أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - القتل و الإبتزاز و الدفن : مجرد تجارة ، ليس إلا















المزيد.....


القتل و الإبتزاز و الدفن : مجرد تجارة ، ليس إلا


حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)


الحوار المتمدن-العدد: 3536 - 2011 / 11 / 4 - 23:18
المحور: الادب والفن
    


دق ميكانيكي السيارات شليمون إسحق أوشانا باب داره الكائنة في حي المعلمين ببغداد ، و هو عائد من محل تصليح محركات السيارات العائد له و الكائن في ساحة الأندلس . كانت الساعة هي الثالثة من بعد الظهر . لقد تأخر اليوم في إغلاق محله و العودة للبيت بسبب إنغماسه في شد محرك جديد كامل لسيارة "تويوتا سوبر كراون" . كان ذلك هو اليوم الأول خلال أربعة أسابيع الذي يرزقه الله فيه بزبون يريد تبديل محرك كامل جديد لسيارته ، و ليس محركاً مستعملاً نصف تالف من نوع المحركات التي يصدرها للسوق العراقية الفارغة تماماً تجار الزبالة في الكويت و الإمارات و قطر بعد إحتلال مغول القرن الواحد و العشرين لبغداد بدعم مباشر منهم و من حكوماتهم . لم يكن شليمون يرتضي لنفسه الإساءة لسمعته الممتازة في السوق باستخدام تلك المحركات في التصليح ، أو حتى في استبدال قطع الغيار الصغيرة ، فقد كان يعلم علم اليقين بأنها لا تصلح حتى للنبذ في مكبّات الخردة لكونها ملوثة للبيئة . شعر بالحزن الشديد لأن الجيران راحوا يسوقون زبالتهم للعراق بأغلى الأثمان بفضل نِعَمْ الحصار الخانق الذي فرضه الأمريكان و حلفاءهم على العراق بإسم الشرعية الدولية و بأموال شيوخ النفط الخليجيين . لقد كان ذلك الحصار ، الذي دام إثنتي عشرة سنة ، حملة إبادة جماعية فريدة ، راح ضحيتها مليون و نصف المليون طفل عراقي في أكثر الإحصاءات تحفظاً . و تعجّب في قرارة نفسه : تلك كانت أول حملة إبادة جماعية في التاريخ ترتكب بإسم القانون الدولي .
سَرّه أن بجيبه الآن ثمانون دولاراً من ثمار عمله اليوم يستطيع بفضلها أن يمنح نفسه إجازة لنهار كامل ، فيخرج مع زوجته للتبضع سوية ، و إدخال بعض الحبور في نفسها . يتوجب عليه أن لا يبتعد كثيراً عن السوق القريب من بيتهم لئلا يتعرضان للإختطاف و القتل مثلما حصل و يحصل يومياً للمئات من المسحيين في بغداد بقصد حملهم على بيع دورهم بأبخس الأثمان كي يستطيع أمراء الحرب شراءها من إيرادات الأتاوات و الفدية الضخمة التي تردهم من أزلامهم بالجرادل كل يوم . حمد الله لكونه يسكن في حي المعلمين و ليس منطقة تجارية أو حيّاً راقياً مثل بقية المسيحيين في رصافة بغداد : الكرادة ، الجادرية ، زيّونة ، حي الغدير ، العلوية ، البتاوين ..
لم يكن قد مرت سنتان على زواجه من "فارسة" حبيبة طفولته ، و الخريجة الأولى في قسم اللغة الفرنسية في كلية اللغات ، و التي رفضت التعيين معيدة في الكلية براتب قدره دولاراُ و نصف الدولار شهرياً مثل كل الموظفين في العراق بفضل أريحية صدام . قالت له :
- شُف حبيبي ، أنا أريد التفرغ لإسعادك تماماً ، و لتدبير المنزل كي تشعر بالراحة فيه ، بدلاً من إضاعة الوقت في العمل معيدة بالكلية بدولار ونصف الدولار شهرياً .
- أنت تعرفين يا حبيبتي أنني غير مهتم بالراتب الشهري ، الذي لا يكفي لشراء زوج من النعل . أنا مهتم براحتك ، و أريدك أن تتوظفي كي تمارسي عملاً يملأ عليك وقت الفراغ ، فلا تشعرين بالوحدة جراء بقائك حبيسة الدار لوحدك طول النهار و أنا في المحل . هذا هو السبب الذي يجعل أساتذة الجامعة يقبلون العمل براتب شهري لا يزيد على الثلاثة دولارات ! أنهم يحبون عملهم ، و يحبون بلدهم العراق !
- كلامك صحيح ، حبيبي . و لكنك تعلم يا حبيبي أنني لا أريد لبس اللكچة التي تسبب الصداع و تساقط الشعر ، و لهذا فسأتعرض حتماً للمضايقات ، و للكلام البذيء من الرجال و النساء في الشارع و في الكلية على حد سواء ، فينعتونني بشتى النعوت الجارحة و الجاهزة لدى الدينچية : متبرجة ، و عديمة الأخلاق و الدين ، و عاهرة ، و غير ذلك من النعوت التي أصبحنا نسمعها لأول مرة في بغداد آخر زمان . أليس غريباً يا حبيبي أن اللكچة التي كان إرتداؤها واجباُ على عاهرات المعبد السومريات قد تحولت الآن إلى رمز لفضيلة المرأة ؟ كل شيء لدى الدينچية بالمقلوب !
بعد السقوط ، زارتهم صديقتها و زميلتها راجحة التي تعمل معيدة في نفس القسم ، و قالت لها :
- هل تعلمين أن كل الأساتذة الكبار في مجمع الكليات في باب المعظم قد أصبحوا عرضة للإبتزاز من طرف أحزاب المعممين البعثيين الجدد ؟ إن زعامات تلك الأحزاب تطلق عليهم طلابهم من سفلة و مجرمي الإتحاد الوطني القديم المنتمين لأحزابهم بالجديد ، فيتهمونهم بالإنتماء لحزب البعث ، و يرفعون أصواتهم على أساتذتهم و ذلك ثناء إلقائهم المحاضرات و أمام كل طلابهم ! و كل ذلك كي يستجير الأساتذة منهم بزعماء تلك الأحزاب ، فيكسب هؤلاء و لو حامل شهادة دكتوراه حقيقية واحد بدلا من دكاترتهم الكذابين من الراسبين في الدراسة الإبتدائية !
سكت في حينها على مضض ؛ إنها على حق . أحزاب بشهادات مزورة تهزي بالثقافة و البحث العلمي ! قبل أسبوعين فقط راجعه أحد زعمائهم لتصليح سيارته الفارهة ، و قدم نفسه : "السيد الأستاذ الدكتور فلان الفلاني" ، و المذيل بلقب آخر طويل عريض ! و عندما سأله عن إختصاصه الذي حصل فيه على شهادة الدكتوراه ، أجابه بفخر طاغٍ و هو يصعّر خده : "دكتوراه في الوضوء ! أما الماجستير ، فقد كانت رسالتي هي أول دراسة أكاديمية علمية عن الطرق الصحيحة في قص شعر العانة !"
بعد أن أصلح له محرك السيارة ، جلس الدكتور وراء المقود ، ثم صرخ به متبرماً و هو يتقافز على كرسيه كمن يركب حماراً : "السيارة لا تتحرك !" و عندما أدخل شليمون رأسه من شباك السيارة لتفحص دوّاسة الوقود ، إكتشف أن الدكتور الجهبذ يمسك بالمقود ، و يضغط على دوّاسة الوقود ، دون أن يشغّل محرك السيارة بإدارة مفتاح الاحتراق ! الدكتور النحرير هذا يريد من محرك السيارة أن ينطلق فور ركوبه إياها و جلوسه خلف المقود مثل انطلاقة الحمار فور ركوبه و بدون إحتراق للوقود ! طيب ، حتى الحمار يحتاج اللكز كي ينطلق ، فما بال محرك الحديد ؟ تلكم هي طينة حكام العراق الجدد . لعل هذا يفسر لماذا يُقتل يومياً أكثر من مائتي شخص في العراق في هذه السنة الغبراء ؛ سنة : 2005 . الكل يمارس القتل . الأمريكان يقتلون ، شركات الحماية تقتل ، الجيش الجديد يقتل ، الشرطة تقتل ، مخابرات الجيران تقتل ، العصابات تقتل ، أفراد حماية الصماخات يقتلون ! لماذا يحصل كل هذا القتل و التدمير في العراق بلا وازع و لا رادع ؟ لماذا لا يمنع المحتلون الأمريكان القتل ؟ أليسوا هم المسؤولين بحكم القانون الدولي عن حماية المدنيين العزل ؟ لقد أصبح الوضع في بغداد رهيباً لا يطاق ! كل شيء غالٍ في العراق ، إلا الإنسان : حياته أرخص من أتربة الشوارع ! كل يوم تظهر جثث عشرات المغدورين في مكبّات القمامة ، في السواقي ، و شطآن الأنهار ، في الشوارع ، و هياكل الأبنية الفارغة ، و في أجمات القصب ! هل يهاجر مثل غيره من آلاف المسيحيين إلى أرض الله الواسعة في أوربا أو أمريكا ، فيحيا هناك مثلهم حياة مقطعة الجذور بانتظار تفرِّع جذور جديدة له ؟ و لكنه يحب بلده العراق حباً لا يوصف ، و هو لا يطيق الإبتعاد عنه حتى و لو للحظة واحدة ، فهل يمكن أن يقتـ - ؟ لا سمح الله ! صدق من قال : و من الحب ما قتل ! و ماله إن إختطفوه و قتلوه ؟ سيموت شهيد حبه لبلده العراق ! يموت في بلده و لا يموت غريب الدار ! إيه يا بغدادي الجميلة المجمرة ! حبك مثل حب الرضيع الجائع لنهد أمه اليابس بلا دَر بسبب إصابتها بصدمة رعب من إرهاب أمراء الحرب ، الذين حولوا أحياء العاصمة إلى سوح حروب طاحنة ، و حفروا الخنادق الطائفية التي تباعد بين أبناء البلد الواحد ! و لكن هل ما تزال هناك ثمة شعرة من أمل ؟ تكفيه شعرة أمل واحدة ! نعم : شعرة واحدة تكفي ! أين أنتِ يا شعرة معاوية لتنقذي العراق ؟ عساكِ أن لا تنقطعي ، فيسود البلد الأمن و السلام و المسرة بعد طول عناء و نكد و أنهار من الدماء ! ثم أنه رجل أعزل على العكس من غيره من الناس ، و هو لم يؤذ في حياته أي حشرة ، ناهيك عن أي إنسان ، و جيرانه كلهم يحبونه لأنه يصلح عطلات سياراتهم منذ سنين بلا مقابل ، و لا أعداء لديه فيخاف . إذن ما زال هناك ثمة أمل له ! أمل نحيف جداً ، نعم ؛ و لكن شعرة واحدة تكفي ! نظر إلى شباك الغرفة العلوية : ها هي زوجته تسد الفتحة الصغيرة لستائر الشباك الغامقة . لقد شاهدته ! مسكينة زوجته . ما ذنبها كي تعيش في رعب مستديم مثل طائر مكسر الأجنحة يسكن غابة موبوءة بالذئاب و الضباع و بنات آوى ؟
فتش أركان مصراعي الباب الحديدي ، و حمد الله لأنه قد قام قبل أسبوع بتحصينه بنفسه ، فزاد في طوله ، و أضاف إليه إطاراً متعشقاً يمنع رفع مصراع الباب ، و ركّب عليه ثلاث رزات من الداخل لقفله بإحكام منعاُ لاقتحامه دفعاً . و شعر بالأسف لأن الحداد الذي تعاقد معه لصنع الباب الحديد الجديد ليستبدل به باب غرفة الإستقبال المصنوع من خشب الساج القابل للكسر لم يفرغ بعد من صنع الباب الذي طلبه منه ، رغم تسديده له كل المبلغ الذي طلبه مقدماً ، و عداً و نقداً. مرَّ عليه قبل يومين في ورشته الكائنة في ساحة السباع ، فتحجج له بتوقف كل أعمال ورش الحدادين في السوق على ماكنات القطع و اللحام بسبب الإنقطاع المستديم للتيار الكهربائي عن المنطقة برمتها .
لم يهتم لتأخر زوجته في فتح باب الدار له . كانت تصعد إلى الطابق العلوي عند سماعها كل قرع على الباب الخارجي للدار للتثبت من هوية الزائر من شباك الغرفة العلوية المطل على الشارع . أنفتح باب غرفة الإستقبال ، و خرجت له ملكة القلب . أنفتح القفل الأول ، الثاني ، الثالث ، ثم المزلاج ! طلت عليه خدود الگاردينيا المتوجة بماستين بنفسجيتين و المؤطرة بتينتين عنّابيتين . دخل و عانقها ، ثم أغلق الأقفال ، و حمل زوجته ، و ولج الدار غالقاً مصراع باب الساج بكعبه .
في الساعة التاسعة و النصف من مساء نفس اليوم ، يسمع شليمون ، و هو يستحم في الحمام ، دفعاً قوياً بالهيم لباب الإستقبال ، يعقبه صوت تكسر الخشب ، و صفق إنطباق الباب المنفتح بالحائط . يلبس الروب ، و يخرج مرتجفاً من الحمام ، فيشاهد أمامه أربعة رجال ملثمين يصوبون عليه رشاشاتهم . يتوجه نحوهم يريد التوسل أليهم بتركه و شأنه ، فيعاجله أحدهم يضربة رهيبة على الرأس بأخمص الرشاش ، فيسقط أرضا . تخرج زوجته من غرفة النوم ، فترى زوجها ساقطاً على سجادة غرفة الإستقبال غائباً عن الوعي و الدم يقطر من رأسه ، فتسقط غائبة عن الوعي . يصفد الأربعة يدي شليمون للوراء ، و يختمون فمه بالشريط ، و يشدون عينيه بعصبة سوداء ، ثم يلفونه بسجادة الدار . يحملها إثنان منهما من فوق الجدار الخارجي للدار فيستلمها منهما الرجلان الآخران و يحملانها إلى سيارة ألـ"بي أم ڤي" النيلية اللون الواقفة بباب الدار ، و يحشرانه في المقعد الخلفي للسيارة ، و يغلقان البابين ، ثم يصعدان في صدر السيارة ، و ينطلقان بها بعد نزعهما لثاميهما . ينزع الرجلان الآخران لثاميهما ، و يستقلان سيارة الـ "دايوو پرنس" البيضاء اللون ، و يلتحقان بالسيارة الأولى .
في صباح اليوم الثالث على الإختطاف ، و فيما كان عوني إبراهيم أوشانا هو و أخته و أمه و زوجته و إبنه في غرفة العناية المركزة في المستشفى التي ترقد فيها زوجة أبن عمه المختطف و هي تفتح عينيها الباكيتين و لا تستطيع إدراك ما يجري حولها ، يسمع نغمة الرنين لهاتفه المحمول . ينظر في شاشة الهاتف ، فتتسارع نبضات فؤاده : المكالمة واردة من الهاتف المحمول لإبن أخيه المختطف شليمون . الحمد لله ! عسى أن يكون الفرج قريباً !
- ألو ، ألو ، شليمون ؟
- أسمعني زين ، و لا تتكلم إلا للإجابة على الأسئلة : من أنت ؟
- أنا عوني إبراهيم أوشانا ، أبن عم ميكانيكي السيارات المختطف شليمون إسحق أوشانا !
- هل تريد عودة أبن عمك للبيت ؟
- نعم ، نعم بالتأكيد !
- عليكم إذن أن تسددوا لنا مصاريف رد الأمانة التي يطالب بها أصحاب الشأن و لست أنا : خمسون ألف دولار لا تنقص دولاراً واحداً .
- و لكن من أين لنا بكل هذا المبلغ الجسيم ؟ أنتم دخلتم داره ، و شاهدتم ما هو موجود فيه : إنه لا يملك خمسمائة دولار ، و ليس خمسين ألف دولار !
- أسمع جيداً . أنني فاعل خير ليس إلا ، و عندي تعليمات صارمة بخصوص أمانتكم ، و إذا واصلت التحدث معي بمثل هذا الكلام فسوف أنهي المكالمة حسب أوامر أصحاب الشأن ، و لن تستطيعوا رؤية أمانتكم مرة ثانية أبداً . أصحاب الأمانة يريدون خمسين ألف دولار بالتمام و الكمال ! ما هو قولك ؟
- إمنحني مهلة يومين لجمع المبلغ ! أرجوك !
- أمامك أربع و عشرون ساعة فقط لكي تتدبر أمرك ، و إلا فأنا غير مسؤول عن عودة الأمانة أليكم ، و لن تلوم سوى نفسك أن تدهورت صحتها تدهوراً مريعاً !
- الله كريم . أربع و عشرون ساعة : أربع و عشرون ساعة ، و أمرنا لله الواحد القهار .
- أنا بانتظار موقف محدد منك بعد أربع و عشرين ساعة . إتفقنا ؟ أم أنقل لأصحاب الأمانة موقفاً آخر ؟
- إتفقنا !
- إسمع ! أصحاب الأمانة مطلعون على كل ما يجري لدى الشرطة ، و أدنى محاولة منكم للإتصال بهم ستصلنا فوراً، و لن تكون في صالحكم ! مفهوم ؟
- مفهوم ، مفهوم ! أقسم لك أننا لن نتصل مطلقاً بأية دائرة للشرطة !
- و هو المطلوب !
يترك عوني مبنى المستشفى على عجل ، و يذهب لمحلات سكن دور أقاربه و أصدقائه واحداً واحداً يستدين منهم بعد أن يشرح لهم مدى حراجة الموقف ، و يبيع ذهب نساء العائلة كله حتى خواتم الزواج بأبخس الأسعار ، فيجمع المبلغ المطلوب في ليلة نفس اليوم .
في صباح اليوم التالي ، يشعر عوني بالسعادة الغامرة لأول مرة منذ أربعة أيام : لقد جمع المبلغ الكبير المطلوب ، كما أن فارسة زوجة بن عمه المختطف قد صحت من الصدمة التي ألمت بها ، و بدأت تتكلم و تشرب الماء . كرمك يا رب العالمين !
يتصل برقم شليمون ، و ينتظر بترقب رهيب فتح جهاز الهاتف ، و وجيب قلبه القوي قد بلغ التراقي .
- نعم ؟
- أنا عوني إبراهيم أوشانا ، أبن عم الميكانيكي المختطف شليمون إسحق أوشانا !
- لا تقل مختطف ، فاهم ! قل أمانة !
- نعم ! أنا عوني إبراهيم أوشانا ، أبن عم الأمانة !
- ما ذا تريد ؟
- لقد وفقني الله أخيراً بجمع المبلغ الذي طلبتموه !
- و هل إتصلت بالشرطة ؟
- لا ، لا ! أية شرطة ؟ ما هذا الكلام ؟ نحن لدينا إتفاق ، و أنا ملتزم به !
- هل المبلغ كامل ؟
- نعم ، نعم كامل ، و أنا جاهز الآن للإستلام و التسليم !
- و كم هو المبلغ ؟
- مثلما طلبتم : خمسون ألف دولار !
- و لكن هناك مصاريف إضافية ، فكيف فات عليك أمرها !
- ما ذا تقصد ؟
- كيف تسألني مثل هذا السؤال ، ها ؟ هل الأمانة تحتاج إلى طعام و شراب أم لا ؟ هل تعلم أننا لا نطعمه ألا أفخر الأطعمة و الأشربة التي تليق بمقامه ؟
- طبعاً ، طبعاً !
- إذن أضف خمسمائة دولار على حدة فوق الخمسة آلاف ، و أرزم المبلغ الكلي في كيس أسود ، و ضعه على مقعد موقف سيارة المصلحة الكائن في ساحة النصر في الساعة الخامسة و النصف مساء اليوم . هل عرفت المكان بالضبط ؟
- نعم ، نعم ! أنه كائن في شارع السعدون ، قرب التمثال !
- عليك نور !
- و لكن يا أخي : هذا المكان مليء برجال الشرطة و الجيش و دوريات الأمريكان !
- ما عليك ! المنطقة مؤمنة بالكامل ! ضع المبلغ في المكان المحدد بالضبط ، ثم أنسحب لبيتكم رأساً ؛ و بعدها بساعة بالضبط ستصلكم الأمانة حسب الأصول . و إياك و أن تهز بذيلك ، فنحن نعرف كل شيء ! مفهوم ؟
- مفهوم !
- متى ستجلب الأمانة ؟
- في الساعة الخامسة و النصف !
- جيد ! و أين تضعها بسرية تامة و بكل دقة ؟
- على مقعد موقف سيارة المصلحة الكائن في ساحة النصر !
- جيد ! و بعدها بنصف ساعة ستصلكم الأمانة أن لم تفر بذيلك ! مفهوم ؟
- مفهوم ، مفهوم !
- و لا تنس مصاريف الطعام !
- صار !
في المكان و الزمان المحددين ، يضع عوني المبلغ المطلوب في المكان المحدد ، و يذهب مباشرة لدار أبن عمه ينتظر عودته . بعد حوالي نصف الساعة ، يتصل به الخاطفون ، و يبلغونه باستلامهم المبلغ المطلوب كاملاً ، و أن الأمانة ستصلهم خلال ساعة .
يتنظر عوني و ينتظر و ينتظر .. ثلاثة شهور كاملة ، و ما من خبر . يقسم العمل بينه و بين أبنه إدور لمراجعة الجوامع و الحسينيات و مقرات أمراء الحرب لطلب المساعدة ، و ما من خبر و لا من مجير .
بعد مضي مائة يوم على الإختطاف ، يأتيه إبنه أدور إلى دائرته و يقول له باكياً :
- لقد عثرت على شليمون !
- أين ؟
- في حاسبة الطب العدلي ، و شاهدت صورته !
- ؟
- و قد سلموني شهادة الوفاة . ها هي !
يأخذ عوني ورقة شهادة الوفاة بأصابع راجفة دامعة و عيون تأبى النظر . و عندما يستعيد الرؤية أخيراً ، يقرأ سبب الوفاة : طلقتي رشاش من الخلف ؛ واحدة في الرأس ، و الثانية في الظهر !
- لقد سلموني ورقة لاستلام الجثة . هذه هي يا أبي : أنه مدفون بمقبرة القتلى المجهولين في النجف !
- رحماك يا رب ! أي ذنب إقترفناه ؟ هل حب العراق ذنب يستوجب القتل ، و فوقه نتف الريش ؟ يقتلون المختطف البريء غدراً ، و يطالبون أهله بالفدية بزعم إطلاق سراحه بعد قتله ؟ أووووهووووو .
- أوووووووهعأوووهع .
بعد يومين ، يتجمع أقارب القتيل من الموصل و بغداد ، و يذهبون بأربع سيارات لنقل جثة المغدور من النجف إلى مقبرة العائلة في برطلة . يراجعون إستعلامات مقبرة النجف ، فيذهب معهم الدفان لأستخراج الجثة . قبل الحفر يقول لهم الدفان :
- أخوان : أنا أجرتي هي خمسون ألف دينار !
- ماشي ! و لكن أرجوك أستعجل ؛ إن وراءنا سفر طويل إلى الموصل !
- الموصل ؟ و لكن عليكم أن تدفعوا لي أجرتي مقدماً ! نعم ! و أجرتي هي ألف دولار !
- ألم تقل لنا قبل ثوان أن أجرتك هي خمسون ألف دينار ؟
- تلك كانت زلة لسان ! أجرتي هي ألف دولار ! نعم ، هذه هي أجرتي ، و أنا صاحب عيال !
يتولى عوني جمع كل ما في جيوب أقارب المغدور ، المبلغ لا يكفي ! يخرج بطاقته الشخصية و يقدمها للدفان :
- ليس لدينا المبلغ المطلوب الآن . خذ هذه بطاقتي الشخصية ، و فيها أسم و عنوان دائرتي التي أعمل مديراً لها ببغداد ، مع أرقام هواتفي المحمولة . اليوم هو الأربعاء ، زرني في دائرتي صباح يوم الأحد القادم ، فتستلم مني الألف دولار كاملاً .
- صار !
يأخذ الدفان البطاقة ، و يدسها في جيب دشداشته ، و يحفر أقل من شبرين ، فيخرج الجثة المتهرئة لشليمون !
في تمام الساعة التاسعة من صباح يوم الأحد ، يدخل الدفان غرفة الإدارة ، و يسلم بابتسامة عريضة على عوني . يقوم له عوني ، و يصافحه ، و يدعوه للجلوس . ثم يقرع الجرس ، فيدخل موظف الخدمات حامد ، فيأمر لضيفه بالماء و الشاي . بعد شرب الماء و الشاي ، يسلمه عوني الألف دولار . يستلم الدفان المبلغ ، و يعده بدقة و أناة ، ثم يقبله و يرفعه إلي جبهته ، و يضعه بجيبه ، و هو يقول :
- أرجو أن تعذرني أستاذ ! أنت تعلم أن الدنيا أصبحت غالية نار ، و أنا لا أجيد غير مهنة الدفن ! ما ذا أصنع ؟ لقد جعل الله خبزتي بالموت ، و هي مهنة شاقة ، و كلها تعب ، و تراب . و أنا متزوج بأربعة نسوان ، كما أن بذمتي خمسة عشر حرمة بعقود متعة لمائة سنة ! و عدد أطفالي يزيد على أربع و عشرين ، بحيث بت لا أستطيع حتى تمييز أسمائهم . و كل هذه الأفواه مفتوحة علي و أنا عظم واحد ، و هي لا تشبع من الأكل أبداً ! و أنت تعلم أن الشغل صاعد نازل في هذه الأيام ، و ليس ثابتاً بقوة مثلما كان خلال الحرب مع أيران ! وقتها كانت الجنائز تتدفق علينا تدفق مجرى مياه الأنهار ؛ أما الآن ، فالرزق شحيح و المقابر تعددت . و مثلما تعلم ، فأن الإنسان لا يموت ألا مرة واحدة ، وعدد الدفانين عندنا قد تضاعف أربع مرات خلال السنتين المنصرمتين . لقد أحببت أن أوضح لك فقط بأن رزق الدفان يشبه رزق الصياد ، و لهذا فيجب عليه ، كالصياد ، أن لا يدع اللقمة الدسمة تفلت من بين يديه ، وأن لا يفرط برزقه أبداً ، و إلا أصبح سفيهاً ! كما أن الرزق يحب الخُفيّة ! بالنسبة للدفان ، فإن الناس قبل الموت هم مثل السمك السائب بالشط و ليس بالشبكة ! أما بعد دخولهم شبكة الصياد عند الموت ، فيصيرون مثل البضاعة في مخزن التاجر ، ولهذا فهم يصبحون عرضة لتقلبات السوق و للمساومات . و قد أحل الله المساومة على عباده ، و نحن لا نجبر أحداً على الدفع ! فمن يقبل بسعرنا ، نشتغل له كي يدفع المبلغ المتفق عليه ؛ و من لا يرض ، فهو حر غير مغصوب .
- ممكن أخي أن أسألك سؤال ؟
- تفضل اسأل ، أستاذ !
- أن تساوم على دفن الموتى ، فهذا أمر مفهوم ، و لكن كيف تسمح لنفسك أن تبتز الناس المضطرين على نبش جثث الموتى المغدورين لدفنهم في مقبرة ثانية ؟
- تسمح لي أن أختلف معك في هذا ، يا أستاذ ! الدفن و النبش لإعادة الدفن كلاهما تجارة واحدة ؛ و الهدف منهما واحد : طمّ جيفة البشر لكيلا تصل رائحتها للضالين !



#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رجع الوجع / الحلقة الأخيرة للرواية / 20
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 19
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 18
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 17
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 16
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 15
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 14
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 13
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 12
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 11
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 10
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 9
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 8
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 7
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 6
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 5
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 4
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 3
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 2
- رجع الوجع / رواية بحلقات


المزيد.....




- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - القتل و الإبتزاز و الدفن : مجرد تجارة ، ليس إلا