أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - مازال المسيح مصلوبا















المزيد.....



مازال المسيح مصلوبا


حبيب هنا

الحوار المتمدن-العدد: 1064 - 2004 / 12 / 31 - 09:29
المحور: الادب والفن
    


- 5 -
بين غزة وعمان نفق من السعادة يمتد فوق مساءات الهزيمة . حبل سري يشد الشباب المندفع من مختلف البقاع صوب قبلتهم الأولى فلسطين . يترجمون الاندفاع إلى فعل حددت القيادة ملامحه الارتجالية بعيداً عن وضع خطة شمولية تكسر رتابة التوقعات . كانت المهمة الأولى، عدم الركون إلى إرث الحكام العرب الذين أورثونا الهزيمة بعد النكبة .
غير أن مهمة بناء القواعد الثابتة والمتحركة على التلال المحاذية لضفة النهر المنبسط ، المتلألئ ، كليلة القدر ، مهمة شاقة ومعقدة في أعقاب الهزيمة وسيطرة العدو على الأجواء دون منازع ، ومع ذلك ، كانت التحصينات تتم على قدم وساق . إذ لا مفر من الاستعداد وحراثة الأرض وبذارها في ظل التراشق كل يوم بالأسلحة المتوسطة والثقيلة .
تجار السلاح والسوق السوداء تضاعفت أرصدتهم في البنوك المحلية والأجنبية ، المهربون عملوا ضمن خطة مبرمجة ومدروسة وفق قواعد ثابتة ومحددة : اللعب بالرؤوس بين أيدي الحكام يضمن لهم الحصانة والوثوق !
كل شيء جائز عندما تتساوى الاحتمالات . "أم سعد" تشارك الفدائيين صناعة المستقبل . تنتقل من موقع لآخر رفعاً لمعنويات المقاتلين . والمهربون يضخون السلاح من غرب نهر الأردن إلى شرقه ، ويقبضون الثمن من الطرفين ، الأول فلسطيني ، والثاني لا يعلم به إلاّ الله .
لم يخطر ببال أحد أن يتساءل في غمرة تسارع الأحداث: ما هي الحكمة من وراء تفريغ الوطن من السلاح؟ قلائل الذين انتبهوا لقذارة اللعبة فكان مصيرهم مجهولاً !
همست فلك في أذن عبد الله عندما كانا في بيارة العلمي في أريحا: المهربون خطرون بكل المقاييس المتعارف عليها .
وضع عبد الله يده على فم فلك حتى لا تستمر في الحديث، غير أنه لم يستطع منع نفسه من القول: المهربون يتاجرون بالوطن والدم ، والبعض منهم على صلة وثيقة مع الحكام مهما تغيرت أسماؤهم .
في جبال الضفة الغربية حالة الكآبة نشرت نفسها على القمم وبين القرويين . وفي غزة أنبأتنا العملية العسكرية الأولى ضد العدو عن النمو الطبيعي للكفاح المسلح . كانت الخلايا السرية تتشكل من قوميين عرب وبقايا جيش التحرير . أسماء كثيرة لمعت وأخرى طواها الزمن وتلاشت بعد أن كان دورها مهماً في البدايات .
ومع البدايات ، غالباً ما تكون الأحلام كبيرة . فبقدر الاستعداد للتضحية في سبيل الحرية والاستقلال ، تكون الإنجازات على الأرض تركت بصماتها . وبقدر السرية في العمل عندما تحف به المخاطر ، بقدر حصد النتائج المتوقعة من نجاح النشاط وتركيم المنجز ، وما كان لا بد أن يكون .
ذات مساء . اندفعت الهزيمة صوب الوجوه فغطت الكآبة معظم مساحة الوطن . آليات مدرعة وناقلات جنود تحاصر المدن والقرى في عملية هي الأكبر من نوعها ، وتعتقل المئات من نواة العمل السياسي المناط بهم تشكيل الخلايا المسلحة في الضفة الغربية وضمان استمرارها بغية مقاومة الاحتلال . المنظمات السرية تتكشف على بعضها في لحظات الفرح والتحشيد . لكن سرعان ما تدفع الثمن من العذاب والاعتقال والتشريد . يعيشون المنفى في الوطن ويسكنون الغربة والخوف وقمم الجبال ووديان المعاناة وكهوف النفس الهاجسة بمزيد من ليالي الصقيع .
وبرز السؤال الحاد عند تقاطع مفترقات المرحلة : هل كانت لبنات الفعل المقاوم كامرأة في فراش تكسرت على أنغام المداعبة ؟!
وسكنت الأسئلة الملحة الفجة عقول الذين سكنوا المغر والجبال والتشرد والفعل المقاوم : ماذا تفعل الزوجات عندما يقعن فريسة أنياب الغياب وتأوهات الجسد ؟ هل حصون الذات تكفي للمقاومة ومنع الانزلاق ؟ وهل الحضور الدائم للوطن يقتل الإحساس بالرغبة والتلوي تحت أمواج المراهقة والاشتهاء بعد الوصول إلى نقطة اللا عودة ؟
وكانت فلك ما تزال تعيش متعة اللحظات الأولى بعد الزواج !



- 6 -

من دوامات الريح في أقصى الكون إلى ذروة العذاب عند الخطوط الوهمية ، كان هناك أمور ينبغي تسويتها قبل البدء بترميم الحلم . حيث لا مفر من الوقوف على الأخطاء ومعالجتها بروح حيادية لا تنزع إلى التجريد ووضع النظريات ومنطقتها .
لكن صعوبة معالجة المسألة تحتمل وضع المزيد من الفرضيات . إذ لا فائدة من الأحكام القاطعة في ظل غياب الأدلة .
والدليل هنا ، هذه المرة ، اندفاع أمواج الشباب نحو شاطئ العطاء وصولاً للحرية مهما كلف الثمن .
وهكذا ، دخل عبد العاطي بوابة الاندفاع كَتَلَّةٍ من الاشتعال والحماس. أوكلت إليه مهمة إعادة بناء ما تم تدميره بقرار حظي بأغلبية رأي القيادة فصار من فوره جزءاً من عملية البناء . وسم طابعها بالنزاهة والحذر والتجديد المستمر .
ركب النهر مع المهربين واقتحم كتلة العتمة والمخاطر . يحمل فوق جسده النحيل رأساً صغيراً وعقلاً متقداً يسعى نحو بلوغ الغاية دون تهور أو مخاطرة غير مدروسة . سكن الريف عند طلوع الفجر وأحب الفتاة التي قدمت له وجبة الإفطار . لكن الوقت لا يتسع للعشق والمناجأة .
بدأ صراع الألف عام بمسيرة احتجاج وقرر السير بخطين متوازيين: خط تشكيل نواة العمل السياسي وتوعية الجماهير بقضاياها . وخط الكفاح المسلح وبقاء جذوته متقدة بغية كسب أوسع القطاعات مع انتقاء العناصر ذات الخصوصية والتفرد .
كان على اتصال بتجارب الآخرين . من الصين إلى كوبا ومن فيتنام إلى الجزائر ، فوقع في الأخطاء الكارثية عندما حاول نسخ التجربة وتطبيقها على أرض مغايرة .
لم يغبْ عن باله خطورة المهربين . استحضر صورهم وهم يفرغون الوطن من السلاح ، صرخ السؤال داخله : لصالح من يلعبون هذا الدور ؟
كلما أرسل شخصاً لشراء السلاح من مصدر موثوق سبقه إليه المهربون كأنهم يترصدون تحركاته . وكانت الفتاة التي دخلت حياته مع نسائم الفجر والإفطار عينه التي يرى فيها ما يدور خارج مكمنه . سماها زهرة ففاحت منها الرائحة الطيبة !
وذات فجر عاد إلى مكمنه بعد أن غادره في منتصف الليل ، فوجدها عند المدخل المؤدي إليه منتصبة وعيناها مبللتان بالدموع، سألها : ماذا بك ؟
جاء ردها نبضاً يجرح الفؤاد ويدخل النفس مدارات غير متوقعة : ألا تخاف الموت الذي غالباً ما يخطف أعز الناس على قلوبنا !
في ذلك الفجر الغريب فضحت مشاعرها على مسمع من صياح الديكة . وشارف هو على مبادلتها المشاعر فانهالت على رأسه الأسئلة من كل صوب : أيجوز لمن هو مثلي ممارسة الحب ووصف الجسد الأنثوي في مجرى العملية الكفاحية ؟ هل يحق لي الانصهار في أفران الغرام والتحول من مناضل صلب إلى عاشق يذرف الدموع كلما هبت روائح المتعة ؟ هل أستجيب لصرخة الجسد أم أقمع الوحش الذي يوشك أن يقود صاحبه صوب الانتحار ؟
وكانت زهرة ما تزال عيناها مبللتان بالدموع .
بحنان راعش مسح دمعتين تسمرتا على كرسي الخد بأطراف أصابعه فأصابتها الرجفة والاستسلام .
وعند الصباح نشرت جدائلها تحت أشعة الشمس فاستحالت إلى ذرات من المتعة والغبار .
* * * *

بين مسافة البناء والزمن المفترض لترميم الأخطاء ؛ كانت زهرة تتفتح على حواف قلبه ، تبني قصرها في أعماقه . قصر من العطاء والحب ودحر الأخطار . وفوق هذا ، كانت رئته التي تتنفس وأذنه التي تسمع وعينه التي ترى المستقبل وبريده الدائم من وإلى الخلايا التي تنمو وتتشكل وفقاً لما هو مخطط لها .
تحمل وجهاً مستديراً يندى البدر منه عند اكتماله . فيه من البياض والنضارة ما يحفز الشمس للسطو عليه واستباحة الأجزاء المكشوفة منه . ينتصب فوق جذع جذوره ضاربة حتى الأقدام كعلامة استفهام. على السطح منه شعب مرجانية وعيون مياه صافية تبحر بهم فتكتشف سر اللمعان والوميض المباغت . وعلى مقربة من الثغر كان الصيادون يصوبون بنادقهم نحو الفيلة المرابطة خلف الشفاه بغية القتل وسرقة العاج .
خصرها نحيف يمكن إحاطته باليد الواحدة . غير أنها دائماً تركض أمامه كطائر خرج من عشه للتو متجاوزاً شروطه بعد أن طرده أبواه كي يحلق في الفضاء .
وكان يراها الحضن الذي وهبه الله حتى يعفيه من توسد التراب .
وكانت تراه الخوف الذي يسكنها عند منابت الانبهار وغرابة الدهشة على امتداد آفاق المرحلة. وكان المهربون هاجسهما المشترك .
في لحظة صفاء شاعرية توقد الذهن فسألت :
- هل ثمن السلاح في الأردن يفوق كثيراً ثمنه هنا داخل الوطن ؟
قرأ في عفوية سؤالها عمق الإجابة التي حيرته كثيراً . قال:
- السلاح هنا ثمنه مضاعف عنه في الأردن ، ومع ذلك ، يتم تهريبه . هناك خيوط غير مرئية تنسجها أيدٍ خفية تسعى لإفراغ الوطن من السلاح حتى يتم السيطرة عليه لسنوات طويلة.
- أحياناً تجمع المصالح المشتركة بين الأقطاب المتنافرة .
- والنتيجة حصول المهربين على الأرباح الوفيرة مع ضمان الحماية وعدم التعرض للمسئولية .
- إذن ، هناك أكثر من يد ضالعة بهذه اللعبة .
- بالتأكيد .
- أليس هنالك من وسيلة للوصول إليهم !؟
- صعب الآن معرفة جميع المشاركين في هذا الدور .
- ألم تفكر بالإفادة من الوضع الناشئ !؟
- كيف ؟
- كيف هذه تفتح آفاقاً واسعة أمام الاحتمالات . تجعل عناق السؤال للجواب مسألة حتمية في ظل البحث الدائم عن الحقيقة.
- ربما !
قال ذلك ثم رفع عينيه نحوها فجأة ، فتغلغل جمالها الريفي الوحشي إلى أعماق حواسه ، ولم تعد الكلمات قادرة على الوصول إلى مسامعها أو الخروج من حلقه .
سألت دون النظر إليه :
- لماذا توقفت ؟
كان يمكن له في تلك اللحظة أن ينهار من فوره لو أن عيونهما تقابلت وأغصان الأشجار التي تظللهما تشابكت مع اهتزازات الريح . غير أن الاستيحاش الموغل في فضاء المستقبل ظلله بالصمت والحزن الهادئ وبسطت السكينة عليه جناحيها .
* * * *

لم تكن الروح وحدها جامحة للعناق . كانت وساطة الجسدين تماهياً شفّافاً شغوفاً لنمو الحب بينهما . لا صوت ولا صدى للصرخة المكتومة غير الأنين والتلوي وبلوغ الذروة عند مشارف الانبهار. جسدان يعطي كل منهما الآخر الطمأنينة وتناغم الإيقاع ونبض الحياة من ضلوع فكت وثاقها من سنوات الهزائم وتجديد الانكسار.
- أين كنت غائباً ؟
- أبحث عنك في دهاليز الاشتهاء !
تفوح منهما رائحة التشظي والكبرياء . صبية بعمر الياسمين تجرح خديها نسمة عابرة , وشاب في منتصف العقد الثالث من عمره يكتشف بساطة الحقيقة عندما كانت عصية على الآخرين فيحدث التقارب بينهما .
- وهل وجدتني ؟
- في لهيب الوهج صرخنا معاً : المهربون يفسدون علينا السعادة والمتعة !







- 7 -

أرسل للقيادة يقول :
اقتفينا أثر المهربين فلم نصل لسوى المعلومات التي أرادوا أن نصل إليها : بعض الأسماء اللامعة على علاقة بما يدور ! هل أنتم على علم بهذا الأمر ؟ وكيف نتصرف؟!
رنين الفوضى دفع فجاجة السؤال إلى مقدمة الصخب ، فجاءت الإجابة محاصرة بضيق الأفق والمزاج العكر : اقتفاء أثر المهربين يشكل خطراً على عملية البناء !
انتشر الخبر في أوساط المقاتلين على ضفة النهر : عبد العاطي أعطى للصراع بعداً إضافياً .
جاء رد القيادة :
لا داعي لدخول المعارك الجانبية . حدد مكانك بالضبط حتى نكون على اتصال دائم في كل لحظة حرصاً على استمرارية العمل .
بعض الأوساط القيادية استاءت من تصرفه ورأت فيه تجاوزاً لا يجوز السكوت عليه .
أبلغهم عن مكان وهمي يقيم فيه : بين صخرتين في قلب جبال الضفة الغربية .
طلبوا تحديداً أدق .
دائم التنقل بين المسجد الأقصى وكنيسة المهد .
عمل بنصيحة زهرة وترك الأمر معلقاً .
وذات مساء ، فرضت عليه الكآبة حضورها وسألت زهرة عن الأسباب .
- أشعر أنني أعذب أحب الناس إلى قلبي .
- شعور مخادع لا تترك نفسك تحت رحمته .
كان المسئول الأول عن الخلايا التي تشكلت فسكنه الفزع على أعمارها إن أصاب عمره العطب . وكان كلما اقترب من زهرة داهمته الهواجس وسيطر على عقله السؤال المركزي : ماذا سيكون مصيرها إن غاب عنها إلى الأبد ؟ وكانت ترى في التماع عينيه سر زوبعة الحيرة والتردد اللذين أخذا يكتسحان كيانه فتذهب بالقول للتخفيف عنه :
- أنت ما زلت قوياً ومحاطاً بالرفاق الذين يبدون الاستعداد للذود عنك بأعمارهم .
- قوياً وصلباً من الخارج فقط ، أما الداخل فهش .
- لا أصدق قولك . إنه ردة فعل ليس أكثر .
مدت يدها تداعب أطراف أصابعه . حملته النشوة على سنانها, تدفق الحب بينهما متجاوزاً ذؤابات الجنون . نزفت حواسه اختزان الحالة . انثنت ساقها كسنبلة لامست همسات الفجر . قالت بدلال قبل أن يفوح منها كزهرة شذا الاختيال :
- لا تنسَ أنني زهرة تتفتح كلما لامس أنفك رحيقها .
- أعرف ذلك ، ولكن القوائم الخشبية الأربعة التي تحتضن وجودنا تصرخ فيّ : لا تقتل من تحب !
بكت فجأة وهي تردد :
- دعني أمت بين يديك .
تمالك نفسه وقال :
- في شراييني نهر من الدماء والدموع عبر منه معظم الشهداء فتلوث بوحل الأرض ورصاص المتآمرين .
* * * *

لم يتوقف لحظة عن ملاحقة المهربين . بنى جسور المودة مع البعض منهم من خلال أعضاء فاعلين في الخلايا المنتشرة في مدن وقرى الضفة الغربية . وقابل بعض الذين حظوا بالثقة كلاً على انفراد . أوكل لهم مهمات مختلفة تتناسب مع تباين القدرات . وكانت جبال الخليل ورام الله أكثر قدرة على التجانس مع محيطها من ناس وطيور وصخور وأشجار وأطياف مناخات . فيما كانت بعض المناطق الأخرى تبشر بميلاد حالة على أعتاب موسم الشتاء الذي جاء مدراراً قبل موعده على غير ما هو مألوف.
تكشفت له أسرار كانت تنمو في دوائر مغلقة وعرف طرق وأشكال عمل المهربين , صاغ من ركام غموضهم خطة عمل مجدية وقسمهم إلى نوعين : الأول طرف خيطه مربوط في وتد الأعداء وطرفه الآخر ملفوف حول أعناق المناضلين . الثاني: يحمل قلبه النابض بين راحتيه ويمتهن التهريب بغية العيش واحتراف المغامرة .
طرز الطرق التي يمر منها النوع الأول بالرجال ولدى مرورهم استولوا على قافلة السلاح مما أفقد العدو صوابه . انتشر الخبر بين المواطنين , علق شخص أمضى عمره بين الشك واليقين : يمطرون الغيم في المكان الذي يريدون فجاءهم من يزرع البحر بالموج والجبال بالرجال ! وكانت النتيجة توفير المزيد من السلاح دون دفع أثمانه .
لم يرق هذا التصرف لأصحاب الرأي النافذ فأرسلوا تحذيراً: تحرزوا على السلاح في مكان آمن ثم أبلغونا قبل أي تصرف !
بعد أيام تم السطو على بعض أقدار المناضلين في خطة محكمة حتى أدق التفاصيل ؛ لم تدع مجالاً لهروب بصيص خبر على بعد خطوة فامتلأت السماء بالغبار ورائحة الخيانة والشائعات من كل نوع : العدو يقتل أعداداً كبيرة من الفدائيين ويستولي على السلاح, غابة الرجال حصدتها بنادق الأعداء .
أرسل للقيادة يقول :
- السلاح الذي تحرزنا عليه فقدنا طرق الوصول إليه ! ربما استولى عليه العدو . وربما الذين يعرفون أين هو وصلوا إلى نهايتهم المحتومة قبل أن يبلغونا !
استنبط فكرة تحتاج المجازفة أكثر من العقل ، وعندما أوشك على تنفيذها ردعته زهرة بابتسامة ودودة الْتمع من خلفها المستحيل ، وكانت ما تزال الباقية على أحلامه وأسراره القليلة:
- لا تتحرك في هذا الجو العاصف الملبد بالغيوم .
- لا أستطيع رصد الانتظار حتى يقتلني الملل . ينبغي أن أفعل شيئاً!
- السير على حد السيف قبل قيام الساعة مستحيل .
- والبقاء جالساً على فوهة البركان جنون .
- امنحني الثقة والفرصة حتى أضحي كل شيء بالنسبة لك.
- لقد أمسيتِ منذ زمن تحتلين هذه المكانة .
- إذن ، لا تغادر هذا المكان قبل أن آذن لك .
- ولكن . . .
وضعت إصبعها على فمه فسجنت الكلمات في أعماقه , نظر إليها فرأى في عينيها زرقة السماء وتعرجات الوديان وقمم الجبال وعطن أرض تفوح من مسامها لحظة برق مرعبة وشغف يفيض على الضفاف حبّاً متزناً يتعايش مع الاختزال ويقوى على المؤامرة.
- لن أغيب عنك طويلاً ،
قالت ذلك ثم همت بالمضي ، استوقفها :
- أعطني حفنة تراب .
- أخاف أن تذرها خلفي .
- ربما أفعل إن طال انتظاري .
- خذ من التراب ما شئت فهو باقٍ لن يرحل معنا مادمنا نورثه للخلف .
غابت في وعي اليقظة أمام عينيه فيما كانت تختبئ على مقربة من طرف الشارع خلف أمواج الاحتمالات ، ترصد أي تحرك معادٍ يستهدف الوصول إليه . وكانت على نحو غريزي تشتم التجلي الكارثي بإدراك حسي يقظ ينبئ بانتشار الأوبئة واستشراء الفساد رغم فوحان روائح الزهور عند مواسم الانعطاف واللحظات التاريخية الحاسمة .
هكذا ، ستتذكر ، بعد فوات الأوان ، كيف كانت تتساوى الأشياء والاحتمالات في نظره عندما كان يطل على المستقبل من فوق أكتاف الحاضر ، فيرى ما يدور على الأرض من وقائع مغايرة للمنطق ولا يقبلها العقل مهما بدت جميلة ومدثرة بهالة القدسية التي ترفض التشكيك والطعن .
وهكذا أيضاً ، ستكتشف أنها تسببت بفقدانه بعد أن أوصلته أعتاب النهايات دون أن تترك له خيار الانبثاق من بين ضلوع الأودية والوهدان كي يظهر ويختفي وقتما يشاء ، عندئذ ستقتل نفسها ندماً على كل لحظة حب حاصرته فيها فضيقت عليه فرص النجاة .
ستقول : لو تركته يتصرف بحرية وينتقل من غصن إلى آخر مثل طائر ، كان من الممكن أن يكون خارج مكمنه عندما انقضوا عليه كإعصار ، ولكن حب التملك دفعني للسطو على أيامه ومصادرة أحلامه المستشيطة غضباً وبركاناً ، والنازعة نحو عدم الركون للهزيمة مهما بدا وجهها كابياً .
* * * *

قبل أن يصلوا إليه بأيام ، كانت هناك ثمة محاولة للانتقال إلى مكان جديد حالت الصدفة وحدها دون تنفيذها ، إذ بعد أن عاين المكان مر من جواره رجل مع قطيع من الماعز فتوجس خيفة أن يكون الدرب دائم الحركة بالناس . ففضل البقاء في مكانه إلى أن يعثر على آخر أكثر أمناً وطمأنينة ، وكان مكانه بمنأى عن الشك والظنون : بين شعبتين صخريتين تستظلان بأغصان بعض الأشجار البرية الوارفة، فيما كان الوصول إليه لمن هو غريب عنه ، وعراً عصياً على السلوك ، خلف الشعبتين طريق سالك يفضي إلى مغارة ، تبدو للوهلة الأولى ، مسكونة بالوحوش، خلفها وعلى جنباتها كروم العنب والتين تمتد فوق مساحات شاسعة من الأرض العراء تتقاسمها سلاسل صخرية وضعت باليد تمييزاً بين مالك وآخر .
حركة الناس فيها شبه معدومة بسبب الهزيمة وجنود الاحتلال اللَّذَيْنِ قتلا الفرح فلم يعد الناس يصطافون في كرومها أو الأماكن العامة ، مما سهل عليه مهمة الاختباء ، وأوقعه في شراك الركون إلى الطمأنينة.
وعندما كان يضرب في عمق الخضرة ، ويتفيأ ظلالها بين الصخور المتلامسة ، ويداعب الماء المستخرج من بئر صنعت خصيصاً في مكان منخفض حتى يكون ملتقى لتجمع مياه الأمطار واختزانها ، كي تفي بالغرض على مدار الفصول ، كان يمارس طقوسه المتناثرة تناثر الكلمات بين العشاق ، في الوقت الذي ينتظر فيه قدوم زهرة حتى تشاركه التأمل والحفر في تضاريس الوجدان , فيما كانت ترقبه عن بعد كما لو أنها نورسة تحلق في السماء .
ولما وصلوا إليه ، كان قد دخل نسيج زهرة من بوابة الاغتراب والحد القاطع للسؤال : هل الخلايا التي بنى أساساتها قادرة على النمو والعطاء والإفادة من هذه النهاية؟
وكانت غزة تغزل نسيج بركانها المتفجر تحت أقدام جنود الاحتلال من خيوط أشعة الشمس .







- 8 -

مدينة غزة المسكونة بالبحر والرمل تتحول إلى سوق سوداء عندما تعصف بها الأنواء أو تقف عند أعتاب تغيرات الأزمنة . كانت محل أطماع الغاصبين على مر التاريخ ، فاستعصت عليهم ، وطفل وديع يسوق أيامه حتى شغاف العمر عندما يركن لاستقرار المناخات والطمأنينة .
على مشارف الارتباك توجست حيرى وداهمتها الكوابيس .
ماذا عليها أن تفعل ؟
لم يحيرها السؤال كثيراً .
الهزيمة حولتها إلى سوق سوداء ودفعت بأبنائها إلى قلب الجحيم . جحيم محبب يملأ القلب سعادة ، ويصوغ جيلاً كاملاً للذود عنها ، رجال من مختلف الأعمار والأصناف ، مهربون على مختلف الصعد والمستويات ينخرطون في الواجب ويقدمون ما عليهم حسب القدرات ، رجال يحملون البنادق ويقرعون الطبول ، ومهربون يجمعون السلاح ويقدمونه هدية أجرها يحتسب يوم الحساب ، البعض منهم كشوك الورد ينبت على ضفاف الساق رغماً عن الرائحة الطيبة ، وكان همه المتاجرة بالوطن والدم فارتبط بأصحاب القرار والمصلحة ، وصار منهم يسعى إلى تفريغ الوطن من السلاح .
وفي إطار المؤامرة فتح الاحتلال أبواب الخطة على مصراعيها . شرع بشراء العادم من الرصاص كمادة نحاسية بثمن يفوق ثمن النحاس المصنع بضعفين ، وترك فرصة نشر أخبار وجوب إفراغ الرصاص من البارود تستشري كالنار في الهشيم ، فبدأ معظم الأطفال يمارسون هذا الدور بغية الحصول على المال ، في حين يمارس المهربون نقل السلاح ، بعد شرائه ، إلى خارج الوطن عبر المنافذ المختلفة .
غير أن مخلفات الحرب من السلاح كانت كثيرة لدرجة لم يستطع المهربون جمعها كلياً ، فصار الكثير منها في أيدي رجال المقاومة ، ذلك أنه من الصعب جمع السلاح من غزة حتى حدود قناة السويس ، حيث صحراء سيناء تعج بالمناخات والبداوة ، مما أفقد الخطة شروط نجاحها ، فعمل الاحتلال على محاور مغايرة .
ومع ذلك ، كانت رياح غزة شديدة . أمواجها متعاقبة وشبابها مندفع قادر على تطوير أساليب المقاومة تبعاً لمشيئة اللحظة . فمن اعتقال فوج يقاوم ، إلى انبثاق آخر أكثر استعداداً للتضحية. ومن استشهاد مجموعة فدائيين ، إلى اندفاع أفواج جديدة صوب كنس الاحتلال . معادلة موضوعية محكومة بقانون الصراع .
ومع كل لحظة تتراكم التجربة ويتم ابتداع أساليب جديدة تتكشف لاحقاً فيتم تجديدها .
وهكذا دفعت غزة أبهى أيامها ثمناً للعذاب . أضحى شاطئها الجميل ذو الرمال الصفراء النقية من الشوائب خالياً تماماً من المتنزهين ، كأني بها تتزيا بزي الحداد على فقدان أجمل الأيام.
وفي أعقاب انقضاء الشتاء بعد الخريف ، جاء الربيع يحمل كعادته رائحة الزهور من مختلف الأصناف وكانت نسمة الفجر ما تزال تحمل عند هبوبها بعضاً من برودة الشتاء المشبعة بأمطار ذلك العام، وكانت الأوتار ما تزال مشدودة للحالة العصبية التي أضفت تعقيدات إضافية على أجواء الحياة المستقرة . وكان الأطفال يستذكرون ، كلما هموا باللعب ، فقدان الأمان أو غياب الأب عن المناخ الأسري ، فتختفي الابتسامة عن وجوههم وتطفو المآسي على السطح.
وكان طين الأرض قد امتص من الماء ما جعله رائباً ، فظهرت عليه دروب متعددة عند أبواب معظم المداخل المفضية إلى تلك الأحداث التي أودت بالفرح وكلفت المواطنين عظيم الدم . فمن مدخل المنطار الذي تظلله الأشجار إلى مدخل مخيم الشاطئ الذي كلف الشجعان الدم عندما منعوا تقدم آليات العدو في أكثر من مناسبة ، حفرت الأقدام درباً على الماء والطين لا تمحوه آثار محاولات كسر النفس أو شراسة الهجمة الهمجية . ومن قلعة بيت حانون إلى مخيم جباليا سطر الجيل الأول للمقاومة صفحة ناصعة من الصمود وإيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف العدو.
هذه الأحداث ، التي تراكمت فوقها السنين ، لم تغب عن الوجدان أو تذهب هدراً . حفرت أخدوداً في الأعياد والمناسبات العامة ، جعلتنا نردد باستمرار وعند قدوم أفواج المتنزهين حتى يعاينوا حجم المأساة التي تعرضنا لها، أو لإجراء مقارنة بين الثمن الذي دفعناه من أجل الحرية والاستقلال ، والأثمان التي يدفعها الآخرون .
كنا نردد على مسامع الجميع : إذا لم تقفوا مع الواقفين صبيحة أول أيام العيد ، وتمشوا مع الماشين بين أضرحة الشهداء، وإذا لم تأكلوا "المعمول" وتشربوا القهوة المرة ، وإذا لم تشاهدوا الصغار وهم يتأرجحون أمام المنتزه العام ويلعبون بين أشجاره ، وإذا لم ينتصف الليل وأنتم تتفقدون أبهى زينة تتحلى بها المدينة ، وإذا لم تكحلوا عيونكم بوجوه العواجيز الذين يحتفظوا بمفاتيح بيوتهم ويتحلق الأطفال حولهم وفي أياديهم المسدسات البلاستيكية، فلا تقولوا أنكم زرتم غزة في الثلاثين عاماً الأخيرة !!
في هذه الثلاثين عاماً كان كل شيء يسكن تحت رماد لحظة الانتماء التي ما تلبث أن تفجر جموح الروح بحثاً عن قدر يجمع بين تحليق أرواح العشاق في السماء ، وما عداها ، كانت الحياة تسير قدماً وتمارس طقوسها ونحن نملك مفتاح قدرة الربط بين حب تجديد النسل والمحافظة على الواجب كي نصل عند النقطة التي تتقاطع فيها الرموز فنفككها ونعيد تركيبها ونتقدم خطوة إضافية باتجاه الهدف الذي لا نحيد عنه مهما عرقلتنا المصادفات .
هذه هي غزة المنبثقة من ضلع الطبيعة كي تحتل موقعها الذي لا ينافسها أحد عليه . غزة التي تشكلت من بقايا شموس ملتهبة أطفأتها مياه بحر متوسط أبيض جميل، أمواجه لا تعرف الاستكانة مهما بدت المناخات مستقرة .
طبيعتها الرملية تنفي الصخور ، لكنها أصلب عندما يجد الجد، تقف عند مداخل المراحل المتعاقبة في وجه شدائد الأمور ، فتكون الحصان الرابح في سباق المسافات الطويلة .
أهلها من الأطفال والشباب والشيوخ والنسوة ، مولعون بالتمرد وعناق المستحيل . سريعو التحرك ومبدعون في أساليب التجديد والاختفاء والانتظام في عمل موحد قادر على التعاطي مع المستجدات مهما كانت فجائية .
تنتفض أعماقها عندما يطأ أرضها الغرباء ، وتكون لهم بالمرصاد . ينتمي ناسها لعالم آخر من البشر ، طيب ووديع ، لكنه دوماً متمرد عصي على الامتلاك والتدجين ، يركبون الصعب ويأخذون على عاتقهم إفشال الخطط بغض النظر عن حجم المخاطر والعامل الزمني.
ثلاثون عاماً لم تغير طبيعتها ، أو يسيطر عليها الأعداء رغم كل المغريات .
هذه هي غزة ، تقف عند فوهة البركان ، تفتدي الوطن وتذود عنه ، وفي المساءات تتنسم الريح الرخاء ، وتداعب رمال الشاطئ وأمواج البحر المتلألئة تحت قبة السماء المرصعة بالنجوم.



#حبيب_هنا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما زال المسيح مصلوبا
- ما زال المسيح مصلوباً
- شهادة ابداعية


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - مازال المسيح مصلوبا