أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - محاضرات سياسية عن أوروپا وتركيا وأفريقيا والهند















المزيد.....



محاضرات سياسية عن أوروپا وتركيا وأفريقيا والهند


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3594 - 2012 / 1 / 1 - 20:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


محاضرات سياسية عن
أوروپا وتركيا وأفريقيا والهند
عند منعطف القرن
من مجلدات جامعة كل المعارف
ألقيت فى فرنسا فى عام 2000
Université de tous les savoirs
ترجمة: خليل كلفت
مراجعة: بشير السياعي
الطبعة العربية: الجزء السادس: ما الثقافة؟
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومى للترجمة، القاهرة، 2005
 
المحتويات
1: أصالة ومستقبل البناء الأوروبي
2: الخريطة الجديدة لأوروبا
3: تركيا المرشحة للاتحاد الأوروبي
4: أفريقيا:الاستعمار، وتصفية الاستعمار، وما بعد الاستعمار
5: أفريقيا واحتمالات مستقبلها
6:  الهند المنفتحة أم الهند المنغلقة؟
 
 
 
 
 
 
 
 
1
أصالة ومستقبل البناء الأوروبي [i]
برتران بادي[ii]
BERTRAND BADIE
التجربة الأوروبية القريبة منا جدا ، التي نعيش فيها بصورة يومية، تجربة غير مسبوقة، وخارج التصنيف، ومن الصعب تسميتها. ونحن نلمس بالإصبع ما يصنع ثراء ما نعيشه اليوم، ولكنْ أيضا ما يجعل منه عدم يقين. ثراء غير المسبوق، وعدم يقين ظاهرة اعتدنا تسميتها باستعمال الكلمات، المفاهيم، الأفكار العامة، المقولات، التي تنتهي التجربة الأوروبية على وجه التحديد إلى إلغائها. وبصورة خاصة فإن الجدال الأكثر شهرة، أوروبا والدولة (أوروبا؛ هل هي إضافة لدول أم هي دولة عليا في طور البناء؟)، صار الآن جدالا مغلوطا لأن قراءة أوروبا من خلال هذا المفهوم العتيق للدولة إنما هو خطأ فادح. والاتحاد الأوروبي، كما نعرفه اليوم، لا هو إضافة لدول ولا هو دولة عليا. وإنما هو شيء آخر، نوع ما من الهيكل السياسي غير محدد، ومن الصعب فهمه: عندما نحاول، عن طريق نهج بشري جدا، الانتقال من المعروف إلى المجهول، عندما نحاول تحديد مكان هذا الاختراع، فإننا نفقر قراءته عن طريق تسميته من خلال مقولات وخطابية سياسية لا تتوافق مع ثراء الاختراع والخيال.
وتتمثل السمة المميزة الثانية في أن هذا الاختراع يصير حيًّا [مباشرا]، لم يسبق التفكير فيه، ولم يسبق تنظيره: إنه بطريقة ما نتيجة تجربة يومية وخيال يومي. والحقيقة أنه لا توجد نظرية مُعَدَّة سلفا عن الاتحاد الأوروبي، ومن باب أولى بطبيعة الحال، لا يوجد نموذج جاهز لأوروبا[الموحدة]، لما هي عليه الآن، وأكثر أيضا لما سوف تصير إليه. وقد كان هناك مفكرون، ومفكرون كبار لأوروبا [الموحدة]، وكان هناك رواد، ورواد كبار لأوروبا[الموحدة]. وليس المقصود أن ننساهم، ولكن أن نلاحظ، دون وقاحة زائدة، أنهم أخطأوا إلى حد ما في آمالهم وتوقعاتهم. وإذا قرأتم الاتحاديين الكبار الذين سبقوا الحرب العالمية الثانية بالنسبة لبعضهم، ولكن بصورة خاصة الذين واكبوا البناء الأوروبي غداة الصراع العالمي الثاني، فإنكم سوف تلاحظون الهوة التي كانت قائمة بين أوروبا كما تصورها هؤلاء الرواد والواقع كما نكتشفه يوما بعد يوم، ومعاهدة بعد معاهدة، وممارسة بعد ممارسة. وينبغي إذن أن نكون متواضعين تماما عندما نتحدث عن أوروبا لأن عملنا إنما ينصبّ على متابعة شيء غير مسبوق وفي سياق تطوره من يوم إلى يوم، حذرين جدا فيما يتعلق بالتنبؤات.
والسمة المميزة الثالثة لهذا البناء الأوروبي هي أنه بقي استثنائيا لفترة طويلة في العالم. ولا جدال في أن البناء الأوروبي، كما تم وضعه موضع التطبيق غداة الحرب العالمية الثانية، كان أول الأبنية الإقليمية الكبرى وسوف يبقى بلا أدنى شك الحالة الفريدة للتكامل الإقليمي على الأقل أثناء العشرين عاما الأولى التي أعقبت الصراع العالمي الثاني. ومن المثير أن نرى كيف أن البناء الإقليمي الذي ينشط في كل مكان تقريبا في العالم، في أمريكا اللاتينية مع الميركوسور Mercosur، وفي أمريكا الشمالية مع النافتا NAFTA-ALENA، وفي أفريقيا الجنوبية مع السادك SADC، وفي آسيا مع الآسيان ASEAN، بصورة خاصة، له، إزاء النموذج الأوروبي موقف الاستفادة. ولا جدال في أن أوروبا كانت بمثابة النموذج للآخرين، في لحظة بدا فيها مع هذا أن أوروبا تلتصق بها الشهرة التي لا تحسد عليها باعتبارها القارة العجوز أمام هذا الانفجار للحداثة الذي يميز مستقبل أمريكا الشمالية أو مستقبل شرق آسيا. ومن جهة أخرى كانت هذه المحاكاة موجودة لدى البلدان الغنية أكثر مما لدى البلدان الفقيرة التي لابد أنها كانت مع ذلك بحاجة إلى التكامل الإقليمي في سبيل تأمين تنميتها.
تكمن مجازفة مدهشة إذن في هذا الذي لم نتوصل إلى تسميته ولا إلى وضع مفهوم له ولا إلى تنظيره، والذي هو مع هذا مصدر إلهام. ويمكن أن نقول إنه نموذج بلا نموذج، وربما كان بوسعنا أن نفهم بهذه الطريقة أحد المظاهر الرئيسية لموضوعنا، أيْ الطريقة التي صارت بها التجربة الأوروبية استجابة غير مسبوقة للتحدي الكبير الذي يمثله تحدي العولمة. فكيف يمكن العثور على وضع وسط بين الدول­ الأمم ـ الدول­ الأمم التي صارت عاجزة عن مواصلة زيادة فعاليتها ـ وعالمية تظل إما يوتوبية إذا تصورنا أن نجعل منها مدينة الغد، وإما فوضوية إذا فكرنا في أن نجعل منها وعاءً للتبادلات الدولية للوقت الحاضر؟ وتفترض الإجابة على هذا السؤال جهدا لفهم أوروبا بثلاث طرق. البناء الأوروبي، إنه أولا تاريخ ـ نصف قرن تقريبا. وهو أيضا رهانات، يومية، متحركة، إذ أن رهانات اليوم ليست تلك التي كانت تميز الخطى الأولى لأوروبا هذه السائرة في طريق التوحيد. وهو، أخيرا، مراهنة.
 
تاريخ
تاريخ، أولا. سيكون من السهل للغاية أن نعتقد أنه لم يوجد غير بناء أوروبي واحد. وسيكون من الخطأ أن نعتبر أن هذه العملية التي تنشأ في نهاية الحرب العالمية الثانية سوف تتواصل بطريقة مطردة حتى الانعطافة الأولى لهذه الألفية الثالثة. ولفهم أوروبا ينبغي التمييز، ربما بطريقة فظة، بين مرحلتين. الأولى مرحلة القائمين بإعادة البناء بعد الحرب. وتبدأ المرحلة الثانية مع الأزمة الكبرى للسبعينات والتي تميز نهاية الأعوام الثلاثين المجيدة والدخول في عالم جديد سوف يكتمل مع نهاية الحرب الباردة والقطبية الثنائية. وعلى هذا النحو فإنه لم يكن هناك بناء أوروبي واحد، بل على الأقل بناءان. وغداة الحرب العالمية الثانية، كانت الأطروحة واضحة: كان التنافس بين الدول مفهوما على أنه مصدر تعاسات العالم. وربما للمرة الأولى منذ ستة قرون من وجودها، تغدو الدولة متهمة. وكان من المعتقد أن التنافس بين الدول الأوروبية مسئول عن الحرب الأهلية الأوروبية. وربما لم يكن تجاور الدول ذات السيادة السبب الرئيسي وراء الحرب العالمية الثانيةـ ونحن نعلم أنه ينبغي البحث عن هذا السبب في الشموليةـ، غير أن هذا التجاور لعب دورا رئيسيا في التداعيات التي قادت إلى الصراعين العالميين الأول والثاني. وينشر ديڤيد ميتراني David Mitrany في 1943، مُدركا هذه الفكرة بوضوح، مؤلفه A Working Peace System ليحثنا على أن نقلب أجروميتنا السياسية.[iii] وهو يذكرنا بأن الدولة ليست غاية كل فعل وليست غاية في حد ذاتها، بل جرى بناؤها كأداة لخدمة الإنسان: يجدر بنا إذن أن ننسب من جديد إلى إشباع الحاجات البشرية هذه المأثرة الحاسمة. ويؤكد ميتراني أنه إذا كانت الدولة قادرة على إشباع حاجات بشرية بعينها فإنه يوجد، بالمقابل، كثير من الحاجات الأخرى التي يمكن أن تشبعها بطريقة أكثر إقناعا بكثير هيئات أخرى غير الدولة، سواء أكانت هذه الهيئات أصغر أم أكبر. وسأضع أصل المجازفة الأوروبية الكبرى في هذا التأكيد: فلنَحْصُرْ الحاجات البشرية قبل أن نأخذ الدولة في اعتبارنا. ووراء هذا الخطاب الوظيفي، نلمح بالفعل مبدأ الحد من السلطات الثانوية للجماعة الأوروبية [لصالح الدول الأعضاء والأقاليم] subsidiarité principe de le الماثل في صميم المجازفة الأوروبية. ويدعو هذا المبدأ إلى أن نكف عن الانطلاق من نقطة ثابتة قد تكون الدولة، بل من التحديد الدقيق للمؤسسات القادرة على إشباع حاجات الإنسان أكثر من المؤسسات الأخرى. ويوجد أيضا في أصل أوروبا والبناء الأوروبي، في وقت واحد، النفعية ونزعة إنسانية حقيقية. عودة نحو الإنسان، نحو ما كان ماثلا في صميم آلام الحربين وعلى وجه الخصوص الكارثة المروعة المتمثلة في الحرب العالمية الثانية. غير أنه تكمن هنا المفارقة الكبرى لهذه الفترة الأولى من البناء الأوروبي: في حين كان يراد تجاوُز الدولة، كانت الدول وحدها قادرة، في السياق القائم في ذلك الحين، على الشروع في القيام بهذا العمل التكاملي الجديد. وتتمثل المفارقة الكبرى لهذه المرحلة الأولى التي ستقلب بسرعة بالغة بالتالي اليوتوبيات الأصلية في أنه مع سرعة إيقاع المعاهدات (الجماعة الأوروبية للفحم والصلب [السيكا] CECA في 1951، ثم معاهدات روما)، يجري شيئا فشيئا إدراك أن الصانع البارع الرئيسي لهذا البناء باستمرار إنما كان يتمثل في الدول، وعبرها، في الحكومات التي سوف تقوم بتحويل حلم تجاوُز الدولة إلى واقع هو واقع التعاون بين الحكومات. وعلى هذا النحو كانت هذه المرحلة الأولى من البناء الأوروبي مرحلة نزعة التعاون بين الحكومات intergouvernementalisme. ومع هذا فإن هذه الطبعة الأولى سوف تعجز، بالتدريج، عن مواصلة النمو لثلاثة أسباب. أولا سوف تتمثل لعبة الدول والحكومات في دفع التعاون إلى أقصى حد ممكن ولكن حتى خط أحمر، هو خط سيادة الدول التي لا ينبغي التعدي عليها. وهذا هو السبب في أن هذا البناء الأوروبي الأول سوف يُخيِّب الأمل شيئا فشيئا: سوف يقيد الحد الأقصى لطموحه برغبته الديجولية في الاحتفاظ بوهم سيادةٍ للدول. فالانتقال من أوروبا كانت اقتصادية في المحل الأول إلى أوروبا سياسية واعدة بالكثير لن يحدث. ومن هنا العوائق التي سوف تظهر خلال ستينات ، وربما في بداية سبعينات، القرن العشرين. ثم إنه إذا كانت السنوات الثلاثون المجيدة لحظة قوية لإعادة البناء الاقتصادية، فقد ساعدت تلك السنوات على ازدهار فاعلين آخرين أكثر ميلا إلى التغيير، وأكثر إصرارا فيما يتعلق بالتكامل. وقد تمثل هؤلاء الفاعلون في الفاعلين الاقتصاديين، ورجال الأعمال، والجمعيات، ولكن أيضا في الفاعلين المحليين، والإقليميين، وباختصار في مجموعة كاملة من الفاعلين الذين سوف يظهرون فجأة على المشهد الأوروبي، والذين لن يستطيعوا ولن يريدوا أن يضعوا أنفسهم في هذه البيئة المطبوعة جدا بطابع التعاون ما بين الحكومات. ويرتبط المصدر الثالث للتوعك الذي أصاب نزعة التعاون بين الحكومات باكتشاف آخر: سوف نعرف بالتدريج أن أوروبا هذه لم تكن شيئا آخر إلا خريطة جديدة مصبوغة بالكاد بألوان غير مسبوقة لإظهار الصلات المحددة لهذه الدول فيما بينها. غير أنه لم يجر قول شيء عن هوية أوروبا الجديدة هذه، ولا عن وصف هذه النطاقات التي تشبه النطاقات القديمة: دائما نفس التنافسات، ونفس العداوات.
وإنما على هذا النحو دخلنا فترة ثانية، وهي الفترة التي يسميها البعض بالنزعة الإقليمية الجديدة لكي يبين بصورة أفضل أنها تتميز عن الفترة السابقة. إننا في النصف الأول من السبعينات، حيث يكتشف العالم العولمة، والاتصالات، والاعتماد المتبادل، ولكن أيضا الأزمة الاقتصادية. وفجأة، تصير المعطيات معكوسة قياسا إلى خطاب ما بعد الحرب مباشرة: من الآن لم تعد الدول في وضع المتهمة؛ على العكس تماما، يخشى الناس على بقائها. وسوف يلقي الخطاب السائد في السبعينات الشك على قدرة الدول على مواجهة نتائج العولمة وبصورة خاصة على مواجهة انطلاق هذا العالم الجديد في أقصى آسيا. وعلى العكس تماما مما كان معروفا قبل ذلك بثلاثة عقود، لم تعد الفكرة هي بناء منطقة أوروبا ضد الدول، بل إنقاذ الدول، أو على الأقل ما بقي منها. كإجراء للمحافظة على البقاء، للمساعدة على التنفس لهذه الدول المتوعكة، المسحوقة بالأزمة، المدفوعة بعنف بالتغيير. ونلقى نفس المفارقة كما في السابق ولكن في صورة معكوسة: البناء الإقليمي الجديد المقصود به إنقاذ الدول ينهض به هذه المرة هؤلاء الفاعلون الجدد الذين أشرت إليهم منذ قليل، الفاعلون الاقتصاديون، الفاعلون الاجتماعيون، الفاعلون المهنيون، الفاعلون الجمعياتيون، الفاعلون المحليون، الذين سوف يندفعون في هذا التاريخ الجديد للبناء الإقليمي والذين سيكونون المحركين له. وهذا ما سوف يقوم فجأة بإزالة العوائق من طريق مسألة السيادة، وأوروبا السياسية، والتكامل السياسي. ومن الآن فإن التكامل الاقتصادي، والتكامل الاجتماعي، والتكامل الإقليمي ... هي التي سوف تكون المحرك للتحولات السياسية. إنه لتاريخ مدهش تاريخ هذه النزعة الإقليمية الجديدة التي لم يقم أحد بالتفكير فيها، تنظيرها، التنبؤ بها، ولكن الذي، بالمقابل، يقدم ممارسات جديدة. ومن الآن لم تعد المبادرة في الابتكار السياسي كثيرا في أيدي الدول ، فهي أيضا النتيجة لهذه المساومات الخفية بين الدول وفاعلين آخرين صاروا فاعلين دوليين: رجال الأعمال، النقابات، الجمعيات، جماعات الضغط، الأقاليم، المدن.  وإنه لتاريخ مدهش هذا البناء الإقليمي الجديد، الإمبيريقي أكثر بكثير، الموجَّه أقل بكثير، المصاب بالشلل أقل بكثير، ضمن نظام مكاني محصور سلفا داخل حدود، وهو، كما أجاد التعبير عنه جان­ لوي كيرمون Jean-Louis Quermonne، نظام الهندسة المتغيرة. إننا ندخل في نطاقات متحركة، في نطاقات تتشابك، وهي متعددة. وعندما يتحدث المرء اليوم عن الاتحاد الأوروبي، فإنه يشير في الوقت نفسه إلى اتحادات متعددة. فهل هو اتحاد البلدان الخمسة عشر؟ أم أوروبا اليورو؟  أم أوروبا شينجين؟ أم أوروبا أجهزة الشرطة؟ أم أوروبا التعاون الإقليمي؟ وندرك فجأة أن هذا النطاق الأوروبي لم يعد بصيغة المفرد au singulier. إننا ندخل على هذا النحو بسلاسة، ولكن بصورة مؤكدة، في نظام جديد للبناء الإقليمي يترك في نهاية المطاف لكل فاعل المزيد من الاستقلال الذاتي، دافعا إلى ائتلافات لم تكن متوقعة: سوف يعقد رجال أعمال، وشركات، تحالفات، تسويات، ائتلافات، مع المفوضية الأوروبية la Commission ضد مجلس الوزراء. وفي الوقت نفسه، نرى هذا النطاق الأوروبي لم يعد يجتذب فقط القرار السياسي بل أيضا الرفض، الحركات الاجتماعية: الإضراب الأوروبي [النطاق] eurogrève على سبيل المثال، ولكن أيضا إعادة طرح إستراتيجيات الرفض والتعبئة الفلاحية. وعلى هذا النحو نرى فلاحين تقليديين يدخلون في الحداثة قادرين على الضغط بصورة مباشرة على بروكسل، وعلى عقد تحالفات وائتلافات مع فلاحين آخرين، وأحيانا ضد فلاحين غيرهم أيضا. وتغدو أوروبا نطاقا للحركة الاجتماعية.
 
رهانات البناء
فلنحاول أن نرى كيف تبني أوروبا نفسها حريصة على الاستجابة لعدد من التحديات. وسوف أؤثر أربعة منها يبدو لي أنها تحدد بنيان حالة أوروبا اليوم: أولا ترتيبات ما بعد­ السيادة post-souverainisme، القدرة على تقديم رد على إخفاق السيادة souveraineté. الرهان الثاني: إقامة ديموقراطية جديدة، في حين تعجز ديموقراطيتنا الوطنية عن التطور. الرهان الثالث: أن نقوم بتعريف أنفسنا في علاقتها بالهيمنات، الداخلية والخارجية. الرهان الرابع: أن نمنح أنفسنا هوية بعينها.
 
الرهان الأول: ما بعد السيادة
لقد دخلنا في عالم بعد­ سيادي post-souverain. والحقيقة أن السيادة القديمة، تلك التي قام بتعريفها بودان Bodin في القرن السادس عشر، إنما هي بسبيلها إلى الإخفاق والهزيمة.[iv] وفي 1576، ينشر جان بودان Les Six Livres de la République [الكتب الستة للجمهورية]؛ وهو يكتب في سياق بالغ الفظاعة، ربما في نفس اللحظة التي كانت تجري فيها مذبحة سان بارتيليمي، في وضع من الفوضى وأيضا التدخل: الأسبان إلى جانب الكاثوليك، والإنجليز إلى جانب البروتستانت. وفي مواجهة هذا الإخفاق المزدوج، يؤكد بودان أنه لا توجد جمهورية لا تملك سيادة، أيْ سلطة نهائية، سلطة لاشخصية، سلطة مطلقة. وبعد هذا بقرن بالكاد في 1651، سوف ينشر هوبز Hobbes، على الجانب الآخر من المانش، في سياق مماثل، هو سياق الحرب الأهلية الإنجليزية، الليڤياثان Léviathan الذي سيقول فيه بطريقته نفس الشيء تقريبا: في مواجهة الفوضى، يصادر الليڤياثان جزءًا من حريتنا ليعطينا الأمن في المقابل؛ وعلى هذا النحو ينصب نفسه سيدا مطلق السيادة souverain، ومن المحتمل أن يكون بودان وهوبز قد رفعا الحاجز عاليا جدا، إذ كيف يمكن أن نتصور جمهورية تملك سلطة مطلقة، أيْ سلطة لا تسبقها بالتالي أي سلطة أخرى؟ والحقيقة أنه لا يوجد فراغ في السياسة: وراء سلطة توجد دائما سلطة أخرى. غير أن هذا الوهم عن السلطة ذات السيادة استمر قرونا وقرونا. وقد قام بتعريف وترتيب نظامنا الدولي، ومنح حقا لدولتنا، كما قام بتشكيل فكرنا السياسي، وفلسفتنا السياسية، وسلوكنا السياسي، وأمانينا، وقيمنا. واليوم، نعلم أن هذه السيادة موضوعة تحت الاختبار، وأن هذا الوهم، حتى إذا تأكد واتضح أنه وهم، يغدو حقا في خطر. إذن، ينبغي إعادة التفكير في السياسة، وأيضا في العلاقة بين هذه الدول التي لم تعد من الآن ذات سيادة، و، بالتالي، يجب تنظيمها في سياق عالم ما­ بعد­ السيادة. ويمكن تفسير هذا الفقدان للسيادة بطرق عديدة. أولا لأننا نعيش ازديادا هائلا في عدد الدول. والحقيقة أن عالم القرن التاسع عشر، عالم النظم المترنيخية أو البسماركية، حيث كان عدد الدول لا يتجاوز العشرات لم يعد عالم اليوم: إننا في عالم من 200 دولة. كما أننا في أوروبا مفتتة، حتى أكثر من أمس، منذ انهيار الاتحاد السوڤييتي، ويخلق هذا التفتت الذي يتواصل في البلقان والذي من المحتمل أنه لم يصل بعد إلى نقطة تشبُّعه مواقف غير مسبوقة. وعندما تكثر أعداد الدول فإن اختلالات توازن القوة تكون أيضا لافتة للنظر أكثر وتخمد هذه الاختلالات في توازن القوة دعوى السيادة. وعلى وجه الخصوص فإنه كلما كثرت أعداد الدول كان لا مناص من أن يعوِّض عن هذا النقص في السلطة العامة الذي يصيب الصغير شيء آخر وبصورة خاصة خصخصة للسلطة تزعزع السيد المطلق وتجعل منه عملاقا بأقدام من طين. وعلاوة على هذا فمن هذا الازدياد الهائل في عدد الدول ينشأ بصورة مفهومة تماما اعتماد متبادل فيما بينها؛ وكلما كثرت الدول، كان اعتمادها المتبادل أكبر. غير أن هذه العملية تشتبك مع شيء آخر: إنه يتمثل في أنه لم يعد يوجد اليوم عمل عام سيادي. ويغدو قيام حكومة باختيار يتعلق بالميزانية مستحيلا دون جعله يتكامل مع اختيارات الميزانية للغير؛ فلم يعد يمكن مس سياسة الموازنة لفرنسا دون أن يؤخذ في الاعتبار ما هي سياسة الموازنة لألمانيا، أو لجارة أخرى، قريبة أو بعيدة. وبإيجاز فإن الاعتماد المتبادل أفضى إلى أن تصير الحدود وهمية، قابلة للاختراق بسهولة. وبطريقة غير عادية حتى بصورة أكبر، ففي هذه النهاية للقرن العشرين، لم تعد المنافع العامة منافع سيادية. وقد تعلمنا في المدرسة، وفي الجامعة، فيما مضي، أن كل منفعة عامة كانت منفعة سيادية. أما اليوم فإن المنافع الأكثر عمومية هي على وجه التحديد المنافع الأقل سيادية لأن المنافع الأكثر عمومية لم تعد تتحمل التقسيم بين الدول ذات السيادة. وتغدو هذه المنافع العامة منافع مشتركة للبشرية. المنافع البيئية (الماء، الهواء)، ولكن أيضا المنافع الرمزية (حقوق الإنسان)، تماما مثل التنمية الاقتصادية والاجتماعية. كل هذه المنافع لم تعد تصمد لاقتسام السيادة ولم يعد يمكن أن يديرها إلا البشرية جمعاء، أو هذه النطاقات الوسيطة التي تتمثل في الهياكل الإقليمية. ومن الجلي أن حماية البيئة، إدارة المنافع البيئية، أكثر فاعلية بكثير على مستوى أوروبا المبنية ككل واحد مما على مستوى كل بلد أوروبي. وهذه السيادة المفككة، ضحية إلغاء المسافات، ضحية المسامية المتزايدة للحدود، تجعل هندستنا وأجروميتنا الكلاسيكية عن الدولة متهافتتين. وهنا يكمن أحد الرهانات الكبرى لأوروبا اليوم: فكيف نتصور عالما ما بعد سيادي، أيْ قادرا على تجاوز هذه الأنانيات السيادية لبناء هذا الإطار المشترك للمنافع وتنظيم اعتماد متبادل قادر على أن يوازن التجزئة اللانهائية تقريبا لخريطة الدول؟
 
الرهان الثاني: الديموقراطية، منفعتنا الأغلى
يقول لنا عالم الاجتماع الألماني الكبير يورجين هابرماس Jürgen Habermas في كتابه بعد الدولة­ الأمة، إن الديموقراطية تفترض تطابقا بين نطاقات المداولة ونطاقات القرار.[v] ويبدو لي هذا التعريف جيدا جدا: لكي توجد ديموقراطية فإنه ينبغي أن يكون النطاق واحدا لأولئك الذين يقررون وأولئك الذين يختارون، الذين يقومون بالتصويت. ولكن إذا تداولنا بصورة أساسية على المستوى الوطني، فإن غالبية القرارات الكبرى سوف يتم اتخاذها على المستوى الإقليمي، بل حتى على المستوى العالمي. كما أن الرهانات التي تحرك انتخاباتنا التشريعية أو الرئاسية تصير بالفعل تافهة بالنسبة للرهانات الأساسية التي تتمثل في التجارة الدولية، وسياسة حقوق الإنسان، والبنود الكبرى لهذه المنافع المشتركة للجنس البشري التي أشرت إليها منذ قليل والتي تتراخى بصورة متزايدة قبضة الاختيارات الوطنية عليها. والواقع أن الذين يتداولون والذين يقررون لم يعودوا في نفس المستوى. ويتمثل الرهان الكبير الذي تتجابه بشأنه أوروبا في التوفيق إلى الحد الأقصى بين مستوى المداولة ومستوى القرار، بين النطاق التداولي الانتخابي ونطاق القرار. وهذا ما يجب أن يقودنا حتما إلى وضع تصميم واضح لمجتمع سياسي أوروبي وإلى أن نجعل منه المكان الرئيسي لتداولنا. في حين أنه ينبغي حقا أن نقر اليوم بأن انتخابات البرلمان الأوروبي تبقى عنصرا هامشيا وثانويا بالنسبة لعملنا السياسي الديموقراطي. وباختصار فإن الديموقراطية إنما تتم ممارستها حيث لم يعد يتم اتخاذ القرار، ولا تتم ممارستها حيث يتم اتخاذ القرار.
 
الرهان الثالث: الهيمنة
يجب أن يتم تعريف أوروبا في مواجهة هيمنات خارجية: القوة المفرطة الأمريكية (وهي ليست ذات قوة مفرطة إلى الحد الذي توصف به)، الهيمنة الآسيوية (على كل حال من هذا الجانب الشرقي الأقصى لآسيا)، ولكن أيضا الهيمنة داخل أوروبا والتي تتقاسمها فرنسا، وبريطانيا العظمى، وألمانيا، أو، ربما، في وقت ما الثنائي الفرنسي الألماني. كما تسود جمهورية جنوب أفريقيا السادك SADC، وكما تسود البرازيل والأرجنتين (وربما البرازيل وحدها تماما) الميركوسور Mercosur، وكما تسود الولايات المتحدة النافتا NAFTA... وباختصار ففي كل بناء إقليمي يريد لنفسه حقا تجديدا سياسيا، نجد سيدا. إنه رهان كبير يشكل جدول أعمال المؤتمرات الكبرى بين الحكومات اليوم، وبصورة خاصة مؤتمر نيس الذي يتمثل مشروعه بالفعل في تقنين القوة داخل أوروبا، بالمآزق والمعضلات التي نعرفها والتي تقوم أيضا بإضعاف المشروع الأوروبي.
 
الرهان الرابع: الهوية
الهوية هي المسألة الطقسية المتكررة لكل تفكير حول ما هو اجتماعي. ويمكن أن أقول لكل تفكير حول الإنسان: مَنْ أنا؟ كيف أتصور نفسي بالنسبة للآخر؟ كيف أتصور الآخرية؟ما هي آخرية أوروبا؟ إننا عند مفترق الطرق. ومع الحرب الباردة، مع القطبية الثنائية، كانت هوية أوروبا واضحة جدا: كانت جغرافية سياسية بصورة فظة. إن أوروبا التي كان يجري بناؤها هي أوروبا الليبرالية والديموقراطية في مواجهة أوروبا الاشتراكية ونظام الحزب الواحد. واليوم، وفيما وراء انهيار سور برلين، تطرح هذه المسألة نفسها بطريقة أكثر إلحاحا: ما هي الجغرافيا الأوروبية؟ وإلى أين تمتد أوروبا؟ هل تمتد كما كان يقول الجنرال ديجول، من الأطلنطي إلى الأورال؟ وهل تشمل القوقاز؟ وروسيا؟ وتركيا؟ والحقيقة أن الجغرافيا لم تعد تكفينا للإجابة على هذه الأسئلة. كما يوجد خطر آخر يظهر، خطر تعريف ثقافي لأوروبا يتحدث عنها بعضهم، على سبيل المثال، على أنها أوروبا مسيحية، أو غربية، أو على أنها بيضاء، إلخ. إنه تعريف خطر، لأنه التعريف الذي يُستمد من الخطأ ويخلق العداء والصراع. فهل ستكون أوروبا إذن ضد الآخر؟ ضد شمال أفريقيا، ضد الشرق الأدنى، ضد الولايات المتحدة، ضد آسيا؟
 
المراهانات
وبالنسبة للمراهانات، الآن: ما العمل إزاء هذه التحديات؟ يمكن بكثير من الحصافة أن نرسم ثلاثة محاور للتفكير بالنسبة لمستقبل أوروبا. التفكير الأول: ماذا ستكون الأجرومية السياسية لأوروبا، أيْ كيف سيتم تعريف الأجزاء بالنسبة للكل؟ المسألة الثانية: العلاقات الدولية لأوروبا، أوروبا وأمنها. والمحور الثالث والأخير للتفكير حول مستقبل أوروبا: بناء هذه الهوية الذي أوضحت منذ قليل أنه كان رهانا رئيسيا، تجابهه أوروبا اليوم.
 
الأجرومية السياسية لأوروبا
يدخلنا فحص هذا الاتجاه الأول، الطريقة التي تترابط بها الأجزاء فيما بينها، في اتجاه محفوف بالخطر أشرت إليه منذ قليل: بناء مفردات سياسية لأوروبا، نوع من المعجم سوف يسمح بأن نسمِّي هذه الطريقة الجديدة التي تكون فيها السياسة مبنية داخل نطاق الاتحاد الأوروبي. وكنت أقول منذ قليل إن أوروبا لم تعد إضافة فقط لدول وليست كذلك دولة جديدة؛ ومن المحتمل أنها لن تصير مطلقا دولة­ أمة. ويتذبذب التفكير بين هذين القطبين اللذين عرضتهما أعلاه: القطب المحافظ ، فيما بين الحكومات، وعلى الطرف الآخر، هذا القطب الوظيفي fonctionnaliste الذي لا يكف كالعنقاء عن تجديد شبابه، حتى إذا كان قد جرى تحدِّيه وتم إفشاله. وهو يعاود الظهور اليوم حول فكرة التنظيم والإدارة gouvernance. وهذه كلمة مبتكرة، ذات وقع أسوأ جدا، لوصف هذا النظام السياسي الذي لم يعد يتخلص فقط من التفاعل بين الفاعلين السياسيين، بل أيضا من التوازن والانسجام اللذين يجري التفاوض بشأنهما بصورة يومية بين مختلف الفاعلين الذين يحق لهم إبداء الرأي، ومنهم الفاعلون الاقتصاديون، والفاعلون الاجتماعيون، وأيضا الفاعلون الإقليميون. فماذا وراء هذه الإدارة الجديدة؟ وسأخاطر بثلاث فرضيات. الأولى، تصفية الطابع الهيراركي للسياسة. فنحن ورثة الفكرة القديمة، المولودة مع الدولة، ومؤداها أنه يوجد مستوى سياسي أسمى من المستويات الأخرى. وقد عملنا وفقا لهذا المبدأ منذ عصر النهضة ونحن نعتبر أن هذا المستوى المميز هو مستوى الملك المطلق الذي يؤسس السياسة وفقا للنظام الهيراركي. وينبع كل شيء من هذا المستوى الأعلى شأنا من المستويات الأخرى. وأعتقد أن هذا النظام قد صار باليًا: إننا نعيش تصفية الطابع الهيراركي للسياسة التي تنفتح على منطق متعدد المستويات تعمده اللغة الإنجليزية باسم multi level game [لعبة متعددة المستويات]. وربما كان الذكاء السياسي لأوروبا هو الذي أدخل هذه الرؤية الجديدة، هذه السياسة التي صارت تفاعلا بين مستويات الحقوق المتساوية التي يمكن أن تتمثل في المستوى المحلي، والمستوى الأقاليمي تحت الوطني، و المستوى الوطني، والمستوى الأوروبي. وهذه المستويات الأربعة يمكن أن تشكل بطريقة ما أصالة أوروبا وأن تمنح مبدأ الحد من السلطات الثانوية للجماعة الأوروبية [لصالح سلطات الدول الأعضاء والأقاليم] subsidiarité principe de le أهميته الفعلية. 
ويوجد مستوى آخر لفهم هذه الإدارة الجديدة التي تمثل الولاء التعددي: إننا ندخل في عالم من الولاءات غير الهرمية والمتعددة. وكنا في عالم ساد فيه ولاء المواطنة، الأسمى بحكم التعريف من الولاءات الأخرى وذات أولوية. ونحن ندخل في عالم ننتمي فيه في الوقت نفسه إلى مشروعنا، إلى حيّنا، إلى مدينتنا، إلى منطقتنا، إلى دولتنا، إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضا إلى مجموع كامل من الشبكات الجمعياتية من كل الأنواع. ومن حاملين لبطاقة هوية [شخصية] بسيطة، نتحول إلى حاملين لعدد يتزايد أهمية وسموًّا من بطاقات الهوية. ونحن نختار هذه البطاقة عادة وفقا للمُحاور الذي نلقاه أمامنا. ولن أكون بحاجة إلى نفس بطاقة الهوية إذا ذهبت لأشتري خبزي من ناصية الشارع، أو على العكس إذا ذهبت للتصويت في الانتخابات، إذا ذهبت للتعلم في ألمانيا، أو إذا ذهبت لأناضل في شبكة جمعياتية. وهذا الولاء المتعدد يجعل من كل فرد إلكترون هذا النظام الإقليمي الجديد. وأخيرا فإن هذه الإدارة الجديدة تصب، بصورة منطقية، في إضفاء الطابع المكاني التعددي: إننا في الوقت نفسه في نطاقات عديدة، وهذه النطاقات متحركة. وإنما في هذا الحراك، وليس في الحالة السكونية statisme، سنلقى شروط إنجازنا وتجددنا. وهذا ما تستطيع أوروبا أن تقدمه.
 
أوروبا في النظام الدولي؟
لم يعد للأمن اليوم المعنى الذي كان له أمس. وقد صار الأمن الوطني والعسكري عالميا ومتعلقا بالبشرية. والأمن اليوم لم يعد يتمثل فقط في توازن القوات والقوة فهو يتمثل أيضا في الأمن الغذائي، والأمن الإيكولوجي، والأمن الاقتصادي، والرفاهية. وباختصار، في مجموع كامل من القطاعات التي ترجع إلى الإنسان بوجه عام والتي تتخلص من الصياغة الكلاسيكية لمفهوم الدفاع الوطني لإدخال الفكرة المتمثلة في دفاع منتشر. في دفاع يحيل إلى نطاقات موسعة. غير أن الأمن ليس فقط تحولا─ انتقالا من الأمن العسكري إلى الأمن العالمي─، فهو أيضا إضفاء للطابع الأقاليمي. إننا لم نعد في عالم ثنائي القطبية؛ ولم يعد الأمن أمن الغرب في مواجهة الشرق. إنه أمن يخلق مخاطر على أبوابنا (كما في البلقان). وهو أمن تحويل أوروبا إلى قوة إقليمية، وهذا ما لم تكنه أوروبا من قبل:  في سياق نموذج ثنائي القطبية، لم تكن أوروبا سوى عنصر ، أصغر، من الأمن الغربي؛ واليوم تغدو أوروبا عنصرا رئيسيا من أمن إقليمي في مواجهة الحرائق التي صارت على أبوابنا، البلقان، ولكن أيضا شرق المتوسط، وشمال أفريقيا، و، داخل جدراننا أيضا، أقليات الهويات التي تستيقظ. وإذا نحن جمعنا بين مقتضيات هذا الأمن العالمي وهذا الأمن الإقليمي فإننا نكتشف الخطوط الكبرى لما يمكن أن يكون حقا أمنا أوروبيا. وهذه فكرة لم نعد نؤمن بها منذ إخفاق الجماعة الأوروبية للدفاع، غير أنها تغدو بديهية. وحتى الأكثر سيادية، الأكثر انكفاءً على الذات بين الدول─ بريطانيا العظمى بصورة خاصة، ولكن أيضا فرنسا ما بعد الديجولية─، تغدو الدول المؤيدة وإنْ بتردد حقا إزاء هذا الأمن الأوروبي الذي يجري إحياؤه، كما يدل الإعلان الفرنسي الإنجليزي في سان مالو، والإعلان الفرنسي الألماني في تولوز، وقمم كولونيا، وهلسنكي، ونيس. والواقع أن الأخوَّات في السلاح، والاتصالات اليومية بين الوحدات العسكرية الإنجليزية، والألمانية، والفرنسية، والإيطالية، في كوسوفو، تخلق بصورة مباشرة وبدون قرار سياسي رئيسي حساسية جديدة بين الفاعلين الأوروبيين.    
إعادة تعريف الأمن، تجريد العالم من الطابع الأقاليمي. إننا في عالم تكتسح فيه الاتصالات الأراضي الإقليمية، يكتسح فيه المجتمع المفتوح أو لا مناص من أن يكتسح المجتمع المغلق، وتكتسح فيه العلاقات االبشرية العلاقات الإقليمية. وباختصار فإننا في عالم تقلّ فيه بصورة متواصلة أهمية الأراضي الإقليمية عن أهمية الشبكة، الجمعية، الاختراع، الاتصالات. وعلى هذا النحو سوف تصير أوروبا، في العالم، نطاقا [فضاءَ] للاتصالات والتبادل. وهذا تحدٍّ آخر من التحديات الدولية التي وُفقت أوروبا في قبولها. وأخيرا فإنه إزاء هذا النظام الذي يفكر في نفسه على أنه أحادي القطب غير أنه ليس كذلك حقيقة نتيجة لحدود القوة الأمريكية، يمكن دفع أوروبا إلى خلق دبلوماسية خاصة بها وإلى التعبير عنها.
   
أية هوية لأوروبا؟
لا أؤمن بالهوية الثقافية، وكلي أمل في أن لا ترى النور في يوم من الأيام، لأن ما سوف ينتج عنها إنما هو تقسيم مرعب للعالم. ولا أؤمن كذلك بهوية جغرافية رأينا الشكوك التي تحيط بها. وأعتقد بالمقابل أن أوروبا في طريقها إلى اكتشاف هويتها الحقيقية، وهي تكتشفها عبر قيم مقتسمة بصورة مشتركة: الإيمان بالديموقراطية، الإيمان بحقوق الإنسان، الإيمان بنزعة إنسانية ما. وهذا هو حقا ما يجمع دول الاتحاد الأوروبي، وهذا المبدأ وحده يمكن في التحليل الأخير أن يحكم توسيع أوروبا. إن أية دولة تعكس نفس رؤيتنا فيما يتعلق بالديموقراطية وحقوق الإنسان لها بصورة طبيعية مكانها داخل أوروبا؛ أما إذا كان لديها تصور آخر للسياسة فلن يوجد لها مكانها. وليس لأوروبا هوية أخرى تبنيها إلا في ابتكار جماعة جديدة لا هي ثقافية ولا هي اقتصادية، بل هي سياسية. وأجمل عبارة في السياسة هي تلك التي ندين بها لجان جاك روسو عندما قال في القرن الثامن عشر: ليس شعبا إلا ذلك الذي يُنصِّب نفسه شعبا. وبطريقة مماثلة: ليست دولة إلا تلك التي تُنصِّب نفسها دولة، باسم القيم المقتسمة بصورة مشتركة، وإنما باسم هذا وبسبب هذا لن تبني أوروبا نفسها إلا بأن تكون مثالية impeccable في دفاعها عن الديموقراطية وعن حقوق الإنسان. فباسم ماذا دعت أوروبا النمسا إلى التقيد بالنظام عند دخول حزب الحرية النمساوي FPÖ في الائتلاف الحكومي؟ وماذا يُحتمل أن تفعل أوروبا إذا دخل السيد بوسي Bossi في حكومة إيطالية، أو السيد لو پان Le Pen في ائتلاف حكومي في فرنسا؟ لاشك في أن هذا باسم هذه القيم. وتماما كما بنت أوروبا نفسها في سياق إلغاء عقوبة الإعدام (الذي يميزها عن الولايات المتحدة) وعلى مستوى أوسع من خلال إنجاز المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي يحق لها أن تدعو الدول الأوروبية إلى التقيد بالنظام، عندما تتخلف عن الوفاء بالتزاماتها. وإنما بهذا تعيش أوروبا وتعيش هذه الهوية السياسية للغاية والتي تتمثل في الجماعة الأوروبية. وإنما عبر هذا الترقي سنكون مواطني أوروبا وبالتالي سنستطيع على هذا النحو الوصول إلى مواطنة عالمية حقيقية.     
 
 
 
               
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
  
2
الخريطة الجديدة لأوروبا[vi]
جاك روپنيك
JACQUES RUPNIK
 
كان انهيار سور برلين في نوڤمبر 1989 رمزا للأمل ولإمكانية التغلب على تمزيق مفتعل للقارة بين كتلتين عسكريتين وأيديولوچيتين موروثتين عن الحرب الباردة. وقد اندلعت "الثورات المخملية" في أوروبا الوسطى تحت راية انهيار إمبراطورية شمولية و"العودة إلى أوروبا"، هذا المجاز للتوق الذي كان مشتركا بينها: إعادة توحيد أوروبا. وما كان أحد يتصور أن إعادة توحيد القارة سوف تسير بنفس معدل ونفس عناد إعادة توحيد ألمانيا إلا أنه، بعد مرور أكثر من عقد، خابت آمال كثيرة أو هي تعاود الهبوط. وتجري الآن عملية "إعادة ربط" اقتصادية وسياسية بين ما أطلق عليه "أوروبا الأخرى" وأوروبا الغربية. غير أنها عملية متفاوتة الكثافة وتفتح آفاقا مختلفة لإعادة تركيب المشهد الأوروبي.
ويتم الآن إعداد جغرافيا سياسية جديدة عند نقطة التقاطع بين عمليتين متصلتين: عملية تكامل متواصلة في غرب القارة والميول إلى التفكك في شرقها. وبعد نهاية نظام يالطا ارتسم في الأفق نظام ڤرساي[vii]: لم تعد هناك يوغسلاڤيا، ولا تشيكوسلوڤاكيا، ولا الاتحاد السوڤييتي. وبالطبع يمكن أن نعتبر أن عملية بناء الهوية والدولة تمثل تهيئة لتكامل طوعي جديد فيما بعد الإمبراطورية. غير أنه لا مناص من تسجيل أنه في الأجل القصير وحتى المتوسط، نادرا ما يتوافق انتشار الدول مع التكامل الإقليمي أو العالمي. ومن جهة أخرى، وخلافا للتجربة السابقة- مؤتمر برلين في 1878، أو معاهدة ڤرساي في 1919، أو مؤتمر يالطا في 1945- فإن الخريطة الجديدة لأوروبا لم ترسمها الطموحات المتنافسة للقوى العظمى وإنما رسمتها عملية التحول الديمقراطي والانتقال إلى اقتصاد السوق في البلدان الخارجة من الشيوعية. وهذه العملية بصورة رئيسية هي الماثلة في منشأ التمايز داخل كل منسجم ظاهريا فيما مضى وكذلك الإمكانات والكيفيات المختلفة للارتباط بالاتحاد الأورربي.
وبعبارة أخرى فإن إعادة تركيب المشهد الأوروبي لم تتحدد مسبقا نتيجة لطريقة انفجار النظام الشيوعي من الداخل بين انهيار سور برلين في نوڤمبر 1989 وتفكك الاتحاد السوڤييتي في ديسمبر 1991. إنها عملية طويلة الأمد تعود مقدماتها إلى تآكل نفوذ المركز الإمبراطوري على محيطه الغربي، بالتناسب مع تآكل نفوذ الحزب الشيوعي على "قلوب وعقول" الأوروبيين في الوسط والشرق. وسجلت أزمات بوداپست في 1956، وبراغ في 1968، وجدانسك في 1980، ثم انشقاق أوروبا الوسطى، بداية النهاية للإمبراطورية الاستعمارية الأخيرة في أوروبا. وقد بدأ انهيار سور برلين مع منظمة التضامن في پولندا وصار ممكنا عندما تخلت موسكو، في عهد جورباتشوڤ، عن استعمال القوة للاحتفاظ بهيمنتها.
وسوف تستغرق عملية إعادة التركيب عقودا، حتى إذا ميزنا الآن حدودها الخارجية. وسوف نحاول أن نفهمها من خلال موضوعتين متتامتين:
-                          طريقتان للخروج من الشيوعية في أوروبا الوسطى والبلقان.
-                          الحدود الجديدة في أوروبا والحدود الجديدة لأوروبا.
ويتمفصل البنيان الأوروبي الجديد حول اتجاهين متباعدين: انتقل مركز الثقل الجغرافي السياسي نحو الشرق في حين أن مركز الثقل المؤسسي انتقل نحو الغرب: لم تعد هناك معاهدة وارسو ولا الكوميكون؛ وصار الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلنطي المؤسستين الوحيدتين اللتين تنعقد عليهما الآمال. وإنما في أوروبا الوسطى قبل الجميع سوف يتعين التغلب على هذا التناقض. ويحمل هذا التحدي اسم "توسيع الاتحاد الأوروبي".
 
طريقتان للخروج من الشيوعية:
أوروبا الوسطى والبلقان
 
يوضح مفهومان ظهر بصورة متعاقبة أنهما باليان التغيرات التي جرت منذ الثمانينات، في الواقع كما في التصورات الغربية.
أولا مفهوم "الديمقراطيات الشعبية لأوروبا الشرقية" الذي، وفقا لصياغة الكاتب التشيكي ميلان كونديرا Milan Kundera، يموه كذبة ثلاثية لتسمية ديكتاتوريات شمولية لم توجد مع ذلك في أوروبا الشرقية، بل في أوروبا الوسطى. وقد أسهم كونديرا، وكذلك مثقفون آخرون من أوروبا الوسطى مثل الكاتب الپولندي سيزيسلاڤ ميلوش Czeslaw Milosz، الحاصل على جائزة نوبل للأدب، والكاتب المجري جيورجي كونراد György Konrad، في إعادة اكتشاف مفهوم أوروبا الوسطى باعتباره النقيض للهوية التي يفرضها الانتماء إلى كتلة أيديولوجية عسكرية. ووفقا لصيغة كونديرا، كانت أوروبا الوسطى "ثقافيا في الغرب، وسياسيا في الشرق، وجغرافيا في الوسط[viii]". والحقيقة أن مشروع أوروبا الوسطى كما تم إجماله خلال الانشقاق ثم كما تم وضعه موضع التطبيق بعد 1989 كان يتمثل على وجه التحديد في التوفيق بين الهوية الثقافية، والانتماء السياسي، والجغرافيا.
وبعد مفهوم "الديمقراطيات الشعبية"، كان مفهوم بلدان "ما بعد الشيوعية" هو الذي فرض نفسه خلال التسعينات. ولا يكاد هذا المفهوم يحتفظ بصلة بالموضوع بعد عقد من عمليات الانتقال بنتائج متناقضة جدا. ومن المجر إلى طاچيكستان، ومن بوهيميا إلى ألبانيا، يشير الانتماء إلى نطاق "ما بعد شيوعي" إلى حقائق اجتماعية اقتصادية متباينة للغاية وإلى ديناميات سياسية متباعدة. وبالتالي فإنما على أساس حساب ختامي لعمليات الانتقال (وليس على أساس اعتبارات ثقافية أو تاريخية) يجدر بنا الانطلاق إلى تعيين الحدود لخريطة جديدة لأوروبا. وإذا نحن وضعنا في اعتبارنا، في سياق منظور مقارن، سلسلة من المعايير السياسية (توطيد الديمقراطية وسيادة القانون)، أو الاقتصادية (تكوين اقتصاد سوق متكامل مع أوروبا الغربية)، أو المجتمعية (نشأة مجتمع مدني)، تفرض نفسها معاينة: إن أوروبا الشرقية لم تعد موجودة. ويمكن أن ينطبق هذا التعبير على روسيا وبصورة جزئية على محيطها الغربي (أوكرانيا وروسيا البيضاء). وتمثل أوروبا الوسطى (مجموعة الڤيزيجرادVisegrad ، وسلوڤينيا، ودول البلطيق الثلاث) حسابا ختاميا "إيجابيا بوجه عام" للانتقال: خروج من الشيوعية عن طريق الديمقراطية واقتصاد السوق. أما بلدان البلقان فقد عرفت في يوغسلاڤيا القديمة خروجا من الشيوعية عن طريق القومية والحرب؛ وفي أماكن أخرى عن طريق تكوين نظم هجينة، مزيج من الاستبداد السلطوي والرأسمالية الفاسدة[ix].
واليوم لا يتمثل كيان لأوروبا الوسطى استنادا إلى أسطورة أو هوية ثقافية (أكدها فيما مضى مثقفون منشقون سابقا لا تأثير لهم اليوم) بقدر ما يتمثل في واقع اجتماعي اقتصادي وسياسي نابع من عقد من الانتقال. ديمقراطيات صار فيها الإطار الدستوري المؤسسي مقبولا من جميع الفاعلين في الحياة السياسية. اقتصادات هي الوحيدة (من العالم الشيوعي السابق) التي تتجاوز مستوى الناتج القومي المحلي لعام 1989، وتجري قرابة ثلاثة أرباع مبادلاتها مع بلدان الاتحاد الأوروبي، تجتذب 90٪ من الاستثمارات الغربية[x]. ويضاف عنصر آخر إلى الأول: الاختلاف الصارخ عن البلقان. فإذا كانت هوية أوروبا الوسطى تتشكل بصورة رئيسية بالتناقض مع روسيا السوڤييتية، فإن ملامحها تتمايز بوضوح عن بعض بلدان البلقان المتحاربة خلال العقد التالي[xi]. وأخيرا فإن التعاون الإقليمي داخل مجموعة الڤيزيجراد (مثل التعاون الإقليمي بين بلدان البلطيق الثلاثة)، الذي كانت تحد منه بعض المنافسات في البداية، قد فرض نفسه كضرورة في إستراتيجية التكامل الأوروبي. وكلما تم بدقة تحديد أجل المفاوضات الخاصة بالدخول في الاتحاد الأوروبي، كانت البلدان المرشحة من مجموعة الڤيزيجراد تكتشف ضرورة أن تنسق إستراتيجياتها وأن تتقدم ككل جيوپوليتيكي متماسك واحد إزاء أجل التوسيع.
وبطبيعة الحال فإن تعريف أوروبا الوسطى متغير من بلد إلى آخر. فالمقصود بأوروبا الوسطى، بالنسبة للتشيك، يتمثل بصورة أساسية في مجموعة ڤيزيجراد التي تشكلت في 1991 من پولندا، والمجر، وتشيكوسلوڤاكيا، ومن الملائم أن تضاف إليها سلوڤينيا. وبالنسبة لهذه الأخيرة فإن تأكيد انتمائها إلى أوروبا الوسطى يمثل طريقة للتخلص من مجموع يوغسلاڤي متحارب: "إننا نفضل أن نكون الأخيرين في أوروبا الغربية على أن نكون الأوائل في البلقان"، وفقا لصيغة دبلوماسي سلوڤيني. ومنظورا إليها من بوداپست فإن أوروبا الوسطى هي "عالم الدانوب"، أيْ وسيلة بالنسبة للمجر للمحافظة على علاقاتها الممتازة مع الأقليات المجرية في البلدان المجاورة (سلوڤاكيا، ورومانيا، وأوكرانيا، وصربيا). وتنظر پولندا إلى نفسها بارتياح على أنها محور أوروبا وسطى جديدة تشمل مساحة أوسع بين روسيا وألمانيا حيث تحاول وارسو إقامة علاقات ممتازة مع جيرانها في الشرق، وعلى وجه الخصوص ليتوانيا وأوكرانيا، هذان البلدان اللذان كانا ينتميان، قبل أن يندمجا في الاتحاد السوڤييتي، إلى مجال نفوذ پولندي (ڤيلنيوس Vilnius، لڤيوڤ Lviov). وكانت پولندا أول بلد يعترف باستقلالهما، متخلية عن فكرة "إعادة فتح" لصالح علاقة ممتازة مع إقليميها السابقين[xii]. على أن هذه العلاقة ليست خالية من الالتباس: استعادة نفوذ في الإقليمين الپولنديين سابقا، ولكن لخدمة أوروبا وسطى مستقرة وديمقراطية.
ولا شك في أن التعاون المؤسسي بين بلدان أوروبا الوسطى ما يزال محدودا. فعند الخروج من أربعين عاما من التعاون المفروض، لا مناص من التردد في مواصلة تعاون مع بلدان عرفت نفس الصعوبات، ولا مناص من تفضيل الاستدارة نحو أوروبا الغربية باعتبارها مانحة المعنى والحداثة. والحقيقة أن رفض "الطريق الثالث"، والتبني دون أدنى الفروق لنماذج اقتصادية وسياسية غربية قد جردا أوروبا الوسطى بطريقة ما من مشروع خصوصي مرتبط بروح 1989. غير أن من المفارقات أنه عبر عملية الاندماج في الهياكل الأوروبية والأطلنطية أعادت دول أوروبا الوسطى اكتشاف مزايا التعاون الإقليمي، وخصوصية وضعها ومصالحها، ليس فقط بالنسبة للشرق أو البلقان بل أيضا بالنسبة للمؤسسات الغربية.
وكانت هذه العودة لأوروبا الوسطى موازية لعودة مسألة البلقان. والواقع أن حرب التفكك اليوغسلاڤي قد وضعت في مكان الصدارة أولويات لما بعد الشيوعية لا تتعلق بالتحول إلى الديمقراطية بقدر ما تتعلق بالبناء غير المكتمل للدول- الأمم. ومن وجهة نظر المؤرخين، أنصار الأمد الطويل، فإن نهاية الحرب الباردة إنما تكمل ميراث تفكك الإمبراطوريتين العثمانية والهابوسبورجية إذ تفتح فترة إعادة تشكل تتميز باستئناف عملية غير منقطعة من بناء الدول- الأمم بالسعي إلى تطابق حدود الدولة مع حدود الأمة- الإثنية. وفي البيئة المتعددة الإثنيات للبلقان، تكون مثل هذه المشروعات القومية، بحكم التعريف تقريبا، انضمامية irrédentistes [مؤيدة لتحرير وتوحيد المناطق التي تقطنها الجماعة القومية أو الإثنية الواحدة] وتغدو بالتالي مصادر لصراعات تتعلق بالحدود والأقليات القومية.
وضمن سياق هذا المنظور التاريخي لتشكل الدول- الأمم "المتجانسة"، يمكن تمييز ثلاث مراحل رئيسية. أولا مرحلة تحلل الإمبراطوريات المتعددة القوميات التي كانت تقوم بتأمين شكل ما من أشكال "التعايش القمعي" بين القوميات المستعبدة. وتشهد مرحلة ثانية تشكل الدول- الأمم التي ليست كذلك. وكل الدول التي تعقبها تضم أقليات قومية كبيرة. وقد قامت يوغسلاڤيا بإعادة إنتاج الهيكل المتعدد القوميات للإمبراطورية الذي سعت إلى السيطرة عليه وإضفاء الطابع المؤسسي عليه في إطار اتحاد فيدرالي يسيطر عليه الحزب الشيوعي. وسنكون، وفقا لهذه القراءة للتاريخ، في مرحلة ثالثة تتميز بتشكل الدول- الأمم المتجانسة. ولم يكن بوسع يوغسلاڤيا أن تكون سوى تكوين انتقالي بين الإمبراطورية المتعددة القوميات والدولة- الأمة. والحقيقة أن إخفاقات الانتقال إلى الديمقراطية واقتصاد السوق يمكن إرجاعها في المقام الأول إلى ذلك الانتقال. ولن تكون الحروب البلقانية هي العودة إلى "الأحقاد الموروثة"، بل المَعْبَر الإلزامي نحو الحداثة. وعلى هذا النحو فإن مأساة البلقان يمكن عزوها إلى "تأخر تاريخي" يتزامن فيه التشكل المتأخر للدول- الأمم (مع "التطهيرات الإثنية" التي تصاحبها) مع المجيء المفترض للديمقراطية في حين أن هذا حدث في الغرب في مرحلة قبل ديمقراطية وفي أوروبا الوسطى أثناء الحرب العالمية الثانية.
وأطروحة "التأخر التاريخي"، منظور "الأمد الطويل"، مصقولة ومتماسكة أكثر من أن تكون مقنعة. وقد قدمت عقلانية تاريخية صانعة منها طريقا مسدودا على العقلانية السياسية المباشرة: لا "أحقاد موروثة"، لا "صراعات حضارية"، ولا حتى مشروعات قومية جاءت متأخرة، بل كانت حروب التركة اليوغسلاڤية قبل كل شيء بقيادة نخب شيوعية سابقة تحولت إلى اعتناق القومية كوسيلة لتأبيد سلطتها ونظامها، مع احتمال القيام من أجل هذا بتغيير الحدود الخارجية للدولة[xiii]. وثانيا فالدول التي حلت محل يوغسلاڤيا ليست دولا متجانسة: تبقى مشكلة الحدود والأقليات كما هي. وأخيرا فإن الأطروحة التي يكون تشكل الدول- الأمم المتجانسة، وفقا لها، "لحظة رديئة لا مناص من المرور بها" على طريق السلام والاستقرار تكذبها البوسنة ومقدونيا، هاتان الدولتان اليوغسلاڤيتان السابقتان المتعددتا القوميات اللتان لن تختفيا بهدوء على مذبح "صربيا الكبرى"، و"كرواتيا الكبرى"، و"ألبانيا الكبرى". وبعبارة أخرى فإن الأطروحة التي لم يكن عقد من الحروب في البلقان وفقا لها سوى "لحاق" تاريخي بعد "تأخر" دام 50 عاما بالمقارنة بأوروبا الوسطى (التي كانت فيها الدول- الأمم "المتجانسة"     النتيجة المتحدة لجهود هتلر وستالين أثناء الحرب العالمية الثانية) لا يجب أن تخفي ما هو جوهري: قام "عقد ميلوسوڤيتش Milosevic" بتعزيز تهميش متواصل لكل المنطقة وذلك بعدم الاستقرار السياسي (بين دول ضعيفة، بل حتى منهارة مثل ألبانيا) وكذلك بالتخلف الاقتصادي (قدر الناتج القومي الإجمالي لصربيا في 2000 بنسبة 10٪ مما كان قبل ذلك بعشرة أعوام). وبالتالي فإن هذا "التأخر" الاقتصادي والسياسي الحقيقي إنما هو نتيجة الحرب وليس سببها.
وبطبيعة الحال فإنه لا يجب النظر إلى البلقان من جانب واحد من خلال موشور عقد حربي. ولا شك في أنه ينبغي أن نلاحظ الخصوصية النوعية لبلدين مثل بلغاريا ورومانيا اللتين نجحتا إلى الآن في تفادي انحرافات النزعة القومية الراديكالية، حتى وإنْ كان شبه الإخفاق الذي حل بانتقالهما الاقتصادي يصيب بالهشاشة النظامين السياسيين والنخب السياسية المستديرة إلى الغرب في مجتمعين هما أدنى منه. وأخيرا فإنه يوجد أمل في أن نشهد، بعد عقد كان يسوده القوميون الراديكاليون، وصول قوميين معتدلين إلى السلطة. ومما يؤكد هذا الاتجاه العام الإحلال المتزامن تقريبا في زغرب وبلغراد لكل من ستيپي ميسيتش Stipe Mesic وڤوييسلاڤ كوستونيتشا Vojislav Kostunica محل كل من توديمان Tudjman وميلوسوڤيتش Milosevic، على الترتيب، والانتصار الذي حققه في الانتخابات البلدية في كوسوڤو في أكتوبر 2000 أصدقاء إبراهيم روجوڤا Ibrahim Rugova، المؤيد لمبدأ اللاعنف، على المحاربين السابقين في جيش تحرير كوسوڤو، وفي البوسنة لمعان نجم حزب اشتراكي ديمقراطي يرفض هيمنة الأحزاب القومية المتواطئة على تقسيم ضمني للبلاد، والاعتدال النموذجي في بلغاريا في معاملتها للأقلية التركية (10٪) من السكان وكذلك فيما يتعلق بقضية مقدونيا، وأخيرا فإنه حتى اليونان- حيث يقوم پاپاندريو الابن Papandhréou fils (وزير الشئون الخارجية) بمخالفة سياسة أبيه، الذي كان قد جعل من التعبئة القومية بشأن قضية مقدونيا أحد محركات إستراتيجيته الانتخابية- تدعم الاتجاه العام. ويمكن أن يساعد كل هذا على توزيع جديد لأوراق اللعب في المنطقة بشرط أن ينجح المعتدلون في إجراء تصحيح اقتصادي وبشرط دعم إمكانية التعاون الإقليمي وإحاطتها بمنظور للارتباط الأوروبي. وفي سياق هذه الفرضية، سوف يكون الاختلاف بين أوروبا الوسطى والبلقان أقل وضوحا، على النقيض من انفلاق يعيد إنتاج الانقسامات التاريخية القديمة بين إمبراطورية هابسبورج والإمبراطورية العثمانية، بين المسيحية الغربية والمسيحية الشرقية، بين منطقة استقرار في حالة نجاح "اندماج"ها في الاتحاد الأوروبي من خلال عملية التوسيع ومنطقة مهمشة بصورة متواصلة تغدو علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي على نمط "التدخل" والحمايات.
 
الحدود في أوروبا وحدود أوروبا
ميز المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي بين كلمة “limes”، حدود إمبراطورية آخذة في التدهور، وكلمة “limen”، حدود إمبراطورية آخذة في التوسع. وتقف أوروبا في بداية القرن الحادي والعشرين عند مفترق طرق بين إمبراطورية تتفكك، "الكتلة" السوڤييتية، وإمبراطورية مترددة، الاتحاد الأوروبي، في طريقها إلى "أن تتوسع" وليس هذا نتيجة لطموحها الخاص بقدر ما هو نتيجة للجاذبية التي تمارسها على محيطها الشرقي. وعلى هذا فإن البلدان التي كانت تشكل خلال نصف قرن المحيط الغربي للشرق هي الآن في طريقها إلى أن تصير (مع نتائج معتدلة) المحيط الشرقي للغرب.
والحقيقة أن هذه العملية من التفكك وإعادة التشكل، وهي العملية المتميزة في آن معا بانفجار الاتحادات الفيدرالية الموروثة عن الشيوعية ( الاتحاد السوڤييتي، يوغسلاڤيا، تشيكوسلوڤاكيا)، ولكن أيضا بعملية اندماج في "اتحاد فيدرالي للدول- الأمم" (جاك ديلور Jacques Delors)، تطرح بطريقة جديدة وفي كثير من الأحيان متناقضة مسألة الحدود "في en" أوروبا والحدود "الخاصة ﺒ de" أوروبا.
 
 الحدود في أوروبا
 
يمكن تمييز ثلاثة مواقف مختلفة وثلاثة تصورات مختلفة بشأن مفهوم "الحدود" بين النخب السياسية وكذلك بين المجتمعات. حدود صارت غير مرئية داخل الاتحاد الأوروبي، مساحة مفقودة ( وينبغي في نهاية المطاف إعادة فتحها) بالنسبة لروسيا، حدود ينبغي تعيينها حتى مقابل جَعْلها جبهة[xiv].
ويميل الاتجاه السائد في غرب القارة إلى التقليل من شأن الحدود: من السوق الواحدة مع الانتقال الحر للبشر ورؤوس الأموال إلى نطاق شينجين Schengen مرورا بأوروبا الأقاليم، هذا هو المفهوم التقليدي للدولة- الأمة التي أعيد تعريفها بما يتفق مع أماني مؤسسي المشروع الأوروبي، مثل روبير شومان Robert Schuman الذي كتب: "نشأت الحدود السياسية عن تطور تاريخي وإثني لا يستهان به، عن جهد طويل من أجل التوحيد القومي؛ ولا ينبغي التفكير في محوها. وفي عصور أخرى كانت تجري إزاحتها عن طريق فتوحات عنيفة أو عن طريق زيجات مربحة. واليوم، يكفي التقليل من شأنها[xv]". هذا المنطق على وجه التحديد هو الذي يجد اليوم نتيجته في نطاق شينجين مع هذه المشكلة الجديدة التي لم يتوقعها الآباء المؤسسون  الذين كانوا يعملون في سياق أوروبا مقسمة: التقليل من شأن الحدود داخل الاتحاد يطرح مشكلة حدوده الخارجية.
وتدير روسيا منذ عقد مشكلة عكسية: كيف يمكن الانتقال من إمبراطورية إلى دولة- أمة؟ غير أن مثل هذا التمييز ليس له كبير معنى من وجهة نظر التاريخ الروسي. ذلك أن روسيا دولة تبني نفسها منذ القرن الخامس عشر على نمط التوسيع الإمبراطوري لحدودها، في البداية نحو الجنوب الشرقي ثم الشمال الغربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. والحقيقة أن سان بطرسبورج، شأنها في هذا شأن القسطنطينية أو الإسكندرية، عاصمة تم بناؤها على المحيط وتريد أن تكون في المراكز المتقدمة للإمبراطورية. وكان الاتحاد السوڤييتي تجلِّيا أخيرا لهذا المشروع الإمبراطوري الروسي. ولهذا تغدو تصفية الاستعمار هنا بالغة الصعوبة. أولا، بسبب 25 مليونا من الروس خارج حدود روسيا، ولكن بصورة خاصة لأنه لا يوجد نموذج للدولة- الأمة يمكن تبنيه بعد تفكك الاتحاد السوڤييتي. والحقيقة أن بريطانيا العظمى بدون الهند كانت دائما بريطانيا العظمى؛ كما أن فرنسا بدون الجزائر ظلت هي فرنسا. ولكن كيف يمكن تعريف روسيا بدون الإمبراطورية؟ كذلك فإن مسألة الحدود الخارجية تتضاعف نتيجة لمسألة الحدود الداخلية للاتحاد الروسي. والواقع أن أحد رهانات حرب الشيشان يتمثل على وجه التحديد في أنه وراء "الإمبراطورية المنفجرة" يوجد أيضا الخوف من أن يتواصل التفتت داخل روسيا ذاتها. وبعد جورباتشوڤ ويلتسين، مهندسيْ تفكك الاتحاد السوڤييتي، يريد ڤلاديمير پوتين أن يقدم نفسه على أنه هو الذي يستعيد الدولة الروسية في الداخل (تكثيف الحرب في القوقاز، تعيين 7  مسئولين في منصب الحاكم الأعلى لإدارة العلاقات مع اﻟ 49 إقليما) ومجال النفوذ في الخارج ( والمقصود بهذا بصورة رئيسية أوكرانيا)، نحو ما يسميه الروس "الخارج القريب". ووفقا لصيغة ز. بريچينسكي فإن روسيا لا يمكن أن تكون إمبراطورية وديمقراطية في آن معا. وبأوكرانيا يمكن أن تظل روسيا إمبراطورية. وسوف تكون المسألة الأوكرانية، بين أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية، بين روسيا وپولندا، أحد الرهانات الرئيسية للعقد القادم.
الموقف الثالث: قامت دول أوروبا الوسطى وجنوب شرق أوروبا منذ فترة قصيرة باستعادة سيادتها في سياق تغييرات في الحدود القائمة أو تجريدها من الشرعية. غير أن الحدود في هذا الجزء من أوروبا حدود حديثة جدا (يعود تاريخ نصفها إلى القرن العشرين)، متغيرة وفقا لعلاقات القوى الدولية (1919، 1945، 1990) ويُنظر إليها بالتالي على أنها هشة أو محدودة الشرعية. ومن إعادة توحيد ألمانيا (أول تعديل لحدود معترف بها دوليا بعد الحرب الباردة) إلى الانفصال بالتراضي بين التشيك والسلوڤاك، دون أن ننسى المسائل المتروكة معلقة نتيجة تفكك ما تبقى من يوغسلاڤيا (كوسوڤو، الجبل الأسود)، وكانت فترة ما بعد 1989 تحت راية ازدياد الدول والحدود.
وتطرح هذه المواقف الثلاثة بطريقة جديدة مسألة الحدود في علاقتها بمشروع توسيع الاتحاد الأوروبي.
ويثير هذا المشروع أولا مسألة قدرة بلدان أوروبا الوسطى المرشحة، التي استعادت منذ فترة قصيرة سيادتها، على التفكير الآن في إمكانية التخلي عن جانب مهم من هذه السيادة لحساب مؤسسات بعيدة لا تكون شفافيتها الديمقراطية واضحة دائما. وبعبارة أخرى فإن هذه البلدان تكتشف أن السيادة التي استعادتها ليست السيادة التي حلم بها أسلافها في القرن التاسع عشر، بل هي سيادة تقيدها المقتضيات الإلزامية للتكامل والعولمة في القرن الحادي والعشرين.
 
ويطرح توسيع الاتحاد الأوروبي أيضا المسألة الصعبة المتعلقة بطبيعة الحدود الخارجية للاتحاد. وهنا أيضا تتباعد وجهات النظر بين البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والبلدان المرشحة له. وبنوع من التبسيط يمكن تقديم حجة البلدان الأعضاء على النحو التالي: إزالة الحدود داخل الاتحاد الأوروبي ليست ممكنة إلا إذا جرى الاحتفاظ بحدود واضحة خارجه. وفي سبيل "بيع" التوسيع للرأى العام المتحفظ في الغرب، تأمل هذه البلدان في طمأنته بحدود "صلبة" في الشرق[xvi]. وفي سبيل "بيع" التوسيع للشرق يكون المطلوب هو العكس: تخشى البلدان المرشحة أن يخلق التوسيع عن طريق حدود شينجين صلبة للغاية "ستارا حديديا" جديدا بين الجيران في أوروبا الوسطى والشرقية. وبالنسبة لپولندا فإن ما يهمها إنما يتمثل في علاقتها الممتازة مع أوكرانيا وليتوانيا. ويجد التشيك صعوبة في أن يتصوروا حدودا صلبة مع سلوڤاكيا الشقيقة الموثوقة alter ego لبلدهم. وبالنسبة للمجر من المهم الاحتفاظ بحدود مفتوحة مع رومانيا وسلوڤاكيا (غير الموضوعتين في صدارة الموجة الأولى من التوسيع) حيث توجد أقليات مجرية كبيرة. وبعبارة أخرى فإن منظور التوسيع يطرح مسألة طبيعة الحدود وبصورة أعم مسألة العلاقة بين البلدان داخل التوسيع ins والبلدان خارج التوسيع  outs ومسألة العلاقة بين المحيط الداخلي والمحيط الخارجي للاتحاد الأوروبي.
 
حدود أوروبا
يحتاج كل مجتمع سياسي إلى حدود. والاتحاد الأوروبي ليس منطقة تجارة حرة، ولا هو منظمة إنسانية، بل هو على وجه التحديد مجتمع سياسي يحدد نفسه بالتالي في علاقته بالبيئة الخارجية. وبطبيعة الحال فإن كل إدراج هو، بحكم التعريف، استبعاد. وتنبع إحدى الصعوبات الراهنة من واقع أن الاتحاد الأوروبي إنما هو بطريقة ما ضحية نجاحه وأنه ينبغي التمييز بين حدود أوروبا وحدود الاتحاد الأوروبي. ولا يثير هذا الالتباس مشكلة في غرب، أو شمال، أو جنوب القارة لأنه توجد هناك حدود جغرافية واضحة. إن حدود الشرق هي التي تطرح المشكلة في سياق عدم التطابق بين الحدود الجغرافية والثقافية والسياسية.
وتتعلق مسألة الحدود الشرقية لأوروبا بصورة أساسية بالعلاقة مع دولتين شبه أوروبيتين وشبه آسيويتين: روسيا وتركيا. فهاتان الدولتان، بحكم حجمهما وبحكم ثقلهما الجغرافي، سوف يغيران التوازنات داخل الاتحاد الأوروبي؛ وكلا الدولتين بعيدتان عن تلبية الشروط الديمقراطية الضرورية لدخول الاتحاد. وهما، روسيا وتركيا على السواء، تجدان صعوبة في قبول التنازلات الضرورية عن السيادة داخل اتحاد موسع. ومع هذا فقد تم إدراج تركيا، في القمة الأوروبية في هلسنكي في ديسمبر 1999، بين البلدان المرشحة للتوسيع. وبصورة مستقلة عن الأسباب الإستراتيچية التي دفعت إلى مثل هذا القرار، ينبغي أن نأخذ في الاعتبار على الأقل ثلاث نتائج منطقية ربما لم تؤخذ في الحسبان بصورة كافية:
-         مثل هذا القرار ملزم. والحقيقة أن أولئك الذين يعتقدون أنهم يمكن أن يكرروا مع تركيا لعبة الوعود المؤجلة إلى الأبد ad vitam aeternam- كما حدث بعد الإشارة الأولى إلى "القدر الأوروبي" لتركيا في 1964- إنما يخاطرون بأن يفجروا هذه المرة رد فعل مناهض لأوروبا أقوى كثيرا مما كان سيحدث لو لم يتم إعلان هذا المشروع أصلا.
-                          إذا انفتح الاتحاد الأوروبي على تركيا فإنه لن تكون له أية حجة لمعارضة ترشيح روسيا.
-         إذا كانت هناك مخاوف من تحفظات الرأي العام للبلدان الأعضاء إزاء قدوم الپولنديين، أو التشيك، أو المجريين، فإنه سوف ينبغي أن يُشرح لهذا الرأي العام نفسه مزايا حدود للاتحاد الأوروبي (شينجين أو غيرها) مع إيران، وسوريا، والعراق. إذ أنه خلال أكثر من عقد من الزمان، كان الاتحاد الأوروبي أكثر من متردد في التوسع نحو أوروبا الوسطى، وهاهو يفكر في قفزة كبرى نحو الشرق الأدنى.
وهناك طريقتان لتفسير هذا القرار. إما أنه غير متخذ بجدية، وهذا يثير تطلعات لن يكون من الممكن إشباعها وبالتالي خلق شروط أزمة مع تركيا خلال عقد أو أكثر. وإما أنه متخذ بجدية فنكون بهذا متجهين نحو "أوروبا بلا ضفاف" (وفقا لصيغة فرانسوا پيرّو François Perroux) التي سوف تجعل من الضروري إعادة تعريف الاتحاد الأوروبي. وتجري الآن إعادة التعريف هذه من خلال الفرضيات المتعلقة ببناء "نواة صلبة" داخل الاتحاد. وسواء أكان المقصود "طليعة" (جاك ديلور Jacques Delors)، أو "مجموعة رائدة" (جاك شيراك Chirac (Jacque، أو "أوروبا اليورو Euro-Europe" (جيسكار Giscard وشميت Schmidt[xvii])، فالفكرة واحدة من الناحية الجوهرية: المقصود إعادة خلق اتحاد جديد داخل الاتحاد الموسع.
وعلى هذا النحو فإن الاتحاد الأوروبي يكشف عن خوف مزدوج.
بالنسبة للبلدان المؤسسة، هناك الخوف من أن يفرغ التوسيع المشروع من جوهره. وبالنسبة للبلدان المرشحة، هناك الخوف من أن يفرغ بناء "نواة صلبة" التوسيع من محتواه. فإلى أين سيكون من المحتم أن يمتد توسيع الاتحاد؟ لا أحد يمكن أن يعرف بدقة وهذا أفضل دون شك. والأمر المهم هو أنه إذا كانت حدود الدول الأوروبية نتاج التاريخ فإن حدود الاتحاد الأوروبي سوف تكون محصلة الإرادة السياسية: حدود يشكلها المشروع الديمقراطي الذي يجسده هذا الاتحاد بدلا من العكس؛ مشروع تشكله حدود تاريخية وثقافية محددة سلفا. وإنما بهذا المعنى يمكن أن تتطابق مسألة الحدود مع المشروع الأوروبي، "حدود جديدة" بالمعنى الحقيقي للعبارة. وقد كتب ڤاكلاڤ هافيل Vàclav Havel: "التوسيع في مصلحة أوروبا كلها. ونحن نأمل أن لا يجري اعتباره صدقة." إنه تحدٍّ مطروح على أوروبا. ذلك أنها، لأول مرة في تاريخها، تملك إمكانية بناء نظامها الداخلي وفقا لمبادئها بشأن التعاون السياسي والاقتصادي على قدم المساواة"[xviii].
           
ملحق
 
تقييم مقارن للانتقال في أوروبا الوسطى والشرقية
 
 
                 1          2             3            4            5          6
                     مؤشر       مؤشر        مؤشر       مؤشر       مؤشر     مؤشر
                      تقدم      الحرية      المخاطرة        حرية      الحرية    الإحساس
                   الانتقال     الاقتصادية                  الصحافة     السياسية    بالفساد
التشيك         31.66        2.20        71.72         19         3         4.8
المجر         33.32        2.90         69.98        34          3        5.0
پولندا          31.32        3.15        66.66         21          3        4.6
سلوڤينيا        28.66        3.10        72.97         27            3     غير متاح
ألبانيا          22.67        3.75        21.69         71           8    غير متاح
بلغاريا        25.00        3.60        37.83         46            5       2.9
كرواتيا        28.00        3.75        52.68        58            8    غير متاح
رومانيا        24.34        3.30        50.49        49            5       3.0   
سلوڤاكيا       29.00        3.05        60.36        41            6        3.9
روسيا البيضاء 15.00        4.05        29.10        70            12      3.9
أوكرانيا        21.66        4.05        29.69        39            7        2.8
1. Source: European Bank for reconstruction and Development, Transition Report 1997, Londres, novembre, 1997, p. 14-17.                   يتطابق المؤشر مع السجلّ العام لمجموع مؤشرات الانتقال القانوني.
2. Source: Kim R. Holmes & Bryan T. Johnson, 1998 Index of Economic Freedom, Washington Heritage Foundation, 1998.                                      أدنى سجلّ هو 5.0 وأعلى سجلّ هو  1.25. ويتألف المؤشر من 10 عوامل تشمل السياسة التجارية، والنظام المالي والضريبي، والتدخل الحكومي في الاقتصاد، والسياسة النقدية، ومراقبة الأسعار والأجور، وتدفقات رؤوس الأموال والاستثمار الأجنبي، والنظام المصرفي، والنظم واللوائح، والسوق السوداء.  
أعلى سجل هو 100.                 
                                     3. Source: Euromoney, septembre 1997.
4. Source: Leonard D. Sussman ed., Press Freedom 1996, The Journalist as Pariah, Freedom House, 1996.
أعلى سجلّ هو 2 وأدنى سجلّ هو 14. 5. Source: Freedom Review, 1997, 28, 1, p. 21-22.  
يربط مؤشر الإحساس بالفساد بين تقييمات عديدة جمعتها: 6:                                                                                 
International, Berlin, 22 septembre 1998,.  The Transparency http://www.transparency.de     ويتراوح السجلّ بين10(غياب الفساد) وصفر (فساد
بالغ).  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
3
تركيا المرشحة للاتحاد الأوروبي[xix]
جنجيز أكتر
CENGIZ ACTAR
 
 ما منطق ترشيح تركيا لتصير ذات يوم عضوا كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي؟ والحقيقة أن ترشيح تركيا لا يحمل نفس دلالة ترشيح بلغاريا أو ليتوانيا. وما أن يجري ذكر هذا الترشيح حتى يثير التساؤلات ويفجر الجدال، محتدما أحيانا، غير أنه لا يكون لامباليا أبدا.
وتركيا تعني شيئا خاصا، فهي تستدعي ذكرًى، انطباعا، نكهة، لحنا. ولا يرجع تاريخ علاقتها بأوروبا إلى يوم إقرار مبدأ أهليتها لأن تصير عضوا كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك يبقى ترشيح تركيا للاتحاد الأوروبي ساحة واسعة للنقاش. والحقيقة أن التحدي الذي ووجهت به تركيا لتلبية معايير الانضمام لا يماثله سوى التحدي الذي طرحته أوروبا الغربية على نفسها عندما قبلت ترشيح بلد قريب جدا وبعيد جدا في آن معا. غير أنه في اليوم الذي نصل فيه إلى قبول هذين التحديين فلا شك في أن هذا سوف يخدم مصالح هؤلاء وأولئك.
تركيا في أوروبا! وإذا تحدثنا من الناحية المادية فقد كانت تركيا في أوروبا منذ 1352، عندما احتل العثمانيون قصر تزيمبه الحصين، شمالي جاليپوليس، على الضفة الأوروبية للدردنيل. وبعد ذلك بستة قرون تقريبا، في 1915، أثناء الحرب العظمى، كانت الإمبراطورية العثمانية تحاول، في هذا المكان نفسه، إنقاذ وجودها بعد أن فقدت بالتدريج كل ما كانت قد قامت بفتحه منذ 1352 في القارة الأوروبية. وإذا تحدثنا من الناحية التاريخية فإن العلاقات بين تركيا وأوروبا تمثل ألف عام تقريبا من الانجذاب المتبادل الذي يصعب اختزاله إلى تعبيره الحربي فقط. وهذا الأساس للارتباط الذي يتألف حقا من الفتوح وإعادات الفتح هو أيضا أساس ارتباط أوروبا مع إمبراطورية عثمانية كانت لواء الإسلام بقدر ما كانت وريثة ومتممة بيزنطة. وبوصفها إمبراطورية كوسموپوليتية ومن عهد ما قبل الحداثة، على النقيض تماما من الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية الفرنسية، كانت الإمبراطورية العثمانية عامل استقرار لا يستهان به ( السلام العثماني paxa ottomanica)، فكانت الدول تعقد معها التحالفات والمعاهدات. وظلت الإمبراطورية العثمانية، على مدى ستة قرون من وجودها، عنصرا مكونا من عناصر الوفاق الغربي والمخيلة الغربية، من مكياڤيللي إلى مونتسكيو، بين آخرين.
ومع عصر التنوير، بدأت العلاقات تتغير. ففي البداية يجهل العثمانيون النهضة وتتراكم لديهم نواحي تخلف كبيرة بالمقارنة مع خصومهم، من وجهة النظر التقنية كما من وجهة النظر السياسية. ثم بعد ذلك وبصورة خاصة، تتعرض الصورة القروسطية للعثماني لتبدل جذري ما يزال قائما اليوم.
وفي الذاكرة الجمعية الأوروبية، التي قام عصر التنوير بتنقيحها، لا يبقى من الصورة القروسطية للعثماني (الذي كان يُسَمَّى بالتركي رغم عدم التطابق التاريخي مع هذه الصفة القومية) سوى سمته المميزة باعتباره فاتحا مهرطقا لأنه مسلم، والتي سوف يضاف إليها فيما بعد، في القرن الثامن عشر، تجسيد النير الإمبراطوري، العدو اللدود للأمم الحرة.
ومنذ ذلك الحين تعني هذه الصفات، الثقيلة على النفس، الجسم الغريب على أوروبا، هذه الاستعارة التي تتحول إلى سياسة رسمية تتمثل في طرد هذا الجسم الغريب إلى الخارج حالما ظهرت عليه علامات الضعف، ابتداءً من نهاية القرن السابع عشر. على أن التقهقر العثماني الذي بدأ على هذا النحو في الأراضي المفتوحة في البلقان لا يمثل مع ذلك البداية لقطيعة. ذلك أن الانسحاب العسكري هنا مرادف للافتتان أمام براعة الغرب الذي كان مجهولا إلى ذلك الحين والذي يصير من هذا الجانب ممثلا للآخر بالنسبة للعثماني ويبقى كذلك إلى يومنا هذا. والواقع أن هذه الحركة المادية يعقبها في أذهان العثمانيين اهتمام جديد تماما بأوروبا ويتوافق مع التغريب occidentalisation.
ويأتي هذا العهد الجديد من العلاقات بعد عهد الفتوحات وما يزال مستمرا اليوم. ويصير التغريب طوعيا، ومفروضا على النفس، ويتم بوسائل محلية. كما أنه يشكل الديناميكا الرئيسية، التي تغدو حاسمة التحديد إلى حد بعيد طوال القرنين الأخيرين في المنطقة الجغرافية المعنية.
وإنما في هذه العملية تندرج كل نجاحات الحداثة التركية بل أيضا كل نواقصها وكذلك جانب كبير من سيميولوجيا sémiologie علاقات أوروبا- تركيا؛ الأفكار السائدة، ومجموعات صور إيپينال Épinal [في فرنسا: مركز الصور الشعبية منذ نهاية القرن الثامن عشر], والأحقاد التي من المطلوب أن يتم تجاوزها اليوم نتيجة لهذا القرار التاريخي الذي أعلن، في ديسمبر 1999، إمكانية أن تنضم تركيا في الوقت المناسب إلى الأسرة الأوروبية. ومن المحتمل أن تكون الحركات البندولية التي تميز علاقات أوروبا- تركيا منذ قرون عديدة قد وجدت في قرار هلسنكي المشروع الملائم لعصر جديد سوف تتغلب فيه المصالح على الأهواء. وسوف تستكمل تركيا حداثتها التي تعتبر في الوقت الحالي إلى حد كبير دون المعايير والممارسات الأوروبية إلى حد كبير، وسوف تعتاد أن تعيش دون أن ترى أعداءً في كل مكان، وسوف تنجح في التصالح مع نفسها ، مع ذاكرتها، مع اختلافها، مع ماضيها الذي صار عليها أن تتنكر له لكي تحاكي الغرب، بقدر ما تحس بأنها في بيتها في أوروبا، وأخيرا فإن أوروبا سوف تميل أكثر نحو هذا الكل السياسي المأمول على مستوى الكوكب كله متحالفة مع رمز من الرموز العتيقة للآخر. إننا إزاء عملية سياسية للغاية بالمعنى النبيل للكلمة.
 
تركيا ومعايير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي
وسوف تقتضي الصعوبات الهيكلية تعبئة موارد كبيرة وكذلك كثيرا من الشجاعة  السياسية في أربعة ميادين: السياسة الاجتماعية، والزراعة، واللامركزية، وكل ما يتصل بقضايا الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون. وفي الميادين الأخرى، أو أيضا، إذا استعدنا مصطلحات بروكسل، الفصول الأخرى من الخبرة المشتركة، أيْ مجموع النصوص التشريعية واللوائح المقبولة في كل الاتحاد الأوروبي وكذلك المعيار الاقتصادي لكوبنهاجن -، فإنه يبدو أن تركيا تستطيع أن تتخلص منها بصعوبات أقل. أولا، سمحت اتفاقية الاتحاد الجمركي منذ 1996 بامتحان قدرة هذا البلد على التكيف وكذلك استعداده للتقيد بالتشريع والممارسة الجماعيين في هذا الصدد. واليوم فإن تركيا والاتحاد الأوروبي قد حققا إلى حد كبير الاتحاد الجمركي. ثانيا، يرتبط هذا البلد مع صندوق النقد الدولي، وفي نفس الوقت مع قرار هلسنكي من جهة أخرى، ببرنامج للتنظيم الاقتصادي سوف يستغرق تنفيذه ثلاثة أعوام. وتعتبر نتائج العام الأول مُرضية ومن المتوقع أنه مع نهاية هذه الفترة من التقوية سوف ينخفض التضخم إلى ما دون حاجز اﻟ 10٪ ولن يتجاوز عجز القطاع العام 3٪ من الناتج القومي الإجمالي. ويوجد اتفاق واسع في الرأي فيما يتعلق بضرورة الالتزام بالمعايير والممارسات الجماعية، التي تمضي من سياسة التوظيف إلى الأمن في موقع العمل، ومن الاتصالات السلكية واللاسلكية البعيدة المدى إلى البيئة، ومن المراقبة المالية إلى حماية المستهلك، بما يتلاءم مع الرغبة في التطبيع في هذا البلد الذي تمثل فيه الفوضى القاعدة في هذه الميادين. ولنعد إلى هذه الميادين الأربعة التي يمكن حقا أن يستغرق فيها التوافق مع المعايير الأوروبية وقتا أطول مما بالنسبة لبقية الميادين.
وسوف يحتاج التوافق فيما يتعلق بالسياسة الاجتماعية والمسائل المتصلة بالضمان الاجتماعي للمواطنين والعاملين بأجر إلى تعبئة كبيرة للموارد في بلد يعيش 27٪ من سكانه، غالبيتهم ريفيون، دون ضمان اجتماعي ولا وجود فيه للمخصصات الأسرية ولا لإعانة دخل الحد الأدنى للاندماج في المجتمع RMI لأن تأمين البطالة لم يتم إقراره إلا مؤخرا جدا.
وقطاع الزراعة عتيق؛ وهو يستخدم كثرة من الناس من ذوي الإنتاجية الهزيلة. وعلى سبيل المقارنة فإن إسهام القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي يصل في فرنسا إلى حوالي 54 مليار يورو وفي تركيا إلى حوالي 34 مليار يورو. ويمثل هذا الرقم في فرنسا 3.2٪ من الناتج المحلي الإجمالي وفي تركيا 15٪. وهذه القيمة ينتجها في فرنسا 900 ألف عامل زراعي في حين يصل عددهم في تركيا إلى عشرة أضعاف هذا العدد لإنتاج قيمة أقل كثيرا. والأسوأ أن اﻟ 9 ملايين هؤلاء من العاملين الزراعيين في تركيا يمثلون أكثر من 40٪ من السكان العاملين. ويشكل هذا القطاع تربة مثالية لعلاقات الموالاة السياسية و، علاوة على هذا، مع نسيج اجتماعي قبل حداثي يمضي من الهيكل الإقطاعي إلى روح المحافظة الكلاسيكية للاقتصادات الفلاحية المكتفية ذاتيا.
وتبقى اللامركزية الإدارية وكل الأنشطة التي تدخل في إطار السياسات الإقليمية مسائل لا تكاد تمس في تركيا. والواقع أن التقاليد القوية للمركزية الإدارية- التي تقترن بالتحفظ الشهير للدولة أمام كل مبادرة ذات مصدر اجتماعي أو هامشي- قد أدت إلى أن تبقى تركيا مقصرة جدا عن الممارسات الأوروبية فيما يتعلق بتفويض السلطة.
وأخيرا المسائل السياسية. وفي اللحظة الراهنة فإن تركيا هي البلد الوحيد بين 13 بلدا مرشحا للاتحاد الأوروبي لم يجر الدخول معه في أيّ مفاوضات بهدف الانضمام. ومبرر هذا الموقف هو أن تركيا لم تقم، خلافا للبلدان اﻟ 12 الأخرى المرشحة، بالوفاء بالمعيار السياسي لكوبنهاجن الذي يجب على البلد المرشح وفقا له أن يكون قد أنشأ مؤسسات مستقرة ضامنة للديمقراطية، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، واحترام حماية الأقليات أيضا. والحقيقة أن معايير كوبنهاجن، التي قررتها البلدان أعضاء الاتحاد في 1993 قاصدة بها البلدان المرشحة الشيوعية السابقة في أوروبا الأخرى، وبالأخص المعيار السياسي، لم تستطع أن تفي بها تركيا التي مع هذا توجد منذ 1945 في معسكر الديمقراطية وتمارس منذ 1949 ديمقراطية برلمانية.
ومثل هذا الموقف يحتاج إلى التوضيح. والإجابة ماثلة في المسار الطويل لتغريب الإمبراطورية وفي نشأة تركيا الجمهورية التي ترجع أسسها إلى تصور فريد جدا عن الحداثة السياسية الناشئة في بيئة تاريخية فريدة مثله تماما. وتنشأ ثلاثة ثوابت من هذه البيئة التاريخية التي تؤدي إلى اختراع تركيا.
ويُبرز تغريب الإمبراطورية العثمانية، الذي بدأ في نهاية القرن الثامن عشر، قضية واحدة وحيدة: استمرارية الدولة. والحقيقة أن تحويل الجسم الاجتماعي كانت له دائما أهمية أدنى وقد تجسد هذا في صورة الآثار الثانوية للإصلاحات التي أثرت في جهاز الدولة في المقام الأول. وكانت النخب الإصلاحية للعهد الجمهوري، تماما مثل نخب العهد العثماني، هي قبل الجميع الخدم المتحمسين لقضية الدولة. وللدولة في تركيا الأولوية على كل ما عداها- الفرد والمجتمع.
ثم إن الحرب العظمى، التي تؤذن بزوال الإمبراطورية العثمانية، يعقبها الاحتلال، بمقتضى معاهدة سيڤر الموقعة في 1920، لأجزاء كبيرة من تركيا الحالية. ويصل الانكماش الإقليمي إلى ذروته وتصير الدولة في حالة حرجة. والحقيقة أن المكون العسكري للنخبة الجمهورية، السائد إلى حد بعيد، هو الذي ينقذ الدولة ويمنح لنفسه على هذا النحو شرعية مدعمة بصورة راسخة، خاصة من جانب السكان النازحين من البلقان، في أعقاب الخسائر الإقليمية. ويغدو هاجس وحدة وسلامة وأمن أراضى تركيا النتيجة الطبيعية لصدمة 1920 ويشكل النسيج الجوهري لشرعية البيروقراطية العسكرية التي تتأبد. وبتعزيز من هاجس النظام الموروث عن العهد العثماني الذي ينظر إلى كل صراع، مهما كان منشؤه، على أنه خطر محتمل، تغدو هذه الشرعية ثابتا من الثوابت عبر التاريخية لجمهورية تركيا.
وبالمقابل فإن هذه الجمهورية تعوزها، عند تأسيسها في 1923، مواقع شعبية وطيدة لإضفاء الشرعية عليها وهذه هي السمة المميزة الثالثة للبيئة التي أقيمت فيها تركيا. وعند تأسيس الجمهورية، لا يوجد الدعم الاجتماعي الذي لا غنى عنه لهذا الشكل من الحكم. ويتألف المزيج الاجتماعي المعقد لعشرينات القرن العشرين في تركيا من طوائف أكثر مما يتألف من مجتمع من أفراد راغبين في أن ينتجوا ويثروا. ويمر الرهان التحديثي للنخبة الجمهورية بإعادة صياغة اجتماعية لم يجد الإسلام مكانه فيها. ويصير الإسلام، رغم تنوعه، هدفا للنزعة الإرادية المُعَلْمِنَة laïcisant للنخبة الجمهورية التي تريد أن تخلق موقعها الخاص لإضفاء الشرعية وتنتهي بالاستحواذ على الدين، عن طريق إضفاء طابع الدولة عليه في الوقت الذي كان ينبغي فيه فصله عن الشئون الدنيوية. ولا تفرِّق العلمنة الراديكالية التي تطبقها النخب الجمهورية بين مختلف مكونات الإسلام الأناضولي، وتضرب صفحا عن الدين، وتجبره على التخفي، وتنتهي بالقضاء على قواه الديناميكية التطورية. ويبقى الإسلام في تركيا الحالية كلاما عفى عليه الزمن وإستاتيكيا إلى حد كبير. وعلاوة على هذا، ودائما فيما يتعلق بافتقار الشكل الجديد للحكم إلى الدعم الاجتماعي، فإن من المسموح به أن نعتقد أن اختفاء المكون الأرمني، في أعقاب المذابح والتهجيرات الجماعية، ورحيل المكون اليوناني من البرجوازية الأناضولية، نتيجة لمبادلة السكان بين اليونان وتركيا، لهما علاقة لا يستهان بها بالفراغ الذي يميز موقع إضفاء الشرعية الاجتماعية على تأسيس الجمهورية؛ حتى وإنْ كانت البرجوازية الأرمنية قد مالت أكثر إلى حل قومي يقصر عن كل حل اتحادي فيدرالي كشكل بديل للإمبراطورية.
تمثل الأمة التركية هذا الموقع الآخر الذي تبحث فيه الجمهورية لنفسها عن شرعية. وفي حين أن النخبة العثمانية تحاول خلال قرن سد الثغرات التى فتحتها الروح الثورية لعام 1789 التي تتناوب معها المطالب القومية وتبذل كل ما في وسعها للاحتفاظ بهذه الإمبراطورية الكوسموپوليتانية كاملة، تقبل النخبة الجمهورية ، بواقعية جلية، الهزيمة أمام المد المحتوم للفكرة القومية التي تتفشى في أوروبا. ويلاحظ عدد من المؤرخين أن النزعة القومية التركية هي النزعة القومية الأخيرة التي تنبع من الإمبراطورية العثمانية. ويتعلق الأمر بالفعل بنزعة قومية دفاعية تطرح نفسها في رد فعل على النزعات القومية الإثنية التي تمزق الإمبراطورية. وتحمل هذه الإمبراطورية من جهة أخرى سمات النزعة الكوسموپوليتانية العثمانية وتشكل مثلا ممتازا للأمة الاختيارية ذات الصعود والإلهام الفرنسيين، على النقيض من النظرية الإثنية عن الأمة ذات الإلهام الألماني. والأمة الاختيارية عمومية وليست تخصيصية؛ وبالتالي فإنها تسعى دائما إلى الإجماع والتلاحم، الاستفتاء العام اليومي الذي يتحدث عنه إرنست رينان Ernst Renan[xx] بأعلام في كل مكان. والنزعة القومية التركية اختيارية لاسيما وأنها لا يمكن أن تستفيد بخصوصية إثنية تبقى معدومة، إذا وضعنا اللغة جانبا. والحقيقة أن اﻟ 13 مليونا الذين شكلوا سكان تركيا في 1927 ليس فقط لم يكن لديهم أيّ وعي قومي بل كانوا من أصول إثنية متباينة جدا، في صورة الكوسموپوليتانية الإمبراطورية، نتيجة لنزوح المسلمين غير الأتراك من ذوي الأصل البلقاني والقوقازي طوال القرن التاسع عشر، في أعقاب الخسائر الإقليمية في الغرب والاندفاع الروسي في الشرق. فهل التركي إذن هو من يدعي أنه تركي!
وتبقى النقطة الإشكالية في هذه اللوحة واقع أنه في البداية يبدو أن تعريف الرعايا يستبعد غير المسلمين. والحقيقة أن الخصوصية الدينية، رغم حظرها من جانب الجمهوريين، تطبع مع ذلك بطابعها التعريف الأصلي للأمة التركية. ومع الوقت يميل هذا الاستبعاد إلى الاختفاء فيما يتعلق بغير المسلمين غير أنهم يواصلون بعناد تجاهل المسلمين غير الأتراك أيْ الأكراد أو غيرهم. وينبغي الإقرار بأن غير المسلمين هم بالفعل أقليات، بحكم عددهم، في حين أن الأكراد، الذين يرفضون من جهة أخرى وصفهم بأنهم "أقلية"، يصل عددهم إلى الملايين؛ حتى إذا كانوا لا ينتسبون جميعا إلى هذه الهوية. واليوم لا تكاد تثار مشكلات حول أن يقدم المرء نفسه كتركي من أصل يهودي، غير أنه من الصعب أن يقدم المرء نفسه كتركي من أصل كردي عندما تكون لديه مشكلة مع السلطات العامة. وهنا يتمثل المرجع الأيديولوجي في التعريف العمومي الذي باسمه تريد الجنسية التركية أن تكون فيدرالية وفوق قومية. وعند هذا المستوى على وجه التحديد تطفو المشكلات على السطح. والهوية القومية التركية عاجزة اليوم عن أن تطرح نفسها بالفعل في صورة هوية فوق قومية وهي تميل إلى أن تخلط بصورة منهجية جنسية المواطنة مع تعريف تخصيصي وإثنيّ للتركية [الطابع التركي] التي تظهر بعد 77 عاما من وجود  الدولة- الأمة.
وهذه التساؤلات هي أيضا تساؤلات المؤسسات الأوروبية في سياق رغبتها في فهم القيود التي تميز تركيا اليوم. إن دولة كلية الوجود، وكلية القدرة، وكلية المعرفة، تسعى إلى  خلق مجتمع حديث وكذلك أمة حديثة وفقا لمعاييرها، أيْ متناغمة ومنظمة، هذه الدولة تصير  الأداة الوحيدة لعملية التحديث لأنها عاجزة عن تصور تمييز بين الحداثة كديناميكا اجتماعية والحداثة كمراقبة لما هو اجتماعي. وهذه الدولة اليوم تلهث تعبا وراء مشروعها التحديثي. وقد وصل مشروعها للمجتمع إلى نهاية منطقه ويبقى دون أمانيه الاجتماعية، وكذلك دون القواعد والمعايير الأوروبية. ومع ذلك فإن الديناميكا الضرورية للفكاك من هذا الوضع لا توجد في الطبقة السياسية ولا داخل المجتمع الذي لا تكون فيه السلطة على مستوى إرادته في التغيير، وفي الالتزام بالقانون، وفي الديمقراطية.
 
ديناميكا الترشيح للاتحاد
وفيما يتعلق بالمسائل المتصلة بالسياسة الخارجية لتركيا، وعلى وجه الخصوص خلافاتها مع اليونان، يبدو أن مشروع كل حل يتوقف بصورة شبه مطلقة على مناخ الثقة المتبادلة الذي سوف يسود كلما سارت عملية الانضمام إلى الاتحاد إلى الأمام.
وفي هذه المرحلة يفرض نفسه استطراد تقني. فإلى السؤال المتصل بمعرفة ما إذا كانت تركيا قادرة على الوفاء بمعايير الاتحاد للانضمام إليه، ينبغي أن نضيف سؤال متى سيكون هذا بوسعها. ومن الجلي أن الإجابة على هذا السؤال تتوقف إلى حد كبير جدا على الإجابة على السؤال الأول وأن الصعوبات الهيكلية ستكون قاسية وعنيدة. على أن من الجلي أن الظرف السياسي الراهن في تركيا سيكون له تأثيره على العملية الجارية. والحقيقة أن الحكومة الائتلافية بين السياديين اليساريين والسياديين اليمينيين بعيدة عن أن تفي بمتطلبات الترشيح. وضمن هذا تدرج الحكومة كل عيوب الحداثة التركية وتمثل تحفظاتها إزاء أوروبا النتائج المباشرة للفلسفة السياسية المفلسة أمام مقتضيات حداثة المجتمع التركي. وقد انبثقت هذه الحكومة عن انتخابات إبريل 1999 وسوف تستمر على الأرجح حتى الانتخابات القادمة، في 2004. ويعني هذا أنه لا ينبغي أن نتوقع إنجازات كبيرة في الطريق الطويل جدا الذي يفضي إلى الاتحاد، من الآن وحتى 2004.
مناخ من الثقة المتبادلة إذن!  سيُقال لنا: "ماذا ينبغي أكثر من قرار هلسنكي بقبول ترشيح تركيا للشهادة على هذه الثقة؟". صحيح أن أوروبا قد فعلت الكثير إلى الآن وأن الكرة صارت من الآن فصاعدا في ملعب تركيا من أجل إقرار مجموعة جديدة لمعايير العلاقات. غير أن هذا يحتاج إلى الطرفين كما أنه سوف تكون هناك حاجة إلى الكثير من الخيال والكياسة من أجل الوفاء بمحتوى النص التأسيسي لهلسنكي. وفي ديسمبر 1999، اتخذ قادة اﻟ 15 قرارا شجاعا. ولا يحظى هذا القرار بموافقة الرأي العام الأوروبي وهذا سر من أسرار پوليتشينيل[xxi]. ذلك أن تركيا لا يتم الترحيب بها في أوروبا بنفس الطريقة مثل بلغاريا وپولندا، ولن يكون من الممكن إقامة علاقة صحية، وناهيك بمناخ ثقة، دون أن يغدو الناس مقتنعين مهما يكن هذا ضئيلا بالمصلحة في توسيع الاتحاد نحو تركيا.
ولهذا فإن هذه المجموعة الجديدة لمعايير العلاقات لن تتحقق بين عشية وضحاها. ذلك أنه توجد وفرة من المحرمات، والمخاوف، والأفكار السائدة، من جهة كما من الأخرى، تنتهي إلى الانضمام إلى، أو التغذي بصورة مباشرة على المشكلات الهيكلية. وينبغي من الآن مساءلة فكرتين أو ثلاث من هذه الأفكار السائدة وحيث إنني أخاطب جمهورا غربيا، سوف أقترح فكرتين سائدتين أصلهما من هنا.
ولنأخذ الهوية المسلمة للبلد. وتركيا بلد علماني لا يوجد فيه رسميا دين للدولة. فعن أيّ إسلام نتحدث؟ وكما هو الحال مع الديانتين التوحيديتين الأخريين، يقدم الإسلام مجموعة متنوعة من التفاسير للعقيدة الأصلية إلى حد أن العديد من التفاسير موصومة بالزندقة من جانب التيارات السائدة وفقا للبلدان. وفي تركيا، تمثل الطائفة العلوية، التي تضم 12 مليون نسمة من السكان، التعبير عن إسلام ليبرالي يتخلص كلية من الصورة التي لدينا هنا عن الإسلام. واليوم فإن الطائفة العلوية، التي تتجاهلها إلى حد بعيد الطائفة السنية التي تشكل الأغلبية، بل أيضا السلطات العامة التي يذهب تفضيلها إلى هذه الأخيرة رغم الدعاوى العلمانية لهذه السلطات، يعتبرها عدد من المراقبين ركيزة للعلمانية في تركيا، أكثر كثيرا من الإسلام المطبوع بطابع الدولة الذي تمثله الطائفة السنية.
فما وزن وتأثير الإسلام السياسي؟ وعلى أساس النتائج الانتخابية، يمكن القول إن الحزب السياسي الذي كان عليه أن يغير اسمه مرات عديدة بسبب الحظر قد نجح في استقطاب الأصوات المنسية لليبرالية الفوضوية منذ بداية الثمانينات، وبصورة خاصة في المراكز الحضرية. وقد حصل هذا الإسلام السياسي المحافظ، الموالي للسنة، متخذا مكانه على اليمين في المسرح السياسي، على أفضل النتائج في 1995 بنسبة 21.4٪ من الأصوات وشهد انخفاض ناخبيه إلى أقل من 15٪ في انتخابات 1999. وعلى بُعْد سنوات ضوئية من المهزلة السياسية المشئومة التي سادت في أفغانستان، أو الجزائر، أو السودان، يلعب الإسلام السياسي في تركيا لعبة الديمقراطية ويحاول، بنفوذ نوابه الشبان، التحول إلى حزب محافظ، على صورة الديمقراطية المسيحية.
ولا يجب أن يقتصر تحليل للنهوض الجديد لإسلام سياسي على قراءة وظيفية يستغل فيها ساسة سيئو النية السخط الشعبي. ويوجد داخل الحركة الإسلامية بحث عن الهوية يجعل من الدين القوة الموجهة لتعبير اجتماعي، يشمل التعبير الاجتماعي لدى النساء. وهناك ظاهرة لافتة للنظر: ينادي أنصار هذا التجديد الإسلامي، مثل الليبراليين، بالديمقراطية البرلمانية وبالديمقراطية اليومية.
ولنتذكر أخيرا استطلاعا حديثا للرأي يأتي فيه التضخم والبطالة على رأس المشكلات الاجتماعية (39.7٪)، ويليهما الفساد والجريمة المنظمة بنسبة 18.3٪. وتأتي الراديكالية الإسلامية في أسفل اللوحة بنسبة 3.4٪ من الإجابات، ويليه الإرهاب الانفصالي بنسبة  2.5٪. وملاحظة بسيطة على هذا الاستطلاع الذي لا يحتاج إلى تعليق: المواطنون الأتراك، مثل غالبية معاصريهم، يطمحون إلى أن يصيروا مستهلكين فرديين في بيئة يسودها القانون والعدل الاجتماعي.
ويقودنا هذا إلى فكرة سائدة أخرى، على صلة بالعبء الاقتصادي للتوسيع بوجه عام ولتركيا بوجه خاص؛ وهو عبء كبير جدا لاسيما وأن تركيا تبدو، رغم وجود حوالي 13 مليونا من المستهلكين من ذوي القوة الشرائية المتينة، بلدا فقيرا. وينبغي أن نعرف أن الموجة الجديدة من توسيع الاتحاد الأوروبي، على العكس من التوسيعات السابقة، لا تعد بإعانات ضخمة للأعضاء الجدد وأن الانتقال الحر للأشخاص سوف يكون على الأرجح فصلا لن ترى فيه البلدان الجديدة الأعضاء، حتى بعد الانضمام، حرية كاملة لعمالها.
ووفقا للمفوضية الأوروبية، سوف يكون الانتقال الحر بالتدريج؛ وبالنسبة للإعانات، يمكن الاستشهاد على سبيل التوضيح بالحد الأقصى للتخصيص في الموازنة من أجل الانضمام، لعام 2006، الذي من المتوقع فيه انضمام 6 بلدان ويصل إلى 14.2 مليار يورو، الذي ينبغي أن يضاف إليه 3.1 مليار يورو مخصص للتحضيرات للانضمام بالنسبة ﻟ 7 بلدان مرشحة باقية. وبالتالي فإن إجمالي 17.3 مليار يورو هو ما ينبغي مقارنته بالفائض التجاري ﻟﻟ 15 في 1998، مع اﻟ 13 بلدا مرشحا، والذي يرتفع إلى 33.5 مليار يورو!
ويتمثل المنطق الجديد للتوسيع في جعل البلدان المرشحة مسئولة ماليا منذ البداية عن مرحلة التحضيرات المسماة بما قبل الانضمام، وفي حفز البلدان المرشحة، والبلدان الأعضاء، والمؤسسات المالية الدولية، إلى تفضيل الائتمان والاستثمار المباشر على الهبات التي لا ترد. ومن جهة أخرى فإن تركيا تلقت من الاتحاد الأوروبي، منذ 1963، التاريخ الذي وقعت فيه على اتفاقية الشراكة، 460 مليون يورو فقط، في شكل هبات، خلال 36 عاما. وأخيرا فإن الآلة الاقتصادية التركية بعيدة عن أن تكون الأسوأ، ودينامية الفاعلين الاقتصاديين- التي لا تظهر في أي إحصائية- معترف بها في فرنسا وفي كل أوروبا الغربية. وتأتي فرنسا في صدارة رصيد الاستثمار المباشر، قبل ألمانيا الاتحادية، بمبلغ 5.3 مليار يورو وتحقق تركيا أكثر من نصف تجارتها الخارجية مع الاتحاد.
والمجموعة الثالثة من الحجج هي تلك التي تم تطويرها متضمنة الحجة الدينية وحجة العبء الاقتصادي.
وهنا نلتقي بالثقل الديموجرافي لتركيا، الذي يمكن أن يهدد التوازنات داخل المؤسسات الأوروبية والذي يمكن أن يشكل تهديدا جينيا للعرق الأوروبي. وهنا نلتقي أيضا بالحجة الجغرافية الأبدية التي تقول لنا إن تركيا تقع في آسيا، غير أن القوقاز في أوروبا!
وهنا نلتقي بعنف بالحجة المفحمة الصاعقة عن "نموذج المجتمع المختلف جذريا"- إذا استعرنا تعبير زعيم معارضة في فرنسا- الذي سيمثله نموذج الأتراك.
وهنا نلتقي أخيرا بحجج مصقولة أكثر إلى حد ما، طورها المسئولون السياسيون القدامى من الطراز الأول الذين يرون في ترشيح تركيا عملية، بل حتى مؤامرة، دبرها الأنجلو- أمريكيون بهدف إضعاف المشروع السياسي من البداية تاركين المجال حرا لأوروبا ميركانتيلية وعلى هذا النحو تلطيخ الهوية السياسية الأوروبية التي تقوم على قيم تاريخية وثقافية فريدة؛ مشروع وهوية من المفترض أن تركيا غريبة عليهما كلية. ويضع بديل من بدائل هذه الحجة، بديل الحساسية العسكرية، في مكان الصدارة الصلات الأمريكية مع الجيش التركي- دون مساءلة للحظة للسياق التاريخي الذي أدى إلى تقارب تركيا مع الولايات المتحدة بقدر ما كان يتم نبذها في أوروبا- ليتوقع، في حالة الانضمام، تهديدا لأوروبا العسكرية الناشئة. ووفقا لهذه الحجة فإن أوروبا الغربية ستكون على هذا النحو محصورة كالسندوتش بين الجيشين الأكثر أطلنطية في أوروبا، الجيش التركي والجيش البريطاني، اللذين يشكلان الآن مع ذلك جزءًا من هياكل منظمة معاهدة شمال الأطلنطي.
وتكفي هذه الحجج، العاطفية أو الشاذة في كثير من الأحيان، لخلق رأي عام هو بالفعل مرتاب ومهيأ للاقتناع. ويتم استدعاء الثقل الديموجرافي وكأنه معطى مطلق في حين أنه في تطور دائم والواقع أن النمو الديموجرافي في تباطؤ صافٍ منذ 1985. وفي الحال يتم هنا اعتبار السكان معادين في حين أن 4 ملايين من اﻟ 65 مليونا من الأتراك يعيشون في أوروبا الغربية بطريقة منسجمة بصورة متزايدة ويندمجون في حياة مجتمعهم الحالي كلما تتابعت أجيال المهاجرين. ويجري إظهار ثقل تركيا كعضو كامل العضوية وكأنه فزاعة وكأن وجودها المستقبلي في مختلف مؤسسات الاتحاد سيكون مطلق التجانس بكل عناصره.
وفيما يتعلق بالحجة الجغرافية، فإنها تتبع عن كثب التوزيع الديني، في حين يبدو أن نموذج المجتمع وكذلك القيم التاريخية تتغير وفقا للبلد الذي نوجد فيه والذي يحمل فيه كل شخص في جيبه تعريفه للتاريخي والثقافي. وفي رأي بعض المجريين فإن الرومانيين ليسوا أوروبيين، وفي رأي بعض الكرواتيين فإن الصرب والبوسنيين هم الذين يجب استبعادهم من التعريف، وفي رأي الجنوبيين [سكان أوروبا الجنوبية] فإن الإسكندناڤيين ليسوا أوروبيين حقا، ولتفكروا في لويجي بارزيني Luigi Barzini.
وتحيلنا "المؤامرة الأنجلو- ساكسونية"، التي يبدو أنها الحجة الأكثر صقلا، إلى الجدال بشأن أوروبا السياسية في الغد. وتتمثل إحدى القوى الموجهة المهمة للمشروع الأوروبي في هذه الرؤية السياسية التي تقر بالخصوصيات والاختلافات، وتقوم بتأمين شروط التعبير الحر عنها في الوقت الذي تصب فيه في نموذج القيم المشتركة ولكن غير التخصيصية، وتتجاوز على هذا النحو الحدود المفروضة ذاتيا لهوية قدمها الدين على وجه الحصر تقريبا أو تحيل بلا توقف إلى كيان عام علماني ولكن مجرد. ويمكن القول إن أوروبا هذه بقدر ما هي نموذج شامل سوف تقر كل الاختلافات، ومنها الديني، غير أنها لن تفضل أيًّا منها.
وتصف المفوضية وكذلك المجلس والبرلمان عن طيب خاطر الدورة الحالية للتوسيع على أنها مناسبة تاريخية. ولا حاجة إلى القول إنه عبر التوسيع، سوف تتصالح الأوروبتان وإنه سوف يتم إغلاق القوس المفتوح في يالطا. والمصلحة الإستراتيجية لهذا الضم لا تثير الشك ويندرج القرار الذي يشمل تركيا في نفس المنطق. فوفقا لهذا المنطق، سوف يسمح التوسيع في البلدان المرشحة بتوطيد القيم الديموقراطية واقتصاد السوق بضماناته الاجتماعية، وهذا ما يشكل الضمان الأفضل لاستقرار وأمن هذه البلدان، وهما ليسا الآن ضمن المعايير تماما. ذلك أن استقرارها وأمنها يعدان الضمان الأفضل لسلام، وأمن، واستقرار، القارة. وتركيا مدعوة إلى هذا المشروع الإستراتيجي حيث تتوافق مصالح الجميع.
وعلى هذا فإن التوسيع لا يمكن اختصاره في بعده الإستراتيجي وحده وهو يمثل تحقيق أوروبا سياسية ذات قدَر عالمي بحزم. والتوسيع نحو الشرق هو أداة هذا المشروع السياسي العمومي، الشجاع والتضامني الذي يدعو إلى إعادة التفكير في جوهر أوروبا كما هي موجودة اليوم. وفي هذا توجد صلة مباشرة بين الجدال عن التعميق والجدال عن التوسيع. وفي قلب هذه الديناميكا الجديدة فإن القيمة المضافة للترشيح التركي الصعب الذي يبلور الكثير من الصور السلبية والمخاوف اللاواعية تمثل على وجه التحديد معطى في تجاوز هذه المخاوف والصور عبر دمج رمز الآخرية بلا منازع، رأس التركي الذي يجمع في إطار فضفاض بين المسلم، والشرقي، والبربري.
وهذا الاندماج يشكل تحديا. إنه التحدي الذي يمكن أن ينتهي إلى جعل وجه الآخر مقبولا لمخيلة الجميع. وسوف يعادل نجاحه تحقيق هذا المشروع السياسي الشامل الذي تمثله أوروبا، مشروع "وجود مشترك" كما كان سيقول رونيه شار René Char.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
4
أفريقيا:
الاستعمار، وتصفية الاستعمار،
وما بعد الاستعمار[xxii]
إليكيا مبوكولو
ELIKIA M’BOKOLO
 
أعتقد أن كثيرين جدا منا، نحن المؤرخين، من يجدون هذه النهاية للقرن مشحونة تماما. و تحت الإلحاح من كل جهة نغدو مدفوعين تارة إلى أن نقول، انطلاقا من اتجاهات خطيرة للقرن المنصرم، ما لا مناص من أن يصير إليه القرن القادم[xxiii]، وتارة أخرى، مديرين ظهورنا إلى المستقبل ولكن باقين مع ذلك متكئين على هذا المستقبل الملحّ، إلى أن نقول ما كانه القرن الماضى.  والحقيقة أن هاتين الممارستين، اللتين تتعلق إحداهما بالأبحاث المستقبلية، بشكوكها، بتساؤلاتها، والأخرى، بالتاريخ والضمانات التي تكفل له أن يحتل مختلف مناطقه، ليستا متباعدتين إلى الحد الذي تبدوان فيه كذلك. ولهذا قررت هنا أن أتخلى عن أسلوب من أساليب العرض العزيزة للغاية على المؤرخ، هو أسلوب السرد، وأنا أفعل هذا على مضض: لأن ما يشغلنا اليوم– الاستعمار، تصفية الاستعمار، ما بعد الاستعمار– إنما هي مآسٍ، لها شخصيات، وأبطال، وقوى جمعية، ودسائس، وصراعات، واغتيالات أيضا، وهزائم، وانتصارات، ... وقد اخترت أن أعمل بطريقة أخرى و أن أدخلكم، مرتديا دائما مريلة المؤرخ، مطبخي لأريكم كيف أقوم بإعداد الأطباق– أعني كيف أقوم بصياغة الموضوعات– وكيف أقوم بخلط المكونات، غالبا وسط تساؤلات عديدة وحيرة شديدة بشأن طبيعة ما سوف يخرج من هذه التوافيق.
وأود أن أقيم حججي على تفكير مرتبط بالزمن الحقيقي للاستعمار لأستمد منه مقترحات بشأن عمليات تصفية الاستعمار، ومحتواها، ومحتوى ما بعد الاستعمار. ويعني هذا أنه ينبغي النظر إلى الأشياء من مسافة، مع إيثار الكل على التفاصيل، والفترات ذات المغزى على هذا المستوى مما على مستوى الدول المستعمِرة (بكسر الميم)، والدول المستعمَرة (بفتح الميم)، و، بالطبع، مما على مستوى تجاربنا الفردية.
ومع هذا، لِنَقلْ كلمة عن بعض هذه التفاصيل التي تغدو مشحونة بالنتائج المنطقية مع الزمن. ومنظورا إليه من أفريقيا، كان الاستعمار طويلا بالفعل بصورة متفاوتة وفقا للبلدان والمناطق. وحيثما كان الاستعمار طويلا، خاصة في أنجولا، وموزامبيق، وجنوب أفريقيا، أيْ في وقت سابق بقرنين أو ثلاثة قرون على "الاستعمار الحديث" [الكولونيالية الحديثة]، بتعبير الليبرالي پول لوروا­ بولييه Paul Leroy-Beaulieu، و"الإمبريالية الحديثة"، بتعبير جون هوبسون John Hobson ولينين، فإننا نلقاه قد قام بتثبيت نسق، من القواعد القانونية، والمعايير الاجتماعية، سوف تمتد في سياق الاستعمار الحديث وأحيانا فيما بعده، أعني على سبيل المثال العنصرية المؤسسية أو مسألة التهجين.
وعلى الطرف الآخر، هناك استعمارات قصيرة، ربما كانت أقصر من أن تستحق اسم الاستعمار، غير أن المعاصرين فهموها على أنها تجارب استعمارية، كما أنها مارست، بالتالي، تأثيرا قويا بما يكفي لأن يشكل تصدعا في تاريخ كل القارة. ومن الجلي أنني أفكر في أثيوبيا ومغامرة الفاشية الإيطالية في هذا البلد.
ولدينا، أخيرا، حالة استعمار colonisation بدون استعمار colonisation، حالة استعمار بالمعنى الأصلي للكلمة- إقامة "مستوطنات (مستعمرات)" colons- بدون استعمار بالمعنى القانوني الحديث: ليبيريا التي سوف يلعب فيها المعنيون، المستوطنون السود "العائدون" طوعا أو كرها، من الولايات المتحدة الأمريكية، لأنهم اعتبروا أنهم سيحققون شيئا ما من خلال الاستيطان، دورا رئيسيا في تكوين وإعلان خطاب تحريري سوف ينتهي على وجه التحديد إلى تصفية الاستعمار. وفي الوقت نفسه فإنهم سوف يدشنون آفاقا ممتازة ويفتحون، على عكس المثلث المعروف جيدا لتجارة العبيد، خطوط سير ممتازة سوف يندفع فيها بدورهم أفارقة القارة؛ انظروا على سبيل المثال، ننامدي أزيكيوي Nnandi Azikiwe وكوامي نكروما Kwame Nkrumah، اللذين يحذوان حذو إدوارد ويلموت بلايدن Edward Wilmot Blyden، الأفريقي الذي يكبرهما كثيرا في السن، العائد من الكاريبي عبر الولايات المتحدة.   
وتبقى كلمة ينبغي قولها ناظرين إلى الأمور من أوروبا ودولها التي استعمرت أفريقيا: بريطانيا العظمى، فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، البرتغال، إسبانيا. وهنا يبدو أن الاستعمار، بوصفه نظاما، والنزعة الاستعمارية ، كخطاب، كأيديولوجية، كمواقف، كعلاقة بأفريقيا والأفارقة، يندرجان في بقاء طويل يتجاوز الزمن الاستعماري بالمعنى الصحيح للكلمة. وقد علمنا الاقتصاديون، بطريقة مقنعة فيما أعتقد، أن الاستعمار، منظورا إليه من أوروبا، كان "مرحلة" – والمفهوم للينين، وكذلك لكوامي نكروما- من التطور، ممتدة في الزمن، من مراحل الرأسمالية. 
وفيما يتعلق بالأيديولوجية الاستعمارية فإننا نراها تتشكل ابتداءً من نهاية القرن الثامن عشر في سياق عملية من الترسب، والتراكم، والتسارع، تنتهي إلى الازدهار، إن جاز القول، في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. ومن هذا يجري استنتاج "إنسانوية تمدينية" متعددة الأوجه، تنهل بصورة متعاقبة من أفكار عصر التنوير، ومن المسيحية التي جرى إنعاشها منذ أوائل القرن التاسع عشر، ومن الإيمان الساذج بالمزايا المفترضة العمومية، التي يجري عزوها إلى الاقتصاد الصناعي الناشئ، وأخيرا الانتماء الرومانسي والإيمان التقنوي ﺒ"التقدم". وإلى كل هذا يضاف بسرعة هيمنة كان أساسها الرئيسي هذا النوع من الداروينية الاجتماعية التي نشرتها على نطاق واسع روايات المكتشفين، ولكن أيضا هذه العنصرية الهادئة التي سوف تطالب بإضفاء الشرعية على "حق"، بل حتى "واجب"، " عناصر (أعراق) أرقى" تجاه "عناصر ( أعراق) أدنى". 
ومهما كانت الشهية الاقتصادية قد مثلت العنصر الجديد، المحدِّد، في عملية الاستعمار الحديث، فإن التقاء الاقتصاد والأيديولوجية لم يتكشف في كل مكان بالضرورة: الواقع أن بعض القوى التي استقرت لأمد طويل في أفريقيا جعلت من نفسها "أيديوكراسيات" idéocraties [أنظمة حكم تقوم على الأفكار المجردة] لتبرير وجودها في "سباق الحواجز"، ملوِّحة هنا بالعظمة القومية والأسبقية التاريخية في الديناميكا الاستعمارية، وهناك بالتفوق العنصري (العرقي)، وهنالك أيضا بجمع بين كل هذه الحجج. 
 
أزمنة الاستعمار
هنا في أوروبا كما في أفريقيا، اعتدنا تصوير الاستعمار لأنفسنا على أنه طويل الأمد، فنجعله يبدأ في ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر لنجعله ينتهي في ستينات القرن العشرين: بل يقترح بعضهم المضي إلى عام 1990، وبدقة أكثر إلى 11 فبراير 1990، يوم إطلاق سراح نيلسون مانديلا الذي قام، رمزيا وسياسيا، بوضع حد لهذا الاستعمار الفريد، الذي بدأ في عام 1652، والذي أفضى إلى سياسة الفصل العنصري. وأنا نفسي، في بعض أعمالي، استعدت من جهتي هذا الفهم للاستعمار في الأمد الطويل. ولست إذن منزعجا من القول إن مثل هذا  الفهم يمكن أن يثير خلافات، وإنه يستحق على الأقل أن نتساءل عما يشكل أساسه، وإنني، شخصيا، أشارك بصورة متزايدة في هذه التساؤلات والخلافات. 
وأنا آخذ على هذا النهج أولا أنه "حقوقي" أكثر مما ينبغي بالقدر الذي تكون فيه الحدود الكرونولوجية التي يحتفظ بها مهمة دون شك من وجهة نظر القانون، غير أنها أقل صلة من زوايا أخرى. وتتوافق هذه الحدود مع لحظة "الاستيلاء على الملكية" ولحظة "نقل السلطة". غير أنه، في حالة، يتعلق الأمر باستيلاء "شكلي" على الملكية، لا يؤدي إلى تأثير، ينبغي له منه الكثير، على السيطرة الفعلية على الأراضي والبشر: هذه وحدها هي اللحظة التي تعترف فيها القوى المتنافسة على استعمار أفريقيا بأن الأرض الفلانية تنتمي من الآن فصاعدا إلى سيادة الدولة الفلانية. وفيما يتعلق بنقل السلطة فإنه يعني فقط، من جهة، أن "قوة الوصاية" تنقل إلى دولة جديدة "صكوك" ورموز السيادة وأن "المجتمع الدولي"، من جهة أخرى، يسجل هذا النقل. ويبقى كل هذا شكليا خالصا: لو لم يكن هناك، كما سنقول بشأن ما بعد الاستعمار، افتقار إلى مراقبين لإيضاح أن السلطة الفعلية- الاقتصادية، العسكرية، الفكرية...- بقيت في الواقع بين أيدي المستعمِرين القدامى، لأثبت آخرون أن هؤلاء المستعمِرين فقدوا في كثير من الأحيان دورهم، فقدوا السيطرة الفعلية على المستعمرة حتى قبل اللحظة التي سلموا فيها بالاعتراف بالاستقلال. وهذا الوضع الأخير يصوره بوضوح بالغ مثال غينيا بيساو حيث، على رأس الحزب الأفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر وفي أعقاب نضال مسلح بدأ في 1963، نصب أميلكار كابرال Amilcar Cabral نفسه، سياسيا، وعسكريا، وسيكولوجيا، قائدا ميدانيا منذ نهاية الستينات، إلى حد إعلان الاستقلال بصورة منفردة في 1973، قبل الاعتراف القانوني بهذا الاستقلال من جانب البرتغال بعام. والواقع أن علاقة القوة السائدة في غينيا بيساو في أعقاب "حرب تحرير" قد تشكلت دون نضال مسلح في أراض أخرى على أثر حركات اجتماعية وصراعات سباسية.                
وأود أن أضيف أن هذا التصور للاستعمار الطويل الأمد في الظاهر، مأخوذا حرفيا، في المقام الأول، ليس بريئا لأنه يفسح المجال أيضا لذرائع أيديولوجية وسياسية يجب أن لا ننساها ويتوجب علينا أن ننأى بأنفسنا عنها.
وفي البلدان الاستعمارية القديمة كلها تقريبا، تنتظم هذه الإضفاءات للطابع الذرائعي حول ثيمتين متباعدتين جدا في الظاهر، غير أنهما في أغلب الأحيان معاصرتان لبعضهما البعض بالنسبة لظهورهما وتطورهما. ومن جهة فإنه حول ثيمة "هاهو ما فعله بمستعمراتنا"، كان بوسعنا أن نسمع ونقرأ أقوالا من نوع: "السود؟ لقد فعلنا الكثير من أجلهم خلال مائة عام. وقد انسحبنا من المستعمرات لأنه كان لا مناص لنا من هذا حقا. وإذا بهم لا يحتاجون إلى وقت طويل ليعودوا إلى بربريتهم!". ومن جهة أخرى فإن قراءة الماضي الاستعماري تتوجه لدى بعضهم أكثر نحو نهج إيجابي في الظاهر، أكثر ألفة، من العلاقات بين الدول الأفريقية والمستعمرين السابقين، على طريقة: "لقد عشنا معا أطول من أن نتحابّ فقط، من أن نكون أصدقاء فقط. نحن إخوة، ولنا مصير مشترك..." هذا الخطاب الآتي من "الشمال"، ومثل هذه الأقوال راسخة الجذور حقا في بعض بلدان "الجنوب". وعلى هذا النحو ففي بلدي، جمهورية الكونغو الديموقراطية، يُطلق على البلجيكيين، المستعمرين السابقين، لقب نوكو noko [الأعمام]، والمقصود بهذا أن تقام، على أساس ماضٍ مُحتفى بذكراه بوصفه مشتركا، علاقة عاطفية مشبوبة يمتزج فيها الحب والكراهية، والاحتجاجات والاعتذارات، والحنين والإحباطات، والحلم بتضامن في سبيل المستقبل ورفض هذا التضامن. وهذه القراءة، المشتركة بين جماعات السلطة في "الشمال" وفي "الجنوب"، هي تلك التي تفيد اليوم كأساس لهذه الجماعات الخيالية القائمة على اللغة، سمة الاتحاد بين الماضي والمستقبل، مثل الفرنكوفونية francophonie واللوزوفونية lusophonie [الشعوب الناطقة بالبرتغالية]. وبطبيعة الحال فإننا نجد، في هذه القراءة، ما يرفض أن يكونه، ولكن ما يمثل حقيقة تبريرا عاطفيا ﻟ"لاستعمار الجديد". غير أن هناك ما هو أكثر كثيرا: إننا أمام نوع من التطهير الثقافي لما كانه، من الناحية الفعلية، الاستعمار، الذي يوجد على هذا النحو مطهَّرا، مقلصا، ومختزلا إلى مسألة مشاعر طيبة.          
وفي المستعمرات القديمة، يتأقلم هذا البقاء الطويل للاستعمار، كلما وجد نفسه في الأجل القصير في مواجهة تصفية الاستعمار، مع استخدامات أخرى. وهو يسهم في تنصيب "آباء الاستقلال" و"آباء الأمة" أبطالا، أكثر منهم شخصيات تاريخية، نرى فيهم أشخاصا كانوا قادرين على تحويل أو إيقاف مجرى تاريخٍ [تاريخ الاستعمار] تم تقديمه باعتباره مبهما وعلى إدخال القطيعة الجذرية أو التحويل الواعد لتصفية الاستعمار فيه: إنه أيضا إقرارهم بشرعية نهج يتمثل، من جانبهم، في أن يعزو إلى نفسه بطريقة حصرية مبادرة وقيادة العملية التي تفضي إلى تصفية الاستعمار والاستمالة لصالحهم وحدهم لهذه الحركات المتنوعة وذات الأهمية الكبيرة التي أجبرت المستعمرين على التسليم بتصفية الاستعمار. ويمثل هذا "الإضفاء لطابع البطل" على النفس، كما نعلم، أحد أسس الاستبدادات التي ازدهرت في أفريقيا ما بعد الاستعمار مباشرة.   
والحقيقة أن الزمن الحقيقي للاستعمار، وهو مفهوم صاغه المؤرخ، لا يجمعه أيّ شيء باللعب المعقدة وتعاد بدايته بلا انقطاع من الذاكرة. والواقع أن هذا الزمن يبدو لي زمنا قصيرا نسبيا. إنه الزمن الذي وجد الاستعمار نفسه أثناءه، بعد أن تخلص من المقاومات الأفريقية وأيضا من المعارضات، من شك أو لامبالاة الرأي العام في العواصم الاستعمارية، قادرا بحرية على أن يحقق فيه مشروعه وإنجاز مهمته. وبالفعل فإن هذا الزمن قصير جدا. وقد سبقني جان سوريه- كانال Jean Suret-Canale، مع آخرين، في هذا الطريق الذي لا شك في أننا لم نسبر أغواره ولم نمهده بصورة كافية. وفي عمل ريادي، يعود تاريخه إلى 1964، يقترح سوريه- كانال بالفعل التحديد الدقيق لعهد استعماري يتواصل من 1900 إلى 1945[xxiv]. وربما كان هذا العهد الاستعماري، القريب جدا من الزمن الذي أحدده للاستعمار، جديرا بأن نفهمه بطريقة أكثر رهافة وأكثر صرامة.         
فهل يشكل عام 1900 والأعوام التي تحيط به بداية جيدة؟ نعم، ربما، ولكن فقط في إطار الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، على مستوى الرموز أيضا دون شك، وأكثر أيضا بالتأكيد في نظر أولئك الذين يتغلب بالنسبة لهم فعل الدول المنظمة، ومنها الدول الأفريقية "قبل الاستعمارية"، في الملاءمة، والكثافة، والدلالة، على فعل المجتمعات، وبصورة خاصة إذا كانت هذه المجتمعات لا تتبلور في دول[xxv]. وبالفعل فإن عام 1900 هو عام الوجود في أفريقيا الوسطى للقوات الاستعمارية الفرنسية الرامية إلى فتح إمبراطورية رباح[xxvi] التي سوف تفضي هزيمتها وموتها في قلب أفريقيا إلى إنهاء عهد، عهد مقاومة الدول الأفريقية لنفوذ الاستعمار. وهو أيضا عام الموت في المنفى، في الجابون، لساموري توريه Samory Touré، الذي يُعَدّ، في نظر غالبية الأفارقة، إحدى الشخصيات الأقوى نفوذا لهذه المقاومة من جانب الدول. ومع هذا، إذا انتقلنا إلى مستوى آخر، مستوى القارة، وإذا أخذنا في الاعتبار المبادرات التي تنبثق من المجتمعات، فإن زمن الشكوك يطول بصورة محسوسة ويمتد طويلا بعد 1900. إنه زمن التمردات المبعثرة، والانتفاضات الشعبية، والهروب الفردي والجماعي، والتهجيرات السرية للقرى، و، باللغة العسكرية للإداريين في ذلك الحين، زمن "إخماد الفتن" بصورة متواصلة ومكلفة. وفي غالبية الأراضي، يمتد هذا الزمن إلى الحرب العالمية الأولى، في أعوام 1914-1917.           
وإنما عندئذ فقط ينفتح في المستعمرات فاصل زمني هادئ نسبيا، على الأقل في الظاهر. وكما نعلم فإنه، في هذه الفترة نفسها، تحقق تقريبا في العواصم الاستعمارية "فتح [غزو] الرأي " العام (راؤول جيرارديه Raoul Girardet) الذي قامت به الدعاية الاستعمارية: إذا كانت معاداة الاستعمار ما تزال مستمرة فإن هذا يكون، في غالبية الحالات، من أجل إدانة تجاوزات الاستعمار أكثر من مبدئه. 
فهل يشكل عام 1945، من جهة أخرى، نهاية مقبولة "للعهد الاستعماري"؟ نعم بالتأكيد، حيث إنه في نهاية الحرب العالمية الثانية، تغدو أفريقيا مضطربة بحركات اجتماعية عنيفة باقية منذ ذلك الحين أو صارت فيما بعد مجالات لا تحد للذكرى: عصيانات منها عصيان تياروايه (السنغال) وعصيان الكونغو البلجيكي؛ تمردات وانتفاضات، مثل تلك التي حدثت في مدغشقر والكاميرون؛ إضرابات وحركات اجتماعية، منها المسيرات الشهيرة عن حق لنساء جراند-باسان (كوت ديڤوار)؛ إضراب العاملين في السكك الحديدية في داكار-النيجر؛ الذي خلدت ذكراه أطراف غابة الله Les bouts de bois de Dieu لسامبين عثمان Sembène Ousmane.             
ولكن دعونا لا نستبعد إمكانية تقديم هذا الأجل عشرة أعوام تقريبا، أيْ إلى منتصف ثلاثينات القرن العشرين. ونعلم اليوم أنه كان يوجد في ذلك الحين تزامن لافت للنظر بين حركات ذات طبيعة مختلفة جدا: حرب كونغو وارا في أوبانجي- شاري التي، بالتوحيد بين مجموعات إثنية عديدة للمستعمرة تحت راية نبي من أتباع الأديان التقليدية، تبدو التعبير الأول عن نشوء أمة هي أفريقيا الوسطى؛ إضرابات تصاحب في أفريقيا ظهور الجبهة الشعبية الفرنسية؛ وبصورة خاصة تجليات التضامن إزاء إثيوبيا، ضحية عدوان الفاشية الإيطالية في (1935- 1941). وآتية بعد الانتصار المبين للملك الإثيوبي منيليك الثاني في عدوا (1896) الذي ظل الأفارقة يحتفلون به طويلا باعتباره رمز الامتياز التاريخي ﻟ"للقارة العجيبة"، فإن هذه الحرب الجديدة لإثيوبيا فجرت بالفعل اندفاعا هائلا جدا للتضامن عبر القارة وفي الدياسبورات السوداء، مضى إلى حد تجنيد قوات متطوعة للذهاب إلى القتال في بلد النجاشي وإلى حد المشاركة الفعلية لوحدات أفريقية في تحريرها. وكانت هذه هي المرة الأولى التي ساهم فيها الأفارقة في تحرير بلد أفريقي من نير الاستعمار، وهذا ما قدم بالتأكيد درسا للمستقبل. والواقع أن أشخاصا كثيرين من جيلي، الذين وُلدوا خلال أربعينات القرن العشرين، يوجد بين أسرهم أب أو أعمام أو أخوال أو أبناء أعمام أو أخوال شاركوا في هذه المغامرة وبعد ذلك عادوا منها مختلفين تماما. وبعد أن صار هذا الحدث خميرة للقومية، جرى أيضا تفعيل ذكراه في بداية الستينات لتصاحب ميلاد منظمة الوحدة الأفريقية في أديس أبابا.        
هناك استنتاجات متعددة يمكن استخلاصها من هذه التأملات.
أولا، في أغلب البلدان، كان الكثير من الرجال والنساء الذين، لأنهم مولودون في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، رأوا الاستعمار يستقر في مقاعده المريحة الأفريقية، ما يزالون أحياء ليروا المستعمرين يحزمون أمتعتهم. وهذا يعني أيضا أنهم نقلوا إلى الأجيال اللاحقة ذاكرة تعددية يمتزج فيها الفخر بالماضي السابق على "البيض" والحنين إليه، والذكرى، المرتعبة أو الغيورة، للتفوق العسكري والانتصارات التقنية "للمستوطنين"، والوعي المتكبر بأنهم تفوقوا، بصورة نهائية، عليهم.        
ومن جهة أخرى فإن من الجلي أن صورة "ملوك النحاس" التي منحها إداريون لأنفسهم بسخاء أكثر مخادعة من أن تتفق مع الوقائع على الأرض. وينبغي بالأحرى أن نتصورهم كأشخاص ممزقين بين أحاسيس متطرفة ومتناقضة. فمن جهة يسود روح الانتصار وسلامة القصد لدى الفاتحين الذين يزعمون أن لديهم كل ما يلزمهم، السلطة، التقنية، الشرعية. ومن الجهة الأخرى يستمر الخوف من أولئك الذين يعرفون أو يشكون في أن الوسط الذي يعملون فيه إنما هو ديكور خادع، وأن التمرد منتشر دائما، مستعدًّا للظهور حيث لا نتوقعه، من قرية ما ظلت مسالمة، من زعيم ما ظل خاضعا وصديقا، من وكيل إداري محلي كان يبدو "مستوعَبا" و"متحضرا" كليا. وهذا الإحساس بالخوف يسود كل تجربة الاستعمار. الخوف من البدايات الذي يصوره جوزيف كونراد Joseph Conrad من خلال كاييرتسKayerts  وكارلييه  Carlier، البطلين البائسين لقصته الكونغولية الثانية، Un Avant-Poste du Progrès [مركز أمامي للتقدم]: إذ ينظران إلى هذا المزاج المتمرد، إلى أولئك القرويين الذين لا يسبر غورهم، إلى الأسود المتمدين الذي يعيش معهما، لا يجدان ما يقولان سوى شيء واحد: "من هذا البلد الهالك، لا يخرج المرء أبدا، إلا وقدماه أمامه". خوف العقود الأخيرة من النظام الاستعماري: منذ الأربعينات يُسَلِّم المستعمِرون الأكثر وضوحا والأكثر إدراكا للحركات الأساسية المؤثرة في المجتمعات الأفريقية، مثل الحاكم پيير ريكمان Pierre Ryckmans في الكونغو البلجيكي، بأن "أيام الاستعمار قد ولَّتْ". وأخيرا الخوف، الممتزج بشكوك، في قلب العهد الاستعماري ذاته، الذي وضعه روبير راندو Robert Randau، الذي كان أيضا إداريا استعماريا، في فم كاميل Camille، البطلة الشابة لروايته Le chef des porte-plume. Roman de la vie coloniale (1922) [مدير الكتبة. رواية الحياة الاستعمارية]، مع هذه المفردات من الدعاية الاستعمارية المشحونة جدا بالعنصرية والتمييز العنصري: "تأتي الآن أوقات أتساءل فيها عما جئنا نفعل هنا، على حساب حياتنا؛ لقد كانت لنا مآثر بطولية، ولكن لأية غايات؟ إن عِرْقنا لن يتأقلم أبدا في البلدان الاستوائية، حيث لا يمكن إلا أن ينقرض بالتهجين... لقد وهبنا حياتنا، وبذلنا مالنا وجهودنا لنحصل على انتصار الأحقاد العنصرية".               
ويمكن أن نتساءل عندئذ عما استطاع الاستعمار حقا أن يفعله في أفريقيا في هذا الوقت المقتطع على هذا النحو. وليست المسألة فقط معرفة ما صنعه الاستعمار، بل هي أيضا مسألة معرفة كيف صنعه وما إذا كان للاختلاف بين مختلف لحظات تاريخه تأثيرات على المشروع الاستعماري وعلى طرائق تنفيذه.
 
ما صنعه الاستعمار...
فيما يتصل بما صنعه الاستعمار في أفريقيا، لن أميز بطريقة تفصيلية بين ما نشأ عن مشروعه ذاته وما نتج، أحيانا على الرغم منه، أثناء وجوده. غير أن هذا التمييز ينبغي أن يكون ماثلا في أذهاننا من أجل تقييم "العمل الاستعماري" الذي تم تقديمه على أنه قطيعة جذرية، ومجدِّدة، وإيجابية بصورة مطلقة.           
وقبل كل تقييم، إيجابي أو سلبي، تطرح نفسها مسألة القطيعة. وبالفعل ففي ميادين كثيرة كانت هناك قطيعات: تتشكل غالبيتها في الواقع من ضغوط ورثتها أفريقيا الحالية من هذا الماضي القريب. والمقصود أولا ممارسات وضع حدود الأراضي التي، بعد أن بدأت في ثمانينات القرن التاسع عشر، امتدت إلى غداة الحرب العالمية الثانية بصورة خاصة بين ساحل العاج وبوركينافاسو وبين الجابون والكونغو: تفتت الجماعات القديمة بحدود جديدة، الاندماج داخل نفس الإقليم لجماعات مدعوة من الآن فصاعدا إلى العيش معا، هذه كل قصة بناء الدولة القومية التي، بعد أن أساء المستعمِرون فهمها إلى حد بعيد، وجدت نفسها متروكة على هذا النحو في انتظار الأفارقة. وفي الوقت نفسه، تحطمت الديناميكيات المكانية القديمة جدا، مثل تلك التي كانت تربط البلدان السودانية بأفريقيا المتوسطية، أو الحديثة نسبيا، بوجه خاص بين الضفة السواحيلية وأفريقيا الوسطى: تعَدّ هذه القطيعات، غير المتبوعة بإعادات تركيب، بين العوامل التي تصيب بالهشاشة السياسات المعاصرة للتجمع على مستوى القارة وكذلك على مستوى المناطق. وأخيرا فإنما تحقق مع الاستعمار تعميم نمط الإنتاج الرأسمالي في أفريقيا. 
وبالمقابل، ينبغي إبداء موقف أكثر تحفظا بشأن التغيرات الاجتماعية التي حدثت أثناء الفترة الاستعمارية. وإذا كان لا جدال في أنه حدث تحرير "الأدنى اجتماعيا"- العبيد والتابعون، النساء، الشباب، مجموعات الأقلية- فإن هذه العملية هي في آن معا قديمة ومستقلة عن الاستعمار: بعد أن بدأت في ثلاثينات القرن التاسع عشر، كما أثبتت الأطروحة الريادية ﻟ أنووكا ك. دايك Onwuka K. Dike- in the Niger Delta Trade and Politics [التجارة والسياسة في دلتا النيجر]- عرقلها الاستعمار، قلقا من القلاقل التي يمكن أن ينشرها تحرير عنيف للتابعين في المجتمعات المحلية والآثار السلبية التي ستكون له على ولاء الزعماء المحليين الذين جعلهم حلفاءه. ويتعلق التغيير الحقيقي، من الناحية الاجتماعية، بواقع أن النظام الاستعماري قد قام بنشر إمكانات الحراك الاجتماعي وتسريع إيقاعه وتوسيع دروبه. وينبغي إبداء الملاحظات ذاتها بشأن الديناميكيات الثقافية، والدينية، والفكرية. وإذا كان صحيحا أن المستعمِرين قد سعوا إلى فرض نماذجهم الاجتماعية الثقافية بكل الوسائل الممكنة- المدرسة، قوة الأمن العام، مؤسسات التأطير الاجتماعي-، فإن التغيرات في هذا المجال لم تستطع أن تبدأ وتترسخ إلا عندما اضطلع بها الأفارقة. وعلى هذا النحو نفهم قلق المستعمِرين أمام ما اعتبروه خيانة الكتبة الذين اعتقدوا أنهم قد قاموا بتكييفهم. ونحن نرى على سبيل المثال پاتريس لومومبا Patrice Lumumba ما، "المتسامح" النموذجي للخمسينات، نصير "الجماعة البلجيكية الكونغولية" ومؤلف أحد هذه الكتب التي أحب البلجيكيون أن يروا سكانهم المحليين يكتبونها( Le Congo, terre d’avenir,est-il menacé?[الكونغو، أرض المستقبل، هل هي في خطر؟])، يقع بعنف في القومية الراديكالية، المعادية للاستعمار الكولونيالي، ولكن المعادية أيضا للاستعمار الإمبريالي والمناصِرة للوحدة الأفريقية.             
ويتألف المشروع الحقيقي للاستعمار في أفريقيا من الناحية الجوهرية من ثلاثة مفاهيم أساسية كانت صلبة تماما في زمانها، ولكن التي يمكن اليوم أن نقيس جيدا هشاشتها ونواحي غموضها: الانفتاح، الحضارة، التحديث.
 وإنما في الثانية عشرة من عمري وأنا تلميذ في الثانوية ودارس صغير للاتينية كنت قد بدأت أدرك، ليس فقط ما الذي أتى المستعمِرون ليبحثوا عنه في أفريقيا- كان من الواضح للجميع أن الهدف كان مسألة مال- ولكن كيف استطاعوا تبرير واقع مجيئهم إلى بلدان الآخرين وادعائهم الحق في أن يفرضوا عليهم أفعالا، وممارسات، وأساليب حياة، ينفرون منها. وكانت المباني العامة التي أقامها ليوپولد الثاني Léopold II، مؤسس الكونغو كمستعمَرة كولونيالية، تعلن بحروف ذهبية عبارة باني الإمبراطورية: Aperire Terram Gentibus [فتح الأرض للأمم]. وأفريقيا... إنها لم تكن سوى "الأرض"، وبدقة أكثر "أراضٍ" باقية في حالة الطبيعة وكانت بالتالي res nullius [ملكا مشاعا]. وإنما في أوروبا كانت توجد "الأمم"- الشكل المكتمل للحضارة السياسية- هذه الأمم التي كان لها وحدها حق المبادرة ومكاسب الانفتاح.           
ولكن، كيف يمكن أن تنفتح قارة ومجتمعات كانت منفتحة أصلا؟ الواقع أن أفريقيا كانت قد حسمت، في لحظة مجيء الاستعمار، المسألة المزدوجة للانفتاح: الانفتاح على النفس والانفتاح على الآخرين. وفي هذا السجل الثاني، شاركت أفريقيا في أغلب الاقتصادات- العوالم في ذلك العهد: اقتصاد المحيط الهندي، واقتصاد البحر المتوسط، واقتصاد المحيط الأطلنطي، ممارسة مع شركائها تبادل المنتجات، ولكن أيضا تبادل البشر والأفكار. ومن جهة المحيط الهندي، أنشأت علاقاتها القديمة مع فارس، وبلاد العرب، والهند، الحضارة السواحيلية؛ وفيما وراء ذلك كانت أفريقيا بسبيلها إلى اكتشاف اليابان، ليس اليابان الإمبريالية المنتصرة على روسيا، بل يابان بدايات الميجي التي صارت أحد النماذج وأحد المراجع الأكثر إلحاحا لجزيرة مدغشقر الكبرى وإثيوبيا. ومن جهة البحر المتوسط، وفي القرن التاسع عشر، كان الإحلال، المتقدم إلى حد كبير، للمنتجات الطبيعية أو المصنعة محل العبيد هو الذي صنع ازدهار الأطراف الجنوبية للتجارة عبر الصحراء مثل تجارة كانو، التي وصف مكتشفها هاينريش بارت Heinrich Barth صناعتها وتبادلاتها، بأسلوب ذلك العهد، مقارنا إياها لصالحها بمانشستر البريطانية. وأخيرا، من جهة الأمريكتين، كان تراجع تجارة العبيد مصحوبا بحركات "عودة" إلى "البحر الأفريقي" من الولايات المتحدة، ولكن أيضا من جزر البحر الكاريبي والبرازيل.
ومن ثم فقد عمل الانفتاح الاستعماري في الواقع كانغلاق، تضييق للآفاق، إقلال للفرص، لصالح أوروبا الاستعمارية وحدها. ومع أن حركات "العودة" قد أسهمت في نشر أفكار التحرير، فإن الانغلاق الاستعماري فجَّر بصورة مماثلة، خاصة داخل النخب، نوعا من الولع جعل من المرور بالولايات المتحدة وأفريقيا المتوسطية طريق المرور الإجباري لإعادة فتح السيادة. وعندما نرى راديكالية أولئك الذين رحلوا من الأمريكتين، وعندما نسجل آثار باندونج ونفوذ مصر عبد الناصر، ومغرب محمد الخامس، والثورة الجزائرية، فإننا ندرك بوضوح أن الطرق القديمة التي أعيد فتحها بصورة مختلسة، أو بصورة سرية، أو بصورة عنيفة، صارت، مهما كان قدَرها الأول،  الدروب الجديدة للحرية.    
على أن مفهوم "التمدين"، الذي نشأ في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في سياق العلاقات الأوروبية­ الأفريقية، استعاده الاستعمار الإمبريالي بمحتواه السابق: "تمدين أفريقيا من خلال التجارة والمسيحية".
وإذا كان التمدين- وهو أول هذه العناصر الثلاثة [التمدين، التجارة، المسيحية]- أيديولوجيّا بصورة خالصة، فإن التجارة، العنصر الثاني، تقتضي بُعْدا ماديا واضحا وقابلا للقياس. غير أنه، كما هو الحال بصدد الانفتاح، كان الأفارقة منخرطين في ذلك الحين، قبل الاستعمار بكثير وفي أغلب الأحيان بصورة طوعية، في "التجارة المشروعة" لمنتجات القطاف، والقنص، والزراعة، بدلا من وفي مكان تجارة العبيد، التي صارت "شائنة". والحقيقة أن هذه العملية، البطيئة نسبيا، لاندماج مكبوح في التجارة الدولية، قد تم تخريبها بالتدخل الاستعماري. وفي نهاية القرن التاسع عشر، كان الاستعمار علاجا حقيقيا، عندما طالب الركض إلى الذهب، والماس، والعاج، والمطاط، ومنتجات واقعية، اكتظت بها أفريقيا، وكذلك خيالية، بتبرير كل شيء: استمرار أو تفاقم العبودية، والمصادرات العقارية، والعمل الإجباري [السخرة]. لقد حدث كل هذا باسم الحضارة. وكان أيضا باسم الحضارة واقع أن ألمانيا، مهزومة في 1918، ترى نفسها مجردة من مستعمراتها وفقا لمعاهدة ڤرساي. وهذا هو السبب، عندما نأخذ أوروبا الاستعمارية بكلمتها، في أن الفترة الاستعمارية بكاملها مشغولة بإدانة الهوة الهائلة القائمة بين الخطاب التمديني للاستعمار وممارساته البربرية: تخترق هذه الإدانة بدورها كل التجربة الاستعمارية، منذ الاتهامات الخطيرة التي وجهتها جمعية إصلاح الكونغو Congo Reform Association التي أنشأها إدموند موريل Edmund Morel، الذي قام بتعبئة خيرة الإنتليجنسيا الأوروبية في تسعينات القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين والتلاعبات "المزدوجة" amphigouriques   التي قامت بها عصبة الأمم [1920-1946]، في مواجهة الوشائج الغريبة للعمل الإجباري[للسخرة] مع العبودية، إلى الجهد المنقذ  لشخص كأندريه جيد André Gide وإلى قرار الاتهام العنيد ﻠ Discours sur le colonialisme [حديث حول الاستعمار] ﻠ إيميه سيزير Aimé Césaire.
وفجأة، يتضح أن الديانة المسيحية كأداة للتمدين -العنصر الثالث - إشكالية للغاية. وفي ذلك الحين كان الارتباط بين المسيحية وتجارة العبيد قد أثار ردود أفعال متنوعة من الرفض والاحتياز. ومع الاستعمار، يتخذ الرفض شكل ولاء يُعاد تأكيده للمعتقدات القديمة والتحولات المستمرة إلى الإسلام في أفريقيا الغربية كما في أفريقيا الشرقية. وفي الوقت نفسه فإن الأفارقة، قارئين ومفسرين المسيحية في وضع استعماري، وضعوا فيها المحتوى الخاص بهم، محتوى رسالة حرية، تبجِّل المساواة والحب بين البشر. وكما شهدنا فإنه منذ تسعينات القرن التاسع عشر في جنوب أفريقيا وأفريقيا الغربية الإنجليزية، واصلت حركة إقامة الكنائس المسيحية التوسع في كل القارة طوال العقود التالية، تحت الأعين المرتعبة للمستعمِرين، الذين سرعان ما وجد بعضهم فيها تأثيرا لأيديولوجية الجامعة الزنجية، الآتية من الولايات المتحدة، بل حتى ارتباطات مبهمة مع الشيوعية.                  
وفيما يتعلق بالطموح المعلن عن "تحديث" أفريقيا، فإنه يتبدى من طرف إلى طرف من عملية الاستعمار وتم نشره في الساحة وسط أسوأ أشكال الإبهام و، في كثير من الأحيان، تحت أبشع السمات.          
وبطبيعة الحال فإنه، على مستوى التقنيات، ظل اللقب التقريظي bula matari- "كاسر الحجر"- الذي أطلقه أبناء الكونغو على المستعمرين البلجيكيين بمناسبة إنشاء أول سكك حديدية تم افتتاحها في 1898، يكشف عن الإعجاب الممزوج بالقلق، المحسوس في كل مكان في أفريقيا، بالانتصارات التقنية التي كان البيض قادرين عليها. غير أن السكك الحديدية الضرورية جدا "لانفتاح" القارة ولتصدير المواد الأولية والحيوية جدا لشغل وتنظيم المكان، كانت لها تكلفة بشرية مفزعة: "ميت على كل عارضة [لقضبان السكك الحديدية]" un mort par traverse، كما قيل، ليس بدون شيء من المبالغة، عند إقامة خط السكك الحديدية الممتد من نهر الكونغو إلى المحيط الذي نُفِّذ مع ذلك في فترة (1921-1934) بدا فيها الاستعمار أكثر حرصا على الاقتصاد في رأس المال البشري. وفيما يتعلق بالتحديث الاقتصادي فإنه ابتداءً من الأربعينات فقط، تحلّ استراتيجيات "للتنمية الاقتصادية والاجتماعية"، مدرجة في خطط الأجل الطويل،، حاذية حذو البريطانيين، مخترعي مفهوم التنمية الاستعمارية والرفاهية colonial development and welfare، محل ممارسات "الاستثمار" التي لم تذهب، في عدد من الحالات، إلى أبعد من تكثيف للقطف والالتقاط أو النهب الخالص.             
وعلى المستوى السياسي، لن يتردد الاستعمار، في فترة الاستقلالات، عن أن يعزو إلى نفسه مجد كونه ترك في ميراثه للأفارقة دولا "حديثة". والواقع أنه إذا كانت الدولة التي أقامها الاستعمار قطيعة حقا فإنها كانت أيضا تراجعا بالنسبة إلى المكتسبات التاريخية للمجتمعات الأفريقية. وعن جهل، أو عن سوء معرفة، أو عن رغبة في النفي، كان الاستعمار قد انتقل إلى ما وراء هذه المكتسبات، التي تشكلت بتنوع كبير في أشكال التنظيم السياسي. وفي بداية القرن الثامن عشر، وصف التاجر الهولندي ويليام بوسمان William Bosman بصورة رائعة هذا التنوع، واضعا، تحت مفهوميْ "ملكيات" و"جمهوريات"، نموذجين سياسيين متناقضين تناقضا صارخا، بلورهما الأفارقة. وفي زمن جان دو لا فونتين Jean de La Fontaine، نعلم أيضا أن الشخصية الأسطورية مونوموتاپا Monomotapa قد استعاد إمبراطورية ذات هياكل بالغة التعقيد. والحقيقة أن الفقدان الإرادي إلى هذا الحد أو ذاك للمعرفة حول أفريقيا والشحنة الأيديولوجية القوية جدا التي تميز الاستعمار الحديث قد أوهما الأوروبيين بأنهم خلقوا دولا "حديثة" في أفريقيا ex nihilo [من العدم] أو بتدمير نظم "استبدادية" قهرها على عجل "طغاة" محليون. والواقع أن ما نعرفه اليوم يؤكد الملاحظات القديمة التي وفقا لها، كانت الدولة القومية، والتنظيم الفيدرالي للدولة، والمبادئ التي تنظم "ملكية دستورية" تقوم على مواثيق مُلزمة، والوضع القانوني ﻠ"مواطنين"، لا "رعايا"، معترف بهم كأفراد أحرار، بعيدا عن أن يجهلها الأفارقة، هي الأساس لعدد كبير من التكوينات السياسية الأفريقية.              
وإنما في التجربة السياسية الاستعمارية، نجد بالأحرى كل السمات المميزة للسلطوية والاستبداد وكذلك التمفصل غير المتوقع، خاصة في جنوب أفريقيا والكونغو البلجيكي، بين أحدث أشكال الراسمالية الصناعية والتجليات المتطرفة للعنصرية. وفيما وراء أشكال الدمار التي أفضى إليها في أفريقيا هذا الوجود للبربرية في صميم المشروع التحديثي فإنه يمثل مشكلة ، من المؤسف أنها مجهولة للغاية، من المشكلات الكبرى للتاريخ العالمي في القرنين الأخيرين. وبالفعل كان الاستعمار على وجه الدقة معاصرا لإنجازات الديموقراطية في أوروبا. وليس من المؤكد أن هاتين العمليتين كانتا فقط متوازيتين، ولا أن هناك ما يبرر لنا، استنتاجا من المسافة الجغرافية بين الدول الاستعمارية والبلدان المستعمَرة على حواجز عناصر النظام الاستعماري، النظر إلى البربرية المنتشرة على محيط النظام على أنه ليس لها أيّ تأثير على ما يجري في مركزه، وأنه لا شيء يجمعها به. ويمكن على العكس، حاذين حذو الأسئلة التي أثارها ألكسيس دو توكڤيل Alexis de Tocqeville فيما يتعلق باستعمار الجزائر أو التي أثارتها حنه أرندت Hannah Arendt بشأن الإمبريالية، أن نتساءل ما إذا لم تكن هناك في سياق استعمار أفريقيا أشياء جرت تجربتها، من أجل أن يتم فيما بعد مدّها إلى أوروبا، أيْ المبادئ والممارسات المؤسِّسة للحكم الشمولي: العنصرية، وازدراء الحقوق الطبيعية، والمذابح والإرهاب، والحكم الاستثنائي، وانتهاك القانون، وتبرير الجريمة، وكل التجاوزات باسم المصلحة العليا للأمة والحجج المسماة بالعلمية.       
 
تصفية الاستعمار ومستوياتها
عند محاولة تعيين الزمن الحقيقي للاستعمار، قمت بإبراز الأعمال الجماعية العديدة للمقاومة، والرفض، والمعارضة، التي تستهدف مظاهر محددة للاستعمار بقدر ما تستهدف مجموع النظام ومنطقه. والحقيقة أن تصفية الاستعمار، باعتبارها الضدّ antonyme التام للاستعمار، لا يجب النظر إليها على أنها مرحلة بسيطة تعقب الاستعمار. والواقع أنه ينبغي النظر إلى تصفية الاستعمار- بصورة تنطوي تقريبا على مفارقة تاريخية، حيث أن هذا المفهوم لم يظهر إلا في 1952- على أنها معاصرة للاستعمار، ليس على أنها موازية له، بل على أنها تفعل فعلها فيه بلا توقف وتسهم في تشكيل صوره وأوجهه المتعاقبة. ذلك أن الأمر يتعلق حقا، ليس بلحظة، بل بعملية لم تكن الاستقلالات سوى فترة من فتراتها القوية.                       
إن ما أريد الدفاع عنه هنا إنما هو تصوير هذه الحركة التحررية من حيث تعددية المستويات- مستوى القارة في مجموعها، مستوى الأراضي التي اقتطعها المستوطنون،مستوى المَواطن السابقة التي بقيت بعد هذه الاقتطاعات ، وأيضا من حيث تزامن الأحداث على هذه المستويات المختلفة وتوسيع نطاق الفاعلية كلما قام أحد المستويات بالتأثير على المستويات الأخرى.                               
وإذا قبلنا هذا النهج فإن هناك سلسلة كاملة من النتائج المنطقية التي تفرض نفسها. وتتمثل النتيجة الأولى في أنه ينبغي إدراج "عدم الانقياد" indocilité (أشيلي مبيمبي Achille Mbembe)، عدم الانضباط، عدم الخضوع، رفض الأسْر كسمة مميزة رئيسية للمجتمعات الأفريقية الرازحة تحت نير الاستعمار. وهذه النتيجة المنطقية الأولى لا تلقي الضوء على العهد الاستعماري فقط. إنها يمكن أيضا أن تفضي إلى إعادة قراءة لكل التاريخ السياسي لأفريقيا الحديثة، لأنها تفتح الباب أمام استفسارات عن وجود وأشكال تعبير هذه القدرة على المقاومة خارج العهد الاستعماري والنظام الاستعماري، من المنبع، بالنسبة للدول "قبل الاستعمارية"، كما في المصب، داخل الدول الأفريقية المعاصرة. 
وهناك نتيجة منطقية أخرى يمكن أن نستمدها من هذا النهج وهي ذات طابع استكشافي heuristique بصورة أكثر صرامة لأنها تتضمن إعادة تقييم طريقة تحديد تسلسل المراحل séquençage، التي صارت كلاسيكية من الآن، والتي أدخلها تيرانس رانجر Terence Ranger في دراسة للمقاومات الأفريقية التي يميز داخلها بين مرحلة أولى من "المقاومات الأولية"، وهي عنيفة وذات أساس إثني، ومرحلة وسيطة هي مرحلة "المقاومات الثانوية" و، أخيرا، مرحلة القوميات الحديثة التي تنتهي إلى الاستقلالات ونشأة الدول القومية[xxvii]. ولا يكتفي هذا التمييز باقتراح تعاقب من ثلاث مراحل؛ إنه يقيم أيضا علاقة جدلية بين هذه المراحل، مع توسيع تدريجي، في مجرى الزمن، للأساس الجغرافي والاجتماعي لهذه المقاومات، وأيضا مع إدراك يزداد تطورا بصورة متواصلة لطبيعة النظام الاستعماري وإضفاءٍ لطابع راديكالي على برنامج وأساليب العمل بدفع من الأحزاب "القومية" الكبرى للأربعينات والخمسينات. واسمحوا لي بالتعبير عن ارتيابي في هذه الرؤية التي تنسب الفضل الأكبر إلى"آباء الأمة" لمختلف البلدان الأفريقية الذين يبدون، في هذا المنظور، وكأنهم المآل الضروري، الذي قرره القدر باختصار، للعملية التحريرية.
وقد تشكل مستويان يتم الاحتفاظ بهما هنا من ثلاثة مستويات- مستوى القارة والمستوى المحلي- كإطارين مرجعيين وكنطاق وثيق الصلة بالفعل السياسي منذ بداية الاستعمار ذاتها، في حين أن المستوى الثالث- مستوى الإقليم وما سوف يصبح "الدولة­ الأمة"- يظهر في خطابات وإستراتيجيات الفاعلين الاجتماعيين على الأكثر منذ نهاية عشرينات وبداية ثلاثينات القرن العشرين، إلا على سبيل الاستثناء. وعلى مستوى القارة، تغطي إدانة الاستعمار والنزعة الاستعمارية كل زمن النظم الاستعمارية: بعد أن صاغها، بصورة جماعية، منذ 1900 أفارقة مجتمعون في لندن، في قلب الإمبراطورية الاستعمارية الأكثر قوة، لم يتوقف ترديدها طوال الظروف التي جرى تصور أنها مواتية لقضية تحرير أفريقيا، وعلى وجه التحديد في الثلاثينات، بمناسبة الحرب الإثيوبية، ثم في الأربعينات، في سياق الغليان الذي فجره ميثاق الأطلنطي والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأخيرا في الخمسينات بدفع من غانا التي صارت مستقلة. وعلى مستوى "الإثنيات" و"الشعوب" المؤلفة لمجموعات إقليمية جديدة تحددت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فإن تحليل المقاومات التي قمعها المستعمِرون يبين حقا أننا إزاء ظواهر ذات تعقيد كبير جدا تمضي من الإمساك بالمسئولية عن النفس، في الداخل أو من هنا وهناك من المجموعات التي شكلها المستعمِرون، حتى مختلف تعبيرات الانضمامية irrédentisme [الموقف المؤيد لتحرير وتوحيد المناطق التي تقطنها الجماعة القومية أو الإثنية الواحدة] التي كانت شكلا من الأشكال الأكثر راديكالية لطرح الواقع الاستعماري للمناقشة. وعلى مستوى الأراضي، يبقى عمل الكثير لتعزيز الاستمرارية المفترضة بين الحركات الأولى للمقاومة المعادية للاستعمار والقوميات الحديثة ولاستكشاف كيف أنه، عبر جمعيات الدفاع عن السكان الأصليين القدماء aborigènes، وأبناء البلاد المولودين بها من غير المهاجرين indigènes، والمنحدرين من السكان الأصليين  originaires، وغيرهم من السكان المنحدرين من أرومة أصلية واحدة autochtones، [الحقيقة أنها جميعا تعبيرات مستخدمة في العادة بنفس المعنى تقريبا]، تألفت تضامنات ومخيلة من نمط "وطني" فعالة جدا في المجتمعات الأفريقية المعاصرة.                           
وانطلاقا من هذه المقترحات، نرى أن تاريخ تصفية الاستعمار ليس من البساطة ولا الطابع الخطي إلى الحد الذي نتصوره عادة. ومن الجلي أولا أنه ما من قوة من القوى الاستعمارية في أفريقيا قد أعدت جدول أعمال واضحا إلى هذا الحد أو ذاك فيما يتعلق بكيفيات ومراحل تصفية استعمار الأراضي المستعمَرة، وهو موقف مدهش لاسيما وأنه، باستثناء ألمانيا وبلجيكا، جربت كل القوى الأوروبية الموجودة في أفريقيا- بريطانيا العظمى، وفرنسا، والبرتغال، وإسبانيا، وإيطاليا-، على وجه التحديد خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تصفيات استعمار كانت وحشية جدا بحيث يغدو من الصعب أن نتصور اليوم أنه لم يتم فهمها إلا باعتبار أن "كل إمبراطورية سوف تهلك" ( ج.-ب. دوروسيل J.-B. Duroselle). ويعني هذا، على المستوى الأيديولوجي، أن العمى المحتفظ به إزاء المجتمعات الأفريقية، الشهيرة بأنها "باردة"، وجامدة، وبلا قدرة على المبادرة، مع تعزيزه لأيديولوجيات راسخة الجذور حقا، قام بتجريد غالبية الدول الأوروبية من السلاح في مواجهة المطالب الأفريقية.                          
كذلك فإن تصفية الاستعمار لا تتعلق بتاريخ فريد أو أحادي المعنى، هو تاريخ الدول الاستعمارية، التي تقرر بسرعة أو بعد تفكير ناضج وإعداد ملائم للأهالي، "نقل السلطات" إلى الأفارقة. وناهيك بأن يبدو تاريخ تصفية الاستعمار وكأنه ينبع من المبادرة الخيرة، أو المحررة، أو المنظمة، "لأبطال" و"عظماء" أوروبيين أو أفارقة. وناهيك بالأحرى بأن يكون ثمرة تاريخ خارجي على أفريقيا، كانت قواه الفاعلة الرئيسية، التي ظهرت أثناء الأربعينات، منظمة الأمم المتحدة و، في سياق الحرب الباردة، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوڤييتي. ومن الجلي تماما أن تصفية الاستعمار تنشأ من تاريخ تعددي لا شك في أن دور المبادرات الأفريقية فيه حاسم. وفجأة يبدو وكأنه تم تجاوُز المعركة التي واجهت لوقت طويل، داخل النخب الأفريقية والطليعات العالم الثالثية لبلدان "الشمال"، المدافعين عن الاستقلالات "المنتزعة" conquises بالنضال العالي وأنصار الاستقلالات "الممنوحة" octroyées، التي يتم الحصول عليها بالتفاوض. ذلك أنه، في كل الأحوال، كان هناك جمع بين النضال والتفاوض، وفقا لاختلاف اللحظات، بنسب متغيرة. وهذا ما نراه حقا في حالة الراديكالي كوامي نكروما. وحينما، في 17 سبتمبر 1956، أعلنه السير تشارلز آردن كلارك Sir Charles Arden Clarke، الحاكم البريطاني الأخير في ساحل الذهب، بأن تاريخ الاستقلال قد تم تحديده أخيرا وأضاف: "هذا يوم عظيم بالنسبة لكم. هذه نهاية ما قاتلتم من أجله"، أجاب نكروما: "هذه نهاية ما قاتلنا <نحن> [=أنا وأنت] من أجله"، مشددا على كم أن "اتحاد" الرجلين، و"مساعدة"، و"تعاون" الحاكم قامت بتسهيل انتقال السلطة[xxviii]. 
ما بعد الاستعمار؟
ليس ما بعد الاستعمار إذن مجرد فترة تأتي "بعد" الاستعمار. ومهما كانت طرائق تصفية الاستعمار فإن هذه الفترة تستمد بالفعل عددا من سماتها المميزة وجزءًا من هويتها من الاستعمار. ولكن إلى أيّ درجة؟ وعلى نفس مستوى الأفكار، هل يمكن أن نعتبر أنه توجد وحدة لفترة ما بعد الاستعمار؟
ومهما كان الزمن الذي انقضى منذ الاستقلالات أقصر من أن يسمح بحكم صلب ومهما أربك تورطنا نحن، بدرجات متنوعة، في العمليات الجارية في المجتمعات الأفريقية،  النظرة التي نحملها عنها، فإنه يبدو أن تحولا في الاتجاه يجري على المستوى الاقتصادي، والسياسي، وكذلك الدبلوماسي، بين بداية السبعينات ، في أعقاب الصدمة البترولية الأولى، وبداية التسعينات، في علاقة بانهيار سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والشيوعية في أوروبا.    
ودعونا نسجل مع ذلك، قبل أن نوجز الحدود العريضة لهذا التحول، أنه في سياق الحلول المباشر محل الاستعمار، يكون ما بعد الاستعمار ماثلا في استمرارية، بل حتى في استمرار النظام الاستعماري، مثلما يكون ماثلا في قطيعة معه. ونحن نرى أنه في وقت مبكر جدا، منذ بداية الستينات، ورغم بعض التذبذبات في إعادة تعيين الحدود، وجدت الجغرافيا السياسية الناشئة عن التقسيمات الاستعمارية نفسها باقية، بل حتى شرعية، بالقدر الذي، بشهادة قادة كل الاتجاهات، قامت به هذه الأطر الإقليمية الجديدة عند هذه النقطة بتشكيل العقول وحفز كثير من الحركات السياسية التي كان يمكن أن نرى فيها بداية الأمم "الحديثة". وكان ما يزال من الأصعب تغيير التراثات الاقتصادية. إذ أنه لم تكن هناك فقط، بعد أن نشأت عن تاريخ طويل بدأ في القرن السادس عشر، أشكال اندماج أفريقيا في الاقتصاد العالمي التي كانت تبقيها في وضع من التبعية الشديدة. فإلى هذا المعطى الهيكلي انضمت إستراتيجية الدول الصناعية والمؤسسات الكبرى التي تهدف إلى الإبقاء على، أو توسيع، ما وصفه ووصمه أغلب القادة الأفارقة، من ليوپولد سنغور إلى جوليوس نييريري Julius Nyerere وإلى كوامي نكروما، بأنه "الاستعمار الجديد". وأخيرا فإن السلطات الأفريقية، جاعلة من الدولة الموجه والفاعل الرئيسي للتغيير الاجتماعي، والتنمية الاقتصادية، والتجديد السياسي، استأنفت لحسابها ممارسات التحديث السلطوي المرتبطة بالاستعمار.           
والحقيقة أن ضخامة هذه الضغوط أدت إلى أن القطيعة مع الاستعمار واختراع أفريقيا جديدة كانا يتعلقان بالخطابية السياسية، أو بحملات التعبئة، أو بالرومانسية الثورية، أكثر مما تتعلق بإستراتيجية إرادية وواقعية واضحة الصياغة. وقد اشتمل المشروع الطموح المعلن على هذا النحو على البناء الوطني، التصنيع والاستقلال الاقتصادي، الوحدة الأفريقية واندماج الدول في مجموعات إقليمية كبيرة، تفعيل المكتسبات الإيجابية للماضي قبل الاستعماري لأفريقيا، تأكيد الهوية الأفريقية، النهضة الثقافية. والحقيقة أن الأمر يتعلق هنا بمواقع عمل عملاقة لا يمكن لتنفيذها ونجاحها المحتملين أن يتجسدا إلا في زمن طويل. ولهذا ينبغي التصدي لهذه المسائل بكثير من الحكمة. فهل ينبغي، على سبيل المثال، الاكتفاء بلوم منظمة الوحدة الأفريقية على خمولها، ولامبالاتها، ومحافظتها، فلا نأخذ في الاعتبار الحزم الذي نظمت به، حتى النصر، تضامن أفريقيا المستقلة مع أراضي الإمبراطورية البرتغالية وأفريقيا الجنوبية التي واصلت البقاء في التبعية؟     
والتحول الذي يظهر أنه يبدأ في بداية السبعينات ليتراءى فعالا في التسعينات لابد من أن نشهد بأنه يتميز بمحتوى يترك الباب مفتوحا، على النقيض من الصور التي تشاع بصورة مزهوة عن "الأزمة" التي لا نهاية لها للقارة الأفريقية، للكثير من احتمالات المستقبل الممكنة.     
وقد جرى تجديد المشهد السياسي بصورة كاملة تقريبا مع انهيار النظم الاستبدادية التي أعقبت الاستعمارية ومجيء نظم ما تزال بطبيعة الحال هشة، ولكنْ منخرطة بالفعل في ترسيخ جذور القيم والممارسات الديموقراطية. ويشغل فاعلون جدد كل المشاهد ومختلف المجالات-الاقتصادية، الثقافية، السياسية، الاجتماعية، الدبلوماسية- التي تدعو فيها ضخامة المهام والإلحاح إلى مبادرات أخرى غير مبادرات الدول: إذا كان التدخل المدقق للأجهزة المالية أو الجمعياتية الدولية يثير القلق المشروع لدى الأفارقة إزاء سيادتهم وإزاء الهامش المتاح لاستقلالهم الذاتي، فإن الغليان الداخلي في القارة يشهد على خصوبة المجتمعات التي مازالت بعيدة عن أن تيأس من مستقبلها. 
وعلى هذا النحو فإن السخط والتعاطف اللذين تفجرهما الصراعات التي تمثل اليوم أفريقيا مسرحها لا يمثلان أفضل طريقتين للتناول موصوفتين لتكوين فكرة عنها. والواقع أن هذه الصراعات أماكن ووسائل، بين أماكن ووسائل أخرى، لإنتاج التاريخ. ومن اللافت للنظر أنه على وجه التحديد في هذا السياق المضطرب لعصرنا يبرز، بالنجاح الذي نعرفه، الخطاب حول "النهضة الأفريقية". والواقع أنه، حتى وإنْ تزين بزينات جديدة، فإن هذا الخطاب، الذي تشكل منذ ستينات القرن التاسع عشر، ماثل في صميم خطاب قديم نسبيا، ساد القرنين الأخيرين تقريبا من التاريخ الأفريقي. وإذا كان هذا الخطاب يدعو علنا إلى المضي قدما إلى الأمام فإن هذا بشرط أن يستعيد الأفارقة ماضيهم، أيْ أن يتجهوا إلى تقييم مزدوج: تقييم الماضي القصير للاستعمار وتقييم هذا الماضي الطويل جدا الذي نستمر في وصفه، في غياب تعبير أفضل، ﺒ"ما قبل الاستعماري".
 
 
 
 
                      
5
أفريقيا واحتمالات مستقبلها[xxix]
پيير كيپريه
PIERRE KIPRÉ
 
مقدمة
 
تبقى أفريقيا التي هي قارة تنوع المساحات الطبيعية والجماعات البشرية مجهولة تقريبا لدى أشخاص كثيرين حتى في هذه النهاية للقرن العشرين. وبعيدا عن أفريقيا العجائب التي يمكن أن يصفها دليل المكاتب السياحية tours operators، فإن المقصود هنا أفريقيا الدول الحديثة، أفريقيا هذه الشعوب التي يحفل تاريخها، الممتد عدة آلاف من السنين، بإنجازات وتراجعات: المقصود أفريقيا التي بدا إلى الآن أن مصيرها المأمول مصير معاناة وفوضى، وفي كثير من الأحيان يشكله الآخرون.
وفي مثل هذه اللحظات، يبرز الرفض لفكرة سائدة بعينها في دوائر كثيرة، حتى في أفريقيا، فكرة عن أفريقيا بلا مستقبل إيجابي. وبالفعل تطرح موضوعة "أفريقيا واحتمالات مستقبلها" ثلاث مشكلات رئيسية يجب أن تحلها القارة. الأولى هي مشكلة القدرة على السيطرة على البيئة البشرية والطبيعية؛ والثانية هي مشكلة القدرة على إعداد إستراتيچيات جديدة وفعالة للسماح بصورة أفضل بهذه السيطرة؛ والثالثة هي مشكلة القدرة على تحقيق التمفصل الموفق للمستقبل مع مسيرة الشعوب الأخرى، مستمدة منها الجانب الأفضل من كل التجديدات والإنجازات الراهنة.
ووفقا لتاريخ متميز بالتبدلات المتزايدة السرعة في هذين العقدين بصورة خاصة، ما هو المستقبل الذي تتصوره الشعوب الأفريقية لنفسها اليوم؟
كما يبين دارس فرنسي للثقافة الأفريقية، أ. ألميدا­ توپور H. Almeida-Topor، "يجيب السكان الأفارقة على أسئلة متماثلة بطرق مختلفة وفقا لثقافاتهم النوعية" (cf. L’Afrique au xxe siècle, Paris, Armand Colin, 1993, p. 6.). وتحيل هذه الملاحظة إلى نسبية الإجابات على سؤالنا. وهذه الإجابات هي دالة كل ما قام التاريخ المحدد لكل شعب بابتكاره كنقطة انطلاق لتطورات جديدة، وبالتالي كمنظورات للمستقبل. وتحيل هذه الفكرة أيضا، بالنسبة لكل القارة، إلى ضخامة وتعقيد التحديات الجماعية التي تشكل أساس سؤالنا.
حجم التحديات الجماعية
في أفريقيا في نهاية القرن العشرين
من أجل إعداد دروب المستقبل، تتعرض أفريقيا لتوتر مزدوج ناشئ عن الصدمة الدائمة، طوال القرن العشرين، بين الدروب الجديدة للتنمية واستمرارات أو بقايا النماذج القديمة لتنظيم وحياة الشعوب.
وبالفعل فإن قارتنا تعرف توترا أول بين، من جهة، ندرة الموارد والوسائل اللازمة لزيادتها، ومن جهة أخرى التعبير المقدم بصورة متزايدة عن الاحتياجات الأساسية للإنسان والجماعات للإفلات من الحلزون المأساوي للإقصاء أو التهميش الفردي والجماعي. وهي تعرف أيضا توترا ثانيا بين، من جهة، تأكيد الهويات الجمعية، ويشمل هذا تأكيدها في قلب الدول عبر المسألة الإثنية وضرورة تجمعات أوسع، ومن جهة أخرى، بين أولوية الجماعة أو الدولة والتأكيد السائد لحقوق الفرد على الجماعة.
وغداة الحرب العالمية الثانية، ساد اعتقاد بأن الانتصار الذي يمثله الاستقلال سوف يسمح بتجاوز هذه التناقضات للارتفاع بسرعة إلى مستوى القوى الاستعمارية القديمة. على أنه يبدو أن الموقف يزداد سوءًا. فالتحديات التي ينبغي مواجهتها هي أولا داخلية المنشأ بصورة رئيسية، بمعنى أن المطلوب بالنسبة لأفريقيا هو امتلاك ناصية التحولات الهائلة التي فجرتها صدمة اللقاء بالغرب الأوروبي في نهاية القرن التاسع عشر، والتي جرى تسريعها خاصة منذ الربع الأخير من القرن المنتهي.
وهذه التحديات إيكولوچية، وديموجرافية، واقتصادية، واجتماعية، في قارة تتميز بشباب الغالبية الكبرى من السكان.
 
التهديدات الإيكولوچية
الحيز المادي الأفريقي
أفريقيا، القارة العجوز التي تبلغ مساحتها 30 مليون كيلومتر مربع، والتي نظر إليها كثير من الأوروبيين على أنها "عالم غابة الساڤانا، والصحراء، وحياة حيوانية زاخرة"، هي عالم الغرائب. والواقع أن مشاهد اليوم لم تعد تخفي مآسي طبيعة في خطر: المناخ ما زال يتدهور أسرع مما كان يفعل خلال القرون من السابع عشر إلى التاسع عشر (ومقياس الأمطار في انخفاض مستمر، مع جفافات طويلة ومستمرة، وبصورة خاصة منذ منتصف الستينات؛ والإزالة الواسعة النطاق للغابات مع مساحة غابات انخفضت من 734 مليون هكتار في 1958 إلى 520 مليون هكتار في 1995 مع أضعف معدلات إعادة تشجير الغابات).
 
التدهور الطويل للمناخ
هناك الدور المتصل بالتدهور الطويل للمناخ، الذي يجري منذ قرون. غير أنه خلال القرن العشرين اشتدت أيضا وطأة الممارسات الزراعية الكثيفة، وتوسيع الإنتاج التقليدي للطاقة (تنتج أفريقيا 27.8٪ من خشب الحطب وكربون الخشب في العالم)، والاستغلال الفوضوي للثروات الطبيعية. ويقوم كل هذا بتسريع الاختلالات الخطيرة للنظام الإيكولوچي (تصحر الساحل، وتغيير الشبكة الهيدروجرافية في منطقة الغابات، واختفاء العديد من الأنواع الحيوانية والنباتية)، في لحظة صارت فيها الطرق القديمة لحماية الطبيعة (الغابات "المقدسة" للشعوب، الاحترام الديني لأنواع حيوانية أو نباتية بعينها، إلخ.) مهجورة في الأرياف.
 
الأضرار التي تهدد الإيكولوچيا الحضرية
نتيجة هجرة ريفية ضخمة فجرتها الجفافات، وإخفاق السياسات الزراعية، والحروب الأهلية، نشهد تضخما سريعا للمدن. ومع التخطيطات العمرانية التقريبية ، تترك المدينة الأفريقية مكانا للأحياء العشوائية تساوي على الأقل ما تتركه للأماكن المنظمة (52٪ من سكان أفريقيا محرومون من الوصول إلى الصرف الصحي)؛ يوجد هنا إذن "تحويل إلى مدن الصفيح" bidonvilisation للمدن أكثر من "الحضرنة" المرجوة.
وبالتالي يستحق الحيز الأفريقي اهتماما كبيرا من جانب كل المدافعين عن الطبيعة. وتبين نتائج مؤتمر إستوكهولم عام 1972 وكذلك مختلف الأعمال التي قامت بها هيئات مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة أو اليونيسكو (برنامج الإنسان والمحيط الحيوي projet MAB) أن هذا الاهتمام موجود في المجتمع الدولي. وفي أفريقيا نفسها، تثبت أعمال عامة عديدة أو أعمال للمنظمات غير الحكومية أن الوعي بالخطر الإيكولوچي موجود.
 
النمو الديموجرافي
انفجار النصف الثاني من القرن العشرين
مع أن وجود الإنسان قديم في أفريقيا فإنه مفهوم بصورة سيئة على الصعيد الديموجرافي. وبالنسبة للقرن العشرين فإن الأرقام تزداد دقة. وقد ارتفع عدد سكان أفريقيا جنوب الصحراء من 142 مليون نسمة في 1930 إلى 221 مليون نسمة في 1960 وإلى 620 مليون نسمة في 1998. ويعني هذا حدوث نمو ديموجرافي هائل، بين 2.5 و10٪ في السنة، نتيجة لارتفاع معدلات المواليد، والانخفاض المتواصل لمعدلات الوفيات، وارتفاع بطئ ولكن محسوس في العمر المتوقع عند الولادة منذ خمسينات القرن العشرين. وهؤلاء السكان هم اليوم بغالبيتهم من الشباب (يمثل من هم أقل من 20 عاما أكثر من 50٪ من إجمالي السكان).
توزيع السكان
يبين توزيع السكان ، خاصة في شرق وغرب أفريقيا، أنهم مازالوا بغالبيتهم ريفيين. وتفسر عوامل اقتصادية (أهمية الهجرات الاقتصادية عبر القارة) النمو الحضري المتسارع منذ سبعينات القرن العشرين (بالنسبة لأفريقيا جنوب الصحراء، ارتفعت نسبة سكان الحضر إلى إجمالي السكان من 11٪ في 1950 إلى 19٪ في 1970، ومن 23٪ في 1989 إلى 32٪ في 1996).
وتؤكد الإسقاطات الديموجرافية كل هذه الاتجاهات، وإنْ كانت تتواصل أخطار جسيمة للاختلال الديموجرافي، خاصة على المستوى الصحي.
 
الأخطار الصحية الجديدة
 وتؤدي الأخطار الصحية الجديدة (الإيدز، حمى الإيبولا، إلخ.) وعدم استئصال أمراض تقليدية بعينها (الملاريا، الكوليرا، الالتهاب السحائي، شلل الأطفال، إلخ.) إلى تباطؤ طفيف في الزيادة الديموجرافية. ويمكن أن تقضي إنجازات الطب ونجاح برامج الصحة العامة على ما يمثل اليوم موضوع المخاوف الجماعية. غير أن مسألة السيطرة على هذه الزيادة ما تزال مطروحة على القارة، حيث ما تزال الممارسات الإنجابية القديمة مستمرة. وهذا هو دور برامج تنظيم الأسرة التي تلتزم بها الدول اليوم في كل مكان. وما تزال النتائج في كثير من البلدان أضعف جدا من أن تسمح بتعميم فكرة "الانتقال الديموجرافي" على القارة.
 
تحديات الاقتصاد الأفريقي
النتائج الحالية للسياسات الزراعية والصناعية
خلال أعوام 1960­ 1980
تحت تأثير خبراء هذه الفترة (ومنهم خبراء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، أعطت هذه الدول الأولوية المحاصيل الريعية على محاصيل القوت، مما جعل الزراعة مصدرا لإيرادات موازنة الدولة من أجل تمويل قطاعات النشاط الأخرى. وقلما تم منح اهتمام لضعف تنافسية العمل خاصة الزراعي ولزيادة قيمة المنتجات الزراعية. وقلما تم الالتزام بتحرير فوائض للغذاء وبقيت أساليب الزراعة تقليدية، رغم بعض الأمثلة السعيدة. كما كانت نتائج سياسات التصنيع الأفريقية المتبعة بين 1960 و1980 مخيبة جدا للآمال. إن أفريقيا هي القارة الأقل تصنيعا.
وبالتالي كانت الأزمة الاقتصادية في الفترة من منتصف السبعينات إلى التسعينات من القرن المنصرم (هبوط أسعار المواد الأولية وتواضع شروط التبادل) هيكلية منذ وقت طويل. وقد تجسدت في شبه ركود في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي وهبوط متواصل في نصيب الفرد من الدخل منذ نهاية السبعينات.
 
الدين الخارجي
وتندرج مسألة الدين الخارجي وارتفاع عبئه في هذا السياق للأزمة. وقد ارتفع الدين الخارجي الأفريقي من 123 مليار دولار في 1980 (31.9٪ من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي) إلى 332.4 مليار دولار في 1998 (58.9٪ من الناتج المحلي الإجمالي). وفي نهاية القرن العشرين صارت هذه المديونية لا تحتمل بالنسبة للجميع.
وتطرح نفسها أيضا مسألة تمويل الاقتصاد الأفريقي. ويلاحظ بضعف الميل نحو أفريقيا منذ الثمانينات لدى حائزي رؤوس الأموال (تمثل أفريقيا أقل من 1٪ من إجمالي التدفقات الصافية لرؤوس الأموال إلى المناطق النامية خلال الفترة 1975­ 1998)، وكذلك ضعف مستوى الاستثمار الداخلي الإجمالي (من 9.8٪ في 1965 إلى 4٪ في 1973­ 1980)، وضعف الادخار القومي (21.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي في 1980، 15٪ في 1995 وفقا لتقرير بنك التنمية الأفريقي 2000). وهذه المشكلات هي النتيجة المنطقية للتحويلات غير المشروعة (أو غيرها) لرؤوس الأموال إلى خارج القارة. وهي تنتج أيضا عن الموقف الأفريقي إزاء الربح والاستثمار في الأجل الطويل: ما تزال تنتشر في أفريقيا الفكرة القائلة إن الثروة لا قيمة لها سوى القيمة الاجتماعية. لدينا إذن مسألة تتعلق بثقافة للنفقات الفردية على الهيبة (المآتم، حفلات الزفاف، إنشاءات الأبنية الدينية، إلخ.) وما تزال "سلالات" كبار رجال الأعمال الأفارقة نادرة.
 
الآثار المدمرة لخطط التصحيح الهيكلي
يمكن تلخيص الحلول المقترحة لحل الأزمة الاقتصادية في "خطط التصحيح الهيكلي" التي بلورتها في فترة سنوات 1980­ 1990 مؤسسات بريتون وودز، على أساس الأرثوذكسية الليبرالية المفرطة. ويوجد اليوم شك في فعاليتها. وترغب كل البلدان في الخروج من "ورطة بريتون وودز" من أجل إقامة أو تطوير أشكال جديدة من الإنتاج قابلة لتقديم دخل مستقر للجماعة وللدولة بهدف تعبئة مزيد من الادخار القومي وبصورة خاصة ادخار قابل لتشجيع الاستثمار الإنتاجي، القومي أو الخارجي.
التحديات السياسية والاجتماعية
 
التعبير الماثل أكثر فأكثر
للاحتياجات الاجتماعية
شجع التعبير الماثل أكثر فأكثر عن الاحتياجات الاجتماعية (التعليم، والصحة، والمياه والكهرباء للجميع) والمستوى المتدني لإشباع هذه الاحتياجات (في أفريقيا جنوب الصحراء بالنسبة لعام 1998، لدينا 46٪ من الأشخاص المحرومين من مياه الشرب، و59٪ من الأميين بين الكبار)، خاصة في سياق من الأزمة الاقتصادية الحادة، الصدى الإيجابي ﻟ "ريح الشرق". وقد طرحت نفسها بصورة متزايدة مسألة الحريات العامة عبر إعادة مناقشة الدولة "السلطوية" الموروثة عن العهد الاستعماري والستينات (نمط الحزب الواحد، إقامة أنظمة عسكرية ذات تواطؤ نشيط أو غير نشيط مع القوى العظمى) خلال الستينات. غير أنه في الوقت نفسه يجري فتح مسألة جوهرية: كيف يمكن العيش جميعا بصورة أفضل في الدولة؟
 
العيش جميعا في الدولة
أكثر من القرن التاسع عشر، سيكون على القرن العشرين أن يضع مسألة الدولة الأفريقية ومسألة فعاليتها في قلب إشكالية استقلال الشعوب. وينبغي في أفريقيا مواجهة هذا التحدي الذي يمثله بناء دول "ذات مصداقية" من أجل تأمين استقلال أفريقيا في عالم أكثر تنافسية مما كان في القرن التاسع عشر. وإذا كان الالتزام باحترام الحريات العامة يجري تأكيده وتجسيده بصورة منتظمة على الأقل في الدساتير الجديدة، مما يفتح خاصة على هذا النحو طريق الانتقال الديموقراطي في أفريقيا، وإذا كانت مسألة "الإدارة السليمة" لم تعد تمثل موضوعا محرما، وإنْ كان هذا المفهوم قد صار مبهما بالنسبة لكثير من الأفارقة، فإن حل المشكلة الإثنية أو الإقليمية في علاقتها برهانات السلطة عند النخب (التسييس الشديد للاختلاف الإثني أو الفوارق الإقليمية للتنمية القومية عن طريق هذه النخب) يبقى صعبا ويشكل في عدد من البلدان بُعْدًا ما يزال محسوسا بصورة مأساوية. ولأن الأزمة الاقتصادية لا تسمح بالتصحيحات الضرورية فإن كل شيء يغدو ذريعة للانفجار، حتى الدين.
وعلى هذا النحو فإن شروط التماسك الداخلي تغدو زائفة. ويتمثل التحدي الراهن في إيجاد أكثرها ملاءمة لجعل الدول قابلة للحياة من جديد. وفي مواجهة ترويج العنف وبالتالي تفسخ الدولة، يأمل كثيرون في أسس جديدة لإعادة تأليف للدولة عن طريق الحد من السلطات المركزية في إطار سياسات اللامركزية، رغم مخاطر التململ الإقليمي النزعة.
 
مسألة تحرير قدرات المرأة
في كل مكان يعاد تقييم المداخل القديمة. والمقصود هو النضال ضد الضغوط التي تثقل على المرأة والمظالم التي تقع ضحية لها في سياق العادات ، والممارسات الاجتماعية، ولكن أيضا في القانون الوضعي. ويتمثل التحدي هنا في تعزيز المواطنة الكاملة للمرأة، وفي التعزيز بصورة أفضل لهذه الفاعلة الاقتصادية التي، رغم الدور الجوهري لفعلها الاقتصادي ولمبادراتها(الواقع أن تنظيم التأمين التكافلي والائتمان الصغير، زراعة القوت، الأنشطة التجارية غير الرسمية أو الرسمية، المشاركة في النضالات السياسية، تقدم اليوم أمثلة نسائية للنجاح الاجتماعي أو السياسي،إلخ.) يجري التعامل معها ﮐ "مواطن من الدرجة الثانية".
كذلك فإن المنظمات غير الحكومية والأعمال العامة الجارية ، ومطالب النساء أنفسهن (ضد مختلف أنواع قطع الأعضاء، العنف الأسري، وزن علاقات اللامساواة داخل الأسر، إلخ.) إنما هي مؤشرات على إرادة مواجهة هذا التحدي لتحرير المرأة الأفريقية.
 
السيطرة على والحد من الأشكال الجديدة
للهامشية الاجتماعية أو الإقصاء الاجتماعي
يبين المقياس الراهن للإقصاء الاجتماعي وفقا لدخل الفرد معدلات مرتفعة للسكان الذين تحت خط الفقر (في 1989­ 1998 بين 36 و79٪ من السكان لم يمتلكوا إلا دولارا واحدا للفرد في اليوم وفقا للبلدان)؛ ويبين هذا المقياس وفقا للمرض أنه بالإضافة إلى المجذومين تطرح نفسها اليوم مسألة المعاقين جسمانيا ،ومسألة مرضى الإيدز وضحايا المخدرات والكحول. ويبين مقياس الإقصاء وفقا للنشاط تفشي البغاء العام ( على سبيل المثال بعد ظهوره في غرب أفريقيا في الفترة 1920­ 1930 تفشى بصورة خاصة في السبعينات، حتى في الأرياف) والعدد المتزايد لأطفال الشوارع. وهناك أخيرا الإقصاء وفقا للمكانة الاجتماعية في المجتمع التقليدي (خدم الطوائف المغلقة داخل مجتمعات أفريقية بعينها).
والرغبة العامة في علاج أو خفض هذه الأشكال من الإقصاء الاجتماعي حقيقية وإنْ كانت حديثة العهد (خطط النضال ضد الفقر وسياسات الدمج الاجتماعي للأمراض عديدة جدا منذ نهاية الثمانينات). ورغم تواضع الوسائل (لم يضطلع بعبء مأساة "أطفال الشوارع" سوى منظمات خيرية) وعبء الأثقال السوسيولوجية، فإننا هنا إزاء تحدٍّ اجتماعي رئيسي في الأعوام المقبلة.
ولا توجد سوى حلول داخلية، حتى وإنْ كانت جوهرية. ويوجد أيضا ما يمكن أن تجلبه القارات الأخرى إلى فعالية إجاباتنا، بالإضافة إلى قيمة النماذج التي تمت تجربتها في أماكن أخرى غير أفريقيا. والواقع أن السياق الدولي الذي يجري فيه الإعداد لمستقبل أفريقيا ليس مواتيا لهذه القارة.
 
السياق الدولي لنهاية القرن
ومستقبل أفريقيا
في بداية الثمانينات، كان مناخ النشوة الذي كان قد أعطى حياة نشطة " للعالم الثالثية" في فترة 1960­ 1970 كان قد انتكس بالفعل. وقد أفسح المجال للتشاؤم الذي منح قوة جديدة ل "التشاؤم بشأن أفريقيا" في منتصف الخمسينات. وتعزز الأزمة المتزايدة الحدة في أفريقيا هذا التيار.
غير أن الآفاق التي تنفتح أمام أفريقيا ما يزال من الواجب تقييمها أكثر في علاقتها بالنتائج المنطقية لنهاية "الحرب بين الكتلتين"، التي زادت في التسعينات من قلة اهتمام العالم المتقدم بقارتنا لصالح أوروبا الشرقية. وتمثل هذه الآفاق أيضا دالة للعولمة المتسارعة للاقتصاد العالمي. والحقيقة أن التطورات الممكنة للعلاقات بين البلدان الأفريقية خلال الأعوام القادمة سوف تلعب أيضا دورا مهما في تقرير مستقبل أفريقيا.
 
نهاية "الحرب الباردة"
ونتائجها المنطقية في أفريقيا
معنى نهاية "الحرب الباردة"
الحقيقة أن نهاية "الحرب الباردة" التي يرمز إليها انهيار سور برلين، تسجل بالنسبة لأفريقيا كما بالنسبة لكل العالم الثالث، نهاية "إستراتيجية التوازن" بين واشنطون وموسكو التي كانت سائدة، رغم إعلانات عدم الانحياز. وهي تعني أيضا، مع سقوط الماركسية اللينينية في أوروبا، نهاية الأنظمة "الماركسية" في أفريقيا. وعلى المستوى الأيديولوجي وكذلك على أرضية التنظيم السياسي والاقتصادي، تجد أفريقيا نفسها في مواجهة المنطق الليبرالي.
 
الخطى الواسعة للهيمنة الأمريكية
والتراجع السياسي لأوروبا
باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في الميدان، تحقق الولايات المتحدة تقدما متواصلا في أفريقيا، وهي لا تتردد حتى عن فكرة تدخل عسكري مباشر في القارة (30 ألفا من الجنود الأمريكيين في الصومال في ديسمبر 1992؛ مساعدة لوجستية لليبيريا في 1990، وفي سيراليون في 1998)، كما فعلت القوى الاستعمارية القديمة (فرنسا، بلجيكا، بريطانيا العظمى) خلال الأعوام 1970­ 1980. وخلال التسعينات، لم تنقطع المبادرات الأمريكية "لإغواء" أفريقيا. وفي الوقت نفسه، راوحت القوى الأوروبية في مكانها، سواء على المستوى الثنائي (الشكوك والترددات الفرنسية، رغم المؤتمرات "الفرنسية الأفريقية") أو على المستوى المتعدد الأطراف (تندرج المناقشات بين أفريقيا والاتحاد الأوروبي في الإطار الموسع جدا لمجموعة دول أفريقيا والكاريبي والمحيط الهادي ACP مع أخذ المصالح الأمريكية في الاعتبار إلى أقصى حد).
 
الصراعات الداخلية أو الثنائية
كانت الصراعات الداخلية أو الثنائية التي ميزت هذه الأعوام الأخيرة في أفريقيا مناسبة لتجربة مختلف آليات الإدارة "الأفريقية" لهذه الصراعات. والواقع أنه، تحت غطاء الواجب الإنساني، وبواسطة منظمات غير حكومية بعينها، فرض نفسه على أفريقيا بالتدريج حق للتدخل، اختزل من الناحية الفعلية كل أبعاد السيادة التي يتضمنها القانون الدولي. وفي كثير من الأحيان صارت التسوية "الأفريقية" للصراعات خاضعة "لإملاءات" الولايات المتحدة أو أوروبا، وفي منظمة الأمم المتحدة لا يساوي صوت أفريقيا الكثير. وعلى هذا النحو فإن التحدي الذي يمثله وجود ما في شؤون العالم أو، على الأقل، في تنظيم العلاقات بين الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الأفريقية، صار مطروحا حقا على أفريقيا في عشية قرن جديد.
 
عولمة الاقتصاد
وعوائق أفريقيا
"حداثة" زائفة لأفريقيا
يثبت وزن التجارة الخارجية في الاقتصاد الأفريقي خلال القرن العشرين (كان الجانب الأكبر من التبادلات الخارجية الأفريقية لكل بلد أفريقي يحدث مع أوروبا أو أمريكا أكثر مما مع بلدان أفريقية أخرى) وفشل المفاوضات (1974­ 1992) من أجل "نظام اقتصادي دولي جديد" أكثر اهتماما باحتياجات التنمية أن عولمة الاقتصاد ليست مواتية بصورة قبلية a priori لأفريقيا. وفي دوائر عديدة في أفريقيا، تسجل العولمة انتصار إستراتيجيات التبعية الاقتصادية لأفريقيا،  انتصار الشركات عبر القومية للبلدان "السبعة الكبار" ضد مجموعة "اﻟ 77".
 
تعزيز التبعية
تم تعزيز التبعية دون زيادة الاستثمارات الأجنبية ولا زيادة مساعدة التنمية. وعلاوة على خفض أهداف المساعدة (نسبة 0.15٪ من الناتج المحلي الإجمالي للبلدان المتقدمة في نهاية الثمانينات مقابل 1٪ المعلنة في الستينات)، فإن الاتفاقيات الاقتصادية المتعددة الأطراف تقترن بشرطيات، سياسية بصورة خاصة. وحتى المساعدة الإنسانية والهبات تطرحها للنقاش، أحيانا عن حق كامل (ضد "البيزنيس الإنساني")، الصحافة والأوساط الفكرية الأوروبية والأمريكية، تحت الذرائع الأكثر تنوعا. ومن جهة أخرى فإن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لا يتنازلان عن دين إلا بشروط فظة، في حين أن التدفقات الصافية لرؤوس الأموال مواتية لهذه المؤسسات (في الدين الخارجي يفوق جانب الفوائد جانب أصل الدين)، فيعززان على هذا النحو عبء الدين (نادرا ما تمثل خدمة الدين أقل من 100٪ من الإيرادات السنوية للتصدير) ومختلف أنواع البؤس الأفريقي.
 
عوائق أفريقيا
الواقع أن عوائق أفريقيا في التبادلات العالمية (التنافسية الضعيفة، منتجات أولية، جزء هزيل من التبادلات العالمية، إلخ.) تجعل منها منطقة لاحتياطيات ثروات الجنس البشري التي لا يستطيع الأفارقة أنفسهم، بسبب المستوى المتدني للتكوين التقني، زيادة قيمتها. وفي أفريقيا جنوب الصحراء في 1991، كان عدد الطلاب 38 لكل 10 آلاف نسمة، وتلاميذ التعليم الثانوي والفني 667 لكل 10 آلاف نسمة؛ وكان عدد الباحثين 13674، وعدد مراكز الأبحاث 602 (ومن هذا العدد 3800 باحث و172 مركز لجنوب أفريقيا وحدها)، وكان ثلث مؤسسات الأبحاث هذه مخصصا للزراعة.
 
أفريقيا مجال مستقبلي للنمو الاقتصادى
ومع هذا فإن أفريقيا مجال مستقبلي للنمو الاقتصادى بفضل مقدراتها الطبيعية (أهمية احتياطيات الثروات المنجمية والتعدينية وكذلك المساحات القابلة للزراعة) ولأن مردود استثمارات القطاع الخاص فيها أعلى من الأماكن الأخرى.
 
العلاقات بين الدول الأفريقية
ومسألة الوحدة الأفريقية
الحرب والسلام في أفريقيا
يبين تحليل المشكلة أن أفريقيا تمثل، بالنسبة لوزنها الاقتصادي في العالم، إحدى القارات ذات ميزانيات الدفاع المرتفعة (في 1994، يمثل الجزء الخاص بالدفاع من الموازنة أكثر من 4٪ في أكثر من نصف الدول)، حيث تنتشر تجارة واسعة في السلاح. ومع هذا فإن عدد الحروب الأهلية فيها (مسألة الوضع القانوني للأجنبي وتشنجات الهوية) أكثر من الحروب بين الدول (مسألة الحدود والسيطرة على الموارد المعروفة). ويجعل هذا الوضع من أفريقيا منطقة اضطرابات شديدة، وعدم أمن، وعدم استقرار، تتجسد نتائجها في عدد مرتفع من ضحايا الحرب (أفريقيا هي "بطلة" العالم بالنسبة لعدد اللاجئين).
نحو جغرافيا سياسية جديدة في أفريقيا
ومع هذا فإننا نشهد محاولات لإقامة تجمعات إقليمية وإعداد أو تنفيذ سياسات للتكامل الاقتصادي. وخلال أعوام 1980­ 1990 (من ميثاق لاجوس في عام 1980 إلى برنامج الوحدة الأفريقية في عام 2000)، كان عدد التجمعات الإقليمية نحو عشرة لكل القارة و، بالنسبة لأفريقيا الغربية وحدها، تم توقيع أكثر من ثلاثين اتفاقية تكامل إقليمي بين مختلف الدول. غير أن هذه المنظمات وهذه الاتفاقيات لم تنجح في زيادة التبادلات أو في تحسين الموقف الاقتصادي للقارة.
وينجم الاعتماد على التبعية إزاء صادرات المنتجات الأولية التي يتبادلها الجميع مع الخارج، وعن المستوى الضعيف لدخل وشروط التبادل بالنسبة لهذه البلدان، وعن غياب التكاملية الحقيقية في إنتاج السلع والخدمات، وأخيرا عن عجز البنية الأساسية للاتصالات. وعلى كل حال فإن نهج معاهدة أبوجا (1991) جديد في  طرحه للتضامن،  والاستقلال الذاتي الجماعي، والتنمية الذاتية التمويل والداخلية المنشأ، و"سياسة التموين الذاتي لتغطية الاحتياجات الأساسية"، وتحقيق التوافق بين الخطط القومية للتنمية كمبادئ ملزمة. وعلى هذا النحو نرى بروز بداية جغرافيا سياسية  تقوم على تكاملية الاقتصادات ومشاريع التنمية، وعلى دور أقطاب اقتصادية بعينها (جنوب أفريقيا، نيجيريا على سبيل المثال).
 
مسألة الوحدة الأفريقية
تمثل مسألة الوحدة الأفريقية حلما قديما كان ينبغي أن يكون إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية في 1963 بمثابة نقطة انطلاق لتحقيقه. غير أن إخفاق إستراتيجية الوحدة الأفريقية من خلال القمة (وحدة الدول وليس السكان) يبين حدود هذه المؤسسة اليوم. والتحدي الراهن هو تحدي أن نهب أنفسنا جهازا أقرب إلى الشواغل الراهنة وأكثر ديناميكية. ويبدو أن وزن أفريقيا في محافل الأمم سوف يكون بهذا الثمن.
وفيما يتعلق بالمستقبل، من الضروري إذن تصحيح إستراتيجيات وجود أفريقيا في مسيرة العالم، وإدراك أنه توجد صلة وثيقة بين الوجود الاقتصادي والوزن الدولي، وأخيرا، من الضروري إدراك أن السلام، وهو المقدمة الطبيعية لكل تنمية مستدامة في أفريقيا، يقتضي إعادة تعريف للتعاون الأفريقي البيني والتعاون الدولي.
 
آفاق العقود المقبلة
في نهاية القرن العشرين نشهد في أفريقيا دروبا جديدة في قطيعة مع "سوء التنمية" للقرن المنتهي. وهذه هي الآفاق "المأمولة" من جانب الجميع، تواصلا مع قدرات الشعوب الأفريقية على التكيف عبر العصور. غير أنه في الوقت نفسه أيضا، ما يزال لدينا التعبير الحي عن مقاومات للتغيير تعطي للتاريخ، كما في كل مكان، دوره المتسم بغير المتوقع ومناطق الظلال.
 
آفاق القطيعة المأمولة
تطوير الحريات
في سبيل توسيع مشاركة المواطنين
في المدن الأفريقية في التسعينات، تثبت إضرابات العمال، والطلاب والتلاميذ، وتعبئة النساء تطبيق ممارسات القطيعة مع النظام القديم للأشياء. وفي هذه الأعوام الأخيرة، تثبت تطورات عديدة، مثل سقوط سياسة الفصل العنصري "الأبارتهيد" في جنوب أفريقيا (استفتاء 18 مارس 1992 ودستور 22 ديسمبر 1993)، أن إحدى هذه القطيعات تكمن في التوسيع الفعلي لمشاركة المواطنين في حياة البلد. وإذا كان الكثيرون من الأفارقة ما يزالون مذهولين بنتائج الأزمة الاقتصادية ولهذا يتجهون نحو الدين (ظهور وانتشار عدد كبير جدا من الطوائف والأخويات الدينية على مدى الأعوام الخمسة عشر الأخيرة)، إلا أن من ساروا في طريق الكفاح السياسي في سبيل مزيد من الديموقراطية وفي سبيل احترام أكبر لحقوق الإنسان يظلون أكثر عددا بكثير.
وإرادة التغيير هذه محسوسة في كل مكان في أفريقيا وتجعل من الملحّ، لدى صانعي القرار، إعداد وتنفيذ إستراتيجيات جديدة لتنمية مستدامة تنادي بمشاركة جميع المواطنين. والحقيقة أن التسعينات، التي تسجل "ربيع حرية القول والصحافة" في أفريقيا (ازدهار الأحزاب السياسية والصحف)، تفتح آفاقا مأمولة ويمكن أن تصب في إعادة التركيب الداخلية والخارجية للدولة الأفريقية. وتمر إعادة التركيب الداخلية، على المستوى المؤسسي، بإعادة تعريف المواطنة، وإعادة تعريف السلطات داخل الدولة (الديموقراطية التعددية، لا مركزية واسعة لهيئات اتخاذ القرار، إلخ.)، وإعادة تعريف علاقات الدولة بالمواطن؛ وعلى المستوى الثقافي، تمر إعادة التركيب الداخلية بالتعليم للجميع، وبتجديد حياة الثقافات عن طريق استيعاب وتمثل الفكر العلمي والتقني، وأخيرا عن طريق حوار الثقافات بين سكان الدولة الواحدة، وبين الشعوب الأفريقية، وبين أفريقيا وبقية العالم. وعلى المستوى الاجتماعي، تمر إعادة التركيب الداخلية بتطوير نماذج التقدم الاقتصادي (المبادرة الفردية والاستقلال الذاتي الجماعي على المستوى الاقتصادي؛ تقديم واجب العمل على حق العمل) في سبيل سياسة أخرى للتنمية الاقتصادية الاجتماعية (أولوية النضال ضد الفقر، والإقصاء، واختلالات التوازن الإقليمية؛ أسبقية التبادلات التجارية الأفريقية البينية). وإذا كان التكامل الحقيقي يفترض، في نهاية المطاف، اختيار الطابع فوق القومي، فإن إعادة التركيب الخارجية للدولة تمر بتسوية مسألة الحدود الموروثة عن العهد الاستعماري في اتجاه يحافظ على السلام بين الشعوب، ويستفيد من الهويات المتعددة للفرد في القارة، ويؤسس الوحدة الأفريقية.
 
تدريب وتعليم السكان
وعلاوة على الإنجازات الكبيرة في سياق الرغبة في تعليم الأطفال بالمدارس، وهذا يشمل النساء، توجد أيضا رغبة الكبار في إجادة الكتابة، حتى إذا كان هذا في لغة قومية، من أجل فهم أو اكتساب الأدوات الجديدة للحداثة، وهذا رغم التأخرات. ولا تقتصر مزايا هذا الموقف على مزايا ترقية فردية عن طريق المدرسة (وهذه فكرة يجري قبولها بصورة متزايدة)، بل تشمل المزايا الاجتماعية للتدريبات الأساسية (محو الأمية والصحة الجماعية، محو الأمية وتنمية أنشطة اقتصادية جديدة، إلخ.).
 
إحياء الثقافات
ويتعلق الأمر أيضا بإحياء الثقافات عن طريق تعزيز السياسات الثقافية البينية الرامية إلى إثراء للثقافات القديمة (حوار الثقافات داخل الدول، وبين الدول الأفريقية، وبين أفريقيا وبقية العالم) وعن طريق استيعاب وتمثل الفكر العلمي والتقني. ويعني هذا القطيعة مع الفكر الإمبيريقي والتأخر التكنولوجي، حتى إذا كان على العلم والتقنية أن ينتشرا من خلال التطبيق على التجربة المعيشة والبيئة الطبيعية للقارة.
 
إعادة تنظيم المبادرة الفردية
والاستقلال الذاتي الجمعي على المستوى الاقتصادي
ومن الضروري النضال بصورة أفضل ضد الفساد وسوء التنظيم والإدارة من خلال تنظيم أفضل للدولة أكثر مما من خلال استيعاب وتمثل كل ما يشكل الدولة أو تملكه الدولة.
ومثل هذه الآفاق تقتضي الوقت، والإصرار، والمثابرة. ولكنْ، في الوقت نفسه وبدون التنبؤ نتائج مقبلة، فإن رفض التغيير موجود أيضا، هنا كما في كل القارات.
 
احتمالات قطيعة معاكسة
ـ تشكل الهويات المتعددة في قلب الدول خطرا دائما على الوحدة الوطنية إذ أنها تشكل أحد الأسباب المباشرة للحروب الأهلية. وهي تشكل خطرا على الوحدة الأفريقية. وإذا لم يتم التوصل إلى تطبيق إستراتيجيات فعالة للتكامل الوطني و/أو الإقليمي، وإلى إشاعة احترام الاختلافات الثقافية واحترام الأقليات، فإن بؤر التوتر ستكون دائمة وسيكون عدم الاستقرار متواصلا، مع كل ما يجلبه معه من تعاسات.
ـ الحق في العمل ضد واجب العمل. في اللحظة التي أوضحت فيها دولة الرفاهية حدودها في البلدان التي ما تزال تعاني من الإهمال، يجري فهم المطالبة بالحق في العمل على أنه واجب الدولة في تقديم عمل لكل شخص، بدلا من فهمه على أنه ضرورة إيجاد شروط لممارسة واجب العمل. ويمكن تعريف هذا الواجب على أنه المساعدة التي ينبغي توفيرها (أو الفرصة المقدمة) لكل شخص للنهوض بتطوير إبداعيته وروح المشروع لديه.
ـ يبقى وزن الاقتصاد الريعي كابحا لتطور التبادلات الأفريقية البينية والنمو الاقتصادي.
ـ وأخيرا يوجد إغراء "تدخلي" للقوى الكبرى في أفريقيا، تحت ضغط الشركات عبر القومية التي يتضاءل باستمرار اتفاق إستراتيجيتها العالمية مع الإستراتيجيات العالمية للدول حتى الأكثر قوة.
 
خاتمة
تبين الاختلالات وكل صور عدم الأمن التي تمثل أفريقيا مسرحها في هذه النهاية للقرن العشرين أن أنصار التشاؤم الأفريقي يظلون متشككين بشأن الفرص التي أمام أفريقيا لتكف عن أن تكون "عبئا على البشرية"، في نفس اللحظة التي استطاعت فيها الإنجازات الخيالية للعلم والتقنيات أن تدعنا نفترض نهاية أقسى صور البؤس الصارخة في العالم. ومع هذا فإن الإنجازات الجمعية والفردية، المتحققة خلال القرن في هذه القارة في سياق شروط صعبة تدعنا نعتقد (أو نأمل في) أن تستطيع العقود المقبلة أن تكون الفرصة لتغيرات إيجابية أكثر منها سلبية. وإذا وضعنا أنفسنا في سياق المدى الطويل للقرون فإن القرن العشرين سيبدو قرنا أقل "قتامة" من القرون السابقة عليه؛ وستظل إبداعية الشعوب الأفريقية وكذلك قدرتها على التكيف قويتين. ولكن كم من التحديات الملحة ما يزال من الواجب مواجهتها! وكم من العقبات ما يزال من الواجب التغلب عليها في الداخل كما في الخارج! وفي قارة مطبوعة بطابع تعددية الثقافات القديمة وبالانفتاح الذي يجري تأكيده باطراد على الحداثة، سوف يتمثل المستقبل فيما ستكون الشعوب قادرة على أن ترسمه بنفسها ومع القارات الأخرى، في سياق علاقات متبادلة مثرية ونافعة للجميع، بهدف تحقيق نزعة إنسانية جديدة تقوم على الإنصاف والتضامن باعتبارهما أساسين لنظام جديد للعالم.       
 
 
 
6
الهند المنفتحة أم الهند المنغلقة؟[xxx]
سانجاي سوبرحمانيام
SANJAY SUBRAHMANYAM
 
من أين جاءت الفكرة التي لدينا عن الهند اليوم في الغرب؟ هناك أطروحتان جرى تقديمهما لتفسير أصول صورة الهند كما تبدو دائما في فرنسا. وتوضح الأطروحة الأولى، وهي ساذجة إلى هذا الحد أو ذاك، أن الغربيين قاموا بكل بساطة بتجميع معلومات عن الهند بالتدريج كلما وجدوها "هناك"، منذ العهود القديمة، ولكن بصورة خاصة منذ وصول البرتغاليين، والبريطانيين، والفرنسيين، بأعداد كبيرة، بين 1500 و1750. وتؤكد الأطروحة الثانية أن هذه الصورة عن الهند وهي قوية ومتناقضة في آن معا إنما هي، بكل بساطة، زائفة، لفقها واختلقها، الغرب بصورة أساسية، ولكن أيضا الهنود المجتثو الجذور والمطبوعون بطابع التغريب، الذين فقدوا إحساسهم بالانتماء بسبب تهجينهم الثقافي. ومنطلقين من الكتابات النظرية للمؤلفين المعادين للاستعمار ولمؤلفي ما بعد الاستعمار، يوجد اليوم ممثلو هذا الخط في الجدال في صفوف اليمين كما في صفوف اليسار. ويؤكد الذين في صفوف اليسار أنه لابد أن هذه الصورة قد خرجت من مصنع الحكومية gouvernementalité الاستعمارية لاستخدامها داخل الهند نفسها ولكن أيضا لتصديرها بعد ذلك إلى الغرب. وهذه الحجج استعادها مؤخرا جدا مفكرون من اليمين (وحتى من أقصى اليمين في الهند)، في إطار إستراتيجية للسلطة تهدف إلى "استرداد" الماضي الهندي من أيدي الغربيين. والمهمة بالغة الصعوبة، لأن الأيديولوجيين من أقصى اليمين الهندوسي يرغبون في إزالة جزء من الكليشيهات حول الهند (الطوائف المغلقة، وصور اللامساواة، والفقر، على سبيل المثال)، مع الاحتفاظ تماما بالطابع الإيجابي لعناصر أخرى مقولبة كذلك، مثل "الروحانية" المشهورة للهند.
 وسيكون من غير المفيد في رأيي أن نلح هنا أكثر مما ينبغي على هذه المسائل، التي أراقت في أماكن أخرى كثيرا جدا من الحبر، في الهند مثلما في الغرب. وهو من غير المفيد خاصة لأن من الجلي أن كل فريق من الفريقين يصيب ويخطئ على حد سواء. فمن جهة، لا يمكن تلخيص صورة الهند في تجميع المعطيات التي كشفتها التجربة على الأرض للمراقبين؛ ومن جهة أخرى فإن صورة الهند التي نجدها في الكتب الوجيزة في الإثنولوجيا، أو في التليفزيون، إنما هي أكثر كثيرا من أن تكون سلسلة من التوهمات  خلقها خوف اللاوعي الجمعي الغربي إزاء الآخرية الهندية. ومع هذا فإن الإثنولوجيين الأكثر مزاجية عاجزون عن أن يمحوا تماما الطابع الخاص لمقدمي التقارير لهم، وينطبق الشيء نفسه على الإداريين الاستعماريين. وباختصار فإن صورة الهند التي يجري تقديمها لنا إنما هي نتاج مزيج، من التلفيق المبهم والمتعدد.
وأود أن أقترح هنا طريقة أخرى لتناول الهند، وتاريخها، وصورتها، من خارج كما من داخل شبه القارة الهندية نفسه. وتيسيرا لمهمتي فإن إطارا مقارنا بسيطا سيكون مفيدا. وتماما كما أن الهند محبوة بصور قوية فإن صورة الصين أيضا مصنوعة في الغرب عبر سلسلة من الكليشيهات، من أصل حديث أو أقدم. والمشكلة مختلفة بصورة كلية عندما نفكر في جنوب شرق آسيا. وقد درس المأسوف عليه دينيس لومبار Denys Lombard بطريقة ملائمة جدا بنية إندونيسيا في كتاب يحمل عنوانا له دلالته: Le carrefour javanais (1988) [تقاطع طرق جاوة]. وهو يعرض فيه تكوين ثقافة وفقا لعملية تراكب: على هذا النحو نجد في جاوة طبقة من التغريب سطحية نسبيا (نتيجة للوجود الاستعماري الهولندي)، ثم طبقة مختلطة من التأثيرات الصينية والإسلامية، وعند مستوى ثالث طبقة من التأثير "الهندوسي" أو على الأقل الهندي، وهكذا وهكذا وإلخ.. غير أن "أصوليا" جاويًّا، سيكون مضطرا، عند البحث عن جذوره الأصلية الحقيقية، إلى أن يتوغل بعيدا جدا من أجل العثور على شيء له دلالته يكون أصيلا تماما من الجزيرة. فهل يمكن القول، بالتالي، إن جاوة غير موجودة، لأن كل شيء نشأ في مكان آخر؟ أم ينبغي القول، على العكس، إن الخصوصية الجاوية موجودة على وجه التحديد في الطريقة التي تمتزج بها العناصر المختلفة فيها؟
 
الهند وحدودها
وماذا لو لم تكن الهند حضارة بل بالأحرى تقاطع طرق؟ فلنقدم أولا بعض المعلومات عن مفهوم "الهند" نفسه، وحدودها الجغرافية، وحدودها المفاهيمية. وكما يعرف الجميع فإن كلمة الهند ليست تسمية ذاتية؛ وهي تأتي من العربية "هند" Hind، وهذه نفسها اشتقاق من كلمة "السِّنْد" Sindh ، وهي منطقة من الهند الغربية كانت معروفة بالفعل في الغرب في فترة حملات الإسكندر الأكبر. وقد أخفقت النصوص التي كتبها الجغرافيون والموسوعيون الناطقون بالعربية في العصر الوسيط في تعيين حدود الهند، حتى وإنْ لم يكن هناك غموض فيما يتعلق ببعض المناطق الوسطى. وعلى هذا النحو فإن من الواضح أن كل مفهوم عن الهند al-Hind يجب أن يشمل سهل الجانج، والبنجاب. غير أن الصعوبات تبدأ عندما ندخل في شبه الجزيرة الهندية، وتتفاقم عندما نمضي من الهند الحالية نحو الشرق. ومن عدد من نصوص القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، نحتفظ بانطباع بأن جزءًا كبيرا من إندونيسيا (خاصة جزيرتا جاوة وسومطرة) يدخل في مفهوم الهند al-Hind، ويتضح الشيء نفسه بالنسبة للهند الصينية، وتايلندا، وبورما. وعلى سبيل الإيجاز فإن من الجلي أنه في حوالي عام 1200، كانت حدود الهند ماتزال غامضة في نظر المراقبين العرب، حتى وإنْ كان قد تم بذل قصارى الجهد في سبيل تمييز الهند (Hind) من الصين (Sin)، ومن فارس (cAjam) [عَجَم]. أما جزيرة سري لانكا، المسماة عادة Sarandib [سرنديب] في هذه النصوص، فكان يتم كذلك إدخالها أحيانا في مفهوم الهند. ووضع جنوب الهند إشكالي أيضا، لأنه يشكل جزءًا من مفهوم الهند al-Hind، غير أنه في الوقت نفسه مستبعد في كثير من الأحيان من مفهوم قريب منه هو مفهوم هندوستان (Hindustan)، الذي نجده مستعملا بالفعل في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.
وعندما نعكس المنظور، يكون من حقنا أن نتساءل عن المدى الذي يمكن فيه تطبيق هذه المفاهيم داخل الهند ذاتها. وعندئذ تتعقد المشكلة، لأن من الصعب للغاية التوصل إلى تعيين لحدود الهند من الناحية الجغرافية انطلاقا من نصوص ذات أصل هندي. وإذا استخدمنا لهذا الغرض انتشار استعمال السنسكريتية Sanskrit من حيث هي لغة ثقافة، أو أيضا وجود الممارسات البراهمانية، فإن الحدود تتسع بسرعة لتمتد إلى آسيا الوسطى من جهة، وجنوب شرق آسيا من الجهة الأخرى. وقد أسهمت هذه المناطق المختلفة التي وُصفت حديثا بأنها "كوسموپوليس cosmopolis [الموطن العالمي ﻟ] السنسكريتية"، بصورة بالغة التفاوت في إنشاء هذا "الكوسموپوليس"؛ وبالإضافة إلى هذا ، سار التمفصل بين ثقافة النخبة والثقافة الشعبية وفقا لهندسة متغيرة. وقد تقاسمت كل هذه المناطق مجموعة من السمات المشتركة بين عامي 600 و1200 الميلاديين، والمقصود استمرار ملاحم مثل المهابهاراتا والرامايانا، أو بناء المعابد وفقا لنفس المخططات التقنية، أو أيضا الطقوس التي تقام في ثقافة البلاطات. وقد جرى تقديم تفاسير عديدة لهذه الوقائع التاريخية، خاصة في المجادلات المتصلة بكتابة التاريخ في منتصف القرن العشرين. وقد ألح أنصار أطروحة الهند الكبرى Greater India على واقع أن التأثير الهندي دفع الحدود الطبيعية للبلاد بعيدا جدا، بحيث ينتمي إليها المحيط الهندي أيضا. وقد جرى الحديث على المكشوف في الثلاثينات والأربعينات عن الرسالة الحضارية للهنود في بلدان مثل تشامبا، وتايلندا، وسومطرة، وجاوة، صانعين من بوروبودور، أو أنجكور ڤات، مجد الهند خارج الهند. ومن المهم تحديد المراحل بطريقة تسمح بتقديم العملية التي تسمى "تهنيد" l’Indianisation جنوب شرق آسيا. وكان ينبغي أولا تصور أن الحضارة الهندية ظلت موجودة في صورة مكتملة إلى هذا الحد أو ذاك حوالي عام 500 بعد الميلاد: كان كل من الأدب العظيم، والهيكل الاجتماعي، والفكر الفلسفي العظيم قد توطد بالفعل آنذاك في الهند. وبالتالي فإن عملية التهنيد لم تكن أكثر أو أقل من التصدير لهذه الأبنية الهندية إلى أراض بعيدة، حيث استطاعت أن تزدهر خلال بضعة قرون.
 
الهند­ الحضارة
في قلب هذه الأفكار، نجد مفهوما­ مفتاحا، مفهوم "الهند­ الحضارة"، وهو نفسه لا يبتعد إلا قليلا عن مفهوم "الهند الأبدية". إنه مفهوم خاطئ، وينصب فخاخا تنشأ بصورة خاصة عن فكرة ثبات الهند بوجه عام، والثقافة الهندية على وجه الخصوص، هذه الفكرة التي أغوت عقولا بالغة الاختلاف مثل البانديت جواهرلال نهرو والعالم المستشرق أرثر ل. باشام Arthur L. Basham. وأساس مفهوم الهند­ الحضارة (الذي يجب أن نعتبره في سياق إطارنا بمثابة طبعة خاصة من مفهوم "الهند المنغلقة") موجود في سياق الكرونولوجيا [التسلسل الزمني] المقترحة بصورة عامة. ووفقا للسرد الرئيسي ، تشكلت الحضارة الهندية بين العصر الڤيدي ومنتصف الألفية الأولى بعد الميلاد. وحيث أن الجانب الأساسي من ثروتها الثقافية كان قائما بالفعل في هذا العهد الأخير فإن هذه الحضارة هي التي أمكن في ذلك الحين تصديرها إلى أماكن أخرى، في جنوب شرق آسيا على سبيل المثال. وعلى هذا فإن الهند لا يمكن اعتبارها منغلقة بصرامة؛ إنها منفتحة، غير أن التبادلات تتم في اتجاه واحد. فالخارج لا يستطيع أن يجلب شيئا مفيدا، لأن الهند مكتفية ذاتيا من الناحية الثقافية. وعلى العكس فإن كل شيء ينتقل من الهند نحو الخارج، ابتداءً بالتيارات الدينية الكبرى مثل البوذية التي "ستنقل الحضارة" إلى جانب كبير من جنوب شرق آسيا، وآسيا الوسطى، والصين، وحتى اليابان. ودور الخارج سلبي بصورة خاصة في سياق هذا الوضع؛ ومن هذا المنظور فإن العناصر المتنافرة مع هذا مثل الاجتياحات العسكرية الآتية من آسيا الوسطى إنما تمثل مظاهر ثانوية، إذ أن الغزاة سرعان ما سوف تستوعبهم وتستأنسهم عظمة الحضارة الهندية. ومن الناحية الجوهرية ، يُنظر إلى الوضع في الهند على أنه ثابت وإستاتيكي، نوع من الكمال الحضاري.
ومن الجلي أن الإسلام في سياق هذا الإطار الكرونولوجي لا يمكن إلا أن يكون سلبيا بوضوح. والحقيقة أن قارئ كتاب باشام The Wonder that was India [المعجزة التي كانت الهند]، تماما مثل قارئ نص نهرو ، The Discovery of India [اكتشاف الهند]، يذهله تقريبا مع ذلك أن يرى أن العصر الذي بدأ في عام 1200 بعد الميلاد كان يمثل في نظر هذا أو ذاك فترة تدهور عميق لتلك الحضارة التي كانت قد اكتملت في ذلك الحين. ونجد نفس التصور أيضا عند مؤلف غربي تماما مثل ڤ. س. نايپول V. S. Naipaul ، الذي يرى على وجه التحديد في الالتقاء بين الهند والإسلام صدام حضارات Combat de civilisations، من المفارقات أن تركع فيه على ركبتيها حضارة متفوقة على أيدي حضارة أدنى. ويستدعي نايپول، مثل نهرو، بطريقة باكية مصير مدينة ڤيجاياناجارا، المعقل الأخير وفقا له للحضارة "الهندوسية" العظيمة، التي دمرها المسلمون الأشرار في 1565. وإذا كان موقفا باشمان ونايپول متوقعين نسبيا، فإن واقع أن نهرو ذاته، المكرس باعتباره الكاهن الأكبر للفكر العلماني لليسار في الهند، قد وقع في فخاخ هذه التيارات الفكرية، يدعو إلى التأمل. ذلك أنه يوجد في نظري نموذج مشترك، حالما نقر المفاهيم القوية المتمثلة في الهند المنغلقة، والهند­ الحضارة، وبالتالي الهند المكتفية ذاتيا. وتاريخ ڤيجاياناجارا ذاته مثال بالغ الدلالة لتوضيح هذه الفكرة.
والحقيقة أن تطور مملكة ڤيجاياناجارا، التي تم تأسيسها على الأرجح في منتصف القرن الرابع عشر في كارناتاكا الحالية، كان بالغ التعقيد. إن قوة المملكة، التي تأكدت من 1350 إلى 1550، تضعف بعد ذلك: التدهور المتواصل حتى نهاية القرن السابع عشر والفتح المغولي لجنوب الهند. وفي السرود التاريخية ذات الطابع التقليدي، يجري الاحتفاظ في كثير من الأحيان بتاريخ­ مفتاح: يناير 1565، عندما لحقت الهزيمة بجيوش ڤيجاياناجارا في ساحة المعركة على أيدي تحالف يضم خمس سلطنات من جنوب الهند. غير أن المادة التاريخية التي في متناولنا تسمح لنا بتدقيق الأفكار السائدة عن الطابع الديني لهذه المملكة. وقبل كل شيء، من الجلي أنه كان يوجد تكافل ثقافي بين مملكة ڤيجاياناجارا والسلطنات المجاورة لها، في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر على السواء. وكانت كلها تشترك في ثقافة مطبوعة للغاية بالطابع الفارسي؛ طقوس البلاط ، زي الملبس، بل حتى الممارسات المالية للسلطنة الباهمانية والمملكة المسماة "الهندوسية" كانت متماثلة. وإذا كان الباهمانيون، مثل خلفائهم سلاطين البيجاپور، قد وظفوا كثيرين من البراهمة كإداريين في بلاطهم، فقد تمثلت ممارسة شائعة لدى ملوك ڤيجاياناجارا في أن يستعملوا قادة من الأتراك، والفرس، وغيرهم من المسلمين، في ميدان المعركة. ومن جهة أخرى، نجد بين خرائب مدينة ڤيجاياناجارا بعض المساجد التي تستخدمها هذه المجموعات حتى منتصف القرن السادس عشر. وفضلا عن هذا، اعتمدت القوة العسكرية لمدينة ڤيجاياناجارا إلى حد كبير على الخيول المستوردة من الخليج الفارسي والبحر الأحمر وعلى الأسلحة النارية التركية والبرتغالية. وعلى سبيل الاختصار فإنه كان لامناص من تحيز أيديولوجي قوي جدا لكي نرى في ڤيجاياناجارا منطقة هندوسية بصورة خالصة، مشتبكة في صراع لا ينقطع ضد الغزاة المسلمين. ومن الجلي أن هذا لا يعني القول إنه، في الصراعات الدورية بين ڤيجاياناجارا وجيرانها، لم تلعب الهويات الدينية لهؤلاء وأولئك أيّ دور مطلقا. وعلى العكس فإننا نود الإلحاح على واقع أن الجانب الديني لم يكن إلا جانبا بين جوانب أخرى، وأن الانقسامات كانت ، في حد ذاتها، ذات طابع ظرفي أكثر منها ذات طابع هيكلي.
 
الهندان
 فهم البرتغاليون الذين وصلوا إلى جنوب الهند حوالي عام 1500، مسألة الهويات الدينية بطريقة ملتوية جدا، حيث رسموا خرائط إثنية سياسية كان السكان الهنود ينقسمون وفقا لها إلى قسمين. من جهة، كان لدينا الجنتيل Gentils [الوثنيون]، السكان الأصليون الحقيقيون للهند، ومن الجهة الأخرى، الموري Maures (أو المسلمون)، الذين كانوا بدورهم أجانب مثل البرتغاليين. ولا شك في أن هذه الرؤية قد أضفت شرعية ما على الفتح البرتغالي، غير أنها كانت مبنية أيضا على تعارض أساسي وعدم إمكانية للتوفيق بين الموري والجنتيل. وقد تشكل عدد من الفروق الدقيقة مع الزمن. وعلى هذا النحو فإن الجنتيل، الذين كانوا مقبولين نسبيا في بداية القرن السادس عشر، عانوا من الصورة التي أضفتها عليهم الحركة المناهضة للإصلاح، وبصورة خاصة الجيل الأول من اليسوعيين والأوغسطينيين في الهند. وفيما بعد أيضا، قرب نهاية القرن السادس عشر، يتأكد اتجاه جديد، مع السياسة المسماة بالتوفيق accommodatio  بين العبادات المسيحية والعبادات الجنتيلية. وفي الوقت نفسه فإن إقامة الإمبراطورية الكبرى للمغول، في شمال الهند، قلبت حسابات البرتغاليين بشأن مستقبل إمبراطوريتهم الآسيوية رأسا على عقب. وعلى هذا النحو يمكن القول، على سبيل التبسيط، إن رؤيتين متوازيتين للهند قد نشأتا حوالي عام 1600، أصل إحداهما جنوب الهند، وتتمحور في جانب كبير منها على النصوص المكتوبة بالسنسكريتية والتامول tamoul، ونشأت الأخرى في شمال الهند حول البلاط المغولي، وترسخت جذورها بصورة خاصة في الثقافة الهندية الفارسية. وإذا كان المنظور الأول قد ركز تركيزا مسرفا على القضايا الاجتماعية، فقد تمحور المنظور الثاني حول الثقافة السياسية، مع تقديمه المغولي الأكبر في إطار مقارن كان نظيراه فيه الصوفي العظيم، ملك فارس، والتركي العظيم، المقيم في القسطنطينية.      
ومرة أخرى، ينبغي التشديد على أن هاتين الرؤيتين لم تكونا مطلقا خياليتين. ومع ذلك فقد كانتا جزئيتين جدا، وبصورة خاصة كانتا تؤديان وظائفهما عن طريق تضافر العناصر التي كانت توجد في كثير من الأحيان منتزعة من سياقها الأصلي. وفي إحدى الحالتين، كانتا توجدان في مجتمع يسوده البراهمانيون تماما، بملوك خاملين؛ وفي الحالة الأخرى، في إمبراطورية بالغة المركزية، حيث كان الملوك مستقلين بالأحرى، حتى بالنسبة "للكهان" المسلمين. وفي إحدى الحالتين، كان المجتمع بطريقة ما ينظمه الدين، باستثناء أنه كانت هناك مصاعب كثيرة من أجل إخراج العناصر التي كانت تؤلف الدين الوثني بحصر المعنى من النسيج الاجتماعي للوثنية. وفي الحالة الأخرى، كانت السلطة السياسية هي التي بدا أنها تنظم كل شيء، حتى الشئون الدينية. من جهة السنسكريتية، ومن الأخرى الفارسية. فماذا تعمل مع هذا التنوع المربك رؤية موحدة عن ماذا كانت الهند؟ ومع ذلك كانت توجد بعض المحاولات الرائعة حقا للتوفيق بين نموذجين كبيرين، في القرن السابع عشر. وبين الأمثلة الأكثر شهرة، ينبغي أن نستشهد برسائل الطبيب الفرنسي فرانسوا بيرنييه François Bernier في ستينات القرن السابع عشر. وقد وضع هذا الأخير نسقا للتراكب ، يشغل الطبقة الأولى فيه الملك المغولي وبلاطه، غير أن الوضع كان يسيطر عليه فيه في الواقع ملوك قليلو الأهمية من الجنتيل (أو الهندوسيين) الذين كان سلوكهم ينسجم مع نموذج جنوب الهند. على أن من المثير والمهم أن نؤكد أن مجموع نسق بيرنييه كان مفهوما بطريقة سيئة جدا من جانب المعاصرين، الذين احتفظوا في غالبيتهم بالفكرة التبسيطية المتمثلة في "الاستبداد الشرقي"، المتمحورة للغاية حول شخص الملك.
البحث عن النقاء الهندي
تم حل كل شيء إلى هذا الحد أو ذاك، وبشيء من الوحشية، قرب نهاية القرن الثامن عشر. كما أن الفتح البريطاني للهند، الذي بدأ في جنوب الهند في أربعينات القرن الثامن عشر، لعب في هذا دورا أساسيا، ولكن ليس حاسما بصورة كلية. أيضا في منتصف القرن الثامن عشر، قام علماء أوروبيون، مثل الإسكتلندي جيمس فريزر James Fraser أو العالم المرتزق السويسري، أنطوان پولييه Antoine Polier، بتكوين مجموعات ضخمة من المخطوطات الفارسية في الهند. كما تندرج كتابات أنكيتيل ديپيرون Anquetil Duperron حول الهند في نفس الإطار الكرونولوجي والفكري الذي تندرج فيه كتابات پولييه، أو جانتيل  Gentil، أو فريزر، التي تلح كثيرا على إسهام اللغة الفارسية من أجل فهم أفضل للهند. غير أنه، ابتداءً من سبعينات القرن الثامن عشر، تأكدت اتجاهات أخرى، جزئيا بسبب قمع الأخوية اليسوعية في أوروبا وطردها من الهند ، ولكن أيضا بفضل تكوين جمعيات علمية في الهند مثل الجمعية الآسيوية للبنغال في كالكتا. وفي سياق هذا الظرف المؤسسي والسياسي فإن العلاقة بين "الاتجاه الجنوبي" و"الاتجاه الشمالي"، أيْ بين الهند منظورا إليها من خلال موشور سنسكريتي والهند منظورا إليها من خلال موشور مطبوع بالطابع الفارسي، قد تم تغييرها جذريا. وقد استعادت الهند المطبوعة بالطابع السنسكريتي تفوقها ، وهذا ما يرمز له على أكمل وجه "تحوُّل" السير وليام جونز Sir William Jones، مؤسس الجمعية الآسيوية بكالكتا، وهو نفسه مستعرب ودارس للفارسية في البداية، إلى دارس للسنسكريتية. ولا يعني هذا أن الفارسية كانت قد اختفت، أو أن وجود المسلمين في الهند لم يؤخذ في الاعتبار، وناهيك عن مجموعات أخرى وجدت ثقافتها أصولها بصعوبة في الهند الكلاسيكية. ومن المؤكد أن الفارسية كان ما يزال استعمالها كلغة إدارة مستمرا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكان عدد من العلماء ما يزالون مستمرين في ترجمة ونشر النصوص الفارسية العظيمة للهند المغولية. غير أن الشيء المهم يتمثل في المكانة التي أرادوا منحها في هذا الظرف الجديد لكل ما لم يكن نابعا من قلب الهند. والواقع أن هذه الإبداعات الأخرى والمعارف الأخرى جرى النظر إليها ابتداءً من هذه اللحظة بطريقة نفعية (من أجل فهم عقلية المسلمين، على سبيل المثال)، غير أنها من نواح أخرى لعبت دور طبقة مفتعلة، حالت دون الوصول إلى معرفة حقيقية عن الهند. ومع ذلك فإن مجموعة النصوص المكتوبة بالسنسكريتية كانت موضوعا لنوع من التنقية، حيث تمت غربلة الفيلولوجيا أو التخلص من كل ما نظر إليه على أنه متأخر. وفي ذلك الحين، تم تأسيس خطاب عالمي عن فساد الهند،  يمضى من التاريخ الأدبي إلى الحياة الاجتماعية. وكان من الصعب للغاية إعادة تفسير عدد من الجوانب بهذه الطريقة، مثل الموسيقى المسماة "الكلاسيكية" للهند، التي كانت متأثرة جدا بكل جلاء، في شمال الهند وجنوب الهند على السواء، بتغيرات بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر. وحتى في هذا الحقل فإن البحث الاستحواذي عن الجذور في الهند القديمة بدأ في القرن التاسع عشر؛ وقد تواصل من جهة أخرى إلى يومنا هذا: يريد بعضهم بالفعل العودة بالممارسات المعاصرة إلى العصر الڤيدي.           
وفي سياق مناقشتنا فإن هذا البحث المستميت عن النقاء الهندي، وعن عصر ذهبي في الهند الكلاسيكية، لن يسمح لنا باعتبار الهند مجالا منفتحا، كما أنه جعل من الهند مجالا غير طبيعي للتأملات ذات الطابع المقارن. وابتداءً من اللحظة التي جرى فيها اختزال الثقافة الهندية الحقيقية إلى ثقافة الهند الكلاسيكية، كان كل شيء آخر إفسادا، زائدة، تلوثا. وفجأة، كان علماء الهنديات الحقيقيون الوحيدون في الغرب هم علماء السنسكريتية، وبين هؤلاء كانت النخبة تتألف من المتخصصين في أصل Ursprung الهند، والنصوص الڤيدية، و الملاحم. وجاء الزواج بين الاستشراق والرومانسية الألمانية ليؤكد هذا الوضع للأشياء في القرن التاسع عشر. ومن الجلي تماما أن هذا لا يعني أنه لم تكن هناك أصوات رافضة، أو علماء فكروا بطريقة مختلفة. ودارس الإسلاميات الفرنسي الشهير جارسان ده تاسي Garcin de Tassy، مثال جيد لهم. غير أن طريقه بالغ الدلالة والأهمية، لأنه كان يهتم قبل كل شيء بالثقافة الشعبية والشفاهية في الهند. ومع العمل في هذا الحقل، كان من الجلي أن نفس مفهوم الثقافة الهندية الخالصة كان من المستحيل تحديده، ويبقى من الأصعب العودة بها إلى عصر كاليداسا. ولكن إذا وضعنا جانبا الاهتمام الذي أولاه بعض العلماء الغربيين لكل هذه الثروة من الثقافة القروسطية الهندية فإنها قد أُهملت. وقد قيل بسهولة إن الهند لم يكن لها تاريخ، لأن الإقرار بوجود هند ما بعد كلاسيكية كان بالغ التكلفة من الناحية الإبستمولوجية. أما علماء الأنثروبولوجيا في النصف الثاني من القرن العشرين، الذين أنكروا بإصرار مجرد ضرورة دراسة تاريخ الهند، فقد وجدوا أنفسهم بالتالي داخل هذا الخط للتراث المشئوم للهند المنغلقة؛ بل ذهبوا أحيانا أبعد من علماء القرن التاسع عشر، مشددين على سبيل المثال على التطابق البنيوي بين الثقافة الراهنة في الهند وثقافة الملاحم القديمة. 
التحديثيون والتقليديون الجدد
في الهند ذاتها، تأكدت هذه الميول أكثر فأكثر خلال القرن التاسع عشر. وقد عبر التصور العلمي للماضي الهندي عن نفسه بوجه عام وفقا لطريقين متعارضين في الظاهر، ولكنهما مشتركان فيه في الحقيقة، يمكن أن نسميهما "التحديثيين" و"التقليديين الجدد". وقد قبل الأولون على وجه الإجمال معاينة الفساد البنيوي للمجتمع الهندي حوالي عام 1800، ليقترحوا بعد ذلك إصلاحات مصممة بعبارات مماثلة تماما لعبارات الحكومة الاستعمارية. وفي البنغال، حيث كان الخطاب الاستعماري هو الأكثر انتشارا دون شك، كان المصلحون يرسمون في كثير من الأحيان اللوحة الخاصة بمجتمع هندي قبل وصول البريطانيين حيث كان كل شيء تقريبا عنفا، ووحشية، وفسادا. أما التقليديون الجدد فإنهم، مع القبول تماما لجانب من هذه المقترحات، أرجعوا الجانب الأساسي من المسئولية عن هذا الوضع للأشياء إلى التأثير الشرير للعالم الخارجي على الهند؛ وقد صار هذا منذ بداية القرن العشرين الأيديولوجية الرسمية للأحزاب السياسية الهندوسية اليمينية المتطرفة. وفي كثير من الأحيان، كانت الثروة الثقافية والفكرية للنخبة الهندية التي شاركت في النضال ضد الاستعمار محدودة بصورة لا تسمح بفرز جديد، أو إيجاد طريق ثالث. وإذا كان إغراء إدراج الماضي في مفهوم العصر الذهبي الذي كانت تمثله الهند الكلاسيكية ماثلا في كثير من الأحيان لدى غاندي، فإنه يدهشنا خاصة وأن أسرة غاندي من ناحية الأم كانت تنتمي إلى مجموعة "توفيقية" syncrétique من جوجارات، كانت تستمد قاموس مفرداتها وتصورها للعالم من الإسلام والعبادات الهندوسية في آن معا. ومع ذلك فإن غاندي لم يأخذ في اعتباره في كتاباته وأحاديثه العامة جانبا كبيرا من هذا التراث القروسطي الغني، وألح أكثر كثيرا على النصوص الأصلية للهند القديمة، ومنها باجاڤاد جيتا Bhagavad Gîta[xxxi] التي فسرها غاندي وفقا لقراءة مطبوعة بوضوح بطابع تأثير الإرساليات المسيحية. كما أن أيديولوجيين آخرين من حزب المؤتمر كانوا يبدون أيضا ترددهم البالغ عندما كان الأمر يتعلق بالاغتراف من الماضي لدعم السياسة الثقافية للهند المستقلة. وباستثناء مولانا أبو الكلام آزاد، الذي يندرج إلى هذا الحد أو ذاك في سياق استمرارية التيارات الدينية للعصر المغولي، وأيضا باستثناء ب. ر. أمبيدكار B. R. Ambedkar، الذي أدار ظهره للأسطورة الغاندية الكبرى عن الهند الكلاسيكية ليقترح البوذية الجديدة كحل أيديولوجي للمنبوذين، فإن المفكرين السياسيين الآخرين في منتصف القرن العشرين لم يستطيعوا إلا بصعوبة أن يتفادوا فخ الهند المنغلقة. وقد سجلنا من قبل، على سبيل المثال، أن نهرو، "التحديثي" المطبوع في الظاهر بطابع التغريب، وجد نفسه واقعا أيضا في فخ الخطاب التقليدي الجديد.     
ويحق لنا أن نتساءل إلى أي مدى لا يمثل هذا الإضفاء للطابع الأسطوري على الماضي الهندي عملية "طبيعية"، مماثلة لتلك التي توجد في الحالة الفرنسية، أو الحالة الإيرانية، أو حالات أخرى. ومن البديهي أن كل فعل بناء وطني إنما هو جزئيا فعل إضفاء لطابع التجانس، مكرس بحكم طبيعته ذاتها لتدمير التنوع الثقافي. على أنني، على العكس من بعض زملائي في الهند، لا أعتزم هنا محاولة إثبات أن القومية الهندية بما هي كذلك ليست شرعية؛ ففي عالم يتألف من قوميات متنافسة، ليس من البديهي وضع إستراتيجية حتى للبقاء، لا تغدو عند درجة ما قومية. وفضلا عن هذا فإن الحجة العالمية ضد القومية تبدو لي قليلة البراءة، لأنها تهدف إلى تقويض الاستقرار القومي لبلدان بعينها، محولة قومية البلدان الأخرى إلى نزعة عالمية زائفة. وفي الحالة الخصوصية للهند فإن الحجتين المقدمتين لدعم القومية إحداهما ذات طابع ثقافي والأخرى ذات طابع ديني. ويبدو لي أن الحجة الثانية تقوم على أيديولوجية غير مرغوبة، وهي أيضا بالغة الخطورة في الممارسة، لأنه حالما يقر المرء هذا النوع من التفكير فإنه لا يكون بعيدا عن تبرير التطهير الإثني للمستقبل. وتبدو لي الحجة الأولى مفيدة أكثر، حتى إذا كان بعض المفكرين الهنود، مثل التقليدي الجديد أشيس ناندي Ashis Nandy، أرادوا أن يستوعبوا في نهاية المطاف الثقافة الهندية في الثقافة الهندوسية، مختزلين على هذا النحو الحجتين إلى حجة واحدة. ويبدو لي من الممكن بالتالي الدفاع عن فكرة الهند باعتبارها أمة، دون أن ندفع بعيدا جدا مفهوم التجانس، لا في المظهر الديني ولا في المظهر اللغوي أو الإقليمي. وينبغي بصورة خاصة الإقرار بوضوح بأن الثقافة الهندية كما نجدها اليوم تحمل بقوة طابع مجموعة كاملة من الثقافات المجاورة وحتى البعيدة، ولكن أيضا بأن هذا لا يجعل من الهند بلدا على شاكلة إيران أو إندونيسيا. فالهند أيضا نتاج تاريخها القروسطي أكثر كثيرا مما يُعتقد، وكانت الآثار الباقية من الهند القديمة بدورها قد جرى في كثير من الأحيان تعديلها أو إعادة تفسيرها من جانب الهياكل الإقليمية التي تطورت في الهند بين القرن العاشر والقرن الثامن عشر. وهذا جلي في حالة الملاحم العظيمة، المعروفة بصورة خاصة في الهند بواسطة روايات إقليمية تم إنتاجها في ذلك العصر.        
والحاصل أن إعادة التفكير في الهند على أنها تقاطع طرق أكثر منها حضارة تجبرنا على أن نغير بعمق ليس فقط عادات التفكير، بل أيضا الممارسات العلمية، في الغرب كما في الهند. وبدلا من فهم الهند على أنها لعبة بسيطة من الذهاب والإياب بين حاضر علماء الإثنولوجيا وعلماء السياسة، والماضي السحيق لأعماق الهند المحاطة بضباب من الغموض، ينبغي أن نعيد إلى الهند التاريخية مكانتها، سواء في الوسط الأكاديمي أم في المجال العام على وجه الإجمال. ولكن لماذا الرغبة في التوقف عند هذا؟ الحقيقة أن الوضع الحالي للهويات في فرنسا وفي ألمانيا لا يجب أن يدعنا غير مدركين لرهانات هذه المسألة، الذي يمضي حقا، مرة أخرى، إلى ما وراء الخصوصية الهندية.
 
مصادر
 
– Basham (A.L.), La Civilisation de l’Inde ancienne, Paris, Arthaud, 1976.
 – Dumont (L.), Homo Hierarchicus: Essai sur le système des castes, Paris, Gallimard, 1966.
 – Lombard (D.),  Le Carrefour javanais: Essai d’histoire globale, 3 vol., Paris, éd. De l’EHESS, 1988.
– Markovits (C.), dir.,  Histoire de l’Inde moderne, 1480-1950. Paris, Fayard, 1994.
–  Markovits (C.), Gandhi, Paris, Presses de la FNSP, 2000.
– Naipaul (V.S.), India: a Million Mutinies Now, Londres, Heinemann, 1990.
– Nehru Jawaharlal, The Discovery of India, Calcutta, Signet Press, 1946.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
إشارات


[i]  نص المحاضرة 313 من محاضرات جامعة كل المعارف؛ ألقيت في 8 نوڤمبر 2000.
[ii]  أو: بديع، فهو من أصل إيراني- المراجع.
[iii]  Mitrany (D.), A Working Peace System, Londres, Royal Institute of International Affairs, 1943.
[iv]  انظر Badie (B.), Un monde sans souveraineté, Paris, Fayard, 1999.
[v]  Habermas (J.), Après l’État-nation, Paris, Fayard, 2000.
[vi]  نص المحاضرة 317 من محاضرات جامعة كل المعارف؛ ألقيت في 12 نوڤمبر 2000.
[vii]  مالم نعتبر أن فترة ما بعد 1989 لم تقم إلا بإطالة أمد "الميول التي عبرت عنها المعاهدة [معاهدة ڤرساي] وأضفت عليها الشرعية"، أيْ تفكك الإمبراطوريات وتكوين الدول- الأمم. انظر  Pomian (K.), “Le traité de Versailles: quatre-vingts ans après” in Porret (M.) (et al.) Guerre et Paix, Genève, Georg, 2000, p.182.
[viii]  Kundera (M.), “L’Occident kidnappé: la tragedie de l’Europe centrale”, Le Débat (novembre 1983), p.4.
[ix]  انظر اللوحة المقارنة في الملحق.
[x]   للاطلاع على بيانات الأداء الاقتصادي لبلدان أوروبا الوسطى والشرقية؛ انظر Pagé (J-P.) (dir.), Tableau de bord des pays d’Europe centrale et orientale, Paris, CERI, 2000.
[xi]  حول هذه التصورات المتبادلة؛ انظر Todorova (M.), Imagining the Balkans, Oxford, Oxford University Press, 1997, p. 140-160.
[xii]  انظر حديث برونيسلاڤ جيريميك Bronislaw Geremek، المؤرخ ووزير الشئون الخارجية الپولندي، في الندوة المنعقدة احتفالا بالذكرى اﻟ 50 للمجلة الپولندية كولتوراKultura  [الثقافة]، التي نشرها جيدرويتش Giedroycz  في پاريس خلال نصف قرن، والتي كانت مقالاتها تدعو منذ وقت طويل إلى مصالحة پولندية أوكرانية وپولندية ليتوانية بغرض التمكن من إقامة علاقة جديدة مع هذين الإقليمين "المفقودين". ندوة المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، پاريس، ديسمبر، 1999.
[xiii]  Cf. Rupnik (.) (dir.), De Sarajevo à Sarajevo, Bruxelles, Complexe, 1992; Rupnik (J.) (dir.) Balkans: paysage après la bataille, Bruxelles, Complexe, 1996; International Commission on the Balkans, Unfinshed Peace, Washington, Carnegie Endowment, 1996; Independent International Commission on Kosovo, The Kosovo Report, Oxford, Oxford University Press, 2000.
[xiv]  إذا استعدنا عنوان كتاب ميشيل فوشيه "جبهات وحدود في أوروبا" Michel Fouchet, Fronts et frontières, Paris, Fayard, 1991.
[xv]  Schuman (R.), Pour l’Europe, Paris, Nagel, 1963, p. 23.
[xvi]  يكفي للاقتناع بهذا أن نرى أن التوسيع ليس فقط لا يشكل أولوية بالنسبة للرأي العام الغربي بل أن 6٪ فقط من النمساويين و3٪ من الألمان يؤيدون الانتقال الحر لقوة العمل من بلدان أوروبا الوسطى المرشحةSondage) Eurostat publié à Bruxelles en mars 1998; compte rendu de l’agence CTK le 16 mars  ( 1998. وبعبارة أخرى، ليس المقصود بهذا ناخبي هايدر Haider فقط بل أيضا ناخبي شرودر Schroeder.
[xvii]  Giscard d’Estaing (v.) et Schmidt (H.), “Time to slow down and consolidate around ”, International Herald Tribune, 11 avril 2000.
[xviii]  Havel (V.), Le Monde, 23 juin 1995.
[xix]  نص المحاضرة 318 من محاضرات جامعة كل المعارف؛ ألقيت في 13 نوڤمبر 2000.
[xx]  يرى إرنست رينان (1823- 1892) أن الأمة هي استفتاء يومي على الاتحاد- المراجع.
[xxi]  شخصية كوميدية هي أكثر شخصيات مسرح العرائس أصالة- المراجع.
[xxii]  نص المحاضرة رقم 308 من محاضرات جامعة كل المعارف؛ ألقيت في 3 نوڤمبر 2000.
[xxiii]  انظر حول هذا الموضوع المحاضرة رقم 305 من محاضرات جامعة كل المعارف والتي ألقاها پ. كيپريه.
[xxiv]  Suret-Canale (J.), Afrique Noire. L’ère coloniale, 1900-1945, Paris, Éditions Sociales, 1964.
[xxv]   هذا التمييز بين "مجتمعات بلا دول" و"مجتمعات ذات دول" ماثل في أساس الأنثروپولوجيا السياسية الحديثة وأيضا في جذر الكتابة التاريخية [historiographie] الأفريقية المعاصرة، سواء أكانت أفريقية بحتة أم "دولية"، أيْ في الواقع الأفريقية أو الغربية. 
[xxvi]  ظهرت إمبراطورية رباح في أواخر القرن التاسع عشر في وسط السودان بقيادة رباح المنحدر من سنار. وفي سبعينيات القرن التاسع عشر، حارب رباح في بحر الغزال ودارفور ضد المستعمرين الإنجليز. وبعد أن استولى الإنجليز على هذين البلدين، انسحب رباح مع فصائل تتألف من المقاتلين الدينكا والكريش إلى إقليم بحيرة تشاد. واستولت قواته على بورنا ومعظم أراضي باجيرما وجزء من واواي. وقد أبدت قوات رباح مقاومة بطولية للقوات الفرنسية التي بدأت في عام 1899 زحفا على إقليم بحيرة تشاد ولحقت الهزيمة بكتيبتين فرنسيتين أماميتين. لكن الفرنسيين تمكنوا في عام 1900 من سحق مقاومة الأفارقة. واستشهد رباح في المعركة- المراجع.
[xxvii]  Ranger (T.O.), “Connexions between < Primary Resistance> Movements and Modern Mass Nationalism in Eastern and Central Africa”, Journal of African History, IX (1968), 3 (p. 437-453)-4 (p. 631-641).
[xxviii]  Nkrumah (K.), The Autobiography of Kwame   Nkruma, Edinburgh, Thomas Nelson & Sons, 1957, p. 282.
[xxix]  نص المحاضرة 305 من محاضرات جامعة كل المعارف؛ ألقيت في 31 أكتوبر 2000.
[xxx]  نص المحاضرة 303 من محاضرات جامعة كل المعارف؛ ألقيت في 29 أكتوبر 2000.
[xxxi] أنشودة الرب، جزء من المهابهاراتا- المراجع.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العقائد الدينية والمعتقدات السياسية
- إلى أين يقود علم الوراثة؟ - چان ڤايسينباخ
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الثانى
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها - الجزء الأول
- القرن الحادي والعشرون: حلم أم كابوس؟
- الذكرى الأولى للثورة تقترب والمجلس العسكرى يسير بنا على الطر ...
- الحوار بين الثورة والواقع
- مطالب وأهداف الموجة الثورية الراهنة
- موجة 19 نوڤمبر 2011 الثورية الجديدة
- مرة أخرى حول مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى مصر
- الاحتجاجات المسماة بالفئوية جزء لا يتجزأ من الثورة
- مقاطعة الانتخابات الپرلمانية والرئاسية من ضرورات استمرار الث ...
- مذبحة ماسپيرو تضع الثورة أمام التحديات والأخطار الكئيبة
- مقدمة خليل كلفت لترجمته لكتاب: -كيف نفهم سياسات العالم الثال ...
- ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها تقديم للمؤلف خليل كلفت
- كتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية
- الثورة المصرية الراهنة وأسئلة طبيعتها وآفاقها
- الديمقراطية .. ذلك المجهول!
- خواطر متفرقة من بعيد عن الثورة العربية
- الحزب الحاكم القادم فى مصر


المزيد.....




- جملة قالها أبو عبيدة متحدث القسام تشعل تفاعلا والجيش الإسرائ ...
- الإمارات.. صور فضائية من فيضانات دبي وأبوظبي قبل وبعد
- وحدة SLIM القمرية تخرج من وضعية السكون
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /25.04.2024/ ...
- غالانت: إسرائيل تنفذ -عملية هجومية- على جنوب لبنان
- رئيس وزراء إسبانيا يدرس -الاستقالة- بعد التحقيق مع زوجته
- أكسيوس: قطر سلمت تسجيل الأسير غولدبيرغ لواشنطن قبل بثه
- شهيد برصاص الاحتلال في رام الله واقتحامات بنابلس وقلقيلية
- ما هو -الدوكسنغ-؟ وكيف تحمي نفسك من مخاطره؟
- بلومبرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث وجهة النظر الأوكرانية لإنها ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - محاضرات سياسية عن أوروپا وتركيا وأفريقيا والهند