أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عبد الستار نورعلي - من الذاكرة2: العدوان الثلاثي















المزيد.....


من الذاكرة2: العدوان الثلاثي


عبد الستار نورعلي
شاعر وكاتب وناقد ومترجم

(Abdulsattar Noorali)


الحوار المتمدن-العدد: 3549 - 2011 / 11 / 17 - 10:59
المحور: سيرة ذاتية
    


من الذاكرة 2
العدوان الثلاثي

مدارس كلية بغداد (Baghdad College)

الحديث عن مدارس كلية بغداد الأمريكية في العراق منذ تأسيسها هو مرور على بدايات التحرك والعمل الأمريكي في التسلل الى العراق من خلال التعليم والثقافة ببناء شخصية النشء والتأثير فيها وفي بنيتها الفكرية المستقبلية وصوغها بالاتجاه الرابط بالثقافة الأمريكية . لأنّ التعليم والثقافة عموماً هما العنصران الأهم والأكثر تأثيراً في المجتمعات وخلق توجهاتها وقناعاتها ومواقفها العامة والخاصة ، بفعل تغلغلهما داخل البنية العقلية الفكرية والروحية النفسية للفرد والمجتمع وتشكيلها وفق مناهج معدة ومخططة . ثم ربط هذه البنية لاشعورياً بالمحرّك الخفي المجهول أو الظاهر المعلوم لتحقيق هدف مرسوم سلباً كان أم ايجاباً ولمصلحة المخططين باتجاه توسيع دائرة نفوذ ايديولوجية فكرية أو سياسية أو روحية بخلق علاقة جذرية عميقة بين الباني والمبني . أو لتخريب بنية نفسية اجتماعية وثقافية في الطريق الى الهدف عند الحاجة الى تدمير ما يمكن أنْ يكون حصانة في وجه استراتيجية مُعدّة في الضد من مصلحة المجتمع المعنيّ بالتغلغل والسيطرة . فللأمر والحالة هذه وجهان سلبي أو ايجابي بحسب المخططين وأهدافهم أو كلاهما معاً . وليس أكثر قدرةً على ادراك المُخطَّط ووعي مكامنه من الذي عاش عن قرب داخل وعاء من هذه الأوعية المطبوخة على نار هادئةٍ خفية لكنها مرئية للناظر الحاذق والواعي الفطن الذي يرى ما خلف الستار من طبخ متسلحاً بخلفية تربوية اجتماعية عريقة وثقافية فكرية متينة مما يُحصّنه من الانزلاق والوقوع في المطبوخ ، بل ربما العكس في مراقبة ما يجري والحذر والنظر الدقيق والاستفادة الواعية من الايجابيات ، وعدم الانجرار الى السلبيات بل تشخيصها زاداً ينفعه ويثريه حياةً وفكراً ونظراً بعيداً .

* * * * * * *

في العام الدراسي 1956/1957 كنتُ طالباً في الصف الثاني من مرحلة الدراسة المتوسطة بـ(كلية بغداد Baghdad College) وهو الاسم الرسمي للمدارس الأهلية التابعة للكنيسة اليسوعية الأمريكية . ثم تأسستْ في أوائل الستينات من القرن العشرين (جامعة الحكمة) التابعة ايضاً الى مؤسسة كلية بغداد وقد بنيت في منطقة الزعفرانية ببغداد . أُمِّمتْ كلية بغداد وجامعة الحكمة مع غيرهما من المدارس الأهلية سنة 1974 . كانت إدارتها وغالبية مدرسيها من الآباء اليسوعيين الأمريكان .

لم يكنْ القبول فيها مُعبَّداً سهلاً ، إذ لا يُقبلُ إلا الطلاب المتفوقون في الامتحان الوزاري للصفوف السادسة الابتدائية . وكان يُجرى لهم في المدرسة امتحان باللغة الانجليزية تحريرياً وشفهياً ، وعلى الطالب أنْ يجتازه بتفوق ايضاً ، حيث كانت الاعداد المطلوبة محددة والمتقدمون كثرٌ ، لذا يُقبل الطلاب بحسب درجاتهم التي حصلوا عليها من أعلى فما دون . حصلتُ في الامتحان الوزاري للدراسة الابتدائية على 95% في مادة اللغة الانجليزية ، بلا مبالغة أو نفخ في الذات . كان معلمنا في مدرسة الفيلية الابتدائية الأهلية في بغداد/باب الشيخ هو المرحوم الاستاذ أبو داوود (سلمان رستم) ، الذي امتاز بالعلم والمهنية العالية تعليماً ، وبالشدة مع الرفق تعاملاً معنا ، وبحرصٍ وتفانٍ واخلاص في اداء واجبه التربوي والتعليمي . لا يتهاون في ضعف أو اهمال أو تلكؤ في اداء واجب مدرسي ، يُقدّم هدية للمتفوّق ومن جيبه الخاص امام طلاب المدرسة في احتفالية رفع العلم التي كانت تقام صباح كل خميس في كل المدارس مع قراءة نشيد:
مليكَنا مليكَنا
نفديكَ بالأرواحِ
عشْ سالماً
عشْ غانماً
بوجهكَ الوضّاحِ

وأذكر أن هديته التي قدمها لي مرة لحصولي على أعلى درجة في الانجليزية هي برتقالة ، وكم كانتْ كبيرةً عندي ، طرتُ بها فرحاً محلّقاً متباهياً ولم آكلها إلا في البيت ليفرح أهلي معي فيفتخروا . لكنّني لم أصبحْ منتفخَ الأوداج نافشاً ريشي .

صباح خميسٍ من الأخمساء هذه أُختاروني كي ألقي قصيدة أمام الجمع ومن شرفة الطابق الثاني المطلة على صحن المدرسة ، فألقيت قصيدة ميخائيل نعيمة (أخي) بصوتٍ جهوريّ عالٍ كي يسمع الجميع . كانت القصيدة ضمن محفوظاتنا في منهج اللغة العربية :
أخي ! إنْ ضجّ بعد الحرب غربيٌّ بأعمالهْ
وقدّس ذكر من ماتوا وعظّم بطشَ أبطالهْ
فلا تهزجْ لمَنْ سادوا ولا تشمتْ بمنْ دانا
بل أركعْ صامتاً مثلي بقلبٍ خاشعٍ دام ٍ
لنبكي حظَّ موتانا

أخي إنْ عادَ بعدَ الحربِ جنديٌّ لأوطانهْ
وألقى جسمَهُ المنهوكَ في أحضان خلانهْ
فلا تطلبْ إذا ما عُدْتَ للأوطان خلانا
لأنَّ الجوعَ لم يتركْ لنا صحباً نناجيهمْ
سوى أشباح موتانا

كان تدريس اللغة الانجليزية في مدرسة الفيلية هذه يبدأ من الصف الثالث الابتدائي بعكس المدارس الرسمية التي كان تدريسها يبدأ من الخامس . ولا يغيبُ عن بالي أنّ أقلّ درجة حصل عليها تلميذ من تلاميذ أبي داوود في الامتحان الوزاري للدراسة الابتدائية للعام 1954/55 في دورتنا هي 65% . فلنتخيّلْ حجم الجهد الذي كان الرجلُ يبذله ، والبراعة التعليمية التي يمتلكها ونجاح أسلوبه في تقديم المادة حتى تترسّخ في أذهان تلاميذه . كنا نحبه حبّاً جماً ونحترمه أحتراماً فائقاً إذ كان لطيفاً مرحاً عطوفاً رغم شدّته وحزمه وعقوباته التي كنا نخشاها بعصاه الأبنوسية السوداء النحيفة التي قيل أنها جُلبتْ له من الهند، كنا نخافها أشدَّ الخوفِ وهي في كفّه ترتفع وتهبط وتذهب يميناً وتعودُ يساراً . كان يستخدمها في الاساس للاشارة على السبورة ، وعند الحاجة تهبطُ بقوةٍ على كفيّ مسكينٍ مسيء أو مشاغب أثناء الدرس مع مقولته اللازمة الشهيرة " بَـلَهْ على راسك "، و بله أي بلاء . وظلّت هذه العصا معه تخترقُ السنين ، إذ رأيتها حين أصبحتُ مديراً لثانوية الفيلية الأهلية المسائية في بداية السبعينات من القرن المنصرم حيث كان مديراً للمدرسة الابتدائية ، والمدرستان تداومان معاً في بناية واحدة هي دار واسعة بطابقين وبغرف كثيرة ، ملحق بها بناية أخرى بطابقين وساحة أمامهما ، والبنايتان متصلتان بممر داخلي فيه حانوت المدرسة . وتقع الدار في باب الشيخ في الزقاق المقابل للحضرة الكَيلانية مرقد المتصوف الكبير الشيخ عبد القادر الكّيلاني (الجيلاني كما تلفظ وتكتب بالعربية عند البعض) في الرصيف المقابل للحضرة من شارع الكفاح ( شارع الملك غازي في العهد الملكي ) .

كانت هذه الدار من بيوت رئيس الوزراء الأول في العراق بعد الاحتلال البريطاني المرحوم عبد الرحمن النقيب وكانت داراً للضيافة . اشتراها احد كبار تجار الكرد الفيليين المرحوم (نوخاس مراد ) وتبرع بها للمدارس الفيلية التي تأسّستْ عام 1946 على يد سبعة من وجهاء الفيلية . والدار أثر تاريخي مهم ، فغرفة الادارة الواقعة في الطابق الثاني والتي يوصل بينها وبين مدخل الباب الرئيس للبناية سُلّم خاص ضيّق بعيداً عن صحن الدار ، كانت الغرفة صالةً للاستقبال حيث استقبل فيها عبدُ الرحمن النقيب المرحومَ الملك فيصل الأول عند وصوله الى بغداد . لذا كنتُ أحسُّ احساساً غريباً فيه شيء من النشوة وأنا أجلس فيها عند مكتبي الاداري ، كأنني جالس مع المرحومين الملك والنقيب . أشمّ رائحة الماضي وأنفاس الشخصيات تفوح منها فأتخيلهما وغيرهما من رجالات العراق في ذلك الزمن جالسين فأسمع ما دار من أحاديث بينهم تتردّد في أذنيَّ . إحساس غريب كان ينتابني ولذة خاصة لا توصف تجتاحني كلما جلست في هذا الأثر التاريخي . حينها كان يرد على خاطري رواية هربرت جورج ويلز العلمية (آلة الزمن) فأتمنى عندها أن تكون الآلة المتخيلة هذه حقيقةً لأمتطيها فأعود الى الوراء في الزمن لأشاهد تلك اللحظات مباشرة وعلى الهواء ! لقد بقيت الغرفة بشكلها وشبابيكها وشناشيلها وأبوابها وحيطانها المُغلَّفة بالخشب وديكوراتها مثلما كانت في الأصل لتعبق برائحة التاريخ السحرية .

تقع (كلية بغداد) في منطقة الصليخ على أرض خضراء واسعة . تتكون من عدة بنايات منفصلة عن بعضها بساحات للعب كرة القدة وكرة السلة وكرة الطائرة ولعبة البيسبول الأمريكية الشهيرة ، وكنيسة خلف ساحة كرة القدم . البناية الرئيسة في المقدمة مواجهة للمدخل الأمامي ذي البوابة الكبيرة وبعدة طوابق تشمل الادارة في الطابق الأول وبعض الصفوف في الثاني . أمامها ساحة مغطاة بالحصى . البناية مرتفعة عن الأرض بعدة درجات . كانت الصفوف الأولى خلفها بخط واحد متوازٍ . وهناك بناية خاصة بطابقين فيها الصفوف الرابعة والخامسة الاعدادية والمختبرات التي كانت قاعات كبيرة مُدَرّجة نتلقى فيها الدروس العلمية من كيمياء وفيزياء وأحياء . وكان الحانوت منفصلاً أيضاً في بناية خاصة تقع في الزاوية الخلفية للمدرسة بجوار ساحة البيسبول . وخلف المدرسة مباشرة تقع سدة ناظم باشا التي بناها الوالي العثماني ناظم باشا في القرن التاسع عشر حول بغداد درءً لها عن الفيضان ، ووراءها الصرائف وهي البيوت الطينية التي بناها الفلاحون النازحون من الريف العراقي الجنوبي بحثاً عن عمل وهرباً من ظلم الاقطاعيين ، فعانوا الأمرّين في مقامهم الجديد من فقر ومرض وإهمال متعمد وتمييز اجتماعي واقتصادي .

كان والدي يرغب في تسجيلي في ثانوية الجعفرية الأهلية القريبة من بيتنا كغيري من أبناء المحلة والأقارب ، لكنّ الذي أقنعه وأخذني بيده ليسجّلني في كلية بغداد هو ابن عمه المرحوم المحامي عبد الهادي محمد باقر أول كردي فيلي يتخرّج من كلية الحقوق في بغداد في الثلاثينات من القرن المنصرم ويخدم في الجيش العراقي ضابط احتياط . لكنه آثر العمل الحرّ فاشتغل وكيلاً للإخراج في كمارك بغداد ليصبح أحد أكبر وكلاء الاخراج وأبرز الشخصيات الاجتماعية العامة والغنية بين الكرد والعرب ببغداد .

كان الذهاب والإياب الى المدرسة بواسطة باصات خاصة تابعة لها صفراء اللون عليها اسم المدرسة وبأجرة مضافة على الرسوم الدراسية . نحن الطلاب من سكنة باب الشيخ والسنك والمناطق المحيطة كان موقف الباص المدرسي الناقل لنا والعائد بنا عند ساحة السنك المواجهة لبناية الكمارك القديمة المطلة على نهر دجلة في شارع الرشيد والتي بجوارها كان يقع فندق السندباد ، وهو الفندق الذي نزل فيه المرحوم الملا مصطفى البارزاني عند عودته الى العراق بعد ثورة 14 تموز 1958 ، وقد شاركتُ حينها مع جمع من الكرد من منطقتنا في الترحيب بقدومه حيث ألقى فينا كلمة ومن شرفة الفندق في الطابق الثاني المطلة على حديقته على ضفة نهر دجلة . والى جوار الفندق هذا بمسافة قليلة باتجاه الباب الشرقي فندق آخر هو (فندق تايكرس بالاس Tigris Palace Hotell) حيث كانت تنزل فيه الروائية الانجليزية المعروفة (أجاثا كريستي) أكبر كاتبة لروايات الجريمة الغامضة في العالم وقتئذٍ ، إذ كانت تقوم بزيارات دورية لبغداد مع زوجها عالم الآثار في الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن العشرين . وقد كتبت رواية بوليسية صدرت في لندن عام 1951 بعنوان (They came to Baghdad ) من وحي اقامتها في بغداد وفي هذا الفندق بالذات عن جريمة غامضة تقع فيه ، طبعاً من وحي خيال قصصي لا عن واقع حقيقي . كنتُ أعشق رواياتها فألتهمها التهاماً وبلغتها الانجليزية . اعتدنا أنْ نشتري الكتب الأجنبية من مكتبة مكنزي في رأس القرية بشارع الرشيد وهي المكتبة التي كانت تبيع الكتب والمجلات باللغات الغربية .

كانت المواد الدراسية في كلية بغداد باللغتين العربية والانجليزية . بالعربية نفس المنهج الرسمي بمواده في المدارس العراقية ، وبالانجليزية تُدرس المواد العلمية (الكيمياء والفيزياء وعلم الأحياء والرياضيات) الى جانب العربية . يقوم بتدريس المواد العربية مدرسون عراقيون والمواد الانجليزية الآباء اليسوعيون الأمريكيون . أما مادة اللغة الانجليزية فكان يدرسنا أحد الآباء اليسوعيين .

كان كتاب المطالعةِ في منهج مادة اللغة الانجليزية ضخماً اسمه (Prose and poetry) بغلاف سميك أخضر . وهو مرجع قيّم في الأدب الأمريكي والانجليزي نثراً وشعراً ، قيل أنه من ضمن المنهج الدراسي الأمريكي نفسه ولنفس المراحل الدراسية . فيه نصوص أدبية رفيعة المستوى قصة وشعراً ، إضافة الى نبذة عن حياة كتابها . احتفظتُ بالكتاب مرجعاً لي حتى هجرتي من العراق في 27 ديسمبر 1991 حيث بعتُ مكتبتي لتأمين تكاليف هجرتي وعائلتي . بعتها بثمن بخس دنانير معدودة . حتى أنّ المشتري الشاب أبدى استغرابه وحزنه وأسفه على بيعي إياها عندما رآها بكتبها الثمينة ، فظلّ متردداً طالباً مني أنْ أفكّر جيداً ، ولم يكن تردده للمساومة فقد قرأتُ الصدق في عينيه . ذكرتُ له حذراً وخوفاً أني أريد بناء بيت لذا أقدمت على هذه الخطوة لحاجتي الى المال . لكنني لمحت في عينيه الشكّ وعدم التصديق . كان من أهل النجف الهاربين الى بغداد بعد انتفاضة آذار 1991 عقب انسحاب الجيش العراقي من الكويت ليشتغل بائعاً للكتب على أرصفة شارع المتنبي .
اتصلت به عن طريق بحثي عن مشترٍ فلم أحظَ بسواه إذ كان سوق الكتب كاسداً كغيره من الأسواق وبسبب الأحداث الكارثية بعد حرب الكويت . والحقَّ أقول أنه فرح بها وخاصة بالمجموعة الشعرية الكاملة للشاعر سعدي يوسف لأنها كانت مفقودة في الأسواق وممنوعة ، اضافة الى ديوان الجواهري بأجزائه الكاملة بطبعة بيروت الأصلية (طبعة سعيد عقل) وبالطبعة العراقية الأولى والأصلية ايضاً في أوائل الستينات من القرن المنصرم بأجزائها الثلاثة وبشروح د. محمد مهدي المخزومي ود. علي جواد الطاهر ود. ابراهيم السامرائي ورشيد بكتاش محامي الجواهري الخاص على ما أذكر . أما ديوان مظفر النواب (للريل وحمد) الممنوع أيضاً وقتئذ فقد اعتذرت عن بيعه مع المكتبة لأنني وعدت قريبي المناضل المرحوم أحمد علي اكبر باهدائه له . كان بعض تلامذتي في الاعدادية و بعض الذين تخرّجوا يستعيرون كتباً من مكتبتي للقراءة أو كمصادر لبحوثهم الجامعية أو دراساتهم العليا ، وكذلك بعض الأصدقاء . وكم من كتاب قيّم ومرجع مهم ذهبَ ولم يعدْ ! وعلى كلّ حال ألف عافية على من لم يُعدْ كتاباً ، فهو مُحلَّلٌ وموهوب ! فقد رحلت الكتب كلها عن طيب قسرٍ وقسوةِ زمانٍ وجور حاكم . اجتاحتني غصة خانقة والكتبُ ترحلُ بسيارة بيكآب مُكوَّمة بعضها على بعض بعد أن كانت مرتبة منظمة مُقسَّمة بحسب المواد على رفوف مكتبتي الخشبية الكبيرة !

كنتُ معتزاً بكتاب (Prose and poetry) أيَّما اعتزاز لأنه جزء من تاريخي الشخصي والثقافي والفكري . من ضمن النصوص الشعرية التي احتواها الكتاب قصيدة للشاعر الانجليزي المعروف رديارد كبلنك (Rudyard Kipling ) المولود في بومباي 1865 ، وكان يُعدّ شاعر الاستعمار البريطاني لموقفه المعادي لنضال الشعب الهندي وتوقه الى الاستقلال والحرية إذ كان والده ضابطاً في الجيش البريطاني في الهند ويتجسد ذلك في قصيدته الشهيرة (The Ballad of East and West ) المعنية بكلامنا هنا والتي يقول في مطلعها الذي ظلّ منحوتاً في ذاكرتي :
Oh, East is east, and West is west, and never the twain shall meet,
Till Earth and Sky stand presently at Gods great judgment seat,

أوه ، الشرق شرقٌ ، والغربُ غربٌ ، ولنْ يلتقيَ الاثنان أبداً،
حتى تقفَ الأرضُ والسماءُ قريباً أمام عرش قضاء الله العظيم ،

وقد ناقشتُ فيها الاستاذ إذ قلتُ ما معناه:
ـ لو كان كلامه صحيحاً لما بُنيت هذه المدرسة ولما كنتَ تقفُ أمامنا ، فها أنت الغربي ونحن الشرقيين نلتقي .
فابتسم وربت على كتفي .

من ضمن المنهج الدراسي مادة الدين ، وكانت دراستها تقتصر على الطلاب المسيحيين الذين كانوا كثرةً ملحوظة . حصتها يومياً في الساعة العاشرة قبل الظهر وتستمر عشرين دقيقة وتجري داخل الكنيسة . كنا نحن المسلمين نبقى طلقاء أثناءها نسرح ونمرح ونلعب في ساحات المدرسة الخضراء الواسعة . وللحقيقة الموضوعية والتاريخية أسجّل هنا أنه لم يحاول أحدٌ من طاقم المدرسة الادارية أو التعليمية أنْ يفرض أو يعرض علينا شيئاً فكرياً أو دينياً أو يعمل على تبشيرنا لا تصريحاً ولا تلميحاً .

في يومٍ من ايام تلك السنة الدراسية زار المدرسة المرحوم الملك فيصل الثاني وبرفقته خاله الأمير عبد الاله ونوري السعيد ووزير المعارف خليل كنه والدكتور فاضل الجمالي وحشد من الضباط والوزراء والمسؤولين . فأوقفونا صفوفاً متوازية بحسب المراحل الدراسية في ساحة كرة القدم ليمرّ بنا الملك بعد زيارته الكنيسة أولاً . فسار أمامنا وكأنه يتفقد فوجاً عسكرياً رافعاً يده بالتحية وسط تصفيقنا الحارّ . ثم توقّف فجأة مخترقاً الصفوف ليقف أمام تلميذ كان في الخطّ الذي أمامي تماماً وهو من مرحلة الصفوف الأولى ، فتكلّم معه بصوت خفيض وهو يبتسم رابتاً على كتفه . لم أسمع من كلامهما شيئاً . أحسستُ ساعتها بفرح وزهو ، فها هو الملك الشاب بلحمه وشحمه أمامي على بعد أقل من متر ! يا لها من لحظة تاريخية !
لم أكنْ أعرف الطالبَ سوى أنه في الصف الأول . لكنني سمعتُ بعد ذلك أنه من عائلة ارستقراطية متنفذة . منْ هي ؟ لم أسألْ ، ولم أدرِ ! ولا أدري لحد اليوم !
كان الملك أمامي على مسافة خطوة وهو في ريعان شبابه بوجهه الوضّاحِ ومحياه المشرق وعلى شفتيه ابتسامة عريضة لا تزال تبرق في عينيّ الى اليوم ، مرتدياً الزيّ العسكري وتحت إبطهِ عصاه العسكرية . وكان الأمير عبد الإله أيضاً يرتدي زيّاً عسكرياً . تذكرت يوم تتويجه عام 1952 وهو يمرّ بعربته المُذهّبة التي تجرها الخيول وخلفه موكب من العربات المزينة بالزهور الملونه وبأشكال مختلفة وفي كرنفال حلو بهيج في شارع الرشيد ، حيث كنتُ واقفاً على سياج السطح الخلفي لخان والدي (خان الطباطبائي) الواقع في مقدمة سوق الصفافير والمطلّ بسياجه الخلفي على الشارع أشاهد موكب التتويج المبهر الساحر والجماهير المحتفلة المحتشدة على رصيفي الشارع وهم يهزجون ويحيون الملك .

يوم العدوان الثلاثي على مصر 29 اكتوبر 1956

في صباح ذلك اليوم من عام 1956 ونحن في المدرسة سمعنا بخبر العدوان وغزو فرنسا وبريطانيا واسرائيل لمصر ، فانطلقنا مجموعة في مظاهرة قدناها أنا وصديقي العزيز الدكتور نبيل يعقوب النواب ، أطال الله عمره ، ولحق بنا عدد ضئيل من الطلاب ، فقد كان طلاب المدرسة من أبناء علية القوم من وزراء ومسؤولين وسياسيين وتجار واقطاعيين وميسورين وسفراء عرب ، منهم الطالب (غازي البركاتي) ابن السفير السعودي إذا لم تخني الذاكرة ، إذ كانت سيارة السفارة السعودية تأتي به الى المدرسة صباحاً وتعود به مساءً ، وكان الضلع الثالث من مثلث الأصدقاء وضلعاه الآخران أنا ونبيل النواب . كان صديقاً صدوقاً يمتاز بالطيبة والهدوء والصدق والثقة والكرم ، فتوطدت صداقتنا حتى تخرجنا من المدرسة المتوسطة ، إذ انتقلتُ أنا الى ثانوية الجعفرية النهارية/الفرع الأدبي الواقعة في منطقة السنك قرب ساحة حافظ القاضي خلف دائرة الكهرباء التي كانت تسمى بـ(العبخانة) ، لأنّ مدرسة كلية بغداد لم يكن فيها فرع أدبي بل علمي فقط . وبعدها لا أدري أين حلّ الدهر بغازي البركاتي! واستمرت علاقتنا أنا والدكتور نبيل النواب حتى هجرتي من العراق . مع فترة سنوات حيث درس خارج العراق في بريطانيا وامريكا حتى حصوله على الدكتوراه وعودته الى العراق ليعمل في وزارة التخطيط فتعود علاقتنا حتى هجرتي .

ومن بين زملائنا في تلك المرحلة ابراهيم ابن السياسي العراقي البارز حينها وأحد رؤساء الوزارات في العهد الملكي كما تقلّد وزارة الخارجية وهو المرحوم الدكتور فاضل الجمالي . كان أطول منا أشقر وسيماً إذ كانت أمه أمريكية . ذهب الى أمريكا بعد اكماله الدراسة الاعدادية ليواصل تعليمه فلم نسمع به بعد ذلك . كنا نتناقش في الأمور السياسة أحياناً ، هو يهاجم عبد الناصر والاتحاد السوفييتي وأنا ونبيل ندافع عنهما ونهاجم الغرب ، ومع ذلك لم يجد الزعل فرصةً كي يتسلل الى نفوسنا ، ولا سمحنا للغضب ولا القطيعة أنْ يفرّقا بيننا ، فبقيت علاقتنا وشيجة حميمة ومحبتنا غامرةً إلى يوم فراقنا وما انفكّت حلاوتها في قلوبنا لحد اليوم .

تقدّمنا لنقف امام بناية الادارة نهتف بسقوط اسرائيل وبريطانيا وفرنسا وبحياة مصر وعبد الناصر . خرج علينا مدير المدرسة الأب سوليفان بوجهه الأحمر وملامحه الدقيقة ونظرته الحادة ، هو الذي لم نرَ يوماً ولو ظلّ ابتسامة على وجهه . كنا نهابه ونحترمه إذ كان شخصية قوية حازمة لكنه في الوقت نفسه يصغي الى الطلاب ومطالبهم وشكاواهم باهتمام وانتباه واحترام . خرج علينا واقفاً في أعلى سُلّم البناية الخارجي أمام بابها بوجهه المتجهم ونظرته الصارمة من عينين زرقاوين خلف نظارته الشفافة ويداه معقودتان على صدره ونحن نهتف في وجهه بشعارات سياسية معادية للعدوان ودوله الثلاثة وكأنه هو الأمريكي المقصود بغضبنا واحتجاجنا واستنكارنا . لم ينبس الرجلُ ببنت شفة ، ظلّ واقفاً منتصبَ القامة يحدّقُ فينا بحدّة حتى هدأنا وتفرقنا .

من اساتذتي في المدرسة تلك استاذ الفيزياء الأمريكي الأب تافت ، الذي كان شاباً في الثلاثينات عندئذٍ وسيماً جداً أشقر فارع الطول حادّ الملامح وبنظارة شفافة ، قيل أنه من أصل روسي . هذا الاستاذ كان صارماً جداً معنا فلم نحبه . لكنّ الحقَّ يُقال: كان عادلاً شديداً في الدرس لا تأخذه في العلم لومة لائم . كان مرشدَ صفنا . في حصة المطالعة الحرة التي كانت احدى الحصص التي يختار فيها الطالب ما يشاء أن يقرأ من مواد دراسية أو ينجز واجبه المدرسي وفي أول ساعة من الدوام الصباحي جاء الأب تافت بخارطة لقناة السويس والدول المحيطة بها الى الفصل اثر العدوان الثلاثي فكانت مفاجأة لنا . علّقها على اللوحة أمامنا وبدأ يتحدث عن اهمية القناة للمنطقة والعالم ، ثم أخذ ينتقد عبد الناصر ويعتبره المسؤول عما حدث . كان مكاني في الفصل في الصفّ الأول عند الشباك . رفعت يدي طالباً الإذن بالكلام فأذن لي . وقفتُ وناقشته ملقياً المسؤولية على اسرائيل وبريطانيا وفرنسا في اشعال الحرب والاعتداء على مصر . فتفاجأ واحمرّ وجهه وتجهمتْ أساريره وطلب مني الجلوس . خشيتُ بعدها من أنْ يشتدّ معي في التعامل ، وربما يرسّبني في درسهِ ، كعادة الطلاب العراقيين في الشكّ بأساتذتهم واتهامهم حقاً أو باطلاً .

لكنّ الذي حدث كان عكس ما خشيته تماماً ، إذ تغيّرت معاملته معي فصار ودوداً لطيفاً . ولم يرسّبني ولا هم يحزنون . فكما ذكرتُ كان الرجلُ عادلاً مع تلامذته حازماً في درسه ودرجاته شديداً عند الغلط . وقد استفدت كثيراً من بعض ملامح شخصيته وبعض خصاله في التدريس وتعامله مع الطلاب مثالاً لي في حياتي التدريسية ، فكنتُ ليناً دون أنْ أُعصَر وصلباً دون أنْ أُكسَر . ولا أدري إنْ كنتُ نجحتُ فأحبني تلامذتي أم فشلتُ فكرهوني ؟ العلمُ عندهم ! وإنْ كنتُ مطمئناً الى أني أديتُ ما عليّ من واجب بكلّ ما ملكته من محبة لمهنتي وطلابي وما فيَّ منْ طاقةٍ وما أحمله منْ علم وخبرة . فلقد أرضيتُ اللهَ وضميري ومهنتي . والحمد لله على كلّ حال .

كانت عقوبة الاستاذ الأب تافت عند اهمال واجب مدرسي أنْ يكتب المهملُ صفحةً من كتاب المادة المطلوبة أربع أو خمس مرات في البيت ويقدّمها اليه في اليوم التالي . وعقوبة المسيء داخل قاعة الدرس أن يقف على رجل واحدة ويداه الى الأعلى ووجهه باتجاه الحائط في مقدمة القاعة أمام الطلاب .
لم نشهدْ يوماً عقوبةً جسديةً أو نفسيةً أو كلمة قاسيةً من مدرس في (كلية بغداد) .



#عبد_الستار_نورعلي (هاشتاغ)       Abdulsattar_Noorali#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيغماليون
- برومثيوس موجوعاً
- الشاعر العاشق
- الهجرة
- قصائد قصيرة لتوماس ترانسترومر*
- قصائد لتوماس ترانسترومر
- مدينة العطور والدماء
- الرواية الأولى
- السقوط في أرض الموت
- من الذاكرة/ باب الشيخ 1
- الجوُّ رماديٌّ
- ثرثرة غير فارغة
- يهوذا الاسخريوطي
- صحوة في الوقت الضائع
- يوميات مدينة/ الجزء الثاني
- بن لادن
- خصخصة العراق
- قصائد للشاعرة السويدية لينا أكدال
- هل أخطأ الفيليون في التشبث بالوطن
- هذا هو الدرب


المزيد.....




- سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي ...
- مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي ...
- بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
- النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
- نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
- الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار ...
- ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
- بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن ...
- روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
- أطعمة تضر المفاصل


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - عبد الستار نورعلي - من الذاكرة2: العدوان الثلاثي