أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - اسماعيل شاكر الرفاعي - خارطة الشرق الأوسط ومسالة الأقليات 3 من 6















المزيد.....



خارطة الشرق الأوسط ومسالة الأقليات 3 من 6


اسماعيل شاكر الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 3602 - 2012 / 1 / 9 - 08:46
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


خارطة الشرق الأوسط ومسألة الأقليات

3 من 6

في الثقافة السياسية العربية في العراقية

لعب النشاط السياسي المعارض لسياسات المملكة العراقية [1921 ، الى 1058 ] الداخلية والخارجية ، والذي تزعمته شخصيات سياسية [ على رأسهم جعفر ابو التمن ] وتجمعات فكرية [ كالتجمع حول جريدة الأهالي الذي ستتفرع منه الكثير من التيارات الفكرية والسياسية ] واحزاب سياسية [ كالحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي والحزب الشيوعي .] دوراً عظيماً في تكوين شعورعام عن وحدة وطنية بديلة ، ذات مضمون اجتماعي ديمقراطي ، منحاز بوضوح الى جانب الأغلبية ضد الأقلية الحاكمة ، قوبل من قبل السلطة الملكية بقمع وحشي متنوع : من الأعدامات ، الى احكام بالسجن المؤبد ، االى السجن مع الأشغال الشاقة . ولقد جسدت هذه الأحزاب مفهومها عن الوحدة الوطنية في تنظيماتها الداخلية ، اذ كانت هياكلها التنظيمية جميعها عابرة للمناطقية والطائفية ، في فترة زهو نضالاتها في اربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم . ويمكنالقول ان هذين العقدين من الزمن كانا عقدي مخاض وتأسيس لثقافة سياسية عراقية جديدة . جدتها تتأتى من تمخض النضال الوطني عن زاوية نظر جديدة للأنسان وعن دوره ووظيفته في الحياة . وقد ناضل رموز هذه الثقافة بصدق ، جادين في تحويل زاوية نظرهم هذه الى حقيقة اجتماعية معيوشة ، فقادهم صدقهم النضالي الى تشكيل جبهة الأتحاد الوطني عام 1957 [ ضمت الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب العث العربي الأشتراكي ] الرافعة الأجتماعية لحركة الضباط الأحرارفي 14 تموز 1958 م ، التي استلهمت زاوية النظر الجديدة وهي تصدر جملة من القوانين والتشريعات ، نقلتها من حركة عسكرية محدودة بحدود صراعات ساسة العهد الملكي ، الى ثورة ، اطاحت بالكثير من الحقوق المكتسبة في العهد الملكي ، فأحدثت انقلاباً جذرياً في موازين القوى الداخلية [ على المستوى الطبقي ] والخارجية [ على مستوى الأحلاف الدولية ، وعلى مستوى امتيازات الشركات الأجنبية ] ، من بين تلك القوانين والتشريعات سأركزعلى اثنين : قانون الأصلاح الزراعي اولاً ، وثانياً : التشريع الدستوري الذي اعترف بوجود قومية ثانية تشارك العرب سكن الوطن الواحد . إنّ الميزة الأساسية لأية ثورة على امتداد التاريخ البشري ، تتمثل بامتلاكها لزاوية نظر جديدة ، تستحثها على اعادة تعريف الحقوق قانونياً ، بأسقاط شرعية إكتسابها من فئات اجتماعية ، واستحداث حقوق جديدة . مما يستوجب ولادة دولة ذات مفهوم أمني جديد ، تتهيكل في ضوء منه مؤسساتها لحماية الحقوق الجديدة . تكثّفت زاوية النظر الجديدة لحركة 14 تموزــ التي استحثت الضباط الأحرارعلى اجراء التغيير السياسي ، والأطاحة بحق العائلة المالكة السياسي في حكم العراق وراثياً ــ في نوعية القوانين التي شرعتها : قانون الأصلاح الزراعي ، الذي أطاح بحق حفنة من الأقطاعيين في الأستيلاء على ثمار جهد الملايين ، أدّى الى انقلاب اجتماعي تحولت فيه غالبية العراقيين ، اي الفلاحين ، من وضع شبه عبودي الى وضع جديد اصبحوا فيه احراراً وملاكين . فمفهوم الوحدة الوطنية الذي رسخته نضالات الأحزاب الوطنية العراقية ، في الوعي وفي الوجدان الشعبي، واستلهمته حركة الضباط الأحرار ، كان مفهوماً ذا مضمون اجتماعي [ فيما يخص الأصلاح الزراعي ] وذا مضمون ديمقراطي [ فيما يخص الأعتراف بالوجود الكردي ] . والأعتراف بوجود شريك قومي آخر للأرض ، حدث غير عادي في مسار الفكر السياسي العربي والأسلامي عموماً . لم يكسر هذا التشريع الذي اعترف بشراكة قومية اخرى للأرض ، مسار الوعي السياسي للدولة التي قامت في العراق عام 1921م ، بل كان كسراً لمسار وعي سياسي عمره آلاف السنين . فلأول مرة منذ أول امبراطورية قامت في الشرق الأوسط هي الأمبراطورية الأكدية ، وحتى آخرها التي هي الأمبراطورية العثمانية ، ومروراً بالأمبراطوريات العربية الأسلامية [الأموية ، العباسية ، الفاطمية ، ]، يتم الأعتراف بوجود شريك قومي للأرض . في الأمبراطوريات الزراعية لا يوجد للعائلة المالكة شريك في الأرض التي تضمها الأمبراطورية . الأرض المزروعة ، بمدنها واسواقها وبثرواتها وبمعابدها وبما تضمه من كنوز وبآلهتها وبطقوس سكانها وبما أنتجوه مادياً وفكرياً وبطرقهم الأنتاجية وبما هم عليه من طرق تفكير ومن زاوية نظر الى الكون والحياة ، وغير المزروعة ، بأنهارها وسهولها وجبالها ووديانها وبغاباتها ومستنقعاتها ، التي اجتاحتها خيول الأمبراطورية وأخذتها عنوة ، اي بالسيف ، تصبح ملكاً للامبراطورية تعيد تشغيله بما يخدم هدفها الستراتيجي ، وبما يديم اشتغال آليات اجهزتها . لم تنتظر الأمبراطوريات الزراعية صدور حكم بالعدالة لكي تفعل ذلك . وحين غادرت المسرح جميعها ودفنتها امواج التاريخ الذي لا يمنح شفاعة بالبقاء الخالد لأي تشريع ولأي نوع من الدول ، تركت لنا جميعاً :[ العادلة منها من وجهة نظر البعض . وغير العادلة من وجهة نظر البعض الآخر ،] مفهوماً سياسياً عن الحق ، تكرر حضوره مع الخطوات الأولى لكل امبراطورية : حقها في ان تبسط سيادتها الكونية . مثلما خلّفت لنا ذكرى عن أمجادها التاريخية ، ظلت تهيمن دائماً على وعي افراد القومية التي ادعت الأمبراطورية تمثيلها ، رغم ان الأمبراطوريات لا قومية لها ، طالما ان لا حق لأحد الى جانب حق الأمبراطور المطلق في التصرف بكل الحقوق . وشئ آخر لا يقل أهمية عن الشيئين أعلاه ، خلفته لنا جميع الأمبراطوريات الزراعية، تمثّل بانسداد الأفق امام مشروعها الكوني . فجميعها ختمت حياتها بتوقف اضطراري لخيولها عند صوى وعلامات محددة ، يغمد عندها فرسان الأمبراطورية سيوفهم لا لكي يستريحوا ، بل للأعلان عن انتهاء دورتهم التاريخية في الفتح . فتتهاوى احلام الأنبياء والفلاسفة والقديسين ، الذين حلموا بجمهورية كونية كتلك التي اقترح نموذجها افلاطون في جمهوريته ، أو تلك المدينة التي منحها القداسة ، القديس اوغسطين ، في ما كتبه عن[ مدينة اللّه ] أو مدينة الفارابي الفاضلة .......
سبقت دويلات /المدن الشكل الأمبراطوري في الوجود. وفيها كانت لكل مجموعة بشرية ارضها الزراعية ، ولها دولتها التي تشرف على ادارة نشاطها الزراعي . كانت دولة المدينة في نشأتها الأولى مكتفية بخبرتها ، اذ لا خبرة في الأنتاج الزراعي لدى غيرها من الأقوام التي ما زالت تعيش مرحلة التنقل ولم تستقر بعد . وكانت مكتفية ذاتياً بما تملكه من مواد تتطلبها دورة الأنتاج الزراعي ، فالتربة والماء والبذور والمناخ الملائم موجودة كلها بين يديها . ولهذا كان مفهوم دولة المدينة الأمني مفهوماً دفاعياً ، ببساطة لأنّ الخارج لايملك ما تملك هي . لم تفكر دولة المدينة في الخارج كمصدر من مصادر تمويل نشاطها الزراعي . وكانت الآلهة مَن يتولى حمايتها، لهذا كان لكل مدينة إله يحميها ، وآلهة اخرى علمتها العلوم والفنون ، مثلما علمتها كيف تسترضي ألآلهة الأخرى فتخفف من غضب الظواهر الطبيعية كالفيضان ، ولا تحبس عنها المطر . كان وعي الأنسان الساكن لدولة المدينة ــ الذي عَبَر مرحلة التنقل واستقر ، ثم اجترح معجزة الثورة الزراعية ، التي عززت من انفصاله عن الطبيعة ، ومنحته قدرة الأعتماد على نفسه في تحصيل قوته ــ مركزاً على ارضه الزراعية . زرعها وهو يترنم بأناشيد عظمة الآلهة الحامية . نظم لها شبكات الري وهو يتلو ألأدعية لآلهة الحرف والفنون ، وبنى مراكز العبادة التي من خلالها يستطيع ان يعي ماذا يدور حواليه ، وماذا يمكن للمستقبل ان يجلب اليه ، وهو يكتب الأساطير والملاحم عن زاوية نظره الى الكون والحياة ، وموقعه فيهما .. وبنى فيها صوامع حفظ الغلال وهو يلهج بالشكر لكبير آلهة المدينة . كانت الأرض هي ماضي ذكرياته ، وهي حاضر نشاطه وهي خزين مستقبله . وحين تتكاثر المراكز الزراعية ، وتتعدد دويلات المدن ، وتقل المساحات الزراعية البور مع تكاثر النفوس ، تزداد قيمة الأرض ، فتنشب مرحلة الصراعات وتدخل آلهة الحروب عضواً من أعضاء مجلس آلهة المدينة . فيتم التعديل والتحوير في مضمون وفي دلالة المفهوم الأمني لدولة المدينة ، ومع هذا التحوير تدخل دولة ــ المدينة في عصر الطغاة ، انصاف الآلهة الذين يبحثون عن القوة فيتم في طورهم تدجين الحصان [ دبابة العصور القديمة ] ، واختراع العجلة . فيتهيّأ مناخ الغزو وتولد الأمبراطوريات بمفهوم أمني تكامل تعريفه : المزيد من الأرض الزراعية يعني المزيد من المال ومن القوة ، والمزيد من الأطمئنان على انّ اعطيات الجند مستمرة وان الغزو واضافة المزيد من الأرضين امكانية قائمة . ومثلما كان وما يزال البحث عن المزيد من الأرباح هي الغاية وراء تحسين وتطوير آلات وأدوات الأنتاج ــ بدعم مراكز البحوث والمختبرات ، التي جعلت من الحضارة الصناعية عبارة عن ثورات تكنولوجية متواصلة ــ كان البحث عن المزيد من أموال الخراج [ الضريبة على الأرض الزراعية ] ، وراء الفتوحات وقيام الأمبروطوريات . فالمزيد من الأرض الزراعية يعني المزيد من تكااثر الأموال بيد [ الأمبراطور ، الخليفة ، الملك ، الشاه او الشاهنشاه ، الأمير أو امير المؤمنين ]، سمه ما شئت ، فالتسمية لا تؤثر على حقيقة انّ سلطة الحاكم وقوته تعتمد على كمية المال الذي يصل خزائنه ، وتتوقف قوته وقوة امبراطوريته ، على حنكته وعلى قوة دهائه ومكره في تصريف هذه الأموال ، [ برع معاوية ابن ابي سفيان في تصريف اموال خراج امبراطوريته بما يقوي مركزه ومركز امبراطوريته على حساب قوة الأمام علي وعلى حساب قوة خليفته الأمام الحسن ] . وتخبرنا وقائع تاريخ الأمبراطوريات ، بأن ضعف الأمبراطوريات يبدأ حين تبدأ مصادر تمويلها المالي من الخراج بالتقلص [ بعد نجاح معاوية في انتزاع مصر من امبراطورية الأمام علي ، ضعف مركز الأمام ، وبدأت قوة امبراطوريته بالتراجع أمام قوة أمبراطورية معاوية ] ولا تستطيع مصادر التمويل الأخرى كالتجارة تحويل دولة ــ مدينة الى امبراطورية ، من غير نجاح أولي يحالفها في السيطرة على دخل سنوي ثابت [ضريبة العشر من ارض اليمن ، وما بدأ يدخل الدولة من اراضي التجمعات اليهودية ] لا يوجد مصدر آخر يمول دولة ظل اللّه في الأرض ، لا تجارة الملابس والصوف والغزل ، ولاتجارة البخور والفخاريات والأسلحة ، تفي بالمصاريف الضخمة لأمبراطورية تبدأ بالأستقلال بآليات عمل [ وكذلك كل دولة ] ما ان يضع لها مؤسسوها مفهومها الأمني ، ولا يستطيع أحد بعد ذلك تغيير او ايقاف آليات عملها ، دون ان توجه له تهمة المروق فيتحول الى ضحية حتى لو كان من مؤسسيها [ بعيداً عن اجواء الوعي الطائفي الضارب بأطنابه ، كان الخليفة الثالث عثمان بن عفان واحداً من مؤسسي الدولة الأسلامية ، وضحية اشتغال آلياتها في آن معاً . وفي عصرنا الحديث أمثلة كثيرة على ذلك ، تهمة التحريفية لاحقت الكثيرين من مؤسسي الأتحاد السوفياتي ، تروتسكي كأول ضحية ثم تلاه آخرون . وفي عالمنا العربي شاعت مع كل انقلاب عسكري فكرة الحركات التصحيحية ] . ما ان تتهيكل الدولة على أساس من مفهومها الأمني حتى يتحول الجميع : النص المؤسس، والمؤسسين، والسكان ، الى طاقة لتغذية آليات اشتغال مؤسساتها . وكل التصورات الدينية والسياسية والفلسفية السائدة تتحور وتأخذ معنى جديداً يتأكد فيه الحق الجديد للأمبراطور بأراضي الأمبراطورية . لم يتضمن المفهوم الأمني لدولة المدينة ، [الشكل الأول للدولة في التاريخ ]،إمتدادات خارجية . الخارج في وعي دولة المدينة : همجي ، بربري . وعي سكان دولة المدينة يقيس ما عليه الخارج من اخلاق من خلال الأنتاج والعملية الأنتاجية . أقوام الخارج ما زالوا متنقلين ، لم يستقروا بعد ، إنهم بحاجة الى زمن طويل تقتضيه عملية الأستقرار ، ليرتقوا بعدها الى ناصية انتاج غذاءهم بأنفسهم ، ولذلك فأنّ أقوام الخارج في عرف سكنة المدينة لايتوانون عن القيام بأعمال نهب وسلب لكل ما يقع بين ايديهم من قوت ، وليس باعمال غزو . الغزو يتطلب تنظيماً ووضع خطة ، ويتطلب تفكيراً فيه الشئ الكثير من إعمال العقل الذي تتطلبه عملية وضع الخطط ، الأمر الذي لم يبلغ شأوه الأنسان الذي ما زال يعيش مرحلة التنقل التي يكون فيها مدفوعاً بغريزة البقاء لا بدوافع اخرى ، من تلك التي تدفع المزارع الذي بدأت تواجهه تحديات اخرى ، غير التحدي المباشر الذي تواجه به غرائز الأنسان المتنقل صاحبها ، وتستحثه على التلبية الفورية . كلمة بربري او همجي اقرب الى توصيف الحالة ، وابعد عن التقييم الخلقي ــ الديني الذي سيولد لاحقاً مع نزعة تكفيرية تتطلب القيام بغزو الخارج وفرض شريعة اللّه عليه . لم يزل الخارج بعيداً عن االلحظة التي يصبح فيها طرفاً لا غنى عنه في اتمام الدورة الزراعية . ولذا لم يكن الخارج داخلاً في المفهوم الأمني لدولة المدينة . صورة الأمبراطورية في الروايات والحكايات التي ارادت ان تخبرنا عن النشوء والنمو والسقوط ، تضمنت الغرائبي والعجائبي والمعجز من الأفعال ، مثلما تضمنت الخرافي والأسطوري والملحمي . ولقد تداخل ذلك كله لينتج وعياً تغريبياً ، يفصل الأسباب عن نتائجها الطبيعية ، فعلة المطر ليست في الحرارة والتبخر اوالبرودة ، بل هي نتيجة اوامر قوى غير مرئية لاراد لسلطانها ، امرت المطر بالهطول حيث نزل .يبدأ ــ في هذه المرحلة التي تخلّق فيها وعي ، افسح في زاوية نظره حضوراً للخارج ، ــ اللامرئي يتحكم في المرئي ، والمجهول في المعلوم ، ويمد البعيد بسلطانه على القريب ، فيتم استحضار الخارج من الزاوية نفسها : زاوية التغريب، متحولاً فيها من وجود مادي [ أرض زراعية وثروات أخرى ]الى تجريد [ مجموعة من اليقينيات والأخلاقيات والأعتقادات ]. لاتتحدث الأمبراطوريات عما يملك الخارج ، بل عما هو عليه من ضلال وغواية . وسيصل فعل التغريب الى النقطة التي عند بلوغها تتم لحظة انقلاب في الوعي السياسي : انها لنقطة التي يبدأ منها الوعي الأمبراطوري بالتخلق ، فتبدأ الأقوام والشعوب بالشعور ــ انطلاقاً منها ــ بأنه لم يعد بالأمكان الأنفراد بوجود خاص ، وانّ الأستقلال عن اقوام الخارج لم يعد بالحقيقة التي يمكن في ضوء منها ترتيب حياة خاصة . فأما ان ينقلك البناء الخاص الى الخارج ، او يجلب عليك الخارج . وفي هذه الفترة من التطلع الى الخارج سيكون ثمة بوح ، وأسف وندم وتفجع . ستختلط فرحة ضم الأراضي الجديدة بدموع المهزومين ، الذين أُجبروا على التخلي عن حياتهم الخاصة ، وعن زاوية النظر التي قادتهم الى صناعة تلك الحياة . وسيسمي البعض من الكتاب ذلك الخليط المضطرب من الأحاسيس والمشاعر الذي يشبه تبلبل السنة الأمبراطوريات ــ وليست امبراطورية بابل لوحدها ــ شعوراً انسانياً أو ضميراً ، ولكن ذلك لا ينفي حقيقة انّ ذلك الضمير الذي يحث على الأخذ بيد الآخر صوب جادة الصواب، ترافق مع غرس الأحساس لدى الآخر بالدونية . واجباره ، والسيوف تقطر من دمه ،على الأعلان عن ندمه على ما كان يتخبط فيه من غواية ، وان عليه ان يدفع كفارة عن ضلالته بأن يقتطع سنوياً شيئاً من محصوله الزراعي للفاتحين ، الذين تجشموا عناء قطع المسافات الطويلة للوصول اليه . ستجبره خيول الأمبراطورية على التنازل عما يعتقد ، وعلى استبدال شبكة تنظيماته الأجتماعية بالشبكة المجلوبة والتي سيكون التقيد بطاعتها عنواناً على اعلان الولاء . عند هذه النقطة ايضاً تسقط حضارة الأقوام ، او حضارة دويلات المدن ، حتى وان ظل افرادها يمارسون نشاطاتهم الأنتاجية السابقة . لقد فقدوا الهدف والغاية من انتاجهم ، اكان ذلك الأنتاج فكرياً ام مادياً ام فنياً . وتحول نشاطهم لتلبية غاية اخرى ، ولخدمة مفهوم أمني آخر ، و بعد ان يبدأ وعي شعوب القوميات الأخرى بتمثل الوعي الأمبراطوري ، واستبطان المفهوم الأمني للامبراطورية ، تبدأ هذه الشعوب بهلينة نفسها ، أو بتفريسها أو بتعريبها وأسلمتها .وهذا ما يفسر لمَ ظلّت مؤسسة الخلافة العباسية في الوجود لقرون رغم انّ الخليفة لا يملك من امره شيئاً . تعمل الأمبراطرية الزراعية في اتجاهين متعاكسين : اتجاه الخارج [ او دار الحرب ]. واتجاه الداخل [ الذي يتم من خلاله توريد الغنائم واموال الخراج والجزية الى مركز الخلافة ] واي تقاعس في دعم هذين الحركتين المتلازمتين يؤدي بالضرورة الى بداية تآكل قوة الأمبراطوريات ، وبداية فقدانها للكثير من أراضيها ، الشئ الذي سيصيب الأمبراطورية بمقتل ان آجلاً او عاجلاً [ وهذا ما حلّ بالأمبراطورية العباسية بعد عصر المتوكل ، اذ بداَت تتآكل مصادر تمويلها ،بانفصال الكثير من الممالك عنها ، فأصبحت أوامر الخليفة لا تتعدى حدود قصره في الكثير من الحالات ] دار الحرب هو المفهوم الأمني الذي تهيكلت الدولة الأسلامية في ضوء منه . ودار الحرب من زاوية نظر الغطاء الديني الذي تسربلت به الدولة الأسلامية لأعلان الحرب عليها ، هي دار كفر ولذا أعدّ لها المسلمون القوة الكافية لتحريرها مما تتردى فيه من غواية وضلالة . ولكنها من زاوية نظر حقائق الثروة والغنى والقوة ، اي من زاوية نظر دنيوية محض ، هي ارض الغنائم ، ارض[ اللبن والعسل] ، وارض اموال الخراج ، وهذا ما يفسر لنا التفاني الذي بذله الكثير من قادة المسلمين على الأستمرار في الفتح و[ نشر الأسلام ] ، والكثير منهم كان متهماً بارتكابه لكبيرة أو أكثر من الكبائر الدينية ، أي كان متهماً في دينه ، وكانت سيرتهم المتفلتة من قيود الدين ، واحدة من المسائل الكثيرة التي رفعها الثوار بوجه الخليفة عثمان ابن عفان وأدت الى مقتله . وفي الحرب الأهلية التي تلت مقتله ، تكاملت للأمبراطورية الأسلامية ملامح عصرها كامبراطورية تعيش في التاريخ لا خارجه ، وكان معاوية هو الفارس الذي دعم ميلها الطبيعي لتكون دولة تشتغل بشروط عصرها . وحين نجح معاوية في ضم امبراطورية الأمام علي وامبراطورية ابنه ألأمام الحسن من بعده ، ووحد الأمبراطورية الأسلامية ، تكاملت لها سمات امبراطوريات عصرها : مفهوم امني يستحثها على مواصلة الفتوحات بالطرق المتكرر على أبواب دار الكفر، وعائلة مالكة ترث الحكم على عادة العصر الذي ولدت فيه الدولة الأسلامية . تجلس هذه العائلة على هرم دولة شديدة المركزية وتمنحها اسمها . ولو كان الأمام علي هو المنتصر في الصراع الدامي بينه وبين معاوية ، لتكاملت بين يديه امبراطورية بالسمات نفسها ، ستشتغل امبراطوريته بالمفهوم الأمني نفسه : التوجه الى دار الكفر ، وستكون شديدة المركزية ، يجلس على قمة هرمها بالتناوب الأئمة من اولاد الأمام علي ، من غير ان يكون ثمة فارق ضخم بين الدولتين ، لا في المؤسسات ولا في آليات اشتغالها ، على الرغم من الفارق الضخم بين الشخصيتين من حيث السبق في الأسلام ، ومن حيث التقوى . لا يستطيع الأمام علي على شدة تقواه ، وعلى بلاغته الحاملة لحكمة عصره ، وعلى ما تمتع به من فراسة ، ومن قدرة ذهنية عالية على استنباط الأحكام الفقهية ، ان يغير شيئاً من آليات اشتغال دولة تهيكلت على مفهوم أمني لعب الخارج ، أي دار الحرب [ مصدر الخيّرات ، ومكان فعل الهداية ] دوراً حاسماً في ولادة مؤسساتها . لايستطيع الأمام علي الغاء اية مؤسسة من مؤسساتها ، ولا تبديل طرائق اشتغال آلياتها . ولا علاقة هنا بتقوى الأمام علي . بل بالعكس ان تقوى الأمام علي ، والعدالة التي اشتهر بها ، كانتا نتيجة من نتائج تمسكه الشديد بالتصورات الأسلامية التي انتج شغل المسلمين عليها دولة تعمل انطلاقاً ً من تلك التصورات . لم يعترض الأمام علي في نهج البلاغة ، على وجود مؤسسات الدولة ولا على توجهاتها العامة . فخطبه ذات البلاغة الآسرة لم يرد فيها اعتراض على وجود مؤسسة الخلافة ، ولا على وجود مؤسسة عسكرية حملت الدولة ألأسلامية كل قبائل البدو على الأنخراط فيها ، من غير اختبارات تقوى مثلا ً . كانت عملية مباشرة الجهاد وفتح البلدان تطلبت تعبئة وتحشيد ضخم ، من غير ــ مرة ثانية ــ الأخذ بالتقوى كمبدأ اساسي وشرط مسبق لتولي القيادة . فلم يكن خالد بن الوليد الذي اثيرت حوله الكثير من الشبهات في حروب الردة ، مشهور بالتقوى . بل كان ذا كفاءة عسكرية نادرة جعلته واحداً من اكبر الستراتيجيين في صدر الأسلام . ورغم انه تسبب في هزيمة المسلمين في معركة احد ، الاّ انّ تلك الكفاءة العسكرية فرضته قائداً لجيش المسلمين في معركة نادرة في التاريخ وانتصر فيها . لم يتحكم في الموقف: التقوى ، لا في تحشيد قبائل البدو ، ولافي تعيين القيادة . لقد تحكم في الموقف المفهوم الأمني للدولة التي ستخنقها ضعف وارداتها المعتمدة على ما تجنيه من داخل شبه الجزيرة[ الزكاة السنوية من قبائل لا تعتمد الزراعة اسلوباً لها في العيش، بل تعتمد تربية الماشية والغزو المتبادل، وعشور بعض الواحات ] . ولقد وعى الخليفة ابو بكر الصديق حقيقة قلة واردات الدولة ، مثلما وعى الحقيقة الأخرى ، حقيقة ان القبائل البدوية ستعاود الكرة في حروب ردة أخرى ، ولن تدفع الزكاة المفروضة عليها كركن من اركان الدين ، وستنتفض مجدداً على حكومة قريش في المدينة ما ان تسنح لها الفرصة . والبحث عن موارد ، ومنافذ مالية اخرى للدولة سينقذ الدولة . ولا يستطيع الأمام علي ــ الذي ارسل ابنه الحسن مع جيوش الخارجين الى الفتح ، وبارك هذه الجيوش الغازية ، وتقدم بين يدي خالقه بالدعاء لها بالنصرــ ان يغير من قرار الخليفة عمر ابن الخطاب الذي قرّر ان تكون ارض العراق والشام اللتين تم فتحهما أرضاً للدولة ، أو ان ينطلق من رؤية أخرى تتجاوز عصره ، فيعارض قرار الخليفة بقرار يدعو الى توزيع الأرض الزراعية التي تم فتحها على الفلاحين ، فيتم تحريرهم من دهاقنتهم القدماء ، ومن الدهاقنة الجدد الذين سيسومونهم سوء المعاملة التي ستضطرهم شدتها الى تقبل دعاوى العمل السياسي السري المعارض ضد طغاتهم الجدد ، ممثلين بالبيت الأموي . ولم يكن شعار المعارضة السياسية للبيت الأموي : شعار المساواة ، الذي قادته العائلتين العلوية والعباسية ذا مضمون اجتماعي . ولم يكن يحلم الفلاحون انفسهم بهذه المساواة الأجتماعية . كان شعار المساواة يتضمن إحياء ما لا يمكن إحياؤه :[ لا فرق بين عربي وعجمي الاّ بالتقوى .] وكيف تتم عملية المساواة وشرعية الدولة نفسها لم تقم على المساواة بين العرب أنفسهم بعد ان حسم الحق في الخلافة لقبيلة واحدة من العرب هي قبيلة قريش ؟ ويدعم ما أقول ان النشاط القرمطي التبشيري بالمساواة من قبل القرامطة لم يمر من غير غطاء ديني بالدعوة لآل البيت . وهذه دلالة تاريخية قاطعة على ان التبشير السياسي المعارض لدولة بني العباس ، لم يكن بقادر على ان يحقق انتشاراً بين جماهير الفلاحين العريضة من غير ان تتقدم كل الشعارات المرفوعةعن المساواة الدعوة الى أصل الحقوق جميعاً : حق امام من قريش علوياً كان ام غير علوي بالخلافة . انا هنا لا انكر دور الفرد في التاريخ . لقد انجز الرسول محمد ما امره به ربه ، ولن يستطيع احد بعد الرسول ان يبطل العمل بآية السيف التي شكلت المفهوم الأمني لدولة المدينة . والتي ، اقصد الآية الكريمة ، حددت الأتجاه : السير نحو الخارج الذي ما زال يعمه في الضلالة ، بعد ان تم توحيد الداخل ، أي الجزيرة العربية . مفهوم تحقيق العدالةعن طريق فكرة الأصلاح الزراعي ، لم يتحقق في الدولة الأسلامية ، لكونه مفهوماً غريباً عن روح العصر الذي ولدت فيه الدولة الأسلامية، ولا يمكن ان يتحقق الآّ في عصر لاحق . وهذه حقيقة من حقائق التاريخ . وهي حقيقة تشير الى انّ ولادة المفاهيم السياسية عملية تاريخية مرتبطةبتغير عميق في زاوية نظر مجموعة بشرية يحتمها تغير اسلوب انتاج الحصول على ضروريات العيش . ولا يمكن لمجموعة بشرية غازية جاءت من وسط اجتماعي الغزوة فيه ممارسة مشروعة من ممارسات الحصول على ضروريات العيش ، ان تحمل حلاً لمشاكل مجموعة بشرية تنتج ضروريات حياتها بنفسها عن طريق الزراعة والحرف الأخرى المرتبطة بأسلوب الأنتاج الزراعي . لا يمكن لمجموعة بشرية التفكير بحل لمشاكل عمل لم تمارسه . فكيف اذا كانت تلك المجموعة البشرية تحتقر العمل اليدوي ، وتعد الأرتباط بالأرض نوعاً من الخنوع ، وقيداً من القيود التي يفرضها الناس على حرياتهم . انتجت التتشكيلة الأجتماعية البدوية زاوية نظرها الخاصة بها عن العالم ، وطورت زاوية النظر هذه مفهوماً محورياً هو مفهوم البطولة ، الذي تتجسد فيه خلاصة نظرتها لطريقة تحصيل ضروريات حياتها . والبطولة مفهوم مركزي في ثقافة التشكيلة الأجتماعية البدوية الذي تدور من حوله منظومتها الفكرية ، الذي يغطي على عملية الغزو بما تتظمنه من سفك دماء وسبي ونهب ، بغطاء جمالي ، أخذ الشعراء على عاتقهم دور المنظر له باسلوب يلبس الباطل فيه ثياب الحق ، ويلبس الحق فيه ثياب الباطل ، كما في تعريف الجرجاني للبلاغة . ولعب الرجز فيه من بين انواع الشعر الأخرى دور التعبئة والتحشيد . ومطالبة تلك التشكيلة الأجتماعية بأن تعالج مسألة الأرض الزراعية لبلدان العراق والشام ، بطريقة اخرى غير الطريقة التي عالجتها بها ، تشبه الى حد كبير دعوة صادرة الى الحكومة العراقية لوضع الحلول الناجعة للأزمة المالية والأقتصادية العالمية المستمرة منذ عام 2008 . وهكذا كان صاحب القرار في ان تكون الأرض الزراعية للبلدان المفتوحة ملكاً للدولة منسجماً مع نظرته للعدالة . كان حلم الخليفة عمر بن الخطاب ان ياتي الراعي نصيبه من مال الخراج وهو باليمن ودمه في وجهه . رأياً منسجماً مع زاوية نظره للعدالة . التي هي زاوية نظر الدين الجديد عن العدالة . في زاوية النظر هذه تم تحوير المفاهيم السائدة عن الحق التي ربطها مفهوم البطولة بالقوة وأباح هذا المفهوم لكل قبيلة تتوفر على شئ من القوة ان تغزو القبيلة الأضعف وتستولي على ماتملك . وقائد الغزوة او السرية يكون عادلاً في نظر نفسه وفي نظر جماعته ، اذا وزع الغنيمة وفقاً للعرف السائد وسيتغنى الشعراء بهذه العدالة ، لاسؤال يرد هنا ــ من وجهة نظر هذه العدالة ــ عن القبيلة الضعيفة التي فقدت ما تملك ، ولا سؤال عن المعاناة التي تسببت بها الغزوة لهم . مفهوم البطولة لايلتفت لمثل هذه التساؤلات الخالية من الجمال . الجمال يكمن في القوة الغالبة وفيها تكمن كذلك العدالة والحق . والخليفة عمر ابن الخطاب حين أخبر بحلمه ذلك ، فأنه كان صادقاً وسيتحقق لأولئك الرعاة ما حلم به ابن الخطاب . فقوة شخصيته وجرأته مشهود لها بالحضور والتأثير يوم كان الى جانب الرسول في بناء لبنات الدولة الأسلامية ويوم أصبح خليفة . والخليفة لم يكن ــ وهو يحلم ذلك الحلم الأنساني بتحقيق العدالة ــ رئيس قبيلة أو قائداً لغزوة . كان رئيساً لدولة في طور التحول الى إمبراطورية ، بعد ان تم لها فتوح بلدان وهزيمة امبراطوريات . لقد حلم الخليفة بأن يدخل هؤلاء الرعاة في ديوان الأعطيات الذي اسسه فينالهم الراتب الثابت مما تجلبه الدولة من ضرائب فرضتها على شعوب البلدان المفتوحة ، بأن تقتطع قسماً من انتاجهم وتأتي به الى المدينة فيأمر الخليفة على شمول الأعراب في اطراف الجزيرة به ، من غير ان يبذوا جهداً في انتاجه وحتى من غير ان يسمعوا بالمكان الذي جُلب منه . العدالة وفق هذا التصور تعني إشاعة الغنى ــ المجلوب بالقوة من شعوب وقوميات اخرى ــ بين افراد القبائل العربية ، ولكنّ هذه العدالة العنصرية ظلت مفروضة على شعوب دون غيرها . ولم تغطي مساحة جبايتها كل الشعوب . لقد توقف الفتح عند صوى وعلامات محددة وذهب جهد فلاحي الشرق الأوسط وشمال افريقيا هباء منثوراأذ لم تستطع الأمبراطورية الأسلامية ان تبني دولتها الفاضلة عالمياً . الخارج الذي هو مجال الفعل الحيوي للدولة الأسلامية ، لهداية اقوامه الضالة ، ولأخذ الضريبة اللازمة على هذه الهداية ، يتحكم التحكم كله ببنية الدولة الأسلامية . انه المجال الحيوي لحيوية الدولة ولديمومة اشتغال اجهزتها ، وما ان تتوقف الامبراطورية عن حوار الخارج بالسيف ، اي توقف العمل بمفهومها الأمني ، وتوقف الجهاز العسكري عن مداومة الفتح ، حتى تصيبها الشيخوخة ويدب في اوصالها الموت . وموت الدول التي تقوم على مفهوم امني يتضمن اعلان الحرب على الخارج ، يبدأ حين تبدأ حركة انفصال في داخلها وعلى اطرافها وتخومها البعيدة [ الدولة الفاطمية في شمال افريقيا وكذلك دولة المرابطين ودولة الموحدين ] او داخل حدودها المشرقية [ دولة القرامطة ، دولة الزنج ]أو ببداية احتلال قيادة مؤسساتها من قبل طوائف دينية اسلامية [ البويهيون ، السلاجقة ] .فالامباطوريات الزراعية الباحثة عن تكثير اموالها وقوتها بتوسيع رقعة اراضيها ، يتحكم الخارج بشدة ببنيتها فيجعلها انطلاقاً من [ وأعدوا لهم ما استطعتم ومن لباس الخيل ترهبون به عدو اللّه وعدوكم ] شديدة المركزية . وستتهم الدولة كل من حاول الأنفصال عنها اي اقتطع قسماً من الأرض كانت تجني منها الأموال السنوية ، بالمروق والزندقة والخروج على سنة اللّه في خلقه . الدولة الأسلامية هي دولة جميع سكانها على اختلاف انتماءاتهم العرقية والثقافية والدعوة للانفصال عنها : من قبل الطوائف الأسلامية التي تناضل لأنتزاع الملك من بني العباس لشعورها بأنها تمتلك صحيح الدين ، او من قبل أقوام اخرى تشعر بانسحاقها الرهيب ألأنساني والثقافي وبوطئة الضرائب عليها ، انما هي في عرف الدولة وفي عرف عائلتها المالكة دعوة لأضعاف الدولة الأسلامية المدافعة عن بيضة الأسلام ............
واذن فأن دستور ثورة الرابع عشر من تموز وهو يتضمن الأقرار بشراكة الكرد للعرب على تراب الدولة في العراق ، والأعتراف بان لغتهم الكردية هي اللغة الرسمية الثانية في العراق ، لهو شئ جديد على الثقافة السياسية التي ورثها العراقيون . لقد تنكرت الثقافة السياسية الموروثة ، [ السياسة الشرعية ] ، ليس لوجود الأمم والشعوب التي ضمتها الأمبراطورية الأسلامية ، بل للوجود العربي نفسه ، حين ربطت حق الحكم بقبيلة واحدة من العرب هي قبيلة قريش [ السياسة الشرعية للمذاهب السنية ] ، أو بعائلة واحدة من قريش [ السياسة الشرعية لمذاهب الشيعة انطلاقاً من نظرية الأمامة التي تقول بالنص على الأمام ] وجعلت كل ما تضمه اراضي الأمبراطورية من خيّرات بستاناً موقوفاً لمنفعة قريش وحدهم ، يتصرفون بثمراته كيف شاؤوا . ولم تكن المسالة الزراعية من المسائل التي احتفى بها القرآن الكريم . فالقرآن الذي نزل منجماً ، نزلت احكامه وتشريعاته هي الأخرى منجمة . كانت في معظمها اجوبة على أسئلة واجهت الرسول محمد ، واجابه الوحي عليها . ولخلو مكة المكرمة من الملكيات الزراعية الكبيرة لأنها كما عبر القرآن نفسه عنها ، تقع في [ وادٍ غير ذي زرع ] ، لم تكن مسألة الفلاحين ومعاناتهم من المسائل الملحة على الدعوة الأسلامية . وارجو ان يفرق القارئ الكريم بين العبد والفلاح . لقد انتصر الأسلام للعبد أو للرقيق . بدعوته الى العتق . فالأسلام من هذا الباب كان مشرعاً للعتق لا للعبودية . وكان القن او العبد مملوكاً ملكية مطلقة من سيده ويعمل في مختلف المهن لصالحه ، ولم يكن مختصاً فقط بالحرث والزرع كما هوحال الفلاح الملتصق بالأرض . وستكون ــ المسألة الفلاحية وملكية الأرض ــ من المسائل الحساسة التي ستواجه خليفة الرسول بعد فتح بلدان الحضارات الزراعية كالعراق والشام ومصر ، وسيتوقف على قرار معالجتها مستقبل الامبراطورية الأسلامية . وكان قرار الخليفة عمر ابن الخطاب بأن يجعل رقبتها ، أي ملكيتها ، للدولة ، وان لايوزعها على قادة المسلمين ، قرار رجل دولة وعى ــ بعد تحول الدولة الأسلامية الى إمبراطورية ــ بأنّ عملية الأستمرار في الفتوح لنشر الأسلام تتطلب منه مصدراً ثابتاً للدخل ، للأستمرار في تمويل العمليات الجهادية ، سيّما وانه حديث عهد بتجربة تمويل دولة المدينة ، التي شكل الغزو ــ اضافة الى الزكاة ــ مصدر دخلها ، وهو مصدر غير ثابت[ حروب الردة التي قامت لأمتناع الكثير من القبائل عن دفع الزكاة ] وغير مستقر . يندرج قرار الخليفة في باب حكمة رجل دولة نجح في استشراف المستقبل الذي ستتوقف فيه مؤسسات الدولة عن الأشتغال لو انه اخذ بمشورة صحابة آخرين كانوا يرون ــ انسجاماً مع الموروث القبلي [ في توزيع الغنيمة على شكل حصص للزعيم منها حصة الخمس اضافة الى ما يصطفيه منها ] والديني [المتمثل بموقف الرسول محمد من اراضي اليهود .]ــ توزيعها على القادة الذين فتحوها . حوّل الفقهاء قرار الخليفة الى ُسنّة تُحتذى ، و اسقط عليه بعض الدارسين المعاصرين اوهامهم الفكرية ، وعدوا الخليفة واحداً من أسلافهم الفكريين الذين طبقوا نظرية رأسمالية الدولة في وقت مبكر من عمر الأمبراطورية الأسلامية . مع ان الخليفة اجتهد في ان يكون ابناً باراً لدينه الذي ارتبطت دولته بمفهوم أمني محدد يتمثل بالجهاد لنشر رسالة الأسلام عالمياً . وانه رأس الدولة ، المسؤول امام ربه ــ لا أمام البشر ــ عن ديمومة الاستمرار بتحسين شروط اشتغال جهاز الدولة العسكري . غاب ذلك عن هذين التفسيرين . مثلما غاب عن المفسر المعاصر ، بأنّ قرار الخليفة كان قراراً في نقل ملكية الأرض ، من مالك قديم مهزوم هو : الأمبراطورية الساسانية وملاك الأرض من الدهاقنة ، الى مالك جديد منتصر هو : الأمبراطورية الأسلامية . أما شروط العمل والعلاقة بين الفلاح وبين منتوجه ، فظلت كما هي ، وتحول الدهاقنة الى وظيفة جديدة : وظيفة جباية الخراج لصالح المالك الجديد وفق النسبة المئوية نفسها التي كانوا يتقاضونها من الفلاح تحت نظام الساسانيين ، وبأستخدام السجلات نفسها ، وهي عملية استمرت الى الوقت الذي عرّب فيه الدواوين الخليفة الأموي عبد الملك ابن مروان . لم يتضمن قرار الخليفةعمر ابن الخطاب معالجة لمعاناة الفلاحين ولأستغلالهم من قبل مالك الأرض القديم . اذ لم يتناول الخليفة ــ رأس التشريع بعد وفاة الرسول ــ الفلاح بحكم جديد ، بل اضافت تشريعات الدولة الأسلامية على كاهل الفلاح عبئاً ضريبياً جديداً، فبالأضافة الى ضريبة الخراج [ الضريبة على الأرض ]اضافت ضريبة اخرى هي ضريبة الجزية التي يدفعها سنوياً للدولة كل مزارع ظلّ على ديانته القديمة . والضريبتان معاً بالأضافة الى ضرائب اخرى تشمل الحيوانات والثروات الطبيعية ، تفنن الفقهاء في استنباطها ، تعطياننا فكرة عن نوع الأرهاق الذي عانى منه الفلاح في حكم الأمبراطورية الأسلامية ، كما تفسران لنا سبب النشاط السري الكثيف المعارض للدولتين الأموية والعباسية ، الذي مارسته مختلف الطوائف الدينية ، والذي كان يجد وسط المزارعين ارضاً خصبة . مثلما تفسران لنا الدور الحاسم الذي لعبه فلاحو خراسان والعراق في الأطاحة بامبراطورية الأمويين ، واستمرار النشاط المعارض من قبل القوى المناوئة لسلطة بني العباس . لم يشعر الفلاح بالعدالة ، وهو يبذل الجهد اليومي المتواصل لأرضاء سادته الجدد من قبيلة قريش . مثلما لم يشعر بها في الأمبراطوريات الزراعية التي بنتها مختلف الطوائف الأسلامية في شمال افريقيا او في المشرق العربي ، ولم تتحقق المساواة العرقية والأثنية لا هنا ولا هناك . لأنّ مسالة العدالة الأجتماعية والمساواة ليست مسألة تبشير . المسألة تتعلق بالتشريع . من اين يمكن لهذه الفرق الدينية الأتيان بالقرينة او بالشاهد الذي يسند دعاواهم في تحريم الملكيات الزراعية الكبيرة وتوزيعها على الفلاحين ؟ ولا ينفع هنا الأستشهاد بالنصوص التي تتحدث عن العدالة والمساواة اللتان لوحت بهما هذه الفرق للمزارعين ، العدالة مسألة تنظيم اجتماعي لا يمكن ان تتحقق في مجتمعات الحضارات الزراعية القائمة على ثنائية : السادة ــ العبيد ، وثنائية الخواص / العوام . وفق هذه الثنائيات ينشطر المجتمع شطرين بثقافتين لكل منهما زاوية نظرهما الخاصة. وما تزال هاتان الثقافتان تلقيان بظلال قوية على العلاقات الأجتماعية الى وقتنا الحاضر في مسألة الزواج مثلاً . ظلّ عالم الفقه مغلقاّ امام مسألة الفلاحين . والفقه نشاط فكري تقوم منهجيته على جعل الماضي مستمراً في الحاضر ، ان على مستوى الصراعات المذهبية [ كما في العبارة المتكررة : قال شيوخنا ، او قال السلف الصالح ،او قال أئمتنا ] او على مستوى الفتوى كجواب على اسئلة تواجه بها مستجدات الحياة عالم الفقه والفقهاء [ في البحث عن القرينة والشاهد في الماضي ] . والفقه في جملته يقوم على حقوق افراد ، وليس على حقوق الأمة [ في المصطلح السياسي الحديث ، وليس بمعناها الفقهي التي تعني جماعة المؤمنين ، ثم تقلص معناها ليدل على جماعة المؤمنين من الطائفة الواحدة ] اذ انّ الأنشطار المذهبي قام على قاعدة التعصب لهذا الصحابي او ذاك ، أيام الفتنة الكبرى ، وحقه الشرعي بالخلافة . وليس على حقوق الأمة التي لا تنقض حقوق افرادها على اسس دينية او عرقية ، كما كان الحال في الأمبراطوريات القديمة ، التي لا تمنح حقوق الأنتساب للأمة الاّ على قاعدتي الأيمان ، والقتال من اجل لأيمان . الفرد في الأمة الحديثة حر في ان يختار دينه او طائفته او حزبه السياسي ‘ وليس كما كان الحال في الأمبراطوريات القديمة ، حيث يقام عليه حد الردة ، اي القتل ، اذا غير دينه . وفي هذا يقدم عالم الفقه دليلاً على انّ الدولة الأسلامية قامت في مناخ لم تلعب فيه الزراعة دوراً مشهوداً في تكوين ثقافته . ولعبت الثقافة القبلية البدوية دوراً مشهوداً في توريث الكثير من مفاهيمها وزاوية نظرها المتركزة على الغزو في تحصيل ضروريات الحياة ،الى الدولة الأسلامية . فكان على فلاحي الدول الأسلامية الأنتظار قروناً ــ حالهم حال الفلاحين في مشارق الأرض ومغاربها ــ حتى مجئ الثورات الوطنية بفكرة الأصلاح الزراعي . ومنذ ذلك الوقت دخل مفهوم الأصلاح الزراعي بندأً عريضاً عاى جدول اعمال الثورات الوطنية الديمقراطية ، من دونه لاتتحقق عدالة اجتماعية في عصرنا الحديث . كان تشريع 14 تموز عن الأصلاح الزراعي تتويجاً لوعي سياسي جديد ، وهو وعي سياسي تَخلّقَ بين يدي العراقيين في كفاحهم ضد الأقلية المالكة للأرض في العهد الملكي . هم لم يخترعوا مفهوم الأصلاح الزراعي ، ليوزعوا الأرض على الفلاحين ، ولم يخترعوا مفهوم حق الأمم في تقرير المصير ، ليعترفوا بوجود قومية ثاانية في العراق ، لم تعترف بوجودها دول القوميتين الفارسية والتركية لحد الآن ، رغم مرور اكثر من نصف قرن على اعتراف الثقافة النضالية لجبهة الأتحاد الوطني بها . ذلك لأن الكفاح ــ اذا كان وطنياّ ، اي عابراّ في رؤيته وفي برنامجه لأسوار الطوائف والقبائل ــ سيكتشف بنفسه الطريق الى العدالة التي سبقته الى اكتشافها البشرية في أركان أخرى من الأرض . وهذا درس محلي ، وعراقي بأمتياز ، غير منقول لا عن تجربة اوربية ولا آ ىسيوية ، أو ما سواهما . ولأنه درس مأخوذ من تجربة نضال عراقية ، فلا احد سيلتفت اليه ، لأنه لا احد سيصدق حكاية نضال وطني موحد ، خاضه العراقيون جميعاً ، وقدموا على دربه الكثير الكثير ، من غير ان يطلب احد من احد ثمناً لما دفعوه من تضحيات ،وهم يرون ويسمعون حكايات القتل اليومي على الهوية . وأنا حين اشير الى هذا الدرس العظيم في تاريخنا لا في تواريخ امم اخرى ، فليس من خطتي ان ادعو الناس لينتموا زرافات ووحدانا الى الحزب الشيوعي او الى حزب كامل الجادرجي او الى حزب البعث ، وان يسقطوا مجدداً في الألتفات الى الماضي ، الذي كانت منهجيته وما زالت عنوانأً لمرحلة تاريخية كانت كلها محاولة في النسج على الماضي . بدأها القوميون ، الذين أميل الى تسميتهم بالوحدويين ، ولا أدري متى ينفض يده منها الأسلاميون الذين افتتحوا صفحتها الثانية في عامنا الجاري هذا 2011 . لكن عليّ ان اذكر بحقيقة تاريخية ما زالت جارية ، يسمعها الناس ويرونها كل ساعة في عصر الفضائيات والأنترنيت ، بأنّ الأسلاميين لم يبادروا الى رفع الستار عن هذه المرحلة ، كما بادر الوحدويون عبر انقلاباتهم العسكرية التي ابتدأت بمصر عام 1952 ، ولكن الأسلاميين على جاري العادة ، ومنذ 14 قرناً ، يقطفون ثمار الأنتفاضات الجماهيرية . الدرس العراقي يشير الى ان بامكان قوى سياسية التأسيس لزاوية نظر جديدة ، تنطلق منها لصياغة مفهومها الأمني الذي يكفل الحقوق التي تريد تشريعها ــ شرط ان تكون عابرة في برامجها وفي شبكة تنظيماتها ــ للمناطقية والطائفية والقبلية ، وشرط ان تسترشد بما هو محسوس وملموس من مشاكل في نشاطاتها ، وهذا الدرس يشير من جانب ثانٍ ، الى ان ما تأسس في العراق بعد سنة 2003 ، لم يكن كما يريد ان يوهمنا الخطاب الحزبي لمختلف الأحزاب ــ التي اندفعت بشراهة المحتل لنهب ما تجود به مواقع الوزارات والمناصب الحكومية من رواتب وامتيازات ــ بأننا أمام عملية تأسيس لنموذج دولة حديثة ، بل بالعكس ،ان هذا الدرس يشير بوضوح الى أننا أمام صناعة نموذج في التعاطي السياسي ، تجاوز طور التأسيس الى طور وضع اللمسات الأخيرة على دولة من نوع خاص . وخاصية هذه الدولة التي تتميز بها عن سواها من الدول ، انها بلا مفهوم امني . واعلانها الحرب على الأرهاب لا يصلح ان يكون مفهوماً امنياً لدولة . بسبب من عدم وجود تعريف محدد للأرهاب متفق عليه من قبل الطوائف الأسلامية ، فما هو ارهاب عند طائفة قد لا يكون ارهاباً عند أخرى . وثانياً لأنّ الأرهاب ليس حقاً من الحقوق التي تكفلها الدساتير ، حتى في الدول التي مارس مؤسسوها العنف طريقاً الى السلطة . تصبح مهمة الحرب على الأرهاب مفهوماً أمنياً للدولة في حالة واحدة : اذا كانت الدولة قد فرغت من وضع اللمسات الأخيرة على قانونها الأساسي . وتقبله جميع السكان معياراً للحقوق . والحال انّ رئيس الوزراء نفسه عبّر عن امتعاضه من الدستور ، وطالب أكثر من مرة بصلاحيات اضافية تضاف الى ما يتمتع به من صلاحيات : رئيساً للوزراء وقائداً عاماً للقوات المسلحة ووزيراً للدفاع ووزيراً للداخلية ومكاتب استشارية ، ومكاتب خاصة بالمخابرات . ماذا يريد اي سياسي في العالم ليصبح طاغية اكثر من هذه الصلاحيات ؟ صحيح انه يشغل منصبي الدفاع والداخلية بالوكالة ، ولكن كم مرّ على الأنتخابات الأخيرة والحكومة بلا وزارتين سياديتين ؟ هل هذا يتماشى مع المفهوم الأمني للدولة : في الحرب على الأرهاب ؟ دائماً يرافق الطغاة احساس بأنهم وحدهم من يملك الغيرة على الوطن وسواهم يحمل جرثومة الغدر والخيانة ، فيقودهم هذا الأحساس الى التثبث بالمناصب الوزارية التي تتركز فيها القوة . لا ينطلق موقف السيد رئيس الوزراء في نزعته للأستحواذ على مراكز القوة والقرار ، من هوس استيهامي عن سكان لاهم لهم غير التآمر ، كما مرّ علينا في فترة حكم الوحدويين 1952 ـــ 2011 ، بل هو ينطلق من هوس ديني ، يشعر فيه بأنه مكلف بدور لصالح طائفته الشيعية ، وقد جاءت الفرصة المناسبة للعب هذا الدور . فالمفهوم الأمني للسيد رئيس الوزراء ينطلق من حماية حقوق الطائفة ، لا الطائفة الشيعية في العراق فقط ، بل حقوق الطائفة بأطلاق . ولهذا يستمع سياسي الحزب الطائفي الى فقيه الطائفة الذي يقلده أكثر مما يستمع لأقتراحات اعضاء حكومته ، وهذا ما دفع نائب المالكي صالح المطلق [ سني ] للقول بأنّ المالكي لا يقل عن صدام حسين دكتاتورية . لقد سبقت الطوائف اللبنانية غيرها من طوائف المشرق العربي ، في التعبير عن حسن استماعها لأمتداداتها الخرجية ، أكثر من الأستماع للطوائف الدينية التي تشاركها سكن الوطن الواحد . وقد بلور حزب اللّه نموذجاً على هذه العلاقة : تطويع كل مؤسسات الدولة للعمل على تنفيذ المفهوم الأمني لطائفته . والمفهوم الأمني للطوائف الدينية مفهوم ذو عمل مزدوج : يروم داخلياً بناء قوة خاصة به داخل الوطن [ حزب اللّه في لبنان ، الحوثيون في اليمن ،التيار الصدري في العراق ] توازي قوة الدولة او تتفوق عليها ، والقيام بتحالفات داخلية مع احزاب طوائف دينية أخرى بقصد التغطية ، وبقصد جر الداخل وراءها للأستحواذ الكامل على مراكز القرار في الدولة ، وتوجيه سياساتها لخدمة المفهوم الأمني للطائفة ، الذي يتولى الأشراف عليه مركز معروف . لم يطق صبراً السيد رئيس الوزراء العراقي بعد انسحاب القوات الأميركية الراعية لعملية سياسية براجماتية نجحت من خلالها في جذب رموزاً سياسية من الطائفة السنية ، لعلّ أبرزهم السيد نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي . كان الهاشمي نائباً للحزب الأسلامي العراقي حين أطلً كزعيم سياسي سني . وقد لعب الحزب الأسلامي دوراً أساسياً في انجاح الأستفتاء على الدستورفي الوسط السني . فاستحق الحزب الأسلامي ان يكون ــ ممثلاً بطارق الهاشمي ــ الشريك السني البارز للشيعة في ادارة الدولة ، مفتتحين طوراً جديداً من اطوار الدولة في العراق ، يقوم على أساس من المحاصصة الطائفية لمراكز الدولة . تدل تصريحات الهاشمي الأخيرة حول التهمة التي وجهها له رئيس الوزراء ، على ان احزاب الطائفة السنية حالها حال الأحزاب الدينية للطائفة الشيعية ، تنطلق هي الأخرى من مفهوم أمني خاص بالطائفة السنية ، وان الهاشمي حاله حال رئيس الوزراء يشعر بأنه مكلف بأداء دور لصالح طائفته ، وأن هذا الدور لا يمكن تنفيذه من غير حيازة القوة بهذه الطريقة او تلك . لا يمكن الأنحياز في هذه المواجهة الطائفية بين رمزين من رموزها ، لهذا الجانب او ذاك ، ثبتت التهمة على الهاشمي ام لم تثبت ، بسبب من ان جذور المواجهة الطائفية قائمة ومستمرة . وحين يذهب هذان الرمزان الطائفيان في دورة انتخابية قادمة ، فأن المواجهة لا تنتهي برحيلهما ، طالما ظلت الطائفية غطاءاً تجري من تحته العملية السياسية . المواجهة المالكية ــ الهاشمية تتويج لصر اعطائفي موجود ومتجذر اجتماعياً ، ليس في العراق لوحده بل في عموم العالم الأسلامي ، سابق في وجوده للاحتلال الأميركي بمئات السنين . والأحزاب الطائفية شيعية او سنية ، تأسست هي الأخرى ــ اذا تجوازنا تواريخ ولادة الطوائف والملل والنحل الأسلامية ، ــ في زمن سابق بعشرات السنين لعام 2003 . لكن لايمكن تبرئة ساحة الأحتلال ، كأحتلال من انقسام الناس حول اسلوب مواجهته . وفي هذا الأنقسام يكمن الدرس العراقي الآخرالذي يشير الى تراجع الثقافة السياسية في العراق عائدة أكثر من نصف قرن الى الوراء ، الى قواقعها القديمة : المناطقية والطائفية التي عجزت عن النهوض بايجاد حل وطني لمسألة فرضها الأحتلال الأميركي : مسألة بناء دولة حديثة في العراق . وبالمقارنة بين نتائج الدرسين سنكتشف بأنّ المفهوم الأمني للدولة كلما عبّر عن مصلحة الغابية العظمى من الأمة كلما دفع باتجاه اتخاذ قرارات عقلانية . فقانون الأصلاح الزراعي الذي شملت منافعه الأجتماعية وما يتبع ذلك من منافع ثقافية وصحية ونفسية الملايين من الناس ولم يتضرر منها سوى اقلية صغيرة جداً بالمقارنة مع عدد المستفيدين ، كان قراراً عقلانياً . وكلما صغرت دائرة الحقوق التي يدافع عنها المفهوم الأمني للدولة كلما اندفع صاحب القرار صوب اللاعقلانية : [ الحروب اللاعقلانية التي خاضها صدام حسين لأن المفهوم الأمني لدولته غلّب مصلخة بقاءه في السلطة ؤبقاء امتيازات الأقلية من حزبه ، ومن أركان نظامه ــ كون الحروب الخارجية تعزز من شد قبضة الانظمة على الحكم ــ على مصلحة الغالبية العظمى التي تضررت من الحروب والحصار ] وكانت اللاعقلانية واضحة في اداء الحكومات الحالية بسبب من ان مفهومها الأمني مفهوم اقلية طائفية عجز على مدى ثمان سنوات عن حل مسألة الكهرباء ، لا بسبب امتناع الشركات العالمية عن اصلاح ونصب بل بسبب المفهوم الأمني الذي يركز على حقوق الأقلية الطائفية التي تستمع الى امتداداتها الطائفية اكثر مما تستمع الى شركائها الآخرين الذين يشكلون مع عوام الطوائف الأخرى غالبية الأمة . هكذا يمكننا القول بأن موقف الموروث ، وموقف رموز هذا الموروث في الأوان الذي نعيش لم يكن عقلانياً . وأن العقلانية كانت كامنة وراء وراء قرار مشرع قانون الأصلاح الزراعي . وبالمثل اخذ مشرع الأعتراف بحقيقة الوجود الكردي في العراق جانب المصلحة العامة للبلاد التي ستقل فيها الأضطرابات الى حد كبير وبالتالي يقل الهدر بالثروات في زمن يتطور بسرعة انطلاقاً من حسابات دقيقة لهذا الهدر وللجدوى منه . كان القراران قراران عقليان الى حد كبير وكانا جزمن النظرة الجديدة فالثقافة العراقية الجديدة نحتت مقولاتها على اساس عقلاني لتحديث المجتمع ، ولكنها لم تستطع ذلك قبل ان تنتصر للأكثرية لتصبح مصلحة اكثرية الأمة فوق مصلحة الأقلية حتى لو لم يكن ثمة في الموروث ما يعتمدونه كقرينة او كشاهد مما جاء به السلف الصالح من أفعال أو أقوال . نشطت الثقافة العراقية في جوانبها الأدبية والفنية ، وابدعت في مجالات الشعروالمسرح والرواية وفني الرسم والنحت ، حين ولدت مقولات سياسية -جديدة على الأفق الثقافي العراقي . فلم يكن كسر العمود الشعري على يد ثلاثي : السياب ـ نازك ـ البياتي ممكناً ، لولا الكسر الكبير الذي حدث في الوعي السياسي وقاد الى ذلك التغيير في زاوية النظر ، التي قادت بدورها الى كسر ذائقة جمالية عمرها لا يقل عن الفي عام . ولم تكن ولادة طريقة جديدة في فن السرد والروي والحكي ، تمثلها فنون القصة والرواية والمسرحية ، إلاّ تجاوزاً لطرائق السرد الموروثة عن المقامات ، والسند ، والحكواتية ، ومسرح خيال المآتة ، كونها فنون تتطلب اول ما تتطلبه زاوية نظر جديدة . وفقاً لهذه المعطيات تمثل المقولات السياسية القلب النابض والمحور الذي تدور من حوله ثقافة الأمة في لحظة من لحظات وجودها .وانطلاقاً من هذه المعطيات نفسها ، يمكن القول انه بسبب من عدم تكامل منظومة سياسية ، ذات مفاهيم مترابطة لم تتحول الثقافة السياسية الجديدة الى ثقافة شعبية ، فعدا عن اعياد الدولة الرسمية ، التي غطت عليها لاحقاً اعياد ميلاد الزعماء العرب ، وعدا عن اعياد اعضاء الأحزاب في مناسبات تأسيس أحزابهم ، لم تنعكس المفاهيم السياسية الجديدة على المستوى الشعبي في مناحي الحياة اليومية في فلكلور جديد . واذن فليس الأعتراف بوجود الآخر ، او بتطبيق العدالة الأجتماعية في جانب من جوانب الحياة ، يكفيان لوحدهما لصياغة افق ثقافي جديد . انّ توقف المؤسسة العسكرية عند هذين التشريعين ، وعدم توفرالأيمان والأرادة السياسية لديهافي المضي الى مرحلة الشروع ببناء دولة حديثة في العراق ، واستبدالها ذلك بتكتيكات ومناورات تديم من وجودها في السلطة ، ادى الى وقوع الأحتراب بين اطراف جبهة الأتحاد الوطني : الشيوعيين والبعثيين ، وصل ذروته حين نجح حزب البعث في الوصول الى السلطة عن طريق انقلاب عسكري عام 1963 . كان ما فعله حزب البعث خلال التسعة اشهر التي حكم فيهاــ من تصفيات دموية لأعضاء الأحزاب والقوى الوطنية والديمقراطية ــ آذن الناس بالشروع بمسيرة كبرى الى الوراء من قبل العراقيين . لكأنّ حزب البعث كان مصمماً على اقتلاع كل ماتم بناءه من لبنات المفهوم الجديد عن الوحدة الوطنية . لقد حزمت الناس امتعتها وسافرت الى الوراء ، الى ملاذاتها الآمنة في عشائرها وطوائفها . ويمكن للمؤرخ السياسي الأنطلاق من ذلك العام للتأريخ لولادة قناعة عامة سوداوية الى حد كبير ، بأنّ التعددية السياسية والفكرية لا مكان لها في العراق . وقد عزّز حكم الأخوين عارف [ 63 ــ1968 ] من هذه القناعة مضيفين الى المناطقية والطائفية والعشائرية ــ التي تميزت بها فترة حكمهما ــ مسألة التوريث في الحكم . وبعد عودة حزب البعث بانقلاب عسكري جديد الى السلطة عام 1968، وعلى الضد من المضمون الأجتماعي الديمقراطي لمفهوم الوحدة الوطنية الذي تبلور في سنوات الكفاح ضد المفاهيم السياسية لحكم الأقلية في العهد الملكي ، مارس حزب البعث مفهوماً عن الوحدة الوطنية انطوى على السمات الخاصة بالدولة العربية الأسلامية كما تجسدت في التاريخ : دولة عاهل ، يمسك بين يديه بخيوط القوة كلها فهو قائد الجيش ، ورئيس السلطتين التشريعية والتنفيذية . وعلى مدى العقود الثلاثة التي حكم فيها الحزب تبدّت سلطة الحزب السياسية انّها هي الدولة . فرئيس الحزب هو رئيس الدولة . يجدد الحزب انتخاب رئيسه فتتجدد رئاسته للدولة آلياً . وبمرور السنين تحول زعيم الحزب الى مصدر وحيد للشرعية . في هذا النموذج من الحكم لا توجد معارضة ، وما تستدعيه من وجود دورية انتخابات وتعددية سياسية و فكرية مكفولة دستورياً ، لأنّ السلطة السياسية حين ترفع الصوى والعلامات بينها وبين الدولة ، تنصهران معاً في بوتقة واحدة تطرد من مجالها كل مختلف . كان حزب البعث منسجماً مع نفسه في الطريقة التي مارس بها الحكم . ولم يكن صدام حسين ، وهو يطرد البكر من القصر الجمهوري ، ويتخذ قرارات الحرب على الخارج ، إلا تتويجاً لمفاهيم الحزب وتصوراته السياسية . وهي مفاهيم تتفرع عن المفهوم المركزي للحزب عن القومية العربية . يرى الحزب بأنّ القومية العربية ، كانت ولا تزال تنطوي على جوهر خالد غطته بصدئها القرون التالية لسقوط بغداد عام 1258 م ، وان انتشال ذلك الجوهر من عتمة القرون الدامسة ، لا يتحقق من غير رسالة . أما مضمون الرسالة فيكشف عنه شعار الحزب : [ أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ] ومهمة الحزب بعث رسالة هذه الأمة . يرفض الحزب القول بأنّ الأمة العربية ابنة أحداث تاريخية خاصة .لأنّ الأمة العربية لم توجد في التاريخ ‘ بل هي فوق التاريخ . بل انها مَن ادخل البشرية في التارخ حين باشرت بصناعة اول حضارة في التاريخ وعلمت البشرية اصول الحكم ، واصول الديانة ، وكيفية الزراعة ، وانظمة الري والكتابة. وانّ الحاجة ماسة في هذا العصر المادي الذي يخلوا من الروح . الى ان تستعيد الأمة دورها في قيادة الجنس البشري ، لكي تحرره مما يتردى فيه من سيطرة الشهوات : شهوة المال وشهوة الجنس ، وشهوة التسلط على الغير . نظرية الحزب عن الجوهر الخالد للامة ، تجعله يرفض ما جرى من احداث في التاريخ ، بعد ان اخذت الأمة اجازة استراحة من الفعل في التاريخ . ولهذا ترفض صحوة الأمة الممثلة بفتية البعث ايّ انجاز بشري لم يأخذ الشعب الذي انجزه أذناً من الأمة العربية . فكل انجازات البشرية مرفوضة ، وكل احداث التاريخ وما ترتب عليها من حقوق مرفوضة من قبل فتية البعث الذين يمثلون صحوة الأمة في الحاضر، ومن هنا نعرف دلالة اختياركلمة البعث كاسم للحزب ، لتكون مطابقة للمهمة التي نذر الحزب نفسه من أجلها : مهمة بعث رسالة الأمة. والحزب يعي ان القومية العربية لم تكن لها رسالة قبل الأسلام . ولكنه لا يريد ان ينظر الى الأسلام كما تجسد أو عبّر عن نفسه في التاريخ فرسالة الأمة مثل الأمة نفسها خالدتان انهما معاً : جسد روحه الأسلام . وقد حقق ذلك التطابق صدام حسين نفسه حين اعلن في تسعينيات القرن المنصرم عن ولادة دولة الأيمان والتقوى . تسببت أفكار صحوة الأمة في أذهان فتية البعث بكوارث للعرب في فترة حكم القومانيين [ 1952 ــ 2003 ] فماذا ستقود اليه من كوارث أفكار الصحوة الأسلامية ونحن على اعتاب مرحلة حكم الأسلاميين ؟



#اسماعيل_شاكر_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خارطة الشرق الأوسط ومسألة الأقليات / 2 من 6
- خارطة الشرق الأوسط ومسألة الأقليات 1 من 6
- الرحلة الى العراق


المزيد.....




- مجلس الشعب السوري يرفع الحصانة القانونية عن أحد نوابه تمهيدا ...
- تحذير عسكري إسرائيلي: إذا لم ينضم الحريديم للجيش فإن إسرائيل ...
- السفير الروسي ردا على بايدن: بوتين لم يطلق أي تصريحات مهينة ...
- بالفيديو.. صواريخ -حزب الله- اللبناني تضرب قوة عسكرية إسرائي ...
- وزير الدفاع الكندي يشكو من نفاد مخزون بلاده من الذخيرة بسبب ...
- مصر.. خطاب هام للرئيس السيسي بخصوص الفترة المقبلة يوم الثلاث ...
- -أضاف ابناً وهميا سعوديا-.. القضاء الكويتي يحكم بحبس مواطن 3 ...
- -تلغراف- تكشف وجود متطرفين يقاتلون إلى جانب قوات كييف وتفاصي ...
- إعلام سوري: سماع دوي انفجارات في سماء مدينة حلب
- البنتاغون: لم نقدم لإسرائيل جميع الأسلحة التي طلبتها


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - اسماعيل شاكر الرفاعي - خارطة الشرق الأوسط ومسالة الأقليات 3 من 6