أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العاطل عن اليأس














المزيد.....

العاطل عن اليأس


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3561 - 2011 / 11 / 29 - 19:39
المحور: الادب والفن
    


سيذهب إيريك إلى الوكالة الوطنية للعمل غدًا في الصباح الباكر! نظر من حوله، فلاحظ أن الأشجار وحدها في الليل معه، وحديقة اللوكسمبورغ صامتة، الماء في بركها ساكن، والعصافير التي كانت تصدح خلال النهار قد رحلت. إن لم يجد عملاً هذه المرة، فلن يعود إلى الوكالة ثانية. في البداية، كان إيريك يبحث عن وظيفة في مطبعة، ومع كرِّ الأيام، أصبح يطلب أي عمل، أصبح مستعدًا لقبول مهنة عامل تنظيفات أو حارس. لسعته نسمة معادية للصيف، فلف نفسه بسترته، وتمدد على مقعد، وهو يرفع رأسه إلى النجوم البعيدة. هل سيتوج ذهابه إلى الوكالة الوطنية للعمل غدًا بالظفر؟ هل سيجد أخيرًا في هذا العالم المنتفخ بالمصانع مكانًا صغيرًا؟ كان جائعًا، لكنه فضل التفكير في النجوم، وفي الحال، فرضت عصا من الخبز الطازج نفسها عليه. لو كان لديه ما يكفي لشراء عصا واحدة من الخبز لالتهمها بنصف دقيقة. أرغم نفسه، مرة أخرى، على التفكير في النجوم، لكن دون فائدة. قرصته معدته كعقرب، فجلس، وهو يلتوي بشكل يضغط فيه بطنه، عندما فجأة، رمته معدته أرضًا. تدحرج على العشب، فاغترف قبضة منه، وأخذ يلوكها، ثم فتح فمه على سعته، وتقيأ.
أيقظته، بعد ساعة، عصا حارس الحديقة، فنهض إيريك خائر القوى، وأخذ يسير في شارع سان ميشيل المضيء إلى ما لا نهاية. كان هناك بعض المارة وواجهات الدكاكين التي لا تنطفئ، وكانت هناك بعض السيارات وأصوات التليفزيونات التي تتساقط من النوافذ. رفع إيريك رأسه إليها: ماذا لو يصعد ليطرق باب إحدى الشقق، ويطلب شيئًا للأكل؟ كان يرغب في سد الرمق حتى غدًا صباحًا، لأنه غدًا في الصباح الباكر سيجد العمل الذي انتظره منذ شهور طويلة. كان يريد وجبة طعام واحدة، وبالمقابل، سيعمل حفلة طنانة يدعو إليها الجميع. ولا بأس لو كلفته الحفلة مرتبه كله! كان يريدها طنانة، يهرق فيها النبيذ، ويحرق الشمع، ويفرش الأكل، ويصدح بأجمل موسيقى تَطرب لها القلوب. ستكون إلى جانبه حبيبته التي هجرته لويزا. هل ينساها وقت الجوع؟ بدا غاضبًا، لأن لويزا هجرته يوم غدا عاطلاً عن العمل. كانت لويزا جميلة، وقد أمكنها أن تجد بسرعة شابًّا أحسن منه، على الأقل يعمل، ويعمل عملاً نظيفًا، نظيفًا وليس بسيطًا. كان مسؤولاً في إحدى النقابات، من أولئك الذين لم يكونوا يكلون عن ترداد: نطالب، نطالب، نطالب! نريد، نريد، نريد! يجب، يجب، يجب! لهذا السبب، وضع إيريك في رأسه أن يسترجعها. سيراقصها في الحفلة التي سيقيمها حتى الصباح، ثم سيأخذها إلى السرير، ويعريها. دومًا ما كان هو من يعريها، من يخلع فستانها، معلقها، سروالها، ويبدأ في أخذها من فخذيها، فبطنها، فنهديها، فشفتيها، ثم ينطلق فيها كفحل يتقن فن العدو تمام الإتقان حتى فقدان النَّفَس.
مرَّ عند تقاطع سان جيرمان وسان ميشيل أمام بعض المهرجين، كان الناس من حولهم يضحكون، والمهرجون يبكون. بدأ موسيقيٌّ بالعزف على نايه، والناس دومًا يضحكون. دخل إيريك في أزقة الحي اللاتيني، حيث روائح المرغاز وباقي الأطباق الشمال الإفريقية تديخ الشبعان، فكيف من هم على جوى مثله؟ غافل إيريك البائع العربي، واختطف طُلْمِيَّة، وانطلق يجري، والعربي يجري من ورائه، ويصيح. استنفر صياحه الحاد المارة، فعملوا سدًّا منيعًا في وجه اللص الذي أراد أن يرمي الطُّلْمِيَّة بسرعة بين أسنانه، لكن أصابع العربي كانت أسرع، اختطف الطُّلْمِيَّة من يد اللص، وكما لو كان ذلك لا يكفي، أعطاه العربي بعض اللكمات، وفي قفاه بعض الضربات، ضربات شاركته إياها أحذية المارة، ثم قهقه كل ذلك العالم الجميل مسرورًا من شدة الرضى، بينما كان الدم يسيل من أنف إيريك، ومن صدغه.
عند مدخل السينما، كان صف طويل من الجمهور يتشكل لحضور الحفلة القادمة، عرف إيريك من الإعلان أن الفيلم رومنسي، فتردد، وهو يرى أحد الشحاذين المخمورين بقبعة يمدها من أجل قطعة فضية صغيرة. ماذا لو يفعل مثله؟ سيحصل على ما يحتاجه من نقود لشراء عصا الخبز المشتهاة؟ ستكون المرة الأولى والأخيرة، لأنه غدًا في الصباح الباكر، سيذهب إلى الوكالة الوطنية للعمل، وسيجد العمل الذي يبحث عنه منذ شهور. لم يتردد أكثر، تقدم من محبي السينما بأصابع نصف مفتوحة، لكنها انغلقت على الفراغ في اللحظة التي وجد فيها إيريك نفسه وحيدًا تحت مصباح. كانت خيالات المتعانقين تمر أمامه، وضحكاتهم تنفجر حوله. غذَّ الخطى وراء رجل وامرأة يلف أحدهما خصر الآخر بذراعه، رجل وامرأة يقول الظل الصادر عنهما إنهما أكثر العاشقين وداعة في العالم. وما لبث الأمر أن تحول بين إيريك وبينهما إلى سباق حقيقي، إلى أن فاجأ الرجلُ العاطلَ عن العمل في زقاق معتم، وزرع موساه في صدره، قبل أن ينطلق كالسهم هاربًا. انحنت المرأة على إيريك، ورفعته إلى صدرها، دون أن تبالي بنداءات صاحبها، وانفجرت تبكي. سارت بالضحية بضع خطوات، وقلبها يدق بعنف على منظر الدم الذي كان يتفجر كالنبع. أخذ صدر المرأة يعلو ويهبط، ففكر إيريك في البحر، وفي العمل الذي سيجده غدًا، ولم يمنع نفسه عن رفع أصابعه، وضغط النهد الجميل. دفعته المرأة، فسقط على الأرض، بينما هرب النهد بعيدًا عن وجع الأصابع.
سار إيريك حتى نافورة سان ميشيل، وغسل دمه بماء التنين المقذوف من فمه، فإذا بشرطي ينبثق من اللامكان، ويهوي بعصاه على ظهره، وإذا بإيريك ينقض على الليل، ويأخذ في تمزيقه، وبعد ذلك يهرب راكضًا على الرصيف المعتم، ويختفي في زقاق. وهناك أطلق صرخة متحجرة، فعوى كلب مفقوء العينين في وجهه، ودخل الإنسان والحيوان في معركة حامية الوطيس، خرج إيريك منها مهزومًا.
وهو يعود إلى المرور أمام المهرجين، ويتأرجح كالمخمورين، كان إيريك يريد الابتعاد عن الناس بأي ثمن، لكن المتفرجين أشاروا إليه، وهم يضحكون. فتحوا أصابعه، ورموا في كفه بعض القطع الفضية. وبعد ذهابه بعيدًا عن (( محسنيه ))، نظر إيريك بعين زائغة إلى أصابعه النازفة، وانهار، والمارة يرمونه بنظرات حذرة، ويغذون السير.

باريس يناير 1982

* من "حلمحقيقي" المجموعة الرابعة لأفنان القاسم بمناسبة نشره للأعمال الكاملة.



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انتحار الشاعر
- أطول ليلة في الحي اللاتيني
- القصيدة-القصة الأولى في الأدب العربي: الإبحار على متن قارب ه ...
- محمد حلمي الريشة وعلبة أسبرين
- 39 شارع لانكري
- الابن والبحر
- الله والنقود
- الطفل الآتي من هناك
- حلمحقيقي
- حبيبتي في صنعاء
- حرير دمشق
- إرادة الورد
- الهامشيون
- ساعة الصفر
- على طريق دمشق
- الموت
- الأعشاش المهدومة
- الإرجاء
- الحجرة
- سوريا: ما هكذا يا رشاد أبو شاور تورد الإبل


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - العاطل عن اليأس