أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - الأدب التراثى وأنظمة الحكم وجهان لمنظومة واحدة















المزيد.....


الأدب التراثى وأنظمة الحكم وجهان لمنظومة واحدة


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 3540 - 2011 / 11 / 8 - 08:57
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



تعدّدتْ إهتمامات د. عبدالغفار مكاوى ( مواليد بلقاس – دقهلية- 1930) ما بين كتابة العديد من مجموعات القصص القصيرة ، والعديد من المسرحيات ، كما كتب أكثرمن كتاب فى مجال الفكر والفلسفة مثل (مدرسة الحكمة) ، (نداء الحقيقة) ، (لمَ الفلسفة ؟) ، (هلدرين) ، (ثورة الشعرالحديث من بودليرإلى العصرالحاضر) (ألبيركامى : محاولة لدراسة فكره الفلسفى) (النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت) ، (الحكماء السبعة) وكان له دوربارز فى مجال الترجمة ، فترجم (ملحمة جلجامش) عن اللغة الألمانية ، (الرسالة السابعة لأفلاطون) ، (دعوة للفلسفة) ، (بروتو يبتيقوس) لأرسطو ، (المونادولوجيا) لليبتز، (تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق) لكانط ، (ثلاثة نصوص عن الحقيقة) لمارتن هيدجر، (الديوان الشرقى) لجوته ، (الأعمال المسرحية) لجورج بُشنر، (قصائد من تريشت) وهو خريج جامعة القاهرة – كلية الآداب – عام 1951 وحصل على دكتوراه الفلسفة والأدب الألمانى الحديث من جامعة فرايبورج عام 1962 ، كما شارك فى معظم المجلات الثقافية المصرية والعربية ، وساهم فى تحريرمجلتىْ (المجلة) ، (الفكر المعاصر) المصريتين . فإذا أضفنا إلى هذا التعدد الثرى فى مجال الإبداع الأدبى والفكرالفلسفى ، شخصيته الآسرة التى يُمكن تلخيص أهم خصائصها فى الترفع عن جمع الثروات ، وأنّ هذا الترفع هو الذى حماه من لعنة الاقتراب من أية سلطة ثقافية أو سياسية ، فكتب وأبدع ما يؤمن به ، ولعلّ تلك الشخصية المؤمنة بأنّ حرية الإنسان لاتنفصل عن الإعتزاز بكرامته ، هى التى جعلته يكتب كتابه المهم (جذورالاستبداد) ولعلّ تلك الشخصية (ثانيًا) هى ما جعلتنى أراه ضمن مثقفى مصرقبل أبيب / يوليو52 الذين رسّخوا قواعد الليبرالية المصرية ، وكانت قبلتهم الدفاع عن العدالة والحرية ، ولم ينشغلوا بجمع المال .
*****
يذهب ظنى إلى أنّ كتابه (جذورالاستبداد) من الكتب النادرة التى ربطتْ بين الإنتاج الأدبى فى العصورالقديمة ، وأنظمة الحكم الاستبدادية. بمعنى التوافق التام ، بل والتطابق بين الحكام الطغاة ، وشخصيات الملاحم والأساطير، وكذلك ما كتبه فى مقدمته لترجمة ملحمة جلجامش (الهيئة العامة لقصورالثقافة- عام 2003) عن شخصية جلجامش الأسطورية حيث قال ((تراكم حول شخصية جلجامش مأثورضخم من القصص والحكايات العجيبة عن طغيانه واستبداده بشعبه ، وصداقته النادرة المؤثرة (لوحش البرية) أنكيدو. وأنّ جلجامش دأب على خطف البنات من آبائهن والدخول عليهن قبل أزواجهن)) (ص 20، 28) وكتب أيضًا ((إننى أتصورجلجامش فى صورة (النموذج الأول) أو(النمط الأصلى) الكامن فى أغواراللاوعى الجمعى للمستبد الشرقى بوجه عام ، والعربى السامى بوجه أخص . تغلغل هذا النموذج فى أقدم طبقات الوعى ، كالعنكبوت أوالأخطبوط الذى يلتف حول نواته منذ أقدم العصور. استقرفيه وتمكن منه وأقام عرشه المرعب ، وراح يُجدده بمختلف وسائل القمع والتخويف والتعذيب والإرهاب ، التى تجددت كذلك أشكالها ونظمها وفنونها عبرالعصور)) (ص 68) وللتأكيد على ذلك نجد أنّ مؤلف الملحمة يكتب فى اللوح الأول ((جلجامش لايترك الابن لأبيه.. يقهرالشعب بالليل وفى وضح النهار.. جلجامش لايترك العذراء لحبيبها.. ولا ابنة البطل ولازوجة المحارب.. هو راعيهم.. وهو مع ذلك قاهرهم الظلوم)) ورغم هذا البطش والاستبداد ، فإنّ كاتب الأسطورة يصفه بوصف يُناقض ما سبق فيقول عنه أنه ((فائق القوة والجمال.. وهوالخبيرالحكيم)) (ص 86) ثم يعود إلى التناقض فيكتب عنه أنه ((كالثورالوحشى.. يُجرّب قوته العاتية على الناس)) (ص 93) وفى اللوح الثانى يكتب مؤلف الأسطورة ((لجلجامش مُلك أوروك .. وهوأول من يدخل على العروس فيُضاجعها ويدخل عليها ، قبل أنْ يدخل عليها زوجها.. وهم يقولون أنّ هذه هى إرادة الآلهة ومشورتهم)) (ص 105) وكان تعليق د. مكاوى فى الهوامش ((الملاحظ أنّ جلجامش كان يستأثربحق (الليلة الأولى) الذى كان يُخوّل بعض الحكام والملوك والنبلاء فى العصورالقديمة والوسيطة حق الدخول على العروس قبل أنْ يدخل عليها زوجها الشرعى)) (ص 252) ولأنّ أية منظومة استبدادية تعتمد على (البطل الفرد) مُستبعدة الشعب ، وبالتالى فهى تتبنى (المطلق) بكل فساده ، ضد (النسبى) رغم مميزاته ، لذلك نصّ كاتب الأسطورة على أنّ ((جلجامش أروع الرجال.. جلجامش أقوى الأبطال)) (ص 158) ولأنه مولع بالحرب وقتل الأبرياء ، لذلك يقول عندما اقتربتْ نهايته ((لن أموت ميتة رجل يسقط فى ساحة القتال.. لقد فزعتُ من الحرب.. ولذلك أموت عاطلا من المجد.. مبارك ياصديقى من يسقط فى المعركة.. أما أنا فأموت يُلطخنى العار)) (ص 170) وما جاء على لسان جلجامش ردّده بعده قواد عسكريون حقيقيون ، كانوا يرون (المجد) إذا ماتوا فى ساحة المعركة ، وأياديهم مخضبة بدماء الأبرياء .
فإذا انتقلنا من الأدب المكتوب المتخيّل إلى الواقع نجد الملك الآشورى (آشوربانيبال) يغزو مصر وينهب ثرواتها ، كما خرّب سوسة عاصمة مملكة عيلام القديمة فى الجنوب الغربى من إيران ((وجسّد التناقض الصارخ بين حرص العالم المثقف على جمع تراث أجداده ، وقسوة الوحش الفظيع على أعدائه ، إذْ كان يتسلى بتقطيع أطرافهم وصلم آذانهم وسمل عيونهم أثناء استمتاعه بالأكل والرقص والغناء)) (ص 40) أما عن الربط بين ما ورد فى ملحمة جلجامش وما كان يحدث على أرض الواقع ، فإننى أكتفى بذكرالمثال التالى : أشارمؤلف الملحمة إلى الغلمان الذين يتنافسون فى جلب الفرح والمتعة. وفى الهامش ذكرد. مكاوى ((ربما تكون هذه إشارة إلى طقوس اللواط المقدس وإلى اللوطيين الذين كانت تعج بهم أطراف معبد عشتار، كما كتب المفكرالسورى فراس السواح فى ترجمته للملحمة)) وأما عن الإشارة فى الملحمة إلى ((البغايا المقدسات)) فإنّ فراس السواح فسرّها على أنهن ((كاهنات الحب)) (ص 250، 257) .
وأعتقد أنّ قراءة د. مكاوى لأدب العصورالقديمة (خاصة السومرى والبابلى) هى التى دفعته لتأليف كتابه (جذوالاستبداد : قراءة فى أدب قديم) الصادرعن سلسلة عالم المعرفة الكويتية- عدد 192- ديسمبر1994 والذى ذكرفى مقدمته ((إنّ جنون القتل والتدميروالتعذيب والنهب والسلب ، كان شيئًا عامًا ومألوفًا بين معظم القبائل والأقوام فى تلك العصور(كالحيثيين والحوريين والعيلاميين بجانب البابليين والآشوريين) (ص 10) واستخلص د. مكاوى نتيجة مهمة لم يتوقف أمامها كثيرون ، وهى أنّ هذا البطش والخراب (حتى فيما يتعلق بالغزوات) كان مؤلف الملاحم يُفسّرها تفسيرًا ميتافيزيقيًا ، متجاهلا أية أسباب واقعية ، مثال ذلك أنّ كتّاب الأدب ((فى نواحهم على مدنهم ، مثل مدينة (أور) التى سقطت فى أيدى العيلاميين ، لم يُشيروا إشارة واحدة إلى أنّ هذا السقوط من فعل الإنسان ، أوأنه كان نتيجة أسباب تاريخية أوسبب واحد على أقل تقدير، فلم يكن الجوهرالمدمرالعاتى ، بموجب فهم السومرى القديم ، إلاّ جوهر (أنليل) إله العواصف الباطشة.. ولم تكن جيوش العدو إلاّ الثوب الخارجى الذى ارتداه الجوهرليُحقق نفسه. فالجيوش الغازية ، هى ضرب من العاصفة.. عاصفة أنليل الذى نفذ حكمًا على (أور) وأهلها نطق به مجمع الآلهة)) وهذا التحليل العميق تأكيد لما ورد فى النص الأدبى حيث جاء فيه ((دعا أنليل العاصفة.. والشعب ينوح.. ودعا رياحًا شريرة.. والشعب ينوح.. والعاصفة التى أمرأنليل فى غضبه.. العاصفة التى تأكل الأرض.. غطتْ (أور) مثل الثوب وكستها كالدثار.. فى ذلك اليوم تركتْ العاصفة المدينة.. وكانت المدينة خرابًا.. والشعب ينوح)) وكان تعليق د. مكاوى ((هكذا تناولتْ هذه النصوص وغيرها أحداثًا تاريخية وقعتْ فى الماضى ، ولكنها تحدّثتْ عن الآلهة أكثرمن الحدث التاريخى ذاته ، وتجاهلتْ الأسباب البشرية الكامنة وراءها لتُبرزأفعال الآلهة)) (ص 62، 63) ومن منطلق وعيه العميق بحكمة تجارب التاريخ كتب ((يبدوأنّ أزمة الحكم الفردى وجبروت التسلط المطلق للملوك أصحاب الامبراطوريات الكبرى بعد ذلك لم تكن فى أحد جوانبها إلاّ انعكاسًا لأزمة الحكم الإلهى نفسه وتضاؤل حظ الآلهة فى مجمعهم من الديمقراطية ، فقد زالت المساواة التى تمتّعوا بها بعد اضطرارهم إلى تفويض (مردوخ) القوى الشاب بالدفاع عنهم وحمايتهم من قوى الظلم والعماء (كما جاء فى ملحمة الخلق البابلية) ثم تتويجهم له بعد انتصاره. مما ترتب عليه انفراده بالسيطرة المطلقة ، وتحوّله من بعد إلى الإله البابلى الأكبرأو الإله القومى للامبراطورية ، وانفراد الملك البابلى تبعًا لذلك بالحكم ، واستغنائه عن أصحاب الشورى ومجلسهم . وقد تكررالأمر نفسه فى فترة ازدهارالدولة الآشورية وانفراد إلهها آشوربالسيطرة على الآلهة المحليين)) (ص 68) وبناءً على ذلك فقد ((لمسنا جذورالشجرة اللعينة التى لم نزل فى الشرق نبلو المرّ من ثمرها منذ آلاف السنين : قهرالحاكم للمحكوم وخوف المحكوم من الحاكم.. وطبع القلق والشك والتشاؤم روح الإنسان وشخصيته فى أرض النهرين وعلى مدارتاريخها المدوّن الممتد لما يقرب من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد)) وأنّ هذه المنظومة الاجتماعية والثقافية لم تسمح ((بالاستقراروالتطورالمطرد المتجانس بالقياس إلى حضارة وادى النيل)) (ص 70، 71) .
وعن متوالية الاستبداد فإنّ ((الإنسان فى حضارة وادى الرافدين اشتاق للعدل وجأربالشكوى من الظلم)) ولكن المثيرللدهشة ، أنه اعتبرأنّ ((الموت كان بالنسبة إليه هوالظلم الأكبر، والسبب فى هذا بسيط : فلم يكن لدى سكان وادى الرافدين (على العكس من المصريين القدماء) تصور واضح عن العالم الآخر، ولم يتوّقعوا جزاءً ولاثوابًا من رحلتهم المحتومة إلى العالم الأسفل.. والأساطير السومرية والبابلية المختلفة عن هذا العالم ، تُصوّره فى صورة بشعة مخيفة. ولعلّ البابلى يكون قد سأل نفسه هذا السؤال الساذج المحزن : إذا كان الآلهة يتمتعون بالخلود ، فلماذا حُرم البشرمنه ؟ وأعظم آثارالأدب البابلى القديم ، وهى ملحمة جلجامش تدور حول هذا السؤال ، إذْ ورد فيها : ((جلجامش.. إلى أين تندفع مسرعًا ؟ إنّ الحياة التى تبحث عنها لن تجدها.. لأنّ الآلهة عندما خلقتْ البشر، حكمتْ على الناس بالموت.. واحتفظتْ لنفسها بالحياة)) (147، 148) وأكثرمن ذلك تصوّرمؤلف الملحمة للإله الذى يغضب ويستاء إذا نال البشرسعادتهم ، فيقول ((إنّ ما يحبه المرء يُثيرسخط الإله.. وما يبدو لقلبه خليقًا بالاحتقارمُحبب للإله)) ارتبط بهذا التصورللإله ، نفى أية مسئولية بشرية عن أعمالهم ، وبالتالى نفى حريتهم وإرادتهم ، فيقول مؤلف الملحمة ((الجنس البشرى أصم ولايعرف شيئًا.. من يستمسك بإلهه تُمح ذنوبه.. ومن لا إله له تكثرمظالمه)) وكان تعقيب د. مكاوى ((إنّ الأخطرمن هذا ، أنّ (الإنسان) المعذَّب (بفتح الذال) وصديقه الحكيم ، يتفقان فى الرأى على أنّ الآلهة قد جبلتْ طبيعة البشرعلى الكذب والظلم ولاشك أنّ هذه هى أغرب الأفكارالتى انحدرتْ إلينا من حضارة وداى الرافدين)) (من ص 147- 157) لذلك لم تكن مصادفة أنْ يكتب مؤلف الملحمة ((إنّ بلادى متوحشة وعدائية.. إنّ صاحبى – بغلظته الوحشية- يُشهّربى.. وإذا أبصرنى من يعرفنى انتقل إلى الناحية الأخرى كى يتحاشانى.. عائلتى تُعاملنى معاملة الغريب.. واللعنة تنتظركل من يُذكرنى بالخير.. أما من يُشهرباسمى فالترقى نصيبه. إنّ المفترى علىّ يُعضده الإله)) فإذا كان مؤلف الملحمة واحد من الشعب ، وإذا كان ما صاغه ترجمة للأحاسيس والأفكار السائدة فى عصره وفى مجتمعه ، نكون إزاء نوع من الأدب مزج الميتافيزيقا بالواقع ، وأنّ الحكام ليسوا مسئولين عن الظلم الاجتماعى ، لأنها إردة الإله ، بل إنّ هذا الإله يُساند الطاغى فى طغيانه. وكان د. مكاوى على حق عندما ذكرفى الهامش ((أخطرما فى هذين السطرين أنّ البارالمعذب يصل مثل خلفه أيوب العبرى إلى حدود الثورة والتجديف على إلهه ، فقد أصبح هذا الإله نفسه شريكًا فى الظلم الواقع عليه. وصاريُعاون مضطهديه. ويُسلط الموت على كل من يحاول الوقوف بجانبه)) .
ولعلّ هذا الموقف هو ما دفع الشاعرالكبيرالسيّاب أنْ يكتب فى قصيدته عن أيوب قائلا ((يارب.. أيوب قد أعيا به الداء / فى غربة دونما مال ولاسكن / يدعوك فى الدجن / يدعوك فى ظلمات الموت ، أعباء / ناء الفؤاد بها)) وفى قصيدة (سِفرأيوب) عبّر عن الاشكالية الفلسفية التى تُلخص حيرة الإنسان المؤمن بالقدر، ويعجز عن فهم المصائب التى تحاصره ، كنوع من الامتحان لقدرته على التحمل ، فكتب (لك الحمد أنّ الرزايا عطاء / وأنّ المصيبات بعضُ الكرم / لك الحمد مهما استطال البلاء / ومهما استبد الألم)) وكان د. مكاوى موفقًا وهوينتقل من الاستبداد فى العصورالقديمة ، إلى الاستبداد فى عصرنا الراهن ، فكتب أنّ الشاعرالسيّاب فى قصيدته (مدينة السندباد) صوّرالقهر والطغيان (أثناء حكم عبدالكريم قاسم) فى مقاطعها الخمسة. واستدعى شخصيات تراثية من حضارات وعصورمختلفة فكتب ((أهذا أدونيس.. هذا الخواء ؟ / وهذا الشحوب ؟ وهذا الجفاف / أهذا أدونيس ؟ أين الضياء ؟ / وأين القطاف ؟ / مناجل لاتحصد / مزارع سوداء من غيرماء)) ثم تنفرد عشتار ربة الخصب والحب بالمقطع الخامس الذى تتحوّل فيه عن وظيفتها المعروفة فى أسطورتها المتناثرة فى بعض قصائد السيّاب ، مثل قصيدة (مدينة بلا مطر) فيقول ((عشتار عطشى ، ليس فى جبينها زهر/ وفى يديها سلة ثمارها حجر/ ترجم كل زوجة بها . وللنخيل / فى شطها عويل)) (ص 118، 119) .
*****
ورغم أنّ مؤلف الملحمة يمزج بين الميتافيزيقى والواقعى ، يعود ليُؤكد على منظومة الظلم الاجتماعى فيقول ((أهلى قد أذلهم الاستعباد)) ولكنه ينفى أى دورللحاكم الطاغى عندما يقول (سبّحتُ بحمد الملك كما أسبّح بحمد الإله.. وعلمتُ الناس توقيرالقصر) والأخطرعندما يكتب البيت التالى الذى يحتمل أكثرمن تأويل حيث قال ((إنّ ما يصلح للمرء يُثيرسخط الإله)) (من ص 180- 184) وعندما قرأتُ هذا البيت أول مرة ، كان تفسيرى أنه نوع من الأدب الساخر، إذْ أنّ المنطقى أنْ يكون هدف الإله سعادة البشروليس تعاستهم ، ولكن عندما قرأتُ فى موضع آخروصف الإله مردوخ بأنه ((الرب العظيم.. الرب الرحيم)) (ص 128) استبعدتُ تفسيرى الأول ، فكيف تكون الرحمة من صفاته ، ومع ذلك فإنّ ((ما يصلح للمرء يُثيرسخط الإله)) ؟ وأعتقد أنّ هذا التناقض فى الأساطيرالسومرية والبابلية فى حاجة إلى دراسة عميقة ومستقلة ، خاصة عندما نقرأ فى العمود الثالث من اللوح الآشورى ((الإله يسعى للشر)) (ص 338) .
وفى مجموعة الأدب الآشورى نجد تكريسًا لمنظومة العبودية القائمة على أنّ المجتمع البشرى لابد أنْ يسيرعلى ثنائية (سيد / عبد) فيقول المؤلف الآشورى ((إنّ شعبًا بغيرملك ، مثل غنم بغيرراع.. إنّ شعبًا بغيرقائد ، مثل ماء بغيرمشرف على القناة.. إنّ كلمة الملك مثل كلمة شمش (أحد الآلهة) المؤكدة.. وأمره لايُضارع.. وقوله لايُمكن تغييره.. أمرالقصرقاطع مثل أمرآنو(أحد الآلهة) وفى هذا الأدب نجد الربط بين منظومة العبودية ، والبُعد الميتافيزيقى المتمثل فى الاعتماد على (الإله) لحل مشاكل الواقع ، فيقول ((ليت أنليل (الإله الأعظم) يلقى نظرة على المدينة التى قدرتْ عليها اللعنة)) ومثل كل ميتافيزيقا ، فإنّ مؤلف النص الآشورى ، يُضفى على الإله صفات الغموض ، وأنّ فهمه والتعرف عليه فوق مستوى العقل البشرى فيقول ((إنّ مشيئة الإله لايُمكن أنْ تُفهم.. وطريق الإله لايُمكن أنْ يُعرف.. وأى شىء عن الإله يستعصى على الكشف)) هذا الموقف الميتافيزيقى الذى يستبعد أية قدرات للبشرفى حل مشاكلهم الواقعية ، لصيق بتكريس منظومة العبودية فكتب المؤلف الآشورى ((كما يقول الناس : الرجل ظل الإله.. والعبد ظل الرجل (الحر) لكن الملك مرآة الإله)) (من ص 348- 356) .
وإذا كان الأدب السومرى والبابلى والآشورى ، مزج بين الميتافيزيقا والواقع ، ورسّخ لحكم الطغاة ، عندما أسند كل الظواهر (بما فيها مظاهرالظلم الاجتماعى) للإله واستبعد دورالبشرفى مقاومة الظلم وتحقيق العدل على أرض الواقع ، فإنّ قانون حمورابى جاء ليُؤكد على منظومة التفرقة بين المواطنين أبناء الوطن الواحد فى تشريعه الشهيرالذى نص فيه على أنّ العقوبة على الجريمة الواحدة ، تختلف حسب الموقع الطبقى والاجتماعى للمتهم (ص 146) بمعنى أنْ تكون العقوبة أشد على الفلاح (الإعدام مثلا) بينما هى (على نفس الجريمة) الغرامة المالية على الوزيرأوالاقطاعى مالك الثروات إلخ ، وهذا ماجعل عالم المصريات الكبيرجيمس هنرى برستيد أنْ ينص على أنّ الأساس الخلقى للعدالة كان منعدمًا فى الحضارة البابلية كلية ((حتى أنّ قانون حمورابى كان يقضى فى العدالة حسب المركزالاجتماعى للمذنب . أما الانعدام التام للفوارق الاجتماعية أمام القانون الذى هو من أرقى مظاهرالحضارة المصرية ، فلم يكن معروفًا فى بابل . وكان نتيجة ذلك أنّ المبادىء الأخلاقية فى بابل لم تُساهم إلاّ بالنزراليسير، إنْ لم تكن لم تُساهم بشىء مطلقًا فى الإرث الأخلاقى الذى ورثه العالم الغربى)) وذكرأيضًا ((ولهذا نعتبرأنّ ما أضافته المدنية البابلية إلى إرثنا الخلقى فى غربى آسيا فى حكم العدم)) وما نصّ عليه قانون حمورابى ، فى التفرقة بين المواطنين ، فعل مثله الحيثيون إذْ كانت ((العقوبات القانونية مدرجة حسب المركزالسياسى الذى يشغله المذنب.. إلخ)) (فجرالضمير- ترجمة سليم حسن- دارمصرللطباعة ومكتبة الأسرة عام 1999ص 33، 236، 368) وبالتالى انفردتْ الحضارة المصرية فى تأسيس قاعدة العدالة المطلقة بين المواطنين والمساواة التامة أمام نصوص القانون ، بغض النظرعن الموقع الطبقى أو السياسى . ولم تكن مصادفة أنْ يبتكرجدودنا المصريون إلهة للعدالة (ماعت) .
كما أنّ قانون حمورابى لم يقتصرعلى التفرقة بين المواطنين أمام القانون ، وإنما (زاد على ذلك) بأنْ رسّخ لآلية من آليات عصورالغابة المتوحشة ، أى آلية ((النفس بالنفس والعين بالعين إلخ)) وهى الآلية التى نصّ عليها فى قانونه الشهيرالمكوّن من 282مادة. وفى هذا الشأن كتب د. مكاوى عن هذا القانون ((فمعاملة العوام فى قانون القصاص ، مختلفة كل الاختلاف عن معاملة السادة الأحرار، كما أنّ معاملة العبيد والأرقاء أدنى وأسوأ)) الدليل على ذلك ماجاء فى قانون حمورابى الذى نصّ على ((إذا فقأ سيد عين سيد آخرحرتُفقأ عينه.. إذا كسرعظمة سيد حرتُكسرله عظمته.. وإذا فقأ عين رجل من العامة أوكسرله عظمة ، فعليه أنْ يدفع (مينا) من الفضة)) (المينا يُعادل كيلوجرامًا) ويُلاحظ على هذا النص فى قانون حمورابى ثلاثة أشياء : الأول استبعاد نظام (السجون) التى تتطلب تخصيص مبنى يتم فيه (حجز) الشخص الصادرضده الحكم ، وأنّ هذه الإقامة الجبرية (الحبس أوالسجن) تتطلب توفيرالحراس وتدبيرالطعام إلخ . الشىء الثانى : عدم التفكيرفى احتمال براءة المتهم ، فماذا يحدث بعد أنْ يتم فقء عين إنسان ثم تتبين براءته ؟ وهذا الاحتمال أحد أسباب رفض التشريعات الحديثة للعقوبات البدنية. الشىء الثالث : التفرقة بين المواطنين : فالحريفقأ عين الحرمثله ، أما إذا فقأ الحرعين إنسان (من العامة) أومن العبيد ، فليس عليه إلاّ دفع الغرامة (مينا) من الفضة. وهكذا لايكون الاستبداد بسبب المنظومة السياسية فقط ، وإنما يترسخ فى إطار المنظومة القانونية أيضًا . وفى قصيدة من التراث البابلى معنونة (حواربين المعذب وصديقه الحكيم) يقول الأول ((إنّ الذين يُهملون الإله يسلكون سبيل الثراء.. بينما يحكم بالفقروالحرمان على الذين يؤدون الصلوات للآلهة.. لقد سعيتُ فى صباى لإرضاء إلهى.. وقدّمتُ فروض الطاعة لآلهتى بالسجود والصلاة.. ولكنى قاسيتُ السخرة فخسرتُ وأرهقنى حمل النير)) فيرد عليه صديقه الحكيم ((يا صاحبى الأمين.. إنّ أفكارك فاسدة..لقد جافيت الحق ورحت تُجدّف فى تدابيرإلهك.. وألحّتْ على عقلك الرغبة فى ازدراء التعاليم الإلهية)) (ص 215، 216) وهكذا نجد أنّ هذا (الحكيم) يلعب دورسادن الآلهة والمدافع عن الظلم .
******
إنّ د. عبدالغفارمكاوى فى كل إنتاجه الأدبى والفكرى ، كان همه الأساسى ترسيخ مبادىء النبل التى يتأسّس عليها المجتمع الإنسانى ، تلك المبادىء التى تتمحورحول هدفين أساسيين : الحرية الفردية بكل تجلياتها ، وتطبيق قواعد العدالة الاجتماعية ، من خلال منظومة المساواة التامة بين أبناء الوطن الواحد ، بغض النظرعن دياناتهم أومذاهبهم العقيدية أوالفلسفية. وحتى وهو يُعيد قراءة الأدب السومرى والبابلى والآشورى ، كانت عيناه وكان وجدانه على شواطىء المستقبل ، لكل بنى الإنسان ، لهذا كان شأنه شأن المفكرين الكبارالذين تركوا بصماتهم المهمة فى تاريخ الفكرالإنسانى .
*******



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدل العلاقة بين البؤس الاجتماعى والميتافيزيقا
- دستور يحكم الثقافة ويحمى المثقفين
- عقاب الطغاة بين دولة القانون وقانون الغابة
- انعكاسات الحرب والدمار على أهل الهوى
- الفلسطينيون بين العرب والإسرائيليين
- محمد البوعزيزى : الإبداع على أجنحة الحرية
- نجران تحت الصفر للكاتب الفلسطينى يحيى يخلف
- المبدعة الليبنانية هدى بركات وجدل العلاقة بين الحياة والموت
- عمارة يعقوبيان : الإبداع بين الأحادية والجدل الدرامى
- اللغة القبطية بين لغة العلم والأيديولوجيا السياسية والعواطف ...
- المبدعة البنانية رشا الأمير وروايتها البدية ( يوم الدين )
- الإيمان بحق الاختلاف هو الحل
- تحالف الديكتاتورية مع العداء للخصوصية الثقافية للشعوب
- أولاد حارتنا بين الكهنوت الدينى والإبداع
- أبو حصيرة : من الضرح إلى المستوطنة
- نبوءات الليبراليين المصريين حول المخطط الصهيونى
- رد على القراء بشأن مقالى عن هيباتيا
- اغتيال الفيلسوفة المصرية هيباتيا والعداء للمعرفة
- استشهاد فرج فوده والدروس المستفادة
- أجيال جديدة ومرجعية قديمة


المزيد.....




- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...
- مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح ...
- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - الأدب التراثى وأنظمة الحكم وجهان لمنظومة واحدة