. يرى هردر الألماني 1744 – 1803 أن "الشعر العاطفي هو التعبير الكامل عن الخلجات النفسية، في أعذب لغة صوتية."*
ومن بيان الموضوعية التي تحتكم إلى الأمانة النقدية في معالجة النص، يجب أن نحترس من الفضلة، أي نبتعد عن المديح والاخوانيات والعشقيات الألكترونية لهذه أو تلك، ولكي نعتني بنكران الذات في جانبه الإنساني، يجب أن نحاور نبض الصورة الحسية الوجدانية المعبرة عن محاسنها المثالية بنمط مختلف، وبحساسية ألق المقدار الكيفي المجبول بوصال ما تحاوره وتعتني بجذوره وحدة المشاعر، وما تستلزمه المؤثرات النفسية الاحترازية المحرضة على التصادم والاثارة في المعطيات الداخلية الوجدانية، وذلك بتجريد النقد وتنظيفه من الشوائب والقروحات المقيمة في المُخَيَّلَة المتحيّزة.
فالناقد يحتكم إلى قواعد وأدوات تمهد له بيان الحكمة، عبر معالجات تفصح عن العُرى والمعاقد المبانة في مرآة الكلام ومنازله، حتى تتضح مراتبه، ويتكشف عن صوره، من مصادر الناقد الخاصة، المطعمة برؤيته التي تنساب في عمق القرائح، تلامسها، وتشمها، وتتنفسها على نحوٍ ما: وإلا لم يكن النقد حريصاً على إيمانه، وهويته، ومصداقيته. يقول الناقد المصري د. محمد غنيمي هلال: " للناقد الأصيل أن يمزج بين الآراء والنظريات في ممارسة النقد، أو يفصل بعضها على بعض في وجهته الخاصة، أو يتجاوزها جميعاً ليخلق جديداً.*" إذن فرؤية الناقد الحداثية تختص بأن تتبنى معالجة النص، وليس مساءلته. أي ليس للناقد الحق أن يكون جلاداً، لأن النص ولادة مخيال وإبداع صاحبه، حيث يبدو لي أن ذلك التنظير تحكمه قلة الموعظة، أو حتى غياب المعرفة في الأطرُوحَة النقدية تلك، إذن لا يجوز تقسيم الحصص حسب تقديرات القرب والبعد من الشخصية قبل النص، خاصة عند أولئك الذين يتصيدون في المياه العكرة بدون واعز معرفي واخلاقي.
في الستينات تأثر الشاعر المصري صلاح عبدالصبور بشكسبير، حتى إنه جلس على ذات المقعد فتمثل نفسه شكسبيراً. بقيت مسرحيات شكسبير تعرض لحد كتابة هذا المقال، بينما بقيت كتب ومسرحيات صلاح عبد الصبور على الرفوف يغطيها التراب. حتى ونحن أمام هذه الحالة، هل يحق للناقد أن يحاكم عبدالصبور إلى ما ذهب إليه في التأثر المباشر. أنت كناقد يمكنك أن تعيب على هذا الأديب أو ذاك تأثره المفضوح، والمثال: فضل عبدالصبور الشعر المسرحي المباشر على الشعر الوجداني. لكن لا يحق لك مقاضاة الأديب عن طبيعة ومميزات نصه، لأن هذا الأمر يدعو إلى الوجوب واللزوم، والنقد لا يخضع لهذه المعادلة، لأن الإبداع حصيلة وحي ما، وتلك فضيحة تعيب الناقد لا الشاعر. وعليه نقول إن من مهمات الناقد: تحليل وكشف دواخل النص، أو محاكاته، أو فك رموزه، أو مقاربة مستويات عناصره، أو تبيان صحيحه من قبيحه.
يأخذنا ابن الأثير إلى قول: "ان صاحب الفصيح، كان له إملاءٌ سمّاه الفصيح"، وكان للمتنبي اخت اسمها نجلاء، كان المتنبي يناديها فعلاء. نقول عن هذا كلاماً حسناً. فالنقد مفتاح لفك طلاسم، وألغاز، أو معاينة النص المُعَمَّى، وتلك النصوص قد تكون مبهمة ومعقدة كنصوص ادونيس، أو بودلير، أو ألان بو، ومثاله نقرأ ما قيل في الشعر القديم: "سبعُ روَاحِلٌ ما يُنَخْنَ من الوْنَى - شِيمٌ تساق بسبعةٍ زٌهرِ" والمقصود في هذا البيت هو أيام الأسبوع ولياليه. لكن هذا البيت كيف يقرأه المتلقي؟ إذن فالنقد يبسط حصيرته ويستضيف النص ليناقشه ويجعل من السامع أن يتحلى بمعانيه، ويستحسن غاياته.
حيث تجدني اليوم أتخذ من الأدب العربي التنويري مثالاً بمنزلة عقْدٍ نفيس، ألا وهي الأديبة العراقية فاطمة الفلاحي، الملمة في علم التصريف البلاغي الواضح في المنظور المتضمن مداليل نقاء أدوات الشاعرة، حيث وجدتها تضع مراتب الكلام في سياقها المقنن، تلامس الشعور التجنيسي بأبنية متطورة حسياً، بعيدة كل البعد عن الاضطراب اللفظي. ضمن مصبات التنويع النابعة من الذكاء الفطري المساقي لبذور المحاسنة المعنوية، الذي يرفع من مقدار مقبوليته المنعكسة على تطورات ملمات القارىء، وبهذا لم يَرَ نفسه دونه، حتى يبلغ شغفه المعطى الوجداني، يصاحب متعة وقته. حيث أجد الفلاحي عبر مسيرتها الأدبية، التي اطلعت عليها منذ سنوات، قد سلمت من:
أولاً: الصدع التأليفي، المبني على الاضداد المسجونة بدائرة محاكاتها.
ثانياً: انشقاق المعاني المعزولة عن مبانيها.
ثالثاُ: استئجار الفكرة، ومسايقة كيفياتها.
وهذا واضح في خواص صفات الجنسين الأدبيين عندها، في القصيدة، والقصة، وما تلاها من كتابات في البحث والتشويق ولقف أدب الخاطرة، لذا فمؤلفاتها تتلاءم بالكلم اللغوية المختارة بأمعان شديد الحذر، تجمعها سلة المعاني، المقطوفة من بليغ المورد الفصيح، من حيث صيّغ دلالات يؤمها صدى التلاقح المستقى من حرية اللفظ، يستفيض بجمالية محركات المعاني المقبولة، فلم أجد بعد قراءات مكثفة فاحصة في جميع نصوصها من خلل يؤثر في جمالية الحوار الحسي، بين علم البديع، وأسراره الجلية في روافد وأدوات الصورة الشعرية. من أجل هذا الاعتبار وجدتني أتناول الفلاحي من ناظرٍ تتأمله عين الإِنصاف بالحق، ولاشك فإن هناك الكثير من الأديبات العربيات التي سوف أدرس نصوصهن دراسة تقارب ما بيني وبين نصوصهن على زورق يتحمل عبء الإبحار إلى شواطىء نصوص لشاعرات عربيات غاية في المتعة واللطف. وسوف تستمر أسماء الشواعر بالتوافد على صفحات كتابي، منطلقاً من تلك الأطوار النبيلة، التي فاضت مضامينَ مضاءةً حيثُ أجدها.
قبل الدخول إلى رياض نصوص الشاعرة الفلاحي، عليَّ أن أمر على نقاط مهمة لمستها قد بانت وتميزت بها شاعرتنا عن غيرها من الشاعرات العربيات، وتلك النقاط تعددت على النحو التالي:
أولا: التحكم بموالفة التجنيس اللفظي مع بيان الفصيح، فهو في الصيّغ الشعرية القريبة من النثر نظير المنظوم في الشعر.
ثانياً: اتفاق الحركات والسكنات اللغوية، من إقامة الدلالة على تسهيل المعنى، حيث تتمايز في مضمون لا ناقص فيه.
ثالثاُ: تداخل بلاغة الألفاظ بمحاسن المعاني، فتتحاور بنمو تفاعلي مع مراميها الفنية، سواء وقع اللفظ في أول المعنى، أو في وسطه، أو في آخره.
رابعاً: تتعدى الألفاظ حدود المصفوف والمبثوث بلا هدف من الكلام، ومنه عدم المتوازن في الفكرة واستطراداتها، والشاعرة في هذا إنها تحسن صنعاً.
خامساً: يقوم الشعر على تجانس في كل النص، لا في مقطوعة دون أخرى.
هذا إذا اعتبرنا المعنية بهذا النقاء الإبداعي، شاعرة تعني بنصوصها من خلال ولاداتها الفنية الذاتية، لا من خلال التبني لها من الآخر. ولهذا وجدت في نصوص الفلاحي ملتقى الجماليات الحيوية الراشدة بين الجنسين الشعري والقصصي بمستوى متفاوت، ففي القصة صدر لها عدة مجاميع، وفي الشعر كذلك، ومنها:
في القصة صدر: الحب رحيل - ما تبقى على أناملها - الحدود الساحر - حرائق حرب.
في الشعر صدر: حدائق مملكة الصمت.
ومقالات في الأدب، والسياسة، وعلم الاجتماع. وأخرى في جماليات الرأي تعددت فيها البحوث في مجالات عدة، فما زادها ذاك إلا تعدداً إبداعياً. ومن أجل هذا حسبت أن أطل على رياض هذه الأديبة ضيفاً، أحاور نصوصاً تتمثل فيها الحياة أزاء احداث تعبر عن حالة عاطفية، أو نفسية شعورية، أو حالة انسانية.
ومن مبدأ الحمية الذاتية في احترام المنجر التنويري المقنن، وجدت الفلاحي شاعرة مادية تجمع بين الفصاحة اللغوية، وبين المدرك التحويلي التمدني، في صياغة شذرات الكتابة الشعرية والقصصية بتطريز محكم الأشكال، غني في إحترافية خواطرها الجارية على الإلهام المُعْقَدَةِ بخاتم العناية والقبول، ومن أجل هذا الانبهار الذي يحكم النصوص، وجدت من الضرورة الاخلاقية أن تتمتع الشاعرة الفلاحي بحقها فتشارك أسرة كتابي: "الشعر النسائي العربي" حيث تناولت منذ بدأت دراستي هذه إلى الآن أربعة أسماء هي: نازك الملائكة، ولميعة عباس عمارة، وآمال عواد رضوان، وهذه فاطمة الفلاحي يتشرف بهذا هذا الكتاب، بمنزلة الإرادة في حق الحق، لكي يفصل هذا الحق ما يريده وما لا يريده.
في هذا الفصل الرابع نبدأ مسيرتنا مع قصيدة وافرة الحس ماثلة في تجليات المعنى، تنم عن عميق شعور واحساس الشاعرة.
أخاف أن يدركني الهوى
= =
ما أبشع المنافي والمسافات
في نصفها الأول !
يتهادى سحر نداك في سمائي الثامنة
وفي أوسطها!
أرتب النجوم ،
وآخرها!
أرسمك معبراً نحو السماء دون غيوم ...
* * *
يطالعنا عنوان القصيدة بلغة محكمة بجماليات التجديد. بالاتجاه نحو الميثويوجيا الروحية. من فواعل تبدو قدرتها فاصلة على اخضاع تجسيد القوى الداخلية في النفس، على حوار غير منفصل عن الامتداد العاطفي، مع القادم الساقي الذي سمته الشاعرة "بالهوى" بماذا سيملأ كأسها؟ وهذا يندرج بالاشارة إلى فلسفة الإدراك، المرتبطة فسيولوجياً بعامل الخوف، فنحن أمام عنوان يحمل ثلاثة مدارك فاصلة ومهمة جاءت حسب هذا التقدير:
الخوف.
الإدراك
الهوى
تحدث أرسطو في هذا المعنى كثيراً في معالجاته سواء كانت عن: "المأساة، أو الملهاة، أو الملحمة"* يهمنا كثيرا هنا معالجة هذا النص من حيث فلسفة المأساة في بلاد الرافدين المنعكسة تماماً على النفسية العراقية الحادة، وإذا أردنا البرهان فهذا النص يعكس الجزء من تلك الملحمة التي تحددها الشاعرة بانعكاس الأثر الذي تريده، إذا كان الخوف هو من استهل المعنى في العنوان، سيكون حديثنا لا حقاً، حيث يمكن لنا أن نتلمس المأساة في طبيعتها التوقعية، لا المطلقة، لأنها قالت: "أخاف أن يدركني.." ولم تقل أدركني. لأن دخول "أن" المصدرية المخففة على الجملة، جعلت من المعنى في الصورة معنىً نسبياً لا مطلقاً، فقد أشارت إلى إدراك ربما آت، وربما لا، أي إن الفعل لم يحدث بعد. إذن هو التوقع، لا التأكيد، وهذه مصاحبة بين محصلين "الخوف" والإدراك" لتؤدي إلى عامل انساني مهم جداً في الحياة البشرية ألا وهو "الهوى" الذي يمثل الجانب الغرامي، حيث أصبحت الصورة أمامنا جلية وواضحة ومعبرة، وهي "أخاف أن يدركني الهوى" ولأن لثيمة الخوف علاقة مباشرة جداً بالإحساس، والشعور بايعاز مباشر من العقل، أخذت تراتبية الافكار تعلن عن لحمة مشاعرها، التي وحدها "الخوف" فهناك أسباب عديدة منها مرضية عضوية نفسية أو روحانية، وسببها الخوف الداخلي، أي خوف الذات، أو إنكسار الذات، وهناك نوع آخر من الخوف ونسميه بالخوف الشكلي، الذي ينعكس على الملامح الجسدية كالوجه ورجفة اليدين والرجلين، ونسميه بالرعشة أو الرجفة، أو إضطراب الوجه، أما ما نتناوله في شرحنا عن الخوف في هذه القصيدة، نسميه الخوف العاطفي، أي القادم المجهول الذي يحمل على أجنحته الحب والغرام والعشق، وهذا يندرج تحت مسمى المأساة العاطفية، وهكذا فهو سببٌ أوصلَ عاشقين إلى إتحاد روحَيّنْ ببعضهما، قد يكون خوفاً تأملياً ناتجاً من تجربةٍ فاشلةٍ أصبحت من الماضي، والخوفُ أن لا تتكرر تلك المأساة، فالملمس العاطفي يبقيه على تماس مع الحب الآتي، الذي لا يمكن للإنسان إلا أن يتنبأ به بالظن، وبالتالي لا يمكن أن يفصل ذاته عن الهوى، "فهو شر لابد منه" كما عبر عن هذا الفيلسوف الوجداني، الرجل العظيم بأدبه علي بن أبي طالب، وإن قالها بمسمى آخر لكن المعنى ذاته. وكما قلت في دراساتي السابقة أن اللفظة الذكية تعتمر بالفصاحة التي لا تستبدل المجاز بالحقيقة من حيث الاختلاف في: التشبيه، والتوشيع، والتطريز، والايضاح، والاطراد، والتخيّل. تلك التي ترفع من قيمة الصناع في المعنى، وهذه المسالك نتلمسها مجتمعة في لفظة "الخوف" التي أينعت دلالاتها البحثية في صيغة المعنى المشار إليه باللفظ، ولكون ثقافة الفلاحي الأدبية تعتمر باللغة الصوفية الوجدانية، نقت ألفاظها من طراز تنقح بأسرار البلاغة في سياقها العام.
وهنا فالرابط الفني المقنن بمعانيه ينزاح من "الخوف" في العنوان، نزولاً إلى بشاعة المنافي المعبرة عن المسافات في دائرة الحركة الزمنية، فتكون الموالفة التقنية منذ البدء قد أدت نسيجها عبر لغة الإيماءة المحمولة على الإيجاز، أي أننا أمام قصيدة تستهل فاعلية التجلي الوجداني في مدلول التنزيل التصويري، عبر تركيب نوعي ذات زوايا فاعلة ومهمة اجتمعت في عضوية النص وهي:
أولها: تعددت مداركها اللفظية لأداء محاسنة الكشف والنظر في مشاهد التشبيه، والاشتقاق، والمراد.
وثانيها: هي لا تحتكم إلى المطلق بأطاره التعيني، بل جعلت من النسبة مقرونة بتوليفها الترميزي، وقولها: "في نصفها الأول"، أي إنها أزاحت عن المطلق الفلسفي ضعفه التقديري. ولذا فالنسبة عندها تتوجه نحو المجاز الذي يجب أن لا يكون واقعاً فتفسد قيمته.
وثالثها: فتحت أبواباً للتجلي ومحاكاة القادم، التي أشارت له ب "يتهادى سحر نداك في سمائي الثامنة".
من مبدأ التواصل العضوي، وترتيب الصور والافكار، التي أحاطت المشاداة بسلطتها التعبيرية، المحسوسة بتمثلها الفلسفي المنتج القيمي للمارسة الافتراضية في الشعر، بالإيحاء إلى إضاءة سماء أخرى للسموات السبع، في قولها: "يتهادى سحر نداك في سمائي الثامنة" يقول القرآن في سورة سورة التوبة - 129 يقول: " وهو سرير له أربع قوائم ومكانه فوق السموات السبع". وفي سورة نوح -15 – 16 يقول: "ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا، وجعلَ القمر فيهن نوراً، وجعلَ الشمس سراجاً."* ومن البخاري نقرأ في صحيحه قولاً عن النبي محمد: " ما السموات السبعُ مع الكرسي إلا كحلقة ملقاةٍ بأرضٍ"* في ما تقدم عرفنا عدد السموات، وأنا اسميها شروحات رومانسية تصوّرية. وهو ناتج الخوف عند الإنسَان عما يحدث له بعد الموت، خاصة إذا احتكمنا للجانب العلمي.
إذن أين الإعجاز؟ نقول الإعجاز هو المطلب الذي أرادته الشاعرة لخلق سماء ثامنة تخص شاعريتها، ربما هي حياة مختلفة في معانيها، وغاياتها، وجوهرها، ومبادئها، وغلوها، وتمردها، وعنادها. تتجاوز الفناء، والمذهب، والخوف من المجهول، والتحقق من بيان المعرفة في الفروق حتى وإن جاءت بصيغة العاطفة، لا يمكن أن ينكرها المميّز في المقصد والإدراك والسلوك. فتلك السماء الثامنة أصبحت دنيا خاصة وجديدة، يتواصل معها كل من على شاكلة هذا التحدي التخيلي. أما المختلف التوليدي في هذه الصورة الشعرية المحكمة بالحبكة والحكمة، فقد جعلت من السماء الثامنة تلك، تزدهر بالحياة خارج إطار المعتقدات الدينية الموروثة في عقل الإنسان. أما الحياة التي حققتها الشاعرة في تلك السماء بفعل ورود ثيمة "نداك" أي الندى، والندى ماء، وهو الممثل الحقيقي لوجود الحياة، فهي لم تقل "هواك" ولو قالت هواك لأغلقت المعنى على ذاته. ولكن "نداك" أصبحت القاسم المشترك بين الطبيعة والحب، يعني الحياة الكاملة المكتملة في كل جوانبها، حيث اجتمعت عناصر الحياة كل حسب نظامها التوظيفي.
ورابعها: "وفي أوسطها أرتب النجوم" الواو زائدة ومخلة في اسقاط الفجائية التوليفيةُ الفنية. إذن المعنى يستقيم في المضمون والفحوى، المؤشر الواضح في السماء الثامنة، حيث أصبحت الشاعرة في هذا التجديد تتعدى بلاغة التصوف المتعارف عليه عند الحلاج وغيره من المتصوفة، من حيث عطاء عشقها الوجداني المنسجم روحياً مع لغتها البديهية، فهي مختصة ومعنية بالموازنة في ترتيب "كواكبها ومجراتها" في مدار سماءها الثامنة.
وآخر الزوايا في هذا المقطع، ترسم الشاعرة سماءها الثامنة بدون غيوم، وهنا ركيزة بلاغية أخرى ولدت بتعبير مختلف الإيحاء، أتسم بسماء صافية خالية من الحاجب البصري، أي أن في تلك السماء حياة مستبينة، ففي قولها الذي يدلنا على أن: " في أوسطها أرتب النجوم - وفي آخرها أرسمك معبراً نحو السماء دون غيوم". فقولها أوسطها وآخرها متماثلان في علاقتهما من حيت النحو الدلالي، فقد رسمته معبراً، أي خطته على لوح مخيالها معبراً ملؤه الضياء، فتكون هذه الأبيات الوسطية وصفية كونها أرادته معبراً معنوياً للآخر المقصود، الذي نويت الوصول إليه عبر:

واختراقاً لحاجز الزمن
وقداسات هواك
تتكئ على راحة القلب

تستمر الشاعرة في تبيان التقدير الدائري على وجهين متساويين في المعنى: أوله يعبر عن الذائقة التي تدل على جواب التمني. والثاني: يعبر عن دلالة الشرط المؤهل للقبول، حين ترمي الزمن جانباً وهي تخترق نظامه التقليدي، فتقول: "اختراقاً لحاجز الزمن - قداسات هواك تتكىء على راحة القلب" تبدأ الصورة تدور في معناها التشكيلي، حيث يتسامى السريان التوليدي قليلاً فقليلاً إلى رأس خيط توصيلي، لتعود ثانية أي الصورة للنواة التي دارت المعاني حولها، لتكشف عن قوة الدلالة في نهاية ذلك السريان، فالمعانى هنا على وجهين في إيماءاتها وهي:
أولهما: أن العلاقة مصانة بقدسيتها، فالإظهار المعنوي واضح في ولادة السماء الثامنة، وكأن الشاعرة تقف على بوابة الميثولوجيا التي هي مجموعة الأساطير، لتصنع لغة تدخل العمق التاريخي لتكشف عن قدرتها عن ولادة أسطورة جديدة "السماء الثامنة" في عصر التكنولوجيا المحدثة.
وثانيهما: أن تكون المعاني مختلفة بالاضافة التقديرية لمعطيات دلالية غنية في فصاحتها، واردة بمفهومها على واقع أواصر الاقتناء الإيحائي المولد لحداثية الابتكار.
والمعنى على كلتا الحالتين صالح لأمرين الموازنة، والتتميم. ومستعمل في صيغتين: التعليل، والترميز، لأنه في طرائقه يشير إلى التكميل المعنوي، الذي لا يخضع إلى تفريغ الحوار من منظوره، بل ينسجم في الذات التي تنقل المعنى إلى معنى يلابسه، وبهذا الائتلاف يشار إلى التلميح في صيغتي اللزوم: الزمن، و القلب. كون علامة كل ثيمة منهما جاءت بصيغة الأسم. وهنا أود أن أطرح قولاً سمعته من الشاعر سعدي يوسف: منقولاً من محمود البريكان لبدر شاكر السياب وفيه"لو أن القلب لم يدخل الشعر لأصبح الشعر صفيّا*" مع أن الشعراء اعتادوا أن يجعلوا من القلب المنحى الدلالي للحب، مسكناً، ومبتغى. أما أنا فرأيي يتفق مع البريكان. لأن القلب مضخة لا غير. أما الفلاحي فقد ابتعدت عن مكننة أو فسلجة القلب، ومنحته المعني المختص بفنتازية إدامة الضخ الوليدي للحياة. حيث جعلت من التوظيف المشاعري المعنوي يشير إلى أن القصيدة التي تفتقر دلالاتها للحياة تصبح فاقدة قدرتها للتوصيل. وبهذا يدلنا الناقد العراقي البصري عبدالرزاق صالح، إلى أن " طاقات الشاعر، هي طاقات حافلة بصورة الخيال، حيث تكون مخيلة الشاعر نبعاً صافياً وتجسيداً مادياً للرؤية التأملية، والقدرة الشاعرية، لدى الشاعر في أدراك وجوده، الجو المحيط به، وإبدعاته في تخيل أشكال القوى التي تحيط بوجوده.*"

شغفي بك يراودني عن نفسه
كجمر يلكز تفاصيلي
وخدر ٍ يعصفني تجليات
في حضرة الجنون
ووجع بكنف الحب

ربما أرادت الفلاحي أن تستحضر الذات، كي تكلفها بالجواب عنها، في استدعاتها البينية، بدون مساجلة، بل بتبليغ روحي يقضي بتمام الحاجة، فيأتيها نزول المخيال كلوحة تتحلى ألوانها ورموزها في تعبيرها القائل: "شغفي بك يراودني عن نفسه" هذه المصالحة الروحانية تفصح عن المتعة الصوفية في لغة الشاعرة، حيث المعنى يدور بالنزعة العاطفية من الذات إلى الذات، بتنزيل مخيالي لمن أومأت إليه، الذي يمكن أن يتفق معه الخطاب البيني أو الغيبي بآن. أي أن الحبيب هو من فعل هذه المراودة، فخلق الشغف اللازم احتماله، لمجرد ملامسة الذكرى العاطفية، هنا نستحضر زلخيا مع يوسف حين راودته على نفسها، لا انوي أن أُحاكي التطبيق بين الحالتين، بقدر ما يروم قولي أن الشاعرة أغنت المعنى حين جانست ثيمة "يراودني" وهي لفظة غنية بتوليفاتها الروحية القيمية المباحة في أحوالها، حتى أن هذه اللفظة تندرج في معنى: "كل شيء ممنوع لذيذ"، أو مرغوب به، فكيف يتجلي التوقد إذا لكز الجمر احاسيس خيالها الممهور بعصف الجنون؟ وهناك كنف تشعب يلكز مضمامها العاطفي.
ولكي نكشف عن قدرات الذات الملهمة للتنزيل التعبيري، في ساح التأمل الفلسفي عند الشاعرة، كان لابد من استكشاف المراد التفهيمي الذي أنجز التمايز العفوي من حيث وعي وخصوبة الذاكرة الدلالية، التي أجزلت موهبتها لها في العطية الإبداعية، فكان للوحدة العضوية "كما أسماها أرسطو" أن تتلاقح في بنيتها الداخلية، بالتجاوبات الإدراكية، المفترض أن تكون الوسيلة التي تشتق منها الافكار. وعليه وجدت من الانصاف أن نكشف للقارىء الكريم عن البداهة التعبيرية العفوية عند الفلاحي، فيما تقتضيه من تعاظم سريان حنكة المدركات الحسية في لطائف غنائياتها، وعليه فالخاصية النقدية تحتكم إلى ثوابت تحدد استخراج النتائج من الإحالات الأولية في المستهل، حتى تجليات مراتب الحس الخليق بالاضاءة النوعية. يقول الجرجاني في اسرار البلاغة: "اعلم أن معرفة الشيء من طريق الجملة، غيرُ معرفته عن طريق التفصيل."*
نقرأ فيما تفاعل على هذا المنوال الخصب قصيدة أخرى، أثارت رؤيتها القرب العاطفي المحسوس، ومقدار احتمال فاعلية الطيف الوجداني، ما يهوى وما يذاع، أو في رؤية أخرى ما ينصاع إلى التنوع والمغايرة. فالكتابة إذا مشت بنصيبها، تكون أفضل مما تمشي بنصيب الآخرين، لكي تجعل من المعانى حياة باقية حيث الاعتبارات تتبنى مشروعاً للتلاقي والتأثر في كل زمن، فما زلنا نقرأ: للحلاج، وطاغور، والمهلهل، والفرزدق، وأبي حنيفة النعمان، وبدر شاكر السياب. وسوف يبقّى أولادنا يقرأون سعدي يوسف، ونازك الملائكة، ومي زيادة، وبشرى البستاني، وناجية المراني، ومحمود درويش، وعاتكة الخزرجي، وحسن عبدالله، وأمل دنقل. وفاطمة الفلاحي، ومليكة العاصمي، وهناء القاضي، وفليحة حسن، وجمانة حداد. فقد تكون هذه الشاعرة أو تلك معنية بألفية ابن مالك، أو خنساء أخرى، أو رابعة العدوية، أو الرصافي.، أو جرير.
ولكي نحتج إلى العقل في هذا القصد نتبين صحيح طراز الديباجة التي تشهد للنص الآتي بالوله الشعري، في قصيدة الفلاحي المثيرة لشهوة القراءة، أو حتى حفظها، حيث يمكننا من مجالسة معانيها بالتفاضل بين مقدار القيمة الفنية، وبين الموازنة اللفظية وغاياتها اللغوية. في قصيدة: "وَلَه على أعتاب الوجد".

وَلَه على أعتاب الوجد
= = =
أصحو على مضارب تتلوني
سلافة شعره
وبصمة وجد
وسطوة يقين
تزيدني شغفاً

في العنوان نقرأ مخيال البداية أو مَعْقَدْ النص، فنقول في ثيمة "اعتاب" والتي هي جمع عتبة، والعتبة هي: الغليظ من أرض الباب، أو "أسكفَّة" الباب، التي أرادت بها الشاعرة أن تكون مستعاراً تعبر عن حالة تلزم المعنى الواحد في النص بما يشتهيه التنوع المصاحب للمعاني الدائرة بطيفها، من بلاغة التوصيل المعنوي الذي يعبر عن محاكاة التبليغ الاستعاري الذي يصلنا مما يبلغه المضمون من ايعازات ونوازع وميول وألق، أما ما كان في قيمة، "وَلَه". التأثر الحبي الذي يصاحب العاشق في معناه الروحي، الغائب المشار إلى خطوته على تلك العتبة، سواء كانت عتبة الوصال، أو الهجر، أو اللقاء الأول، أو الدار بكل أصنافه، أو المنفى بكل أبعاده، أو العودة إلى مكان معين، وهكذا ف: " وَلَهْ" حققت ما تداخل وتجانس في الميول العاطفية الخصبة، مع أعتاب الوجد، لأن النص يعبر عن الحالة الحبية ومنازعاتها المفتوحة على تقدير بُعْدها القيمي غير المحدود في العاطفة الاختيارية، فهي منحة تجاوبت حسياً في أداءها، غير إنها تصحو على مضارب تتلوها أو تسقيها في الذات ب "سلافة شعره - وبصمة وجد - وسطوة يقين" إذن فالمضارب هو ما يضارب في القيمة أو يماثلها سواء كان في الأدب أو الكرم، أو في المصارف والتجارة، أو في الفروسية. والمضارب تعني القرى المترامية في البادية، نقول مثلاً "مضارب بني تميم". أما ونحن في الشعر فنقول هو يضارب إنتاجها الشعري في قولها"سلافة شعره" أي هو يمنحها عصيرة شعره أو زبدة شعره، أو أعلى ما وصلت إليه قيمته الشعرية، ولم تكتفِ بهذا، بل هو يبصم لها في الوجد أن سطوتها عليه ذات يقين يؤرخ الشغف في نفسها، والمعنى إدامة هذه الحبية أن تستمر في التجمل فما من شيء يمكن أن يجعلها عوضاً عن نفسه، لأنها بمجمل القول هي الجلي الأوجب.

يدسُ طوقاً من عناق جيدي
يبسمله الوشم
وحرقة حرفٍ يبري ليلي
همساً من جنون تارة
وأخرى قناديل هوى من شجن

تستمر الشاعرة في عرض تخيلي يشاغل العاطفة من أوسع تجلياتها، فتضيء ذلك الإحساس بتداعي العناق والضم لجسد تبلسم عليه الوشم المرشوش بالنِّيْلَج، فيكون الجسد كالسراج يضيء ويحترق، كحرف وِشِمَ يلسع الليل، تغرزه دقات أشبه بالنبض أو اللمس الشفيف، وما الجليس في تلك اللحظات الموقدة بالحب سوى الهمس المباح، ربما هو حرف يبني لقاءً منتظراً، أو خيمة تجمع هائميين، ينسج كلمات تطوف على الروح كحبات المطر بغير انتظام، وليس آخره فالهوى يداعب الجنون لكي يرتوي بالشجن المباح.
نتلمس الفطرة التي ترد في شعر الفلاحي، تفيض في الذات المبدعة المعبرة عن الموهبة والاحساس بالإيحاء، أو لنقل الزائر المُؤْذِنُ بالوحي، ولا مدح إن قلنا أن الفلاحي قد أبانت عن إدهاش تأنق بالذائقة والرشاقة الظاهرة في مضمون النص وشكله، بأقتدار ملحوظ، فالوحي الشعري اشبه بالتفويض التخصصي وما تقتضيه السعة من أفانين جواهر الكلام، وأيضاً ما يحويه النظم بأحواله من خلقٍ أصيل، فيكون فيه التطابق المعرفي بين الشاعرة ونصها ملقحا بعضوية واحدة، بحيث لا يظهر فيه أثر الكلفة، بل يرد على عناصر مختلفة المراتب التي تعبر عن الحياة، حيث نجد الشاعرة غيراء على نصوصها، تحميها بعناية فائقة من العن والخلل والتقبيح، وبعد هذا فهي ذكية وناجعة بشخصيتها الكتابية، حسنة النظم وإن كان نثراً، فهي لم تر نفسها دون شعرها المحاك من نبض أفكارها النقية، وديدانها إنها لم تخل في البناء الإيقاعي، ولا في المحاسنة اللفظية المؤدية إلى إنفتاح جريرة المخايلة على أوسع مبنيات المعاني. ففي قولها الآتي نستدل على قصدنا: "يمضي بيَّ متمرداً - يؤلب غيلا و صمتي - عابثاً في فصول حكايتي" ونحن نشير إلى استمرارية تلاقح التصريع، حيث لم ينقطع المنثور العاطفي عن زخ سريان المشاعر فيما تقدم أو تأخر. ومثاله من حيث التصريع قول امرىء القيس في قصيدته اللاميّة:
"أَفاطَمِ مهلاً بعضَ هذا التذَللِ = وإن كنتِ قد أزمَعْتِ صَرْمى فأجْمِلي"
المصراع في هذ البيت قائم على الاستقلال، مع إنه لا معنى للواو الفاصلة بين البيتين، فهي زائدة. ولذلك أشير دائما إلى أن: في القصيدة الحرة لا معنى للتقطيع بالفاصلة بين الكلمات والجمل، بل التقطيع يتم على السطر بدون فواصل أو نقاط، لكن في السرد القصصي أو الروائي فهو مجاز، ومع هذا فأنا أعتبر هذا خطأً شائعاً. من قول الشاعرة، "ويعصف بي حد الوله" إذن "الواو" عطفت الجملة بأكملها على ما قبلها، فنزعت عنها تخصيبها المعنوي، لإنها جيئت بها دلالة على الانقطاع، أي ضد استقلالية البيت بنفسه في الشكل، وفي الوقت ذاته ابتعاده عن المضمون بواسطة الملاقات الروحية في وحدة النص، لذا فالواو زائدة، لا محل لها، لأنها تخلّ في انسياب الاستمرارية الإيقاعية والمعنوية في الروح الداخلية التي تتمتع بها الجملة الشعرية، ولكي نجعل من البيت أو السطر الأول مرتبطاً بالثاني نوصل المعنى باللفظ في المعنى الملاقح للجملة التي تليها، ومثاله قول الشاعر فؤاد الخطيب 1916: " لمن المضارب = في ظلال الوادي - طي الرحاب = تغص بالرواد" فكل واحدة من هذه المصاريع قائمة بلفظها المبني على ما يليها، مع حكمة النغمية الجارية على ملتقى رابطها الإيقاعي في تسامي المعنى.
وعند الفلاحي وفي قولها المبني على تضمين المعنى لمعنى آخر نقرأ: " يعصف بي حد الوله شوقاً - يغازل مدارات روحي راهباً - يطوي ليلي مسارات من حنين - آية شهد مشرئبة بأطياف تغاريد - تنسلني مع ظلال المطر" هكذا نكون أمعنا التناسج بين جملة شعرية وأخرى في بناء تلاقحيٍ، بعيدٍ عن "الواو" المكررة، التي تكون سبباً في ترهيل المجانسة.
أما ما أثارته المعاني هنا من مصاهرة تشتد قوتها وتتآلف في سلة واحدة، خاصة قولها: "ظلال المطر" عندما يشتد المطر تنزل قطراته باحجام مختلفة، أما الأصغر مافيها يتكاثف على شكل دخان، وذلك يحيط بحبات المطر الكبيرة فيكون على شكل ظلال، وهو اشتقاق من معنى إلى معنى مجانس بذات القيمة. تكون الشاعرة قد أحسنت المعالجة توصيلا ينشد الاستدلال من منبعه الفصيح، لما تضمنته هذه المعالجات من ضم يلائم سير المعاني في رشاقة محكمة، وطبعاً هذا يعود إلى القدرة والمهارة الايحائية.
كلمة أخيرة تعتني بالعموم الأدبي وهي: لا شك أن الفساد سواء كان في البنية الفنية أم اللغوية فأنه بائن عند الكثير من الشاعرات والشعراء، إذن لماذا نمتدح لغة الفساد، ونجعل من مؤلفيها مؤمنين بتلك النصوص الفاسدة فنزيدهم فساداً، وكما لا يخفى على القارىء الكريم، فإن القائل بالوجه الأصيل، ليس كما هو القائل بالوجه الدخيل، وبهذا الطراز تجري النصوص المبعثرة بغير هدى، تخل وتشوه مسيرة صاحبها، والأدب العربي بآن.
وفي الوقت ذاته نجد الطرف المهتم والحريص على الصيّغ الإبداعية الحقيقية، المحصنة بالفصاحة، نهمل جانبه، وهو من أغنى الأدب بمنجزات قيمية في إصالته حداثويته وتجديده النوعي من مرتبة إلى مرتبة أسمى، لا سيما أن تلك النصوص الملهمة بذائقتها وأصالتها واكتسابها المثالي أوقع البعض فيها حسن نبضها.
= = =
ملحوظة:
* - أخذت قناعتي تزداد وضوحاً بلزوم تغيير عنوان كتابي هذا، إذ أصبحت هناك ضرورة ذات حكمة، تبعدنا عن الظن من البعض حول طبيعة اختيار الشاعرات، ربما لأنني اتطرق إلى الأسماء التي أجدها حسب قراءاتي وفحصي ضمن حدود قدرتي على استيعاب النص وتقديره، وجدت بعد قرار كان مؤجلاً، أن يكون اسم الكتاب وفق العنوان التالي: "الشعر النسائي العربي بين التقليد والإبداع"


انظر كتاب معجم الأدباء الجز الأول، للعماد الاصفهاني.
انظر كتاب النقد الأدبي ومدارسه الحديثة ص373 وليم هردر
أرسطو. أنظر كتاب فن الشعر.
كتاب القرآن الكريم.
أنظر كتاب البخاري الجزء الأول. ص115
أمسية لسعدي يوسف في كاليري الكوفة عام 1995
كتاب: الأسطورة والشعر، ص66 ، عبدالرزاق صالح، الصادر عن دار الينابيع.
كتاب اسرار البلاغة للشيخ الامام عبدالقاهر الجرجاني ص143
كتاب: النقد الأدبي الحديث، ص7 د. محمد غنيمي هلال، دار العودة.



#جعفر_كمال (هاشتاغ)       تôôèô‏_ؤôéôم#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صباح الخير
- صاحب الكرسي، والمشاكس
- الشعر النسائي العربي بين التسفيط الكلامي وجمالية الاحتراف ال ...
- متى
- الشعر النسائي العربي بين التسفيط الكلامي وجمالية الاحتراف نت ...
- الشعر النسائي العربي بين -التسفيط- الكلامي وجمالية الاحتراف ...
- الشعر النسائي العربي بين -التسفيط- الكلامي وجمالية الاحتراف
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة. الجزء الخام ...
- قصائد ليس لها عنوان
- أشتهي
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة4
- طيف الرضوان
- حوارية.. النرجسة والشاعر
- إبنة موسى
- الفن الكلامي ونوازع الانفعال والميول
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة الجزء الثالث
- ليلة الميلاد
- رائحة الشرطي
- تداعيات التنوع الإبداعي العراقي في مواطن الغربة
- مناي


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جعفر كمال - الشعر النسائي العربي بين التقليد والإبداع