أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد حاج صالح - كنا في العراق. رحلة إلى بغداد 2002















المزيد.....



كنا في العراق. رحلة إلى بغداد 2002


محمد حاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1060 - 2004 / 12 / 27 - 06:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


دخلنا بوابة فندق الرشيد الشهير في الساعة الحادية عشر ليلاً. كان هناك بضعة رجالٍ تكفي لمحة من وجوههم كي يعلم المرء أنّهم رجال أمن. صعد واحدٌ منهم باب الحافلة وأدار عينيه بخجل. تنحنح وأنشأ خطاب الترحيب الذي سنلمس وجوده الدائم على ألسنة العراقيين أينما ذهبنا:" هلا… هلا عيوني. هلا ولْلا… هلا بالأخوة السوريين " رشقاً لفظ الكلمات التي أجبرتنا على الردّ. فيما بعد سنعلم أنْ ليس الأمريكيين وحدهم استهدفوا الفندق وإنما جرى فيه تفجيران. وسنرى مباشرة بعد المدخل معرضاً دائماً بالصور الفوتوغرافيّة لشهداء الفندق، منها صورة لفتاة حلوة تبتسم للكاميرا بروح عذبة.
كانت أمتعتنا مازالتْ على الرصيف، عندما استعجلنا الدخول تشوّقاً للدعس على صورة بوش التي تحتل موقعاً لا يمكن تجنّبه. وكنّا قد تناولنا عبر الطريق الطويل نقاشات عن جدوى وطء صورة من رخام للرجل الذي أذاق العراق الويل. أليس من الأجدى أن يسلك العراق سلوكاً يُدخله إلى عالم اليوم حتى لو كان عالماً من نفاق أكثر منه عالم صدق وأخلاقيّات؟!
" بوش الأب " يكشّر عن أسنان دراكولا في المرمر. والدم الأحمر يغطّي جانبي فمه. أنا ممن يؤمنون أن التعقّل سلوك لا بدّ منه لمن يريد انتزاع حقّ، ومع ذلك دستُ على صورة " بوش " بتشفّ غريب! شعرت وأنا أضع قدمي على وجهه في المرمر أنّني لا أُخطئ في شيء، وأنّني أمارس نوعاً من التعبير بالحذاء في لحظة لا تُعاد. في اليوم التالي سأراقب رجلاً يابانيّاً يُباعد قدميه بطريقة مضحكة وهو يخطو كي لا يدوس على وجه " بوش ". فوجدتني فيما بعد مدفوعاً، ليس دون شعور باللاجدوى، على إثقال قدمي نكاية كلّما مررت عبر الباب. ومن شرفة الفندق الزجاجية كانت بغداد تترامى إلى الأفق البعيد، متلألئة، متوهّجة.
في الصباح كان لا بد من حضور حفل افتتاح المؤتمر ودفع رسوم التسجيل، على الرغم من أنّ دافع سفرنا الأول نحن السبعين طبيباً سورياً كان على الغالب؛ رؤية العراق. أليس طبيعياً أن يحدث هذا بعد قطيعة دامت ثلاثين عاماً؟! لا خجل إذن في القول أنّ سبب سفرنا إلى مؤتمر علميّ لم يكن علميّاً.
كالعادة دخل وزير الصحة العراقي بثياب عسكريّة…
أتنفع في شيء ثيابٌ تدلّل على عسكرة الحكومة بينما، مثلاً، شارون بثيابه المدنيّة يعسكر على دماء الفلسطينيين؟! من رأى طارق عزيز يتحدّث وهو يلبس البدلة العسكرية؟! أكانت تليق بحديثه الذي كثيراً ما رغب بوضوح أن يعطيه طابع الثقافة العميقة؟! أمْ من رأى طه رمضان الذي يحبّ فيما يبدو أن تكون بدلته مُجسِّمة ضيّقة على الرغم من أنّ حديثه بات يتسم شيئاً فشيئاً بالوسع والراحة لا بالضيق؟!…لكنْ أليس العراق في حالة حرب؟! ألا يحقّ له إذن ممارسة سلوك رمزيّ كهذا؟!
في قاعة المؤتمر التي بدتْ لنا أعظم من أن تكون في بلدٍ محاصر؛ كانت مجموعة من الأطفال لا تخطئ العين نوعاً من البؤس في أحذيتهم، إنّما بثياب احتفالية. في عيونهم إلماحات تردّد ودهشة. سرعان ما علمنا أنهم تلاميذ مدرسة للصمّ والبكم… بدأ الاحتفال، وأخذت السيّدة التي ترعاهم مكاناً في الممرّ، بين الجمهور. شرعتْ بالإيماء مع الموسيقى. موسيقى لصمٍّ!! عيون الأطفال معلّقة بالإشارات: طيرانٌ وتحليقٌ بالأذرع، علامات ضمٍّ نحو الجوانح في الداخل، علامات برفرفة الشفاه وبالجسد رغبةً في الكلام، ثمّ في النهاية إلحاحٌ في الإشارات المتكررة نحو صورة لقبّة الصخرة المقدسيّة.
مُستبطئاً الدقائق، كنت أتحرّق رغبةً في انتهاء الشكليّات، كي أزوغ هارباً إلى قلب بغداد بنيّة الذهاب أوّلاً إلى شارع المتنبي. في الاستراحة، ولأنّني لا أعرف عنوان أيّ مثقّف عراقيّ سألت أحد المنظّمين عن عدد منهم، فلم أحظ سوى بعنوان الشاعر حميد سعيد الذي علمتُ أنّه كبير أمناء بيت الحكمة. أعترف أنّ الاصطلاح هالني: كبير أمناء بيت الحكمة. لكنّي بتّ أملك عنواناً على الأقلّ.
سيّارات الأجرة في بغداد كثيرة كثر النمل، وسائقوها هم الشريحة التي سنحتكّ بها أكثر من غيرها. إنّما لا يعدم الأمر من مباغتتك بوقوف سيّارة خاصة تزاحم للفوز في اقتناصك. نسبة عالية من السائقين حملة شهادات عليا مال بهم الزمان مثلما مال بالعراق. بادرت السائق بتحيّة تعمّدت أن تكون بلهجة سوريّة واضحة، فأنشأ السائق على الفور مطوّلة الترحيب التي سنعتادها. السائق خريج رياضيّات وأمثاله كثر، يقتلهم الحياء كلّما أخرجنا النّقود لدفع الأجرة. فيما بعد سنشرع بالهرب بعد إلقاء النقود على المقعد. طبعاً ليس الجميع بمثل هذه الروح، فالأولاد في البيت ينتظرون اللقمة.
شارع المتنبّي يعكس جزءاً من حال الثقافة العراقيّة، ومن حال المثقّفين العراقيين. مكتبات لها طابع أشبه بدكاكين البقالة في الأسواق العربيّة القديمة، تغصّ بالكتب، جلّها قديمٌ، والحديث منها تراثيّ وتاريخيّ. أغلبها لها مخازن، يُرتقى إليها من درج ليس بالضرورة ملاصق للباب. على الأرصفة باعة كتب وأقراص كمبيوتر. أخذت الرصيف ذهاباً وإيّاباً وأنا أسأل عن الطبعة غير المهذّبة لألف ليلة وليلة: " طباعة مطبعة بولاق المصريّة وتصوير دار النهضة في بغداد " فأتلقّى إجابة واحدة: " ما كو!! ". ثمّ شرعت بالدخول إلى المكتبات واحدة واحدة. مرحّباً بي على الدوام فور التقاط اللهجة. هنا أيضاً لم أستطع الحصول سوى على هاتفيّ لطفيّة الدليمي وماجد السامرّائي، رغم أنّني سألت عن كثيرين.
قال رجلٌ يفتّش في الكتب مثلما أفتّش حين سمعني أسأل عن لطفيّة الدليمي: " هذي كاتبة شيوعيّة " ولمّا رأى أنّني لم أرتكس، أعاد: " …كاتبة شيوعيّة " مصرّاً على النظر في عيني. قلتُ: " وإذا كان؟! ". لاحقاً عندما هتفت للطفيّة قلتُ مداعباً إنّ رجلاً قال كذا وكذا!! فارتبكت وهي تقول: لا… ولْلا… فغيّرتُ الحديث لائماً نفسي على افتتاح أول حديث هاتفي بنميمة كهذه.
صاحب مكتبة أربعينيّ العمر لاحظ لهجتي وحركتي بين المكتبات؛ دعاني إلى كأس شاي بطريقة تُظهر رغبةً في الحديث. تعارفنا سريعاً. ولأنّ كنيته كانت ذات جرس تاريخيّ: " الجنابي " مازحته عن درجة القرابة التي تربطه بأبي سعيد الجنابي وعن فرسه إذا ما كانت لا تزال مقيّدة إلى جانب قبره!! ذاك المزاح كان مفتاح الدخول في حديث دام طويلاً، اقتنيت خلاله بضعة كتب، وعلمتُ خلاله أيضاً أنّه كان كاتب قصّة وأنّه ترك الكتابة احتجاجاً! لن أنسى الغصّة التي تكلّم بها وهو يشتكي من إغلاق الصفحات الثقافيّة في الجرائد العراقية على أسماء قلّما كانت جديرة، أمّا أكثرها فمُتسلّق تسلّق النبات الطفيليّ. عند الباب أهداني كتاباً لـ" جنابيّ " آخر. مازحته مواسياً: كأنّكم آل الجنابيّ لم يكفكم التاريخ! تريدون الاستيلاء على الثقافة أيضاً!!
بدءاً من الحدود شممنا رائحة تعطّش العراقيين إلى علاقة اقتصادية مع سورية، وهو أمر مفهوم. لكن العطش الأكبر، بلْ السهاف الذي لا يرتوي كان في رغبتهم بعلاقة أعلى إنسانياً… إنّما الرغائب شيء وواقع الحال شيء آخر! إذْ صرفنا بين النقطة الحدوديّة السوريّة والنقطة العراقية أربع ساعات، ثلاث منها عند إخواننا العراقيين. هذه الفترة الدهريّة في الانتظار لم يُنقص منها فرح رجال الأمن والجمارك بالعلاقة المستجدّة!! أظنّهم كانوا فرحين ومتحمّسين بسبب استئناف وظيفتهم بعد طول قعود. إنّه " العمل! ".
على الأشبار الأخيرة من الأرض السوريّة يقوم نصبٌ بالطول الكامل للرئيس الراحل حافظ الأسد بابتسامته الخفيفة الشهيرة. وعلى الأشبار الأولى من الأرض العراقيّة يقوم نصبٌ آخر بالطول الكامل أيضاً للرئيس صدام حسين بملامحه الصارمة. كلاهما له واجهة تطلّ من الجهة الأخرى على أرض بلاده. النصبان يقومان على قاعدتين ترتفعان إلى مترين، ويقيس كلّ منهما خمسة أمتار ارتفاعاً بعرض ثلاثة أمتار تقريباً… سألتُ أحد رجال أمننا: من الذي بنى نصب رئيسه أوّلاً. نحن أم هم؟! حدجني بنظرة تستطلع ما وراء السؤال، ثمّ غمغم: أنا جديدٌ هنا!!
في إحدى مراحل تخليص أوراقنا كان موظّف عراقيّ وحيد يقوم بعمل ثقيل: يكدّس الجوازات. يتناولها واحداً واحداً. ينظر إلى الاسم والمهنة وصفحة التأشيرة. يكتب الاسم والمهنة وسبب الزيارة على الورق، ثم يدخله إلى الكمبيـوتر. يختم الجواز بختم تبيّن لنا أنّه خاصّ بعام " 2001 ". يُصحّح رقم الآحاد من " 1 " إلى " 2 " يدويّاً. يُزيح الجواز إلى الطرف الثاني. ولمّا انتهى، نادانا بأسمائنا واحداً واحداً.
فور صعودنا الحافلة مُتجهين إلى قلب الأرض العراقيّة، انقسمنا بين من يريد المرور بمدينة الرمادي، وبين مُستعجلين لا يريدون. الفرق حاسمٌ هنا بين طريق عادي وطريق سريع. شيئاً فشيئاً علمنا أنّ أحدنا كان قد هتف لأقاربه الذين يسكنون مدينة الرمادي، وأنّه يحمل هدايا. حسم وجود الهدايا النقاش لصالح المرور بالمدينة. وأظنّنا جميعاً وجدنا لياقةً طريفة في أن يحمل واحد منّا هدايا لأفراد عراقيين لا نعرفهم ولا هو، صاحب الهدايا، يعرفهم. وعندما علمنا أنّ البيت الذي سنمرّ به يقع أمام فرع حزب البعث في الرمادي انطلقت التعليقات والنّكات التي تصبّ في معنى واحد: " أوّل مااااا هجم قُتِل!! ". ليس من غرابة هنا. فلفظ اسم العراق، مجرّد لفظ، كان في نفوسنا مشكلةً أمنيّة قبل فترة يسيرة. يتداول السوريون نكتة معبّرة عن رجل تقدم لعضويّة حزب البعث، ومن الأسئلة التي يُفحص بها طالب الانتساب سئل: من يحدّ سوريّة من الشرق؟ صمت الرجل صمتاً عميقاً. ورغم محاولات الإيحاء والتقريب والمساعدة ظلّ صامتاً. ممّا دفع بأحد أعضاء اللجنة الفاحصة إلى الاستنكار: غريب! ألا تعرف أنّ العراق يحد سوريّة من الشرق؟! فاستبشر المفحوص متخلّصاً من مأزقه صارخاً: أنت الذي قلتَ!!… أنت الذي قلت!!
كانوا في انتظارنا. شيخ كبير في السنّ يُرحّب بصوت عال ومجموعة من الشبان تردّد الترحيب بصوت أخفض. والقبلات لنا جميعاً!! دخلنا إلى مضافة وسيعة مفروشة بالسجّاد، ودائر مدار الجدران اصطفّتْ مقاعد. البيت من الخارج ومن الداخل يوحي بالغنى. أوّل الضيافة ماءٌ ممزوج بالهيل، ثمّ الشاي، فالقهوة. لاحظ مضيفنا أنّنا نتهامس برغبتنا في المغادرة. فقال بصوت مرتفع: غداؤكم الذي أصبح عشاءً جاهز. تسابق بعضنا ممن لا يعرف عادات الضيافة القبليّة بالجهر: لسنا جائعين… تغدّينا في استراحة. ظلّ الرجل هادئاً وهو يلفظ مازحاً: ذوقوا طعامنا أوّلاً!! ثمّ إنّنا لن نسمح بحمله معكم!!وقوفاً إلى جنب طاولة مديدة عامرة تناولنا، نحن الست وعشرين فرداً، طعاماّ لذيذاً، ناسين أننا أكلنا منذ ساعتين وأنّنا صرّحنا بذلك.
وفي الحادية عشر كنا في باحة الفندق، بعد أن اجتزنا جزءاً من بغداد وقوفاً نتأمّل الآرمات واللافتات والأضواء والأبنية التي لاحظنا مبكّرين جرأة مصمّميها في دفع الشرفات إلى الخارج وكأنّها تريد أخذ مزيد من الحيّز؛ ألهذا علاقة بتشوّف العراقيين ورغبتهم في ميناء يطلّ على الخليج؟! ألهذا علاقة بالذريعة العراقيّة في الكويت؟!هل تتوق الذات العراقيّة إلى الامتداد؟!!
من قرب شارع المتنبّي أخذت سيّارة إلى بيت الحكمة، وعلى الفور شرعت بالحديث مع السائق. هل قلت من قبل إنّ السائقين كانوا محاورينا الأكثر جرأةً؟! ساءلته عن دخله. عن عائلته وعدد أولاده. عن التعليم. عن الأمن في البلاد. العراقيون يعطونك مدّاً في الحديث حيث تجد نفسك قد تورّطت في فضول غريب. هو الآخر مهندس يعمل عملين.
بيت الحكمة مثلما يراه المرء في التلفزيون. واجهة تنطق بهيبة التاريخ. بابٌ خشبيّ عتيق وضخم. بلاطٌ حديث لا ينسجم والإحساس التليد بثقل التاريخ. سألت رجلاً خلف طاولة في غرفة، إلى جانب المدخل، سقفها العالي علوّاً هائلاً يُبرز عدم الاتساق بين الضخامة والفخامة في الجدران والنوافذ وبين الضآلة في المكتب وحجم الإنسان: أنا كاتب وطبيبٌ سوريّ… هلْ لي أن أُقابل كبير الأمناء الشاعر حميد سعيد؟!. نهض الرجل بخفّة مرحّباً. هتف لأحد ما مُعلناً عن وجودي بكلماتي ذاتها وانتظر قليلاً ليعلمني أنّه في اجتماع وأنّه سيرسل إليّ مدير مكتبه الذي حضر سريعاً وأبلغني بكلمات موزونة كما لو أنّه اعتاد على لفظها كثيراً: الأستاذ حميد مشغولٌ جدّاً… ويتمنّى عليّ أن أقبل، إذا سمح وقتي، موعداً عند الساعة السادسة مساء الغد. وعرض عليّ مرافقته للتعرّف على نشاط بيت الحكمة، فتبعته وهو يدلي ببيان المعلومات: هذا جدول مواعيد النشاط. محاضرات. حوارات.أمسيات. بيت الحكمة كان قصراً لابنة الخليفة العبّاسي. ثمّ بيمارستان. ثمّ حوّله الأتراك إلى اسطبل للخيول. ثمّ اتخذه البريطانيون مصنعاً للسيّارات… فيما بعد عندما سأقابل حميد سعيد سيلفظ مكرّراً تحت إحساسه بدهشتي: نحن هنا في بيت الحكمة هايد بارك بغداد. نعم هايد بارك بغداد!!
الفطور في الفندق. الغداء والعشاء تتكفّل به هيئات عامة وشركات خاصة. عدد المدعوين ضخمٌ على الدوام. وكميّات الطعام هائلة توحي أنْ لا جوع في العراق. كنّا نحرج ونحن نسأل " لمَ كلّ هذه الكميات من الطعام؟! " وطبعاً كانوا يدركون المعنى المدفون في سؤالنا: " بلدٌ يكرم كلّ هذا الكرم!! بلدٌ محاصرٌ يأتيه قسمٌ من غذائه بمبادلة مُجحفة: النفط مُقابل الغذاء والدواء!! ". يتبسّمون ولا ينطقون.
مساء اليوم الأوّل وفي هياج وصولنا إلى بغداد؛ بلغ التعب منّا مبلغاً ومع ذلك تجمّعنا في بهو الفندق دون رغبة في الصعود إلى الغرف… فكرة من كانت تلك التي جعلت من لا تزال به الهمّة يحفز مستعدّاً للذهاب إلى مقهى، أيّ مقهى؟! ركبنا حافلة برفقة عراقيّ مُفرز للوفود وانطلقنا موافقين على الذهاب إلى مقهى الغوطة. ألأنّ اسمه يذكّرنا بالشام؟! بالمناسبة نحن على لسان العراقيين شاميّون. لا اسم آخر لنا. لا حلبيّون ولا رقّاويّون ولا لاذقانيّون ولا حتى سوريين نحن فقط شاميّون. مقهى الغوطة مقهى ومطعم. نحن في شباط ومع ذلك هناك روّاد يجلسون في الحديقة. خلف ظهورهم وبينهم مدافئ حطب أغرتنا نحن أيضاً. وكان صوت أمّ كلثوم يغري بطلب النرجيلة وبالاسترخاء. لكنّ عصفورة ما، لا شكّ، أعلمتْ العاملين في المقهى أننا " شاميون " فإذا بصوت صباح فخري يصعد مقاطعاً لحظات التأمل والاسترخاء لنبدأ نحن والزبائن الذين شدّهم وجودنا بالغناء… وشيئاً فشيئاً انزلقنا جميعاً بلا تحفّظ إلى التنكيت الأبديّ الخاص بنا نحن العرب، التنكيت الذي يتناول ما تحت الزنّار. مُلصقين كلّ النكت الجنسيّة ذات الطابع السياسي وبتوافق عجيب بأبي عمار! ألأنّه منطقة محايدة؟!
مساء اليوم التالي وصلت متأخّراً عن موعدي نصف ساعة، فالمسافات في بغداد مسافات سفر حقيقيّ. فور دخولي رافقني رجلٌ إلى باب غرفة في الطابق الثاني…حميد سعيد خلف المكتب. أعرف صورته من الصحف. معه رجلٌ تذكّرت فوراً أنّه هو الذي كان يعلّق على البرنامج الذي أثار السعوديين عبر الفضائيّة العراقيّة. تعارفنا بودّ ظاهر. كان الرجل هو الدكتور قيس محمد نوري الذي سألمس منه رقّة ولطفاً لم يكن يوحي به برنامجه الذي تابعه السوريون بنوع من الاهتمام غير معزول عن الهاجس السوريّ الأبديّ في تحسّس أحوال الأمّة! شتّ بنا الحديث هنا وهناك، لكنّه بقي في إطار عامّ ينقصه مبادرةً من الشاعر وكبير الأمناء، إنّما لسبب ما لم يقمْ بها. ألأنّني صغير سنّ وغير معروف ككاتب؟! أم هي طبيعة الرجل؟!. من علي الجندي إلى ممدوح عدوان إلى برهان غليون الذي خصّ بنوع من التلميح الغامض! إلى محمد الماغوط الذي علمت هناك، في بغداد، أنّه مريض يكاد لا يرى بعينيه. وكنت قد قلت أنّني رأيته يتأبّط أوراقاً في فندق الشام قبل شهرين، فخجلت إذْ علمت بمرضه في بصره. أحسستُ كما لو أنّي أكذب. حقّاً ماذا يفعل ضرير بأوراق تحت إبطه؟! عرجنا على حال الصحافة السوريّة والعراقيّة. سئلت عن صحيفة علي فرزتْ، وكانت متوقّفة آنها، قلت إنّها توّقفت بسبب عزم الحكومة على توزيعها من قبل مؤسسة التوزيع حصراً ممّا يحدّ من أرباح وربّما عمل صاحبها. تحمّس الدكتور قيس في كلامه: عندنا مؤسّسة تقوم بالعمل ذاته، أنا أسمّيها: المؤسّسة اللاوطنية للتوزيع لأنّها لا تقوم إلا باللاتوزيع حصراً! أخيراً وصل الحديث إلى بيت الحكمة حيث نطق كبير الأمناء بتلك الجمل التي أدهشتني، وبدتْ لي خارج مألوف معرفتي عن العراق: " نحن هنا في بيت الحكمة… هايد بارك بغداد " أعادها مرتين وهو يرى التعبير الذي ارتسم على وجهي مُضيفاً: " حتى الشيوعيين يأتون للمناقشة وعرض أفكارهم! " لابدّ أنّ دهشتي كانت مضاعفة، مرّة للهايد بارك، ومرّة للشيوعيين. وكما لو أنّ حديثي الذي ذهب إلى نقد خفيف للصحافة العراقيّة التي كنت أطّلع عليها عبر الانترنيت، قد فتح باباً ذا شجون، سمعت منهما قدحاً وذمّاً للإعلام العراقيّ أظهر مدى إدراكهما كمثقّفين كبيرين أنْ: " ليس هكذا تورد الإبل! " مع إيحاء بأنّ الأمور ستؤول إلى الأفضل، وأنّهم، في بيت الحكمة مثلاً، مخوّلون من الرئاسة مباشرة. أهديتهما كتباً. وأهدياني مجلات متخصّصة، أعلماني أنّها تطبع ألفي نسخة لكلّ منها. وأهدياني أيضاً كتباً لم يكن لحميد سعيد بينها كتابٌ، إذْ أعلن الرجل بطريقة الشاعر المهمل أنْ ليس في مكتبه أيّاً منها… وافترقنا افتراق الذين لن يلتقوا في القريب العاجل، لكنْ لا… فللعراقيين طريقة في الاحتفاء طريفة ومفاجئة.
برج صدّام برجٌ عال كما هي الأبراج. في قمته مطعمٌ. تفاجأنا أنّ التصوير فيه ممنوع. أيعقل هذا؟! فالأقمار الصناعيّة تصوّر مواقع أصغر! إنما ما إن علم رجال الأمن أنّنا سوريّون حتى سمحوا لنا بالتقاط الصور. ومن أعلى البرج تُشاهد بغداد آفاقاً من النخيل والشوارع والأبنية. بلدٌ راسخٌ ثقيلٌ… المقامات الشيعيّة تحفة من التحف في فخامتها وضخامتها وتزيينها المبهر، لكنّ ازدحامها ونقص التنظيم فيها مزعج. الإيرانيون موجودون بكثرة فيها، بلْ وحتى سعوديين! هلْ تصدّقون؟!
بقدر ما اتّسعت السيّارة ركبنا على أنْ يلحقنا آخرون، والهدف شارع أبو نواس. ماهي إلا بضع كلمات متبادلة مع السائق حتى علم أنّنا نريد التعرّف على الوجبة العراقية: السمك المسكوف. والأهمّ أنّنا نتحرّق شوقاً إلى رؤية شارع أبو نواس. فإذا به ينشئ هجاءاً مريراً للحياة البغدادية. " الشارع الذي سمعتم عنه مات… لم يعد شارع الفرح والمرح واللّذة ". شدّنا الأسى في صوته إلى الإصغاء. " كانت أيّاماً، وكان الشباب المحبّ للحياة والشباب المثقّف المتحرّر يأتون إلى شارع أبو نواس ليقضوا ما بعد الظهر، وربّما امتد زمن المتعة إلى ما بعد منتصف الليل: شرباً وأكلاً وضحكاً وسياسة وثقافة… جيلنا تمتّع ولعب وعرف. لكنْ ما يحزّ في النفس هو جيل الشباب الآن. أنا أشفق على حاله. حياة فقيرة ومتع قليلة. من قبل كان شارع أبو نواس، هذا الممتدّ طولاً، يغصّ بالبارات والمطاعم والشباب، أمّا الآن…؟!! ". أين ذهب ذلك كلّه؟! تساءلنا. ذهبت به الحروب والـ "…… ". الـ " ماذا " تساءلنا. " المواقع الرئاسيّة " قال وهو يُشير إلى قصر ضخمٍ يُشيّد على الجانب الآخر من دجلة. وبحسرة قال: نحن العراقيين نسينا الفرح.
مساء اليوم الثاني كان الشاعر السوريّ صالح رحّال قد سبقني بالنزول إلى صالة " عشتار ". هنا التاريخ في كلّ مكان، حيثما ذهبت وحيثما التفت تجد للتاريخ بصمة عبر اسم أو آبدة أو... وكانت لطفية الدليمي وماجد السامرائي. أعرفهما أيضاً من صورهما في الجرائد. وكان رجل آخر من دائرة الشؤون الثقافية التابعة لوزارة الثقافة. سيُفاجئنا الرجل بدعوة إلى سهرة باسم الشاعر حميد سعيد. " يا إلهي! يا لسحر رابطة الكتابة! من قال أنّنا سنتجتمع بلا سابق معرفة! " لفظت لطفيّة بسعادة سنعلم أنّها تعكس غبطة المحاصرين إذْ يجدون من يعرفهم ويتحسّس أحوالهم من بعد.
كنت سأقبّلهم فور مدّ يدي للمصافحة لولا تلك المسافة التي تنطبع على ملامح العراقيّ وهو يتعرّف على الآخرين؛ مزيجٌ من الإقبال والكفّ، لكن ليس دون ابتسامة عريضة ورشقة من تأهيل وترحيب. دقائق وإذا بنا نغوص في نقاش عن حال الثقافة العربية بالكلمات ذاتها التي يمكن أن ترد في نقاش على طاولة في مقهى الروضة في دمشق، لا فرق، سوى من تلك الشكوى الدفينة عن نقص الكتب والدوريات، وسوى من سلوك يبرز رغبةً في الحديث المتصل ونقصاً في الإصغاء. رغبة عارمة في التعبير عن الذات؛ تبرّرها العزلة والحصار، هذا هو التفسير المحتمل. أو تعويض عن نقص ليست الذات مُلامة فيه. بحبّ وبلا كللٍ تحدث ماجد عن مثقّفين عرب وسوريين يعرفهم، عن السياسة، عن الثقافة، عن العولمة الثقافيّة، عن التفاعل الثقافي، عن… وعن… مُبدياً ثقافة واسعة، لكنّه أبداً كان يؤول إلى خلاصات سياسيّة لا يمكن فهمها إلا في ضوء الحصار على بلاده. اختلفنا عند مفهوم " الغرب " كمنتج للثقافة في عصرنا. كان يريد، تساعده لطفيّة، بإرادة مفهومة، أن يُبرز دوراً للثقافة العربيّة أكبر مما تصوّره لديّ… ونحن نودّعهما همست لطفيّة بأنّ في كتابها الذي أهدته لنا قصّةً كانت قد رُفضتْ… وممن؟!!… من ماجد نفسه!! لصفحة ثقافيّة يحررها. وأنّها أدخلتْ رفضه في نسيج القصة وأكملتها بثوب جديد ثمّ نشرتها في هذا الكتاب، قالت بحزن.
غرفةٌ صغيرة تنفتح على مدخل في قلب زقاق يتصل بسوق كبيرة، ومن الجهة الثانية تنفتح على شقّة غير مسكونة على الأرجح. الترحيب مشفوع بابتسامات مُحرَجة سنعرف أنّها نوعاً من اعتذار عن سهرة لمثقّفين في" الخفاء ". فالكحول ممنوعٌ!. سيقول لنا صاحب محلّ لبنانيّ الأصل متزوّج من عراقيّة: الكحول ممنوع في المحلات العامة لأنّ الرئيس، الله يحفظه، يقود حملة إيمانيّة. في مثل هكذا كلامٍ لا يمكنك أنْ تعرف ما إذا كان الكلام نوعاً من احتجاج أم هو نقل معلومة ليس إلا. فالوجوه ورنّة الحروف هنا تكتسب حياديّة عجيبة. لكنّ المواطنين العاديّين سيؤيّدون هذا المنع بكلمات مدعومة بآيات وأحاديث. حميد سعيد جاء متأخّراً… مائدة خليطة من مزّة سوريّة ولبنانيّة وعراقيّة. والحديث حديث مجاملات وأسئلة عن أخبار المثقّفين والكتّاب السوريين، حديث أخذ وقتاً ما كان ليأخذه لولا حرج الجلسة الحميمة التي يفترض بها أن تزيح الحواجز. لكنّ الحواجز موجودة في النّفوس، ومكرّسة بقطيعة ثلاثين سنة. الغريب أنّنا وجدنا العراقيين العاديين أصحاب نكتة، بينما كان المثقفون خالين منها، إذْ بعد عدّة نكتٍ منّا مختارة بعناية على تخوم السياسة والجنس تبيّن لنا أنّ الاستجابة متحفّظة. وعلى العكس بدتْ وجوه مُضيفينا مهتمّة، عندما بدأ الحديث جدّياً عن حلقة الاتجاه المعاكس الذي بثّته قناة الشباب العراقيّة على الهواء مباشرة نقلاً عن قناة الجزيرة. الصحون اللاقطة للفضائيّات ممنوعة في العراق. يحبس من ضبط يمتلك دِشّاً ستة أشهر مع غرامة تبلغ ثلاثة أضعاف ثمن الجهاز. كان البرنامج ملاكمة كلامية بين مصريّ وكويتي، والموضوع المُتَناول: الكويت/ والعراق. تعليقاً عليه باغتنا حميد سعيد بنظرة رزينة سياسيّاً: إنّه حوار لا حوار فيه… وإساءته أكبر بكثير من فائدته. لكنّه لم يخف سروره من غلطة الكويتي في قوله: طزْ على الأمة العربيّة!. سنُداعب من أشخاص عراقيين عديدين بين السخرية والشماتة: أسمعتم الحكمة من فم الكويتيّ البارحة؟!. السهرة تتقدّم والكلام يذهب ويأتي، إنّما يعود دوماً إلى صلة الاتصال الأحدث والنافذة الوحيدة تقريباً التي يطلّ منها العراق إعلاميّاً: الفضائيّات. سألوا، وانتبهوا جيّداً إلى أجوبتنا: كيف كان المحاور العراقي في عمر الفضائيّات؟! هل تعاطف الناس معه؟!. بصراحة أجبت: الناس متعاطفون مع الألم العراقيّ سلفاً… بالمناسبة، أيّ ذكر للألم العراقي إنْ تصريحاً أو تلميحاً، يحرج العراقيين الذين التقيناهم ويجعلهم يصمتون صمتاً عميقاً. أهي عزّة العزيز إذْ يخجل؟ أم هو مركّبٌ نفسيّ كونته العزلة والحصار؟. لكنْ… قلت لمْ نشهد أيّ محاور أعجب الناس سوى بعض الأساتذة الجامعيين الذين بدأت الفضائيّات تستضيفهم في الشهر الأخير. بصراحة كان المحاور العراقيّ دوماً محصوراً في خانة الخطاب الرسميّ دون قدرات شخصيّة، دون مَلاحة كلام، دون سخرية محبّبة، ودوماً دون ملْحٍ. لغة ناشفة. لغة من خشب. حتّى الهاشمي؛ سألونا… الهاشمي فيما ظنّ أحد مستشاري الرئيس. حتى الهاشمي!!
حدّثنا حميد سعيد عن صداقته لصباح فخري " أبو محمّد " بطريقة فيها الكثير من الحنين والحبّ. حدّثنا عن سوق الحميديّة. وعن أماكن لا أعرفها… كثير من العراقيين يحدّثونك عن أماكن في دمشق لا تخبرها أنت السوريّ. سألتني لطفيّة الدليمي عن جبل العشاق قرب دمشق أما زال…؟!. ولما سألت رفقاء السفر ما إذا كانوا يعرفون موقع جبل العشاق، لم أجد من يعرف! حدّثنا عن بوظة بكداش. عن الاستراحات بين دمشق وحلب.عن معرّة النعمان. وعندما عاد النقاش إلى نوع من السياسة، كان مدخله لقاء رئيس اتحاد كتاب العراق برئيس اتحاد سورية والعرب " علي عقلة عرسان "، أطلقتُ أنا دعابة ليستْ خالية من خبث: أتمنّى أن أعلم لماذا تتقاتلون أنتم البعثيين؟! ولماذا تتصالحون؟! علّق حميد سعيد بما يعني: صعب. صعبٌ جداً. إنّها حالة من الرّسوخ في العلم!!… مرّة أخرى أُهدينا لوحتان. فتحت هديّتي المغلّفة ما إنْ اختليت، فوجدتها لوحة تشكيليّة بالألوان الزيتيّة تُمثّل أمّاً تحمل طفلها في زقاق ذي طابع عراقي تتكوم بيوته مزدحمة وتتناوق شرفاته الخشبيّة بفضولٍ. الأمّ تقبض على يد الصغير من خلف رأسها، والصغير يجلس على كتفها، كما لو كانا يلعبان قبل لحظة واحدة. ولأنّي ممتنّ وواجبي يفرض علي شكر مضيفينا وشكر الشاعر حميد سعيد مُقدّم الهدية والمبادر بإشعارنا أنّنا محبوبون ومرحبٌ بنا في بلد كريم رغم ظروفه، بادرت فور وصولي إلى إرسال رسالتين بالبريد الإلكتروني، جاءني الردّ من الملقّم عليهما فوراً بسرعة إطلاق الرصاص " أمنَ الصدفة تسميته بالملقّم؟! ": هذه العناوين احتوت أخطاءً مريعة " قاتلة!! "…
:The following addresses had permanent fatal errors -----
سأحاول مرات ومرّات إرسال الرسالتين، لكنّ الجواب كان هو ذاته. أدركت أنّ الرسالتين لن تصلا وأنْ ليس للكولونيل من يكاتبه!! كولونيل ماركيز أمضى عقوداً ينتظر رسالة لم تصل أبداً ونحن بعد قطيعة ثلاثة عقود ليس لنا أنْ نتراسل أبداً. كولونيل ماركيز يعيش في اللغة، أمّا نحن فنعيش في الواقع. هاتوا أروني فنتازيا أعلى من هكذا فنتازيا.
صباح يوم الخميس لاحظناهم في بهو الفندق يسألون عن زميلين من زملائنا بصفتهم أقرباء لهم. كثيرون منّا حكّتْهم غدّة المداعبة الساخرة فراحوا يعلّقون على قرابات تظهر هكذا فجأة بعد دهر من التخلّي والصمت مُستعيرين من عادل إمام قوْلته الطريفة: دا ربّنا لُهْ حاجاتْ!. من " حاجات ربنا " أنْ يجد المرء نفسه محاطاً باحتفاء كهذا. أنا شخصيّاً، عذراً، توقّعت أن تكون الشخصيّة العراقية ذات طابع جلف صلب ومعزول، فإذا بي أرى بشراً دمثين قوّالين كرام.
انطلقنا نحو كربلاء برفقة مستضيفنا الجدد الذين اقتحموا علينا فندق الرشيد بحثاً عن أقارب سمعوا بأنّهم يحضرون مؤتمراً طبيّاً! مررنا بساحة الاحتفالات الكبرى من تحت السيفين الهائلين المتقاطعين، وبنصب الشهداء ذي التكوين الغرائبيّ الفخم، وبقبّة مزيّنة بشغلٍ معماري فريد حسبناها لأحد الأولياء. فإذا بها… احزروا لمنْ… إنّها قبر أحمد ميشيل عفلق " أبو محمّد " مؤسّس حزب البعث!
نخيلٌ. غابات من نخيل والطريق ازدحام. دلائلٌ كثيرة على أنّ العراق غنيّ لكنّه مُعاق. قال أحد مستضيفينا وهو معلم متقاعد: إحدى مشاكلنا نحن العراقيين تكمن في أنّنا اعتمدنا على الدولة، والدولة مدّت في حضانتها مسرورة في أنْ تكون هي ربّ العائلة الذي لا يخرج عن طوعه أحدٌ مادام جيبه عامراً بالمال. في أواخر السبعينات كان راتبي "1200 "دولار… ربّما تتفاجأون أنّ كلّ شيء في العراق يُحسب بالدولار! صاحب المحلّ الصغير يبيعك بالدولار! طبعاً يمكنك الدفع بالليرة السوريّة لكن بعد تحويلة ذهنيّة مروراً بالدولار. تجد البائع وقد غرز عينه في الفضاء، أو يتناول الآلة الحاسبة ويبدأ بالضغط على الأزرار، يلفظ بعدها السعر بالليرة مهتدياً بالدولار. في منتصف المسافة إلى كربلاء رأينا وزير الصناعة السوريّة الزائر ينزل من سيّارته ليشتري برتقالاً. أوقفنا الحافلة لنرى كيف يشتري وزيرٌ، ولمّا رأينا أنّه مثل كلّ الناس حمل كيساً من البلاستيك عائداً إلى سيّارته، رحنا نتمازح عن قيمة وزير لا تسير في ركبه مرافقةٌ لأفرادها طولٌ فارع ونظّارات سود.
ساحة كبيرة تحيط بمقامي العباس والحسين، دائر مدار الساحة فنادق من طابوق ذات طابقين، لا أكثر. ربما كانت الفكرة المعمارية وراء تواضعها في الارتفاع أن لا تعلو على المقامين. المقامان من الخارج متشابهان، وهما كذلك من الداخل سوى بعض التفاصيل. الجدران الخارجيّة مكسوّة بالقيشاني الذي يغلب عليه اللون الأزرق. أزرق غامقٌ، وأزرق سماويّ. المثير هو عدم وجود أيّ مشتق لونيّ من الأحمر؛ أليس من الغرابة حقّاً أن لا يرد إلى ذهن المعماريين لون الدم مادامت مأساة آل البيت مضمّخة بالدم؟! في الداخل تتبطن الجدران والقباب والسقوف بمتاهات من مرايا توحي بسماء من نور يتلألأ، لكنّها سماء متشظيّة بلا وحدة. نخلع أحذيتنا في الباحة. نودعها لدى مؤتمن. نسير حافين في الموكب المتزاحم. يدافعنا موكب جنازة يطوّف به حاملوه في أنحاء المقام. يُقال إنّ الميت يعي تلك الجولة التي يخصّه بها أحبّاؤه لتوديع الدنيا! نطوف بقبر العباس في المقام الأوّل، وبقبر الحسين في المقام الثاني. أُشْده وأنا أرى نساء يتعلّقن بمطرقة البوابة الضخمة ويقرعن بوهنٍ إنّما بروح ملحاحةٍ كما لو أنّهن يزرن بيتاً خاصّاً لا موقعاً يزدحم بآلاف مؤلّفة. أسمع همساً كأنّه مناجاة للنفس: " يا حسين… ". عجائز يتحسسن خشب الأبواب والجدران بخشية وحنان كما لو أنّهن يتحسّسن جزءاً حيّاً من ميّت مضت عليه دهور ودهور. نقف مع الواقفين وأيديهم مشرّعة في الفضاء استقبالاً لرحمة تتنزّل من السماء، نقرأ دعاء في نصّ معلّق على الجدار، ونلفظ مثلما يلفظون آميييييين! الطقس في شباط ومع ذلك نتعرّق ونفتقد النفس. الصدور مزحومة، والأقدام تتماسّ وتطأ بعضها البعض… نخرج إلى الهواء. نلتقط صوراً. نبحث عن عباءات ثمينة نجد ولا نشتري، مؤجّلين الشراء وكأنّنا سنمضي في العراق دهراً، لنندم في كلّ مرّة: " لو أنّنا اشترينا! "
لم يعد من الممكن زيارة النجف فالوقت تداركنا ومضيفونا يُبدون قلقاً يحاولون كتمانه. ونحن نبدي تردّداً بين ما سنندم عليه من تفويت فرصة، وبين حرجنا. أخيراً نقرّر أن نستسلم. على الطريق نفسه نحو بغداد نمرّ بجسر المسيّب الذي تذكره الأغنيّة العراقية الشهيرة. ننحرف عن الطريق العامّ ونوغل في ريف قضاء " المحاويل ". لا بؤس في ما نراه. ريف جميلٌ محضونٌ بغابات نخيل. تستثيرني مدرسة، أبوابها منتظمة، جدرانها مستقيمة نظيفة، دهانها حديث، وباحتها تبدو من أعلى الطريق مرصوفة وأنيقة. أستذكر فيلماً بثّتْه قناة الجزيرة يُظهر بؤساً منقطع النظير لتلاميذ عراقيين بثياب عتيقة. لا مقاعد. لازجاج في النوافذ. والسبّورة لوح خشبيّ ماذرٌ. أذكر دموعي التي داريتها عن عائلتي، لأفاجأ بعد لحظات أنّني لست الوحيد. كنّا جميعاً نداري دموعنا كأنّنا خجلون مما نرى. كأنّنا مسؤولون عمّا حصل لأولاء الأطفال. سألت: أكلّ المدارس هكذا؟! انتبه المعلّم المتقاعد إلى ما وراء سؤالي: " أكو… مدارس ومدارس… مرّت علينا ثلاث سنوات ربك لا يعيدها على بشر!! سنوات الـ 94 و95 و96 ". مثل هذا الكلام كنا قدْ سمعناه من عديدين. حميد سعيد قال في السهرة مقتبساً عنوان المخرج الجزائريّ الأخضر حامينا: إنّها سنوات الجمر. الناس باعوا كلّ شيء… باعوا حتى الأبواب الداخليّة في بيوتهم. لم يتبق سوى الأبواب الخارجيّة… خطر ببالي حينذاك تشبيه البيت العراقي بالوطن العراقي، هو الآخر لم يعد يمتلك سوى باب خارجي يغلقه على نفسه، إنّما خشيت سوء الفهم، فأحجمت. وأكمل: أحد أصدقائي ذكر لي أنّه عاش تلك السنوات بفضل " سوء تدبير! " امرأته. كم كنت أتضايق منها، أيّام العزّ، أيّام كانت البضائع الموجودة في بغداد لا توجد في غيرها. كانت متلافة تشتري من الصينيّ والتحف والسجاجيد ما لا يلزم. لم نكن نعلم أنّ الدهر يخبّئ تحت عباءته ما حصل؟!. سوء تدبير المرأة كان في تلك السنوات هو خشبة النجاة. سوء تدبيرها انقلب بيد القدر إلى أفضل تدبير. أظنّ أنّ أحداً لا يمكنه تقدير مدى الألم في كلام كهذا إنْ لم يخبر " العنجهيّة! " التي كان العراقيّ يتمتّع بها.
المُباغتة التي تدفع إلى الدهشة حقّاً هي مظاهر الاحتفاء التي رأيناها في الأيدي الملّوحة. نصف سـكان " المحاويل " كانوا يعلمون أنّنا قادمون. ما إن يروا حافلتنا ذات اللّوحة المثبّتة على الزجاج والتي تشير إلى أنّنا وفد سوريّ، حتى ترتفع الأيدي بالسلام وتكتسي الملامح بابتسامة مرحّبة، وربّما معاتبة أيضاً. بعضهم اعترض السيّارة ليطلق كلمات الترحيب بسرعة قياسيّة… الفرات هنا عريض المجرى، لكنّنا علمنا أنه محجوزٌ خلف سدود صغيرة للتخزين. ماء غير جار. والشكوى من نقص ماء الفرات لها شجون تتصل ليس فقط بالزراعة وإنما بالافتقاد؛ افتقاد جغرافيا تاريخيّة. أليس العراق وطن الرافدين؟!
وصلنا إلى بيت طرفيّ تمتدّ خلفه غابة نخيل. كانوا ينتظرونا. أنشأ أحدهم ترحيباً بطريقة " الهوْسة " العراقيّة كتلك التي نراها على التلفزيون: كلامٌ موزون على إيقاع قفزات متوالية. الذراع التي تمسك بالعباءة مشرعة نحو الأعلى، والركبتان تنثنيان، ثمّ يقفز الجسد مرّات ومرّات… مصافحة بالأيدي وثلاث قُبلٍ. سلامات… سلامات لا تنتهي. مازحتُ مستقبيلنا بعد أن هدأ الصخب أنْ ليس كلّ الضيوف من أقربائهم. ردّوا جمعاً مُستنكرين بدماثة: كلّ الإسلام أعمام! أكان كلّ المسلمين أعماماً أيام كانت الطائرات تقصف؟! ورد السؤال إلى ذهني. مضيفونا من " الهنادي ". قبيلة ربما لم يكن لأفرادها أصلٌ دمويّ واحد، بذرها جيش إبراهيم باشا المصري في حربه مع الأتراك في شمال ووسط سوريّة. أصولهم من بلدة هنادي المصريّة. من تاريخ هذه البلدة وفق الجبرتي أن أهلها كانوا منبعاً للجيوش المصريّة. قبائل محاربة. أمّا قصّة وجودهم في العراق فلها رواية أخرى غير الحروب، إنّها التجارة والسعي وراء الرزق. ألا تلخّص روايتهم قصّة الجَوَلان في بلاد العرب والمسلمين؟! إمّا غزوٌ، أو تجارة وبحث عن العيش. على العشب مُد السجاد. والشهر شباط! والحديث يتناول بحرجٍ أسماء الأقرباء في سوريّة، إذْ من يضمن أنّ من يُسأل عنه مازال حيّاً بعد كلّ هذه السنين؟! وفعلاً كان بعض من سألوا عنهم أمواتاً. هنا الناس شيعة، لكنّنا لم نلمسْ لا تصريحاً ولا تلميحاً ما يوحي بصراع حادّ. سندرك بعد قليل بطرائق تشبه الطرائف أنّ التشيّع والتسنّن هنا يتبع الجغرافيا في بعض جوانبه. أنت من الوسط وانتقلتَ إلى الجنوب والجنوب شيعة فلمَ لا تتشيّع؟! يمزحون أنّ العائلة الفلانيّة تركتْ " دينها! " ما إنْ ساعدها الناس في إنزال الأغراض من السيّارة! لم يحنْ موعد آذان العصر حتى كانوا يصلّون مثلما نصلّي!
العراق ذو طابع شيعيّ في العموم. جلّ المظاهر وجلّ الكلام يوحي أنّك بين أناس يقدّسون الحسين الشهيد. والعراق، دون الشمال الذي لم نره، ذو طابع عربيّ محض!! لا لكْنة لا كناية لا استعارة لا إحالة إلى ما هو غير عربيّ. عربٌ قبائليّون حتى العظم!! قليلٌة هي الكلمات ذات الخلفيّة الثقافية والسياسيّة التي أوحت باستنكار ما من هذا الوضع القبليّ. همس مهندسٌ مقاولٌ في أذني ردّاً على سؤالي " لمَ لم تأخذ المدن العراقيّة طابعاً حضريّاً كما هو الحال لسكان دمشق وحلب والقاهرة الأصليين ": تلك هي قصّة السلطة. ليس سلطتنا الحاليّة فقط وإنّما السلطات التي سبقتها أيضاً… في بغداد تجد نواة حضريّة لكنّها مجبرة على الانتماء إلى قبيلة ما. وأيضاً جزء من المشكلة يعود إلى الجيش الإسلاميّ الأوّل الذي دخل العراق في كتائب، كلّ كتيبة تحت راية قبيلتها ". الشمس تميل إلى ما بعد العصر عندما انتهينا من غدائنا، المكوّن كما هي العادة من غذاء يكفي للواء في الجيش. وبأيمان مُغلّظة حمّلونا أكياس تمر ستسبب لنا ارتباكاً لأنّها ستأخذ مكاناً كبيراً بين ازدحام أغراضنا.
على طريق العودة رحنا نتأمّل ونسأل عن كلّ شيء. أشاروا إلى أرض خاوية واسعة بين غابات النخيل: هنا معسكر للجيش ظلّت الطائرات تقصفه كلّ يوم. تقف الطائرات هناك، مشيرين إلى الأفق فوق غابة نخيل، وتبدأ بالقصف. كنّا نرى الصواريخ والقذائف ونتابعها إلى أن تنفجر. تأتي الطائرات من جزيرة العربْ؛ نبر المعلّم بلهجة تبخيس وسخرية… هذا الطريق هو ذاته الطريق الذاهب إلى الجنوب، إلى البصرة… ألمحنا إلى ما حصل في الجنوب فلاقينا صمتاً مطبقاً. أخوف هو ذاك الصمت أم طريقة للنسيان؟! فيما بعد في طريق عودتنا إلى الوطن، سيصعد معنا رجل من عند حاجز، سنفهم أنّ مهنته هي الوقوف على الطرقات بانتظار سائق مُتعب يعرض عليه خدمته. كان من قبل جندياً. سيقصّ لنا قصصاً، يقف لها شعر الرأس. في مرحلة من حديثه لفظ: هربت في الصحراء لا أدري إلى أين… قطعناه ممازحين: باطلْ! هربت؟! بدا عليه الاستنكار الجدّي: يا بااااا… هذا موت!! موت!! مو مزحْ!!… هاذولا الأمريكان!! تنْضرب وما تعرف منين تنضرب!! وكالعادة رحنا نناقش كما لو أنّنا في مؤتمر تعنّت الكويت وذريعتها في الأسرى. يا أخي الأوربيّون تحاربوا حربين عالميتين. وحدها الحرب الثانية أماتتْ عشرين مليوناً، ومع ذلك نسوا. لمَ لا ينسى الكويتيّون؟!! فاجأنا السائق العراقيّ الذي كان قد استلم مقود السيّارة: لن ينسوا. ما فعلناه بهم لا ينسى. وما يفعلونه الآن بيد الأمريكان لن ننساه. لن ينسوا ولن ننسى. أرأيتم مسرحيّة حسين عبد الرضا؟ أنا رأيتها في الأردن. كيف لعراقيّ أن ينسى صورته في ذاك الجنديّ العراقيّ الذي تصوّره المسرحيّة لا يفرق بين السجّادة والمنشفة؟! حيث يتمرّغ مثل قردٍ بخديْه على السجادة حاسداً الكويتيين على هكذا مناشف!! لماذا يصوّرون رئيسنا، الله يحفظه، بهذه الصورة ألا يحسبون حساب المستقبل؟! ألا يخافون؟!. كلّ العراقيين الذين التقيناهم يذكرون اسم رئيسهم مصحوباً بهذه الجملة " الله يحفظهْ " لكنّهم جميعاً أيضاً، سنلمس منهم نقداً دفيناً خفيّاً. " ما كان وارداً مثل هذا الظلّ من النقد قبل سنتين أو ثلاثة… كان الصمت سيّداً! " قال أحد المثقّفين العراقين. ولمّا سألته ما الذي استجدّ. أجاب بصراحة: أولاً لأنّ وجوهنا، سلطة وشعباً، إلى الحائط. يعني لا بدّ من إفساح المجال لنوع من النقد. وثانياً لأنّ السياسة هكذا. كلّ العراقيين يتمنّون تغييراً ما. لكنّ القبض على الجمر يحرق ويشوّش!!
أهدى الأقرباء أقرباءهم سيفين خُصّا بقيمة تقديسيّة. إذْ أنشأ الرجل الذي قدّمهما خطبةً كما لو كان خليفة يسلّم قادة جيشه رمز القوّة قبل الشروع في فتح جديد. أم هي روح إبراهيم باشا أطلّتْ على الأحفاد؟!
وأنا أتهيّأ للذهاب إلى حفل اختتام المؤتمر هتف ماجد السامرائي معاتباً لأنّني أخلفت الموعد، فلم ألق في نفسي الحرج المحتمل في مثل هذه الحالات، إذْ أحسست أنّني مادمت قد زرت الحسين وكربلاء وتوغّلت في الريف العراقي، فقد أُسقط عنّي واجب الوفاء بالمواعيد! فكّرت مثلما يفكّر المسلمون الطقوسيّون الذين يقنعون أنفسهم أنّهم ماداموا يصلّون ويذكرون اسم الله فإنّ الواجبات الأخرى تقع في مقام ثان.
في نادي الصيد كان العشاء الأخير. النادي هنا كما هي المنشآت في بغداد بُنْيةٌ ضخمة وساحات واسعة. المدعوون ينوفون على الثلاثمائة. والطعام زيادة كريمة متلافة كما هي العادة. عدد النساء قليلٌ. منفرداً عن زملائي جلست مع عدد من الشبان. بعد صمت سبّبه وجود غريب يتلفّت في كلّ الاتجاهات كمن أضاع شيئاً، والذي هو أنا؛ قدّمت نفسي تحت صخب الموسيقى وصوت المغنّي. اضطررت على إعادة التعريف مرّات. كانوا جميعاً أطبّاء في الاختصاص. أحببت أن أكسر جليد الصمت بسؤال صادم: لماذا تغيب المرأة العراقيّة؟! لم نر الكثيرات في الشوارع ولا في الأماكن العامة. وحده نادي الرماية الذي سبق وأن تعشيّنا به لاحظنا فيه عدداً كبيراً منهن. ألستم في الإعلام تدعونهن بالماجدات. فأين الماجدات؟! تباسم أحد الأطبّاء الشبّان ساخراً: أتريد حضرتك أنْ تستعرض ماجداتنا؟! ماجداتنا للبيوت. فما حال ماجداتكم أنتم؟! جاريت السخرية المحبّبة: ماجداتنا يشتغلن شغلين! تجدهنّ في الشوارع وتجدهن في البيوت. وعندما آل الحديث إلى الجدّ أجمع الأطبّاء الشبّان أنّ الأسرة العراقيّة محافظة بطبعها والنساء عادة لا يخرجن إلا مع رجل أو يخرجن في جماعات، لكنهنّ على أيّ حال يعملن في كلّ المجالات، ولو أنّك زرت الجامعة لرأيت أنّ عددهن لا يستهان به. لكنّ ما رأيناه في نادي الرماية مختلف؛ قلتُ. نساء. فتيات جميلات على آخر طرز فلمَ لم نر هكذا مظاهر في الشارع؟! تلك قصّة أخرى سيتهرّب منها الشبّان، لكنّهم سيلمحون إلى أنّ اللواتي رأيناهن هناك من عليّة القوم…إنّه المال!! كنّا في نادي الرمايـة قد لا حظنا فعلاً مظاهرغنى، ربما كان فاحشا. ولأنّنا علمنا مدى حبّ العراقيين " للشاميين " رحنا نتحدّث مع الفتيات بروح شبابيّة رغم أنّ معظمنا كان في سنّ الكهولة. واحدة منهنّ كانت جميلة جمالاً أخّاذاً. سمرة صافية. عينان ذبّاحتان. وجسد عارضة أزياء. خاطبتها مرّات في معرض حديثي بـ " يا حلوة " مُوارباً الكلام بين العفويّة والتعمّد، وعندما التقطتِ الأمر بإحساس الأنثى راحت تقاطعني مقلّدة لهجة سوريّة ما: " صحْ عمّو… شكراً عمّو ". أحرجت ورحتُ أردد: تعيّرني بالشيب وهو… لكنّ اسطوانتها المشروخة التي انتصرتْ بها انتصار الأنثى الذي لا يخفى في التماعات العينين وبالبسمة المترفّعة ظلّت تردّد: عمو… عمو… يلعنْ... أمّ أكبر عمّ في الدنيا!!
تناوب رؤساء الوفود بإلقاء كلمات تحوّلت كما هي عادة العرب إلى السياسة والتضامن. فيض من عواطف أبكتْ إلا قليلاً. أحلى الكلمات توقيعاً كانت لوفدنا. نحن السوريين خبراء كلام، نمشي بين الألغام بحذر القطط، وفي حلاوة كلامنا روح فهود وهديل حمام!! سيّدة سوريّة طلبت الإذن بالكلام، فأصابت عواطف الجميع، واستجلبت التصفيق، وتبيّن أنّها حماة رئيس الوفد الذي، في جو المرح، همس في مكبّر الصوت أنّ حماته قالت القول الفصل. فلا مزيد!!
صبح الأحد نزلنا إلى البهو في الخامسة استعدادً للسفر، حين ضاعت روح الألفة، بين استنكار لحساب الشاي والقهوة والكوي والغسيل، وبين نقص في دماثة عمال الفندق… أين كنّا وأين أصبحنا؟! بالأمس فقط كانت عواطفنا تفيض افتراضاً إلى مستويات أعلى من المال! واليوم نسينا؟!
أَنعود إلى بغداد ثانية وهي في صحوها وأمنها وثرائها المكبّل بالحصار؟!
أم أنّ الصواريخ ستمطر قريباً دماً وتفتيتاً لبلد التاريخ والجغرافيا الممزّقة؟!
أَنعود قريباً؟! أم أنّ قطيعة دهريّة أخرى بانتظارنا؟
أينفكّ العراقيون قريباً من أسر الدول؟!
أم أنّ القوّة السابية لم ترتو بعد؟!

محمد حاج صالح

بغداد/ الرقة . أواخر شباط/2002



#محمد_حاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مصور بريطاني يوثق كيف -يغرق- سكان هذه الجزيرة بالظلام لأشهر ...
- لحظة تدمير فيضانات جارفة لجسر وسط الطقس المتقلب بالشرق الأوس ...
- عمرها آلاف السنين..فرنسية تستكشف أعجوبة جيولوجية في السعودية ...
- تسبب في تحركات برلمانية.. أول صورة للفستان المثير للجدل في م ...
- -المقاومة فكرة-.. نيويورك تايمز: آلاف المقاتلين من حماس لا ي ...
- بعد 200 يوم.. غزة تحصي عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية
- وثائق: أحد مساعدي ترامب نصحه بإعادة المستندات قبل عام من تفت ...
- الخارجية الروسية تدعو الغرب إلى احترام مصالح الدول النامية
- خبير استراتيجي لـRT: إيران حققت مكاسب هائلة من ضرباتها على إ ...
- -حزب الله- يعلن استهداف مقر قيادة إسرائيلي بـ -الكاتيوشا-


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد حاج صالح - كنا في العراق. رحلة إلى بغداد 2002