أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله بعنو - المهمة قصة قصيرة















المزيد.....


المهمة قصة قصيرة


عبدالله بعنو

الحوار المتمدن-العدد: 3550 - 2011 / 11 / 18 - 18:42
المحور: الادب والفن
    


المهمة

يقف طابور طويل أمام باب القصر، ينظمه شخص ضخم اختير لهذا الغرض من بين أشخاص كثيرين؛ يشد على سوط قصير تمكن عبر تجربة مريرة أن يوصله أبعد من الحدود التي رسمها له صانعه الأول.
يتدافع أشخاص من أعمار مختلفة من أجل الوصول إلى الأمام. لكن الشخص الضخم يضرب كتلة من الهواء بسوطه ليصدر رنينا يتراجع معه الكل؛ يأمرهم أن ينتظموا، لكنهم يحسون برغبة جامحة تحفر في دواخلهم . يعيدون الكرة، يتدافعون لكن رنة الصوت توقفهم.
كل صباح يوم الجمعة يأتي هؤلاء العمال؛ يقضون يوم راحتهم الوحيد في الرحيل نحو باب القصر الذي لم يكن بعيدا عن معمل النسيج مقر عملهم - وفي الانتظار. يظهرون بشكل مفاجئ و بكثرة، فيتداخل الأمر على البواب، و يفشل في تحديد من يسبق من أو من يلحق من. و لولا صوت السوط، لما تمكن من التحكم في هذه الجموع. لهذا السبب سوطه لا يفارقه. يقف و السوط معلق على فخذه الأيمن، أما أن يجلس، فتلك مشكلة تغلب عليها بترك السوط يحفر لنفسه مكانا على أعلى الفخذ. و قد تسبب ذلك في خلل في مشيته. يسير و هو يضغط على قدمه اليمنى، كأنه سيفقد توازنه في كل مرة ويسقط. شخصيا لم يكن يعتقد أنه صار أعرجا فعلا. إن ما يحتاجه معطف يصل الأرض يخفي ذلك العيب الذي لحق مشيته، و التخلي عن السوط أثناء النوم. لم تعجبه الفكرة الأخيرة، فأرجأها لوقت لاحق. فالسوط مكنه إلى حدود المرة الأخير أن يدير شؤون باب القصر بشكل لا يجعله يفقد عمله.
لكن هذا اليوم يوم مختلف. فالجماهير الغفيرة التي تقف أمام باب القصر الآن تتطلب منه جهدا إضافيا . تساءل عدة مرات و بصيغ مختلفة عن سبب حضور هذه الحشود بهذا الكم, لكن تساؤلاته بقيت عالقة. تجرأ لأول مرة منذ تسلم منصبه ، فطلب من مرؤوسه المباشر أن يرسل من يساعده في أداء المهمة التي باتت ثقيلة؛ فاستدعاه الباطرون شخصيا، و أسمعه وابلا من الشتائم لأنه "الوحيد دون غيره من البوابين من اشتكى". ظن "الرقاص"ـ هكذا لقب طفل ينتظر البواب ـ أنه البواب الوحيد للباب الوحيد للقصر. زاد الخبر الأخير من حيرته، و شك في أن الأبواب الأخرى ـ إن كانت هناك أبواب فعلا ـ تغص بناس أتوا من أجل نفس المهمة التي أتى من أجلها من يقف أمام باب القصر الذي يحرسه هو.
اقتنع" الرقاص" أخيرا أن عليه أن يواجه المرحلة الجديدة بالرغم مما توفره من صعوبات. مد يده إلى جيب معطفه ليتأكد من أن السوط مازال هناك، وتمتم بعض الكلمات معاتبا السوط الذي لم يعد يصدر ذلك الرنين الذي يصم الآذان و يرهب النفوس. على السوط إذن أن يرسم أشكالا تختلف عن كل الأشكال التي رسمها لحد الآن.
لاحظ الناس أن عددهم كبير، وأن مثل هذا الوضع تترتب عليه صعوبة قصوى في انتزاع الصفوف الأمامية. في المرات السابقة ،التجأوا خاصة إلى الحيلة للوصول إلى هدفهم. حاول البعض أن يدفع الصغار إلى الأمام لعل الكبار يفسحون لهم المجال؛ فيلتحق بهم الكبار من دويهم بعد ذلك. لكن هذا الأسلوب لم ينفع مع كل الكبار. فالبشر في مثل هذه الظروف تقسو قلوبهم؛ فلا يعتبرون عامل السن. هناك من الرجال من حاول نهج نفس الطريقة؛ لكن هذه المرة بواسطة النساء. يطلب الذكور من النساء التظاهر بالمرض ـ وهن يتقن اللعبة في كثير من الحالات ـ وبقليل من الدعاء و التقبيل تنجحن في معظم الأوقات. لكن الرجال في المدة الأخيرة تشبثوا بحقهم في أداء المهمة و رفضوا التنازل للنساء المريضات، والحوامل أيضا. قبل أسبوعين، ملأت امرأة أحشاءها بقطع من الثوب ؛ فظن الجميع أنها حامل. ومع خطواتها الأولى داخل القصر، سقط الثوب، ولما تأكدت أنها ابتعدت عن الأنظار، ركضت ـ كما أخبر رجل كان قد أدى مهمته المنتظرين.
تولدت قناعة لدى كل هؤلاء أن الخدع و المقالب لن تضمن لهم تحقيق هدفهم في المرات القادمة؛ و كبرت هذه القناعة لما تعرض طفل فعلا لأزمة ربو خانقة، رفض معها الجميع مساعدته، معتقدين أنها إحدى تلك المحاولات الخبيثة؛ فمات الطفل أمام أعينهم، مما جعل الباطرون يأمر بتأجيل المهمة آنذاك.
جربت لحد الآن كل سبل المراوغة الممكنة ـ والتي ساعدتهم كثيرا ـ لكن المأساة الأخيرة علمتهم أن يكفوا وأن يبحثوا عن حلول خارج دواتهم. من أول الطابور إلى آخره ، استطاع العمال ـ بتلك الطريقة العجيبة في التواصل ـ أن يتفقوا على أن عدوهم الرئيسي هو البواب. ما إن ارتاحوا لهذا الحل ، و شرعوا في التفكير في كيفية التخلص من البواب ـ و قد اختلفوا في ذلك أشد الاختلاف، حيث رأى البعض ضرورة قتله؛ وذهب آخرون إلى ربطه ووضعه داخل مركز الحراسة؛ بينما اقترحت نساء تقديمه أدوية منومة ـ ما إن استكانوا للحل ، حتى سرى بينهم اقتراح جديد يحبذ التخلص من السوط ،لا البواب!
فكر الأطفال في سرقة السوط، لكن تقدير الكبار لذكاء الحارس؛ وما يمكن أن يترتب عن ذلك من إقصائهم من الانتظار، جعلهم يستبعدون الفكرة. ارتأت امرأة أن تحكي حكاية للحارس إلى أن ينام؛ فتأخذ السوط. لكن التجربة أبانت على أن هذا الأسلوب ينفع مع الباطرون، وليس مع حرسه! ثم انبثقت الفكرة التاريخية بشكل تلقائي وغريب؛ بحيث لم يعرف العمال من صاحبها. ليس السوط في حد ذاته ما يجب مقاومته، بل الرنين الذي يصدره السوط!
" يجب خنق السوط بتضييق المكان"، هذا ما انتهى إليه العمال.
عند الزوال تماما ـ ولا يعرف لحد الآن لماذا ترك العمال الصلاة ـ بدأت الأجساد تلتصق و تتقدم نحو الباب برتابة، كأن الجميع يسير وفقا لإيقاع داخلي بطيء، لكن مشترك. بالرغم من أن مثل هذا الوضع لم يكن يخل من مشاكل و من حوادث فيما قبل؛ إلا أن صبر المنتظرين كان اليوم رائعا. فالزحام ، فيما قبل، كان يدفع إلى التوتر و العراك أيضا! مما يتسبب في إقصاء العديد من الانتظار، فينصرفون ليعودوا في الأسبوع التالي. أما الزحام الآن فيتم كعبادة وكأن القصر مكان مقدس! بحيث الكل يفكر في شيء واحد، والهدف الواحد أنساهم التفاهات و النزاعات التي كانت تسم لقاءهم أمام الباب سابقا، هناك استعداد خفي لتحمل الآلام الجسدية ، والدامية منها أيضا!
في اللحظة التي أحس فيها الحارس أن المسافة التي تفصله عادة عن الناس أخذت تقصر، عمد إلى تغليظ صوته عله يحدث خوفا في نفوسهم؛ لكن الناس لم يأبهوا لصوته. أما أسلوب الشتائم و الإهانات، فقد أصبح مألوفا. مد يده إلى جيب معطفه يستنجد بالسوط. حاول أن يرسم الشكل الذي تعبت مخيلته من تكراره، فامتنع السوط عن الامتثال. كل محاولاته لإبعاد السوط ليصدر الرنين ـ حتى المألوف ـ فشلت، خاصة و أن العمال اقتربوا كثيرا من الباب. كانوا يقتربون بصمت و ثبات. لم يتبق للحارس سوى قوته الذاتية؛ استعملها بشراسة، لكن دون جدوى. لقد فقد ـ تماما كالسوط ـ كل إمكانية التغلب على السيل الجارف، فبدا و كأنه غريق يصارع الأمواج. تدفق العمال إلى الداخل غير مبالين ﺑ"الرقاص" و هو يئن تحت أقدامهم!!
لما وصل الخبر الباطرون ، أصدر أوامره بعدم الاصطدام مع العمال و تمكين أكبر عدد ممكن من أداء المهمة؛ و لو اقتضى الأمر العمل ليلا!
كان الباطرون يحتفظ بأنواع مختلفة من الحرس. تعرف العمال على ذوي البذلة ذات اللون الأزرق الداكن وعلى أنواع أخرى اصطدموا معها في مناسبات عدة. لكنهم فشلوا في تحديد هوية حرس يرتدون زيا لا هو زي مدني ولا هو زي عسكري! كانوا مجهزين بهراوات تصل أعناقهم و بأسلحة حقيقية. عدد الحرس طبعا يفوق عدد العمال بكثير. أول خطوة قاموا بها هي أخذ مواقعهم بحيث أصبح العمال داخل دائرة كبيرة من الألوان. كان منظرهم بدون سلاح و هم محاطون بالمسلحين يثير الشفقة و السخرية معا!
تكلف بعض الحرس بتنظيم الناس داخل بهو القصر و تأهبوا لبدء المهمة. و مع أن الاتفاق كان سائدا بين العمال قبل الدخول إلى بهو القصر، صاروا يتكلمون عمن سيسبق لأداء المهمة. تحدثوا عن أغراض و مواعيد و زيارات مرضى؛ بل و دفن موتى ما زالت جثثهم تنتظر في البيوتات! و رغم الصرامة التي أبداها الحرس في التعامل مع العمال، مهددين بالتخلص من الفوضويين؛ إلا أن الناس يستمتعون بالجحود! مع العودة للسؤال عن الأولوية، عاد الناس لعاداتهم القديمة. اقترح أحدهم إعطاء الأولوية للشيوخ. فحالتهم الصحية لا تحتمل الانتظار، خاصة أن معظمهم جاء لينتظر بعد صلاة الفجر مباشرة. ثم إن من بينهم من نام أمام باب القصر. همهم الناس ليعلنوا عن رفضهم الفكرة.
بعد أن صمت الجميع, شرعت امرأة في البكاء و النواح؛ تنحني و تستقيم في كل مرة تقول فيها شيئا, و تلطم صدرها بيديها: هي الوحيدة بين أهلها لم تتمكن من أداء المهمة ! هي التي اتجهت نحو باب القصر كل أسبوع منذ عام دون قضاء حاجتها. هي التي أرادت أن تمنح دورها لصبي مات ضحية أزمة ربو. هي التي سمحت لشيخ بقضاء المهمة عوضا عنها في ثان يوم جمعة انتظرت فيه. كل هذه التضحيات التي لم يعرف ما هو صادق منها وما هو مبالغ فيه, لم تحرك فيهم أدنى شعور بالشفقة.
سقطت المرأة أرضا من جراء التعب, و قامت طفلة علها تحدث تغييرا في الأحاسيس القاسية. بدا صوتها أرق مما هو عليه, و تخللته نبرة كنبرة كمان حزين. تحدثت عن جدتها التي وقفت في الطابور مرارا دون جدوى. ماتت الجدة الآن. في الليلة الماضية, حضرت الجدة و الطفلة نائمة و هددتها بزيارتها كل ليلة إن هي فشلت في تحقيق ما لم تسعفها الظروف لتحقيقه. توقفت الطفلة للحظة. إن والديها طريحا الفراش في هذا اليوم بالذات! و كانا قد اختاراه دون الأيام الأخرى بعد أن اتفقا على التخلي عن المهمة في حالة الفشل. لكن المرض ـ و ليته جاء قبل أو بعد هذا اليوم ـ سلط عليهم كالفقر! لذا كلفا ابنتهما أن تنوب عنهما. تمنت لو أن لها أخا ذكر! إن عودتها إلى منزل والديها و الانتماء إليهما سيتحدد هذا اليوم!
استغربت المرأة و الطفلة لعدم تأثر من تحمل عناء الاستماع لحكايتهما. لاحظتا أن الأفواه كانت فاغرة و الحواجب مقطبة و الأيادي ملتصقة بالجباه؛ لكن ليس تجاوبا مع قصتهما, بل للخروج من المأزق. و لا يعرف لحد الآن أيضا كيف مرت بين العمال صيغة إرسال خطاب شفوي للباطرون من أجل توسيع قاعدة المستفيدين و تمكينهم من أداء المهمة بشكل جماعي! أخبر أحد الحرس الباطرون بالأمر, فكان الرد أن المسألة الأخيرة تعتبر خطا أحمر؛ "أما الأمر الأول فسنبث فيه النظر." بعد وقت اعتبره العمال طويلا طول طابور الانتظار، عاد نفس الشخص ليخبر الجمع أنه قد تقرر بناء غرف جديدة؛ لكن المهمة ستؤدى على انفراد.
طلب الباطرون المختار وقال له: " لم أعد أحتمل. هؤلاء "الهمج" داسوا البواب بأقدامهم و سكتنا، و هاهم الآن يتطاولون!" طمأنه المختار و قال أن الأمور ستتم كما يريد إن هو أعطاه صلاحيات أكبر! و كان له ذلك, فأصبح الحرس تحت إمرته.
أول ما قام به المختار هو إخبار العمال شخصيا أنهم سيستفيدون كلهم ـ و بدون استثناء ـ من أداء المهمة. و ثاني خطوة هي إصدار أوامره لعدد من الحرس لبناء غرفة إضافية ليلا.
فرح الناس كثيرا لأنها المرة الوحيدة التي سيتمكن فيها الجميع من أداء المهمة مرة واحدة. لن ينتظروا، لا الشهور ولا السنين. أحسوا بالارتياح حين تذكروا أن معظمهم انتظر أكثر من سنة، و عبروا عن ذلك بالغناء و الرقص؛ بل سمعت زغاريد النساء؛ مما أثار الباطرون الذي يرفض الزغردة كشكل من أشكال الفرح. الباطرون يحب الرقص! و قد طلب من المختار أن يحضر له منظاره كي ينعم برؤية الأجساد، خاصة الشابة، و هي ترقص! عشقه للرقص جعله يقيم حفلات داخل القصر ليرقص الغلمان و ترقص الفتيات نصف عراة. غير أنه لم يأذن أبدا بالزغاريد. قبل أن يأمر الباطرون بإسكات الناس، أنهوا تعبيرهم عن الفرح من تلقاء أنفسهم، و اختاروا التقرب من بعضهم البعض ليتسامروا و ربما ليناموا!
في وقت متأخر من الليل، أحضر الحرس ثوبا كبيرا يستعمل في الحفلات كفراش للعمال. و عبر البعض عن استيائه و أشار إلى مناسبات أخرى تفترش فيها الزرابي نهارا فما بالك بالليل! دون إصدار أوامر, شرع الحرس في دفع الناس إلى جانب من البهو, ووضع أسلاك شائكة كي يمنعوا الاقتراب من ورشة البناء. فالمختار قال أن التجهيزات اللازمة للبناء ستحضر ليلا.
بالفعل, قدمت شاحنات تحمل جدارا جاهزة و أبوابا حديدية, و لم ينس المختار مزيدا من الحرس "لحراسة النائمين!". كان العمل يتم بشكل كبير من الدقة, و كان سريعا أيضا. اقترح عدد من العمال مساعدة الحرس؛ فأبدوا استهزاءهم و رد أحدهم: "أنتم لا تحسنون إلا الكلام كالعجائز!"من شأن كلام كهذا أن يدفع إلى معارك حقيقية بين الطرفين، لكن في وقت آخر وفي مكان آخر. أما الآن والقلوب ما زالت مفعمة بالفرح و الأسلاك تقف بين الفريقين, اكتفى الناس بمشاهدة الحرس و الحديث فيما ببينهم, ولم يناموا سوى ساعات قليلة من الليل.
في الصباح الباكر وتنفيذا لأمر المختار, كان عدد من الغرف جاهزا لأداء المهمة, و كانت الغرف مغلقة طبعا! أيقظ حرس من الجدد النائمين الذين لم يصدقوا أعينهم و تساءلوا هل الغرف حلم أم حقيقة. سلمت لهم صحون نحاسية من الحساء و قطع من الخبز وأخبروا أنها الوصفة الوحيدة التي تنتظرهم خلال نزولهم بالقصر! لكن أمام انشغالهم بالوضع الجديد باتوا غير مكترثين بالطعام.
أمر المختار الحرس بالتوقف عن البناء إلى أن يصل الليل, و أن يحذروا من أن يشاع الخبر خارج القصر. و اقتصر عملهم على إعداد ما سيحتاجونه .
في صباح اليوم الثاني انتهى الحرس من بناء مزيد من الغرف. أخيرا سيشرع في أداء المهمة. كي يطمئن الباطرون استيقظ باكرا ليرى بعينيه ما أنجز. أول ما قام به التأكد من أن الكاميرات الصغيرة مثبتة على سقف الغرف و أن أيا من العمال لن يتمكن من رؤيتها. و آخر ما قام به هو عد الغرف ليتأكد أنها فعلا كافية. أخرج من جيبه لوائح سلمها له المختار الليلة الماضية و نظر إليها و إلى الجدولة التي اقترحها المختار، حيث قسم العمال إلى ثلاثة مجموعات كل مجموعة ستستفيد من نصف ساعة لأداء المهمة.
قام الباطرون بنفسه بتعيين الفوج الأول عبر قراءة أسمائهم مصحوبة بأرقام الغرف التي سيدخلها كل فرد. لم يجد الباطرون صعوبة في قراءة الأسماء، فقد كتبها المختار بحروف كبيرة و زوده بمكبر للصوت علقه على قميصه الأبيض. بعد أن أنهى من تلاوة الأسماء ذكرهم أنه لن يسمح بدقيقة واحدة بعد الوقت المحدد. و لم ينس أن يتلو أسماء الفوج الثاني و الثالث.
كان العمال متلهفين للدخول إلى الغرف، و اندفعوا داخلها بشكل قوي كأن أجسادهم كانت مشدودة بسلاسل من الخلف. بدأت المهمة فعليا في السادسة صباحا. انقسم الناس حسب الشتائم و تعبيرات تقاسيم الوجه و درجة ارتفاع الصوت. كانوا يخاطبون شخصا وهميا ابتكرته مخيلتهم. افتتح الشيوخ مهمتهم بالصلاة على النبي و تذرعوا إلى الخالق أن يخلصهم من الظلم و الظالمين. كان صوتهم أقرب إلى الهمس.
أما صوت الشباب فارتفع إلى أن وصل مكتب الباطرون. كانوا يختارون من الشتائم أقدحها، و ينعتونه بأقبح النعوت. تحولت جدار الغرف إلى محاور حقيقي لا ينتظر منه الرد! تساءلوا عن السبب في انتحار و جنون و اعتقال و تسريح عمال يذكرون أسماءهم واحدا واحدا؛ وعن تشريد عائلات و أطفال. كانوا كأنهم يؤرخون لمرحلة ما! مرحلة تخلى عنهم فيها الجميع! كان الزبد يتطاير من الأفواه, و بين الحين والآخر يلتفت الشباب يمينا و يسارا و يصرخون!
أما الأطفال فبكوا! و كان بكاء مرا تألم له حتى الحرس الذين تحدثوا فيما بعد عن موازاة البكاء بمطر غزير كاد أن يغرق القصر!
لم يوفر العمال أي قسط من الوقت للراحة، بل بقوا واقفين طيلة مدة المهمة. و عندما يتوقفون عن الشتم، فلكي يرووا معاناتهم أو معانات أقاربهم أو جيرانهم. لكن الجدار الصماء ترد شكواهم صدى، و يتحول الصدى إيقاعات ترتفع لتخبو و كأنها تسخر من هذا النوع من الاحتجاج!
في الوقت الذي كانت تؤدى فيه المهمة داخل الغرف، كانت مهمة أخرى تؤدى بشكل مختلف من طرف المنتظرين. فعدم قدرتهم على الانتظار ـ تلك القدرة التي كانت تبدو كبيرة في وقت معين ـ جعلتهم يهمسون لأنفسهم كلمات نابية في حق الباطرون. لم ينتبه الحرس لهذا الشكل المتطور لأداء المهمة. لكن عندما تعلق الأمر بتدعيم الهمس بإشارات بالأيادي و الأرجل و بتقاسيم الوجه تدخل الحرس لإيقاف اللكم و الركل، لكن بعد أن أيقنوا أن الناس في غيبوبة، و بعد اتصالهم بالمختار طمأنهم أنه "بما أن تلك الحركات سلمية فلا داعي لاستفزاز الناس!"
في الساعة السادسة و النصف صباحا، أمر المختار الحرس بإخراج الناس من الغرف، و الاحتفاظ بهم بشكل منعزل، و بتشديد الحراسة عليهم!! و قد عانى الحرس كثيرا أثناء تنفيذ أمر المختار مما دفع البعض بالتفكير في التخلي عن تلك المهمة الشاقة. بالرغم من أن الناس أخبروا بالمدة المحددة لهم، إلا أنهم تشبثوا بكل ما من شأنه أن يضمن لهم البقاء في الغرف. فالأيدي و الأرجل كانت تبحث عن أي ثنية على إطارات أبواب الغرف لتقبض عليها وتجعل عمل الحراس صعبا. أما الأصابع التي شدت على الأيادي الحديدية التي علقت على الأبواب لتسهيل استعمالها, فتطلبت في بعض الأحيان أكثر من رجلين من الحرس لإبعاد أصحابها؛ فاستغرب الحرس للقوة التي أبداها ليس فقط الشباب، بل الأطفال و الشيوخ أيضا.
بعد أن جمع العمال في غرفة واسعة في البداية، حاول المنتظرون التقرب منهم، لكن الحرس منعوهم، بل أشهروا أسلحتهم النارية في وجه كل من خالف الأوامر؛ و سمعت طلقات في الهواء للتخويف. اكتفى الناس بتبادل التحيات و التهاني من بعيد. فهموا من المرأة التي ناحت أمامهم من قبل أن المعركة التي انتهوا منها منذ قليل تعتبر تاريخية! لتوصل الفكرة إليهم، مدت يديها إلى الوراء و شرعت تدفعهما شيئا فشيئا فهزتهما بقوة إلى فوق ثم إلى أسفل أمام صدرها؛ و عمدت إلى تقطيب حاجبيها و أجحضت عينيها كي يفهمها الجميع.
أعطى الباطرون أوامره أن تتوقف المهمة إلى حين يطلع على الصورة التي أصبح العمال ينظرون من خلالها إليه. أخبر التقنيين الذين كانوا خائفين منه بشكل غير مسبوق بالانصراف بعد أن انتهوا من عملهم. وابتسم لخوفهم متذكرا التقرير الذي سلمه له عضو رفيع المستوى في إحدى أكبر النقابات بالبلاد، و الذي ختمه بأن "الوضع الجديد يحتم عليكم ألا تخشوا شيئا لأن عمال اليوم لا يشكلون خطورة ما داموا تحت قبضتنا!"
لم يتصور الباطرون وهو يستعرض الصور اعتباطيا أن الأمور يمكن أن تصل إلى هذا الحد. كانت الحركات داخل بعض الغرف عنيفة، وكأن الناس يصارعون شخصا حقيقيا. لما رأى الأفواه تقذف ذلك الكم الهائل من البصقات, مد يده إلى وجهه ليمسح العرق!
استبعد الباطرون فكرة الاستنجاد بأي كان وهو في هذه الوضعية؛ و قرر أن يطفئ الشاشات إلى حين. ضغط على زر فحضر المختار وقد كلفه الباطرون أن يشدد الحراسة على من أدى مهمته و على الباقين إلى أن يتم هو مهمته. ثم ضغط على زر ثان، فمثل بين يديه خادم طلب منه إحضار علبة الدواء في الحال. بعد أن تناول قرصين اثنين ـ وهو يعصى نصيحة طبيبه في هذا الأمر ـ استلقى على ظهره و بدأ ينظر إلى السقف. أغمض عينيه، ليفتحهما بسرعة, فقد تخيل نفسه في الوضعية المعاكسة و تذكر ما حدث "للرقاص". لما تأكد أنه فعلا ممدد على ظهره أغمضهما مرة ثانية ليقفز. لقد توهم أن البصقات التي طلت، في الواقع، أرض الغرفة، تلطخ كل وجهه.
نهض الباطرون و قرر أن ينهي مهمته بشجاعة. أشعل الشاشات مرة أخرى لكنه ضغط على الزر المسؤول عن الصورة كي لا يعرض نفسه لأزمات جديدة. تخلص من الصورة و تردد قبل أن يشغل زر الصوت! في الوقت الذي يعذبه خياله؛ يساعده على حل المشاكل كلما احتاج إليه. لقد قدم له طبقا شهيا! كم من القوة كانت لديه وهو يطرد العشرات, بل المئات من العمال كل سنة. كل عائلة تمده بفرد واحد على الأقل يخدمه. الكل يهابه و يسمح له بالتدخل في شؤونه، أفرادا و مؤسسات! استرجع قواته خاصة لما تذكر أن علاقته بأكبر النقابات علاقة من العمق ما لا يمكن لكمشة من العمال العبث به! هكذا ضغط على الزر الصوتي. استرخى قليلا عند سماعه الشيوخ يصلون على النبي. أطفأ الشاشات و بلع قرصين أخريين من دوائه المهدئ.
أخذ الباطرون عينة جديدة من الأشرطة و نظر إليها ممجدا العلم و العلماء. كانت تلك العينة للشباب. لاحظ أن بصقاتهم أكبر حجما و أوجعه تثاقلها. تخيل البصقات تنزل بصورة متتالية و سريعة. ظن أن بالجهاز خلل , ولما مسح على عينيه تأكد أن الجهاز يعمل بشكل جيد. صرخ بكل ما أوتي من قوة" أولاد القحاب".
أطفأ الأشرطة الموضوعة تحت المراقبة و استلقى كعادته! لم يطق النظر في وجوه الشباب الساخرة. إنهم يدفعونه نحو التراجع عن بناء ملعب لكرة القدم داخل المعمل! فهو يقدر حبهم لهذه اللعبة و كان يفكر في تكوين فريق عتيد سيشارك به ضد أقوى الفرق. هاهم يفوتون على أنفسهم تلك الفرصة الذهبية. لكن لازالت لديهم فرصة لتدارك الموقف إن هم تكلموا ولو عن حسنة من حسناته.
هذه المرة أعطى الأسبقية لأقراصه، و كأنه على علم أن أعصابه لن تحتمل. عتم الصورة كما فعل من قبل و خفض صوت الأجهزة. مع ذلك ارتج جسده و كأنه يجلس على كرسي كهربائي. سمع الكل ينعته بألقاب غريبة تهم الجسد, جسده هو. هناك من انتقد قامته القصيرة, و من علق على مشيته وهو يدفع بمؤخرته إلى الوراء؛ و أما العضو من جسده الذي ركز عليه الشباب فهو البطن المنتفخ؛ و قد غضب كثيرا لما شبه ﺑ "المرأة الحامل". كيف يوصف شخص في مقامه ﺑ "امرأة"؛ و امرأة "حامل" أيضا؟! تخللت الألقاب التي أقلقت الباطرون تساؤلات الشباب عن معاناتهم التي لا تنتهي؛ ولم يدرك أنها أعمق من الألقاب التي شغلته كثيرا.
لم يبق إلا مهمة الأطفال و يضع حدا لهذا العمل المضني. لم يتناول أية أقراص هذه المرة؛ بل أبدى استعدادا لتقبل كل ما سيصدر عن مخلوقات بريئة. فالأطفال لا يبدون من السلوك إلا ما تعلموه من الكبار. و لهذا السبب يعاملون بقسوة إذا عاش المعمل أوضاعا معينة! ما إن وضع أشرطة الأطفال داخل الجهاز حتى ضغط بكلتي يديه على أذنيه كيلا يسمع الصفير الحاد الذي انطلق منها. خفض الصوت و ابتسم لأول مرة منذ جلس أمام الجهاز معلنا لنفسه أنه أمام مهمة من نوع ثالث. ما كان يخشاه هو أن تكون مهمة الأطفال استمرارا لمهمة الشباب؛ لكن الحظ حالفه هذه المرة. انتظر أن يكمل الأطفال بكاءهم؛ و لما دام انتظاره ضغط على الزر الذي سيمكنه من الاستماع لما تبقي من الشريط. بدت الوجوه وهي تمر بسرعة أمام عينيه و كأنها تسخر منه. ليس هناك إلا الصراخ!!
ترك الباطرون كل وسائل الاتصال التي يتوفر عليها و استدعى المختار كي يبحث عن صديقه المسؤول النقابي في كل مكان حتى يجد حلا لهذه المعضلة. ما إن ظهر النقابي للعمال المنتظرين حتى هرعوا إليه يقبلون يديه؛ لكن السرعة التي يسير بها قاصدا مكتب الباطرون جعلت الكثير من القبلات تطير في الهواء؛ و حتى تلك التي رست على اليدين قوبلت بنظرات قاسية.
بعد اجتماع مصغر دام خمس دقائق بالضبط، خرج الاثنان إلى بهو القصر و عقدا اجتماعا مع من تبقى من العمال. أخذ النقابي الكلمة قبل الباطرون و خطب في الجموع. في البداية أبدى امتعاضه من سلوك زملائهم المشين، و ذكر المستمعين أن الطقوس التي تؤدى بها المهمة يجب أن تحترم لأن الظروف الآن لا تسمح بالاحتجاج بل بالدعاء! و عبر عن امتنانه للباطرون الذي يبدي استعدادا منقطع النظير لخدمتهم و أكد أنه بمثابة أبيهم و يستحق منهم كل احترام. ثم أنهى كلامه بدعاء شارك فيه جل العمال يتذرعون فيه للمولى القدير أن يضمن الاستمرار للمعمل و أن يرزق صاحبه طول العمر.
خلافا لخطاب النقابي، كانت كلمة الباطرون مقتضبة. قال بالحرف:
" سنختار بوابا جديدا من بينكم. سنزيد في أجوركم مع التخلص ممن تجرأ على إيذائنا. و أخيرا لا مهمة بعد اليوم!"
وقف النقابي إلى جانب الباطرون يستمتعان بمتابعة السيناريو الأخير. شرع الحرس في طرد الفوج الأول من القصر و قد انضم إليهم عمال من الفوج الثاني و الثالث في تلك المهمة!



#عبدالله_بعنو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليس دائما.. بابا!! (أقصوصة)
- السلطان ذو الذراع الواحدة !! (قصة قصيرة)
- فضيحة -أبي برية- : قصة قصيرة
- الممسوس
- استجابات بئيسة


المزيد.....




- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالله بعنو - المهمة قصة قصيرة