أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الحجر














المزيد.....

الحجر


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3583 - 2011 / 12 / 21 - 12:16
المحور: الادب والفن
    


منذ طلع القمر بدرًا أخضر وأزرق في السماء السوداء، ثم سقط في غياب وضح الليل ذي الألوان، وأبراهام لم يعد ينام. ابيضت السماء في الليل المنسحب فوق مراكب غزة المحملة بالنجوم، وأخذ أبراهام ينتظر شراع قمره الذي خفق مرة واحدة في حياته، أخضر وأزرق، كما كان يشتهيه قلبه. وعلى الرغم من أن الممرضة قد أعطته حبة منوم، في تلك الليلة، لم ينم كما لم ينم في الليلة السابقة، وفي كل الليالي الأخرى، منذ طلع القمر بدرًا، أخضر وأزرق، في السماء السوداء، ثم سقط في غياب وضح الليل ذي الألوان. دعاه أطباء مستشفى الأمراض العقلية بمجنون القمر، وبحثوا عن علاج يعيد للقمر الفضة في عينيه، وعن نظرية تفسر الاختلال من احتلال الألوان للألوان. لم يجدوا، على الرغم من كل ما بذلوا، فقرروا الإفراج عنه... إلى أين يمكنه الذهاب، والليل أبيض، والبحر أسود، والمحار يعض المحار؟ اتجه نحو الرمل، وجلس متوحدًا، وهو يبحث عن حجر فلّ الزمن. حفر في الرمل، ووجد منحوتات للسمك، أراد أن يقدمها للقمر، لكن أين القمر؟ وأين أبوللو؟ وعندما شخص ببصره إلى السماء التي تأخذ شكل البحر، رأى أعمدة رخام تنهار. حاول رفعها، في البداية، دون فائدة، ثم سمحت له قوة فوق طبيعية برفعها دون جهد، وغدا بطلاً مريعًا. حكى قصته لأخته سارة التي بكت لأنها صدقته، وقالت فذٌ هو الجنون، ومتعذرٌ تقليده، أو مضاهاته.
ومنذ خرج أبراهام من مستشفى الأمراض العقلية، وسارة خائفة من النوم في الليل، وأبراهام قبلها لم ينم. كانت تغلي القهوة أو الشاي، وعلى مقربة من ببغاء حسناء في قفص، تجلس وإياه، فتنظر إلى حيث ينظر، ويرى كلاهما الليل والبحر والدم، دمٌ أخضر وأزرق يسيل من فم القمر القتيل.
كانا يعودان إلى نفسيهما على الببغاء، وهي تصيح بأبراهام الحزين:
- مجنون! مجنون!
فتؤنبها سارة، وتطلب منها أن تسكت، لكن الببغاء تعود إلى الصياح:
- مجنون! مجنون!
فتعنفها سارة، وتأتيها ببعض الحجارة لتبتلعها، وتعجز عن الكلام، لكن الببغاء تأخذ بنقر الحجر تلو الحجر إلى أن تأتي على أكبر حجر، وتعود إلى الصياح:
- مجنون! مجنون!
فتضربها سارة هذه المرة، وتفرض عليها السكوت، فتسكت، وما أن تدير سارة ظهرها حتى تعود إلى الصياح:
- مجنون! مجنون!
وهكذا كان الأمر طوال الليل، وهي تداوم على الصياح: مجنون! مجنون! دون توقف، وأبراهام كان طوال الليل يتعذب، ويتأوه، ويتصبر. في لحظة من اللحظات نهض ليفرش لها جناحيها، وينزع بعد ذلك من جناحيها ريشها الأزرق، ريشة ريشة، وريشها الأخضر، بينما الببغاء تدافع عن نفسها بمنقارها، وتصيح: مجنون! مجنون! ومن حلقها ترشق أبراهام بالحجر تلو الحجر، والحجر يوجع بعد الحجر، والحجر أرض السماء، والحجر سماء الهيكل. عاد أبراهام إلى التأوه من الوجع أكثر فأكثر، ونادى على سارة التي كانت قد تركته وحده وجهًا لوجه مع مصيره: مصيرٌ يواجه مصيرًا... وجهًا لوجه مع طائر: طائرٌ يواجه قمرًا... صاحت سارة أوطأ ما يكون: نعم للطائر والقمر! خوفًا من أن تسمعها قروش البحر، فأطلق أبراهام الرصاص على الطائر الذي كسر القفص، وحلق بكل الألوان. بمنقاره دق رأس أبراهام، وبمخلبه ضرب سلاحه، وبفمه نادى على طيور البر والبحر... فالطائر يصون الطائر، والحجر يصون الحجر... الحجر يملأ القبضة، والقبضة تجعل منه قصة: كان برقًا، وغدا نحتًا، كان سمكةً أو وردةً، وغدا سيفًا أو بيتًا. وبين أصابع الذين يغدون طيورًا، غدا خبزًا أو جمرًا. كانت هضاب عيبال تتحول إلى بركانٍ ناره أحمر من ثوب دم، ومن قلبها تخرج غادة في الثالثة عشرة، وهي تسعى في الأرض سلامًا، فحاول الجنود معها دون جدوى، ثم سجد الجنود أمام جمالها. ظن أبراهام أن قمره يعود إليه ليعاقبه على بقائه في الليل ساهرًا، فأمسك بالطائر المصمم على الفعل بدلاً من الصياح، وبحجر تزوجت أمه أبرهة الأشرم، كسر ذراعه اليمنى - القاذفة للحجر المؤتمن - وكسر رسغه الأمين، وكسر زنده المتين، ثم نقب صدغه الصائح في صحراء العرب الصانعة لطيور الرمل، وكسر رسغه القادر، وكسر زنده المخاطر، وكسر ساعده القدير، وحطم ذراعه القوية، حطم ذراع اليمين، الذراع العصية، تلك العنكبوت العاصية، وعاد يكسر ذراعه الأعصى من خنجر يمني قديم. وفي كتفه، يكسر شجرة تين، وفي دمه، يغرق مركبًا، والبحر يسمع صراخ الإغريق، وأبراهام يرى كيف استحوذ الغضب على الألوان. انكسرت في عينيه الأحلام، فعاد يكسر الكتف الكسير، فينكسر الحجر الكاسر، وتتكسر الأصابع، ويحملها كالجثث البريئة، يرفعها لتحميه من هجمة أفواج الطيور التي جاءت تنقذ الطائر المذنب من جرم البريء... حملته الطيور إلى العشب والصخر، وقبل أن تتابع طريقها، فتحت بالحجر الذي كسر وتكسر رأس أبراهام الغريب، وسال دمه الأحمر.
جس أبراهام الأشياء من حوله بذهول، وما لبث أن اتجه إلى المرآة، وهو يترنح. نظر إلى نفسه، فرأى القمر الفضي، وهو يعبس، ثم وهو يبتسم، ثم وهو يضحك، ثم وهو يقهقه. تناول الطائر الذي كان على وشك الموت حجره الأخير، ورشق القمر في المرآة، فانكسر النهار، وبدأ البحر يطلق حيتانه المكبلة في ضوء الحجر الجميل. ومع تمايل أمواجه الجبارة، لطم الصخور والعقول، وأنا أتشبث بحلم الطائر، بحجره الأول، ودمه الأول، وأفكر أنه سيموت في الضوء.

الانتفاضة يوم الخميس 10/3/1988

* من "حلمحقيقي" المجموعة الرابعة لأفنان القاسم بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نابلس
- شمس مراكش تحرق الأصابع
- بركات
- الأطفال يتكلمون لغة واحدة
- أفنان القاسم يجيب على أسئلة الحوار المتمدن
- الرسامة الصغيرة
- العاملة التي أحبت الكاتب
- الحزب والموسيقى
- السيدة التي لم تقرأ الجريدة
- لقاء الأصحاء في مستشفى هنري موندور من حول سرير أفنان القاسم
- وقائع نشرة مكثفة عن التلفزيون الفرنسي
- الفتاة الممنوعة
- وحيد وجوديت
- ناتاشا والفنان
- العاطل عن اليأس
- انتحار الشاعر
- أطول ليلة في الحي اللاتيني
- القصيدة-القصة الأولى في الأدب العربي: الإبحار على متن قارب ه ...
- محمد حلمي الريشة وعلبة أسبرين
- 39 شارع لانكري


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الحجر