أشباح تحوم في فضاء مصر

سعيد مضيه

الحوار المتمدن-العدد: 3558 - 2011 / 11 / 26 - 09:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

لمصر قيمة المكان والحجم السكاني والطاقات البشرية المجمدة، تلك التي تجعلها موضع اهتمام القوى المحلية والإقليمية والدولية. ولمصر أيضا ثورتها الشبابية التي لن تخمد ولن تتوقف إلا بإنجاز مهام التغيير التحرري الديمقراطي والتنموي. وما يعرض حاليا على مسرح السياسة المصرية من مسرحيات لا يخرج عن مؤثرات قوى الثورة المضادة التي ساندت نظام السادات ـ مبارك . ومن تلك المؤثرات دعوة ماتان فبلنائي يوم الأربعاء23 نوفمبر الجاري المشير طنطاوي لأن يحكم قبضته على الوضع الداخلي في مصر ، وكذلك اعترافه (فيلنائي) أن الرسميين في إسرائيل على "اتصال دائم " مع أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة ، بمن فيهم الطنطاوي. وليس مصادفة في هذا الإطار إبداء المجلس الأعلى الصبر حيال عدوان إسرائيل على جنود مصر بينما تتكرر الاصطدامات الدموية مع الشعب المصري وشباب ثورته الوطنية الديمقراطية.

من محطات الثورة تسليك مجرى الانتخابات. وجرى إقحام العملية في ظروف وملابسات خلقت تعقيدات. فأي انتخابات ووفق أي مزاج جماهيري تتم؟ أهو المزاج الثوري انسجاما مع الثورة ومقتضيات استمراريتها، أم مزاج محبط يجهد لتجاوز الفوضى والحرمان ومخاطر الاحتراب الداخلي بأي ثمن ولو كان التخلي عن الثورة؟ الانتخابات تجري بمزاج جماهيري، هو بطبيعته متقلب وعرضة لمؤثرات الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي وحملات الدعاية. وبالمقابل يشرف الشباب على ثورته ، يستنفر الجماهير فتستجيب كلما تعثرت المسيرة بمطبات. والمجلس العسكري ظل يحدوه الحرص على وضع الجماهير المصرية في أوضاع مربكة ومحبطة.
الجماهير المصرية في حيرة وارتباك، جرى تكريسهما طوال الأشهر الماضية من انفراد العسكر في إدارة الأمور، والقصد إجراء الانتخابات في هاجرة ضاغطة على الأعصاب. كان متعمدا تغييب أبسط معالم الحرية والأمن والعدالة الاجتماعية، تلك المثل التي استشرفها الثوار. لم يتوهم أحد أن هذه الأمنيات تتحقق بسهولة بين يوم وليلة ؛ لكنها تبقى دوما النجم الهادي تغذ الخطى باتجاهه. فمنذ سقوط الرئيس السابق تتالت الحكومات التي أدارت الظهر للنجم الهادي. لم يطرأ تحسن في أوضاع الناس، ولم يحدث تقدم حقيقي في عملية التحول الديمقراطي. بدلا من ذلك يجري شيطنة الشباب الثوري وغمر ميدانه بالريب وقذفه بزخات الرصاص القاتل والغاز القاتل وبالخرطوش يفقأ العين.... أفعال مجرمين محترفين يجب أن لا تخطئهم العين؛ ولا ينتهي توصيفهم عند بلطجية وشبيحة.
مفارقات تذهل المراقبين ـ وهم بالملايين ـ ممن يجهلون الأساليب الإجرامية لوكالات الاستخبارات الأجنبية. فالقتلة المحترفون جزء أساس من تركيبة الثورة المضادة؛ وإدماجهم في النشاط السياسي لم يتم بوحي سلطة قمعية عززت معالم التخلف والفقر وامتهان كرامة البشر في مجتمعاتها ؛ إنما هو منجز أرقى أساليب الثورة المضادة على الصعيد العالمي، ابتكار زعيمة العالم الحر. "فقد حوى كتيب ’ دليل العمليات العسكرية‘ المقدم إلى الكونترا [ فرق موت عملت بإمرة السي آي إيه وتمويلها ضد النظام السانديني والشعب في نيكاراغوا في عقد الثمانينات من القرن الماضي]، وانفضح أمرها... ’إذا أمكن استئجار مجرمين محترفين لتنفيذ مهام مختارة‘. وهذا يذكّر باستئجار الوكالة جون روسيلي من المافيا لاغتيال كاسترو في بداية الستينات ". وردت هذه الفقرة في الصفحة (389) من كتاب " حروب السي آي إيه" لمؤلفه الصحفي الأمريكي المطل على الوكالة الاستخبارية الأميركية، بوب وودوورد، والصادر عام 1987.
ثم تطور الأسلوب وبات ممارسة تعم العالم . فقد صدر أكثر من تصريح لضباط أميركيين مسئولين تضمن معلومات عن القيادة المشتركة للعمليات الخاصة JSOE)) منها أن المعلومات المتسربة تقدر أن حوالي 85 بالمائة من الوحدات المكلفة بالعمليات الخاصة فيما وراء البحار ينحصر نشاطها في عشرين بلدا من منطقة الشرق الأوسط الكبير تشمل مصر والأردن والعراق والكويت ولبنان وعمان والبحرين وسوريا والعربية السعودية وقطروباكستان وقرغيزيا؛ أما الباقون فيتوزعون ضمن مجموعات صغيرة في أنحاء الكرة الأرضية من أميركا الجنوبية حتى جنوب شرقي آسيا . قيادة العمليات الخاصة تنفذ المهمات السرية المتخصصة، منها الاغتيالات والمراقبة بعيدة المدى والتحليلات الاستخبارية والتدريبات الأجنبية. إنها تقوم بدور فرق رئيسة لتنفيذ اغتيالات خاصة. هذه الفرق تتبع منظمة أُم أطلق عليها (سوكوم) ، وهي نخبة عسكرية جديدة أنشاها البنتاغون، منظمة سرية ضمن المؤسسة العسكرية ذات قوة محلية وتمتد أذرعها خارج الولايات المتحدة الأميركية.

هذه المنظمة هي غير السي آي إيه، وكالة المخابرات المركزية الأميركية التي تنشط في أركان الكرة الأرضية ، والتي نظمت الحروب المتواصلة عبر النصف الثاني من القرن الماضي وما زالت تمارس أعمالها الإجرامية . وسجل حروبها خلال الحقبة المنتهية بالعام 1987 وارد في كتاب وودوورد المشار إليه.
في مصر، على وجه الخصوص، حظيت وكالة المخابرات المركزية الأميركية ( سي آي إيه) بحرية النشاط، منذ ردة السادات في أواخر عقد السبعينات من القرن الماضي، تسخر العملاء وتحرك الأحداث . حوى الكتاب معلومات غزيرة عن أنشطة الوكالة الأميركية داخل مصر وكل الأقطار العربية. فعلى أثر الإطاحة بالشاه عام 1978 أقدمت الوكالة، برئاسة وليم كيسي، على تغيير أسلوب عملها . كانت صلاتها مقتصرة على الشاه والهيئة الاستخبارية المحلية ، سافاك. أرسلت بعثات أمنية للعمل بالتعاون مع الأنظمة العربية كافة باستثناء ليبيا واليمن الجنوبي. كل بعثة عملت بموافقة رئيس الدولة ويهفو للتعاون معها الكثيرون ممن يشغلون المراتب العليا في الأجهزة الحكومية. انقل فقرات من الكتاب حيث الصفحات مرقمة طبقا للنسخة الإنجليزية:
"منذ صدمة الثورة الإيرانية وتيرنر [ مدير العمليات الخارجية] يحاول زيادة شبكة العملاء المأجورين في الحكومات الأجنبية والمخابرات الأجنبية ، بما في ذلك الدول الحليفة والصديقة . كانت مصر مثالا لذلك. عملية أمنية في مصر لتقديم الحماية للسادات وأجهزة إنذار من مؤامرات اغتيال او انقلاب . كما وفرت الوكالة أجهزة إليكترونية وعناصر بشرية في الحكومة المصرية ومجتمعها وقائدها. كان السادات يدخن الأفيون وتنتابه الهواجس..." (31).
تمت الترتيبات الأمنية على عجل ، وما إن شنت حرب الأرض المحروقة على الشعبين اللبناني والفلسطيني عام 1982 ، حتى وجدت الأنظمة لديها الجرأة كي تخذل ضحايا العدوان وتصمت طوال ثمانية وسبعين يوما على ضرب عاصمة عربية بأدوات الموت والدمار، ثم تواصل الصمت حيال انفضاح أمر مجزرة صبرا وشاتيلا في تلك الأثناء. يقول وودوورد أن الموساد والسي آي إيه والاستخبارات البريطانية على علم بكذب تبريرات العدوان لأن المعتدي على السفير الإسرائيلي، وهو ما اتخذ مسوغا للحرب، كان من جماعة أبونضال المتمردة على منظمة التحرير الفلسطينية. وخلال الحرب "طورت السي آي إيه علاقات وثيقة مع شارون والموساد، ونجحت في إقامة صلات بين خصوم المقاومة الفلسطينية وبين الإسرائيليين، وجعلت من بشير الجميل مشتركا بين السي آي إيه والموساد" (217)
الترتيبات الجديدة شملت النظم العربية كافة باستثناء ليبيا واليمن الجنوبي ، كما أورد وودوورد، ولم يصدر أي نفي او تكذيب لما ورد في الكتاب. أما المغرب فكان أحد برامج المعونة الفنية التي تقدمها الوكالة ينفذ هناك منذ عام 1961 ، حين تولى السلطة الملك الحسن الثاني، " حيث قدمت طوال سنوات معونات فنية وتدريبات وهيئات اتصال مع ملك المغرب" . ارتبط هذا بعلاقة مع الملازم فيرنون وولترز، عندما كان الأخير ضمن الجيش الأميركي الذي قدم تحت إمرة جنرال أيزنهاور لفتح الجبهة الغربية أثناء الحرب العالمية الثانية. واستمرت العلاقة حتى عام 1976 حين عمل الضابط الأميركي ، وولترز، نائبا لمدير السي آي إيه. بالمقابل أطلق الملك أيدي السي آي إيه ووكالة الأمن القومي الأميركية في البلاد، فأقامت مركزا أشرف علي بلدان القارة ما وراء الصحراء ، استخدمت فيها تقنيات متقدمة للغاية. " (308)
اهتم المؤلف بإشادة عملاء السي آي إيه بقدرة الموساد على " اختراقات بشرية استخبارية جيدة. فقد رأى (تيرنر) في المنطقة اعتمادا كبيرا على العنصر البشري ؛ ولهذا ميزته في مراقبة أربع وعشرين ساعة وتحذير مبكر "(130) . وذكر المؤلف أن المخابرات الإسرائيلية في الأقطار العربية لم يتفوق عليها سوى دائرة المخابرات الوطنية. لكن الموساد لم تسلس في التعامل مع السي آي إيه . وجد كيسي مشقة في التعامل معها، رغم أن إسرائيل تلقت من واشنطون معلومات رصدتها وبثتها الأقمار الصناعية التجسسية. "باتت السي آي إيه بحاجة إلى مزيد من القنوات المعتمدة للمعلومات عن مصر . ولم تكن هناك حدود في مجال جمع المعلومات ، خاصة في منطقة مضطربة مثل الشرق الأوسط ، وخاصة في مصر. أراد المزيد من العناصر البشرية ومن الأجهزة الإليكترونية ، حتى في أعلى مستويات الجهاز الحكومي" . وبعد اغتيال السادات ورد في توجيه أصدره كيسي’ يجب وضع أناس في الشارع كي يروا إن كان هناك من يريد إطلاق النار على مبارك‘ "(169).... "اعترى الوكالة ابتهاج وانتعاش إذ قدر لها الحصول [ في مصر] على مصادر وثيقة الصلة فعملت فهارس عن تقلبات وأهواء العشرات من الوزراء ووكلاء الوزارات وطموحاتهم وسياساتهم" (312)
بسبب اتساع مهامها ازدادت موازنة الوكالة من 6 إلى 20 مليار دولار خلال الفترة 1980ـ 1985 . هذا بالإضافة إلى ملايين دفعتها السعودية لتمويل عمليات الكونترا في نيكاراغوا أو الإنفاق على حملة اليمين الانتخابية في إيطاليا أو الصرف لكتاب وصحفيين في أوروبا وأميركا والشرق الأوسط. مولت الوكالة عمليات فبركة الأخبار الكاذبة أو التقارير حول أنشطة " إرهاب " ينفذها السوفييت أو الأنظمة التي لا تنصاع لأوامر واشنطون.

هذه الأنشطة والأصابع التي احترفت تحريكها من وراء ستار لم يمسسها سوء ولم توقف أنشطتها بعد ثورة يناير الوطنية الديمقراطية في مصر. ينبغي رؤية هذه الأصابع خلف عمليات العنف المفرط ابتداء من الغاز المسيل للدموع، والضرب المبرح بالعصى التى أصبحت حمراء من دم المصابين. وإذا كان حقا أن تلك الأصابع تطلق زناد "الرصاص الحي فى القلب والصدر والدماغ" كما كتب أحد المعلقين المصريين بحق، فليس صوابا الاستنتاج " وكأنها معركة مع العدو وليس مع مواطنين من حقهم التظاهر والاعتصام سلميا للتعبير عن مطالبهم المشروعة". ذلك أن العلاقة عدائية تناحرية يعيها أولئك الذين يطلقون قذائف الموت. حقدهم اللئيم على قوى التغيير حرض ـ على أقل تقدير ـ على "وسائل الإهانة: الجر من الشعر للفتيات، الدهس بالأقدام، تكالب خمسة أفراد من الشرطة على أحد المتظاهرين بالشوم وهو ملقى على الأرض لا حراك.."
المكلفون بحماية الثورة يسكتون عن الأشباح تفتك بعناصرها المصرية، ويتعمدون سلوك نهج تحدي شباب الثورة وتهميش دورهم في ما سمي المرحلة الانتقالية. يطلقون في كل الأوقات قنابل فكرية ودعائية دخانية تحرف عن التوجه الديمقراطي، او تنبري لدفع المواجهات باتجاه العنف المسلح؛ وقد تسعى لاستفزاز الجماهير واستنفاذ قدرتها على الاحتمال والصبر فتدخلها في التطرف الممهد لتوجيه ضربة تردها إلى بيت الطاعة، ومن ثم عزل التيار الديمقراطي في الانتفاضات الشعبية وتقويضه. مما لاشك فيه أن عناصر المخابرات الأجنبية او عملاؤها لم يغيبوا عن أحداث ماسبيرو في 9أكتوبر بالقاهرة، وبوحي منهم جرى تعطيل تنفيذ توصية لجنة " العدالة الوطنية" المشكلة بقرار من مجلس الوزراء المصري ، وتضم المستسارة الدكتورة نهى الزيني. فبعد جهود مضنية تكبدتها اللجنة في السفر لزيارة لموقع الكنيسة المهدومة في قرية ماريناس بالصعيد، وإجراء التحقيقات، قدمت في منتصف ليلة 4/10 إلى رئيس الوزارة توصيتين طالبت بتحقيقهما فورا )1) إقالة محافظ أسوان فورا، ؛ (2 ) اتخاذ إجراءات سريعة لترخيص بناء الكنائس التي لم ترخص من قبل . وتم أغفال التوصيتين.
"فئة مندسة تتكرر ولا تكتشف " ؛ يراد لها أن تظل أشباحا تحوم في فضاء مصر ، ترعب وتروع وتنشر الإحباط وتقوض إرادة الحرية والديمقراطية والتنمية في ربوع مصر .. قاطرة العروبة.
تبلغ الأمور حد المواجهة المسلحة فتنبري الأقلام الشجاعة تعري وتدين؛ ويحدث التراجع . وتتميز مصر عن شقيقاتها العربيات كون نظام التسلط عجز عن إطباق خيمته على كل عناصر المعارضة . لم تنطفئ جذوة المعارضة في جميع حقب التاريخ المصري الحديث. وفي الأزمة الأخيرة نهضت بجرأة ووعي تفضح أصابع الشبح التي تطلق الزناد وتقتل بالجملة، أو تسعى لشرذمة الجمهور، إحباطه وترويعه. الأقلام الجسورة تبدد الأغبرة المثارة حول شباب ميدان التحرير، تغري بالمواجهة التناحرية مع شباب ميدان التحرير، كأن تقترح ميدانا مضادا "للدفاع عن الجيش!!". تجسد الأقلام المدافعة عن الثورة الأشباح أفرادا تارة، او عناصر أو اتجاها محددا؛ لكنها لسبب مجهول لا تقدم على تعرية أصابع أجهزة الاستخبارات الأجنبية، وأنشطتها التخريبية . فنحن لا نكتشف جديدا عندما نشير إلى هذه الأجهزة. إنها لا تتلقط الأخبار وتتقصى الأسرار وحسب ، بل تقوم بعمليات تخريبية ، منها تنفيذ الاغتيالات.

لذا تبلورت الفكرة بأن الخروج من الأزمة الراهنة يتطلب تصورا متكاملا يشمل: حكومة إنقاذ وطني، وإجراءات مصاحبة تأخذ من المجلس العسكري صلاحياته في إدارة الشأن السياسي. فهو، بافتراض حسن النية، أثبت ضعف الخبرة. يصاحب هذا التوجه قرار شباب مصر أن لا يترك ميدان التحرير ـ هرم مصر الحديث ـ ليظل بجانب ثورته ، ولتبقى مثلها هي المرشدة لكل خطوة حتى يظفر الشعب المصري بالديمقراطية والتطور الوطني المستقل والعدالة الاجتماعية .

#سعيد_مضيه (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات