أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عدنان عاكف - قوموا انظروا كيف تزول الجبال















المزيد.....


قوموا انظروا كيف تزول الجبال


عدنان عاكف

الحوار المتمدن-العدد: 3584 - 2011 / 12 / 22 - 08:45
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


قوموا انظروا كيف تزول الجبال
الى الكاتب عبد القادر أنيس
عدنان عاكف

مرة أخرى يطل علينا د. كامل النجار بمقالة من سلسلة مقالاته التي دأب على نشرها والتي يدعي انها مكرسة لنقد الفكر الديني، وكانت بعنوان " إله القرآن يتوه في الجبال "، - الحوار المتمدن، 4/12/2011 - لا أعتقد ان القارئ بحاجة الى الكثير من الذكاء ليدرك من العنوان انه أمام مقالة جديدة نهدف الى النيل من المسلمين ولا علاقة لها بالنقد الديني . وكانت تعليقات القراء بمعظمها لتكريس نفس الاتهامات التي يكررها الكاتب.. أما الاستثناء فقلة قليلة جدا، كان من أهمها تعليق الكاتب عبد القادر أنيس الذي سوف أتوقف عنده لاحقا.
لنبدأ بتعقيب الكاتب عبد القادر أنيس :

" شكرا للدكتور النجار على إتحافنا بهذه المقالة. من يقرأ حكايات الجبال في القرآن بعد أن يكون قد نفض عن عقله غبار الإيمان الساذج يشعر بالحيرة من تمكن هذه المعرفة البسيطة من الصمود والهيمنة على عقول الناس حتى اليوم رغم أن حكاية الجبال كما ترويها الجيولوجيا صارت تدرس لتلاميذ الابتدائي، بحيث صاروا يعرفون علم تدافع القارات وصعود أغلب السلاسل الجبلية على سطح الأرض بالإضافة طبعا إلى دور البراكين في تشكيل الجبال أيضا. وصرنا نعرف أن عمر الجبال يختلف من منطقة إلى أخرى ولم تنشأ كلها في حقبة زمنية واحدة، فهناك التي يبلغ عمرها مئات الملايين من السنين (التكتونية) وهنا من لا يتجاوز عمرها الآلاف (البركانية)، وكل هذه المعارف يعرفها التلاميذ لكن يتم قولبة عقولهم بحيث تتقبل التفسير العلمي والتفسير الخرافي القرآني دون اكتشاف هذه التناقضات أو التساؤل حولها.
إنها محنة العقول التي لا تزال خاضعة للإيمان الساذج.
تقديري أن أفضل رد على هذا الاجتياح الديني في مجتمعاتنا على الضد من باقي مجتمعات العالم هو مزيد من التنوير بهذه الطريقة ".
هذا تعقيب شاذ وفريد من نوعه مقارنة بالتعقيبات الأخرى، بحيث يبدو وكأنه ليس في مكانه وزمانه.. قد يعترض البعض على ما ورد فيه من معلومات وقد يثير ملاحظة هنا أو هناك ولكنه كان في صلب الموضوع الذي يفترض ان د. النجار عقد العزم على مناقشته. لدي ملاحظات صغيرة لو سمح بها السيد أنيس. كان من الممكن ان يكون التعليق أكثر نفعا للكاتب ولنا نحن القراء، وان يغني الموضوع بمعلومات اضافية لو ان السيد أنيس ابتعد عن اسلوب المجاملة الناعم، الذي تمتاز به في العادة تعليقاته. نعم ، ما أحوجنا الى الحوار البناء الهادئ وحتى المجاملة أحيانا، ولكن شرط ان لا يكون على حساب الحقيقة والمعرفة. أين هي التحفة التي أتحفنا بها د. النجار ، كما ورد في مطلع تعقيبه؟ المقالة برمتها ومن عنوانها حتى آخر نقطة ليست اكثر من محاولة استفزاز لمشاعر المسلمين وإهانة معتقداتهم الدينية وسعي لإثارة غريزة الكراهية والعداء القابعة في نفوس البعض من أتباعه ضد المسلمين و تاريخهم وحضارتهم ، والسخرية من عقولهم، التي أعلن النجار في أكثر من مرة بان المسلمين قوم بلا عقول بعد ان سرقها منهم محمد قبل 1400 سنة. تعال يا صديقي نتوقف عند رده على تعليقك، علك تساعدني في العثور على التحفة العلمية والفكرية الكامنة فيه. يقول النجار في رده :
" شكراً لك أخ عبد القادر على المرور والتعقيب. وكما ذكرت فإن أعمار الجبال تختلف من منطقة إلى أخرى ومع ذلك يصدق المسلمون أن الله خلق الأرض في يومين وسطحها ثم ألقى عليها الجبال لتحفظ توازنها. ما أسعد الجهلاء"
نحن لا نتحاور من أجل تبادل التحايا والإطراء، وليس من أجل ابداء الملاحظات السلبية أو الايجابية فحسب بل ومن أجل اغناء معارفنا بمعارف ومعلومات جديدة. فما الذي أضافه تعقيب النجار غير السخرية من المسلمين؟ وأرجو القارئ ان يعير انتباهه جيدا ان النجار، في هذه الفقرة، كما هي عادته، يعمم ليكون وصفه شاملا لكل المسلمين. كل المسلمين وبدون استثناء، العلمانيين منهم والأصوليين، المثقفين والأميين، المتقين واللصوص القتلة كلهم يتمرغون في السعادة لأنهم كلهم من الجهلة. ومع كل هذا أقول:
لو أخذنا بوجهة نظر د. النجار عن التناسب الطردي بين الجهل والسعادة سيبدو النجار من خلال هذا الرد بأنه من أسعد الناس ( على أقل تقدير بالنسبة لي ). لو عدنا الى التاريخ سنجد ان المسلمين آخر من اعتقد ان الله خلق الأرض بيومين. فقد سبقهم الى هذا المعتقد كل من اليهود والمسيحيين، ويقال ان فكرة أيام الخلق في الأصل جاءت من سكان ما بين النهرين القدامى.. والتاريخ يؤكد ان المسلمين كانوا من أول من نادوا بقدم الأرض وقد سبقوا الأوربيين في هذا بأكثر من ثمانية قرون.. وفي الوقت الذي كان فيه الأوربيون يعتبرون من يقول بكورية الأرض نوع من الهرطقة أقدم المسلمون أكثر من مرة على قياس محيط الكرة الأرضية.
وتتجلى سعادة د. النجار في أبلغ معانيها في هذا التعقيب والرد عليه:
تعقيب من أحد القراء :
نشكر لهذا الموضوع الجميل وكالعادة ... سيناريوهات عديدة لنهاية الجبال كلها تنقض بعضها .. فتارة تخسف وتارة تنسف و تارة تمشي و تارة تصبح تدك مرة واحدة .... والاجمل من ذلك هو آية (وحُملت الأرض والجبال فدكتا دكةً واحدة ) فأين تدك الأرض ؟ الجبال تدك في الارض و لكن من عن ماذا تحمل الارض ؟ و على اي شيء تدك ؟
رد الدكتور النجار:
شكراً لك على التعقيب. أعتقد أن الأرض سوف يدكها رب القرآن على رؤوس الملائكة الثمانية الذين يحملون عرشه عقاباً لهم على صبرهم العجيب وحمل العرض ترليونات السنين دون شكوى أو ملل".
رد المرحوم أبي الريحان البيروني على النجار وزميله، وكذلك يجد فيه القارئ ردا مباشرا على كل من كان يصر بان الأرض خلقت في يومين وان عمرها لا يزيد عن سبعة آلاف، وهي الفكرة التي بقيت راسخة في الوسط العلمي في أوربا حتى منتصف القرن التاسع عشر :
" وأن توصلنا بالدلائل العقلية والقياسات المنطقية الصحيحة إلى معرفة حدث العالم ... ولا نعلم من أحوالها ( الأرض ) إلا ما نشاهد من الآثار التي تحتاج في حصولها على مدد طويلة كالجبال الشامخة المتركبة من الرضراض المؤتلفة بالطين والرمل المتحجرين ، فإن من تأمل الأمر من وجهة علم أن الرضراض والحصى هي حجارة تنكسر من الجبال بالانصداع أو الانهدام ، ثم يكثر عليها جرى الماء وهبوب الرياح ويدوم احتكاكها فتبلى ( تتفتت ) ، وأن الفتات التي تتميز عنها هي الرمال ثم التراب، وأن ذلك الرضراض لما اجتمع في مسايل الأودية حتى انسكبت بها وتخللها الرمال والتراب فانعجنت بها واندفنت فيها وعلتها السيول فصارت في القرار والعمق ، بعد أن كانت على وجه الأرض ، وتحجرت بالبرد لأن تحجر أكثر الجبال في الأعماق بالبرد ")


وأنا بدوري أتوجه الى زميلي أنيس وأسأله: أليس من الأجدر والأنفع لنا جميعا لو ان د. النجار أكد في رده على التعليق ( كما فعلت أنت وكنت محقا ) بان العلم الجيولوجي الذي يدرس لأبنائنا في الثانوي يؤكد على ان الأرض في تغير دائم ولا يتوقف " فتارة تخسف وتارة تنسف و تارة تمشي و تارة تصبح تدك مرة واحدة ...." ان صاحب التعليق وصاحب الرد عليه يجهلان ما يتعلمه التلاميذ في الثانوي عن ما تتعرض له الأرض من تعرية وتجوية .
وهذا نموذج لتعليق آخر أثرى معارفنا وفتح عقولنا المغلقة منذ 1400 سنة.
تعقيب :
تبقى في القمة .أحسنت صنيعا يا دكتور فهذه المواضيع المكملة للمواضيع الاخرى في كشف حقيقة صنع القرآن هذا الكتاب الارهابي على يد اول قائد لتنظيم القاعدة في التاريخ محمد غضب الله عليه وزجه في نار جهنم,, نشكرك كثيرا وننتظر المزيد منك والرب يعطيك الصحة والعافية.
الرد:
"شكراً لك على المرور والإطراء"
كان السيد أنيس قد أنهى تعقيبه على النحو التالي :
" تقديري أن أفضل رد على هذا الاجتياح الديني في مجتمعاتنا على الضد من باقي مجتمعات العالم هو مزيد من التنوير بهذه الطريقة ".
أهذه هي الطريقة الأفضل للتنوير والرد على الاجتياح الديني في مجتمعاتنا؟ لا أعتقد ذلك. ان الطريقة الأمثل للوقوف أمام زحف السلفيين والأصوليين والجهلة لا يكون في تسفيه الحضارة العربية الإسلامية واظهار المسلمين بكونهم شلة من الجهلة والقتلة عبر التاريخ، بل من خلال الكشف عن حضارتهم الحقيقية الناصعة والدور الحقيقي الذي لعبوه في تطور العلم وتقدم الحضارة الإنسانية . لنترك الحكم لرأي أصحاب الشأن من المتخصصين في تاريخ العلم الذي تدخل المواضيع المثارة في مقال د. النجار الأخير ( الموضوع متعلق بموقف المسلمين من تضاريس الكرة الأرضية وما يحدث على سطح الأرض من ظواهر طبيعية ). وهذا العلم هو الجيولوجيا...
عصر انحطاط العلم في الغرب وازدهاره في الشرق
أدناه فقرات مترجمة من كتاب " تاريخ العلوم الجيولوجية ومنهجيتها " الصادر عام 1997 عن جامعة موسكو. مؤلف الكتاب هما البروفيسور ب. ي. خاين والبروفيسور أ. غ. ريابوخين. الأول كان لي شرف أن أكون أحد طلبته في كلية الجيولوجي في جامعة موسكو في ستينات القرن الماضي. والذي دفعني الى اختيار الكتاب كونه مركز جدا، إذ أعار المؤلفان اهتمامهما بالدرجة الأولى الى المعارف النظرية و الجوانب الفكرية. لذلك يمكن القول انه ليس كتاب عادي في تاريخ الجيولوجيا بقدر ما هو كتاب يستعرض صراع الأفكار منذ أقدم العصور وحتى نهاية القرن العشرين. ولا أنكر ان هناك دافع شخصي يتعلق بشخصية المؤلف. البروفيسور خاين من علماء الجيولوجيا المشهورين ليس على مستوى روسيا فحسب، بل وعلى مستوى العالم. بالإضافة الى انه لا يخفي بعده التام عن جميع المعتقدات الدينية مع كونه يهودي. قبل فترة كنت قد ترجمت فصلا من كتاب " المسيحية وعمر الأرض " فاتهمني البعض بأني أبشر بآراء مسيحيين متزمتين، ومن قبلها لم يتردد البعض بالمطالبة بمنع مقالاتي من النشر على موقع الحوار المتمدن. لذا لم يعد يدهشني لو ان أحدهم اتهمني بالتبشير لأفكار يهودية، أو حتى صهيونية.
بما ان الكتاب موجه بالأساس الى ذوي الاختصاص من أساتذة وطلبة جامعة في العلوم الجيولوجية سوف أسمح لنفسي بإضافة بعض الفقرات التي من خلالها يمكن توضيح بعض القضايا التي قد تبدو غير مفهومة للقراء العاديين. إضافة الى ذلك سأتوقف عند نصوص أصلية لبعض العلماء المسلمين الذين سوف يتوقف عندهم المؤلفان. وما دام الحديث في مقالة النجار وفي التعليقات كان يدور عن الجبال وأوتادها واندثارها ( أي عن التضاريس ) فسوف نتوقف عند هذه المواضيع فقط، لنرى الى أي مدى كان النجار معبرا عن الحقيقة " العلمية "، الذي يدعي انه مدافعا عنها ومدى استيعابه للمادة التي كرس لها مقالته، وخاصة ما يتعلق بالمسلمين وعقليتهم.
2.2 – الفصل الثاني - القرون الوسطى :
عصر انحطاط العلم في الغرب وازدهاره في الشرق :
مع سقوط روما وتفكك الامبراطورية الرومانية بدأ عصر جديد في تاريخ البشرية، عرف باسم " القرون الوسطى . امتد من القرن الثالث حتى القرن الثالث عشر ، أي نحو ألفية كاملة. وقد شهدت أوربا خلال هذه الفترة تفتت اقطاعياتها وسيادة المسيحية بكونها الدين السائد الذي الذي سيطر على أفكار الناس ومعتقداتهم.
قام البابا غريغوري الأول في القرن السادس بحرق مكتبة روما وأصدر أمره بمنع قراءة الكتب القديمة ( اليونانية والرومانية ) وحرم دراسة الرياضيات والعلوم الطبيعية بسبب " ارتباطها الوثيق بالوثنية ". وأعلن ان عدم المعرفة هي " التقوى ". كل الاستنتاجات العلمية مرفوضة كليا ما لم تتفق مع ما وارد في الكتاب المقدس. و في زمنه كان كل من يتوصل الى استنتاجات كهذه يتعرض الى عقوبات رهيبة، كما حصل مع غاليلو وجوردانو بوردو فيما بعد. ولهذا كان الأوربيون يتعاملون مع بقايا الأصداف البحرية وعظام الحيوانات الفقرية بكونها بقايا آثار الطوفان العالمي أو بكونها تكوينات من " لهو الطبيعة " أو من ابداع " القوة المرنة للطبيعة"، وغير ذلك من التعابير التي كانت كلها تحاول ابعاد الذهن عن كونها بقايا كائنات عضوية قديمة.... لقد دخلت أوربا في مرحلة جمود فكري تام. وقد كتب الجيولوجي الفرنسي الشهير اولنبرج في كتابه عن تاريخ علم الجيولوجيا حول هذه الفترة :
" كانت الحضارة اليونانية – الرومانية في الغرب قد فقدت الكثير من وهجها وأخذت تنطفأ لتغرق في الفوضى، واستمر هذا الوضع حتى القرن الحادي عشر - القرون المظلمة على حد تعبير البريطانيين -. على الضد تماما من ذلك شهد الشرق في القرنين السابع والثامن، وبشكل لم يكن بالحسبان، وبصورة مفاجأة وغير متوقعة ازدهار حضارة جديدة لامعة، كان الإسلام واللغة العربية هما المادة " السمنتية " الأساسية لهذه الحضارة . وقد قدر لهذه المعجزة العربية ان تنقذ الإرث العلمي اليوناني، فقيمته وقدرته عاليا ".
وقد توقف عالم الطبيعة الألماني العظيم غومبولت في مطلع القرن التاسع عشر عند نفس النقطة التي أثارها المؤرخ الفرنسي وقال :
" لم يقتصر دور العرب على اعادة البشرية الى منابع الحكمة اليونانية فحسب ( قاموا بترجمة أهم مؤلفات المفكرين من اليونان والرومان الى العربية ) بل أثروا انجازات من سبقهم من العلماء القدامى. وقد استفاد العرب أيضا من المنجزات العلمية للصينيين والهنود، فطور المعارف في مجال المعادن والهندسة ووضعوا اسس علم الجبر ، وتوصلوا الى استنتاجات مهمة في الجغرافيا والجيوديسيا، وعلم الفلك والكيمياء. وقد تم تقييم هذه المنجزات العلمية عاليا من قبل المؤرخين الروس والأوزبيك ومن طاجاكستان.
نشأت الثقافة العربية في شبه جزيرة العرب. وغي القرن السابع خرج العرب لينتشروا نحو الشرق حتى وصلت حدود دولتهم الى حدود الهند والصين. وتوسعت الدولة نحو الغرب لتشمل شمال أفريقيا والأندلس. تشكلت دولة تيوقراطية كبرى – دولة الخلافة – التي كانت دمشق مركزها ومن ثم انتقل المركز الى بغداد.
من بين المؤلفات العربية المبكرة التي تناولت المواضيع المتعلقة بالظواهر الجيولوجية يمكن الاشارة الى المؤلف الموسوعي الجماعي الضخم لمجموعة مجهولة من المؤلفين من البصرة ( المؤلفان يقصدان رسائل اخوان الصفا ع.ع. ) والذي يعتقد انه يعود الى القرن العاشر.. يجد القارئ في هذا الكتاب وصفا للعمليات الجيولوجية السطحية وفق منهج متتابع ومتسلسل، وأكثر منطقيا بكثير من الوصف الذي قدمه أرسطو: نجد وصف لتعرية الأنهار والترسيب في البحر مع ابراز واضح للبنية الطبقية للترسبات ( وهذا ما كانت تخلو منه مؤلفات اليونانيين )، ونهوض الترسبات نحو الأعلى لتكوين الجبال، ومن ثم تفتت هذه الجبال، وجرف الرواسب الفتاتية بواسطة الأمطار والأنهار حتى تتحول اليابسة الى بحر. وحسب رأي الجيولوجي الفرنسي ايلينبيرغ : وفق هذا التتابع الدوري للعمليات يكون مؤلفوا هذه الموسوعة قد سبقوا هاتون ( جيمس هاتون - 1729 / 1796 - عالم اسكتلندي يعتبر من مؤسسي علم الجيولوجيا الحديثة – هو صاحب المقولة المشهورة " لا أثر للبداية ولا أفاق لأية نهاية ". ومقولته المشهورة : الحاضر مفتاح الحاضر وضع أساسا لأهم المبادئ التي يقوم عليها علم الجيولوجيا المعاصر، والذي يعني بان العوامل الطبيعية الفاعلة اليوم في القشرة الأرضية هي نفسها التي كانت قائمة في العصور القديمة، لذلك فمن أجل ان نفهم ما كان يحدث في الماضي علينا دراسة ما يحدث حاليا. وهذا مقطع مما ورد في رسائل اخوان الصفا الذي يتحدث عن التغيرات التي تحدث على سطح الأرض : "... فلا يزال ذلك دأبه على مر الدهور حتى تصير مواضع البراري بحارًا، ومواضع البحار يبسًا وقفارًا. ثم تبدأ دورة أخرى بأن تتفتت هذه الجبال والتلال فتصير حجارة وحصى ورمالاً تحطها السيول والأمطار وتحملها إلى الأودية والأنهار والبحار، فتتراكم مرة أخرى عبر السنين وتنخفض الجبال الشامخة وتقصر حتى تستوي مع وجه الأرض. أما الطين والرمال التي جرفت من الجبال في اليابسة فتنبسط في قاع البحار وتتماسك فتكوّن على مر الزمن تلالاً وروابي وجبالاً...." وهكذا نرى ان أخوان الصفا كانوا يؤمنون بان الأحداث الطبيعية التي تتعرض لها الأرض ذات طابع دوري متكرر . وحسب رأيهم ان كل دورة تستغرق 36000 سنة ثم تعود من جديد. وهكذا لا بداية ولا نهاية. ع.ع. ).
تنتمي الى هذه الحقبة تقريبا مؤلفات اثنين من أشهر العلماء وهما ابو الريحان البيروني ( 973 – 1048 ) و ابن سينا ( 980 – 1037 ). وهنا ينبغي الإشارة الى ان التربة الملائمة لظهور مثل هذة الآراء العلمية الرائدة قد تم بفضل التطور الذي شهدته المنجزات في المجال المادي العملي، والذي تمثل في ازدهار العمل في مجال استخراج الخامات المعدنية وتصنيعها وفي مجال التعدين وخاصة في مجال استخراج وتصنيع خامات الرصاص والزنك والنحاس والحديد...
لم يكن البيروني من بين العلماء الذين نادوا بكروية الأرض فحسب - في تلك الفترة كان الكثير من علماء أوربا يؤكدون على ان الأرض مسطحة - ، بل كانت له مساعيه العملية لقياس محيط الأرض، والتي توصل من خلالها الى نتائج في غاية الدقة. وقام برسم خارطة جغرافية للعالم القديم، والتي توفقن بدقتها على جميع الخرائط الغربية في ذلك العصر.. تقدم البيروني بتفسير علمي سليم لظاهرة انبثاق المياه الجوفية وتدفقها أحيانا فوق سطح الأرض. وقدم تفسيره لتكوين الترسبات النهرية وركز على عنصر الزمن واهميته في تكوين هذه العمليات وغيرها من الظواهر التي تحدث على السطح، مشيرا الى انها تحدث ببطء شديد وتتطلب الكثير من الوقت وبين ان أحجام القطع الحجرية والجلاميد والحصى المترسبة تتوقف على سرعة المجرى المائي الذي ينقلها....
( النص الأصلي للبيروني الذي نقل عنه المؤلفان ورد في كتاب الهند وكان على النحو التالي: " وأرض الهند من تلك البراري التي يحيط بها من جنوبها بحرهم ومن سائر الجهات تلك الجبال الشوامخ، واليها مصاب مياهها. بل لو تفكرت عند المشاهدة فيها وفي أحجارها المدملكة الموجودة الى حيث تبدو الحفر عظيمة بالقرب من الجبال وشدة جريان مياه الأنهار، وأصغر عند التباعد وفتور الجري ورمالا عند الركود والاقتراب من المغايض والبحر، لم تكد تتصور أرضهم إلا بحرا في القديم قد انكبس بحمولات السيول...".
" وأن توصلنا بالدلائل العقلية والقياسات المنطقية الصحيحة إلى معرفة حدث العالم ... ولا نعلم من أحوالها ( الأرض ) إلا ما نشاهد من الآثار التي تحتاج في حصولها على مدد طويلة كالجبال الشامخة المتركبة من الرضراض المؤتلفة بالطين والرمل المتحجرين ، فإن من تأمل الأمر من وجهة علم أن الرضراض والحصى هي حجارة تنكسر من الجبال بالانصداع أو الانهدام ، ثم يكثر عليها جرى الماء وهبوب الرياح ويدوم احتكاكها فتبلى ( تتفتت ) ، وأن الفتات التي تتميز عنها هي الرمال ثم التراب، وأن ذلك الرضراض لما اجتمع في مسايل الأودية حتى انسكبت بها وتخللها الرمال والتراب فانعجنت بها واندفنت فيها وعلتها السيول فصارت في القرار والعمق ، بعد أن كانت على وجه الأرض ، وتحجرت بالبرد لأن تحجر أكثر الجبال في الأعماق بالبرد ")
وعاد التأكيد على الفكرة التي أشار اليها العلماء الإغريق والقائلة بان البر والبرر يتبادلان المواقع مستشهدا بأمثلة واقعية ملموسة مثل بعض المواقع في جزيرة العرب وبالقرب من بحر قزوين.
( وهذا أحد نصوص البيروني الذي يتحدث عن التغير الذي طرأ على الأرض في الأزمنة القديمة :
" ينتقل البحر إلى البر والبر إلى البحر ، فى أزمنة إن كانت قبل كون الناس فى العالم فغير معلومة ، وإن كانت بعده فغير محفوظة . لأن الأخبار تنقطع إذا طال عليها الأمد ، وخاصة فى الأشياء الكائنة جزءاً بعد جزء ، وبحيث لا يفطن لها إلا الخواص . فهذه بادية العرب قد كانت بحراً فانكبس ، حتى إن آثار ذلك ظاهرة عند حفر الآبار والحياض بها، فإنها تُبدى أطباقا من تراب ورمال ورضراض ، ثم يوجد فيها من الخزف والزجاج والعظام ما يمتنع أن يُحمل على دفن قاصدٍ إياها هناك ، بل يخرج منها أحجار إذا كسرت كانت مشتملة على أصداف وودع وما يسمى آذان السمك ، إما باقية فيها على حالها ، وإما بالية قد تلاشت وبقى مكانها خلاء متشكلا بشكلها ، كما يوجد مثله بباب الأبواب على ساحل بحر الخزر (بحر قزوين) ثم لا يذكر لذلك وقت معلوم ولا تأريخ البتة .. ونحن نجد مثل هذه الحجارة التى يتوسطها آذان السمك فى المفازة الرملية التى بين جرجان وخوارزم (وسط آسيا) فقد كانت كالبحيرة فيما مضى ، لأن مجرى جيحون ، أعنى نهر بلخ ، كان عليها إلى بحر الخزر "...)

ويمكن العثور لدى البيروني ( كما يشير الى ذلك ليونف ن. ن. ) على تلميحات واضحة تشير الى ان فكرة حركة القارات لم تكن غريبة على تفكيره.
يتضمن كتابه عن المعادن ( المقصود كتاب الجماهر في معرفة الجواهر ) على معلومات في غاية الأهمية بشأن أكثر من مئة نوع من المعادن والصخور وخواصها وطرق معالجتها واستخداماتها. ولم يكتف في استخدام اللون والشفافية لتمييز المعادن عن بعضها، بل استخدم الوزن النوعي أيضا. وقد ابتكر أول طريقة لتحديد الوزن النوعي. وجدير بالذكر ان الوزن النوعي لم يستخدم في دراسة المعادن حتى القرن السادس عشر.
لاحظ البيروني وجود بعض الشوائب السائلة في بلورات بعض المعادن الشفافة، فاستنتج من ذلك ان تلك المعادر كانت في الأصل في حالة السيولة قبل ان تتحول الى بلورات ( لم يجري الحديث حول الشوائب السائلة في البلورات إلا في عصر المجاهر ).
كان ابن سينا من معاصري البيروني ( وكانت بينهما حوارات علمية من خلال المراسلات )، وقد اشتهر بكونه طبيب وفليسوف. غير ان كتابه " الطبيعة " ( المقصود موسوعة الشفاء )يتضمن معلومات مهمة عن تكوين الأحجار والمعادن والصخور وبقايا الحيوانات والنباتات القديمة المتحجرة. وحسب رأي ابن سينا ان الأحجار يمكن ان تتكون بطريقتين. إما نتيجة تصلب المواد الطينية وذلك بعد تجفيفها نتيجة لتعرضها الى أشعة الشمس الحارة لفترة طويلة، أو تنشأ من ترسيب المواد في بيئة مائية، ومن ثم تتصلب هذه المواد المترسبة فتتحول الى صخور. وأشار الى ان الزلازل يمكن ان تكون من أسباب تكوين الجبال. والزلازل حسب رأي ابن سينا تنتج تحت تأثير الرياح المحبوسة في باطن الأرض – ويبدو انه استعار هذه الفكرة من المؤلفين القدامى – ولكن سبب نشوء الجبال يمكن ان يكون شيء آخر، وهو تحجر المادة الطينية. وما هو مهم للجيولوجيا ان ابن سينا لا يستبعد ان يكون سبب التحجر هي الحرارة المنبعثة من الأعماق في بعض البحار. ولا تقل أهمية عن ذلك اشارته الواضحة الى ان العالم المسكون اليوم لم يكن في الماضي مسكون بل مغمور تحت مياه المحيط. وتبقى في الأخير فكرته التي تكتسب أهمية كبيرة وهي انه قد سبق ستينو بستة قرون في الحديث عن الترسب التدريجي طبقة بعد الطبقة: " في كل مرة تظهر اليابسة وتجف نتيجة لتراجع البحر فانه يترك طبقة من الرواسب، ونحن نرى كيف ان بعض الجبال تبدو متكونة من طبقات، ولذا يبدو ان الطين الذي تكونت منه ترسب طبقة بعد طبقة ". مع انه لا ينسى الاشارة الى ان التتابع في تواجد الطبقات يعكس التسلسل في زمن ترسيبها. وبهذا يكون ابن سينا كان أول من أشار الى القاعدة المهمة والأساسية لعلم الطبقات ( الستراتوغرافيا ) والجيولوجيا بشكل عام، وهو المبدأ المعروف باسم مبدأ تعاقب الطبقات.
في الجزء المخصص للمعادن والأحجار يقدم ابن سينا تصنيفه للمعادن، وهو التصنيف الذي حافظ على أهميته العلمية في علم المعادن حتى القرن السادس عشر...."...



#عدنان_عاكف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسيحية وعمر الأرض
- الجيش والسياسة قبل ثورة تموز 1958
- هل كان العراقيون القدامى هواة عنف ودم ؟؟
- العالم كما أراه
- العلاقات الاجتماعية السياسية في بابل - 2 -
- العلاقات الاجتماعية السياسية في بابل - 1-
- حوار لم يتم بين مختار ورضا الظاهر
- من أجل حوار متمدن
- قراءة في كتاب -موضوعات نقدية في الماركسية والثقافة- الحلقة - ...
- حول الموقف من كروية الأرض
- شامل عبد العزيز – وفن السطو ببراءة
- الدين الكوني
- العلم والدين : هل هما متناقضان ؟ - البيرت آينشتاين
- العلم من غير دين أعرج والدين من غير علم أعمى
- قراءة في كتاب :- موضوعات نقدية في الماركسية والثقافة - !!
- حول - الفساد - العلمي والفكري !!
- لا أستطيع أن أتصور عالم عبقري بدون إيمان عميق
- آينشتاين بين العلم و الدين :
- الحياة الروحية في بابل
- في ذكرى أول أيار فقراء العراق والانتخابات القادمة


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عدنان عاكف - قوموا انظروا كيف تزول الجبال