أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال القواسمي - خزانة العطارين - قصة قصيرة















المزيد.....

خزانة العطارين - قصة قصيرة


جمال القواسمي

الحوار المتمدن-العدد: 3562 - 2011 / 11 / 30 - 17:53
المحور: الادب والفن
    


لم يُطِقْ عائلة زوجته أبداً. كم تمنَّى لو أنَّ زوجته تيَّتمت من أهلها وهي صغيرة وأصبحت فرعاً مقطوعاً من الأهل لا لشيء إلا لترثَ خزانة والديها. إنَّه لا يطيق فتوحاتهم لبيته ليلاً ونهاراً. طلب من زوجته مراراً عدم استضافة أهلها في بيته، ولم تفعل. حرِد عن العودة الى بيته احياناً بحجة انه نسي اين يقع، فلم يكسب إلا البهدلة وشماتة الناس؛ صار ذكره فضيحة بين الجيران. لم يُطِقْ الناسَ يوماً، لم يُطِق جيرانه.
     منذ أن تزوج وسكن في بيته، لم يُطِق العيش فيه. كان يحلم بالعيش في بيت حميه، حيث تعيش حبيبته الحقيقية، وهي خزانة انسبائه. بلغت غيرة زوجته عليه من الخزانة إنها حردت إلى بيت والديها. طلبوا منه أن يردَّ زوجته إلى بيته، لكنَّه لم يذهب، الأمر الذي استغربه الجميع؛ توقَّعوا انه سيذهب على الأقل لرؤية الخزانة. لكنَّه لم يَعُد يطيق زوجته. حاول أن ينساها. وهذا ما حصل.
     أفضل نعمة حباه الله بها هي النسيان. أدرك منذ طفولته المبكرة انه ينسى كلَّ ما لا يطيقه. لم يخبر أحداً بسره ولا اقرب أصدقائه حتى زوجته. لقد استطاع بهذه القدرة السحرية الفائقة (أيّ النسيان)، أن يمحو عن الوجود عوالم كثيرة لا يطيقها. بل طوَّر هذه الموهبة الإلهية فحذف عن وجه الأرض إمبراطوريات الفلسفة والفكر والسياسة والأدب والتعرصة التي لا يطيقها. وفعلاً نسي زوجته المسكينة.
     تفاجأ ذات يوم حين سمع صوتاً في الهاتف يرجوه، "ألن تعيدني؟ أكلُّ زعلك من اجل خزانة؟ أنا تحبُّ عليَّ خزانة مُهَكَّعة؟! سامحك الله! أرجوك، تعال بسيارتك، وخذني من بيت أهلي." سمعها تُضيف بعد بُرهة من الصمت الناحب، "هكذا تقول لك أمي. ها هي معك!" وحماته مخلوق نسي آدم اسمها حين تعلَّم كلَّ الاسماء امام الله والملائكة، فلم يحفظ اسمها أحد. لم يُطِق حماته أبداً، ولا حماه، النكرة في البيت والنكرة في الشارع. لم يُطِق شارعهم وبيتهم؛ كان دوماً ينسى أين يقع بيت حميه.
قالت له حماته، "تعال وخُذْ البنت، وإلا معصتُ رقبتك!"
قال لها، "لقد نسيتُ بيتكم مرة أخرى. إذا أرادت، فلتعد وحدها!"
قالت له، "لتعُدْ عليك المصائب التي نسيتك منذ أن خلقتك أمك يا ابن القحبة!! كان عليَّ أن أزوجها من طبيب او مهندس، لا موظف كحيان ينسى اسمه أحياناً! بنتُ الكلب تحبُّك. لو لم تكن تحبُّك، لما رأيتها أبداً. تعال وخذها.."
 قال مُداعباً، "كيف سأعرف بيتكم؟"
 قالت باستهزاء مُرٍّ، "سأنتظرك على قارعة الطريق وألوح بيدي، ما رأيك؟"
-" الحقيقة نسيتُ كيف تبدين."
-" قليل أدب وذوق! صحيح أنك سافل!" وألقت السماعة أرضاً. سمعها تصرخ بأنَّها ستنتظره قرب الدار وتمزقه بأظافرها وأسنانها. وسمع حماه يتنحنح وهو يُمسك بالسماعة. قال له، "حماي، أنا آسف، نسيتُ وجهكَ أنتَ أيضاً!" فقال له حموه، "معليش يا ابني، لكن المهم لا  تنسَ وجه زوجتك!"
-" طيبْ، هل تراهن يا عمي إنني نسيته!"
     ألقى والد زوجته السماعة على الأرض، وبعد لحظة سمع زوجته تقول، "والحل؟ قلت لن أعود وحدي إلى البيت يعني لن أعود!"
 قال لها وقد وجد الحل، "أتعرفين خزانة والديك؟ أخرجوها من البيت، وضعوها عند الشارع. هكذا سأذكر أين يقع بيتكم."
     حالاً تذكَّرت حماته نقطة ضعفه، أي حبَّه للخزانة، فقالت لتغيظه وتبطَّ دمَّـل صلتهم به، "ألم تدرِ؟ لقد صرعت حماك أمس نوبة غضب فحرق الخزانة؟"
-" الخزانة؟ خزانة العطارين؟ حرقها؟ لماذا حرقها؟" لم يُدرك المسكين أن حماته قالت ذلك كي يبتعد كلياً عن ابنتها، لكن النبأ صدمه حقاً. معقول أن تحترق الخزانة؟ كانت الخزانة كبيرة جداً، وجميلة جداً. كانت من خشب البلوط؛ وصمَّمها آخر النجارين التقليديين في البلد، رحمه الله. وقد أحب الخزانة من النظرة الأولى. أمَّا ما سحره فيها فهي جرَّاراتها الصغيرة والكثيرة المُزينة بنقوش يدوية رائعة التصميم.
     لطالما أحب أن يدعوها بـِ "خزانة العطَّارين". أحب دوماً أن يتصور أن كلَّ جارورٍ يحتوي على صنف غريب فريد من العطارة. عشقها وقرَّر منذ أن رآها أن يمضي حياته قربها مهما كلَّفه الأمر.
     رآها ذات يوم وهو مُتجه إلى عمله قبيل الظهيرة. اتَّصلوا به آنئذ وذكَّروه بأنَّ العمل في مكتب المحاسبة ينتظره. كان وما زال لا يطيق عمله. فاضطرَّ أن يستقلَّ تاكسياً خصوصياً. في الطريق إلى عمله رأى شاحنة مكشوفة وعليها الخزانة الحبيبة. طلب من السائق أن يتبع الشاحنة، حتى وصل إلى أحد البيوت. عرض على أصحاب الخزانة أن يشتريها، فضحكوا منه ساخرين. طلب منهم أن يراها بين الفينة والأخرى، فوافقوا على مضض. أتى لزيارتها تقريباً كلَّ يوم. بعد فترة لم يعُد وجوده مُحتملاً، فصار يتذرَّع بالمجيء لتصليح الأبواب او المواسير او الأجهزة الكهربائية، وعلَّم صغارهم، حتى انتهت كل الحجج ولم يبق أمامه إلا الزواج من إحدى بنات العائلة لكي يكون بوسعه أن يرى خزانته الحبيبة.
     لاحظت حماته حبَّه الغريب للخزانة. لم تحبه إطلاقا، لم توافق على زواجه من ابنتها. كثيراً ما قالت لها: "يا ابنتي، هداكِ الله. إنه لا ولن يحبك. إنه يعشق الخزانة! إنَّه يتزوج منك لكي يكون قريباً من عشيقته، الخزانة! لا أحد في الدنيا اعلم مني بجنون الرجال حين يعشقون الخزائن! اسمعي كلمتي وأطيعيني! لا تلوي شفتيك تبرُّماً.. لا تتجاهلي نصائحي.. الله يغضب عليك وعليه وعلى الخزانة! روحي.."
      راحت ابنتها وخطبته ثم تزوجت. وقد وقع عليها غضب امها، وغضب الأم إنْ وقع فلا مردَّ له بإِذن الله. باتت زياراته لبيت حميه إقامة دائمة. كثيراً ما ضبطوه وهو مختبئٌ في الخزانة أو نائمٌ فيها أو يتأمَّـلها أو يقبِّلها. أخيرا اضطرَّ أهل زوجته إلى أن يشنوا هجوماً مُضاداً، فاعتادوا على فتوحات بيته. أصبحت زوجته تغار من الخزانة، امتنعت عن زيارة بيت والديها كي لا يرى زوجها الخزانة الحبيبة. أصبح لا يُطيق زوجته. آه، كم أراد أن ينسى زوجته!! " لماذا حرقها؟ خزانة العطارين؟ معقول؟ يا الله..."
     قالت له زوجته لتطمئنه، "كلا، والله لم يحرقها. أمي قالت هذا كي تغيظك، ليس إلاَّ.. أرجوك، تعال وخذني.."
-" إذن، اخرجوا الخزانة إلى الشارع لكي اعرف بيتكم. إنني آتٍ في الحال!"
     منذُ ثلاثة أشهر تعاني المدينة من أزمة مواصلات شديدة. أصبح الشارع بيتاً لعائلة حميه، هناك يخلعون ملابسهم ويرتدونها، يأكلون ويشربون، يلعبون الورق و"الزقطة" و"دي دي بربر" و"السبع جلود"*، حتى اهتدت العائلة الى الوسيلة التي ستحرق قلب صهرهم: بدؤوا في ذلك الشتاء القارص والماطر بتكسير "خزانة العطَّارين" وحرقوا جرَّاراتها ودرفاتها ومنمنماتها وهيكلها بحجة التدفئة، وهم في انتظار الموظف الكحيان النسَّاء الذي سيأتي ويعيد زوجته إلى بيته.
     لم يعرف احد من عائلة زوجته أنَّ صهرهم رأى، وهو يستقل تاكسياً خصوصياً ويبحث في شوارع المدينة عن خزانته الحبيبة لعلَّه يهتدي إلى بيت حميه، شاحنةً عليها كرسي حمام أنيق وجميل، فأمر السائق أن يتبعه إلى بيت صاحبه، وقد وقع في حبه من النظرة الأولى. نجح هذه المرة واشترى كرسي الحمام. أصبحا لا يفترقان، ينامان معاً في غرفة النوم، ويحمله على ظهره إلى مكتب المحاسبة حيث يعمل، والى مناسبات الأفراح والأتراح، حتى دُفِنا معاً.
 2 نيسان 1996
 
* "الزقطة"، "دي دي بربر "، و "السبع جلود" العاب يمارسها أطفال وشبان كثير من المدن والقرى في أنحاء فلسطين.



#جمال_القواسمي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ع اليوم - ثلاثة نصوص
- إفادة- قصة قصيرة جداً
- تائه - قصة قصيرة جداً
- جماع - قصة قصيرة جداً
- ثلاثية الشكل- قصص ق جداً
- أوبرا دولة فلسطينية - قصة قصيرة
- بيت الراحة WC- قصة قصيرة
- الكاتب ونصوص أخرى
- ثلاث نيسانيات- قصص ق جداً
- هزائم صغيرة - قصة قصيرة
- الجندي المعلوم- قصة قصيرة
- ثلاثية القُبَل- قصص ق جداً
- الكعكة - قصة قصيرة
- أربع قصص قصيرة جداً
- صدفة - قصة قصيرة
- مدينتي - قصة قصيرة
- ثلاثية خداش- ثلاث قصص قصيرة جداً
- لعبة قذرة - قصة قصيرة
- عالم الدهشة - قصة قصيرة
- أحلام سعيدة- قصة قصيرة


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال القواسمي - خزانة العطارين - قصة قصيرة