أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالله إبراهيم - أوطان متخيلة















المزيد.....

أوطان متخيلة


عبدالله إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 1059 - 2004 / 12 / 26 - 10:24
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أيمكن الحديث عن أوطان متخيلة؟ أجل، وبكل تأكيد، بالنسبة للمنفيين والمهاجرين. ولكن كيف؟ قبل الإجابة ينبغي عليّ القول بأن السيرة الذاتية للروائية التشيلية" إيزابيل ألليندي" الموسومة" بلدي المخترع" هي التي أشعلت فتيل الكتابة عن هذه الفكرة، والأصح دفعت بها إلى الظهور بعد احتجابها سنوات طويلة في داخلي. تثير هذه السيرة الشائقة، المكثفة، مشكلة كبيرة، مشكلة الانتماء، ومشكلة الهوية، واختراع الأوطان، قد يبدو هذا الموضوع مختلقا من أساسه لكل من يعيش في وطنه هانئا، ولم يفارق بلاده، ومازال مشدودا بقدميه إلى بقعة من الأرض ولد وترعرع فيها، لكنه أمر غاية في الأهمية للمهاجرين و المنفيين، أولئك الذين غادروا بلادهم قسرا أو اختيارا، ولم يندمجوا بالجماعة الجديدة التي يعيشون فيها، ولم ينسوا، في الوقت نفسه، الجماعة القديمة التي تحدروا منها، فظلوا عالقين بين مجتمعين وثقافتين.
برع"إدوارد سعيد" في سيرته الاستثنائية" خارج المكان" في وصف وضع المنفي/ المهاجر في المنطقة القلقة بين الحقيقة والخيال، بين المخيلة والذاكرة. يلجأ المرء لتخيل وطن من أجل أن يهدّئ نوازع الحنين، وبعبارة ألليندي عليه أن يخترع بلدا. لا يستطيع المنفي/ المهاجر الانخراط الكامل في الجماعة الجديدة، ولا يتمكن من قطع الصلة بالجماعة القديمة التي ولد فيها، فيخترع انتماء مهجنا، ويختلق بلادا متخيلة. لم يتحدث" إدوارد سعيد" في سيرته عن أمريكا حيث أمضى معظم حياته، ومارس بنجاح مشهود حياته الثقافية والأكاديمية، إنما تحدث عن فلسطين، وحياة أسرته في القاهرة حينما كان طفلا وصبيا.
حينما قررت ألليندي كتابة سيرتها الذاتية، تحدثت عن طفولتها في تشيلي، وليس عن حياتها في أمريكا حيث تعيش الآن متزوجة ومستقرة. هل ينبغي علينا اختراع بلاد من الذاكرة، ولمّ شتات بلاد من الماضي، وترميم نبذ من الذكريات لنجعل منها بلادا متخيلة، كالجنائن المعلقة في بابل؟ تلك قضية مؤرقة، وكعراقي أعيش منذ نحو عقد ونصف بعيدا عن بلادي، التقيت مئات العراقيين المنفيين والمهاجرين، وأغلب هؤلاء حصلوا على جنسيات البلاد التي استضافتهم، وأصبحوا طبقا للوثائق التي يحملونها مواطنين فيها من نيوزلندا إلى كندا، ومن السويد إلى أمريكا، ومن استراليا إلى هولندا، لكنني ما قابلت أحدا منهم قط أخذ هذه الأوطان الجديدة مأخذ الجد على أنها بلاده الحقيقية بصورة نهائية، كان انتماؤهم الذهني والروحي والوجداني والتاريخي يرتبط بالعراق ارتباطا أقرب إلى الهوس المرضي، فهم أشد عراقية من العراقيين داخل البلاد، يتضورون لما حلّ به، ويعوم الأرق في دنياهم بسبب الأخبار التي تتوالى على عجل من بلاد الرافدين. وهذا موقف إنساني يثير العذاب والمرارة والقلق، فكيف سيكون مآل شخص يعيش في بلاد، وينتمي إلى أخرى؟.
يحيا العراقيون عالقين بين بلاد متخيلة بنيت من شذرات الذكريات القديمة، وبلاد جديدة لم تمكنهم من الاندماج الكامل. من ناحية منطقية يمكن القول إن قبول المرء جنسية بلد آخر مهما كانت الظروف المصاحبة لذلك، لابد أن يتبعه الاندماج في العالم الجديد، والانخراط فيه فاعلا اجتماعيا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ولكن من ناحية واقعية لم أجد شخصا اندمج، وقطع الصلة بالماضي، كل من التقيتهم كانوا يرسمون للعراق صورة شفافة مطابقة له قبل الرحيل، صورة تزدان كل يوم بالحنين والاشتياق، فتتعالى في المخيلة وتصبح تجريدية. تربض البلاد في المنطقة النشطة من الذاكرة وتتلون بمرور الزمن بالرغبات، وتنحبس في حقبة زمنية، لا تقبل التغيير. تصبح البلاد المتخيلة صورة معلقة في متحف الذاكرة، نجد ذلك في روايات غائب طعمة فرمان الذي بقي في المنفى إلى النهاية، وكثير من الكتاب والفنانين العراقين في مهاجر الأرض يرسمون صورة مغايرة تماما لواقع حال العراق، صورة لعراق طالما تخيلوه من تجاربهم الأولى فيه، وكل من زار البلاد بعد سقوط النظام، صُدِمَ، مثلي، ببلاد جديدة، غير تلك التي تخيلها وبناها استنادا إلى ذكرياته القديمة، والآن لأي البلاد ينتسب هؤلاء؟ وما هي أوطانهم الحقيقية؟ وإلى أين يتجه اهتمامهم؟ تلك قضية تحتاج إلى بحوث جديدة ذات اهتمامات نفسية واجتماعية وثقافية.
يعيش الإنسان في بلاده واقعا كثيفا تتقاطع فيه المؤثرات، وما أن يرتحل عنه(أو يرحّل) حتى تتساقط كثافة الحياة اليومية، وتنحسر، وتتلاشى، وتحل محلها ذكريات شفافة تدفع إلى النسيان الوقائع اليومية المريرة، وبمضي السنوات يبدأ المنفي/ المهاجر باختلاق بلاد على سبيل الاستعادة، تحضر في ذاكرته كتجربة شفافة، وأثيرية. تقول ألليندي في سيرتها واصفة هذه التجربة" منذ اللحظة التي عبرت فيها جبال الأند، ذات صباح شتوي ماطر، بدأت دون وعي عملية اختراع بلد، عدت لأحلق فوق الجبال مرّات كثيرة، ودائما أتأثر، لأن ذكرى ذلك الصباح تهاجمني كما كانت حين رأيت مشهد الجبال الشامخ، فالعزلة المطلقة لتلك القمم البيضاء، لتلك الهوات السحيقة، لتلك السماء العميقة الزرقاء، ترمز إلى وداعي لتشيلي. لم أتصور قط أنني سأغيب كل هذا الزمن... سيطر علي الحنين منذ تلك الليلة الأولى، ولم يفلتني لسنوات طويلة إلى أن سقطت الدكتاتورية وعدت لأطأ أرض بلدي، خلال ذلك بقيت أعيش ناظرة إلى الجنوب، متعلقة بالأخبار، منتظرة لحظة العودة بينما اختار ذكرياتي، أغير بعض الأحداث، أبالغ أو أتجاهل أخرى، أشذّب عواطفي؛ وهكذا رحت أشيد شيئا فشيئا هذا البلد المخترع، الذي زرعت فيه جذوري".
غادرت إيزابيل ألليندي تشيلي إلى فنزويلا عام 1975 بعد نحو سنتين من انقلاب الدكتاتور "بينوشت على الرئيس المنتخب" سلفادور ألليندي" في يوم 11 أيلول عام 1973 رتبت الانقلاب وكالة المخابرات الأمريكية، فوصل بينوشت(الذي يرقد الآن في المستشفى بالسكتة الدماغية، وكان عهده انتهى في عام 1989،واحتجزته بريطانيا في نهاية التسعينيات بتهمة إبادة الجنس البشري) إلى القصر الرئاسي الذي قصف بطائرات سلاح الجو التشيلي، وتمت تصفية الليندي في القصر نفسه، أما إيزابيل التي تتصل بقرابة حقيقية للرئيس، فقد تقلبت بها الأحوال، وتزوجت في نهاية المطاف أمريكيا بعد زواج سابق من تشيلي استمر ربع قرن، وأقامت في كاليفورنيا، في البلاد التي رتبت لمجيء" بينوشت" إلى الحكم، وكانت حسب سيرتها تعتقد بأنها تشيلية خالصة إلى أن هزتها أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 فجعلت منها أمريكية، ففي11/9/ 1973 خسرت، كما تقول، بلدا هو تشيلي، وفي 11/9/2001 ربحت بلدا، كما تقول، هو أمريكا، ولكن سيرتها الذاتية، المفعمة بالحنين والذكريات تؤكد انتماءها إلى بلد ثالث، هو تشيلي المتخيلة.
لا يمكن وصف إيزابيل ألليندي بالنفاق أبدا، بل إنها تعيش في المنطقة المتأرجحة بين الحاضر والماضي، بين التاريخ والواقع، وشأنها شأن المنفيين تظن أنها تنتمي إلى الاثنين معا، لكنها في الواقع تخترع بلدا ثالثا مختلفا. ولو استعدنا سير المنفيين، والمهاجرين، والمرحلين، ومذكراتهم، لوجدنا أغلبها تتخيل بلادا تنبثق من بين ضفتين: المخيلة والذاكرة، الماضي والحاضر، الواقع والخيال، ولم تكن تشيلي المتخيلة استثناء بالنسبة لإيزابيل فقط، فلحظة انقضاض العسكر على الحكم الجمهوري فيها شكل بداية يقظة وعي عندي أيضا، كنت في نهاية دارستي المتوسطة(الإعدادية)لما جاءني طالب نحيل، قروي المظهر، يطلب مني المساهمة في حملة عالمية لإطلاق سراح زعيم الحزب الشيوعي في تشيلي"كورفلان"إثر الانقلاب الذي لم أعرف تفاصيله إلا حينما قرأت مذكرات "بابلو نيرودا" بعد أكثر من خمس سنوات من ذلك. رأيت على الورقة توقيعات متداخلة، وفي أعلاها مطالبة الأمين العام للأمم المتحدة بالتدخل لتحرير"كورفلان" فانتبهت إلى وجود شراكة إنسانية تجمع بني البشر بغض النظر عن أفكارهم وأعراقهم وعقائدهم وقاراتهم.
وفي الخريف انطلقت بعض الفرق الغنائية للحزب الشيوعي العراقي تتغنى بتشيلي، ومنها الأغنية التي تقول (جيلي تمر بالليل نجمة بسمانا، بويه انكضى اللي كان يحسب كضانه) أي أن تشيلي تمرّ بسمائنا مضيئة كنجمة في الليل، فيا أبي لقد قُضي على مَنْ حَسِبَ أنه قضى علينا. وهي أغنية مغرقة باللهجة العراقية إلى درجة يصعب تعريبها، وفيها يدرج مؤلف الأغنية قضية"تشيلي" ضمن الهم السياسي العراقي في مطلع سبعينيات القرن الماضي، كناية عن غياب النجوم في سمائنا، أي الحريات، ومن الواضح أن تشيلي المتخيلة لم تطف في ذهن الشاعر وحزبه إلا بعد أن قضى العسكر على التجربة الاشتراكية فيها، وهو أمر طبيعي كما رأينا مع إيزابيل، فلا يمكن اختراع شيء إلا بعد فقدانه، الغياب يلزم الحضور. أما أنا، وقد كنت في الخامسة عشرة من عمري، فقد ارتسمت تشيلي في مخيلتي فعلا كنجمة مشعة تومض في حندس الليل في بداية ذلك الخريف إلى أن اندلعت حرب أكتوبر/تشرين بعد نحو شهر فنسيتها. تدربت على اختراع تشيلي، قبل عشرين سنة من اختراع العراق الذي غادرته مطلع التسعينيات. العراق المتخيل الآن هو بلدي الحقيقي.
[email protected]



#عبدالله_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق وإعادة تعريف الهوية: نموذج كركوك


المزيد.....




- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالله إبراهيم - أوطان متخيلة