أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الأعشاش المهدومة















المزيد.....



الأعشاش المهدومة


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 3535 - 2011 / 11 / 3 - 11:36
المحور: الادب والفن
    


الأعمال الكاملة
المجموعات القصصية (1)



د. أفنان القاسم


الأعشاش المهدومة
قصص مزيدة ومنقحة








الطبعة الأولى الدار الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر 1972
الطبعة الفرنسية دار لارماطان باريس 2003















































إلى أمي
إلى ذكرى ألبير كامو









































الموت

نعرف أن الإنسان لا يعي نفسه كما يعي العالم، وكل واحد لنفسه غول أحلام.
أندريه مالرو

لنتخيل عددًا من الرجال في سلاسلهم، وكلهم حكم عليهم بالموت، وكل يوم يذبح بعضهم أمام بعضهم، فيرى الباقون شرطهم في شرط أشباههم، وينظر الواحد إلى الآخر بألم وبدون أمل، منتظرًا دوره. إنها صورة شرط البشر.
بليز باسكال

تتعارض مع الرؤية القديمة الباسكالية للقدر (مصيرنا المشترك تم "فوق") وجهة النظر الحديثة للثوريين: الإنسان قدر الإنسان، ليس هناك شرط إنساني وإنما شروط إنسانية.
إيف آنسِل

أن تكون حرًا... أن تريد ما تستطيع عليه.
جان-بول سارتر



الجزائر 1996
الجزائر امرأة بيضاء تستلقي تحت الشمس، والبحر الأزرق يأتي مداعبًا لها قدميها. المنارات قطع تتناثر من قصر موريسكي كبير، والقصبة استعارة في حكاية. هذا ما لدي من شعور كلما أنظر إلى الجزائر من علٍ... الشعور نفسه أيام الشباب وأيام الشيخوخة. ولسوء الحظ، إنه شعور خاطئ. لكنني لست هنا، فوق هذا المرتفع المهيمن على الأزرق والأبيض والذهبيّ كي أضيف بطاقة بريدية وهمية للمدينة التي ولدت فيها إلى مجموعة بطاقاتي الأخرى. أنا هنا أمام السجن الذي حبست فيه منذ أربعين عامًا، تقطع أنفاسي الذكريات، ويا لها من ذكريات مخيفة! ويا له من سجن مرعب! النوافذ الصغيرة، القضبان المعقوفة، الجدران الواطئة، الأسرّة الحديدية، الممرات الطويلة، الظلام، الأسلاك الشائكة، الحراس، الأصداء القادمة من الخارج... الأصداء... الأصداء...

الجزائر 1956
قال السجان:
- غدًا سيتم إعدامك.
وأنا أحدق في عينيه الزجاجيتين، كنت أقول لنفسي: إذن سأنتظر يومًا آخر. ضعت بين معالم وجهه الحجرية، وسمعته يقول بصوته القاسي:
- إنه أقرب يوم منذ الآن، الغد!
انتظر قليلاً قبل أن يضيف بنبرة آمرة:
- لا تنم باكرًا الليلة، فسيمر ضابط السجن ليراك، لربما في ساعة متأخرة.
رماني بنظرة وعيد، ثم سمعته يهمهم:
- على أي حال، أنت لن تنام باكرًا... ستشنق هذه المرة، إلا إذا حاولت خداعنا مرة أخرى.
أوصد الباب من خلفه، وذهب في الممر الطويل المعتم.
كان إلى جانبي عمار، وهو ينطرح على سريره الحديدي ذي الأقدام القصيرة. لم يكن يمكنني التفكير في شيء آخر غير الموت، بعد أن طرد السجان كل فكرة أخرى من رأسي. لقد أحدثت كلمات الحارس فيه ما يشبه الفجوة، تركتُ كل شيء فيها يختفي. كنت أرى فقط نفسي معلقًا على المشنقة، وأنظر إلى هذا العمار الأبله، المنطرح، كتلة ضخمة من الشحم واللحم على السرير الحديدي ذي الأقدام القصيرة... كانت بلادة عمار تسحقني.
نهضت، وألقيت نظرة من الكوة الضيقة. قبضت على القضبان المعقوفة، وجسست حافة النافذة الناتئة. لم يكن بمقدوري أن أفعل شيئًا. كانت شمس صباح بشعة في الخارج، وهي بأشعتها الباردة تخترق كتل السحاب لتغطي الطبيعة النائحة. كان العالم يغرق فيها، دون أن يبالي بمصيري.
مضت ساعة، وأنا أقف مواجهًا مصيري الإنساني. لم يكن بإمكاني أن أفعل شيئًا آخر. كنت مكبلاً بفكرة الموت. كانت تسحق بثقلها كل حواسي، وتخدرها. كان ذلك كما لو كنت جسدًا من اللحم الميت، مجردًا من كل إحساس. فجأة، أفقت على صوت عمار الأجش:
- ياو!
عاودني الشعور بنفسي، كنت هناك، واقفًا وراء القضبان، بقامتي النحيلة، الضعيفة، الهشة، الثلومة. أدركت كم كنت بخسًا. فجأة، عادت الزنزانة الضيقة تتبدى لي من حولي، بجدرانها الأربعة الواطئة. فكرت في هذه الكلمات: غدًا سيتم إعدامك! غرقت في عيني عمار القاتمتين ولكن الحادتي النظرة. تفرست فيه، وانفصلت عني تلك الفكرة الغريبة للموت التي صنعها خيالي. خلاني وجهه الغامض، فإذا به مُبْهِرًا، مُعَطِّفًا، بينما كنت أبحث عنه في أعماق حدقتي عمار السوداوين اللتين طفحتا فجأة بالمودة.
- هكذا... لن تبقى لك سوى ليلة واحدة.
ساعتذاك، اختفت تلك الصورة المؤثرة من عيني عمار، وعادت فظاعة الموت تستولي عليّ من جديد. ومع ذلك، لم يعد عمار فظًا وكريهًا، كان كالحمل وديعًا، مسالمًا ومؤنسًا.
قلت لعمار:
- ومن ثَمّ ماذا! سيان لو يتم التنفيذ في الحال.
كنت أخدع نفسي. في الغد ستكون الأمور مختلفة، فالغد لن يأتي قبل ليلة. لربما لن يأتي الغد أبدًا. فكرت في "لربما"، وانقبض قلبي. كنت خائفًا بالفعل. كنت يائسًا بالفعل. كنت أتعذب بالفعل. أخذت الجدران تضيق هي أيضًا من حولي. أحسست بثقلها الطام. كدت أختنق. رددت رغم صعوبة تنفسي:
- سيكون الأمر سواء... سيكون الأمر سواء...
لكن عمار انفجر ضاحكًا:
- يا لها من أكذوبة!
ظننت أنه اكتشف أمري، وسبر غور نفسي. قال، وهو يخنق ضحكة:
- الحياة!
تنفست الصعداء، بينما عمار يضيف ساخرًا:
- أتعرف؟ لسوف يعدمونك حسب الطريقة الأكثر إنسانية!
أخذت أستمع إليه بتنبه شديد:
- سيضعون على عينيك رباطًا حريريًا، وبين أسنانك لجامًا ذهبيًا... تمامًا كالمهر الذي لا يعرف ما هو الموت، لئلا تصرخ، فهم لا يحتملون الصراخ!
بصق على الأرض قبل أن يشتم جلادينا:
- أبناء الكلب! يخشونك حتى في لحظة الموت!
بصق من جديد، وقذف شتيمة أخرى. عندما هدأ، عاد الصفاء إلى ملامحه طاردًا كل أثر للشك. فكرت فيما قال: "يخشونك"، ولم تعد تهمني طريقة إعدامي.
حط صمت طويل بيننا. في الخارج، شمس الظهيرة البشعة، وقرصها ينزع عنه البراقع الرمادية. سرى في بدني تيار بارد. انتبهت على عمار، وهو يحك فخذه، وعيناه مغلقتان، فناديته:
- عمار!
تحرك قليلاً دون أن يتوقف عن الحك.
سألته:
- أتعتقد حقًا أنهم سيقتلونني هكذا؟
لم يعرني أدنى اهتمام، أبقى عينيه مغلقتين، وهو يحك فخذه بأكثر فأكثر من المتعة. بقي مضطجعًا، مفصولاً عني.
عاودني القلق. ومن جديد، شعرت بالجدران الأربعة، وهي تقترب، وهي تكاد تسحقني. كنت أقع تحت وطأة سحقها وحدي، حتى ولو كان عمار يتقاسم الزنزانة معي. أمام سلبيته المفزعة ولامبالاته التامة، تخيلته في الخارج، دوني في الخارج، بينما كان هنا بالفعل. وفي الحال، شعرت بوطأة رهيبة لحضوره: هو الذي لم تزل له أيام يحياها، هو الذي سيبكيني في الغد، هو الذي سأترك له وحده كل شيء. كان عمار في استلقائه على مثل تلك الصورة يبدو لي حرًا رغم وجودنا في القفص نفسه. كان لا ينشد إلا الاستلقاء، والخلود إلى الراحة، ويموت رغبة في النوم.
- كالمهر الذي لا يعرف ما هو الموت؟
انفتحت عينا عمار بوحشية عليّ، وتفرستا فيّ بسخط، وهما تعتصرانني كحبة الحامض دون رحمة. وكمن أصابه العَتَهُ، رماني في وجهي مهتاجًا:
- يا ابن الكلب، دعني!
عند ذلك، عدت أفكر في الموت الرهيب. زحفت إلى زاوية من زوايا الزنزانة، وأنا أخشى من تهدم كل شيء عليّ. كان الجدار باردًا. لم يكن كل شيء يمكنني احتماله. بدأت أفحص الحقيقة، أرى الموت على مقربة مني. سمعت أنفاسه. أحسست به يحيطني بذراعيه، شفتاه على شفتيّ. كان يسفُطني. كان عمار قد عاد إلى غفوته مديرًا لي ظهره. صب في ظهري العرق. نهضت إلى النافذة الصغيرة. أملت سماع ما يجري وراءها. وصلتني أصداء الأمواج وصيحات الناس، صيحات المعذبين: كنت بعيدًا عن السجن الكبير الذي كانته الجزائر الكولونيالية! كنت هنا، في المكان الأكثر ضيقًا والأكثر سحقًا، مع عمار، الراقد على سريره الحديدي كمن يرقد على فريسته.
لأحيد عن شرطي الهش والثلوم، سيطرت عليّ بشراسة رغبة مجنونة: أن أقتل نِدّي الوحيد.
وفي الحال، استدرت نحو عمار. فكرت: "سأتخلص منه وفي الوقت نفسه من الموت الذي يشخصه في نظري!" أثلج ذلك صدري، ولكنني، وأنا أتقدم منه، رأيته كما لو كان ذلك للمرة الأولى: جسده العملاق، المتين، رأسه الضخم، المكور، شعره الكث، المجعد، ساقاه الطويلتان، فخذاه المنتفختان. وأكثر ما خشيت إبهام قدمه الذي كان يبدو، وهو يندفع بقوة ليضربني في صميم وجهي. كان عمار تلك القوة الجبارة التي لا تقهر!
رحت أدور في الزنزانة، وأنا أرمق قامتي النحيلة الضامرة. أيقنت من أمر واحد: أن أتخيل نفسي قادرًا على قتله، كان ضربًا من الهذيان.
دمرتني الفكرة، فعدت أتكور عند قدم الجدار.
ومن جديد، انقض الموت عليّ.
كنت أتفسخ، وأتفكك. غدا تنفسي صعبًا. في الخارج، سقطت شمس الغروب البشعة. وأنا، كنت أشبه بقطعة من الجليد، ومع ذلك، كنت أنضح عرقًا.
"يجب أن أقتله، يجب..."
كانت تلك إرادتي.
قفزت أحوم حول عمار كما يحوم الذئب. كان يرهقني. كنت أخافه دومًا. توقفت قرب رأسه. كان يغفو. تأملته بعناية، تأملته مليًا، بينما كان يغط في سبات عميق. كان يفزعني جفناه المنغلقان، يفزعني أنه يستطيع النوم. كم كان ذلك مغيظًا! فهمت أن في تلك الكتلة الضخمة التي تتنفس بهدوء إرادة حديدية.
أخيرًا، قررت أن أفعل شيئًا: أن أتحدى ضعفي على الأقل، أن أعطي قيمة ما لنفسي، أن أتصرف بمحض إرادتي، أن أؤكد سيادتي على عالمي الصغير هذا الذي كانه زنزانتي، وأن أتصرف فيه بكل حرية، أن أكون أهلاً له. كان عليّ أن أنجح في كل هذا (أو على الأقل في بعض من هذا): أن أواجه الموت الذي يتربص بي علانية منذ هذه اللحظة، والذي يهددني الآن تحت شكل هذا العمار الضخم، المربوع، الجاثم بخشونة على سريره الحديدي الواطئ.
حاولت بالتلمس أن أنتزع قضيبًا من سريري. لمسي للحديد جعلني أثمل. كان عليّ أن أفك طرفيه ثم أسحبه. بدأت العملية. لم يكن الأمر سهلاً كما تصورت. احتاجني ذلك من الوقت ليس أقل من ساعة، وبعد أن انتزعت الأسلاك جلدي.
نقلت القضيب من يد ليد، وفي فمي طعم ما قبل الانتصار. كان عمار يغفو دومًا. وحش جميل، هذا ما كنت أفكر فيه. ولكن ما أن اقتربت من رأسه، مشهرًا سلاحي الحديدي لأنفذ عملية القتل فيه، حتى أصابني الشلل على رؤية ذبابة تقبع على جفنه، وتمتصه.
تلاشت إرادة عمار الحديدية.
تلاشت كل الصور غير المحتملة التي ألهمتني.
اختفى الموت الذي كان يلازمني منذ الصباح. غدا كل شيء غير معقول، مستبعد الوقوع، لا يصدق.
رحت أرنو إلى عمار بحنو ومحبة. كنت أقع تحت تأثير الناحية الطفولية التي تبدو في ملامحه: يا للحمل الوديع المسالم! يا للكائن الساحر الجميل! انقبض قلبي: كنت أحقد على نفسي. كنت أتألم، وأسحب أذيال خيبتي من ورائي. ارتخت يدي الرافعة للقضيب تمامًا. ذبابة حقيرة أعادت لي أناي، أنا ميتة وباردة.
بدا وجه عمار النائم يهزأ بي وبالموت الذي خلت منذ قليل رؤيته في عينيه. أحسست بعالم ينكرني، يتركني، وهو يراني منهزمًا، فاحتقرت ذاتي.
التصقت بالجدار.
حدقت في القضبان الباردة.
أحسست بكوني لا شيء. لا شيء على الإطلاق. حشرة!
وفي المساء، تبادلنا، أنا وعمار، الكلمات التالية:
- أنت خائف، أليس كذلك؟
- لم أعد أفكر فيه.
- كان عليهم أن يخطروك ساعة قبل إعدامك.
كنت بينما أسند ظهري إلى الجدار أستمع إلى عمار. لم أكن أنظر إليه، كنت أحزر حضوره. كان يجلس على طرف سريره. كان يحادثني بصوت مفعم بالود، فأقول لنفسي بأنه يبالغ بعض الشيء من صداقته لي.
أضاف:
- لكنهم، أبناء الكلب، فعلوا ذلك عن عمد!
- ...
- أرادوا أن يجعلوا منك رخوًا أشلّ... قبل أن يستجوبوك للمرة الأخيرة.
- ...
- ليعرفوا مثلاً أين يختبئ الثوار في الجبل.
استدرت نحو عمار، والغضب يملأ قلبي. قلت لنفسي، لهذا السبب بدلوا زنزانتي، وأنا من كنت أعتقد...
- لربما أتيحت لك الفرصة للتحرر.
- أرجو ألا يعيوا كثيرًا من أجل هذا، لقد انتهى الأمر هذه المرة بالنسبة لي.
- هذه المرة؟
- قبل بضعة أشهر، انهرت، لكني لم أجرؤ على بيع رفاق سلاحي، فبعثت بهم إلى درب لم يكن صحيحًا.
رأيت عمارًا يفرك رأسه. كان لدي انطباع مفاجئ بلقائه في مكان آخر غير السجن. نقبت في ذاكرتي. عندما يئست، سألته:
- ألم أرك قبل أن نلتقي هنا؟
دارت عينا عمار في حجاجهما، ضاقتا حتى بانتا كحبتين من اللؤلؤ الأسود. انفتحتا على إثر ذلك، وقذفتا شررًا أسود. كان يقدح زناد فكره ليتذكر بدوره، مقطب الحاجبين:
- منذ صباح البارحة أول وصولك إلى الزنزانة، وأنا أطرح على نفسي السؤال نفسه.
ثم قال لي بجزم:
- أنت لم ترني أبدًا إلا هنا، وأنا لم أرك أبدًا من قبل. لربما حدث وتلاقينا دون أن نلاحظ ذلك.
بعد قليل، قال لي عمار بفيض من العاطفة:
- يسوؤني أن أتعرف عليك الآن، فتفارقني بدءًا من الغد. كم هي قاسية الحياة! نتعارف، فإذا بنا نفترق!
أحسست فجأة بالعزلة الكلية، كنت مقطوعًا عن العالم، كما كنت طوال تلك الشهور الستة الأخيرة، قبل نقلي صباح أمس إلى زنزانة عمار. في تلك اللحظة، اعتقدت بتخفيف العقوبة. لم يكن شيء من هذا. قرضتني العزلة كالدودة، كما كان عهدي قبل الالتحاق برجال الثورة، قبل أن أغدو واحدًا منهم. عدت أفكر في موتي، وأنا أسبر أغوار الليل عبر قضبان كوة الزنزانة. كابدت هجوم الأفكار السيئة، أفكار سوداء، أفكار الخيانة في هجوم على رغبة الإخلاص التي لدي. رحت أفكر في الغد، في اللحظة التي سيكون علينا أن نفترق فيها. قلت لنفسي: هذا الكلب قال ذلك عن عمد، وهذا ما كان يرمي إليه. وسمعتني أقول له:
- ولكني سأترك لك كل شيء من ورائي.
تمدد عمار على سريره، وراح يحدق في السقف. فاجأني أن أكتشف أنه يشاطرني أفكاري عن السجن الكبير الذي كانته الجزائر الكولونيالية عندما قال لي:
- هذا كرم منك! لكن لن يلبث الآخرون أن يأتوا ليأخذوا كل شيء. إنهم ينتظرون في الخارج حيث يمتد السجن الحقيقي ليأخذوا كل شيء، حريتنا السجينة، وحتى هذا المكان اللعين، بعيدًا عن الجحيم الآخر. وكم هم كثيرون الذين ينتظرون في الخارج! كثيرون جدًا. ما عليك سوى أن تشير إليهم. سيهرعون على قوائمهم الأربع ليحتلوا كل الزوايا.
قلت له:
- في الجبل، لم أصادف الناس الذين تتكلم عنهم. كنا متضامنين كلنا، متعاونين ما بيننا. وعندما كان العدو يسقط علينا، كنا نطلق عيارات النار من بنادقنا في الوقت ذاته كلنا، بالعزيمة ذاتها. كانت طريقتنا في المقاومة.
تفرس فيّ طويلاً، لربما جعلته كلماتي يحلم.
أضفت:
- لا أحد غيري وغيرك في هذه الزنزانة حتى اللحظة. إنه عالمنا. أنت "الآخرون" بالنسبة لي. ولأجل هذا سأترك لك كل شيء.
- لكن، مع ذلك...
- أنصحك أن تقوم بفعل ما، أن تحطم هذه القضبان مثلاً، أن تدفع بقوة ساعديك هذه الجدران لتوسع فضاءك الحيوي، أن تقوم، أنت، بما لم أكن عليه قادرًا، أن تتحرر بالفعل.
- وأنت، ماذا تنتظر كي تفعل شيئًا؟ تستطيع أن تجد الوسيلة لتأجيل التنفيذ، دربًا غير صحيح آخر أو... صحيح.
رحت أجتر مرارتي:
- لن أقول أبدًا أين يختبئ الثوار في الجبل.
- أنت متأكد؟
- أنا مثالي بعض الشيء، لكن سيُختصر كل شيء في فعل واحد، عندما سيأخذونني. ألا تراني على وشك الذهاب؟ ولماذا تعتقد بأنني على وشك الذهاب؟ سيكون موتي فعلي الأخير، حتى ولو كان مفروضًا عليّ.
عتم الغيم في أعماق عينيه:
- لماذا لا تأخذني معك؟ أنا لا أستطيع أن أخون، أنا أيضًا، لا أريد أن أكون واحدًا من الخونة، ولا من الطغاة. دعني أموت معك. أنا مستعد لأجل هذا أن أقتلك وأن أقتل نفسي. دعني أفلت من المصير الذي قرروه لي قبل الأوان، ككل ناس هذا البلد البؤساء. أريد الموت لأجلك، وليس لأجل الجزائر.
كانت كلماته تؤلمني. أحسست بنفسي أُفنى، وكأن جنزير دبابة كان قد سحقني. فكرت في تفجير المطعم العسكري الذي أجريته: أشلاء تطايرت في الهواء. كانت تحوم كما لو كانت أجنحة لها. دماء! وكأن الزئبق اندفق في الليل، فإذا بالعالم جراح مفتوحة لا تندمل. كنت قد نفذت مهمتي حتى ختامها، لكنهم قبضوا عليّ بعد أن فر رفيقاي. تسلط عليّ مشهد مضنٍ منذ اللحظة التي أسرني فيها الجنود: المطعم العسكري وقد تحول إلى كوة هائلة تنفث الدخان وتلفظ الدم.
قلت لعمار:
- لن تنجح في الهرب من المصير المرصود لك، لك أنت، أنت البائس، إلا إذا صعدت إلى الجبل. ولكن حذار من المشاهد الرهيبة التي ستتسلط عليك.
ابتسم بغرابة، وسألني:
- كم واحدًا قتلت من الأعداء؟
لم ترق لي نبرته المرحة:
- لربما عشرين. عشرة في حادثة المطعم وحدها. وأنا حديث عهد في الجبهة، لا أطلق جيدًا.
- هذا كما هو عليه في العيد السوقيّ.
لم أفهم، فأوضح عمار:
- هذا كما هو عليه في العيد السوقيّ. تصوّب، فتطلق! حتى ولو لم تكن تعرف كيف تطلق، هناك حظ من الحظوظ التي تجعلك تسقط واحدًا، اثنين، ربما خمسة، عشرة، أو لا أحد.
نهض عمار بهيئة متجهمة خلعت عن وجهه كل تعبير للمرح، واتجه نحوي. كان له شكل عملاق أكثر من اللازم، ومع ذلك، كنت لا أهابه. ومع ذلك، أخذ قلبي بالدق العنيف عندما مد لي يده، وقال:
- تعال!
لم أذعن لمطلبه. بقيت يده المشعرة تمتد نحوي. كان لها شكل اليد الخارجة من الغاب... رأيت عمار يتراقص كالشمعة. خيبته للمرة الأولى. بدت لي فكرة الموت مستحيلة، لا معقولة. تجلى فعلي الأخير شعرًا خالصًا.
تفرست مليًا في اليد الحيوانية. تذكرت أنني صوبت بندقيتي نحو يد مشابهة في الجبل، فاخترقتها الرصاصة من طرف إلى طرف، وأخذت اليد تختلج اختلاجًا متواصلاً.
سألني عمار:
- ولكن لماذا تتصبب عرقًا هكذا؟ أيها المأفون! أردت فقط أن أساعدك.
كنت أتصبب عرقًا غزيرًا، ولكن لم يكن ذلك بسبب الحرارة. كنت أبعد ما يكون عن شخص يشعر بالحرارة. كان جسدي ككتلة من الجليد.
وضع عمار يده على كتفي، فكاد قلبي يتوقف عن الخفق تحت تأثير المفاجأة. وبشيء من الغرابة، زلقت يده من كتفي إلى عمودي الفقاري. كان يجسني. وعلى عكس ما كنت أتوقع، أحسست بضغط أصابعه الطرية، وكلما لمسني أكثر كلما فاقم فيّ أكثر الشعور العميق بكوني في منفى داخل جسدي، بينما كان يردد بصوت يطفح عذوبة:
- لا تخش شيئًا، أيها المأفون! أريد أن أساعدك، أريد فقط أن أساعدك، هذا كل ما هنالك.
أخذني غثيان مفاجئ. كان وحش صغير قد ولد في أحشائي، وها هو يكبر، وكم كان ذلك رهيبًا. ضغطت قبضتي، وبالشراسة الأقصى التي أستطيع عليها، دفعتها في بطنه. انقلب إلى الوراء، وهو يولول صائحًا:
- يا ابن الكلب! يا ابن الكلب!
قفزت واقفًا، مستعدًا، وجهًا لوجه معه، خشية أن ينقض عمار عليّ. لم أنتظر أن يهاجمني، فأتصرف. قبضت على قضبان النافذة الصغيرة. دفعتها. حاولت زحزحتها. كانت تقاوم. ترك الغثيان مكانه للحَنَق، للتمرد على الحصار الذي كنت موضوعه. لكن يقيني الوحيد كان انهزامي. ودومًا لم أصل إلى تفسير علاقاتي بعمار، الأكثر فظاعة منذ عدة لحظات.
كان الليل دومًا، في الخارج. ليل أكثر فأكثر عمقًا.
جعلتني أنات عمار أرتعد فرقًا.
كانت النداءات تتصادى: أيها الليل... أيها الليل... لحظات قاتمة، ضائعة. عمار الذي كان يتلوى، يداه اللتان كانتا تضغطان على بطنه، وأصابعه الضخمة التي كانت تزلق بين ثنايا شحمه. وحينما ضربت رأسي فكرة انقضاضه عليّ، أدركت عدم جدوى أية مقاومة من طرفي، ولكني مع ذلك قررت ألا أستسلم.
لم أعد أتصبب عرقًا، فجاء دور أسناني التي أخذت بالاصطكاك، بالاصطكاك أقوى فأقوى. قُشعريرة. صهرت الحمى عظامي. لم أعد أسمع سوى الضجة المخنوقة لنبضي. كنت أحتاج إلى عملية فصد تخفف من الضغط عليّ، ترد عليّ ثقتي بنفسي. ولما أخذ عمار يعود إلى نفسه، بادرت إلى توجيه القول إليه، وأنا أمنع اختلاجات شفتيّ، عازمًا على استدراك تنفيذ خططه ضدي، شانًا حربًا باردة ما بيننا:
- بينما كنت نائمًا، أردت قتلك.
لم يقلقه هذا الاعتراف أكثر مما لو كنت قد دغدغته، فانفجر ضاحكًا:
- آه! أية دعابة.
أيضحك مني أم على مصير يعانيه دون أن يستطيع التخلص منه بسهولة؟ كان باستطاعة عمار أن يطرد صورة الموت التي نراها من وقت إلى آخر على معالمه، لتحل محلها صورة إنسان معذب، مسلوب الحرية، صورتان يُغْلَقُ عليهما معًا خلف القضبان.
تابع:
- لكنك لم تفعل، ولن تفعل. أحدنا لن يستغني عن الآخر.
أجبته بقسوة:
- أنا لا أحتاج إليك، أنا لا أحتاج إلى أحد!
كنت أكذب. أحسست بكلماتي ترتجف، وبأسناني تصطك. كانت الحمى تتدفق في جسدي، وتُمَيِّعُهُ. ولضعف رأسي الشديد لم يقدر على الاستقامة، فضرب بالجدار. وحالما تحرك عمار مقتربًا مني، قبضت على القضيب العمودي للسرير، لكن ما أوقفني السكينة المطلقة لسماته، ذلك العمق الصافي لبحر هادئ وساكن. رأيت على شفتيه خطوطًا صقيلة، طويلة، طويلة. غدت جبهته ملساء كلها، بليلة كلها، دون فظاظة.
انحنى عمار عليّ، وسمعت كلماته تداعب لي حلقي:
- اسمع، أعطني هذا. كل ما أريد، أن أساعدك. لا تخش شيئًا. تبدو كالقط الذي تلقى دلوًا من الماء المغلي. لماذا؟
بقيت بيني وبين عمار خطوة واحدة يقطعها كي يشرح لي ما كان يخبئه في صدره. ولما كنت لا أستطيع التفكير في الموت دومًا، لم أعد أفكر في شيء، أو بالأحرى بلى، حاولت أن أحزر ما كان خلف عينيه. اكتشفت ذلك فقط في تلك اللحظة. نظيري. أخي. في التعاسة والبؤس. وكم كنت أشفق على نفسي! ومع ذلك، كنت أشعر بضيق لا يصدق كلما تنفس بجهد في وجهي.
- لماذا؟ أيها المأفون! لماذا كل هذا الخوف؟ أية ذبابة لدغتك؟ ترتعش كما لو كنت مصابًا بالمالاريا. لا تخش شيئًا. هل تعرف لماذا أنا هنا؟
زالت نوبة حُمّاي. توقفت قشعريرتي الحادة. انطبقت أسناني من جديد على بعضها. والوحش الجميل كان هنا، عمار كان هنا، وكان يفترسني ببطء. لم أفهم كيف سحب القضيب من يديّ، لم ألتقط سوى هذه الكلمات:
- هل تعرف لماذا، أيها الطفل الصغير؟
مددني على السرير، ولفني بالغطاء.
- هل تعرف لماذا؟ لأنني إنسان بسيط، لا أحمل في قلبي الأذى للآخرين. لكني سرقت رغيفًا. ضرورتي القصوى. كان من الواجب عليّ أن أسرقه. لربما تساءلت أي نوع هو هذا الواجب. أكرر لك: لقد كان واجبًا. كنت مضطرًا إلى سرقته. كنت خائفًا جدًا من الموت من ذلك الجوع الذي أوقعني في وضع ميئوس منه. كانت وسيلتي الوحيدة للبقاء. أترى؟ لهذا لم أستطع مقاومته، مقاومة سرقتي. وحقًا سرقت. وفي اللحظة التي أنهيت فيها التهامي للرغيف، ساقوني إلى هنا منذ ثلاثة شهور.
رأيته يزم حاجبيه، ويحك شعر صدره متأملاً:
- سجني، منفاي!
تابع التأمل:
- كان عليّ أن أختار بين أن أقدم على سرقتي أو أن أموت من الجوع. أقسم لك، أنا لا أحمل في قلبي الأذى.
أخذ مجلسًا قربي:
- هل فهمت، أيها الرأس الصغير؟
لم أجبه. كانت لي نظرة فارغة، كنت أضيع في محيط الرمال الصامتة الذي يغطي جبهته. ثم تحولت الرمال فجأة إلى سحاب من الفراش التي لا تلبث أجنحتها أن تتكسر آلافًا من القطع المتلألئة.
- إنه القدر الذي صنعته بيديّ هاتين، أيها الرأس الصغير، قدر سارق الحياة. كنت في الطريق إلى الجبل، أقسم لك. ولكن كان عليّ أن أعيش لأقاتل، فلم يتركوا لي الفرصة.
راح يهمهم، ويقول شيئًا عن ثقة مضت، عن فرصة ضاعت، فوتوها عليه.
- لو صعدت إلى الجبل، لقمت بكل ما كان يمكنني القيام به، بشيء مثلك، تفجير مطعم عسكري على سبيل المثال، بشيء في سبيل القضية.
توقف، ثم:
- لكنهم يزجون بك في السجن مقابل لا شيء، فكيف إذا ما أقدم أحدهم على سرقة حياته، سيكون الأمر أسوأ! أرأيت كم كانت حياتي تافهة في نظرهم؟ مقابل رغيف.
أعاد "مقابل رغيف" قبل أن يضيف:
- بينما أنت، هم يخشونك، لهذا حكموا عليك بالموت، وإلا تراهم لماذا حكموا عليك بالموت؟
تفرس فيّ مليًا، ودموعه تكاد تنبجس من عينيه، ولاحظت اختلاج هدبيه:
- أنا معجب بك، فأنت عظيم. كان لك هدف، وكانت لك قضيتك، قضيتك التي قاتلت من أجلها.
ألقى عليّ نظرة إعجاب، ثم أشاح بوجهه عني، وهمهم:
- لكنك تتخلى عني، أيها المأفون! تتخلى عني كالآخرين، تمامًا كالآخرين. خسارة أنك لم تقتلني قبل ذهابك، لكنا التقينا هناك، أنا وأنت، تحت سماء لنا، كل فقراء العالم. العالم الآخر يرعبنا، وفي الوقت ذاته من الجميل أن نفكر أننا سنجد فيه كائنات غالية على قلوبنا.
صمت قليلاً، ثم عاد إلى القول:
- ما اسمك؟ هم لا يبالون بمعرفته، لأنهم يعرفون أنهم سيقولون لك وداعًا عما قريب. سيسمونك "المقاتل"، فقط، لكن هذا لا يكفي، هذا لا يكفي بالنسبة لي.
فتحت فمي لأقول له اسمي، لكنه أقفله بيده، وسمعته يقول:
- سأسميك "عمار"، مثلي، فأنا لو تعلم كم أحب اسمي، أحبه كثيرًا.
لم أدرك معنى كلماته، ومع ذلك، أحسست بالحياة تنبض في عروقي. بحثت عن اكتشاف نفسي من جديد، وفي الوقت ذاته استحوذ صرصار كبير على كل حواسي. لم يكن عمار يئن، لم يكن ينوح، كان يبدو كالقديس. وكنت أنا في محرابه، أشم تقواه، أحس بها في أبعد نقطة غائرة في أعماقي. لم أعد أصطدم بجدار الوجود، وبقيت لدي فقط هذه الفكرة، فكرته التي كانت تدور حول نفسها: فكرة أنه أصبحني أو العكس. وفي كلتا الحالتين، كنت أخضع لشحوب الموتى.
مسح عمار بكفه جبهتي، ثم قال لي بطيبة:
- هل ما زلت تخشاني الآن؟
اضطرب دون أن ينتظر مني جوابًا. نهض، وذهب ليستلقي على سريره. أخذ في الكلام كمن لا يتكلم إلا لنفسه:
- هناك الذين يخيفون، والذين لا يخيفون ذبابة. هكذا صنع البشر. ولهذا الحياة كذبة، لأنهم سواء أخافوا أم لم يخيفوا، يبقى البشر بشرًا، إنهم بشر قبل أي شيء.
سحب الغطاء على صدره، وفتح عينيه على السقف، وسألني كما لو كان طفل يسألني:
- حدثني قليلاً، حدثني عما يفعل المقاتلون هناك، قل لي ما يجري الآن في الجبل. أحداث كثيرة أردت أن أعرفها، أشياء كثيرة أردت أن أتعلمها، لكن الفرصة لم تسنح، بينما أنت، أنت تعلمت أشياء كثيرة، وثقفتك الأحداث كثيرًا.
انتزعني عمار من محنتي. بطلبه هذا، سمح لي بالهرب الفكري، بالتعلق الحياتي، بما كان حياتي. رحت أحكي عني، أحكي له عن بعض أشياء رأيتها، بعض أحداث عشتها، بعض أفعال حققتها. لأن ما بين حتمية الموت والضرورة التاريخية هناك قدري الخاص بي، القدر الذي أنجزه كل يوم. قلت له كيف يضحي الشرفاء بكل شيء في سبيل الوطن، بصدق، وفرح. قلت له على الإنسان الجدير بكونه إنسانًا أن يرفض أن يكون عبدًا، أن يقبل أن يصب دمه لتنبت غرائس الأمل، لتتفتح حريته ورودًا. قلت له حرية الفرد هي حرية الوطن، وحرية الوطن هي استعارة حرية كل فرد، حرية أبيه، حرية أمه. قلت له الإنسان الحر هو من أخذ طريق الجبل بمحض إرادته، إلى جانب رجال آخرين يغدون "إخوته"، وهو من رأى الأعداء، وهم يفقأون لأمه العينين، يذبحون لأبيه العنق، يقطعون لأخيه الشفتين، ويلوثون لأخته الصغرى الشرف، ولا يلقي السلاح، يقاتل، والسلاح بيده، كما قاتل في أول يوم. قلت له جرح الوطن الغالي لا بد أن يلتئم بفضل كل الجراح، جراح كل المقاتلين، لا بد أن يلتئم بفضل كل الجراح، جراح كل الثوريين. لأن الثورة تأتي بالنصر، لأن رايات الدم التي تخفق في عروقنا تلهم كل مقاتل. قلت له أيضًا يقاتل كل الرفاق لأنهم يؤمنون بعدالة قضيتنا، ولأن في رأيهم الإنسان بلا واجب ليس إنسانًا، وواجب الإنسان بمثابة القلب، بمثابة الجوانح. وإلا كيف تريدنا أن نحيا، أن تختلج قلوبنا، أن يسري في عروقنا الدم، أن تذهب كل جهودنا نحو الهدف الواحد، أن نتحقق نحن، ونحقق أحلامنا، كل تلك الأحلام التي لنا، في أجسادنا، أن نحققها؟ حكيت له كيف فجرت المطعم العسكري، كيف حولته إلى خرم ضخم ينهمر منه ضباب الدخان وأمواج الدم. كانت تجربتي، تجربة رهيبة، لكنها تبقي تجربتي. كنت أرى أي أثر تحدثه حكايتي على عمار، كنت أراه، وهو يتحول إلى طفل تارة، بريء بشراسة، وإلى ضحية تارة، ذبيحة تتلوى على نفسها. في عينيه، نداء الأمل، بلا دمع. وسمعته يهمهم شيئًا، يتنفس بقوة أقوى فأقوى. بدا لي أنني أسمع الأمواج الهائجة، الأمواج الآتية لتنسحق على الصخور. وفي كل الأحوال، كم كان جميلاً، كم كان رائعًا وقادرًا، كم كان شقيًا، كم كان تقيًا! راقبت وجهه، وهو يتشنج تارة، ويبتسم تارة. وفي الأخير فتح فمه، وهمهم:
- أعرف نفسي فيما قلت، أراني فيك. أريد ما تريد، ولكني لست ملكًا لنفسي. أنت سيد قدرك، أنت سيد نفسك، بكل ما في هذا من معنى، سيد نفسك. أرى كيف أناك تلتصق بك... حتى في الموت، تلتصق بك، حتى في الموت، حتى في الموت...
ثم أقفل عمار عينيه. بدا أنه يسقط في حلم لا ينتهي. تراخى الوقت، تكاسل، تثاءب، تذاهب، حتى بدايات الفجر المدمى. عند ذلك، عرفت، وكان ما عرفت الأسوأ من كل شيء، أنني سأموت متروكًا، مهجورًا، منسيًا، حتى من طرف أصدقائي ورفاقي، أفلتتني الثورة، أفلتتني الحياة. آلمني ذلك ألمًا رهيبًا، فهربت من السماء المدماة، من العالم الكنود، مخترقًا ما كنت أعتقد أنه حلم عمار. كنت هناك، تحت السماء الليلكية، أتلهى كالظبي العاشق. ولم أخرج من سباتي السماويّ، من هذا الحلم الواعي واللذيد، إلا في اللحظة التي سمعت فيها خطوات في الممر الداكن. كانت اللحظة قد أزفت، وكان عليّ أن أنهض كي أستعد، ثم رأيت أمامي ضابط السجن. كان يبدو عليه أنه قد أمضى وقتًا ليس بالقصير، وهو واقف، هناك، في الزنزانة، دون أن أشعر بذلك. دخل حارسان، فتوجه الضابط إليّ، وهو يعوي:
- تركتك بانتظاري طويلاً كما أفترض.
كانت لي نظرة طفل سحبوه من حلمه، من فردوسه. كان الطفل على أرجوحة، بين الورود والزنابق، وكانت ملائكة صغار تدفعه، تداعبه، تروي له حكايات عن الكائنات التي تسكن الديار هنا-تحت. وعلى حين غرة، قفز الطفل من أرجوحته، وفي نيته أن يطارد فراشة، وها هو يقف بكل عليائه في زنزانة ضيقة الجدران، جليدية.
أعاد ضابط السجن:
- سنعفو عنك إذا ما قلت لنا أين يختبئ الثوار هذه المرة.
نظرت بصمت إلى خيوط الشفق المدماة التي تلطخني عبر قضبان النافذة الصغيرة، ولم ينتظر الضابط أكثر من دقيقة واحدة. رمى الحارسين ببضع كلمات ملأى بالسُّعر، ثم انفتل خارجًا.
قبل أن يقودني الحارسان إلى مكان الإعدام، اقتربت من عمار كي أقول له وداعًا. وعندما انحنيت فوقه، وجدته ميتًا.


الجزائر 1996
أنا لا أزال هنا، أمام السجن. ليست لدي أقل قوة على مغادرة المكان، بعد كل هذه الذكريات التي عبرت روحي، وكأنني أفرغت نفسي من نفسي، من ماضيّ، من كل وجودي. انفتح الباب، وأُطلق سراح أحد السجناء. سجين يخرج من السجن الصغير ليذهب إلى السجن الكبير الذي بقيته الجزائر، إلى كولونيالية الشمس، إلى سلطة القمر. كأنه عمار. له العمر ذاته قبل أربعين سنة. تبعته، ناديته:
- عمار!
استدار الرجل:
- نعم!















































الإرجاء

آه من عادة الإرجاء الدائمة هذه!
بروست

كنت أذهب تحت السماء، يا ملهمتي! وكنت الوفي لك.
رامبو

هيغل على حق أن يقول إن الفكر والكون في تغيير دائم، ولكنه يخطئ حينما يؤكد أن التغييرات في الأفكار هي التي تحدد التغييرات في الأشياء. إنها، على العكس، الأشياء هي التي تعطينا الأفكار، وتتغير الأفكار لأن الأشياء تتغير.
ماركس وإنغلز



الجزائر 1962
منتصف الليل. أربع وعشرون دقة. عقرب الساعة الكبير يتقدم: منتصف الليل وثلاث دقائق. السماء ليلكية. معسكر جزائري يقوم على المرتفعات، وآخر، فرنسي، في السهل. الريح تحرك أغصان شجرة عارية. في وسط السفح، تعصف بخيمة تريد اقتلاعها. الأوتاد تقاوم بشدة. واوي يعوي مرتين. ثلاث طلقات تدوي.
في لباس الفهد الإفريقي، الوفي يفكر واقفًا في الخيمة، قرب فانوس. الملهمة تنبثق من الهالة، جسدها العاري يلفه ساري أزرق. تطفئ الفانوس. المدفأة ترسل لهبها من بابها الصغير المفتوح. الملهمة تذهب لتنظر في عيني الوفيّ المومضتين. للوفيّ نظرة شرسة.
الوفيّ يسأل الملهمة بصوت خافت:
- لماذا أطفأت الضوء؟
تجيب هامسة:
- إنهم على المرتفعات.
يصحهها:
- إنهم في السهل.
الملهمة تعيد:
- إنهم على المرتفعات.
- وماذا يعني ذلك؟
- إنهم على المرتفعات.
- الخيمة مغلقة تمام الإغلاق. لا ضوء يمكنه الهرب منها.
- صه! إنهم على المرتفعات.
- المرتفعات بعيدة.
- من الواجب الحذر، كل الحذر.
- ولكني... لا أراك، يا ملهمتي.
- لتقف الأفكار الاعتباطية!
- ولكنك لم تعودي تلهمينني.
- لتقف الأفكار الزائدة!
- لم أعد أستطيع رؤيتك.
- أما أنا، فأراك كما كنت أراك. لك عينان تومضان وميضًا شرسًا كالواوي الضائع في الظلام.
- أنت لن تفلتي مني.
- ستجد أفكارك بعيدًا عني.
- ستظلين لي دومًا.
- ستظل دومًا مستقلاً عني.
- سأظل دومًا متوقفًا عليك، ولكني سأتظاهر بفعل ما أشاء بحريتي، لأتغلب على كل صعوبة تعيق فعلي، تمامًا كمن يصحو بعد نوم طويل، ولما لا يجد سوى الحطام من حوله، يجمع ذاته، يجمع حريته، ويقرر إعادة خلق العالم. إلا أن في هذه اللحظات الكارثية، حريته ليست حقيقية. عندئذ، يفكر كما لو كان حرًا، ليجيد العمل المفروض عليه، ويستعيد بعد ذلك حريته، حريته الحقيقية.
- أن نفكر؟ ليس الشيء نفسه عندما لا نرى، عندما لا يكون عالم الحرية حرًا.
- بلى، الشيء نفسه، بالقياس إلى أن التغييرات في الأفكار هي التي تغير العالم.
- التغييرات في الأفكار هي التي تغير العالم أم التغييرات في العالم هي التي تغير الأفكار؟
- التغييرات في الأفكار.
- التغييرات في الأفكار، هذا، سنرى.
لحظة صمت. الملهمة تحس بجسد الوفيّ يلتصق بها. تسأل:
- أنت خائف؟
- لا، لماذا؟
- أنت ترتعش.
- أنت التي ترتعشين. أشعلي قليلاً.
- لا شيء يُرى، ما عدا الخوف الذي يلفك.
- الخوف؟
- لا ترتعش، أنا هنا.
- أقول لك أنت التي ترتعشين.
ينفخ، ويبدأ بالتصبب. تقول الملهمة:
- منذ قليل، أطلقوا ثلاث مرات.
- لم أسمع شيئًا. كنت ضائعًا في أفكاري. أنت متأكدة؟
- أنا متأكدة.
- هل هم الرفاق؟ الرصاصات الثلاث التي انطلقت منذ قليل، رصاصات الرفاق؟
- لا أظن.
- ما الذي يجعلك تعرفين؟
- أعرف.
- حقًا؟
- حقًا.
- حقًا، حقًا؟
- حقًا، حقًا.
- كيف تعرفين؟
- لم يكن لا الوقت ولا المكان.
- ربما اكتشفهم أعداؤنا الذين في السهل، وهم في الطريق، قبل الأوان.
- لا أظن.
- لا تظنين؟
- لا أظن.
- ولماذا لا تظنين؟
- لأن الرصاصات أطلقت من المرتفعات، والرفاق كان السهل وجهتهم، وهم لم ينطلقوا إلا منذ قليل.
- صحيح كلامك.
- إذا تم كل شيء على ما يرام، تجدهم يتجهون الآن إلى البئر.
- إذا تم كل شيء على ما يرام!
- إذا لم تحوّل الرصاصات الثلاث التي أطلقت من معسكرنا ثلاثة من رفاقنا إلى ثلاث جثث.
- كل شيء على ما يرام، لا تقلقي. من هم يعارضون خطتي ليسوا سوى قلة قليلة، ورفاقنا هم من القدرة على الدفاع عن أنفسهم. سيفجرون البئر، وينجزون مهمتهم على أكمل وجه: سيموت الجنود الفرنسيون من الظمأ.
الريح تزأر بوحشية. الملهمة تضع حجرًا على طرف الخيمة التي تهتز. الملهمة تقول دون أن تغادر مكانها:
- في الخارج، السماء ليلكية.
- هل ترين جيدًا حتى في الظلام؟
- نعم، أرى جيدًا.
- لماذا ترين جيدًا حتى في الظلام؟
- لأنني أعرف أنه ليس وقت الليلك، ومع ذلك، السماء ليلكية أقرب إلى زهرية.
- كيف تعرفين؟
- تسلل ضوء بنفسجي من هنا.
- لم ألاحظ شيئًا، وأنا دومًا لا أراك.
- بانتظار أن ترى من جديد وجيدًا كما يجب، يكفي أن أراك، أنا، ملهمتك، أن أراقبك، أن أكون هنا عند فكرتك القادمة.
- هذا غريب!
- ماذا؟
- أن تكوني الوحيدة التي ترى، التي تراني، في اللحظة التي لا أرغب فيها في التفكير.
- لا شيء غريب في هذا. أُظهر نفسي بدلاً من أن أخفيها، بانتظار فكرة جديدة، فكرة متماسكة، ملائمة، راسخة في الواقع. آه! عندما أفكر أنني خارج عقلك، وأنني أحس بكل ما هو مفروض أنك تحس به. هل تسمع زئير الريح؟
لأول مرة منذ بداية حديثهم، يتكلمان بصوت عادي. الوفيّ يصيح وكله دهشة:
- الريح تواصل الزئير؟
- تزأر... تزأر...
- عليّ الاعتراف بأنني لا أسمعه، أنا لا أسمع زئير الريح.
- إذن، أن تغرق في الفكر أو لا تغرق، تداوم على عدم سماع ما يجري في الخارج.
- لا، لا طلقات نارية، ولا زئير الريح، ولا شيء. لا أسمع سوى صوتك.
- تداوم على عدم رؤية ما يجري في الداخل.
- لا، لا ساريك الأزرق، ولا جسدك العاري، ولا شيء. لا أرى سوى صورتك السوداء.
- سأناديك إذن، سأرفعك من الهاوية.
تبتعد عنه، لكنه يأخذ بالصراخ:
- يا ملهمة! عودي إليّ! انبثقي كالنار، واحرقيني، احرقي الكون! لا تكوني عديمة الجدوى.
تعود بسرعة لتأخذه بين ذراعيها. الوفيّ يوضح:
- أنا إلى جانبك، صاحٍ أتم الصحو، ومع ذلك، يبدو لي أن كل أحاسيسي غافية.
- حتى هذه اللحظة.
- دعيني أنظر إلى السماء.
تذهب معه لتفتح الخيمة، يخرج رأسه. فوق رأسه السماء ترسل غيمًا قاتمًا، ليلكًا أسود. يلاحظ، وهو يغلق الخيمة، وهو يعتمد على الملهمة:
- أنا لا أرى شيئًا لا خارج الخيمة ولا داخلها، أنا لا أراك كما كنت لا أراك. بالنسبة لي، كل شيء يغرق في الظلام. ابتعدي عني!
الملهمة تقف أمامه، وتسمع صحن أسنانه. تسأله:
- ما لك؟
صمت. الملهمة تعود إلى القول:
- عندما يغدو العالم نارًا، سيكون كل حاضري مستقبلك، أنت، يا إله الحرب والحب.
- إله الحب، أنا! قلت لي إن نظرتي لهي من الرداءة كنظرة واوي ضائع.
- أيًا كان مظهرك، ستبقي على حضورك، ستبقى وفيي! ولكن وفيًا هو حقًا وفيّ.
- لأنني لست وفيًا؟
- حتى هذه اللحظة.
- ما يهمني في هذه اللحظة أن أراك لأراني. أحقًا أن نظراتي بشراسة نظرات الواوي الضائع؟
- حقًا.
- سأنقذف إذن في نظرتك. لكن هذا ليس كافيًا. اشتعلي!
السماء ترسل برقها ورعدها، ليلك النار.
- اشتعلي!
تعانقه.
- احترقي!
برق على برق، ورعد على رعد.
- احرقيني! تصحو أحاسيسي في محيط من الظلام...
برق ورعد وريح تزأر. يضيف الوفيّ:
- وللمرة الأولى أسمع زئير الريح ورعد البرق. أدرك كل ما يجري في الخارج، في عالم أسود.
- في عالم أسود، أسود كله؟
- نعم، عالم كله أسود.
- عدت إلى سماع كل شيء، لكنك لم تزل ترى أسود كل شيء؟
- نعم، أرى كل شيء أسود.
- عميق هو إذن الظلام؟
- نعم، هو ظلام عميق.
- بالنسبة لك، الظلام عميق دومًا، في اللحظة التي تدرك فيها كل شيء في الخارج. إذن لا فائدة من ذلك.
- لا أهمية لما أرى بالنسبة لما أدرك.
- لا أهمية، حقًا؟
- نعم، لا أهمية، حقًا.
- حقًا، حقًا؟
- حقًا، حقًا.
- حقًا يخيم الليل، ولكن أي ليل؟
- أي نهار؟
- والحق متى يبزغ الفجر؟
- لن يغير ذلك من الأمر شيئًا.
- بلى.
- لا أظن، لأن النهار سيتبعه الظلام.
- وأمرنا؟ حالتنا؟ ستتغير، حالتنا.
- لا أظن، لأن كل شيء يتوقف على أفكارنا، أفكار مجردة، في الظروف الحاضرة، من كل سلطة على الأشياء.
- مجردة من كل سلطة على الأشياء، حقًا؟
- نعم، مجردة من كل شيء على الأشياء، حقًا.
- حقًا، حقًا؟
- حقًا، حقًا.
- وأنا أقول لك إن كل شيء يتوقف على الحالة التي نوجد فيها، على حالة الأشياء التي تحيط بنا، كل شيء يتوقف على الضوء، على الظلام، على حدة الواحد والآخر. في البداية نتكيف، وبعد ذلك نفكر بشكل أفضل.
- الضوء والظلام هما شيء واحد.
- الضوء والظلام ليسا شيئًا واحدًا.
بما أن الوفيّ لم يعد يريد النقاش، يجلس، ويحتفظ بالصمت. الصمت يجتاح كل شيء: لم يعد هناك لا رعد يرعد ولا ريح تزأر. بعد قليل، تعود الملهمة إلى القول:
- الضوء والظلام ليسا شيئًا واحدًا. يمكن للاثنان أن يجتاحا كل شيء، لكن الضوء يبقى الضوء، والظلام الظلام. مع ذلك، هما يُدْرَكان بشكل مختلف، إنهما أصل فكرتين مختلفتين، من وراء سلوكين متميزين. إنهما حصيلة الحياة والموت، موتنا.
الوفيّ يبقى صامتًا. تعيد الملهمة:
- موتنا.
الوفيّ يبقى صامتًا. الملهمة تجلس إلى جانبه. تلح:
- موتنا.
يقول في الأخير:
- لا تقلقي نفسك. المهم هو أن تتحقق فكرتي عن مولد الفجر أولاً، وسنرى بعد ذلك ما يمكننا فعله في وجه الحياة، في وجه الموت، في وجه موتنا. بالمقابل، لحلكة الظلام، يمكن لليل أن يدوم، وللفجر ألا يجيء أبدًا.
الريح تهب من جديد، دعام الخيمة يئن. يقترب منها، ويلتصق بجسدها. تحس بلحمه ينفتح كشفة. يهمس الوفيّ في أذن الملهمة:
- ساعة العملية تقترب. هل هو الوقت؟ للتنبؤ...
الملهمة تقاطعه:
- لقول، يجب أن تقول "لقول".
- للتنبؤ بالأحداث...
- لقول الأحداث. دعني أقول لك هذه الأحداث على إيقاع الوقت، كما أفترض أنها ستقع.
ترفع عينيها إلى الساعة، وتنظر إلى الوقت، وتعلن:
- الساعة الواحدة إلا دقيقة واحدة.
- تبقى دقيقة واحدة.
- وسيحصل انفجار.
- وستُهدم البئر.
- وستهوي شجرة زيتون.
- وسيحترق حقل زيتون.
- وسيشب حريق هائل.
- وسيشتعل الليل. نار ضخمة ستصل المرتفعات.
- وستتساقط جدران المعسكر الفرنسي.
- وستعتم النار قلوبهم أكثر.
- وعلى الرغم من كل هذه النار، كل هذا الضوء، سيرون الليل أسود، مثلك.
- وسيشعلون الأضواء الكشافة.
- سيشعلون الأضواء الكشافة.
- وبعد ذلك؟
- سيشعلون الأضواء الكشافة.
- لكن وبعد ذلك؟
- سيشعلون الأضواء الكشافة.
- لكن وبعد ذلك، أسألك؟
- لست أدري ماذا سيحصل بعد ذلك. لا أستطيع أن أرى ما سيحصل في ضوء الكشافات. قل لي، أنت، ماذا سيحصل بعد ذلك.
- سيعود الرفاق بعد ذلك.
- على الرغم من ضوء الكشافات؟
- طز في الكشافات!
- طز في الكشافات!
- سيعود الرفاق، وكفى.
- وإذا لم يعودوا؟ إذا أعاقتهم الكشافات عن العودة؟
- طز في الكشافات!
- ألف طز في الكشافات!
- نعم، ألف طز!
شحنة حادة من الطلقات المتتالية، الريح تعود إلى الزئير بأقوى ما يكون. الوفيّ يهتف:
- إنه الوقت.
الملهمة لا تحرك ساكنًا. الوفيّ يعيد مُهَيَّجًا:
- إنه الوقت! إنه الوقت!
الملهمة تحس بلحم الوفيّ يسخن كالجمر. تزلق بين ذراعيه كالأفعى. لا يحتمل بعد الحرارة، فيدفعها عنه. يقول أيضًا:
- إنه الوقت!
الملهمة توبخه:
- اخرس!
- ما لك؟
- تم التخلي عن رفاقنا.
طلقات أخرى تدوي.
- ماذا تقولين؟
- اسمع جيدًا.
- أن أسمع ماذا؟ إنه الوقت.
- إنه الوقت، ولكن ليسوا هم الذين يطلقون.
طلقات النار تدوي في كل مكان.
- ماذا تعنين؟
- يطلقون عليهم النار من كل مكان. لو كانوا هم لسمعنا انفجار البئر.
طلقات النار تتوقف. الريح تهدأ. جسد الوفيّ يتجمد. الوفيّ يهمس:
- أشعر بالبرد.
- اسمح لي أن أدفئك.
- لا! ابتعدي!
- أنت تتألم لأجل رفاقنا! أنا لن أتخلى عنك!
- قلت لك لا!
- أرجوك!
- أنت التي تتألمين، أنت التي تحتاجين إلى عناقي.
- أرجوك!
- اتركيني بسلام!
صمت طويل. الوفيّ يأخذ بالارتعاش. لديه ارتعاشات مهولة، ويَغَصُّ.
- كل منا يتعذب عذابه الخاص به.
- كل منا يتعذب على طريقته، لكننا نشعر بذات المشاعر.
- كل منا يشعر بمشاعره الخاصة به. تعال، لنختلط فيما بيننا. أنت لست قِنّي، أنا لست سيدتك. اقترب! ضمني! قلت لك ضمني!
يضمها قليلاً، ثم قويًا جدًا. تقبله بملاسة، ثم بشراسة، حتى تكاد تخنقه.

منتصف الليل. أربع وعشرون دقة. عقرب الساعة الكبير يتقدم: منتصف الليل وثلاث دقائق. السماء فضية. القمر فانوس ياسمين. المعسكران يغرقان في بحر من الضوء. الأشجار العارية من زجاج. جثث الرفاق المقتولين هنا وهناك. الخيمة منحوتة في الليل. كل شيء مجمد. الملهمة والوفيّ يستيقظان. هما عاريان في سريرهما.
الوفيّ يقول:
- الظلام دومًا ها هنا.
الملهمة تقول:
- كيف استطعنا النوم كل النهار ونصف الليل؟
- وكأنني لم أنم. الظلام بالنسبة لي ها هنا دومًا. حالتي هي نفسها دومًا.
- ليس تمامًا، بما أن رفاقنا اغتيلوا. ومع ذلك، أصدرتَ أمرًا قبل النوم ليفجر رفاق آخرون البئر ولينتبهوا جيدًا على أنفسهم. العيارات النارية الثلاثة التي أطلقت من معسكرنا يمكن أن تكون شيئًا ككلمة سر.
- نعم، يمكن أن تكون.
- العيارات النارية الثلاثة أطلقت من معسكرنا، قبل تنفيذ العملية بكثير.
- ليس هذه المرة.
- ربما للتكتيك. لقد أعاقت تنفيذ العملية في الساعة المحددة.
- لم تعقها، وإنما أجلتها.
- بالطبع، أجلتها، ولكن...
- لن تعيق تنفيذ عملية يتوقف عليها مستقبل الثورة. الآن رفاقنا الآخرون في طريقهم إلى البئر.
- تريد القول إلى مجزرة أخرى.
- مجزرة أم غير مجزرة، أنا عازم على تفجير البئر.
- رغم واقع أن رفاقنا قد اغتيلوا؟
- رغم واقع أن رفاقنا قد اغتيلوا.
- رغم هذا الواقع الجديد؟
- رغم كل شيء. وعملية البئر بالأحرى سهلة.
- خطأ! عملية البئر صعبة، صعبة جدًا!
- أفي ظنك صعبة؟ صعبة جدًا؟
- نعم، صعبة جدًا.
صمت. ثم الوفيّ يسأل:
- لو دككنا البئر، هل تعرفين ماذا سيقع؟ سيموت من الظمأ، الجنود الفرنسيون. كما تعرفين، إنها وسيلة تزويدهم الوحيدة بالماء.
يخرج الوفيّ من السرير، والملهمة أيضًا. يصيح:
- يا للفرح! يا لمتعة النجاح!
يرقص معها كما لو كان يرى، يقهقه.
- نعم، يا لفرح الانتصار! يا للمتعة!
وفجأة:
- لكنّ المتواطئين مع الفرنسيين في معسكرنا يدركون ما سيقع.
- لقد فطنوا إلى ذلك منذ زمن طويل.
- إذن مرة أخرى لن يستطيع رفاقنا تنفيذ مهمتهم.
- أشك في ذلك.
- تشكين في ذلك؟
- أشك في ذلك.
- كنت تشكين أيضًا مع الأوائل، ومع ذلك، كنت ترين.
- هذا صحيح.
- لماذا إذن جازفت بحياتهم؟
- كان علينا، على كل حال، أن نحاول شيئًا. أما عن المجازفة بحياتهم، ظروف كهذه تبدل كل شيء.
- أعرف، لكني أخاف عليهم. أخاف عليهم من أن يمسهم سوء.
- وأنا أيضًا.
- وأنتِ أيضًا.
- أنت لا ترى، ومع ذلك قررت القرار نفسه.
- هذا صحيح.
- لماذا؟
- لأنني لا أرى.
- أنت تعترف.
- ليس تمامًا.
- إذن لماذا؟
- لأنني لا أرى سوى ما أريد أن أرى.
- ستدمرهم. ستدمرنا.
- عليّ أن أحاول شيئًا.
- على الرغم من هذه الحقيقة البالغة: موت رفاقنا خلال المهمة السابقة؟
- على الرغم من كل شيء.
الملهمة تلتف بساريها الأزرق، وتريد فتح الخيمة. الوفيّ يعود إلى السرير بسرعة، ويناديها. ينذرها. يصيح:
- عودي إلى السرير! حذار! لا تفتحي!
الملهمة تجيب:
- ولكني لا أعرض نفسنا لأي خطر، كل شيء منطفئ في الخيمة.
- بما أنني لا أرى دومًا، هذا لا يبدل شيئًا بالنسبة لي، ولكن بالنسبة لك...
- لا تقلق من أجلي، طالما كل شيء منطفئ في الخيمة.
الملهمة تريد الخروج. الوفيّ يقول في ظهرها:
- يريد الرفاق تنفيذ العملية بالقدر الذي أريده.
تتوقف ولا تجيب. يعيد:
- هل تسمعينني؟ يرغب الرفاق في تنفيذ العملية بكل جوارحهم، فلديهم الثقة بثورتنا.
- لديهم الثقة بثورتنا، ثقة عمياء، هكذا. كل شيء يتغير عندما يكون هناك واقع جديد، حتى الثورة.
- لا، ليس كل شيء، ليس قبل أن يتغير فينا. وإذا وجب على التغيير أن يقع، سيقع على كل حال. إذن هذا أمر محتوم، لا يمكن تفاديه.
تسأل الملهمة، وهي تدير ظهرها دومًا:
- ما هو هذا الأمر المحتوم؟
- أن يخاطروا بحياتهم.
- إنه الجنون بعينه.
- على العكس، إنها الحكمة بعينها.
- لست على اتفاق معك.
- هل أنت ملهمة أخلاقية أم إلهة مادية تعارض وفيّها دون توقف؟
تتردد. ثم:
- لست هذه ولا تلك، ولكن الحقيقة كما يجب عليها أن تكون.
يناديها وهي على وشك مغادرة الخيمة:
- هيه! يا ملهمة!
تتوقف دون أن تجيب.
- كم الساعة؟
لا تجيب.
- الساعة الواحدة إلا دقيقة واحدة، أليس كذلك؟
لا تجيب، وتخرج. يخاف، ويشعر بكونه وحيدًا. الحمى تجتاحه من جديد. القشعريرة لا تفارقه. يعرق، وأسنانه تصطك. ثلاثة عيارات نارية يتبعها صمت قصير، ثم عيارات نارية أخرى في رشقات متواترة. يصرخ، ويئن. يغلق أذنيه، ينهض، ويعتمد على دِعام الخيمة، كالمجنون. قنابل تتفجر. يضم الدِّعام بقوة. قنابل أخرى، طلقات أخرى، وأخرى. يلوي الدِّعام، يتخبط، ويعود إلى الصراخ. يواصل الصراخ، النداء، الصراخ...

منتصف الليل. أربع وعشرون دقة. عقرب الساعة الكبير يتقدم: منتصف الليل وثلاث دقائق. السماء كربونية. الغيوم ثقيلة. الأضواء خافتة على المرتفعات وغائبة في السهل. جثث الرفاق الذين وقعوا في كمين تضاعف عددها. يغرقون في بحر من الدم الأسود. على السفح الأعشاب سوداء. الملهمة تقتلع قبضة منها. تنشق الحزن الأسود. تنظر نحو المرتفعات، ثم تدخل الخيمة. تذهب نحو الوفيّ الذي ينطوي على نفسه.
الملهمة تسأل:
- هل أصدرت أوامرك من جديد؟
الوفيّ يجيب وهو ينهض نهوض الرجل الميكانيكي أمام الملهمة:
- نعم، أصدرتها.
- إذن رفاق آخرون هم في الطريق ليدمروا أنفسهم.
- ليدمروا البئر.
- إذن ليس هذا سوى إرجاء بالنسبة لك.
- جبريّ. يجب القول، إرجاء جبريّ. وإرجاء جبري يبقى إرجاء، يبقى طالما لم تنفذ العملية. آه! لو باستطاعتي تفادي أن يكون دائمًا.
- بما أنك لست متأكدًا من شيء، لماذا تخاطر مرة أخرى بحياتهم؟
- يجب ذلك. لن يكون هناك إرجاء هذه المرة. لن يعيقوا رفاقنا من إنجاز العملية هذه المرة. سننجح هذه المرة.
- لا أظن.
- سيكون الأمر حاسمًا هذه المرة. لا تنسي أنها المجموعة الأخيرة، الرفاق الأخيرون الذين بقوا.
- بعدهم، لن يبقى أحد سوانا.
- ماذا يمكننا أن نفعل، أنا وأنت؟ تعرفين جيدًا أنني كالأعمى، وأن الظلام بالنسبة لي حالك دومًا.
- سأقودك على الطريق الذي كان يجب عليك أخذها منذ اغتيال رفاقنا الأوائل.
- على طريق الموت؟
- على طريق الحرية. ولندافع عن أنفسنا، سنحمل سلاحين.
- كيف سأرى هدفي؟
- ستضرب كيفما تشاء، المهم أن تضرب.
- هل سأصيب؟
- على طريق الحرية، سيكون كل إخوتنا الأعداء هناك، سيهاجموننا من كل جانب.
- سنصعد إذن المرتفعات.
- كانت الطريق التي من اللازم أخذها منذ البداية: الإنهاء على الخونة المتواطئين شركاء العدو. كان من اللازم التفكير في هذا. كان من اللازم العمل بهذا الشكل لنحفظنا ونحفظ الثورة. كل شيء يبدأ بهذا التغيير الراديكالي في إستراتيجيتنا وكل الأفكار الجديدة تبنى عليها.
أمام صمته، الملهمة تمد يدها أمام عيني الوفيّ، وتلمس له وجنته. تقرص ذقنه، وتجس شفتيه. يتركها تفعل. تعتقد: هذا لأنه يؤيدها بشكل من الأشكال. تقول له:
- في الوقت الحاضر، هم الأكثر علينا، سيجيئون إلى قتالنا بعدد كبير، وستصيب أول هدف لك. ثم ستشن حربك في السهل، وتصيب هدفك الثاني.
- والبئر؟
- ستبقى البئر على حالها. سنجعل من نبعها حياتنا الأبدية بعد الموت.
- كم أنت متشائمة! لماذا أنت متشائمة إلى هذه الدرجة؟ لكن الرفاق سينجزون مهمتهم هذه المرة.
- لا أظن، ومع ذلك، اعتقدت منذ قليل أنك توافقني.
صمت. ثم الوفيّ يقول:
- أتدرين؟
- ماذا؟
- بدأت أعتاد هذا الظلام من حولي، أعتاد صورتك السوداء.
- ليس من اللازم.
تأخذ وجهه بين يديها، تضعه بين نهديها، وتقود فمه إلى حلمتها، فيمسها بشفتيه المرتعشتين مسًا خفيفًا... عيارات نارية تدوي. تأتي من المرتفعات ومن السهل. تسحبه من ذراعه، وتختبئ معه خلف السرير. تُهاجَم الخيمة في الوقت الذي يُهاجَم فيه الرفاق. كلاهما خائف. الطلقات تصفر في أذنيهما. ينحنيان حتى يلامسا بجبهتهما الأرض. طلقات أخرى تئز. ينامان على بطنهما. طلقات أخرى وأخرى. يصعد أحدهما على الآخر ولا يعودان يشكلان سوى جسد واحد مع الفضاء.
يقبلان بعضهما بقوة بالغة بينما تدوي الطلقات دون توقف. يتدحرجان على الأرض بعد أن توقفا عن تقبيل بعضهما، ولم يعودا يفكران في الخطر المحدق بهما. الطلقات لا تتوقف لحظة واحدة.

منتصف الليل. أربع وعشرون دقة. عقرب الساعة الكبير يتقدم: منتصف الليل وثلاث دقائق. لا سماء، لا معسكر، لا ضوء. لا شيء غير ليل ثقيل. كتل سوداء. من الخارج، الخيمة تشكل لطخة سوداء. الداخل ضاو. الملهمة تحاول رفع الدِّعام المعقوف خوفًا من سقوطه. الوفيّ يرتدي بزة الحرب بحركات عزومة.
الملهمة تقول:
- منتصف الليل وثلاث دقائق.
- أعرف.
- كيف تعرف؟ أنت لا يمكنك رؤية العقرب الكبير، ولا شيء حولك على الرغم من الضوء، في عينيك دومًا هذا الظلام المُعمي.
- أشعر به لدرجة حزره. أمس، معك، كنت المكان. اليوم، معك دومًا، أنا الزمان.
الوفيّ ينتهي من الارتداء. يتنهد:
- إرجاء آخر.
- نعم، إرجاء آخر. يوشك أن يغدو ذلك عادة مهينة.
تتأكد من أن الدعام لن يسقط. تسأل:
- هل تلح من أجل إنجاز العملية؟
- بالطبع ألح. إذا دمرنا البئر، مات الجنود الفرنسيين من الظمأ، وانتصرت الثورة.
- ولكن لا مخرج لذلك.
- تدمير البئر؟
- نعم. فانتازيا المقاوم، أمر شخصي حتى اليأس.
- أنا لا أفهم.
- إذا أردنا تدمير البئر، فمن الواجب أولاً الإنهاء على من يدافعون عنه في المعسكرين، الخونة من عندنا والجنود من عندهم. سبق لنا وتكلمنا في الأمر.
- ولكنه لمن الجنون.
- على العكس، الحكمة بعينها.
- لست متفقًا معك.
- تدمير البئر، لقد حاولنا ذلك عدة مرات، أليس كذلك؟
- نعم.
- وماذا كانت النتيجة؟
- إرجاء جبري في كل مرة.
- ثم، لماذا تدمير البئر؟ سنجعل من نبعه حياتنا الأبدية بعد الموت. هل نسيت؟
- لا، لم أنس.
الملهمة تسحب الوفيّ من ذراعه، وتنذره بدافع هذه الفكرة التي تخفق كالقلب:
- تعال نُصَفِّ هؤلاء المتواطئين والخونة أولاً.
- سيدعمهم الجنود الفرنسيون الواقفون في السهل.
- فلننزل إلى السهل إذن ولنبدأ بأولئك الشياطين من الجنود الفرنسيين.
- سيدعمهم الخونة والمتواطئون.
- أنا، سأُعنى بالخونة، وأنت، بالجنود الفرنسيين.
- إنه الجنون بعينه. سيكونون ألفًا ضد واحد.
- فلنلجأ إلى الحيلة.
- لم تبق حيلة هناك. هم الأكثر حيلة.
- لنتصل بقوة ثالثة.
- ستنبذنا الثورة، وسيكون كل الجبل ضدنا.
- لنخض إذن غمار القتال والذي يجري يجري.
- لن يكون قتالاً وإنما انتحار.
- قتال أم انتحار، أنا أسخر من الأول والثاني. لنهاجم، ولنغسل أرواحنا من العفونة.
- ملهمة ثورية مثلك، أنا لم أر واحدة في حياتي.
- لنخدع تيقظ الجنود الفرنسيين ولنصعد المرتفعات. الليل عميق، والظلام حالك، سيكون كلاهما معنا متواطئًا.
- أنا أرفض. اذهبي وحدك.
- اسمعني!
تأخذه من يديه قبل أن تتابع:
- إنه الحل الوحيد الذي يبقى لنا، الحل الأخير. لنصعد المرتفعات.
- فنخاطر بحياتنا؟
- أغلى لحظات الحياة لا تُنال إلا عند المخاطرة بحياتنا.
- أعرف أن المخاطرة شرط كل نجاح، ولكن...
تأخذه بين ذراعيها:
- ليس هناك من لكن. لنصعد المرتفعات، وإلا تركتك، نعم، تركتك، وإلا تركتك وحدك مقابل الموت! لا تنس أنك أعمى.
- كأعمى.
- أعمى أو كأعمى، الآن ولم تعد ترى، حتى في الضوء، الأمر سواء.
- ليس الأمر سواء ما بقي وقت يسيل.
- بما أنك تقوله، فلنذهب إذن.
تقترب بفمها من فمه قبل أن تضيف:
- لا تكن قاسيًا.
- اذهبي وحدك إذا كنت تصرين على ذلك.
- كنت سأذهب وحدي، لكني لا أستطيع دونك شيئًا. تعلم، في هذه اللحظات الصعبة، أنك قوتي.
- إذن القرار قراري، وعليك الإذعان.
الملهمة تتركه، وتعطيه ظهرها. تتجه إلى الدِّعام، وتعتمد عليه. صمت طويل. تبكي. الوفيّ يأخذها بين ذراعيه، وهو يتلمس طريقه كالأعمى، ويلعق دموعها. يقبلها من عنقها، ويأخذه الانخطاف والذهول. يصيح:
- لنصعد المرتفعات.
تردد:
- يا عزيزي! يا عزيزي!
- وقتي، أيامي، حياتي، لأجلك، ولأجل دمعك سأواجه الخطر، وأستخف بالموت، سأحتقره، لا شيء إلا لأجلك، لأجل دمعك! وبإرادة صماء أعطي فيها نفسي أفضل ما يكون العطاء وأكثر ما يكون العطاء، سأجرؤ على ما لم أعتقد أنه من الممكن لي أن أجرؤ عليه!
- يا عزيزي! يا عزيزي!
تقبله من فمه ثم من عنقه. تفتح قميصه، وتتناول حلمته بين أسنانها. تسقط بشفتيها حتى بطنه، لكنها لا تتمكن من فتح حزامه. يرفعها، ويعانقها. قبل أن يتركا الخيمة، تعطيه سلاحًا، وتأخذ آخر. يحملان عددًا وافرًا من القنابل والمتفجرات.
الملهمة ووفيّها يتركان الخيمة ويقومان بدورة كبيرة على طريق متعرجة قبل أن يطلعا المرتفعات بعناء. بروق ورعود. يضيعان في الظلام ثم يظهران كمن يلقي بهما البرق. عيارات نارية تدوي في ظهريهما وهما على بعد خطوتين من المعسكر الجزائري. تشتعل الأضواء الكشافة على المرتفعات.
الملهمة ووفيّها ينجحان في قذف بعض أصابع ديناميت. ثكنة تدق فيها النار. ثوار يصرخون ويطلقون. الملهمة والوفيّ يصيبان بعضهم، إلا أن الرصاص يمطر عليهما من كل صوب. يقاتلان بشجاعة مُثلى ثم يتركان نفسيهما يغرقان في هاوية، خرم أسود مفعم بالرعد والمطر. يعودان إلى قلب الأرض. الملهمة تتعلق بصخرة. الوفي بغصن. مطر وريح. عاصفة.

منتصف الليل. أربع وعشرون دقة. عقرب الساعة الكبير يتقدم: منتصف الليل وثلاث دقائق. المطر يهطل مدرارًا على المعسكرين. طين ثخين يتشكل. أثار بساطير على الأرض. تذهب حتى الخيمة. في الداخل، جنديان فرنسيان وكذلك ضابط يحمل الفانوس يحيطون بالملهمة الجالسة وراء طاولة تطوى.
الضابط يملي بنبرة تعسفية:
- وقعي!
الملهمة تطلب إلى الضابط الفرنسي:
- كيف تريد أن أوقع على هذه الوثيقة بينما على الوفيّ أن يوقعها؟
- أنت ملهمته. ضعي توقيعك، كما لو كان هو.
- لكني لا أستطيع التوقيع مكانه. أينه؟ هو، يمكنه التوقيع، وعيناه مغمضتان. بينما أنا، معه أو دونه، لم أصنع إلا للإلهام. هذا هو الدور الكبير المحدد لوجودي، وإن كان وهميًا.
- وإن كان حقيقيًا.
- الآن أعترف أن الأمر واحد سواء أكان وهميًا أم حقيقيًا. كان من اللازم أن أُلقى خارج الزمن لأفهم أن الحياة في هذا البلد معاناة تفوق كل خيال.
الضابط الفرنسي يضع قلمًا بين أصابع الملهمة:
- وقعي!
- على ماذا؟
- على هذه الوثيقة، يجيب الضابط الفرنسي ضاربًا على الطاولة.
- أعرف أن على هذه الوثيقة يجب التوقيع. قل لي بالأحرى ما فحوى هذه الوثيقة.
- وقعي أولاً، وسنقول لك فيما بعد.
- هل هذا بشأن البئر؟
الجنديان يريدان ضربها بعقب البندقية، فيوقفهما الضابط بحركة من يده. يصرخ:
- ستوقعين نعم أم لا، يا ماخور!
القلم يهتز بين أصابع الملهمة. تتركه يسقط. تقول بصوت متماسك:
- لن أوقع على هذه الورقة. طالما أن وفيّي لا يعطيني الإذن، لن أوقع.
الضابط الفرنسي يقترب بالفانوس أقرب ما يكون من وجه الملهمة. يهمهم:
- يا له من وجه جميل، وجهك! يا لها من متعة ما بعدها متعة أن يتمرّى المرء في عينيك! من الخسارة أن نحرمهما من الضوء. وقعي أو أترك جندييّ يفقآنهما لك بموسيهما. من اللازم التوقيع بالأحرف الأولى على هذه الوثيقة. لا خيار لك. يجب التوقيع.
الملهمة لم تعد تتردد. تأخذ القلم، وتخربش "الوفيّ". يختطف الضابط الفرنسي الورقة منها، ويصيح:
- الوفيّ!
- هو قائدي، لنقل، كان قائدي. حتى هذه اللحظة لا قائد لي غيره، رغم غيابه. هو أنا وأنا هو. حتى هذه اللحظة.
الجندي الفرنسي الأول يجذبها إليه.
- وأنا، ماذا أكون؟ شفتيك ربما!
يحاول تقبيلها. الجندي الثاني يأخذها بين ذراعيه.
- أنا، أنفك!
يحاول أن يعضه لها.
- هل تشمين ما أشم؟
يصرخ الضابط بجندييه:
- لا تكونا مضحكين!
الجندي لا يترك الملهمة. يحك أنفه بأنفها. يعود إلى السؤال:
- هل تشمين ما أشم؟
- أشم رائحة الحرب التي مع الأسف لا تشمها. رائحة كريهة، أسوأ من كل شيء.
يأخذ يدها، ويجبرها على لمس عضوه.
- وهذا، هل له رائحة الحرب أيضًا؟
تدفعه دفعة قوية، وتذهب للبكاء على كتف الضابط. الضابط يحذره:
- أمنعك من لمسها. هي تحت حمايتي.
الملهمة ترميه بنظرة خائفة. تهمس في أذنه:
- أحبك.
تقبله. يتراجع الجنديان إلى زاوية. تردد:
- أحبك، أحبك، أحبك، أحبك!
يهمهم:
- عيناك رائعتان! كما لو كنت أرى بهما!
- ابتداء من الآن أنت ترى بهما، ولكن كالآخر تفكر فيّ بشكل مختلف.
- لا تقولي لي إنك قد استبدلت وفيّك.
- أنا لا أبدل، أنا أختار.
- أنت اخترتني إذن.
تقبله من عنقه.
- نعم.
الملهمة تقول وتقبله مرة أخرى.
- لماذا؟
- بكل بساطة لأنني أخشاك.
تقبله مرة أخرى وأخرى.
الضابط يصيح وهو يلقي بالوثيقة:
- حبك بالنسبة لي ضماني. إنه أفضل من وثيقة استسلام.
الملهمة تقهقه. الضابط يسأل:
- لماذا تضحكين؟
- إنه ضحك الفرح!
الجندي الأول يتدخل:
- الفرح؟ لم يعد هناك فرح.
الضابط يقهقه بدوره:
- على العكس! هي كل الفرح!
ويقبلها بين نهديها. يقول الجندي الثاني:
- فرحك لا فرحنا.
عيارات نارية. الضابط لم يزل يقهقه. يلقي ساخرًا:
- الآخر، يواصل القتال ليفجر البئر.
الملهمة تقوده إلى السرير. تقول وهي تعانقه:
- البئر الآن هي شغله. تعال!
الجندي الأول يسأل الجندي الثاني:
- ونحن؟
- ونحن ماذا؟
- ماذا سنفعل؟
- ماذا سنفعل ماذا؟
- هو، وجد ملهمته، والآخر، يقاتل من أجل هدف، تدمير البئر.
- أنا، لا هدف لي، ولا ملهمة لي. تركت كل شيء هناك، في باريس.
عيارات نارية مختلطة بحشرجات الحب. الجندي الأول يوضح:
- عندما انخرطت، كان من أجل هذا، من أجل أن أجد شيئًا كهذا، ملهمة، هنا في الجزائر.
الجندي الثاني يصححه:
- تريد القول امرأة.
- شيء كهذا. ولقد قتلت من أجل هذا.
الجندي الثاني ينفجر ضاحكًا. يسأله الآخر:
- لماذا تضحك؟
- لأنك قتلت من أجل هذا. لأنك ذبحت سكان قرية بأكملها وأنت تحلم بفخذين مشرعتين. لأن "شيء كهذا" يشبه تمام الشبه طفلة مغتصبة، امرأة حبلى مبقورة البطن، امرأة تناولها من كل طرف هؤلاء الفيلقيون الشجعان الذين أنت واحد منهم تحت نظر زوجها الهالك.
الجندي الأول يأخذ الآخر من خناقه، ويشتم:
- أيها القذر!
- هيه! ماذا بك؟
- أيها القذر! أيها القذر!
ويضربه:
- لا تهزأ بي!
- أردت فقط أن أقول لك ما أفكر فيه، ما يشبه هذا "الشيء كهذا" الذي من أجله انخرطت في هذه الحرب القذرة.
- لا، أنت تكذب.
- إنها الحقيقة الخالصة.
الملهمة تبعد ما بينهما. تنظف دمهما، وتضع قبلة على خد كل واحد. الضابط يناديها. يقول لها:
- اتركيهما يتعاركان. الجندي صُنع لهذا.
لم تسمع له، فيطلق الرصاص في الهواء، ويصرخ قبل أن يخلّص الجنديين الملهمة:
- أنا وفيّك الأوحد!
الجندي الثاني يقول مشيرًا بإصبعه إلى الضابط:
- انخرطت من أجله. قتلت من أجله، لا شيء آخر.
الجندي الأول يقول:
- لا، أنت تكذب.
- إنها الحقيقة الخالصة.
- أنت تكذب، وأنا أيضًا أكذب، وكلنا. وإلا كيف باستطاعتنا أن نحتمل هذه الحرب؟
- حرب فظيعة كهذه.
- كما تقول، حرب فظيعة كهذه.
صمت. ثم:
- ولكن يجب عليّ أن أعترف أن هناك سببًا دائمًا ما يختفي خلف كل هذا، ونريد أن نحتفظ به لأنفسنا، لا غير سوى لأنفسنا.
- هذا طبيعي عندما يبحث الجميع عن الهرب من الحقيقة.
- الحقيقة أنني قتلت من أجل أمي.
- من أجل أمك؟ قتلت من أجل أمك! هي شريرة إلى هذه الدرجة؟
- لم تكن شريرة.
- هل ماتت، أمك؟
- نعم، ماتت من أجلي.
الضابط والملهمة يعملان الحب. طلقات حادة.
- انتحرت.
- انتحرت من أجلك!
- نعم، انتحرت من أجلي.
- لماذا؟
- لأنها كانت شديدة الطيبة، شديدة الرقة، مسالمة على أشد ما يكون.
- إذن بالنسبة لك، هذا البلد الهالك هو الذي دفعها إلى الانتحار، وأنت هنا للثأر من أجلها.
- الأمر أكثر تعقيدًا.
- ماذا؟
- من المستحيل شرحه.
- ومع ذلك كل شيء يشرح نفسه.
- الأمر أكثر تعقيدًا، من المستحيل شرحه، إنه الجحيم، هذا كل ما هنالك.
- هناك ملائكة سعداء في الجحيم.
- ليست هذه حالي.
- ولا أنا.
- ولا أنت؟
- ولا أنا.
- إذن قل لي، لماذا أنت هنا؟
- لأن كانت لي زوجة أب شيطانية خصتني.
الملهمة تقهقه. الجندي الأول متعجبًا:
- مخصي أنت!
الجندي الثاني يهمهم:
- مخصي أنا! خصتني عن حب، فقتلتها.
الملهمة تقهقه من جديد. الجندي الثاني يصرخ بالملهمة:
- ستغلقين فمك، وإلا! أو أقول لك اضحكي، يا ملهمة! تسلي! لديك الحق! لا تلهم حكايتي سوى القهقهة والسخرية.
الملهمة ترمي ساخرة:
- قبل قليل جعلتني أعتقد أن في سروالك الداخلي وحشًا استوائيًا ضخمًا!
الضابط يضيف:
- المخصيّ، هو جندي منهزم مسبقًا.
المعني يرد وهو ينزرع قرب الضابط:
- أستطيع أن أُثبت لك العكس.
الضابط يتهكم:
- تثبت لي العكس! وكيف ذلك؟
أجاب وهو يضغط رأس ضابطه بفوهة سلاحه:
- بنسف مخك.
الملهمة تصرخ مفرقة ما بينهما:
- توقفا! هناك علاج لهذا.
الجندي يلقي بسلاحه أرضًا، ويسقط على قدمي الملهمة:
- تقولين هناك علاج!
- أستطيع أن أبرئك.
- تستطيعين أن تبرئيني؟
- نعم. أستطيع أن أبرئك.
الجندي الأول يقترب منهما بخطوات بطيئة.
- وتستطيعين أن تبرئيني كيف؟
- تعال بين ذراعيّ.
الجندي الأول يمنع الملهمة من أن تأخذ رفيقه بين ذراعيها. يهدد:
- هو أو أنا.
الجنديان يتعاركان، الضابط يريد التدخل لكن الملهمة تمنعه. الملهمة توضح:
- ما هي سوى أفكار تتصارع، تُتَداول، تنتشر. أنا من وراء فكرة كل واحد، لكن من وراء كل واحد هناك قوة تجربته، ومن وراء تجربته هناك قوة الأشياء.
الأسلحة تصمت في الخارج. الملهمة تعود إلى عمل الحب مع الضابط عندما يدخل الوفيّ الخيمة فجأة، السلاح بيده. يأمر الضابط والجنديين بالوقوف في زاوية، ويريد أخذ الملهمة بين ذراعيه لكنها تبعده بعزم وإصرار، وتلتحق بالضابط. تقول:
- ألاحظ أنك استعدت النظر.
الوفيّ يقول مذهولاً:
- النظر والحياة. حاربت جيشًا بأكمله من أجلك، وتتركينني إليه!
- من الآن فصاعدًا أنا له. انتزعني منه إذا استطعت، إنه خصمك.
الوفيّ يقول وهو يمزق وثيقة الاستسلام:
- سأنتزع هذا أولاً، صك وقعته باسمي دون أن تطلبي مني الإذن.
الوفيّ يتابع:
- ولأنتزعك منه يجب أن أقتله.
الملهمة تقول وهي ترمي بنفسها بين ذراعي الضابط:
- لا أعتقد أنها فكرة حسنة، فعليك أن تقتلنا نحن الاثنين.
الجنديان يحيطان بالملهمة والضابط:
- أن تقتلنا نحن الأربعة.
الوفيّ يتهكم:
- آه! يا له من درس في التضامن. ولكن معي، هذا لا يمشي.
يطلق في الهواء. الشخصيات الأربع تتعانق لتشكل جسدًا واحدًا، ملتحمًا. ليفصلهم، الوفيّ يضربهما ضربات شديدة بعقب سلاحه. يجرحهم كلهم، ومع ذلك يبقون متحدين، كفكرة واحدة صعبة الفهم. الملهمة تختفي خلف الآخرين. لم نعد نرى سوى ذراع من ذراعيها ويد مفتوحة، جامدة.

منتصف الليل. أربع وعشرون دقة. عقرب الساعة الكبير يتقدم: منتصف الليل وثلاث دقائق. سماء فضية تغطي المعسكرين. البدر. الخيمة مضيئة. في الداخل، الشخصيات الأربع متحدة في جسد واحد. نصف الملهمة الأعلى مقلوب إلى الوراء. الوفيّ يأخذها بين ذراعيه لا لجمال الثديين وإنما لسلطة جمالهما عليه.
يقول:
- سأختطفك، سأخلّصك، سأفر معك. تدمير البئر الآن هو آخر ما يشغلني، أنت شغلي الشاغل.
يجذب الملهمة دون أن ينجح. يلح:
- ستعودين إليّ.
الوفيّ يجلس يائسًا على الأرض. يقول لنفسه:
- قبل، عندما كانت كلها لي، كانت تهدئ لي ألمي، كانت تديم متعتي، كانت تشعر بخوفي، بشجاعتي، كنا جسدًا واحدًا.
يبكي.
- قبل، كان لنا هدف مشترك نرمي إلى تحقيقه، كانت لنا الإرادة والسلطة. قبل، كنا نملك أنفسنا.
من جديد، الوفيّ يحاول جذب الملهمة من كتلة الأجساد المتحدة دون أن ينجح. يصرخ:
- لقد خنتني! أو ربما...
يلتقط الوثيقة الممزقة.
- خنت نفسي بنفسي. صك الاستسلام الموقع باسمي هذا هو كل الشرف الذي بقي لي، رمز إرادتي وسلطتي. مزقته بيدي هاتين!
ساقا الملهمة تتجاوزان كتلة الأجساد المتحدة بدورهما. الوفيّ يذهب ليأخذهما بين ذراعيه كمن يأخذ كل وجوده. يغرق وجهه بين فخذي الإلهة. يهمهم:
- لقد أضعت كل شيء، يا حبي، بحركة عمياء، حركة مجنونة! لقد أضعتك! كل شيء لخطأي!
يحاول انتزاعها عبثًا، ثم يذهب ليجلس على طرف السرير مستسلمًا. يقول لنفسه:
- لاستعادتها عليّ حذفهم، هم، وليس جنود المعسكر. في هذه اللحظة العصيبة، هذا هو سبب الفعل، فانتازيا المقاوم، الأمر الشخصي حتى اليأس.
الملهمة تأخذ الثلاثة الآخرين بين ذراعيها، تريد حمايتهم. الوفيّ يطلق النار في الهواء، ويصرخ كالمجنون:
- أنا هو وفيّك، عشيقك، دقائقك الثلاث بعد منتصف الليل! لكن الأزمان تغيرت، غدت صعبة أكثر فأكثر، إنها صعبة، صعبة جدًا!
يحاول إبعادها عنهم دون أن ينجح. يهدد:
- إذا كان الأمر كذلك، فعليك أن تموتي أنت.
الملهمة تقهقه. يهدد وهو يضع فوهة رشاشه على صدغ الملهمة:
- سأثبت لك أنني ما زلت قويًا وعازمًا. سأعد حتى ثلاثة، وسأطلق. واحد، اثنان...
الضابط يقول:
- لا، لا تطلق.
يقول الجندي الأول:
- لا تطلق عليها.
يقول الجندي الثاني:
- لا تقتلها.
الوفيّ يسحب الملهمة إليه. الضابط يهمهم:
- هي لي كل ما بقي من حروب سأربحها، هي لي أغلى من كل الأوطان.
الجندي الأول يهمهم:
- هي لي كل ما بقي من حروب سأخسرها، هي لي أغلى من كل الأمهات.
الجندي الثاني يهمهم:
- سيبدو ما سأقوله غريبًا، ومع ذلك سأقوله لكم. هي لي رجولتي الضائعة، قدرتي وخلاصي.
الوفيّ ساخرًا:
- قدرتك وخلاصك! برهن لي على ذلك!
يقول بتحدٍ:
- سأبرهن لك على ذلك.
يأخذ الملهمة بين ذراعيه. الوفيّ يطلق عليه مصيبًا إياه في ذراعه، وفي ساقه. الجندي الثاني ينهار. يصرخ ويبكي. يقول بصعوبة وهو يشير إلى دمه:
- هذا هو برهاني.
ينظر إلى الملهمة بهوى. تمزق ساريها الأزرق، وتضمد له جراحه. الوفيّ يهدد:
- برهان جبنك.
الملهمة تقول:
- هو لي أشجع منك.
الوفيّ دَهِشًا:
- أشجع مني!
- نعم، أشجع منك، وأكثر جدارة بالسلطة التي تركتك في اللحظة التي تركتني فيها.
- لم أتركك. لن أتركك. وسأبرهن لك على أن في يدي السلطة دومًا.
ينصب سلاحه في قلب الضابط. يقول الجندي الأول وهو يشم شعر الملهمة بلذة:
- اقتلني أنا أولاً.
يتابع:
- خلصني من رائحتها.
الوفيّ يسأل:
- هل هي رائحة أمك التي تشمها فيها؟
الجندي الأول كما لو كان يخاطب نفسه:
- قبل أن تنتحر أمي، نادتني. سمحت لي بالنوم إلى جانبها، لأنني كنت خائفًا، وشدتني بقوة إلى جسدها، فأحسست بلحمها. كانت رائحة لحمها كرائحة ينبوع البئر، باردة ونقية. في تلك الليلة، لم يغمض لي جفن حتى الصباح. كان هناك قمر فضي في السماء.
الضابط يقهقه:
- لماذا لا تقولها بصراحة؟ لماذا لا تقول إنك قمت بفعل ما هو مخز مع ماماك الصغيرة الغالية؟
الجندي الأول يقفز على عنق الضابط ليخنقه. الملهمة تجذبه ناحيتها بينما الوفيّ يعطيه سلاحًا ليقتل قائده. الجندي الأول يريد الضغط على الزناد ثم يتردد. الضابط ينزع السلاح من يده، ويطلق عليه. يصيبه في الذراع وفي الساق. الجندي الأول يسقط، ويمد يده إلى الملهمة التي تسارع إلى عونه.

منتصف الليل. أربع وعشرون دقة. عقرب الساعة الكبير يتقدم: منتصف الليل وثلاث دقائق. الوفيّ يحطم الساعة، ويسحقها بقدمه. يستيقظون كلهم. والسلاح بيده، يقوم بمحاولة ثانية ينتزع فيها الملهمة من بين ذراعي الضابط الفرنسي.
الوفي يقول للعساكر الثلاثة وهو يضغط سلاحه تحت ذقن الملهمة:
- هي رهينتي. حركة صغيرة وأضغط على الزناد.
الضابط يسأل:
- أنت الوفيّ، المخلص، باستطاعتك أن تفعل هذا؟
- ابتداء من الآن، لست سوى خائن.
الجندي الثاني يقول:
- اطلبني ما شئت، فقط حررها.
الجندي الأول:
- أنت، أيها العاجز، من الأفضل أن تخرس.
الجندي الثاني يتناول سلاحًا كان ملقيًا هناك ويصرعه. بعد ذلك يقف إلى جانب الوفيّ. يقول للوفيّ:
- سأمشي معك.
الوفيّ يقول:
- خونة كالحركية، أنا لا أريد.
ويصرعه.
الملهمة تصرخ وهي تضرب وفيّها:
- مجرم! دمويّ!
- لست مجرمًا ولا دمويًا، أنا خائن!
يفتح قبضة الملهمة، ويطلق رصاصة في كفها. تصرخ من الألم، والضابط معها الذي يريد أن يخلّصها. الوفيّ يقول للضابط بوجه محتقن:
- إذا حاولت الاقتراب منها، قتلتك في الحال.
الملهمة تسقط على الأرض، ويدها تغرق في الدم، على وشك أن يغمى عليها، لكن الوفيّ يرفعها، ويجعلها تقف. الضابط يهدد:
- حذار من ارتكاب الحماقات!
- تراجع!
يتراجع. الضابط يبتهل:
- سأفعل كل ما تشاء، ولكن لا تلحق بها الأذى.
- أفعل ما أشاء بملهمتي.
الضابط يصرخ:
- لم تعد ملهمتك.
ثم وكأنه يخاطب نفسه:
- هي لي، نعم، هذا هو، هي لي. إنها المرة الأولى منذ أن بدأت هذه الحرب الملعونة التي يكون لي شيء فيها.
طلقة أخرى تخترق كف الملهمة الثانية، فتسقط على الأرض غائبة عن الوعي تمامًا. الضابط يعوي:
- لا!
يحملها بين ذراعيه، يضعها على ركبتيه، وهو يجلس على طرف السرير، يقبل يديها المدماتين، ويبكي. الضابط يسأل باكيًا:
- لماذا فعلت هذا؟ لماذا؟
الوفي يجيب:
- لتنسحب من السهل.
الضابط يقول واقفًا:
- في الحال.
- واصطحب معك كل هذا الخراء من الخونة والمتواطئين.
- سأصطحب معي كل هذا الخراء من الخونة والمتواطئين.
- ودون إرجاء.
- ودون إرجاء.
- تنفيذ!
- لكني سأعود من أجلها.
- سأتركها لك كما لو كانت كلبة أو حذاء.
الضابط يمدد الملهمة على السرير، وبعد ذلك يتجه إلى باب الخيمة، ثم يستدير:
- اعتن بها، فهي تنزف.
الوفيّ يأمر:
- لا وقت لديك، أسرع!
الضابط يسارع إلى مغادرة الخيمة التي تسقط في صمت مطبق. الوفي يعوي فجأة كالمجنون. يأخذ الملهمة بين ذراعيه ويبكي. يقبل يديها الغارقتين في الدم ويبتهل إليها لتستيقظ. يخرج مسدسه من القِراب، ويطلق النار في كفه. يصرخ من الألم هذه المرة، ثم يفقد رشده على صدر الملهمة.

الملهمة تداعب بيدها المضمدة شعر الوفيّ الغافي. يستيقظ، ويريد تقبيلها، لكنها تمتنع عنه. يسمعان المعسكر الفرنسي، وهو يخلي السهل. الوفيّ يقول:
- ها هم ينسحبون.
الملهمة تقول:
- نعم، ها هم يخلون السهل. والبئر؟
- لا أهمية للبئر بعد. كل شيء قد تغير.
- نعم، كل شيء قد تغير.
- ربحت المعركة بفضلك.
- والحرب؟ من سيربحها؟
- سأربح الحرب بفضلك.
- هذا ما سنرى.
وتنهض. يسأل الوفي:
- إلى أين أنت ذاهبة؟
- أنا خارجة.
- هل استعدت قواك؟
- نعم.
الوفيّ يجاهد القيام:
- لم أستعد قواي.
- استعدت قواي، استعدت حريتي.
الملهمة تخرج كشلال الضوء. في الخارج، تقف في ضوء القمر. ترفع يدها نحو الكوكب المحتفل، وتصرخ:
- أنا حرة!
الوفيّ يلتحق بها. ينظر إلى السهل. المعسكر الفرنسي قد اختفى. الملهمة تصرخ من جديد:
- أنا حرة!
تقهقه. الوفيّ يقول:
- غير صحيح. أنت رهينتي. أنت ملكي.
الملهمة تقول وهي تدور من حوله:
- أنا لست ملك أحد. لست ملكك، ولست ملكه. أضعتماني أنتما الاثنان، هو بإخلاء السهل، وأنت بعدولك عن تدمير البئر.
تقهقه من جديد، وتهرب بأقصى سرعة للالتحاق بالمعسكر الآخر، المعسكر الجزائري. الملهمة تصرخ من فوق:
- أنا حرة!
الوفيّ يصرخ من تحت:
- سأمسك بك، وسأعيدك إليّ.
- عندما تموت، سأعود إليك كدودة من دود الأرض، لأقرض لك اللحم بدل الروح.
تضحك للمرة الأخيرة قبل الدخول في المعسكر الجزائري. الوفيّ يلقي نظرة نحو المرتفعات. يذهب إلى صخرة، ويقعد عليها بانتظار عودة الضابط الفرنسي. يربط يده بمنديل، وينظر إلى المرتفعات، ثم إلى القمر الذي ينحرف، والذي يغيب. تشرق الشمس. الضابط الفرنسي ينبثق من دم الشروق. يصعد السفح بصعوبة متجهًا نحو الوفيّ، ويصل إلى الصخرة التي يجلس عليها. الملهمة ليست هنا. العالم يسقط في الصمت. الضابط الفرنسي يدخل في الخيمة باحثًا عنها. الجنديان تغطيهما الديدان. الديدان تقرض لحمهما. الضابط مرتعب. يترك الخيمة بسرعة، ويقترب بخطوات سريعة من الوفيّ. يبقى هناك بانتظار أن يشرح له.
يقول الوفيّ:
- انتقلَتْ إلى المعسكر الآخر. أضعناها نحن الاثنان.
- أنت أضعتها، وليس أنا.
يعجل الصعود باتجاه المعسكر الجزائري. الوفيّ يتبعه، ويتجاوزه. يتوقف على باب المعسكر. الضابط الفرنسي يلحق به. جنديان جزائريان هناك، ينظران إليهما دون أن يتحركا. يقول الجندي الأول للوفيّ مشيرًا إلى الضابط الفرنسي:
- لقد أخطأ العنوان!
- يريد ملهمته.
- أريد امرأتي.
يسأل الجندي الثاني:
- امرأته تلك التي...
الوفيّ يجيب:
- هذا ما يقوله.
- أليست امرأتك؟
- لا تطرح أسئلة كثيرة.
الجندي الأول يقول للوفيّ وللضابط الفرنسي:
- اذهبا لرؤية ضابطنا.
الجنديان يرافقانهما حتى مدخل خيمة أشبه بخيمة السفح. سيارات عسكرية وأسلحة ثقيلة في كل مكان. الجندي الأول يدخل الخيمة وحده. لا يتأخر عن الرجوع، ويُدخل الرجال الثلاثة. ما أن تراهم، الملهمة تقبل الضابط الجزائري، وعيناها مفتوحتان. الضابط الفرنسي يقفز على عنق غريمه ليخنقه. الجنديان الجزائريان يدافعان عنه بينما الملهمة تقهقه.
يسأل الضابط الجزائري وهو يسعل:
- ماذا جرى لك؟ انتهت الثورة وكذلك الحرب.
الضابط الفرنسي يسأل غير مصدق:
- انتهت الثورة؟
- كما أقول لك.
- إذا انتهت الثورة، فهذا أمركم. لكن الحرب لم تنته بعد، وللعسكري الذي هو أنا، إنها حربي، حقي المطلق! وهذه المرأة، هي امرأتي! هي لي!
يسحبها من ذراعها.
يقول الضابط الجزائري ساحبًا إياها من الذراع الأخرى:
- لا، هي لي!
يقول الوفي لنفسه:
- ماذا أنتظر؟ يجب أن أتصرف، وإلا أضعتها إلى الأبد.
يأخذها بين ذراعيه. يصرخ:
- هي لي! ليست لأحد آخر سواي.
الضابط الجزائري يصرخ:
- يا جنود، اقضوا لي على هذا الوبش، وأعيدوا لي امرأتي!
الجنديان لا يتحركان.
- يا جنود، ماذا تنتظرون؟ الثورة انتهت، وهذه المرأة لي.
يرد الجندي الأول:
- انتهت الثورة، هذا ما تقوله أنت. أما هذه المرأة التي ليست كغيرها، من الممكن أن تكون لأي واحد فينا. ثورة أم لا، حرب أم لا، لا شيء أكيد. من الممكن أن تكون لي.
الجندي الثاني يحكي:
- عندما انخرطت في الثورة، لم أكن أعرف لماذا. الآن أعرف. لها. هذه المرأة لي.
يجذبها بين ذراعيه، والملهمة تقهقه. الوفيّ يحاول فهم هذه الحالة الجديدة. يقول:
- الثورة لم تنته بعد، والحرب كذلك. فقط نحن ندخل في مرحلة خاصة، وتتوقف إرادة العيش أو الموت لدينا على هذه المخلوقة.
يشير إلى الملهمة التي تدور حولهم. يتابع:
- سموها ملهمة أو زوجة كما شئتم. معها، لم نعد مُرجأين ولا أنداد، نحن أرقاء إلى الأبد.
ومن جديد، الملهمة تقهقه.
- يكفي أن نسمعها تضحك منا لنتأكد من أننا وقعنا تحت نيرها.
صمت، ثم الضابط الجزائري يحكي:
- لقد باعوني الثورة في سوق الصدفة، لأنني كنت أعرف فبركة القنابل. بعد ذلك، بفضل الصدفة دومًا، وجدتني أقود هذه الثورة الملعونة التي من أحلى أفكارها إخضاع الآخرين. وتأتي لتقول لي إننا نخضع لهذه المرأة التي أستطيع قتلها في الحال...
يلوح بمسدسه.
- ... ودون أي ندم.
الملهمة تضحك. يتابع:
- ولكن لديك الحق، أنا لا أستطيع فعل ذلك، فهي كل ما تركته الثورة لي من ورائها.
يصرخ الجندي الأول بضابطه:
- لم تنته الثورة بعد! هل تريدني أن أبرهن لك على ذلك؟
الملهمة تقبل الضابط الفرنسي لتثير غيرة الآخرين. الضابط الجزائري يصرخ:
- انتهت، كل شيء انتهى، نحن كلنا انتهينا! لم يعد هناك مكان للصدفة! انتهت الثورة بالفعل!
الجندي الأول يهمهم:
- هُراء!
يتقدم، ويفتح موساه.
- الثورة هنا دومًا!
فجأة، يبعد الضابط الفرنسي عن الملهمة، ويقطع له عنقه. الملهمة تطلق في الحال صرخة مختنقة، وتجمد. الجندي يمسح موساه بسترة الضابط الذبيح. يرمي الجثة على الأرض، ثم يضع أداته القاتلة في جيبه. يبدو عليهم الرزوح كلهم، وعلى الملهمة الضراوة. ظل الملهمة يجتاحهم جميعًا، ظل شيطاني، عندما تنفجر بغتة بالضحك. الجندي القاتل ينهار. ينوح:
- لم تنته الثورة، لم تزل هنا. هذا هو البرهان!
يشير بإصبعه إلى دم الضابط الفرنسي. الملهمة تكتب ثورة بحروف الدم. الوفيّ يدفع الملهمة بعيدًا عن الجثة، ويلقي عليها غطاء.
يعترف القاتل كما لو كان يخاطب نفسه:
- أجبروني على الصعود إلى الجبل. عذبوا أخي لأنه قال لهم لا، ثم ذبحوه. لم أكن أعتقد أن الأمر بمثل هذه السهولة.
يبتسم، ويواصل جهم السحنة:
- أخي الصغير المسكين! دومًا ما كنت أغير منه! كان المفضل عند أمي. لم أزل أغير منه. ذُبح، هو! لهذا أُعيد هذا الفعل الشنيع دون توقف، لهذا أريد أن تستمر الثورة.
ينفجر باكيًا. الملهمة تأخذه بين ذراعيها، متحدية الجندي الآخر بنظرتها. يبعدها هذا بعنف، فتضربه، وتجعله يصرخ من الألم. يصرخ بالأول مهددًا بسلاحه:
- أيها القذر! الثورة هي أجمل شيء في العالم! انخرطت فيها بمحض إرادتي.
يتوسل الآخر:
- لا تطلق! أحب الثورة، جلالة الثورة!
يقول للملهمة ذات العقود الصحراوية:
- هي مليكتي مثلما أنت ملهمتي! أحبها بقدر حبي لك!
الملهمة توافق بهزة من رأسها. تخلع عقودها واحدًا واحدًا، وتكشف عن صدرها. الجندي الأول يبدو مسحورًا بجمالها.
الجندي الثاني يصرخ:
- دموي مثلك لا مكان له في الثورة!
يطلق عليه. الجندي الأول يسقط، وعلى شفتيه ابتسامة مسحورة. الملهمة تأخذه بين ذراعيها، وتطبع شفتيها على شفتيه. تعضه بعد ذلك حتى يسيل دمه. الجندي الثاني يصعقه الذهول. يأمره الضابط:
- اترك سلاحك! أوقفك باسم الثورة!
يصرخ وهو يتكور على نفسه في زاوية:
- لا!
الوفيّ يدفع الملهمة بعيدًا عن الجثة، ويغطيها. تقفز الملهمة عليه، وتهاجمه بمخالبها. الجندي الثاني يترك نفسه يزلق حتى الأرض. يشد سلاحه إليه كما لو كان امرأة. يهمهم:
- إنه كل الحلم الذي بقي لي، لا تنزعه مني، وإلا لن يبقى لي سوى الموت.
يتوجه إلى رئيسه:
- نعم، سأنتحر.
صمت، ثم:
- عندما كنت صغيرًا، كانت أمي تقول لي: "في أحد الأيام، عندما تصبح كبيرًا، ستتزوج من فرنسية فائقة الجمال." هذا لأنني كنت جميلاً جدًا. لكنها لم تكن تعلم أنني سأتزوج من الثورة، أن كل الجزائر ستكون لي، أن كل نساء العالم سيقعن بين ذراعيّ.
الملهمة تذهب إليه، وتزلق بين ذراعيه. يعانقها معًا وسلاحه. تحاول أخذه منه. يدفعها بعنف، ويضع فوهته تحت ذقنه.
- إذا حاول أحدكم انتزاع سلاحي مني، فجرت مخي.
يهدد الضابط:
- على أي حال، أنت رجل ميت. هل نسيت جريمتك؟ أنت جندي ميت!
يتقدم منه، وهو يبدي حركات مهددة بيده:
- أصادره لك، هذا السلاح الملعون.
لكنه يتوقف في منتصف الطريق. الملهمة تدفعه إلى الأمام. يضغط الجندي الضائع على الزناد، ويتهاوى، والسلاح مشدود دومًا في يده. الملهمة تحاول أخذه منه دون أن تنجح.
الضابط يعترف للوفيّ:
- لقد بدأ كل شيء مع هذه الملهمة اللاوفية. كنت أريد استعادتها بأي ثمن، وجيش التحرير يريد التخلص منكم، أنتم الرفاق، فكلفتكم بتدمير البئر. لم تكن البئر سوى ذريعة. جعلتكم تعتقدون أن مستقبل الثورة يتوقف على هذا الفعل. كان الحل المشرف الوحيد لكم. لم يكن ماء البئر شرطًا لازمًا للفرنسيين، فقد كان بإمكانهم التزود بالماء من القرية المجاورة.
الملهمة تغفو بين ذراعي الجندي، ويدها على السلاح. يتابع الضابط الجزائري:
- تمامًا مثلنا.
يقول الوفيّ كمن يخاطب نفسه:
- كل الرفاق ماتوا، كل الرفاق إذن اغتيلوا من طرف جيش التحرير الخراء!
- لم أفعل سوى تنفيذ أمر الثورة.
- أمر قفاي، تريد القول!
- لم أفعل سوى الإذعان.
- دافعًا إلى قتلنا.
يهتاج:
- كان أمر قيادة الثورة، يا قحبة الخراء!
ويذهب ليريح نفسه بين ذراعي الملهمة. يهمهم:
- الآن وقد انتهت ثورتي، سأبحث عن النوم بين ذراعي ملهمتي اللاوفية. هذا كل ما تبقى لي من حرب العصابات، وهذه المرة لا شيء يمت الصلة بالصدفة. أن أرتاح، نعم، اليوم... غدًا، سنرى.
الوفي يهدد:
- لن تظفر أبدًا بالراحة. لن تتركك أرواح رفاقي أبدًا مطمئنًا.
الملهمة تتنزه بشفتيها على وجه الضابط.
- بلى، طالما بقيت تحت نيرها.
- إذن سيكون عليك ارتكاب جرائم أخرى.
- سأفعل، نعم، بكل سرور.
- باسم من؟
- باسم الثورة طبعًا.
- لكن الثورة انتهت بالنسبة لك.
- ومع ذلك سيكون ذلك باسم الثورة.
- ما أنت سوى وحش!
الضابط يصرخ فجأة، فالملهمة قد عضته من شفته. ثم يسأل:
- الآن فقط تعرف هذا؟
- لم أكن أثق بك، غير أنني كنت مستعدًا للموت من أجل الثورة.
تعود إلى عض شفة الضابط الذي يصرخ من جديد. ثم:
- من أجل الثورة أم من أجل الملهمة؟
ويتدحرج مع الملهمة على الأرض وهما يضحكان.
- من أجل الثورة.
- الثورة هي نحن.
- ما أنتم سوى وحوش.
ويعزم على قتلهما.
في اللحظة التي يريد فيها الضغط على الزناد، يجمد الوفيّ، لأن جندي ثالث يدخل. يتوجه إلى الضابط:
- منذ عرف القرويون أنك لم تعد تقوم بالثورة، يرفضون تزويد معسكرنا بما يحتاجه من ماء.
الضابط ينهض، ويقبض على سلاحه. يهتف:
- لنعد إلى القتال. واجبنا الثوري يأمرنا بذبحهم جميعًا.
يهتف الجندي مع غمزة عاشقة للملهمة:
- بأمرك، أيها القائمقام!
الملهمة تلقي عليه نظرة عاشقة أيضًا. يهتف الوفيّ ساخرًا:
- قم بواجبك، أيها القائمقام!
- نعم، واجبي.
الملهمة تقترب من الجندي بشفتيها.
- واجب قائمقام الله!
الضابط يجذب الملهمة التي بدأت بالتهام وجه الجندي. يسأل الوفيّ:
- أتظن نفسك ملكًا ساحرًا في الوقت الحاضر؟
الضابط يهتف قبل مغادرة الخيمة متبوعًا بكل الآخرين وبعد ذلك بكل فرقته:
- وسأصنع المعجزات!
السيارات العسكرية والأسلحة الثقيلة تغادر المعسكر. الضابط في سيارة مصفحة. إلى جانبه الملهمة والوفيّ. جيش التحرير يحاصر القرية. الأسلحة الثقيلة تنتصب. الملهمة تذهب لتقف على صخرة عالية. تسيطر على كل شيء. الوفيّ يبحث عنها بعينيه. ترفع يدها ببطء، ببطء شديد، وتشير بإصبعها إلى القرية.
الضابط يقول للوفيّ:
- انظر إليها! تلهمني كل ويلات الحروب الظلامية!
بحركة عصبية، يأمر بالقصف. المدافع والبنادق تزأر. القرية تدك. القرويون يبادون. الملهمة والوفيّ يدمران نفسيهما: يقومان بفعل الحب كما كانا يقومان بفعل الحرب. خلال حربه معها، يعود الوفيّ إلى فقدان بصره بالتدريج. قذيفة تُسقط الصخرة على الملهمة، فتموت في الحال.
الوفيّ يخلّص الملهمة من تحت الحجارة. يحاول حملها، ثم يجرها من قدميها إلى البئر. يائسًا ولكن عازمًا، يواصل جرها كما يقدر عليه، يدفعها من فوق صخرة، يسحبها من قدميها أو من يديها حتى البئر بينما رأسها ينط كالكرة. يرميها في البئر. شعاع آت من قعر البئر يعميه تمامًا. الملهمة تطفو على سطح الماء، يجرفها التيار. تخترق عالم البئر العجيب. الوفيّ أعمى يتجه نحو الصحراء تاركًا القرية من ورائه مخربة تمامًا. يقطع الصحراء بحالة من الهذيان والضياع.
نهار وليل يتعاقبان.
عند وصوله إلى واحة، الوفيّ يلقي بنفسه في الماء الذي منه تنبثق الملهمة. لحظة لقاء ورقة. ثم كلاهما يأخذ طريق الصحراء. تقوده على طريق الموت.
نهار وليل يتعاقبان.
في فضاء الحرية المطلقة الذي هو الصحراء، يتوقف الزمن: النهار والليل ما هما سوى شيء واحد. عقرب الساعة الكبير يتقدم: منتصف الليل دومًا.
لم يعد تغيير هناك، لم يعد إرجاء هناك.
كيف يرجأ الموت؟
الملهمة والوفيّ ينتحران.



























الهامشيون

كانت أفكاري تضعني على هامش العالم.
فرانسوا مورياك

كل جهد للسيطرة على شرطهم ينقلب إلى محاولة للتدمير الذاتي.
كلود سيمون


الجزائر 1962
عدة أيام قبل الاستقلال
آدم، يعني عدم بالعربية، كاتب في الخمسين من عمره، لا يحب الكُسْكُسَ ولا القهوة. لهذا السبب بقي عازبًا. وبالمقابل، يعشق الورد. كرس حياته لزراعة الكلمات والورد وانتقادات قرائه. ليس كل قرائه. فقط من يشعرون بأنفسهم أنهم المعنيون في كتاباته. و... لأنه صريح مع نفسه، لا يستطيع إخفاء ما يفكر فيه عن الآخرين. هذا هو عيبه: الصراحة. ومن الغالب ما تستقبل أفكاره الجديدة بسوء، كمواقفه الشجاعة. وكما يقال: الكتاب يبدعون في الهموم لأنفسهم. لكن، أن تكتب جيدًا أم سيئًا في عالم يحكمه النزاع، هذا لا يعني شيئًا، ما يهم هو التقدير، ولا موهبة آدم، ولا شجاعته مقدّرتان. ومع ذلك، يواصل، رابط الجأش، على الطريق ذاتها. على الأقل حتى يتوقفون عن نشر كتبه، وقبول مقالاته. من هنا إلى هناك، لن يرخي قبضته. سيفعل كل شيء من أجل أن تصل آراؤه إلى المرسل إليهم. لا يستطيع قبول الموت فكريًا طالما لم تنكسر ريشته. ونظرًا للأحداث التراجيدية التي تهز البلد، لن يتأخر هذا اليوم عن القدوم. لهذا السبب قال كل ما لديه قويًا وعاليًا عن ضربات جبهة التحرير العمياء وجرائم الجيش الفرنسي، فعاد عليه ذلك بعداء الطرفين.
صاح المحقق الفرنسي:
- قضيت على نفسك بنفسك، يا سيد آدم! تصرفك بهذا الشكل يجعلك تحكم على نفسك بعدم الكتابة.
صاح آدم بدوره:
- لا أحد في العالم سيمنعني من التعبير عن رأيي بحرية، يا حضرة الضابط!
- لكنك تنسى أن هذه فرنسا!
- لا أنسى أنكم جيش كولونيالي.
- كولونياليون نحن الذين جئناكم بالحضارة!
- الحضارة التي تقتل، تحرق، تعذب، ليست حضارة، إنها البربرية مخبأة تحت ثياب نظيفة.
- برابرة نحن الذين علمناكم قراءة وكتابة أسمائكم!
- ربما كنا أميين، لكننا أولاً وقبل كل شيء بشر، وواقع أن نقرأ ونكتب، وليس فقط أن نقرأ ونكتب أسماءنا، حق جوهري لنا. زد على ذلك، أنت تحرمني من هذا الحق عندما يكون المقصود أن أقول الحقيقة للعالم أجمع.
- أية حقيقة؟ حقيقتكم أم حقيقتنا؟
- الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان. لهذا أرفض كل فعل لا إنساني، سواء اقترفه ناسيّ أم ناسك.
- أنت تنسى أمرًا ثانويًا، يا سيد آدم.
- ما هو، يا حضرة الضابط؟
- أنها الحرب.
- حرب قذرة، تريد القول.
- وليست السلطة بيدكم.
- العجلة تدور، وفي يوم ما، سنمتلك السلطة.
- لماذا؟ لترتكبوا جرائم أخرى؟
- جرائم أخرى ربما، ولكن تبقى ما بيننا، يا حضرة الضابط.
- أنت من يقول هذا!
- أنا من يقول هذا، وأضيف أنني سأواصل قول الحقيقة عاليًا وقويًا، لتتوقف الجرائم، وليكون عصر الحرية بالفعل عصرنا.
- عصر الحرية خديعة! سنكون حريتكم دومًا. إذن اذعن، يا سيد آدم، ولا تكتب أي شيء كان.

صاح رئيس الفلاقة:
- لا حق لك في نقدنا، يا سي آدم، في نقد أفعالنا والثورة. هذا ما لا يمكن قبوله.
أجاب آدم:
- في حركة ديمقراطية، يا سي لحسين، ما لا يمكن قبوله هو بالأحرى السكوت عندما يتعلق الأمر بمصلحتنا كلنا، والضربات العمياء لا تأتي لنا إلا بالتعاسات، تُعرّض للشبهات مصداقية قضيتنا.
- المصداقية لا تهمنا، ما يهم هو أن تحرز الثورة تفوقًا، وأن يشخ الفرنسيون فزعًا ليهربوا من الجزائر.
- هذه الأفعال الإرهابية المرتكبة ضد أبرياء تعاكس كل مبادئي.
- ولكن لا أبرياء هناك، كلهم يتشابهون، كلهم هنا ليبقوا، ليقضوا علينا.
- عدونا هو الجيش، زد على ذلك أنني عبرت عن رأيي بصراحة قاسية منددًا بما ارتكب من فظاعات.
- هؤلاء العسكر المتوحشون يستحقون الشنق، وانتقادنا في الوقت الذي تنتقدهم فيه، هو أن تضعنا على نفس مقعد الاتهام.
- أنا لا أتهم أحدًا. أنا لا أفعل سوى الإنذار.
- أنا أيضًا أنذرك، يا سي آدم، نحن أم هم، عليك أن تختار.
- هل تهددني، يا سي لحسين، أنا الوفي الأكثر من بين أوفيائكم!
- عندما تضع الثورة في خطر، لن نعتبرك منا. وفاؤك يساوي صفرًا.

مارغو، تعني هامشية باللاتينية، نادلة في بار الحي. إنها يهودية إسبانية، عمرها ثلاثون عامًا. على عكس مواطنيها الأندلسيين، بشرتها فاتحة، وشعرها ذهبي. من النادر إلا يبدي زبون تأثره بجمالها: الشباب والأقل شبابًا، كانت تجذبهم كلهم. لكنها حتى الوقت الحاضر، لم تجد بينهم الرجل الذي يلزمها. لتزويجها، فكرت أمها في إرجاعها إلى بلدهم دون عودة، لأن الجزائر لها لم تكن سوى بلد الهجرة، الإقامة المؤقتة، لا أكثر. كانت تريد أن تتحاشى الزواج المتأخر لابنتها، والزوج "العربي"، حتى وإن كان غنيًا. لا تفرق مارغو بين الأطباق والشعوب، وتتفاهم جيدًا مع الجميع، تحب البايلا بقدر الكُسْكُس والستيك فريت. أما فتى الأحلام، أن يكون جزائريًا أم فرنسيًا أم من أي جنسية أخرى عندما يجدها، فستقول له نعم، دون تردد. زد على ذلك، مارغو مؤيدة للحكم الذاتي للجزائريين. رأي خبأته عن الجميع كما يجب حتى الوقت الحاضر، حتى عن أمها. لا تستطيع قول ما تفكر فيه عندما يتكلم الجميع عن القنابل الموضوعة في المقاهي، عندما تكون الضحايا من النساء والأطفال. المظليون يرتكبون الأفعال الأكثر شناعة ضد نساء وأطفال أهل البلد، ولكنهن نساء أهل البلد وأطفالهن! هذا يعني في العقلية السائدة ما يعني. ومع ذلك، ليست هذه الناحية هي التي تُرى من مارغو، مارغو التي كانت أمها ترى فيها فتاة وحدها في كل شيء: في طريقة ملبسها، ومأكلها، وعملها، واختلاطها بالفتيان، مارغو فتاة ليست كالأخريات. كانت مارغو تعتبر الأمر مديحًا، حتى اليوم الذي جرؤت فيه على إبداء رأيها حول الصراع الدائر.

صاح صاحب البار:
- يا آنسة مارغو، لم نعد بحاجة إلى خدماتك.
- لماذا، يا سيد ريمون؟
- تعرفين جيدًا ما فعلت.
- هل سرقت؟
- لا.
- هل سكرت؟
- لا.
- هل تخلفت عن عملي يومًا واحدًا؟
- لا.
- إذن لماذا؟
- لأنك ارتكبت جنحة في الرأي.
- تطردني لأنني أقول ما أفكر فيه، لأن لي رأيًا مخالفًا لرأيك؟
- تريدين القول مخالفًا لرأينا كلنا، نحن الذين كنا نظنك متعاضدة معنا.
- أنا متعاضدة معكم دومًا، حتى ولو كان لي رأي مخالف لرأي أغلبيتكم.
- بدعم الفلاقة؟ قتلة الأطفال هؤلاء!
- أنا لا أدعم الفلاقة. أنا ضد الضربات العمياء. لكني مع حق الجزائريين في تقرير مصيرهم.
- ما معنى هذا، لكنك مع حق الجزائريين في تقرير مصيرهم؟ طردنا من بلدنا؟ نحن على أي حال هنا في بلدنا.
يقلدها ساحرًا:
- لكني مع حق أهالي البلد الأصليين الخراء في تقرير مصيرهم! لا، يا آنسة مارغو. هذا لا يمشي! أفكارك خطيرة! أنت خطيرة! بسببك سأخسر كل زبائني. أفضل فقدانك على فقدان لقمة عيشي.
- لكن، يا سيد ريمون...
- ليس هناك من لكن، لا مكان لك عندي.

صاحت الأم بمارغو:
- أنت عار الأسرة، عاري، عار المرحوم أبيك!
- أنا لا يد لي في الأمر، يا أمي. السيد ريمون هو من قرر كل شيء!
- والخطأ خطأ من؟ خطأ الآنسة مارغو، الثورية! لم أكن أعلم أن لي ابنةً جبهة تحرير!
- لست جبهة تحرير، يا أمي. أنا من أنا ولكن لست جبهة تحرير!
- دومًا ما كنت فتاة وحدك، يا مارغو! فتاة خارجة على العادي، مع الأسف!
- هذا لأنني أفكر قليلاً تقولين هذا، لأنني لا أفكر مثلكم، لأنني استطعت قول رأيي في مسألة تلسع أرواحنا؟
- تنسين أننا لسنا من هنا، نحن من...
- أنت ولدت هنا، أنا ولدت هنا، هذا بلدنا، بالطريقة نفسها التي للآخرين.
- ليست هناك طريقة نفسها بين إسباني، وفوق هذا سفاراد، وفرنسي، نحن المغتربين، وسنظل، إلى الأبد. نحن لا يخصنا ما يجري. ربما تريدين أن يحطم المظليون بابنا؟ أنت فقدت عملك، وأنا مهددة بفقدان عملي. وبعد ذلك، كيف سنعيش، هل يمكنك أن تقولي لي؟ رأيت جرحى، الكثير من الجرحى، في المستشفى الذي أعمل في تنظيفه، وأجرؤ على الادعاء أنهم كلهم فرنسيون، أنهم كلهم ضحايا أصدقائك واضعي القنابل. لا يوجد أي عربي، أي واحد من السكان الأصليين.
- لأنهم قُضي عليهم كلهم بمن فيهم الجرحى، وأُلقي بهم في قبر جماعي.
- تقولين أي شيء، يا مارغو.
- لا، يا أمي، أنها الحقيقة الخالصة.
- تقولين أي شيء، لا تحكين إلا السفائف.
- سفائف، الدم الجزائري!
- أنصحك ألا تعودي إلى الكلام في هذا لأحد، ولنخنق الأمر، من الأفضل أن تختفي لبعض الوقت.
- من الأفضل أن...
- ستقيمين لبعض الوقت عند عمتك سارة. ستعينينها في عملها، وتكسبين مصروفك بالانتظار.
- بانتظار ماذا؟
- بانتظار أن يتوقف كل شيء.
- لن يتوقف كل هذا إذا ما لم تكن للجزائريين الحقوق نفسها التي لنا جميعًا.
- ماذا تقولين، يا مارغو؟!
- إضافة إلى ذلك، حتى بيننا، نحن الأوروبيين، هناك حقوق وحقوق.
- لقد أصبحت مجنونة!
- أنظري ما نعانيه، نحن الإسبانيين... اليهود. هذا لا يمكنه الاستمرار!

في البداية، غضب آدم لاستبعاده: لم تعد كتبه تنشر، والمنشورة صادرتها القيادة العسكرية. لم تعد مقالاته تنشر، وعزله الفلاقة تمامًا. منعوه من أي اتصال. ورويدًا رويدًا، بتحضيره أطروحة عن أعمال كامو، استسلم لعزلة طوعية. وليصمد، زرع وردًا في حديقته الصغيرة، وباعه في ساحة السوق. ورد أحمر، وورد أبيض، وورد أصفر، وورد شاي، وورد أضاليا. ومع ذلك، لم يكن آدم يرى الحياة وردية. كان استقلال بلده يقترب يومًا عن يوم، لكنه أبدى تشاؤمه. كان يقول إن التراجيديا الجارية ستستمر. كان يقول ذلك من قبل، إلا أنه كان يتمنى بفضل ريشته، بفضل كل الريشات الحرة، تقويم الأشياء، وإقامة عالم عادل وديمقراطي. الآن وريشته حُجّمت، انهار كل أمل، لم تعد الحرية سوى خديعة. لم تبق له سوى العزلة أو الموت. كان يتكلم قليلاً، ويقرأ كثيرًا. لم يكن أصدقاء له سوى هذه الكائنات الرخصة العود، المعطرة، ذات الجمال الزائل: الورود. كانت جوهر عزلته.
نظر مواطنوه إلى هذه العزلة بعين ليست راضية، إذ أنهم فسروها كموقف ضد الثورة، وبالتالي عومل آدم أسوأ معاملة، وأهين، حتى أنه ازدُري.

ذهبت مارغو عند عمتها سارة للإقامةِ بعضَ الوقت، كما نصحتها أمها. كان من اللازم أن تختفي قليلاً، خاصة وأنها لم تفقد عملها فقط بل وتقدير الجاليتين الإسبانية والفرنسية أيضًا. لأول مرة في تاريخ هذا البلد تتحد الجاليتان حول مسألة تفرقهما مع ذلك منذ الاحتلال: حق الشعوب في تقرير المصير. استقبلت العمة سارة مارغو على الرحب والسعة، واقترحت عليها بيع أوراق اليانصيب معها. كانت بائعات الصدفة قليلات في الحالة الراهنة. لم يعد الناس يؤمنون بالحظ عندما ينظرون إلى البحر، ويفكرون أنهم سيُدفعون إلى قطعه دون الرجوع أبدًا. كانت سارة تظل في كشكها شارع ميشليه، ومارغو تحرث الشوارع داعية، في الموت والأسى، إلى شراء ورقة يمكن أن تكون حظ حياة بأكملها. كان الناس ممن يقبلون اللعب قليلين. وكالعادة، كان بالأحرى جمال مارغو الجاذب لمشتري الصدفة. جمال لم تكن للصدفة فيه يد على الإطلاق. في الماضي، كان أبراهام، زوج سارة، أول سجين لجمال مارغو. عندما كان لها من العمر خمسة عشر عامًا، اغتصبها أبراهام. احتفظت بالسر، فمضت الأيام، وزالت الآثار. تبدل الرجل، وغدا للدين مشايعًا، وللتقوى أكثر قربًا، ولمارغو أكثر حنوًا. كان عليه أن يواجه العار الآخر، عار كل يوم، عندما يعامله فرنسي الأصل كما لو لم يكن شيئًا لأنه يهودي، وعندما يحتقره للسبب نفسه مضطَّهد آخر، عربي من الأهالي الأصليين أو قبائلي، ويبصق عند عبوره: "يهودي حاشاك!" كانت تلك مأساته الحقيقية، صراعه لأجل احترام إنسانيته. لكنه وهو يرى الجميلة مارغو كما لو كان يكتشفها للمرة الأولى، استيقظت رغبته، وغدت إرادة امتلاكها لديه أقوى من كل إرادة أخرى وجودية. فاجأها أبراهام، عند غياب زوجته، وهي في الحمام، وارتمى عليها كوحش ضال. لم تستطع مارغو شيئًا أمام العملاق الذي كانه أبراهام، ولم تفعل مقاومتها في أبراهام سوى إثارته أكثر: اغتصبها للمرة الثانية، لكنها لم تعد الفتاة الصغيرة. جمع حوائجه، وغادر بيت العمة نهائيًا.

وجدت مارغو غرفة صغيرة مقابل بيت آدم. من النافذة، كانت تراه يقرأ، ويكتب، ويعتني بحديقته، وكان آدم يلتقيها في السوق أو في الشارع دون أن تثير لديه أقل انتباه. لا جمال هناك غير جمال ورده! واصلت مارغو حرث شوارع الجزائر لبيع أوراق اليانصيب، والحظ الذي كانت تعده للآخرين لا يأتي للطرق على بابها. كانت تعيش حياة قاسية، وتنظر عن كثب وأحيانًا بدافع الإعجاب إلى ذلك الرجل الذي يقرأ ويكتب ويزرع الورد. وكان ذلك يقف عند ذلك الحد. كان الألم النفسي الذي سببه زوج عمتها لها يتسلط دومًا على روحها، ويجعلها سهلة الكسر أكثر، لم يكن لها حظ تلك الورود التي وجدت في ذلك الرجل الغريب حاميًا وصديقًا.
في أحد الأيام، انفجرت قنبلة حِرَفية في بار قرب بيت آدم. ولما كان يمر من هناك، أوقفه المظليون، واتهم بجريمة لم يرتكبها، بفعل حاربه منذ انطلاقة الثورة، إلا أن جيرانه العرب قد بدلوا موقفهم منه. اعتُبر آدم كبطل، وأسر الفلاقة مارغو بالصدفة، لإبدالها بآدم. بكتها أمها، وكل الآخرين أرادوا تحريرها بأي ثمن. غدت رمز مقاومة الاقتلاع بالقوة، وأقسم الكل حولها على عدم ترك الجزائر.

تم الإبدال، ومع ذلك لم يبدل آدم موقفه، وكذلك مارغو. ولخيبة أمل الفرنسيين والإسبان، طردوا أم مارغو من حيهم، رغم أنها شجبت ابنتها جهارًا وعلانية. وحّد آدم ومارغو العزم في الضيق والألم عندما عزلهما العدوّان، الجزائري والفرنسي، في عمارة يحتل كل منهما قسمًا منها، فوجد آدم نفسه ومارغو حبيسين في حجرتين إحداهما إلى جانب الأخرى. ومن شقوق في الجدار، كانا يسمعان ما يلحق بالواحد والآخر من تعذيب.
في الليل، وهما وحدهما، كانا يحاولان التواصل بينهما. كان آدم يصرخ ألمه، ومارغو تسر إليه روحها الممزقة.
ازداد التعذيب عنفًا: كل يوم كان آدم يُضرب ومارغو تُغتصب. في إحدى الليالي، بينما كان آدم يفقد وعيه، أيقظته ضربات لمخالب على الجدار، فراح يضرب بمخالبه، هو أيضًا. ضَرِيَ كلاهما، ثم، دفعا بكل ما تبقى لديهما من قوة، فانفتح الجدار.
عرفت مارغو المعذَّب، وحدثته عن أوراق اليانصيب. قالت له إعجابها الرصين بالرجل الغريب الذي يزرع الورد، وقالت لنفسها إن لقاءها بآدم جزء من لعبة الصدفة.
حكى لها آدم عن ورده، عن ماضيه الذي لا فائدة منه، وأسف لأنه لم يلاحظها أبدًا، كل ما عاناه حتى الوقت الحاضر هيأه من أجل هذا اللقاء.
تمكنت مارغو من الانزلاق، وجاءت تبكي بين ذراعي آدم. حكت له كيف اغتُصبت في عامها الخامس عشر من ذاك الجلاد أبراهام، وكيف اغتصبها المظليون مساء أمس. قالت إنها تتألم... منذ كانت صغيرة، وهي تتألم. كانت بحاجة إلى قلب يفهمها، إلى جسد يدفئها، كانت بحاجة إلى حامٍ.
لأجلها، لأجل حمايتها، قرر آدم ألا يترك نفسه للموت، أن يحيا برغم جراحه. أرادت مارغو أن تهزم ألمها من أجله، أن تنذر نفسها لحاميها. وهكذا، للصمود في وجه جلاديهما، قاما بالحب، واغتذيا بالدم، دمهما. لكن في الوضع الذي كانا فيه، وبعيدًا عن كل سلوك رومنطيقي، كان ذلك لهما كمن ينتحران!
في الصباح، وقع جلادوهما عليهما ميتين.

وجد المظليون أنفسهم والفلاقة وجهًا لوجه في فضاء مفتوح، في لحظة حاسمة من تاريخهم: أهلكوا بالتبادل أنفسهم، وأُعلن الاستقلال في حمام من الدم.










































الدم

كانت الحرية في بدنه، في مخه، في دمه.
شارل بيغي

لا يوجد دم في أكثر روايات قطاع الطرق عنفًا أكثر مما هو عليه في أوريستي أو في الملك أوديب: لكن للدم فيهما غير الدلالة ذاتها.
أندريه مالرو

ليس مظهر الدم ناعمًا إلا في نظرة الأشرار.
فكتور هيغو


كانت برج بوعريريج تبدو كالخارجة من حلم مفزع: الأشجار محطمة، والسيارات منقلبة، والشوارع مهجورة. بعد ليلة من الأرياح العاصفة والأمطار العارمة، آثر الناس البقاء في بيوتهم. عاصفة كهذه، لم يروا في حياتهم أبدًا! ومع ذلك، كان الدخول في أبرد الفصول الأربعة لما يبدأ بعد.
وقوفًا من وراء النافذة، كانت صليحة ترمي نظرة خائفة وآسفة على الكارثة التي ألحقتها الطبيعة بالمدينة الصغيرة. كانت تنظر، وهي تتردد في الخروج: كانت مهمومة ومقدامة رغم كل شيء. في تلك الوقفة، كانت تحيط وجهها بضع خصلات من شعرها الشائب، وجهها المنحني قليلاً إلى الأمام، وكانت أنفاسها تشكل على الزجاج آثارًا من الغبش لا تلبث أن تمسحها. وأكثر ما كان يثير انتباهها – رغم الأماكن المحفرة هنا وهناك – ما يبدو على شارع البلدية من لون داكن، فالمطر الغزير قد غسل الغبار، وجعل سواد الإسفلت أكثر سوادًا، والبرد والسواد مظهران مهمان لحياتها. فكرت صليحة: سيكون الشتاء قاسيًا هذا العام! وشدت وشاح الصوف حول عنقها. كان عليها أن تذهب بحفيدها مولود إلى المدرسة، ولكن مع كل هذه الأضرار! ألقت نظرة إلى الحجرة الضيقة، ورأت أنه لم يزل يغط في نومه. كان يشخر كالشيخ الأدرد، حتى عاصفة الليلة الفائتة لم تزعجه أقل إزعاج! ابتسمت. كان ذلك أقوى منها. قالت لنفسها: مولود لم يزل صغيرًا، العاصفة له ضربة ريح لا أكثر، لكنه سيكبر يومًا، وسيعرف ما هو غضب الآلهة! كان الصبي في العاشرة من عمره. تأملته، وهو ينام، دون أن تستشيط غيظًا من ذلك الكسل الطفولي الذي يسيطر عليه كل صباح، وقالت لنفسها: يجهد نفسه أكثر من اللازم في اللعب، مولودي الصغير! لهذا كان ينام ما أن يضع رأسه على المخدة، ولا ينهض إلا دقائق قليلة قبل الذهاب إلى المدرسة. كان على عكس أخيه محمد، مساعد الخباز، الذي كان ينهض باكرًا رغم سنيه الخمس عشرة، قبل أن يغني الديك! ربما كان دافع ذلك الخوف من تهديدات معلمه العجوز الفرنسي واللسان السليط لزوجه. أعادت صليحة: على أي حال، لا نستطيع مقارنة صبي من معدنه بمولودي الصغير، حفيدي الصغير الغالي! لقد جرؤ محمد على الاستخفاف بالعاصفة، وذهب إلى العمل في ساعة مبكرة جدًا على عادته!
بدأ بعض المشاة بالمرور، وبعض السيارات بالعبور. أرادت صليحة أن توقظ مولود لتترك لديه الوقت الكافي لغسل وجهه وارتداء ثيابه وشرب كأس الحليب الذي تعده له كل صباح. كان يحتاج كل هذا إلى كثير الوقت، وإذا لم ينهض حالاً، وصل إلى مدرسته متأخرًا، هذا إذا ما كانت هناك مدرسة. لكنها أشفقت عليه، وتركته يرتاح قليلاً على كثير، حتى ينهض وحده.
ومن جديد، عادت إلى النافذة. توقفت سيارة رونو8 مقابل مقهى "الطلياني". نزل منها شاب وشابة فرنسيان يرتديان معطفين من الفرو، ودخلا المقهى على عجلة. كانا يبتسمان لبعضهما رغم كل ما لحق بالمدينة الصغيرة ليلة البارحة. صعدت الشارع جرافة يتبعها رجال البلدية لفتحه وتنظيفه. كان جامع القمامة الجزائري الذي من العادة أن يكنس الأرصفة هناك. لم يتأخر شاب وشابة معطفي الفرو عن الخروج من المقهى متأبطي الذراعين، بينما جامع القمامة، الذي يمكن أن يكون في الخمسين أو الخامسة والخمسين من عمره، يلاحقهما بعينيه، ويتنهد، معتمدًا على عصا مكنسته الطويلة، ثم ما لبث أن باشر عمله، وهو يبدو غائبًا بعض الشيء، رغم الضجيج المحيط به. كان شارباه يهتزان بعصبية مع كل دفعة من عصا المكنسة، وكانت أنفاسه تتحول إلى بخار. حينما رفع رأسه باتجاه صليحة، لاح عليه الضياع، فأشفقت عليه: كم هو بائس، موسيو مكنسة! ظل ينظر إليها لبعض الوقت، ثم مسح ظاهر يده على مشمعه الأصفر، وقطع الشارع إلى الرصيف الآخر.
فكرت صليحة، وهي تتذكر كيف نظر إلى شاب وشابة معطفي الفرو: يتعذب! ربما قتلوا له ولدًا في الجبل، لديه من العمر مثلهما! عادت إليها الذكرى الأليمة لولدها القتيل: لكن ولدي لم يمت بالفعل، فهو قد ترك لي جزءًا منه، حفيديّ. رجعت قرب مولود، وضعت رأسها قرب رأس الطفل، وراحت تتأمله بروية محاولة حبس دمعها. لقد ترك ابني لي ثروة من ورائه! كانت تفكر في ولديه، كانت روابط الدم لديها أقوى من كل شيء. وبينما هي تنظر إلى مولود، وهو ينام نومًا عميقًا، كانت جراح قلبها تنفتح. لقد ترك ابني لي ثروة من ورائه، ثروة كبيرة! شرد بها الفكر، فقالت: هو طفل اليوم، وغدًا لسوف يكبر! لقد كبر أخوه قبل كل خلانه، وها هو يكسب رزقه بعرق جبينه! كل مساء، كان محمد يأتيها بحفنة من النقود وبرغيف ضخم من "خبز العرب".
أطلقت صليحة نفسًا مديدًا، ورغبت في قرص خد الصغير مولود، في حصد القمح الأسود، لكنها منعت نفسها، رغم أنها اقتربت بأصابعها من رأس الصغير. هو في سابع سماء، يرتع مع الغزلان! قالت لنفسها قبل أن تنهض لتذهب إلى زاوية علقت فيها بعض أواني الألمنيوم، وكذلك كان الدلو هناك. ملأته بالماء، وعقدت العزم على غسل درج البناية قبل أن تذهب بالولد إلى المدرسة. كان ذلك عملها. كانت تغسل كل صباح درج بنايتها، وفي المساء، تخرج القمامة مقابل مبلغ زهيد من النقود. من أجل أن أشتري حليب مولود، ولدي الصغير، همست صليحة. كان ذلك سعادتها، كأس الحليب الذي تستطيع شراءه لحفيدها. وعلى عكس محمد، لم تكن تشكو من شيء. كان ذلك من طبيعتها. هو، لم يكن راضيًا عن حاله، لكن جدته كانت تعرف كيف توقفه في الوقت المناسب. بالنسبة لها، المهنة، حتى ولو كانت مجبرة، تبقى مهنة مشرفة طالما تأتي بما يساعد على العيش. لهذا السبب، وافقت على عمل ما تعمله.
في اليوم الذي دمر فيه العسكر تخشيبتها في حي الجباس، جاءت تطلب مأوى من أصحاب هذه البناية ذات الطوابق الخمسة في شارع البلدية، فاقترح أحدهم – لم تكن تعلم إذا ما كان فرنسيًا أم جزائريًا – أن تسكن في الغرفة الضيقة المجاورة للسطح، فبعد أن مات الكلب بوبي، كانوا بحاجة إلى من يحرسهم. وبعد ذلك، اكتفوا بما تقوم به من تنظيف، فإجراءات العسكر أصبحت مشددة.
أفلت منها دلو الماء الذي كانت تحمله دون أن تفهم كيف أمكن لذلك أن يقع، فأيقظت الضجة مولود الذي هب من نومه مذعورًا صائحًا:
- صليحة، البمبة! البمبة، يا يما! البمبة!
خفت تأخذه بين ذراعيها مرددة:
- بسم الله... بسم الله... بسم الله...!
- البمبة، يا يما! البمبة!
مضت العاصفة دون أن توقظه أما دلو ماء سقط من يدي... أخذت على نفسها خُرْقَها، وأوضحت:
- سقط البيدون من يدي.
دفعها، وراح يفرك عينيه. نظر إلى وجنتي جدته المتهدلتين، وانفجر ضاحكًا، وهو يشد نفسه إليها، فأخذت تدغدغه. انتفض، وأعاد ساخرًا:
- البمبة، يا يما! البمبة!
ألقت الجدة ضحكة هي أيضًا:
- يا لك من شيطان صغير! هذا يسليك، أيها الشادي!
فرقع قبلة على وجنتها، وقفز من السرير باتجاه "العين"، الحنفية. قالت صليحة من ورائه:
- اسمع! كانت هناك عاصفة الليلة الماضية.
استغرب مولود، وهو يستدير:
- عاصفة!
- إلى متى ستبقى هكذا، أيها الكسول؟
تثاءب الولد بفم واسع عن عمد، فتح عينًا، وأغلق أخرى.
- قل لي، إلى متى؟
همهم مولود:
- ما زال الحال، يا صليحة!
أعادت غير راضية:
- ما زال الحال، يا صليحة!
خضخضت رأسها يمنة ويسرة مذكرة بمد الماء وجزره في قارورة، وأضافت:
- كل الأولاد راحوا المسيد، إلاك!
ابتسم.
قالت الجدة وهي تتظاهر بالغضب:
- وتبتسم! ترقد مع الدجاج وتقوم متأخرًا كأبناء البورجوا! المسيد على وشك أن تغلق أبوابها.
ألصق الطفل وجهه على النافذة، ورأى ما فعلت العاصفة بشارعهم:
- لن تفتح المدرسة أبوابها بسبب العاصفة.
- العاصفة مضت في سبيلها، إلى العمل، أيها الكسول!
خللت بأصابعها شعره الأسود، وتأملت طويلاً جبينه الأسمر. لم تكن تتعب من النظر إليه. غرقت في عينيه السوداوين، وقالت لنفسها: لا، لا أريد أن أعرف! كانت تحدق في عيني الطفل، وفي الوقت ذاته لا تريد أن تحزر المستقبل الذي يختفي فيهما. كان أكثر ما يوجعها أن تعرف مصير حفيدها الدفين في الأعماق السوداء لعينيه. لقد بلبلتها مأساة ولدها، مأساة كِنّتها التي ماتت بعد أن وضعت مولود، المأساة اليومية للمقاتلين البسطاء ذوي الأفكار الجنونية عن الحرية. وعندما ابتسم لها من جديد، استضاءت بالأمل: سيكون الوطن قد تحرر.
غسل مولود وجهه، ثم فرك شعره. أحضرت صليحة منشفة نظيفة، وأخذت تجففه، وتنظف له الأذنين. سحب المنشفة صارخًا، فقد آذته جدته.
صاحت الجدة:
- يجب أن تكون نظيفًا، وإلا عشش الدود في أذنيك!
تذمر مولود قليلاً، فسألته صليحة:
- وواجباتك؟ لم أكن هنا قبل ذهابك إلى النوم لأسألك إذا ما قمت بواجباتك.
لم يجبها. صب لنفسه الحليب من البقراج، وراح يجرعه جرعات صغيرة، وهو يستمع إلى جدته على مضض.
- يجب أن تقوم بواجباتك كل يوم، يا مولود، فأنا أريدك متعلمًا لا جاهلاً كجدتك العجوز، هكذا فقط ستكون غنيًا وقويًا.
رد الولد:
- أنا قوي، يا جدتي!
- أعرف. لكن لا فائدة من هذا إذا كنت فقيرًا.
فتح الصبي صندوق الثياب، واختفى بنصفه فيه، ثم سقط في جوفه. رقصت قدمه الصغيرة في الهواء مضحكة الجدة من كل قلبها، ونجح أخيرًا في الخروج من الصندوق، بيد ثيابه النظيفة، وبالأخرى سلاح خشبي.
أمر مولود:
- ارفعي يديك!
فانصاعت صليحة، وهي تعود إلى القهقهة. ولأنها لم تقاومه أقل مقاومة، أخذ في إطلاق الرصاص عليها. لعبت الجدة الطيبة اللعبة، وتظاهرت بالإصابة منطرحة على الفراش. ظلت دون حراك، وصمت غريب جعل الجو ثقيلاً، فسارع الصبي نحو جدته مذعورًا، وبدأ يهزها:
- صليحة! هل أنت بخير، يا يما؟
جذبته بين ذراعيها، وأخذت تعضعضه من خديه، ومن أذنيه، بينما الولد يصرخ من الفرح حتى انقطعت أنفاسه.
قالت بنبرة معاتبة وهي تفلته:
- كيف تجرؤ على قتل جدتك العجوز والتي فقدت كل حيلة؟ لأنك قوي؟ القوة التي تلحق الأذى بالضعفاء لهي قوة جبانة، يا بني! إنها قوة الأنذال والأدنياء!
همهم الصغير مولود:
- أردت فقط اللعب معك.
ألحت صليحة:
- لا، أنت قتلت جدتك.
- كان ذلك لأجل اللعب، أقسم لك، ثم أنت ترين جيدًا أن هذا ليس بسلاح حقيقي.
- هل تعرف، يا مولود...
أصغى إليها بانتباه.
- كان العنيد أبوك قويًا هو أيضًا، كانت له قوة حصانين. هل تعرف كم تعادل قوة حصانين؟ أكثر من قوة عشرة من الرجال الأشداء. لهذا انضم إلى الفلاقة، وعلى كتفه بندقية، بندقية حقيقية لا كهذه، ليقتل هؤلاء...
وأشارت من النافذة إلى دورية عسكرية كانت تقطع الشارع.
- العسكر؟
- نعم، العسكر. لكنهم قتلوه. هل تعرف لماذا؟
حرك الطفل رأسه نافيًا.
- لأن لديهم مدافع وطائرات بفضل العلم وليس بندقية بسيطة وقوة جسدية لحصان أو حصانين، لأن لديهم نقودًا ليعملوا الحرب وليعملوا السلم. لو كان أبوك متعلمًا وغنيًا، لما صرنا إلى ما صرنا إليه.
بدأت تجدل شعرها بعصبية مضيفةً:
- ومع ذلك، هناك من العنيدين آخرون في الجبل، وهم كثيرون، كثيرون جدًا، بكثرة حبات الرمل. مائة بندقية تساوي رشاشة واحدة، لكنهم كثيرون هؤلاء العنيدين من المقاتلين، هؤلاء الشجعان، الأميين كما كانوا دومًا. لهذا ستطول الحرب، وسيسقط الشهداء بالآلاف. دومًا ما كانت هكذا حرب الفقراء ضد الأغنياء.
فكرت صليحة في العنيد ولدها، كما كانت تقول، وقالت لنفسها: لم يكن ذنبه، فهم كانوا يمنعون التعليم عن الجميع. فكرت في محمد. حقًا كان مضطرًا إلى العمل ليسد بعض حاجات العائلة، لكنه لم يضع القدم في المدرسة أبدًا. كان مولود الاستثناء كما كانه بعض أهالي البلد الآخرين. كان يمكنه النجاح، وكانت جدته على استعداد لتعمل كل شيء من أجل أن يذهب إلى أبعد ما يكون في دروسه.
ساعدت صليحة الطفل على ارتداء ملابسه، وهي لم تزل تفكر بعد في محمد:
- اسمعني، يا مولود! أخوك، لم يكن الحظ حليفه، فادرس جيدًا، ولا تدع هذه الفرصة الثمينة تفلت منك!
وفي اللحظة التي وضع فيها ساقه الثانية في سرواله، صرخ الصبي، وانطرح أرضًا، وهو يقبض بعنف على فخذه، ويبكي بكاء قويًا.
سألت الجدة فزعة:
- ماذا جرى لك، يا مولودي الصغير؟
والصغير يتلوى، ويزعق:
- الموسى! الموسى!
ماج الدم بين أصابعه، وبحركة سريعة، خلعت صليحة سرواله، فظهر خط طويل أحمر متعرج يسطر فخذ الطفل.
صاحت، وهي تضغط الجرح بالقوة التي تستطيع عليها:
- يا ربي الرحيم!
ماج الدم بين أصابع الجدة. كان يشتعل، ويلطخ كل شيء. أخذ قلبها ينزف. لم يكن باستطاعتها أن تفعل شيئًا. يا ربي الرحيم! ابتهلت مذهلة أمام موج الدم، وصراخ حفيدها الذي لا يتوقف: يا ربي الرحيم! يا رب الرحمة! كانت كل الجزائر تبتهل، والصغير يصب الدم والدمع، إلى ما لا نهاية، لتواصل الجزائر الابتهال.
قالت صليحة فجأة، وقد عادت إليها ثقتها بنفسها:
- إنه لمن العبث!
كان من اللازم فعل شيء.
نهضت، بخفة فراشة، تناولت علبة القهوة عن رف، ورشت الجرح، ثم ربطته.
قالت صليحة للصغير مولود، وهي تشده بين ذراعيها:
- تعال، أيها الشقيّ! لا تبك! هذا من صنع إبليس! إبليس اللعين كان يريد هلاكك!
أخرجت من جيب البنطال شفرة حلاقة أعماها بريقها للحظة.
- تسير وفي جيبك موسى للحلاقة! هل رأيت ماذا فعلت بنفسك؟
قال الصبي زافرًا:
- وجدتها في الطريق، كنت تحتاجين إليها لقطع الخيوط.
- ولماذا لم تعطني إياها البارحة؟
- عدت متأخرة البارحة.
- هذا صحيح، عدت متأخرة البارحة. وهذا الصباح؟
- نسيتها تمامًا.
- إنه إبليس اللعين الذي جعلك تنساها لتقطع فخذك! انتبه في المرة القادمة، وإياك أن تمس الأدوات الحادة!
ذهبت بعينيها إلى البقعة الحمراء التي راحت تميع وتتراخى، كانت تتسلق نهدي صليحة، وعنقها، وكان الدم يسيل منذ أكثر من قرن وربع القرن في عينيها، لكن أبدًا لم تكن الأرض أكثر تخضبًا منها في تلك اللحظة. أحست بها تخنقها، تضغط على صدرها، وقد جرفها طوفان الدم. ولتنقذ نفسها، كان عليها أن تجذّف، لكنها كانت عجوزًا بما فيه الكفاية. ولتنجو بحياتها، لم تكن لديها سوى وسيلة، وسيلة واحدة: أن تلعق الدم. بدأت بالدم المتجلط على لحم الطفل، واجتاحتها عاصفة من النحيب. راح كلاهما يبكي، ولم يتوقفا قبل أن تيبس عيناهما.

طلبت صليحة من مولود وهما ينزلان الدرج:
- أنت متأكد أن باستطاعتك الذهاب إلى المسيد؟
هز الصبي رأسه بالإيجاب.
- أسمح لك بالقعود في البيت لو شئت. على هذه الساعة، للذهاب إلى المسيد، فات الحال.
ترك مولود يدها لينزل الدرج بسرعة، وهو يظلع قليلاً، دون أن يبالي بما تقول. أوقفته جدته في الخارج، عقدت له برنسه حول عنقه، وغطت رأسه بالقلنسوة، فرفع مولود يده، وبحركة قوية كشف رأسه.
سألت الجدة:
- لماذا تخلعها؟
أجاب الحفيد:
- لأنها خشنة، هذه القلنسوة.
- عليك وضعها لتحتمي من البرد.
- لا أريد.
- بلى.
أعادت وضع القلنسوة موضحة:
- بعد عاصفة الليلة الماضية، برد الحال، كما ترى.
كانت الجرافة قد مهدت كل شيء في شارع البلدية، والتنظيف على وشك أن ينتهي. اقترب جامع القمامة دافعًا صندوق قمامته بيد وبالأخرى مكنسته. كان يرتعش من البرد. ألقت صليحة عليه نظرة سريعة، وقالت لنفسها، وهي ترفع رأسها إلى السماء: برد الحال! وفي السماء غيوم كثيفة واطئة، غيوم جامدة مشلولة، غطاء قطن أسود يلف الكون. قبل أن يصل "موسيو مكنسة" إلى جانبها، غطت نفسها جيدًا بحائكها، وحثت خطاها.
سوف تعد حتى الأربعين، وستسأل بعد ذلك إذا ما كان مولود قد بدل رأيه. لم يكن الذهاب إلى المدرسة اليوم من الأولويات. كان يبدو عليه الألم، كان يسحب قدميه، ولم يزل يظلع بعض الشيء. مرت أمامها دورية العسكر، فعدت أفرادها: سبعة. أمرها رئيسها بالاختفاء بسرعة مستعملاً نبرة كشفرة السكين حادة. تخيلت الجدة العجوز نفسها ذبيحة، مدماة. حثت خطواتها أكثر، لكن خطوات مولود القصيرة المتعثرة جعلتها تبطئ. كانت في رأسها تواصل العد للذهاب حتى الأربعين، وكانت تعد ببطء. وهي تحاذي المكتبة، رأت قبعة حمراء قانية على رأس امرأة تتقدم من الطرف الآخر للشارع، متحدية كل الرؤوس الأخرى، المغطاة منها والعارية. في الماضي، كانت صليحة تعبد كل ما هو أحمر، وعلى الخصوص الورد الأحمر الفاقع. في الوقت الحاضر، أصبح الأحمر يهيجها. كان يذكرها بالجراح التي تلتهمها. مضت القبعة الحمراء بيسارها، فأشاحت بوجهها عنها إلى الناحية الأخرى، متجاهلة جمال تلك المرأة الفرنسية ذات الشعر الأشقر. لم تصل في عدها بعد إلى الأربعين. أوقفها شرطي المرور بحركة آمرة من يده، فتأملت بزته الزرقاء وقفازه الأبيض، وسمعت حوارًا يدور بين اثنين:
- هل ستتم الصفقة أم ليس بعد؟
- ليس بعد.
- تقول ليس بعد!
- لنقل في طريق الإتمام.
- في طريق الإتمام!
- لنقل لم تبق سوى بعض التفاصيل التي يراد معالجتها.
استدارت صليحة عفويًا، ووقعت على الرجلين. كانا صغيرين وسمينين وبشعين. رمياها والصغير بنظرات شنيعة، فتجاهلتهما صليحة. انتظرت من الشرطي أن يسمح لها بالعبور كي تبتعد عنهما أكثر ما يكون الابتعاد. كانت تجدهما كريهين للغاية.
استمر الأول:
- هذا وقتها، وإلا سيضطر شركاؤنا إلى التعامل مع منافسينا.
تابع الثاني:
- لا تخش شيئًا! ستتم الصفقة اليوم لو يلزم.
أشار الشرطي إليهم بالعبور، فاستدارت صليحة للمرة الثانية، لكن الرجلين كانا قد اختفيا.
الصفقة!
لم تفهم الجدة الطيبة شيئًا. كانت قد نسيت الرقم الذي وصلت إليه بإصغائها إلى ما يقوله الغريبان. عادت إلى العد منذ البداية، وبضع لحظات فيما بعد، أوقفت العدو مع الأعداد. تابعت بعينيها قفة على رأس امرأة، كتاجٍ كانت القفة لمظهرها الملكي. ترددت صليحة: هذه من ميجانا أو ربما من برج الغدير. كانت نساء هاتين القريتين يعتبرن أنفسهن ملكات. أرادت الجدة أن تتأكد من حدسها، فحثت خطاها حتى وصلت قربها، وسارت مسافة لا بأس بها إلى جانبها، إلا أنها آثرت الصمت. ربما هذه المرأة الآتية لست أدري من أية مملكة تحمل في قفتها دجاجة مشوية وتحتها تخبئ قنبلة حِرَفية. في إحدى المرات، لتوصل بعض الوثائق إلى ولدها، حشت صليحة دجاجة بالرز وبهذه الوثائق الهامة، فطار الابن الثوري من الفرح. ضحك كالطفل، وشد أصابعها طويلاً بين أصابعه. في اليوم التالي، أخبروا صليحة أن فريقًا من العسكر هوجم من طرف المجاهدين، وعلى أثر ذلك، استطاعوا الحصول على كمية وافرة من الأسلحة والذخيرة.

نادت صليحة:
- يا عمي الصغير!
كان عساس المدرسة الخاصة بأهالي البلد الأصليين، المسيد، يتحدث مع الرجلين اللذين تكلما عن تلك "الصفقة" الغريبة. لم تقف صليحة على العلاقة بعمي الصغير. تخلص عمي الصغير من الغريبين بسرعة، وغاص برأسه في شاشيته حتى أذنيه متقدمًا من العجوز. كانت عيناه تقدحان شررًا، فعمي الصغير، لم يكن أبدًا مسرورًا، واليوم كان يومه الأسوأ. لكنه بدلاً من الذهاب ليرى ما كانت تريده صليحة، فتح بوابة المدرسة، دخل، وعاد يغلقها دون أن يترك مولود يمر من ورائه.
قالت الجدة وكلها دهشة:
- ولكن افتح، يا عمي الصغير!
وعلى العكس، تأكد من إغلاق المزلاج، ورمى الجدة الطيبة بنظرة تحد. لم تكن تُقرأ على وجهه المحروث بالتجاعيد أقل طيبة. كان له خدان غائران، وعينا صقر.
أعادت صليحة:
- ولكن افتح، يا عمي الصغير!
رد العساس:
- لن أفتح. الكل في الأقسام رغم العاصفة الضخمة التي خربت البلد. فات الحال على وليدك!
- افهم، يا عمي الصغير! ذبح وليدي بالموسى فخذه، وإلا حضر قبل الجميع.
أعاد العساس ساخرًا:
- قبل الجميع! الذهاب إلى المسيد واجب على أحفادنا، واجب مقدس عليهم القيام به حتى النهاية.
- وأنت تتحدث مع الشخصين البشعين والمجهولين في الوقت الذي يجب أن تكون فيه في مكانك كجندي، هل هو الواجب الذي تقوم به حتى النهاية؟
عالج عمي الصغير بيده المزلاج بسرعة، وانسابت البوابة على مصراعيها، وهي تصر. قال للطفل على مضض:
- فترة الاستراحة بعد قليل، ولكن ادخل.
ثم لصليحة:
- أنت من تريدين ذلك.
جذب مولود من ذراعه، وطرق البوابة في وجه صليحة دَهِشة بعض الشيء من التغير المفاجئ في سلوك العساس:
- رد بالك على الولد، ربي يديمك!
أعطاها ظهره، وهو يدفع مولود أمامه بقسوة. زلقت الشاشية على جبهته، وسقطت على عينيه، بينما صليحة تصيح من ورائه:
- استحفط به، ربي يخليك!
أخفتهما الأعمدة عنها، فتمنت لو تنهار تلك الأعمدة، لو تكلفت العاصفة بها! انقبض قلبها، فالفكرة كانت رهيبة. غاب الصبي والعساس في ممر طويل. ترددت صليحة قليلاً، ثم بصقت: يا ابن الكلب، يا عمي الصغير! لم يكن يُقرأ على وجه الحارس سوى اللؤم. على الأقل هكذا كانت تراه. التفتت حولها وكأنها تبحث عن وجوه أقل عداءً وأكثر تسامحًا. كانت مجموعة من الأولاد الفرنسيين تلعب الكرة قرب بعض الأشجار المقتلعة من جذورها، وكان طفلان جزائريان رثا الثياب ينظران إلى الأولاد بوجل. فكرت صليحة: إنهم لا يلعبون كالآخرين، أطفالنا! فرك أحدهما يديه من فعل البرودة، وحطم الآخر بقدمه الطين المتجمد. عادت صليحة تفكر في العساس: يا ابن الكلب، يا عمي الصغير! ما أنت سوى حركي يختبئ تحت جلابتك! نقلت قدمها، والتفتت لتلقي نظرة أخيرة بين الأعمدة، ثم قررت في النهاية الذهاب إلى السوق.

غير بعيد من السوق، أبطأت صليحة: حلقة، عمائم بيضاء، شاشيات، عمائم حمراء، وأخرى سوداء، عمائم قذرة، برانس تتكدس بأصحابها كأكياس الدقيق.
أثارت انتباهها هذه الكلمات الخاصة بالسجل المقدس:
- الصلاة والسلام على سيدنا محمد!
غرقت صليحة في بحر من الهمهمات القادمة من قاع التاريخ، المعيدة لهذه الكلمات ذات العطر الطقسي. وبدورها، دخلت في الحلقة، وهي تدفع الآخرين لتجعل لها مكانًا. كانت للمشاهدين أكتاف عريضة، شديدة. عندما لم تتمكن من شق ممر لها ما بينها، عرفت أية قوة كانوا يقدرون عليها، لكنها قوة متوقفة على مدى ما يدور في وسط الحلقة. أرادت أن تفهم، أن تقترب أكثر ما يمكن من "صاحب الكلمات"، لتتابع كل ما يجري بوضوح، ولتتمكن من رؤية كل شيء بالتفصيل.
سمعت هذه الكلمات:
- الإيمان، التوبة، الرحمة!
كانت تواصل اختراق جدار البشر عندما تجلى لها "صاحب الكلمات" فجأة. كان يردد من بين شفتين متوترتين:
- الرحمة، الرحمة، الرحمة!
صرفت صليحة بأسنانها، وهي تفكر: بالأحرى الشجاعة والمثابرة، أيها الغبي! عندما رأت الرجل الواعظ للناس والمتلاعب بالكلمات والأرواح، غدا لها مظهر من عاد إلى الصواب. لاحظت والخيبة سيدتها أنه كان بشعًا، بشعًا كما لم يكن أحد، لا علاقة له بالجمال الرباني، لا من قريب أو بعيد. كان طويل الشعر، أجعده، انطلق كالسهام في كل الاتجاهات، وكان عظمي الوجه، بلحية كثة، أسنانه مذهبة كلها. كان يرتدي سروال عرب فضفاضًا، وقميصًا مطرزًا، ملوثًا. بيد ينقل عمامة، وبالأخرى يستل سيفًا.
على حين غرة، أخذ الرجل يقفز، ويدور حول نفسه، وهو يلوح بسيفه، وشيخ قذر يضرب بعصا على طبل. جمد المشعبذ، وبدأ يحدق في الناس واحدًا واحدًا. كانت شفتاه تتوتران أكثر فأكثر، على إيقاع الطبل الذي هاج اهتياجًا. اجتاح الاهتزاز كل جسده، وأخذت عضلاته تتوتر واحدة واحدة، يداه، قدماه. دخل في حالة غريبة من الارتعاد، وأخذ المشاهدون يحسون بذلك الانخطاف، ففقدوا صورتهم، وضاعوا في صورته. كان كل واحد يبحث عن اختراق ما لا يخترق، عن كشف لغز المستقبل. وكان من طبيعة صليحة أن تتحاشى كل اتصال بلغز الحياة، ومنذ موت ابنها، بالمجهول. قالت لنفسها غير مصدقة: ما هو سوى دجال! ما هو سوى خداع! فإذا به يصرخ:
- الصبر!
وفي رأس صليحة كان الصدى: نفاد الصبر... نفاد الصبر... أوقف المشعبذ الطبل بحركة مباغتة من يده، وهو يبدو فريسة أقصى هذيان. كان الاستهلال قد انتهى، وكان المشاهدون جاهزين لما يلي. مزق قميصه ليروا كلهم عظام قفصه الناتئة. كان الرجل سجين جسده، وكان يريد التحرر، وفي الوقت ذاته تمزيق حجاب دهشتهم بإظهار أن كائنًا ضعيفًا مثله كان قادرًا على إنجاز فعل من أخطر الأفعال، من العادة ما يكون من شأن الجبابرة. لم يعد الأمر أمر قوة يراد امتلاكها أو ضعف يراد التخلي عنه، لا ولم يعد الأمر أمر الشَّطَح والافتتان، كان يرمي إلى أن يبرهن لكل أولئك الرعاع على أن لا شيء محال والإرادة بفضل السحر. وكان يرمي كذلك إلى إدهاش أولئك السوقة الذين لا يفكرون في تلك الأزمان إلا في ملء البطن والجماع. وليصل إلى عمق روحهم، كان يريد إثارة الدهشة، ذلك التعجب الطفولي الضائع مع مر الأيام. لم يكن الناس يدركون حتى تلك اللحظة هدف بطل الحلقة، كانوا ينظرون إليه، وهم يفكرون أنه لن يدخر شيئًا في سبيل تسليتهم. كلهم ما عدا صليحة، التي فهمت عبث طموحه. كانت الوحيدة التي فكرت أن هذا المجنون سيقطع عروقه كي يفرض نفسه على أولئك المتشردين. رمى المشعبذ عمامته في الهواء، ثم ضرب بسيفه، بكل قواه، حجرًا ضخمًا كان موضوعًا هناك، دون أن يتوصل إلى شقه نصفين. تكسرت الشفرة، وابتسم المشاهدون بهبل. لم يكن رجلهم يمكنه تسليتهم بالفعل. وهو يلاحظ فشله، أخذ الساحر نصل السيف بين يديه المرتجفتين. وضعه على أعلى صدره، وراح به ببطء، بكل بطء، إلى أسفل، حافرًا الطريق إلى الخلود.
تفجر الدم، وصاح الناس من المتعة. كان على المجنون أن يخفف الإيقاع على طريق الدم والسر الخفيّ تلك، فجرح نفسه بشكل أعمق جارحًا النظر إليه. ومع ذلك، لم يكن فعل مجنون كهذا ليدهش الحضور. كان يسليهم. والآن عزم المشعبذ عزم المريد على أن يكسب الجزء الثاني من تلك اللعبة الخطرة.
منذعرة وليست مندهشة، أخذت صليحة تصرخ:
- هذا المهبول، سيذبح لأجلكم نفسه!
لكن الناس بقوا سلبيين، كانوا يتابعون بعيونهم النصل الدموي برعب وسعادة معًا. هل كان ينتحر أم ينقذ روحه؟ لم يكن الأمر هامًا. في النهاية، كان ما يهم أكثر ما يهم روحهم وجسدهم. وكم كانوا أنانيين!
أعادت صليحة:
- هذه ليست لعبة، افعلوا شيئًا، يا أبناء الكلاب!
تدفق الدم برعونة، ولم يحرك أحدهم ساكنًا. انفجرت صليحة تبكي، فأمرها جارها:
- اخرسي، يا العجوز!
لم يكونوا يحتملون أن يزعج متعتهم القاتلة القتيلة أحد.
قال ثان:
- اذهبي إلى البكاء في مكان آخر، يا المضجرة!
وقال ثالث:
- هلا كففت عن التهمع، يا المتباكية!
- ها هو يذبح نفسه، المسكين، ليدهشكم، لا ليمتعكم، وأنتم لا تفعلون شيئًا!
- اتركيه وشأنه!
- اتركينا وشأننا!
- يا المضجرة!
- يا المضجرة!
لم تكن إلا بعض ردود فعل عابرة ضد احتجاج شخص كان يعتقد بكونه مختلفًا عنهم بينما كان في الحلقة هو أيضًا، الحلقة التي بنوها بأجسادهم، حلقتهم، وقيدهم. ترك المشاهدون رؤوسهم تنحني إلى الأمام، في حال من العبادة الكاذبة، لأن نصل السيف المنكسر يواصل طريقه بإصرار نحو سرة المجنون ليلثمها أو ليلهبها. غطس المشعبذ بنصله المتوتر في لطخة الدم، ومن أعماق حلقه، أطلق صرخة حرة، متحررة. عاد الشيخ القذر إلى الضرب على طبله، بأكثر فأكثر قوة. على سماعه، كان المرء يظن نفسه وسط قبيلة أفريقية تحتفل بانتصارها بعد معركة حاسمة. بدأ الرجل صاحب السر يتلوى، يتلوى ويتلوى، بينما كل أولئك التافهين يصرخون هورّاه، مرحى! وهم يبدون متعتهم الغبية وفرحهم العابث. راح "انتصار" الطبل في صدى. فشل الرجل للمرة الثانية. لم يعد باستطاعة صليحة متابعة العرض. خرجت من الحلقة كما دخلت، وهي تتدافع، وابتعدت متكردحة بينما يصيح الباعة كلهم بأعلى أصواتهم: ثلاثمائة فرنك التفاح، مائتا فرنك الطماطم، مائتا وخمسون فرنك البازيلاء، مائة فرنك البطاطا... تركت صليحة السوق بعيدًا من ورائها.

- صليحة! يما!
استدارت ناحية الصوت القريب إلى قلبها، وغضون فمها لم تزل ترتجف. كان حفيدها محمد يركب الدراجة الدافعة لصندوق الخبز. سأل صليحة:
- ما لك؟ ماذا جرى لك؟
- لا شيء. كنت أريد فقط الهرب من دم الدجال المصبوب هناك.
- دم من؟
- الدجال.
- هناك دجال قتيل الفرنسيين؟
- قتيل نفسه تريد القول.
- قتيل من؟
- قلت لك قتيل نفسه. ذبح نفسه من فوق إلى تحت!
- ذبح نفسه من فوق إلى...
- دعك من هذا، يا صغيري موح.
- كما تحبين.
- وأنت، إلى أين أنت ذاهب هكذا؟ لا عمل لك اليوم؟
- ماذا أنا فاعل برأيك؟ أنا أعمل! أسلم الخبز إلى من طلبه من الناس .
- هل ستمر بالسوق؟
- السوق وراءنا، لقد عبرته منذ قليل.
أدار محمد الدراجة، فتقدمت بصندوق الخبز عدة أمتار.
- إذن رأيت الدجال، الرجل المجنون الذي فتح صدره بنصل سيف مكسور إلى نصفه ولكنه كبير هكذا!
أجاب محمد وهو يتوقف ويستدير نحوها بابتسامة واسعة:
- لا، لم أره. كان ذلك ليسلي الناس؟
- لا، ليدهشهم.
- ولكن من المهول إدهاش الناس بالدم ثمنًا!
- ليس من المهول إلى هذا الحد عندما يكون دمًا دنسًا.
- على كل حال، ما كل هذا سوى وهم.
- وهم، الدم الذي أساله هذا المعتوه أمام الجميع؟
- لم تكن هناك قطرة دم واحدة. صناع الوهم يعرفون جيدًا كيف يتلاعبون بجمهورهم، ظمأى السحر والغرابة هؤلاء، مؤمنو كل المواخير الإلهية هؤلاء، وخاصة عندما تسوء الأمور، والأمور في هذه الأزمان الأخيرة أسوأ من كل شيء.
- أنت لا تتكلم عن عاصفة البارحة.
- هذه العاصفة لا شيء إلى جانب الأخرى الدائرة منذ سنين والمزلزلة للبلد من شرقه إلى غربه.
عاد إلى إدارة الدراجة لما نادته صليحة فجأة:
- محمد!
توقف، والابتسامة دومًا على شفتيه. كان يزعجها أن تراه مبتسمًا على الدوام، ويغيظها أن يستهين هكذا بكل الأضرار التي سببتها العاصفة، ومع ذلك لا يمكن للمرء أن يتجاهل وجودها، وكان أيضًا يحيرها أن يعتبر الدم الذي سكبه المجنون وهمًا. ومع ذلك، كان الدم الأحمر ذاته الذي أضاعه أبوه، وهو يموت من جراحه. انقبض قلب الجدة، واكتفت بقول:
- لا شيء!
- روحي للدار، سأحضر خبزًا ساخنًا هذا المساء.
تابعته بعينيها حتى اختفى. فكرت الجدة الطيبة: سأعود إلى البيت، سأنظف درج العمارة، ولن أفكر في الرجل الفاسد في عقله الذي جذم نفسه ليدهش الناس! لكن عددًا لا يحصى من اللطخات كانت تواصل الطفو أمام عينيها. كانت ترى كل شيء أحمر، الأشياء كالعباد. كانت ترى في الناس الذين تلتقيهم خرافًا ذبيحة، وكان ذلك يضنيها. لم يكونوا الرعاع ذاتهم بما أنها تحاشت الرجوع من الطريق القاطعة للسوق، ومع ذلك، كان لبعض العابرين مظهر من يعيش في كوكب آخر، دون عاصفة طبيعية أو سياسية، دون بحر من الدم الصافي أو الملوث. كانوا مسرورين من أنفسهم! كانوا كلهم واحدًا في نهاية الأمر: قذرين! كان يمكنهم إيقاف هذا المجنون منذ اللحظة الأولى من تمثيليته المزعومة، ولم يفعلوا شيئًا. مضت في رأسها فكرة: أن تبدي للعالم أجمع غضبها، قرفها، رفضها. كانت تريد أن تبدي للآخرين نظرة الدم والأمل اليائس.

وضعت دلوها على أعلى درجة. كالعادة، كانت تغسل الدرج من أعلى إلى أسفل. فكرت صليحة: للصعود إلى القمة، يجب أخذ الطريق الأكثر نظافة! لكن متى سيتحقق ذلك؟ كل شيء يتوقف على ما تبذله من جهد وطاقة. ربما احتاجها ذلك إلى ساعة واحدة أو إلى حياة بطولها.
وهي في الطابق الثالث، انفتح باب في الطابق الأخير، وتبعت ذلك كلمات حادة لامرأة فرنسية ضد الجدة العجوز، وللتعبير عن عدم رضاها بأكثر الوسائل الملموسة، دلقت ماء غسيلها الوسخ على الدرجات التي تم حكها. ثم، جرؤت المرأة القاسية على القول قبل أن تطرق بابها:
- آه! يا للقذارة!
وصل المائع الصابوني حتى قدمي صليحة التي أطلقت تأوهة عميقة. عادت تحمل دلوها وممسحتها، وصعدت إلى الطابق الخامس لتنظف قذارة الفرنسية.
"الصبر!" مجنون كل شياطين الأرض هذا كان يعرف إذن مغزى هذه الكلمة، وفهمت الدافع الأول الذي كان قد دفعه إلى تفجير دمه. لكنه لم يأتها بأي جديد: كانت صليحة تعرف الصبر منذ مولدها.
عندما عادت إلى عملها في الطابق الثالث، فتحت الفرنسية بابها من جديد، فانتفضت صليحة، وفي عروقها عاصفة تهب. ومع ذلك، تمالكت، وسمعت المرأة الشريرة تقول: آه! يا للقذارة! قبل أن تدحرج دلو ماء وسخ آخر هذه المرة على رأس الجدة الطيبة، والذي تفادته بفارق ضئيل. وانطرق الباب!
هذه المرة، لم تقل صليحة "الصبر" لنفسها، لم يكن ذلك ما تحتاج إليه. ربما كانت الرحمة؟ رفعت رأسها إلى السماء، وتعثرت نظرتها بالسقف. صعدت درج البؤس والعذاب ببطء ولكن بتصميم وعزم: كانت صليحة والمثابرة توأمين منذ وقت طويل.
أمام باب الفرنسية اللئيمة، ترددت الجدة الطيبة. كانت تريد طرق الباب، وحالما تفتحه الأخرى، أن تجذبها من شعرها لتقذفها من أعلى الدرج إلى حيث كانت تقذف ماء الغسيل القذر ماءها. قالت لنفسها: ليس هذا من عين العقل، فهم سيرمونني في الحبس، وسيحرمونني من حفيديّ، من صغيريّ اللذين لم يزالا تحت مسئوليتي.
عادت صليحة إلى النزول إلى الطابق الثالث، لكن ها هي الأخرى تفتح بابها من جديد. رفعت صليحة إليها رأسًا ساخطًا، وصاحت:
- ها أنا أحذرك، إذا ألقيت بقذارتك على رأسي، صعدت، وألقيت بك في الفراغ!
لكنها قبل أن تنهي جملتها، أغرقها الماء الوسخ من الرأس إلى القدمين.
والأخرى:
- آه! يا للقذارة!
صعدت صليحة الدرج أربع أربع ببأس فتاة في الثامنة عشرة من العمر، وهي تصب وابلاً من الشتائم الفظيعة. ستقصم لها العنق هذه المرة، وستلقي بها في الهاوية. وتحولت في كيانها علاقتها بالدم، بالموت، وحتى بالحياة، إلى رغبة واحدة: رمي هذه الشيطانة من أعلى الدرج، وهدم قوس النصر على رأسها.
طرطقت على بابها صائحة:
- افتحي! هيا، افتحي!
فجأة، دوى صوت مولود المذعور في فضاء الدرج:
- صليحة! يما! تعالي بسرعة! هناك بمبة في القسم!
ظنتها واحدة من دعاباته:
- كالبمبة التي انفجرت هذا الصياح قرب سريرك، أليس كذلك، يا صغيري مولود؟
ومولود يصعد الدرج بأقصى سرعة ليجرها من ثوبها الطويل المبلل:
- أقسم لك، يا صليحة! أقسم لك ، يا يما!
جذبها صمت هائل بين أنيابه، وقرأت في عيني الطفل حقيقة ما كان يقوله. رأت فيهما الطفولة كلها، وهي تصرخ "النجدة!"، فاندفعت بجديلتيها المفكوكتين، وقدميها الحافيتين، بجنون سهم لا تستطيع أن تعرف سره إلا مجنونة مثلها.

كانت الجدة الطيبة تقول لنفسها: سيقتلون أطفالنا، هذه المخلوقات البريئة! هبطت الطريق جارية، وتبعها جامع القمامة الذي حطم مكنسته واقتلع مجموعة من الرجال من لعبة الدومينو في مقهى الطلياني، وهؤلاء نادوا على أولئك، وكلهم راحوا يجرون من وراء حاملة الراية: صليحة الشجاعة!
يريدون قتل صغارنا في المسيد!
هذه الكلمات الجسيمة، الحانقة، المحنقة، كانت تمضي من فم إلى فم، صليحة على رأس الموكب، وكلهم من ورائها. كان مولود يتعلق بثوبها، ويقفز مرحًا ناسيًا جرح فخذه. وصل محمد من الاتجاه المعاكس، على عربة الخبز، ولما وقع على جدته صاح يسألها:
- ماذا هنالك، يا صليحة؟
أجابه الجمع مكانها:
- يريدون قتل صغارنا!
- يريدون قتل البراءة!
وجرف محمد فيض المتمردين.
في السوق، ترك الباعة بسطات بضائعهم لمن يريد من أجل اللحاق بالموكب. كان المشعبذ لم يزل هناك، في وسط الحلقة، وكانت عدة جروح مفتوحة تخطط صدره، تهبط كلها نحو سرته لتلثمها، لتلهبها. كانت سرته تتقد، وكان الدم قد جف من حولها راسمًا شيئًا كنجمة البحر الميت. كان نصل السيف المنكسر يحفر دومًا، دون أن يمكن للمجنون أن يحقق هدفه: إدهاش كل رعاع الخراء هؤلاء لا تسليتهم.
فجأة، دوت صيحة:
- فلتحي الثورة!
كان صوت صليحة، صوت أكثر سحرًا من أصوات كل السحرة في العالم. نجحت في النهاية صيحتها الحادة المضافة إلى برق آخر قطرة دم سكبها المجنون في إثارة الدهشة المنشودة. كان الساحر بحاجة إلى عنصر خارجي لضمان نجاحه. بدأ المشاهدون بالتفرق والذوبان في نهر الغضب:
- فلتحي الثورة!
- فليسقط الخونة!
- والإس آه إس!
- فلنحم أطفالنا!
- فلننقذ أحلامنا!
كانوا دهشين من أنفسهم، كانوا فخورين بأنفسهم، وكانوا عازمين. في الأوقات العصيبة، عندما يهدد الموت، ويكون الأطفال هم الهدف، في قلب الشعب تولد العظمة. عظمة باهرة. كانت تلك حقيقتهم. كانوا يحملونها في الخاصرة، ويثبتون أنهم كانوا على خطأ. رجل مجنون فقط، رجل عنيد، ضريّ، مشاكس، كان يمكنه أن يعرف ما كان يختفي خلف بشاعتهم وجهلهم. وبالمقابل، لم ينتبه أحد منهم إلى الغيم القادم من الغرب، غيم ضخم أسود، غيم أسود، أسود كالفحم.
- فليسقط الخونة... والإس آه إس...
حطموا بوابة المدرسة، وتدفقوا إلى الداخل كبحر هائج. وجدوا في قسم الصغير مولود سلكًا أخفته يد نزقة وراء الصور المعلقة على الحائط، تم وصله بلفيفة من أصابع ديناميت خبئت في الخزانة. وفي الطرف الآخر من السلك صاعق وضع في حجرة العساس. كان عمي الصغير قد اختفى، بعد أن تفاجأ وارتعب، دون أن يشغل الجهاز الرهيب، ولم تتم "الصفقة".
سأل جامع القمامة المعلم وهو يأخذه من خناقه ويشير بإصبعه إلى الصغير مولود:
- لماذا لم تسمع للطفل؟
تلعثم المعلم:
- لم يقل لي شيئًا.
أكد مولود:
- بلى، قلت له لمرات ثلاث، لكنه لم يشأ السماع لي.
- أقسم أنه لم...
صاح أحدهم من طرف:
- فلنقتله!
صاح ثان من طرف آخر:
- نعم، فلنرجمه!
زايد ثالث:
- فلنفجر دمه!
أرعدت امرأة:
- نعم، فلنفجر دمه!
تلقى المعلم ضربات من كل جانب، ضربات أياد، وضربات أقدام، وضربات عصيّ.
- فلنكسر عظمه!
كسروا عظمه، وفجروا دمه. فجروه من الرأس، ومن الجبهة، ومن الأنف، ومن الأضلاع، ومن البطن، ومن الفخذين، ومن القدمين، ومن كل الجسد، ومزقوه طولاً وعرضًا. قطعوه إربًا. كان المذنب الحقيقي قد اختفى، فليدفع الثمن. كان يلزمهم مذنبٌ. كان قانون الذين يأخذون للمرة الأولى مصيرهم بأيديهم، الذين يرفعون للمرة الأولى رؤوسهم منذ قرون، الذين يغامرون للمرة الأولى على غير هدى منذ أحوال. كانت لهم المرة الأولى مذ أخذت الجزائر شكل قدم سوداء ضخمة. هكذا فقط كانوا يحسون بأنفسهم أقوياء، لدرجة لم يعد فيها يمكن ماضيهم الرهيب أن يرهقهم.
أرادت صليحة منعهم من الإنهاء على المعلم، وتحويل غضبهم، فصاحت:
- إلى البلدية!
أعاد جامع القمامة:
- إلى البلدية!
وكذلك محمد:
- إلى البلدية!
- إلى البلدية!
- إلى البلدية!
لم تعد تميز صليحة بين تلك الأصوات الساخطة صوت حفيدها: كان لهم كلهم الصوت الشجي نفسه، وكأنهم كانوا يغنون! إلى البلدية... إلى البلدية... إلى البلدية... فكرت صليحة: للذهاب إلى الجنة، يجب عبور هذه الطريق المؤدية إلى البلدية!
كان الجمع يعظم كلما كانوا يقتربون من البلدية. قالت صليحة لنفسها وهي تسير بعزم وبعض الخوف: سيصلون بعد قليل، سينزعون العلم الثلاثي الألوان، سيرفعون الأعلام الخضر والبيض، وسيضحون بأنفسهم! لم يعد مولود إلى جانبها. كانت قد أضاعته، لكنها لم تكن قلقة أبدًا. لهذه الجدة الشجاعة، كانوا كلهم مولود. كانوا كلهم محمد. زد على ذلك، كان محمد يقود عربته في رأس الموكب، وظنت لحظةً أنها لمحت ابنها الذي مات في الجبل.
أزت في مسامعها طلقة، وبدأت لازمة مدوخة تدور في رأسها: ستتم الصفقة! ستتم الصفقة! ستتم الصفقة!... بعد فشل الصفقة الأولى، صفقة أخرى أكبر كانت تُعد، وكانت اليد التي تختبئ من ورائها غيرها، لكن الدم المراق سيكون الدم نفسه.
تتابعت سلسلة من الطلقات... كان عشرة من المتظاهرين يتخبطون في دمهم.
تساءلت صليحة وقد أخذها الرعب: إلى أي مدى سيذهبون من أجل حماية البلدية؟ ماذا سيفعل عسكر كل شياطين الأرض هؤلاء عندما تنقصهم الطلقات؟ فعدد الزاحفين كان هائلاً، وعزمهم أكثر.
هتف الناس:
- ستنتصر الثورة!
صاح "موسيو مكنسة" القديم:
- الجزائر جزائرية!
همهمت الجدة باكية: الجزائر جزائرية! ها هي كل القصة تقال بكلمتين: الجزائر جزائرية! كان مولود جاثمًا على كتفي جامع القمامة المتحرر. كان يضيع. كان يجد نفسه. كان الموت والحياة له لعبة، وعما قريب ستكون لعبته المفضلة. أعاد الصبي: الجزائر جزائرية! الجزائر جزا... ألقى المظليون قنابل مسيلة للدموع على المتظاهرين الذين تفرقوا ولكن ما لبثوا أن عادوا إلى حيث كانوا. الجزائر جزائرية! كلمتان تلخصان كل القصة، إن الأمر بكل هذه البساطة. كلمتان تلخصان قصة شعب بأكمله. شعب، ككل الشعوب، الحرية في دمه. يريق دمه من أجل الحرية. رفعت صليحة رأسها نحو السماء. لم تكن تبحث عن طلب الرحمة الإلهية. كان الله غائبًا في تلك اللحظة. لم يكن هناك سوى الرصاص والقنابل والعساكر الذين يقتلون. غدا الغيم الأسود أحمر، وارتدت السماء الدم، دمهم.
تواصل سقوط الموتى. كان مد الأجساد وجزره لا نهاية له. هربت صليحة بأفكارها من تلك البلبلة، وكان صوت ناعم يكلمها يبدو كما لو كان يخرج من محارة. جففت دمعها، واستقبلت البحر الطارق على بابها داعيًا إياها إلى الركوب في مركب والهرب. لكن الإبحار في دم الآخرين لم يكن أهلاً بها، في دمها نعم، ولكن ليس في دم الآخرين، هذا أبدًا. أعادت البحر، وبقي المركب يرسو على الشاطئ. أنشدت عرائس البحر نشيد الفرح، نعم، في تلك البَلِيّة الحتمية، لكل تلك الشجاعة اللامتوقعة: نشيد الفرح وسوناتة الشهداء.
- الجزائر حرة!
انتفضت الجدة الطيبة، ولم تستطع تصديق عينيها: نجح شخصان في إنزال العلم الفرنسي عن واجهة البلدية ليرفعا علم الثورة. كانا قد صاحا عاليًا "الجزائر حرة!" قبل أن يأخذهما الموت بحنان بين ذراعيه دون أن يستطيعا قول الوداع لأميهما.

حط الليل، ليل أحمر. كانت الجثث في ساحة البلدية تنتثر بالعشرات، وكانت صليحة ونساء أخريات يبحثن عن ولد أو حفيد، عن أخ أو زوج. لم يكن يبكين، فلم يعد هناك دمع في عيونهن. لم يكن يحكين، فلم تعد هناك كلمات في أفواههن. لم تبق لهن سوى تلك النظرة المستقصية، مع الأمل اليائس قديمًا. أخذت صليحة بين ذراعيها جسد طفل لا حياة فيه: ربما كان مولود الذي لم أعرفه، صغيري الذي تركني، هو أيضًا، على الرغم منه! لكن ابتسامة حفيدها الساحرة كانت تنتظرها على مقربة هناك. كان هناك، ميتًا ومبتسمًا. كان ينتظر أن تأتي لتأخذه وتعود به إلى البيت. أنّت صليحة كامرأة حبلى ترغم وليدها على الخروج. غير بعيد من هناك، بركة من الضوء. كان دم محمد، صغيرها موح. كان يموت، وهو يشد إلى صدره راية الحرية. أنّت صليحة، وأنّت، وحاولت مسح عينيها. كانتا جافتين كحطب الغابة، فصبت السماء عليها كل دموع العالم.

منذ ثلاثة أيام، والمطر يهطل دون انقطاع. كان المطر قويًا، وكان غزيرًا. وكل يوم منذ ثلاثة أيام، كانت صليحة تنظف درج العمارة عدة مرات في اليوم، لأن الطين قد غدا الصديق الحميم للأحذية. عندما وصلت إلى الطابق الثالث، فتحت فرنسيةُ الطابقِ الأخيرِ بابَها، وقاسية القلب كعهدها، أفرغت دلو مائها الوسخ على رأس الجدة البائسة، وهي تهمهم:
- آه! يا للقذارة!
غرقت صليحة في القذارة، وهي تمسك نفسها عن القيام بفعل أي شيء ضد الجارة اللئيمة. بقيت تنزرع في مكانها، وهي تحدق بعين غريبة في ثوبها الملوث ويديها المحفورتين بالأثلام. وفي الأخير، صعدت حتى الطابق الخامس، وهي تقول لنفسها إن عليها إعادة التنظيف على كل حال. كان الطين في كل مكان، كان يأتي من كل مكان، من كل الاتجاهات، من كل الجهات، كان يلتصق بجلدهم، بنظرهم، بحياتهم، وسيبقى ما بقي المطر يهطل.









































الانتحال

ليس هناك أكثر صعوبة من دحض ما هو كاذب تمامًا.
أندريه موروا

ليس التناقض علامة للزيف، وليس اللاتناقض علامة للحقيقة.
بليز باسكال

لديها بعض الزيف الطبيعي... الذي ينجح أفضل مما يقدمه شكلها من صورة للبراءة والسذاجة.
بيير دو لاكلو

عالم التقريبيات، حيث نُحَيي في الفراغ، حيث نحكم في الكاذب.
مارسيل بروست


I
كان من المفترض أن تذهب بديعة عند الحلاق، لكنها عدلت عن ذلك، لأن من الممكن أن يصل في أية ساعة. كان يمكنه أن يفاجئها، وهي على أهبة الذهاب، وكان يمكنه ألا يحضر قبل السابعة مساء. كانت تشعر بدوار لا يصدق، وتحس بنفسها منهكة. لم تكن لديها رغبة في العناية بشعرها، وفي غسله بالشامبو المعطر. كانت تفكر أنها لن تبقى على تلك الحال حتى المساء. سيذهب عنها صداعها، ستعود إليها ابتسامتها الجميلة، وسيلهب الحب وجنتيها. رأت أن الذهاب عند الحلاق سيضفي عليها من الجمال أكثر مما هي عليه، لكنها عدلت عن ذلك مرة أخرى. أخذت حبتي أسبرين طلبًا للاسترخاء، وأعدت حمامًا فاترًا. جمعت شعرها الأشقر والقصير في وشاح أزرق قبل أن تخلع قميص نومها وتدخل في البانيو. كانت تخشى أن تبلل شعرها، فيرغمها ذلك على قضاء بعض الوقت لتجفيفه، ولم تكن لديها رغبة في ذلك.
وهي تضع قدمها في البانيو، هي التي كانت مع ذلك نظيفة، فكرت أنها كانت قذرة. وهي تتمدد بجسدها الجميل، أنها كانت بشعة. كانت فريسة مفهومين متناقضين، الطهارة من ناحية، والدعارة من ناحية. قالت لنفسها وهي تفكر في زوجها: لقد مضي على قتلهم له عامان أو ثلاثة! اليوم يسمونها أرملة. الحقيقة أن الوقت بعيد، ذلك الذي كان فيه لي زوج قوي، ويلزمني اليوم أي كائن كان لإرضاء هذا الجسد القذر النظيف! أنّت وهي تحس بالماء يسيل بين نهديها. كان يحفر في جسدها ثلمًا لا نهاية له. الحقيقة أن الوقت بعيد، بعيد جدًا، ذلك الذي كانت فيه لي نفس مطمئنة. أعيش نهبًا للقلق من أن أبقى كل حياتي على استعداد لإشباع هذه الرغبة مع أي كائن كان! كانوا يسمونها زوجة شهيد أيضًا. خمس سنوات مضت على قيام الثورة. سقط زوجها المقاوم تحت رصاص العسكر، المظليين الفرنسيين، في الوقت الذي كانت في أشد الحاجة إليه. كانت تقول له دون توقف: أريد منك بنتًا! إنها الحرب، وأنا أريد هذه البنت التي لن تكون لها أفكار أبيها الثورية. ثم، يمكنها معاونتي في أشغال البيت. في السرير، عندما كان زوجها يسرق بعض الوقت من الحرب، كانت لا تتوقف عن ترداد: أريد منك بنتًا! أريد أن تصنع لي هذه البنت... وهو، كان يدعو الله في سره أن يعطيه صبيًا. لكن الحرب تصاعدت، ولم يعد زوجها يلم بها كالماضي... كانوا يعهدون إليه بمهام بعيدة عن بيته.

قبل أن يقتل زوج ابنتها، كانت أم بديعة تشكو: ما هذا الزوج غير القادر على صنع وريث؟! هل هو رجل أم ماذا؟! وكانت بديعة تفكر: وريثة، بنت، إلا أنها كانت تحتفظ بتلك الفكرة السرية لنفسها. كانت تترك أمها تتكلم: لكننا شاهدنا كلنا الدليل القاطع ليلة العرس! كانت أمها تخنق ضحكة بين أصابعها العظمية، ثم: الوحش! كان ناكحًا عبقريًا! لقد أسرف دمك الحار دون رأفة كما لو كنت دجاجة، كانت لسكينه الحيوانية شفرة ممعنة السَّن! كانت الأم تداعب بأصابعها العظمية رأس ابنتها: أنت، يا بديعة، كتب الله لك أن تكوني وحيدة، فالواقع أن رجلك هذا ليس برجل، رغم النزيف الأليم الذي سببته لك حركاته حركات الحيوان الوحشيّ. في اليوم الذي أودعته إياك، كنت خائفة من الجاهل الذي كانه. لقد كان دون تعليم، وبالتالي بربريًا، وأنت، وردة شهية. أتعرفين؟ لقد ندمت بعد ذلك، رغم ليلة العرس التي أثلجت صدري، لأنه غير قادر على صناعة الأولاد. وكانت تؤكد عن قناعة: اليوم أصبح الأمر يقينًا لدى الجميع. ثم كانت تسعى إلى الفهم بشكل أفضل: ألم تلمسي خصيتيه، يا ابنتي؟ إن لم يكن كذلك، أتمنى أن تفعلي ذلك في المستقبل، هذه الليلة مثلاً إذا ما جاءك. لإسعادي، دسي يدك بين فخذيه، واعصريهما بعنف، لنعرف إلى أي مدى تذهب رجولته، فلربما كانتا مثقوبتين. أما إذا صرخ من الألم، وعضك كالكلب، فسيزول الشك، وسنبحث عن سبب آخر. فجأة، كانت أمائرها الكهلة تهتز، وتصبح لها نظرة غريبة. كانت تقترب أكثر ما يكون الاقتراب من أذن بديعة، وتأخذ في الكلام بصوت خافت: أليس أنت التي... تسكت، وتحدق بعينيها الضيقتين في عيني ابنتها الواسعتين محركة رأسها حركات متشنجة: لا، لا على التأكيد! أنت ابنة أمك! زيادة عليك، خلفت ثلاثة عشر ابنًا مات منهم ثلاثة فقط، رحمهم الله! كانت تحط في الصمت قليلاً ثم تعود إلى القول: أنتما تلعبان ككل الأزواج في العالم كلما جاء ليمضي وقتًا معك. وكانت تطلق ضحكة شيطانية: أنتما تلعبان، لا تقولي لي العكس. إياك أن تدعي مكانًا لإبليس بينكما. ضعي القرآن قرب رأسيكما. إذا سهوت عن ذلك في الماضي، فتذكري المرة القادمة. ضعي القرآن قرب رأسيكما. بدت مقتنعة تمام الاقتناع أن الخطأ خطأ ابنتها التي لا تضع القرآن وقت الجماع قرب رأسها ورأس زوجها، وكانت لا تتوقف عن الهمهمة: نعم، إنه إبليس! يخترق الأجساد ليقتل الأولاد الصغار الذين يقضي آباؤهم طوال الليل في صنعهم.

فركت بديعة إبطيها، وهي تفكر في وضعها الحالي: لم تعد بحاجة إلى أولاد. فركت بقوة لتنزع عنها وحل الماضي، ولتخفف من الثقل الذي ينهكها منذ استيقاظها. اغتسلت بالماء الفاتر، وفركت وركيها المدورين الأسمرين بعزم ومضاء. كانت أمها قد أوصتها قبل أن تموت بمرض عضال: اختاري، يا ابنتي، رجلاً يصمد أمامك في الفراش، ويقهرك. لو يمدني الله بقليل من العمر، لجلبته لك حتى من أبعد مكان في الدنيا. أنت امرأة مشتهاة، وردة تخلب العقل. أما زوجك الشهيد، فلم يقدرك حق قدرك. أي نوع من الرجال هذا الذي يفضل أكل النباتات الوحشية والنوم على الصخر الجليدي بدل العيش مع زوجته الجميلة؟ لقد صنع ثورة في الخارج، ولم يصنع ثورة في جسدك!
عجلت بديعة الخروج من البانيو، والذكريات تعصف بها. جففت جسدها أمام المرآة، مشطت شعرها، وتأملت وجهها. رغم شعرها القصير، حافظت على أمارات الماضي التي كانت لها، أمارات "الوردة الخالبة للعقل" كما كانت تقول أمها. غدًا، كانت قد قالت لأمها، بعد تردد دام أيامًا، سأذهب لأقصه، هذا الشعر الذي يصلني حتى الخاصرة، والذي يتطلبني وقتًا جنونيًا. أيام كانت تسكن في القصبة، كانت أمها تمنعها، وكانت تقول بغضب: من تقص شعرها كالأولاد قحبة! كانت بديعة تحاول إقناعها: ألا ترين الفرنسيات كيف تقص الواحدة منهن شعرها متى تشاء؟ نحن لسنا خيرًا منهن! وكان غضب الأم يتضاعف: اسمعوا لي هذه المهبولة! لا تعرف بعد أن الفرنسيات كلهن قحبات! افهمي جيدًا! أنت ابنتي، ابنتي أنا، وستبقين ابنتي! أم أنك تفضلين أن أسلمك لأخيك الكبير، هذا البربري الآخر، الذي بفضل الأم المستبدة التي هي أنا، يتركك وشأنك. بالمقابل، عندما أُدفن قرب أبيك، ويتم له وفائي، قصي شعرك كالفرنسيات كما يحلو لك، فلن أهتم بذلك، وصيري قحبة مثلهن! على سماعها لهذه الكلمات، كانت بديعة تشعر بالاشمئزاز، وكانت تسارع إلى القول: لا سمح الله، يا أمي. كانت تتردد قليلاً، ثم: أنا امرأة شريفة، وسأظل امرأة شريفة!
اليوم، هي امرأة، امرأة وكفى. امرأة تسكن في شقة وحدها، في أرقى أحياء الجزائر: حيدرا. هذا لا يعني أنها لم تكن تحن إلى أزقة القصبة ولا إلى ديارها الرطبة. امرأة وكفى. المرأة الشريفة التي كانتها في عهد أمها، دفنتها مع جثتها، في قبر أبيها ذاته، بدافع الطاعة والوفاء. لقد غدت امرأة حرة. كانت تقص شعرها متى تشاء، تصبغه، وتستقبل في بيتها من تشاء، الرجال والنساء، وعلى الخصوص الرجال. في الماضي، الماضي الذي ليس بعيدًا، كان لها عدد من العشاق، ولم تكن تخبئ هذا، حتى أن ما لم تكن متأكدة منه، كانت تقوله دون لف أو دوران. ومن الآن فصاعدًا، أخذت تلفظ أول كلمة كانت على طرف لسانها، ولا تشعر كيف تقذفها في وجه محدثها، فقد بات الأمر في نظرها طبيعيًا، وكانت تتكلم إلى نفسها بالطريقة ذاتها، دون لف أو دوران.
قالت لنفسها بيقين: أنا اليوم امرأة حرة! وزال عنها صداعها. في اللحظة التي انتهت فيها من طلي وجهها بالمساحيق، رن جرس الباب. وبسرعة، ارتدت فستانًا أزرق، وذهبت لتفتح. كانت متعثرة الخطوات بعض الشيء، وكان عقرب دقائق ساعتها يزحف بعناء نحو الحادية عشرة. تطلعت عبر عين الباب، ويدها على المقبض، وتأملت قليلاً صورتها المنعكسة في مرآة صغيرة معلقة. أدارت رأسها مرات عدة: كانت جميلة. فتحت الباب على مصراعيه ليراها كلها، مع ذلك "الخجل الزوجي" الذي تتخذه في كل مرة يأتي ليراها. وكالعادة، ظل مُحَنْد دون حراك إلى أن تدعوه بديعة إلى الدخول.
قالت له في الأخير:
- ادخل!
تابع بعينيه الموجة التي ترفع إلى أعلى نهديها، والتي تدعو شفتيه، فأخذها بين ذراعيه، بظمأ وجوع، وطبع قبلة على فمها ثم على عنقها ثم على صدرها.
همهمت:
- حبيبي!
كان لا يعلم أنه بتقبيلها على هذا النحو يحررها من الأفكار الصافية والدنسة التي تشغلها منذ الصباح، أمواج من الشهوة الجسدية الجارفة لهذا الجسد الذي يعبده.
دفعته بغُنج ودلال:
- ما أنت سوى نَهِمٍ كبير!
وأعطته قبلة صغيرة. أضافت:
- تعال! لماذا تنظر إليّ هكذا؟
قادته إلى الصالون قائلة:
- يا للمِزاج النزويّ الذي له، هذا النَّهِمُ الكبير! أتدري؟ حتى عندما تعطيني موعدًا في بداية المساء، أنتظر دومًا قدومك في أي وقت. وها أنت هنا قبل السابعة بكثير! أريد القول، إنه لأمر سار أن أراك.
قبلها طويلاً. كان لشفتيها طعم البلح الأخضر، وكان يعبد هذا.
تابعت بديعة:
- كنت أشك في قدومك باكرًا، ولما كنت تعبة هذا الصباح، فكرت فيك. فكرت في أنك لن تتأخر، وكان بالتالي من الواجب عليّ أن أكون جميلة لك وأن أستعيد قوتي وطاقتي. آه! كم كنت قلقة. كانت لدي أفكار سوداء. على المرء أن يفكر ليشعر بالعيش. وأنا كانت لدي أفكار سوداء. أريد الشعور بالوجود... أريد الوجود لك.
عانقها على الأريكة. فتح عينيه على سعتهما قبل أن يسألها:
- وأي نوع من الأفكار الرديئة كانت تشغل هذا الرأس الصغير؟
وضعت رأسها على كتفه، وهمست:
- أفكار كثيرة، أفكار كثيرة ومقلقة، ولكن كل شيء انتهى الآن. أنا أحتاج إليك، ولا أدري المصير الذي ينتظرني إذا ما فقدتك ذات يوم.
رفعها مُحَنْد بين ذراعيه، وأجلسها على ركبتيه. كانت ثقيلة بعض الشيء، لكنها لذيذة وناعمة. همس بدوره:
- لن تفقديني، فاطمأني.
قبلها بين نهديها، وعلى عنقها، وعلى شفتيها، قبلها طويلاً.
- لنخلع ثيابنا، ولنعمل الحب بسرعة، فأنا على عجلة من أمري بعد أن أوكلوا إليّ بمهمة لا يمكنها الانتظار.
دفعها مُحَنْد على الكنبة، ونهض ليخلع ثيابه.
سألت بديعة وكلها استغراب:
- إذن فقط من أجل هذا جئت؟ شهوتك الهائجة فقط هي التي جاءت بك؟
أجاب:
- أنت، شهوتي، حبي، كل هذا.
- يا لك من كاذب!
- أقسم لك، كل هذا!
- لا، أنت لا تحبني!
- أحبك!
- تريد فقط مضاجعتي!
- أريد مضاجعتك لأنني أشتهيك، لأنني أحبك! اجعليني سعيدًا، اخلعي فستانك، ولنذهب بسرعة إلى سريرك.
- هنا في الصالون أم في حجرتي الأمر سواء، بما أنك تريد فقط مضاجعتي.
- أحبك، أؤكد لك!
خلع ثيابه، وهي أيضًا، لكنها ما لبثت أن لبست سروال عرب من الحرير الأسود، مفتوحًا من الجانبين حتى الخصر. ارتدت قميصًا أبيض مُطَبَّعًا بزخارف فرعونية، ووضعت في قدميها صندال كتان أبيض.
هتفت بديعة سعيدة جدًا من نفسها:
- ها أنا في جلد امرأة أخرى!
سأل مُحَنْد مستاء جدًا:
- لماذا؟
- لأنني قررت ألا أعمل الحب معك.
- لماذا؟
أجابت دون مواربة:
- لأنني لا أريد الشعور بأنك تبتاع جسدًا. أنت لا تحبني. جئت من أجل شيء آخر غير شخصي المتواضع، ولقد جئت مبكرًا، مبكرًا أكثر من اللازم!
فكر: تلعب دور من لا تخلو من قوة الشخصية دون أن توفق في النجاح!
تابعت:
- معك، لم أطلب أي تفسير أبدًا. اليوم، كل هذه التصرفات تزعجني، وعلى الخصوص عندما تكون هذه التصرفات تصرفاتك. وعلى أي حال، هذه أفكاري التي هي لي.
أخذها بين ذراعيه هامسًا في أذنها:
- يا لها من أفكار لطفلة! أفكار مجنونة لطفلة!
وفي الوقت ذاته، كان يقول لنفسه: آه! لكم أشتهيها. وضغط شفتيها بعنف على شفتيه، فدفعته بكل قواها صائحة:
- اتركني!
لم يتركها، واحتفظ بقبضتها على صدره مفكرًا أنها لم تكن تلعب دورًا، وإنما آخر الأدوار.
طلب مُحَنْد وقد هدأ قليلاً:
- ماذا بك اليوم؟
ردت بديعة:
- ابتداء من اليوم لا أريد أن أشعر بتلك البديعة القذرة عندما تضمني بين ذراعيك.
ترك مُحَنْد يدها، وهو يهمهم: كما لو لم تكوني... ثم سكت، وعاد يرتدي ثيابه. تمنى لو يقول لها: كما لو لم تكوني تعرفين من أنت! اليوم أو غدًا، لن يتبدل شيء لك، لأنك الطاعون! سيدفعها بعيدًا عنه، وسيتركها على ألا يعود أبدًا. لكنه قال لنفسه: ليس من الأدب أن أهين امرأة. بعد قليل، وهو يسمعها تتنفس، مضت فكرة غريبة في ذهنه: أن يخنقها، وكأنه يريد الثأر لنفسه منها. اقترحت عليه أن يضع حدًا لهذه التراجيديا الصغيرة التي غدا في الوقت الحاضر يلعب دورًا فيها. كانت بديعة تمنعه من اشتهائها كما يحلو له، وها هي ذي تبدي العزم في قراراتها. لأنها لا تريد أن تشعر بكونها قذرة بين ذراعيه.
قرصها من خديها، وأخذها من كتفيها، ثم جذبها إليه ببطء شديد، ووشوشها:
- أنت لي بنقاء الوردة! ماضيك، أنا لا يهمني!
قالت بمرارة:
- ليس هناك الماضي، الماضي فقط.
- أنا لا يهمني!
فجأة، غدت له طلعة حزينة. تركها تجلس على بوفة بيضاء، وأخذ مكانًا مقابلاً إياها في مقعد أسود.
- أنا لا يهمني، هل تسمعين؟
- لا، بل يهمك.
- أنا لا يهمني! حياتك خارج هذه اللحظات التي نقضيها معًا، أنا لا تهمني! وأنت كذلك لا تهمك حياتي عندما أكون في الخارج. ومن جهة أخرى، ماذا تعرفين من حياتي؟
- لا، بل يهمني كل ما يخصك.
- أنت لا يهمك، لا يهمك.
أخذ رأسه بين يديه، وهو يشعر ببداية صداع، ثم اعترف:
- تزداد مقاومة الخارجين على القانون ضراوة في سور الغزلان، وقد أعطتني قيادة الجيش الفرنسي أمرًا بقصفهم.
قالت ساخرة:
- أنت طيار جسور حسبما أعرف!
- ولكن ما لا تعرفينه هو أنني سأقتل مواطنيّ، وهذا لا يهمك أنت، ما دمتُ أقوم بعمل الحب جيدًا، ما دمتِ تأملين بالزواج مني يومًا، ما دمتُ...
قاطعته بضراوة:
- الزواج منك؟ تقول الزواج منك! أنت مخطئ تمامًا.
- الزواج مني أم لا، المسالة ليست هنا. كما ترين، لسنا نظيفيْنِ تمامًا نحن الاثنين، هناك ما هو قذر فينا.
- تريد تبرير ماذا على وجه التدقيق؟
- لا شيء. كل ما أريد أن أقضي وقتًا ممتعًا معك. لهذا السبب جئت، لأنني لا أستطيع هذا المساء، كما شرحت لك.
- وإذا كنت لا تستطيع بعد المجيء، لا هذا المساء، ولا مساء آخر؟
قهقه مُحَنْد، رمى رأسه إلى الوراء، وزلق في مقعده. سمعته يقول بغرور واثق:
- أما عن ذلك، فاطمئني، للخارجين على القانون هؤلاء بنادق ضعيفة المرمى، لا يحذقون التصويب جيدًا، وليسوا من الصائدين أحسنهم. ولا تنسي أنني نسر مريع!
استشاطت بديعة غضبًا:
- لماذا لا تسمح لنفسك بالتفكير مرة واحدة كما أفكر؟
- أعرف ما يدور في رأسك الصغير.
- لا، أنت لا تعرف. لم أعد بديعة التي تعرف.
تساءل: هل هذا لأنها بدلت ثوبها؟
خلعت صندلها كما لو كانت قد سمعته يفكر، وأخذت تلامس بأصابع قدميها المتوترة فرو السجادة الأبيض. فكر: كيلا تعرف شخصًا، من اللازم أن يبدل جلده تمامًا، من اللازم أن يعمل جلدًا جديدًا!
- في رأسي الصغير مشاريع أخرى لا تخطر لك ببال.
ارتعشت، وغدا جمالها بشعًا، فشخص ببصره إليها حائرًا:
- كوني أكثر وضوحًا، هلا أردت؟
وضعت عليه نظرة متهمة ثم، دون تردد:
- كنت أريد أن تعرف بالفعل ما يوجعني ليل نهار، ما يزعجني، ما يعصف فيّ في هذه اللحظة. من الكذب القول إنك تعرف ما يدور في رأسي الصغير. لا، لم أفكر أنهم سيمكنهم قتلك، كما تقول، الخارجون على القانون، ولكن أن أوقف كل شيء معك.
- تريدين أن تتركيني!
- معك أو دونك، أحس بالوحدة، أخيرًا.
- تريدين أن تتركيني!
- لقد تبدلت كثيرًا منذ لقائنا. تطلب مني أن أعطيك نفسي بسرعة لأنك على عجلة من أمرك، لأنهم أوكلوك بمهمة هامة هذا المساء، لأنك طيار محنك، نسر صاعق، برق حرب لا يخشى تلك البنادق الجديرة بالاحتقار! ولأنك تعتقد أنك في مركز الأشياء، أنك تشغلها بكل ثقة.
همهم، والقلب مفعم بالخيبة:
- حقًا، لم تعودي بديعة التي أعرف.
قبل، كان يحب فيها زيفها الطبيعي، عدم وفائها لنفسها عندما يتعلق الأمر به، براءة المرأة، العاهرة. أغاظتها هذه الصراحة، فسالت دموعها على خديها، حفنة من اللآلئ التي لا تلبث أن تنسحق. طوال حياته، كان مُحَنْد لا يبالي بالدموع. هبت في قلبه عاصفة صامتة خنقها، وهو يربت بأصابعه على كتف عشيقته، ويردد بهزء: آه! يا لهذه الدموع الساخنة. آه! يا لهذه الدموع الساخنة. ابتعدت عنه، فانطلق ضاحكًا. انقضت بديعة بعينيها المفعمتين بالحقد على عيني عشيقها، ونبرت:
- أنت لا تحبني.
أصابه الضيق، فقطع ضحكه.
- أنت تحتقرني، وتهزأ مني. أنت، يا ابن الرجل الجزائري والمرأة الفرنسية، تعرف كيف تهزأ مني متى تريد، وتحيل نفسك إلى شخص تافه في نظري.
صاح مُحَنْد:
- لا، غير صحيح!
اقترب بإصبع مرتعشة من شفتي بديعة، وهو يردد بصوت مختنق:
- يا ابن الرجل الجزائري والمرأة الفرنسية!
- لماذا لا تحتمل أن يقول لك الآخرون الحقيقة؟ ربما فكرت أن لا عدل في هذا، وأن لا حق لهم أن يكلموك هكذا. أنت تخشى مواجهة الآخرين، وأن تخسر قدرك أمامهم...
كان مُحَنْد يفكر في كبريائه الذي خدشته، وهو لهذا كان يتألم. كان يريد أن يقول لها إنه لا يهرب من أحد، وإنه على استعداد، لو يلزم، لمواجهة العالم أجمع. أحس كما لو كان هناك شرخ في صدره، فما قالته كان صحيحًا، في بعض منه، لكنه لم يكن يمكنه قبوله، ففضل ألا يسمعها حتى النهاية. وفي الأخير، قال لنفسه: أنا لا أهرب من أحد، إلاها! كان مثل هذا الشعور من الارتباك غريبًا عنه حتى تلك اللحظات، وكان لمُحَنْد انطباع من وضع نفسه في ورطة لا خروج منها. قالت له بديعة:
- اطلب مني الآن أن أخلع ثيابي، وأن أستلقي تحت فخذيك، اطلب مني، هيا، ولكن قل لي إنك ترغب فيه لأنني أنشده بدوري، وإنه لن يكون لإشباع نزوة من نزواتك الأنانية.
حرك مُحَنْد رأسه يمنة ويسرة، يسرة ويمنة، ثم رماه على مَسند المقعد الوثير. كان يبدو عليه أنه غائب تمامًا، وكانت كلمات بديعة أبعد ما يكون عما اعتاد على سماعه. كان يحس فيها نوعًا من المودة القاسية، وكانت هذه الكلمات تسلبه أفكاره أو تعيدها إليه، لم يكن يعرف تمامًا. كان الشيء الوحيد الذي وجد قوله:
- لقد اعتدت على تحقيق كل رغباتي.
فكر قليلاً ثم أضاف دون أن ينظر إليها:
- قررت النوم معك كما لو كان الأمر مفروغًا منه، لأنني كنت واثقًا من...
كان على وشك القول "لأنني كنت واثقًا من نفسي"، لكنه سعى إلى خداعها:
- لأنني كنت واثقًا من موافقتك، ولأجل أن أنجز مهمتي مطمئنًا هذا المساء.
نبرت، شرسة، عنيدة:
- إذن لن تنجز مهمتك مطمئنًا هذا المساء، يا سيد ماندريان مُهَنْد. أليس هكذا يخاطبك رؤساؤك؟ ماندريان مُهَنْد! فهم لن يقدروا على لفظ الحاء مثلنا، حتى ولو قضوا عمرهم كله في التدريب على ذلك.
فكر: تكشف أقنعتي! أول ما فتح عينيه، لم يجد سوى أمه إلى جانبه. كان أبوه قد مات في الهند الصينية، فأعطته أمه اسمها: ماندريان. أنت فرنسي الأصل، يا بنيّ!... لم يكن أبوك جزائريًا إلا بالاسم... كان أبوك بطلاً من أبطال حرب الهند الصينية... كان أبوك ضابطًا كبيرًا في الجيش الفرنسي... كان أبوك يريد أن تكون طيارًا عسكريًا... وكيلا يكون المجد شمس الموتى، ماندريان مُحَنْد طيار عسكري في الجيش الفرنسي... إنه مجدنا جميعًا!
جثا على قدميها، وطلب:
- انظري إليّ جيدًا.
نظرت إليه. تأملته مليًا. كانت تعرف ما يريد، فأفلتت، وهي تشيح بوجهها عنه:
- ولكنك ذاهب هذا المساء لقتل رفاق سلاح زوجي!
سقط القناع الأخير. رفاق سلاح زوجها! انتهى بها الأمر إلى قولها إذن، وكانت حقيقية، صادقة، أخاذة، كالصورة في مرآة. فكرت بديعة في زوجها، في بعض الليالي التي قضاها معها بين مهمتين. لم تكن بعد قد خرجت من ذلك اللولب الجهنمي. كانت تغور فيه بعمق لحد ألا تخرج منه بسهولة.
جذبت مُحَنْد بين ذراعيها، وأخذت تقبله من شفتيه، ومن خديه، ومن عينيه، قائلة له، وهي تسكب دمعها الساخن:
- لماذا لا تعترف؟ لماذا تعاند؟ أليس لك قلب؟
همس:
- إنها الأوامر.
- الأوامر، الأوامر! هذا الأمر مجرم، أولاً ضد نفسك التي لا تستطيع هذه المرة أن تقرر ما تريد أن تفعله، وبعد ذلك ضد رفاق سلاح زوجي الذين هم أخوتك بالدم إن شئت أم أبيت.
استشاط غضبًا:
- كفى!
- سماعك الحقيقة يدفعك إلى الغضب؟
- لا، سماعك تتهتهين! منذ وصولي، وأنت تتهتهين!
نهض، وسار عدة خطوات. وقف قرب النافذة، رفع الستارة بإصبع راجفة، وقال كمن يحادث نفسه:
- يحاربون فرنسا! الدولة العظمى! لأي هدف؟ الاستقلال. ولكن لماذا؟ نحن الدولة العظمى، فرنسا! لماذا يريدون انسلاخهم عن فرنسا، الخارجون على القانون هؤلاء؟ نحن فرنسا! هذه حقيقتنا!
كان يستمع إلى كلامه. كانت كل كلمة مزيفة. نبرت:
- أنت تقول هذا لأن أمك فرنسية!
- أنا أقول هذا لأنني رجل عاقل.
- أنت تقول هذا لأنهم جعلوك مزيفًا، ولأنك لا تجرؤ على التفكير، حتى ولو للحظة واحدة، كجزائري!
- أنا لا شيء آخر غير كوني أنا.
- أنت تقول هذا لأنهم كبلوك بأفكارهم، ولأنك منذ نعومة أظافرك يخضعونك، ويربونك على هواهم!
- أنت لا تعرفينني جيدًا كما أرى.
- أنت تبحث عن الهرب منك، عن الهرب من نفسك!
- أنت على درجة كبيرة من الذكاء، وأنا أحسدك!
- أنت تخشى مواجهتي أم مواجهتك؟
- أراك متحررة الأفكار اليوم!
- متحررة الأفكار، نعم، وفي هذه اللحظة على الخصوص، أنت من جعلني أكتشفها، أفكاري الحقيقية.
- رويدك! لا تبذلي جهدًا كبيرًا. أنا لا أجبرك على فعل ما لا تريدينه. وبالمقابل، تجعلينني أشك في كل معنى علاقتي بك.
- حتى وأنا أنظر في وجهك وأرى أنهم يزورونك؟
- ربما.
- كيف هذا، ربما؟
أخرج مُحَنْد علبة سجائره من جيبه، وأشعل واحدة. قال:
- يجب عليّ الذهاب. علينا الاجتماع لدراسة أدوارنا، ودومًا ما يجري هذا في اللحظة الأخيرة لتحاشي أقل تهريب، فالسر المحفوظ يكون مع النجاح المؤكد. سأعود لرؤيتك غدًا أو بعد غد، وسأقص عليك كل شيء بالتفصيل، وهكذا ستبدلين رأيك.
أخذ يداعب وردة اصطناعية لونها أصفر موضوعة في مزهرية، وهو يفكر: لن أعود أبدًا. كان في قرارة نفسه يخشى رفاق سلاح زوجها الخارجين على القانون، الإرهابيين، الفوضويين، المجاهدين، المقاومين، ال... لست أدري ماذا. حفنة من الرجال الذين يقاتلون فرنسا! فرنسا زعيمة أوروبا بأساطيلها العسكرية وبرج إيفلها وقوس نصرها وشانزلزيها! وفي الناحية الأخرى، بنادق تعسة، ومقاتلون يتغذون على البلوط والأعشاب والفئران البرية. كانوا يقاتلون فرنسا، و... يصمدون!
منذ قليل، كان يفكر في الهرب بعد أن كشفت بديعة ما كان يعرفه ولا يقبله. كان قناعه قد تمزق، لكنه كان على الرغم من ذلك يحتفظ به. "منذ نعومة أظافرك يخضعونك"! في إحدى المرات، وهو يرى نفسه في بزة الطيران العسكري الفرنسي، كان قد فكر أن البزة ما هي سوى ثوب. لأنه لم يكن يعرف أباه. وفي ذلك الوقت، كان قد قال لنفسه: أحتاج إلى فعل، فعل واحد، أن أخلع الثوب. لكنه لم يكن قد ابتعد أكثر. كان يعرف جيدًا من كان، لكنه لم يكن يجرؤ على الاعتراف بذلك.
قال مُحَنْد غائبًا بعض الشيء:
- أعرف أنهم سيضعونني في رأس السرب، ليكونوا واثقين من أنني أول من سيلقي قنابله. سأقود السرب، وسأقصف، سأقصف حتى أدمرهم جميعًا. هذا هو عملي.
سألت بديعة بنكهة من التهكم في صوتها:
- وحتى متى ستقصف؟
أجاب بنصف ابتسامة:
- ككل جندي، حتى يتيحوا لي الفرصة لفعل شيء آخر.
ماتت نصف الابتسامة على شفتيه. رأته يسود، ويغرق في الانتظار والروع. كل وجوده كان يتوقف على هذه الفرصة التي سيتيحونها له. اقتربت بديعة بيدها من يده، وجعلته يجلس قربها. أخذت وجهه بين يديها، وهمست بعينين محمرتين:
- إنهم ليسوا أشرارًا إلى هذه الدرجة، الخارجون على القانون هؤلاء.
همس بدوره بعينين مبيضتين:
- ربما ليسوا كذلك، لكنهم ضدي، وأنا لهذا أقاتلهم.
- هم ضدك أم أنت ضدهم؟
قهقه بمرارة، واعترف:
- في إحدى المرات، فكرت أنني لا شيء أكثر من ثوب، بزة نظامية!
أضاف هامسًا:
- حتى تتاح لي الفرصة لفعل ما هو معاكس.
- بإمكانك أن تفعل شيئًا هذا المساء.
رفع رأسه المثقل، وهو يرميها بنظرة مهمومة، ولم يفه بكلمة.
- بإمكانك أن تفعل شيئًا هذا المساء، اغتنم الفرصة، وإذا لم تستطع، احرق البزة النظامية.
كانت تريد أن تحزر فكرته، أن تجرب رد فعله. تابعت:
- أتعرف؟ الفرص تصنعنا، ونحن نصنعها. أنت بحاجة إلى مواجهة الحقيقة أكثر من حاجتك إلى فرصة، لكنك جبان. هذا كل ما هنالك. تظن أنك بحاجة إلى فرصة، ويقف الأمر عند هذا الحد، دون أن تفعل شيئًا. أنت تنتظر أن يقدمها أحد لك، هذه الفرصة الكريهة، وعندما يحصل ذلك، تفعل كل شيء لإضاعتها.
أدار مُحَنْد لها ظهره، أمال رأسه، وأخذ يتأمل حذاءه الأسود اللماع. قالت بديعة بنبرة استبدادية، على طريقة أمه:
- اسمعني جيدًا... أريد أن أجعلك تفهم أنني عندما رفضت النوم معك، أخذني ذلك دفعة واحدة ودون حساب من طرفي. لقد صنعت فرصتي المناسبة التي كنت بحاجة إليها، صنعناها سويًا، لنواجه الحقيقة برأيينا. وأنت، حسبما قلت لي منذ قليل، حصل لك التفكير في أنك لا شيء أكثر من ثوب، بزة نظامية. حصل لك ذلك دفعة واحدة ودون حساب، وكانت الفرصة المناسبة التي تنتظرها، لكنك تركتها تذهب دون أن تفعل شيئًا.
- هذا هو أكثر ما يزعجني.
- أنت من يقول هذا؟
- أنا من يقول هذا.
- أنت، النسر الصاعق؟
- أنا، النسر الصاعق.
رسم ابتسامة تعسة، ورفع الرأس ليحلق في السماء البيضاء للصالون. وبخته:
- إذن ماذا تنتظر؟ هيا! اذهب وقاتلهم! ربما ستغير فكرتك عنهم، ستتحقق من كونهم ليسوا خارجي على القانون، بينما هم يمطرونك بوابل رصاصهم. هيا اذهب! لنرى إلى أي مدى يمكنكما الصمود أنت وفرنساك!
كان له كتفان ثقيلان لدرجة أنه لم يكن يستطيع رفعهما. أطفأ سيجارته، وقال بنظرة يائسة:
- كيف تريدينني إقناع نفسي بأن عليّ أن أكون المهزوم لأصبح الهازم؟ إن الأمر معقد للغاية، وأنا شخصيًا، لا أستطيعه، لن أستطيعه. ليس الأمر على مثل هذه السهولة كما تتصورين: أن أخلع الثوب أو أن أمتنع عن النوم معك أو أو ألا أذهب لقتالهم فقط لأنهم كانوا رفاق سلاح زوجك.
أغمضت بديعة عينيها، ومع ذلك، أشار إلى صدره بحركة تعبة قبل أن يواصل:
- أنت لا تدركين معنى كل هذه الأوسمة، أنت لا تدركين معنى أن تقتل ومن تقتل... الفكرة الوحيدة حول هذا الطيار، الفرنسي في رأسه وبزته، ابن الجزائري والفرنسية، تغير كل شيء. لأنني أكلمك عن كل هذا، وأسمع لصوتي نشازًا، كقيثارة ارتخت أوتارها، وأواصل الكلام كأن العالم ملكي. هذه هي مشكلتي، أعيش في عالم أمتلكه، ورغم كل الأكاذيب التي يحتوي عليها، يبقى عالمي.
أمسكها من ذراعها، وهزها، ففتحت عينيها، وأغرقته في بحيرات الحيرة. هتف:
- ربما أضعت فرصتي المناسبة، لكن هذا لا يعني أنني لا أشتهيك ولا رغبة لي في امتلاكك الآن أكثر من أي وقت مضى.
بدأت بديعة تخلع ملابسها بعصبية، وهي تردد كمن أصابها مس: اشته! ارغب! امتلك!
أخذها مُحَنْد بين ذراعيه، وقبلها. بوحشية. أدمى لها شفتيها، بينما كانت تستسلمُ، تَخْضَعُ. عندما تركها، وأغلق الباب من ورائه، أخذت تنتحب انتحابًا كاد يخنقها. بعد ذلك، نهضت بديعة، والتصقت بالحائط، واحتكت بالحائط، وهي تصارع الإعصار الأعظم. تلوت قطة في بطنها، فماءت، وسقطت على الأرض. زحفت حتى المرحاض، وقذفت مائعًا ساخنًا أصفر، موت الشهوة، في الوجع والحشرجات.

II
نزلت بديعة من تاكسي قرب الأوبرا، وهي تضع نظارتها السوداء. فكرت أنها ملكت أشياء كثيرة، وفي الوقت نفسه فقدت أشياء كثيرة. كانت تشعر بالسعادة لرجوعها إلى دارها القديمة ذات الأحجار الرطبة، والتي تقوم في حي القصبة منذ أجيال. سترجع إلى دارها. ستعود إلى المكان الذي ولدت فيه. ستجثو أمام أخيها الكبير طالبة إليه الصفح.
فكرت بديعة أنها حققت بعض الأحلام منذ ماتت أمها، وأن عاطفتها الجامحة ورغبتها المدمرة في تحقيق هذه الأحلام التي كانت تطاردها مراهقة وامرأة وأرملة لا حد لهما. وفي كل مرة يوضع فيها أحد أحلامها في الميزان، كان أخوها الكبير يهددها: سأقتلك لو فعلت، والله سأقتلك! وفي النهاية، تركها تفعل ما تشاء، لا لأن هذا الأخ المتعجرف المستبد كان قد تغير، ولكن لأنه لم يعد باستطاعته إعالة عائلته الكبيرة. لم تهرب بديعة من الدار. وعلى العكس، كانت قد حددت الوقت الذي عزمت فيه على الرحيل. في آخر مساء، وسائر إخوتها وأخواتها يلتفون بها، قالت لأخيها البكر، وهي تضع ابنة أخيها في حضنها: أمحروم على النساء إلى الأبد أن يتكلمن؟ لكن ما علمتني إياه في الكتب يعارض ذلك. إن كوني امرأة لا يمنعني من قول الكلمة الأخيرة! وليبدو أنه رجل العائلة، ضربها ضربًا مبرحًا وهددها بالسكين، إلى أن تدخل الجيران، فطردها، وهو يرتدي ثوب القاسي: إلى عرض الطريق! وإذا حصل وأمسكت بك، والإله الأعظم قتلتك! هيا، بره!
كانت بديعة قد خرجت إلى عرض الطريق، وبسرعة فهمت أن هناك من سيرعاها طالما وُجد أمثال مُحَنْد ماندريان. لم تكن بحاجة إلى كثير من الوقت لتنسى أنها صنعت من أجل الإنجاب، واعتادت على العيش وحيدة، واستقبال من يبثها قليل الدفء في الليالي الباردة، دون أي قصد آخر.
لم تقف عند هذا الحد. كانت تريد أشياء كثيرة. أشياء أخرى غير التي حصلت عليها. أشياء لم تستطع الحصول عليها. ولكنها في نهاية الأمر فشلت. عندما استطاعت أن تسكن في شقة فخمة، أن تختار ما يعجبها من ثياب، أن تقرأ ما تختاره من كتب، وأن تعاشر من تشاء، عندما استطاعت أن تستعيد حريتها كاملة، وجدت نفسها تواجه الشخصية الغريبة التي أصبحتها ونجاحها الناقص. كانت قد أصبحت أخرى. لأن زوجها كان يسرق لياليه لينام معها، لأن رغبتها في ابنة لا تغادرها، ابنة تكون لها، وتقوم بتربيتها. استيقظ كل هذا فيها. كانت في الواقع بحاجة إلى كل هذا، دونه لن تكون لحياتها أي معنى، ولن تصل أبدًا إلى التألق. لم تكن ترى لحياتها سوى انعكاس واحد، انعكاس القذارة النظيفة! كان ذلك كما لو كانت تغوص في الرمل. لم تكن تستطيع الخروج منه بسهولة. كانت تحاول، لكنها لم تكن تتمكن من توفير الشروط المطلوبة لذلك، فتقول لنفسها إن عليها التخلي عن هذه الأحلام الكاذبة، والعودة إلى حياتها الأولى، إذا كانت عائلتها على استعداد لقبولها.
فكرت في أخيها البكر، في إخوتها الآخرين وأخواتها، في أهل القصبة، وأحست بالنقص الطبيعي في جوهر الأشياء. ومع ذلك، كانت قد أحست في ذلك الصباح بنفسها خفيفة، خفيفة خفة الريشة. لكن هواجسها السيئة جعلتها قلقة. كانت تخرج وتدخل في رأسها تحت شكل دوامة بلا نهاية. عجلت الخطو، وقالت لنفسها، وهي تفكر في أخيها الكبير: سأذهب لرؤيته وليحصل ما يحصل! كانت تسير بحثًا عن الشجاعة، فقطع المسافة على القدمين يترك لها الوقت لتفكر. توقفت أمام واجهة زجاجية جميلة، ومن خلف نظارتها السوداء، تأملت فستانًا أخضر اللون بياقة صغيرة بيضاء اللون. تخيلت نفسها بنتًا صغيرة من بنات المدارس، وابتسمت لنفسها. كانت تتمنى لو أنهت دراستها الابتدائية، لكن أخاها ارتأى أن يعلمها العربية بنفسه والتاريخ والجغرافيا. امحت ابتسامتها. يجب عليّ الذهاب لأراه. وبعزم، عادت تغذ السير، وهي تحاول أن تتخيل هذا اللقاء المفاجئ، والنتائج التي يمكن أن تند عنه. كانت ملامحها الصارمة لا تموه جمالها، وتجذب النظر إليها، نظر العطوف والمعجب. أنا لا أخشى مواجهته. يجب عليّ الذهاب لأراه. كان لديها انطباع أنها تسحب جسدها من ورائها، جسدًا تحاصره النظرات. كانت تُدَوِّمُ، بتخوفاتها وآمالها، وقدماها يرفضان التقدم.
جعلت الأفكار السوداء خطواتها أكثر صعوبة. لم تكن حياتها إلا فكرة كاذبة، اختراعًا تافهًا. لو أعطاها زوجها تلك البنت التي طالما تمنت أن تكون لها لاختلف الأمر. لمن تنذر هذه الحياة التي تتفسخ قليلاً قليلاً؟ ستترك من ورائها ثقل الموت والعقم.
دفعها أحدهم بقوة، وهو يعتذر، لكنها حادت بسرعة. راحت كلمة "عفوك" التي رماها بها تطن في رأسها، وعادت ترى النظرة العابرة والحيوانية لذلك الرجل الذي لم يكن ليتردد عن سحق جسدها تحته. كانت تقول لها أمها: أنت جميلة، وردة خلابة! سأعمل لك حرزًا، فأنا أخاف عليك من العيون الشريرة، وعندما تتعرين لحمامك، سأقوم ببعض الشعوذات! كانت الأم تبتسم سعيدة: ما هي سوى شعوذات، لكنها شعوذات ناجعة كالدواء! عندما كنت صغيرة، علمني إياها شيخ دجال كان يتردد على دارنا، وغالبًا ما كان يغازلني. كانت العجوز تتفاخر: كنت جميلة، يا ابنتي، جميلة للغاية! كان يهمس في أذني "أنت فتانة! سأعمل لك حرزًا يمنعهم من تزويجك لفتى مستهتر". كانت تحرك أصابعها قبل أن تضيف: كان يحرق بخورًا خاصًا بجلسات السحر، ويقول لي "انظري كيف أجمع هذه الأشياء لأعمل منها تعويذة، واحفظي الصيغة عن ظهر قلب". كانت أكاذيب، لكنها أكاذيب حقيقية! وكانت تعترف: في النهاية، كان يقول لي، وهو يلمس نهديّ "سيحفظك هذا الحرز من العين الشريرة! آه! كم أنت حلوة. وفي الغد، سآتيك بحرز آخر لتتزوجي من فرنسي، بهي الطلعة!"
كانت بديعة تتقدم ببطء، والعابرون يرمونها بنظرات كلها رغبة واشتهاء. في الماضي، كان يسرها أن ترى كيف يشتهيها الرجال. لم يكن أي سوء في ذلك، بل على العكس. كان ذلك أشبه بدعوة سرية. كان المهم ألا تلبي الدعوة، وأن تضاعف الرغبة لديهم دونما حاجة إلى أي حرز. كانت أمها تنصحها بخصوص الحرز: اجعليه تحت المخدة، هناك حيث تضعين رأسك، وانتبهي إلى عدم لمسك إياه أو شم رائحته خلال النوم! إياك أن تلمسيه، إياك أن تشميه، إياك... إياك... إياك... كل هذه الوصايا التي لا نهاية لها! في الوقت الحاضر، تعود إليها الوصايا تحت شكل آخر، بعبثها ذاته، ولكن بأكثر عنفًا. كانت تحملها فيها. تمنت لو تدفنها دفن الموتى، ومعها هذا الماضي الذي كانت تريد الهرب منه. ومع ذلك، كان هذا الماضي هو الذي تذهب إليه، وكان ذلك أقوى منها.
فجأة، جذبها صفير من تأملاتها. كان مظلي ينفخ بكل ما أوتي من قوة، وإذا برجل يقفز أمامها، ويركض بسرعة قصوى. حاول بعض الفرنسيين الإمساك به، لكن الرجل كان ينطلق كالسهم ما بينهم. سدد المظلي بندقيته، وقتله برصاصة واحدة.
جذبت بديعة رائحة البارود والموت، فراحت تجري لترى الرجل عن مقربة. سمعت حولها همسات تردد: إرهابي! فوضوي! خارج على القانون! مقاوم الخراء!... لكن للرجل لم يكن مظهر المقاوم. كان يشد شالاً من الحرير الأزرق في يد، وفي الأخرى سلسالاً من الذهب.
وصلت سيارة إطفاء، وهي تثير الضجيج، وتزيد من التوتر، بينما كانت بديعة تفكر: الموت لسرقة الحرير والذهب كالموت لأجل الوطن!
صاح المظليون بالناس:
- تفرقوا! تفرقوا!
سأل أحد العابرين آخر:
- ماذا فعل؟
- ألقى قنبلة.
- لم أسمع شيئًا.
- بلى بلى، ألقى قنبلة لكنها لم تنفجر.
- لم أر شيئًا.
- بلى بلى، كما أقول لك.
- كما تقول لي كيف؟
- ألقى قنبلة.
- يالله! حماقات ما تقول!
والمظليون:
- تفرقوا! تفرقوا!

أيتها النخلات! أيتها النخلات التي تمتد جذورها في أعماق الأرض! على باب القصبة المحاصرة، داعبت بديعة جذع إحدى النخلات، ورأت مظليًا، وهو يدفع شيخًا مسنًا بعقب بندقيته، ويسأل الجزائري العجوز:
- إلى أين أنت ذاهب هكذا بهذه القفة؟
لم يجب هذا الأخير. فتشه المظليّ، فحص ما في القفة، وتأكد من أوراقه، وهو يعيد:
- إلى أين أنت ذاهب هكذا بهذه القفة؟
أخيرًا، قرر الرجل العجوز أن يجيب، فتلعثم:
- أسكن في الِمْدِيَّه، كنت عند ولدي، وأنا الآن أعود إلى بيتي.
ألح المظليّ بفظاظة:
- إلى أين أنت ذاهب هكذا بهذه القفة، أعيد عليك، أيها الكلب الكهل!
- وأنا أعيد عليك...
لكن صفعة منعته من الإنهاء.
- تحمل الطعام للفلاقة، قل هذا صحيح!
صاح الشيخ:
- ليس صحيحًا!
أفرغ المظليّ القفة على الأرض، ودفع العجوز الجزائريّ في سيارة عسكرية، ثم التقط بديعة من كتفها.
- إلى أين أنت ذاهبة هكذا بكل هذه الأناقة، يا سيدتي الجميلة؟ أتمنى ألا تكوني من الفلاقة!
قهقه المظليون الآخرون. أعطتهم ظهرها، وواصلت طريقها. رماها العسكريون بكلمات ماجنة، وتبعوها بأعينهم حتى اختفت في أحد الأزقة.
صاح الأولاد:
- الفرنسيسة! الفرنسيسة...
قالت بديعة لنفسها، وهي محتنقة الوجه: هذا لا يبشر بالخير! ابتسمت رغم ذلك. الفرنسيسة! الفرنسيسة! وما لبثت أن سمعت بعض النساء يهمسن:
- أليست هذه بديعة، ابنة حدة، السحارة؟
- تلك التي خرجت عن عاداتنا وتقاليدنا؟
- كأنها هي!
- ليست هي! لهذه شعر قصير أصفر! حسبما سمعت، الأخرى ماتت مقتولة!
وهي تسمع لهن، فهمت بديعة أنها جاءت تطلب المستحيل. لن يعرفوها. كانت عائلتها تسكن القصبة منذ أكثر من مائة عام، لكنهم لن يعرفوها. الفرنسيسة! الفرنسيسة! لن يعترفوا بها.
طرقت باب دارها القديمة، وانتظرت مدة طويلة أن ينفتح الباب. أطار فستانها هواء ساخن يهب من أعماق الزقاق المعتم، وشعرها، وأفكارها الغامضة. أصابها صداع مفاجئ، فوضعت يدها على رأسها، وعادت الأسطوانة إلى الدوران: لن يعرفوها... لن يعرفوها... كانت بحاجة إلى الجلوس على الأرض، إلى وضع رأسها على صدر أحدهم، إلى حك جسدها بالإسمنت. لن يعرفوها. قررت أن تطرق الباب من جديد، لكنها لم تكن تقدر على القيام بأقل حركة. صعد في حلقها غثيان صغير راح يكبر، وهبت العاصفة في أحشائها. دوامات دارت بها، دارت الأرض تحت قدميها، وسقطت فاقدة الوعي.

لم تفتح بديعة عينيها إلا على صوت المؤذن الذي يؤذن لصلاة المغرب. وجدت نفسها بكامل ثيابها في سريرها القديم، سريرها الواطئ، الأبيض، النظيف. مرت بيدها على فرشة القطن واللحاف الوثير، وشمت الرطوبة المثملة، رطوبة الجدران. رفعت يدها، ووضعتها على الحجارة الناتئة، ثم على الأرض التي بلطوها. تركت نفسها تُحمل على موجة من السعادة، وهي تغمض عينيها محبورة، مفتونة... إلى أن اختطفها صوت أخيها الكبير فجأة من تلك الغبطة ليلقي بها في عرض الجحيم. أحست بالجدران الرطبة تلفظها رغم وجودها ما بينها.
قال أخوها الكبير لزوجته:
- عند عودتي، لا أريد أن أراها في بيتي، وإلا عنفتك كل تعنيف العالم. ربما سأتأخر حتى مطلع الفجر، فإياك أن تقلقي. اذهبي إلى إحضار الأولاد من عند عمتهم، عشيهم عشاء طيبًا، واجعليهم ينامون باكرًا. أما عن هذه، إذا عدت ولم تصرفيها، قتلتك، وقتلتها، وقتلت الأولاد، وقتلت نفسي. هل تسمعين؟ عليك أن تطردي الحشرة! اطردي الحشرة!
نهضت بديعة، وهي تتحامل على نفسها. لبست حذاءها، وخرجت من الحجرة. جاءت سلفتها إلى لقائها، فسألتها بديعة بنبرة حانقة:
- أين ذهب؟ أريد أن أكلمه.
كانت للأخرى هيئة الدهشة والإعجاب، وكانت تنظر إليها بعطف وحنان. أخذت يدها، وجرتها إلى فرشة مطروحة على الأرض دون أن ترفع عنها عينيها اللتين تفيضان بالمودة.
انتهت إلى قول:
- كم أنت جميلة! لقد ازددت جمالاً، يا الغالية!
وضمتها إلى صدرها بحرارة.
تابعت السلفة:
- اشتقنا لك، يا الغالية!
انفجرت بديعة باكية، وسألت:
- لماذا يعاملني هكذا؟ لماذا يسميني حشرة؟ أنا أخته قبل كل شيء!
مسحت السلفه لها دموعها، وحكت:
- في اليوم التالي لرحيلك، ذهب أخوك إلى المسجد لصلاة الفجر، ولم يرجع حتى ساعة متأخرة من الليل. كان ملطخًا بالدم! فزعت، وعندما سألته دم من هذا، أجابني بصوت هادئ، بارد، صوت ميت أبدًا لن أنساه، إنه دم بديعة. صحت: يا جبار! هل قتلت بديعة؟ هل قتلتها حقًا؟ أغلق فمي بكف ترتعش لئلا يسمع الجيران، وأعطاني قنينة صغيرة قائلاً "هذا هو دمها الدنس، صبيه في البالوعة، وإياك أن تلفظي اسمها مرة أخرى! بديعة ماتت، بديعة ذهبت إلى غير رجعة!" وها أنت تعودين إلى الحياة! لم يقتلك زوجي إذن؟
نظرت بديعة إلى جديلتي سلفتها المصبوغتين بالحناء، وأعجبها كيف ضفرتهما بعناية. تابعت حركة أصابعها التي تملس إحدى الجديلتين، وترمي الأخرى على ظهرها. نظرت إلى وجهها الصغير المدور، وإلى ثغرها الذي لا يعرف الابتسام إلا بالصدفة. نظرت إلى عينيها اللوزيتين تحت جبين ضيق، المطليتين بكحل غزير، وإلى أذنيها، المزينتين بقرطين طويلين من الذهب، إلى ذقنها التي نقرها عصفور مهاجر. وضعت ذراعًا حولها، وقالت، مثقلة بالحزن:
- لا، لم أعد إلى الحياة. بديعة الأخرى التي تعرفينها ماتت. قتلها زوجك!
- لم أعرفك في البداية، حسبتك فرنسية. أخواتك كبرن كلهن، كل منهن لها زوجها، لكن ولا واحدة منهن تشبهك. كيف فعلت؟ كم أتمنى أن أصبح مثلك، يا الغالية!
نجحت بديعة في كتم عواطفها، وليس قلقها، أو حزنها، وهي تسمعها تضيف:
- كم أحب! لا، الحق أنني أريد أن أصبح مثلك. كليًا.
تراجعت بديعة أمام رغبة كهذه، وقام جدار من الوهم بينهما.
- وزوجك، ألا تخافين من قتله لك كما قتلني؟
ردت بابتسامة واسعة:
- لم يقتلك، كان يكذب.
- بلي، قتلني. أنا بديعة أخرى.
نهضت، وهمست شبه غائبة:
- في ذلك الوقت، لم أكن أعرف أن جديلتيك، المصبوغتين بالحناء، تخفيان رغبة كهذه.
كانت على وشك الذهاب عندما أبقتها سلفتها:
- ابق قليلاً، علميني!
- ماذا تريدين أن أعلمك؟ أن تكوني شخصًا آخر غيرك، شخصًا زائفًا؟
- فقط علميني. أخوك الزائف، من لا يقول الحقيقة! لقد كذب عليّ! الدم الذي صببته في البالوعة في ذلك الوقت كان دم أحد الخونة. عرفت ذلك فيما بعد. سمعت ذلك من فم أخيك، وهو يكلم صاحبًا له. إخوتك الصغار لم يعودوا يسكنون معنا، تفرقوا في البلاد، فسمح أخوك الكبير لنفسه باستقبال هذا الصاحب أو ذاك من وقت إلى آخر. وكما قلت لك، سمعت ذلك من فمه هو نفسه، أن الدم ليس دمك.
خفضت صوتها:
- احتفظي جيدًا بسر سأكشفه لك، يا الغالية. إن أخاك من الثوار!
دفعتها بديعة عنها بكل قواها، وهربت. راحت تجري كيفما اتفق، فقطعت كل أزقة القصبة للوصول حتى الكورنيش. كان البحر إلى يسارها. كان يمتد بجلالة، وكانت نظرات العابرين في المساء الأزرق تلاحقها. ولكن ما العمل للهرب من مدينة بأكملها؟ أن تركب سفينة وألا تعود؟ أن تقتل نفسها؟ هكذا كان أخوها مقاومًا، ثوريًا. كان دم الخائن يشبه دمها. أحست أن المدينة تبقيها. كان عليها أن تثبت للعالم أجمع أن الدم الذي صبته سلفتها في البالوعة ليس دمها. كان عليها أن تثبت للعالم أجمع أن دمها أحمر، حلو وساخن. كان عليها أن تثبت للعالم أجمع أنها جديرة بالاحترام كأي امرأة شريفة. لكن بالنظر إلى الحال التي كانت توجد فيها من الصعب إثبات ذلك، ورأت من المفارقة أن يغدو هذا الأخ بطلاً بسكبه دم أخته.
لا، بديعة لم تمت، لم تهلك، لم يزل دمها يسيل في عروقها. كمُحَنْد، كانت تحتاج إلى فرصة مناسبة لتخلع قناعها. ربما وجدها هو، هذه الفرصة المناسبة، فمن يدري؟

فكر مُحَنْد، وهو يحلق فوق روابي سور الغزلان، وهو يلقي القنابل على رؤوس "إخوته": لا بد أن هناك شيئًا من الجنون في كل هذا، جرائم يدعونها مآثر أو انتصارات! وأفلت قنابله بينما تحت، كان الآخرون يطلقون بأسلحتهم المضحكة. ومع ذلك، نجحوا في إسقاط طائرة حربية من الكوكبة. سقطت الآلة كطائر وحشيّ ذي أجنحة محترقة.
- آلو، رقم 33! ألو، رقم 33!
لكن الرقم 33، طيار الطائرة التي هوت، لم يكن يجيب. لم يتمكن من قذف نفسه.
فكر مُحَنْد: أنا الرقم 13! قائد كوكبة الموت! لقتل الخارجين على القانون! فكر أيضًا فيما وعدت قيادته: إذا أسكتوا بنادقهم قلدكم الجيش الفرنسي الوسام الأمجد، وسام النصر! وسام يؤمر به لمن لا يتردد عن التضحية بنفسه في المعركة!
استدار مُحَنْد عائدًا، وتبعته المقاتلات الخمس التي لم تصب. لم تكن خسارة إحدى الطائرات تعني نهاية المعركة، لكن مُحَنْد آثر العودة إلى القاعدة. ذريعة؟ تطهير الروح. وذلك الوسام الذي يساوي الموت؟ كان لا يهمه ذلك. قرر أن يتخلص من كل الأوسمة والميداليات التي حصل عليها لينقص من قيمة بزته. هكذا يصبح له من السهل خلعها. سيقولون: هذا الذي قاتل أبوه بشجاعة في الهند الصينية، يخلع بزته، ويخلّي واجبه. يهرب، ولكن أين؟ وكيف العمل للهرب من مدينة بأكملها؟ هذا السؤال، طرحته بديعة على نفسها، وخلصت إلى أن من اللازم أن تبتعث الفرصة الجيدة التي ستساعدها على إثبات من هي بالفعل.
وهو يحط على أرض المطار، فكر مُحَنْد أنه يخوض في تلك اللحظة معركته هو، وأن من اللازم الكثير من الشجاعة للذهاب حتى النهاية.

III
وهي تصعد الدرج، التفتت بديعة، وابتسمت: كان ضابط فرنسي سمين يجر قدميه جرًا بضع درجات من ورائها. خلع كاسكيته فجأة، وأخذ يلوح بعصاه بعصبية.
قال حانقًا:
- أنت تسكنين في بناية عالية، في الطابق السادس، غير أنك تدعينهم هكذا، لخمولهم، هؤلاء المضجرون من القادة العجائز، دون إصلاح المصعد!
توقف قليلاً ليسترد أنفاسه، فأمالت المرأة الجميلة رأسها، ونظرت من الأعلى إلى شعره الخفيف الأبيض، وإلى جبهته العارقة، وابتسمت من جديد.
قالت:
- لم يبق سوى طابقين!
رفع القائد قدمه بصعوبة كبيرة، وحاول أن يطمئنها:
- لا تظني أنني هالك إلى هذه الدرجة، هذا أبعد من بعيد، فلم أزل أتمتع بكل قواي وبحيوية أُحسد عليها.
حاول تعجيل صعوده، لكنه ما لبث أن عاد إلى سرعة السلحفاة التي كانت له. أخرج من جيبه منديلاً أبيض كبيرًا، ومسح جبهته.
تابع:
- سأتصل غدًا برئيس الخدمات الفنية في البلدية ليرسل في الحال بمن يقوم بإصلاح مصعد الماخور هذا! كأنه يتعطل عن عمد في اليوم الذي آتي فيه لزيارتك!
انطفأ الضوء مع وصوله قرب بابها، فأضاءت بديعة. فتحت الباب، وقالت له:
- ادخل!
لحق بها... أخيرًا. كانت عضلات بطنه تختلج، ونفسه يكاد ينقطع.
- لم أكن أعلم أن من أجل دخول الجنة من اللازم صعود كل درجات الماخور هذه التي تقطع الأنفاس حتى لضابط شاب!
داعب ردفيها بعصاه، وأطلق ضحكة راعدة، ثم دخل.
في الداخل، بدأ القائد القول، وهو يلقي بنظراته الشبقة:
- سأختار مكانًا مريحًا أكثر من الصالون. أفضل الذهاب، والذهاب حالاً، إلى حجرة النوم. نعم، هذا ما أفضل. سنستريح فيها كما ينبغي. معي، لا حاجة بي إلى مقدمات الخراء وكل مواخير المخادعة والمراء!
وقرصها من خدها.
مالت بديعة، وقالت بغُنج:
- إن السيد القمندان يعرف دومًا اختيار المكان المناسب في الوقت المناسب! أنا أيضًا لا حاجة بي إلى أية مقدمة.
وقبلته بحماسة.
أطلق القائد ضحكته الراعدة من جديد قبل أن يتباهى:
- أنا لست قائدًا بالاسم، أليس كذلك؟ وفريستي، يعني أنت يا عاهرتي الجميلة، على صورتي. لدينا نحن الاثنان الأفكار الشنيعة ذاتها، فما يجدينا أن ننفق حياتنا نسعى إلى ما نسعى إليه بشكل موارب بما أن الهدف واضح منذ البداية: المضاجعة! نعم، المضاجعة! والمتعة دون إضاعة لحظة واحدة!
وأراد ضمها بين ذراعية، فلم تدعه بديعة. أخذته من يده، وجرته إلى حجرة النوم.
خلع القائد ثيابه أمام المرآة، فقالت بديعة، وهي تأخذ منه سترته:
- السيد القمندان صديق قديم، وما أنا هنا إلا لأُمَتِّعَه، وهذا، هو يعرف هذا جيدًا.
ردد، وهو يرمي ثيابه هنا وهناك:
- أعرف، أعرف. وأنت، أنت تعرفين جيدًا أنك عاهرتي المفضلة.
أمسكها، وشدها بقوة إلى صدره. قلبت بديعة رأسها إلى الوراء، وهي تضحك، فلثم عنقها بهمجية. مزق قميصها، وتناول أحد نهديها في فمه.
همهم:
- أتعرفين؟ لو يطلبون مني الآن الذهاب لقمع عصابة من الخارجين على القانون الذين يهاجمون مقر الحكومة بقاذفات الصواريخ، فالحق أنني لن أفعل. بين ثدييك وكل ماخور الخراء هذا، هما نهداك ما سأختار.
وقبّل نهدها الآخر.
سكنت بديعة على حين غرة، ومن جديد هاجت دوامة أفكارها السوداء.
رددت، وهي تدفعه عنها بعيدًا:
- يا قمنداني العزيز! يا قمنداني العزيز!
اتجهت نحو الباب، بينما الآخر يحتج معترضًا:
- إلى أين أنت ذاهبة، يا بغية؟ أقول لك إنني أختارك أنت على الذهاب من أجل الدفاع عن مقر الحكومة، وتتركينني هكذا، يا ماخور كل المواخير!
تدلعت:
- إنه مخلص، صديقي القديم، وأنا أحب هذا!
- مخلص أنا؟ على قفاي الإخلاص وكل المخلصين! قولي بالأحرى، مهتاج لدرجة لم يعد يمكنني كبح ذلك. عودي هنا.
عادت.
- اخلعي ثيابك، وبسرعة!
خلعت ثيابها.
سار باتجاهها، ورفعها بسهولة كمن استعاد فجأة شبابه. ارتعشت بديعة على ملمس جسده المكسو بالشعر كالحيوان.
قالت بثبات:
- على مهلك، يا قمنداني! الليل كله أمامنا!
تردد القائد قليلاً، ثم تركها تقف على قدميها.
- ليدخل قمنداني في الفراش، وسأحضر له شيئًا يشربه.
قال القائد، وهو يحتوي تهيجه بشكل أفضل:
- حقًا ما تقولين، الليل كله أمامنا، لا شيء يدفع إلى الإسراع، وليدمروا ماخور الحكومة ذاك!
- إذا ما تمكنوا من ذلك، يا قمنداني؟
- ليدمروه، يا ماخور الخراء!
- إذا ما تمكنوا بالفعل من تدميره؟
- على حذائك!
- قمنداني ليس جادًا.
- بلى، على حذائك!
- لا، إنه ليس جادًا.
- على حذائك! على حذائك! على حذائك! وعجلي بإحضار ما يُشرب.
- حالاً، يا قمنداني.
سارت خطوتين، ثم استدارت نحو القائد الذي قال دون أن يخفي اضطرابه:
- أنت لم تكوني تتكلمين بجد. قولي لي إنك كنت تضحكين، يا ماخور الخراء!
- لا، لم أكن أضحك، يا قمنداني.
- إذن أنت لم تكوني تضحكين، يا ماخور الخراء!
- لا، لم أكن أضحك.
- يا ماخور ماخور الخراء!
- لكن فرنسا دولة عظمى، يا قمنداني! تنشر أصابعها كالأخطبوط!
وضحكت عن عمد.
أعاد الضابط الأبله:
- نعم، كالأخطبوط! كنت أعرف، أنت لم تكوني تتكلمين بجد. هؤلاء الفحامون المساكين الذين لا يساوون شيئًا لن يستطيعوا أبدًا الوصول إلى مقر الحكومة إلا إذا اصطادوا الأخطبوط وقضوا عليه، أو، على الأقل، إذا تمكنوا من قطع أصابعه.
ألقت بغُنج:
- والأخطبوط هو أنت!
أخذ وجهه العريض وبطنه الضخم يهتزان، فقال آليًا:
- نعم، كما تقولين، الأخطبوط هو أنا.
أطلق ضحكته الراعدة قبل أن يضيف:
- شخصيًا، أنا أتمترس في شقتك. لهذا أنا لا أخاف كل عاهري خراء الخارجين على القانون هؤلاء، الذين لن يستطيعوا أبدًا الوصول إليك. ربما استطاعوا الوصول إلى مقر الحكومة، ولكن أبدًا، أقول أبدًا، إلى حيدرا، أرقى حي في الجزائر. ثم مصعدك معطل، وهم لن يجرؤوا، أبدًا لن يجرؤوا، على أخذ الدرج لصعود ستة طوابق على القدمين كما فعلت أنا بشجاعة وتحد لسني! دعينا من كل هذا، واحضري لي شيئًا أشربه! نعم، احضري لي شيئًا يثمل لي مصاريني! هذا أفضل من الحديث عن هؤلاء البائسين! كيف استطاعوا الدخول في رأسك الجميل؟ أنت لم تصنعي لهذا، يا صغيرتي بديعة، أنت لم تصنعي سوى للمضاجعة، هل تسمعينني؟ فقط للمضاجعة.
- نعم، يا قمنداني.
- احضري لي إذن شيئًا أشربه.
دخل في فراش بديعة الزهريّ اللون بينما بقيت هناك دون حراك.
سألت:
- هل هم خطرون إلى هذه الدرجة؟
- من؟ هؤلاء البرابرة؟ بالطبع هم خطرون. لا تفكري فيهم! أنت لم تصنعي سوى للمضاجعة، يا ماخور الخراء! احضري لي شيئًا أشربه!
- نعم، يا قمنداني.
- عجلي!
- حالاً، يا قمنداني.
- شيئًا أشربه.
أحضرت بديعة على صينية فضية زجاجة ويسكي وكأسين وصحنًا من الفواكه وسكينًا كبيرًا.
قالت:
- ها هو ما يُشرب، يا قمنداني.
سأل الضابط:
- مع سكين كبير كهذا! لماذا؟
أجابت:
- لتقشر بديعة التفاح لقمندانها العجوز الصغير!
- ولكنك أبدًا لم تقشري لي أية تفاحة. زد على ذلك، أنني لا أحب التفاح المقشر. أحب قضمه هكذا – قضم واحدة – فلم تزل أسناني قوية. أحب قضمه كخدي كل جمال يُعرضان عليّ. أحب مداعبته كالأجساد التي تداعب بعضها في الحريم والتي تنبثق من أعماق حلمي. ردفاك، بطنك، ثدياك، كل هذا يهتز على إيقاع دربكة إلى حد الجنون، هذا هو حلمي، وما أنت هنا إلا لتحقيق كل استيهاماتي.
قالت بديعة، وهي تفكر في هذا الجانب الأساسي من وضعها، المكشوف عنه للمرة الأولى:
- إذن سيكون التفاح المقشر لي.
تناولت السكين بيدها، وقالت لنفسها: ما أنا سوى هذه الصورة التي في رأس هذا الفرنسي- وعبره كل الغرب –... قناع. إذا قتلته، وضعت حدًا لانتحالي. كانت الطريقة الوحيدة للفعل مع ذلك الصراع الذي يعيث في البلاد فسادًا. وكان القناع بالأحرى مزدوجًا لأنها فعلت كل شيء من أجل استغرابها، وفي الوقت ذاته، كانت على الرغم منها امرأة بين نساء توحي بهن رقصة البطن لكل نفس آتية من الناحية الأخرى للشروق. انعكس الضوء على شفرة السكين، وكان عليها أن تقطع أصابع الأخطبوط! كانت فكرته قبل كل شيء. وهي، الجسد الخاضع، كان عليها أن تتّبع كل وصايا قمندانها العجوز الصغير الذي صب لنفسه كأس ويسكي، وجرعه دفعة واحدة.
همهم متقززًا:
- هذا الويسكي مغشوش، يا عاهرة الخراء!
كانت بديعة قد أضافت إليه منومًا.
- ومع ذلك، هذا كل ما عندي من ويسكي، يا قمنداني.
جعلته يشرب كأسًا ثانية، ثم ثالثة، ثم رابعة، ثم... كانت تشعر أنها تقترب من نقطة البدء، منها، من بديعة ابنة حدة، السحارة. من بديعة، أخت المجاهد. من بديعة، صاحبة المائة عام من العزلة في القصبة. من بديعة التي خرجت منذ قليل من سجنها لتخترق المدى الأوسع. من بديعة، زوجة الخارج على القانون الذي كان قد تركها وحدها دون أن يصنع لها ابنة تسد عليها فراغ حياتها. من بديعة التي كانت أمها تقول لها أنت وردة تخلب العقل، وكانت تريد لها رجلاً قادرًا على هزيمتها في السرير. اقتربت بديعة الجديدة من القديمة. والسكين في يدها. مع انعكاس شفرة السكين. وقررت أن تلتقط نفسها، أن تمحو الحياة التي قضت في حبك تفاصيلها الأعوام تلو الأعوام. لم تكن تلك الحياة تساوي أكثر من بضع دقائق تلزمها لتتحرر منها، أكثر من صرخة تطلقها أشبه بصرخة وليد. كانت الفرصة أو عدمها. جذبت الضابط بين ذراعيها، وطعنته. تدفق الدم. لطختها أمواج الدم. مات الأخطبوط. أطلقت بديعة صرخة من الرعب والجنون، ثم ضبطت نفسها. انفجرت باكية. كان الأخطبوط قد مات بالفعل.

رن جرس الباب بصخب، فوضعت بديعة الجثة بهدوء على السرير، ورمت غطاء فوقها. لم يكن سوى مُحَنْد من يأتي على تلك الساعة من المساء. فتحت الباب بسرعة، ووجدت نفسها أمام طيارها. شُده مُحَنْد لرؤيتها، وهو يراها مغطاة بالدم من الرأس إلى القدم. وفي الأخير، نطق:
- ماذا فعلت؟
أجابت بديعة دون تردد:
- لقد قتلت الأخطبوط. يستطيع المقاومون الآن تدمير مقر الحكومة.
قال مُحَنْد بصوت قوي ومنفعل، وهو يهزها من كتفيها:
- أنت معتوهة تمامًا!
تركها، وراح يبحث في الحجرات. بعد عدة لحظات، خرج من حجرة النوم شاحب اللون، وطلب مذهولاً:
- كيف أمكنك ذلك؟
أخذت بديعة مكانًا على الكرسي المذهب قربها، وقالت والذهب ينعكس على وجهها:
- كان من اللازم أن أفعل شيئًا، شيئًا كهذا. آه! كم كان الأمر سهلاً! كان الأمر سهلاً جدًا! لم يكن يمثل أيًا من التعقيدات التي من العادة أن نضيع فيها. حركة، حركة فقط، طعنة خنجر أو طلقة رصاص، بعض الأمواج التي تقود يدك، وينتهي كل شيء على أكمل وجه.
فكر مُحَنْد: لقد أصبحت مجنونة! إلا أنه رأى في شرارة عينيها العكس تمامًا: كانت شديدة الصحو. سأل، وهو يحس بنفسه سائرًا على الماء في حالة من الضياع:
- منذ متى وأنت تنوين، لنقل وأنت تخططين لجريمتك؟
وكأن صِلاً لدغها:
- اسمعني جيدًا أيها الأبله المصاب بالفُصام! شخصيًا، لم أعد أنا. أنا أتوافق مع الواقع، وآخر ما يهمني ما ستكون النتيجة. لقد أنجزت أول فعل حر في حياتي.
ذهب مُحَنْد إلى النافذة، ولمح تحت عمود الكهرباء رجلاً متوسط الطول كان ينظر باتجاهه. صرح، وهو ينظر دومًا من النافذة:
- أتعرفين؟ أنا أيضًا أنجزت أول فعل حر في حياتي.
أطلقت بديعة ضحكة تشنجية، وقالت متهكمة:
- يا للمتمرد! أول فعل حر في حياتك!
استدار نحوها، دون أن يبالي بنبرتها المتهكمة، دون أن يفكر أنه سيلعب دور البطل، دون أن ينتظر أن تتهمه أو تدافع عنه. بالنسبة له، كل القضاة ماتوا. كشف بهدوء جم:
- لقد استقلت. لم أعد عسكريًا. أنا الآن رجل عادي، أشبه بالآخرين.
اعتدلت بديعة في جلستها، وفكرت قليلاً، ثم أطلقت ضحكة من جديد، وطلبت مصدومة بعض الشيء، مكبوتة بعض الشيء:
- هل هو دور جديد تلعبه، يا مُحَنْد؟ قل لي إنه دور جديد تلعبه لتكون بطلاً آخر.
- أنا الآن رجل عادي، أشبه بالآخرين. لا أكثر، ولا أقل.
سألت بديعة بعد لحظة من الصمت:
- وماذا تنوي أن تفعل؟ أن تقتل الأخطبوط؟
ابتسم، وأخذ مكانًا قربها:
- لقد سبقتني إلى ذلك.
- إذن شيئًا آخر.
أخذ يدها، وقبلها.
- هذا يتوقف.
- على ماذا؟
واصل تقبيل يدها، كفها...
- على صمودي خارج البزة.
- ورغم ذلك عليك أن تقرر القيام بالخطوة التالية.
- أنا حائر! لا أعرف بعد متى سأقوم بالخطوة التالية هذه.
احتدت بديعة، فاضطر مُحَنْد إلى ترك يدها:
- ما أنت سوى أحمق! نسر أحمق! لقد انتهيت في اللحظة التي استقلت فيها. هيا! اذهب وجد لك أخطبوطا، أخطبوطا آخر، واقتله! بمثل هذه الطريقة ستدخل التاريخ. ستكون الطريق أكثر سهولة إذا ما اهتديت بنفسك إلى نقطة الانطلاق. ما عليك سوى أن تجدها، وستجعل من الجزائر، لنا جميعًا، ميناء أمن وسلام.
نبر ساخطًا:
- وأين سأجدها نقطة الانطلاق هذه؟ حبة الرمل هذه على شاطئ شاسع!
- اصعد إلى الجبل! لماذا لا تلتحق بالمقاومين؟ لأنهم لا يمتلكون طائرات بعد؟ التحق بهم، وقل لهم إنك تريد طائرة. سيجدون لك واحدة. إذا لم تكن لديهم نقود لشرائها، سرقوا لك واحدة، المهم أن تلتحق بهم.
- أن أصعد إلى الجبل، هكذا...
- كيف يفعل الآخرون في رأيك؟
- أريد القول دون اتصال أولي.
- دون أي اتصال أولي.
- أنا، ابن جزائري مات لأجل العلم الثلاثي الألوان في الهند الصينية؟ أنا، ابن فرنسية كانت ربيبة الكولونيلات الذين ينتمون، وهم بعيدين عن ثكناتهم، إلى عالم التقريبيات؟ أنا، النسر الصاعق القادر على سحق إخوته بإسقاط القنابل عليهم بكثير من الدقة والصرامة؟ أترين؟ الأمر يختلف بالنسبة لي.
انحنى، وقال بعد لحظة من التفكير:
- بعد أن تحررت من الجيش، شعرت بالعار من نفسي!
- العار هو ألا تذهب للالتحاق بهم. هل تعتقد أنهم حفنة من البرابرة والخارجين على القانون؟ إنهم هم، يا عزيزي مُحَنْد، الذين يقاتلون الأخطبوط أينما وجدوه، ويصرعونه. اسمع... أول ذي بدء عليك أن تقتل أخطبوطا تحمله على ظهرك. سيكون ذلك إشارة سلام وانضواء تحفظك طوال الطريق.
إشارة سلام!
هبت في رأس مُحَنْد ريح صرصر، انتزعت إشارة السلام، وتركته يقف وحيدًا في وجه الجبل الذي يريد الصعود عليه. لم يعد يفكر كبطل، أما هي...
قال لها بأكثر ما يكون الجد:
- أنت تفكرين كبطلة.
أجابت مستاءة:
- إذن لا جدوى منك، ولا جدوى من الحديث معك!
- صحيح ما أقوله لك. أنت لا تفكرين فقط كبطلة، أنت بطلة! اللطخات التي على وجهك وكل جسدك تجعلك مفزعة، ومع ذلك، لدي رغبة في أخذك بين ذراعيّ. أنا في أمس الحاجة إلى ذلك!
اعترفت:
- أنا أيضًا في أمس الحاجة إلى ذلك. لكن قبل كل شيء أريدك أن تساعدني في إيجاد طريقة لدفن أخطبوطي دون أن يجلب ذلك المتاعب لي.
- عليك أولاً أن تأخذي حمامًا.
- ربما كنت مصيبًا.
- ليس هناك أفضل من حمام ساخن بعد شغل قذر.
- شغل قذر، في رأيك؟
- الأمر يختلف في حالتك. في حالتك الأمر التزام.
وهي في طريقها إلى الحمام، سمعته يضيف:
- أنا أحسدك، يا بديعة، لو تعرفين. إنه البرهان على أن التزامك كلي. لكنه ليس التزامي، على الأقل ليس بعد... هل تعرفين أنني فكرت في ترك الجزائر لأجل الخلاص من كل هذا، والذهاب إلى السويد أو إلى موسكو؟
توقفت:
- ولماذا موسكو؟
- لا لشيء. إنها أول مدينة فكرت فيها.
عادت إلى الصالون، عارية، جسدها المخضب بالدم، على بعد خطوات منه. كانت الأنهر العربيدة التي اجتاحت جسدها قد رسمت هنا وهناك بعد أن جفت خطوطًا على شكل أصابع دقيقة جدًا ومتعرجة إلى ما لا نهاية. كان يراها على مقربة منه عارية، وفي صدره طبقات من الجليد تحاصر كل إحساس، كل عاطفة. كان هناك، كتمثال عاجز. كانت رغبته قد تلاشت. كان هناك، كالحيوان الذي لا يرغب في شيء. كان يود لو يفقأ عينيه، لو يثقب أذنيه، لو يقيء أحشاءه، لكن قرصًا سميكًا في حلقه كان يمنعه من بصق روحه.
- تعتقد أن الهرب هو الوسيلة الوحيدة لمحو شعورك بالإثم؟
- ربما، ومع ذلك أعرف أنني لن أكون في سلام أبدًا، سأكون مثقل الضمير دومًا.
أخذت طريقها إلى الحمام ثانية. تأمل وَرِكَيْها السمراوين، ورِدْفَيْها المدورين. كانت هذه الصورة تثيره، لكنه ظل لا يبالي بها. كان يشمئز من نفسه. لان القرص السميك في حلقه أمام المائع الأصفر ذي الرائحة الخبيثة التي تحولت إلى بركان على وشك التفجر.
لقد انتهى مُحَنْد ماندريان. لقد أنهى عليه عن عمد محرقًا إياه مع بزته. لقد ولد مُحَنْد آخر، مُحَنْد آيت إبراهيم، مُحَنْد سيدي علي، مُحَنْد بلقاسم. لقد ولد، عاريًا، ولبرودة الليل، أصيب بالزكام. ودون أن يعلم، كان يفكر بأنفه. قال له صوت باهت: أنت تفكر بأنفك، فأدرك أنه كان يفكر بأنفه، وأنه كان بحاجة إلى حساء ساخن كما يجب وحبتي أسبرين. كان بحاجة إلى فراش وثير في حجرة مُدفأة كما يجب، لكن لم يكن الشتاء! كان يهلوس...
كان قد فكر في ترك الجزائر، في الذهاب إلى السويد أو إلى موسكو، وقال لنفسه: لقد أسمت ذلك هربًا وأنا فشلاً. إنها ثمرة الفشل، القهقرى. مسعاي مسعى الغربة للغريب، المسحور بالتغرب. إنه لمن الحمق ألا أحمل الراية، ألا أشارك في المعركة، من الناحية الصائبة هذه المرة، ألا أساهم في تدمير مقر الحكومة، أن أنهزم... إنه لمن الحمق أن أنهزم في اليوم نفسه الذي أقرر فيه اتصالي بالعالم. كيف يمكنني الاتصال بالعالم إن لم أكشف عما يعتمل في صدري، ومواجهة ما يعتمل في صدري؟ طبقات من الرواسب تغطي نظري إلى الأشياء وتزيفه. عليّ أن أسحق بقدمي كل هذه الرواسب، عليّ أن أضع حدًا لها... وبعد هذا أقول الرحيل! لأنني لا أستطيع البقاء! أنا ريشة في مهب الريح! آه! يا إلهي. تجتاح قلبي عاصفة رهيبة! ما العمل؟ ماذا عليّ أن أفعل؟ عليّ أن أقوم بالخطوة الأولى. عليّ أن أختار حقيقة من الحقائق: إما أن آخذ الطريق التي ستقودني إلى الشعلة المضيئة لاسم مُحَنْد آيت إبراهيم، وسأضيء كالنجم، وإما أن أعود طريقي، أن ألبس ثوب مُحَنْد ماندريان، هنا، في السويد، أو في موسكو، سيكون الأمر سواء!
سار عدة خطوات باتجاه الحمام، وبقي قليلاً، وهو يسمع الماء يسيل، ثم قرر الذهاب. دفع باب المدخل، تركه مفتوحًا على مصراعيه، ونزل الدرجات أربع أربع، وهو يفكر: لن تجدني! كان بالأحرى مسرورًا من ألا تجده، وأن تبحث عنه متسائلة: لماذا ذهب؟ كيف استطاع أن يتركني وحيدة مع جثة الأخطبوط؟ كيف استطاع أن يفعل لي هذا؟ لسوف تفكر في أفضل طريقة لإخفاء الجثة دون أن تصل إلى ذلك. ستقول لنفسها: يا له من شخص غريب، هذا الطيار الذي يقدم استقالته لهوى مفاجئ! دون البزة، هو لا يساوي أكثر من ذبابة!
أبطأ النزول، وأنهى الدرجات الأخيرة بخطوة مثقلة. كان الغثيان المتصاعد في جوفه يطويه اثنين. من ناحية كان يود لو يقيء روحه، ومن ناحية ثانية كان يمنع ذلك. كانت في أحشائه شجرة صبار تمزقها، فتساءل: أي الطريق الأكثر ضمانًا للصعود إلى الجبل؟ لو أمسكوه في سور الغزلان لعلقوه، لقطعوه إربًا. لا شيء يمنعهم عن فعل ذلك، ولا حتى ذكرى أبيه، الكولونيل الفرنسي من أصل جزائري، البطل الذي سقط في الهند الصينية. لا ميدالياته ولا أوسمته ستمنعهم من أن يريقوا حقدهم، ولا كلماته التي سينطقها بلغته الدارجة طالبًا رحمتهم.
قال مُحَنْد لنفسه: سأصعد إلى الجبل مهما حصل، سأبدأ من هناك مهما كانت الصعاب!
تقدم من الرجل الذي كان قد رآه من النافذة، وهو يلاحظ أنه لم يترك مكانه تحت عمود الكهرباء، وأن الليل يترك آثارًا قاتمة على وجهه. اختفى الغثيان. كان يردد في رأسه لنفسه: سأصعد إلى الجبل... كان راضيًا. سأصعد إلى الجبل مهما حصل! سأقتل الأخطبوط فيما بعد! حيى الرجل، وهو يمر أمامه. لم يدرك أنه تكلم بالفرنسية، اللغة التي من العادة أن يقول بها للآخرين صباح الخير أو مساء الخير. تلقى ضربة عنيفة على رأسه، شيء آخر غير جواب لطيف على تحيته، أحد تلك الأجوبة التي نختبئ بواسطتها وراء الكذب والرِّياء. سقط على الأرض، لكنه نهض بسرعة، وهو يترنح. اقترب الرجل منه، فانقض مُحَنْد عليه صائحًا: أنا صاعد إلى الجبل كأي بطل من عندنا! أطلق الرجل من داخل جيبه ثلاث رصاصات فجرت رأس "البطل"، وتقوض جسد مُحَنْد.

ارتدت بديعة ثيابها بسرعة، وهي تنادي مُحَنْد عدة مرات دون أن تحصل على جواب. أغلقت باب المدخل، وخفت لتطل من النافذة، وفضولها يدفعها إلى معرفة من أين جاءت طلقات النار. في الوقت ذاته، طرق أحدهم على بابها، فأفزعتها جسامة الطرقات وفُجاءتُها. سارعت إلى فتح الباب، وهي تكاد تفقد الصواب. كانت الصورة الأخيرة التي في رأسها تلك الجثة الضائعة المعالم الملقاة على الرصيف، وكان الزائر قد راح يطرق الباب بكلتا يديه. ظنت بديعة أن مُحَنْد يعود، فلم تنظر من عين الباب. وما أن فتحت، دفعها الزائر، ودخل. عندما عرفته، جمدت في مكانها، ثم نجحت في النطق:
- من؟ أنت!
كان أخوها الكبير.
أحكم غلق الباب، وأطفأ الضوء. غاص كل شيء في الظلام والمجهول.
قال الأخ الكبير لبديعة:
- لهذا لم أقتلك، حكمت عليك بالموت، لكن الجبهة رفضت. قال رؤسائي إننا سنحتاج إليك، وقالوا أيضًا إن في عروقك دمًا حارًا.
سكت. ثم، بعد لحظة:
- فكري في العمل معي، كل شيء يتوقف على صِدقك.
لم تستطع حبس دمعها، وضعت رأسها على صدر أخيها، وانفجرت باكية.
همست:
- قل لي إنك كنت تريد هذا أنت أيضًا، وليس فقط رؤساؤك. قل لي إنك كنت تنتظر هذه اللحظة دومًا، وإنني أستحق مغفرتك. ليس فقط لأنني أريد ذلك، أنا، ولكن أيضًا لأنك موافق. قل لي إنني فتاة طيبة، فتاة جيدة، وجديرة بالثقة. قل لي! قل شيئًا! لا أريدك أن تذهب قبل أن تقول لي!
ابتعد عنها، مسح دمعها، ربت على خدها، ثم أقعى معها قرب النافذة. اعترف الأخ الكبير، وهو ينظر إليها في عينيها:
- هناك لا بأس من الأشياء أحب التكلم فيها معك، أشياء كثيرة. نفذت حكم الموت في خائن منذ بضع دقائق، لهذا يتحتم عليّ البقاء عندك حتى الفجر.
ابتسمت. سيحميها أخوها، ولن تخاف من النظرات المخلة بالحياء. لن تخاف من نظرتها الخاصة بها. كانت الحياة أسئلة عزة النفس تلك التي عليها واجب الإجابة عنها. جثة الأخطبوط التي كانت تخفيها في حجرة النوم مثلاً، والتي سيعينها أخوها على التخلص منها. بانتظار ذلك، بقيا هكذا دون حراك. لكنها تحت نظرة أخيها أحست بنفسها تغدو ثقيلة كفراشة من الحديد، كورقة من النحاس، كطائر من الرخام. اختفت ابتسامتها، وتصاعدت ضجة متزايدة كانت تملأ الكون. خطوات مذعورة ومدحورة كانت تركض كأنها تريد الخلاص من خطر الموت. صفارت قريبة وبعيدة كانت تتقاطع. نوافذ مربعة ومستطيلة كانت تنغلق، كانت تنفتح، كانت تنغلق، كانت تنفتح، كانت تنغلق. نفير سفينة معلنة عن رحيلها كان يتعالى. قالت لنفسها، وهي تتعلق بكتف أخيها، إن هذا كله، كل هذا ينذر بعودة الدوامات. فجأة، تهيأ لها أنهم سينتزعونها من حيث كانت ليلقوا بها في جوفها الأعمى، أنهم سيمزقون الصورة الأخيرة التي رأتها في الخارج، صورة حقيقية وليست ظاهرًا خادعًا، على الرغم من جور العبث في تلك الجريمة. غلّ الماضي الحاضر، وبدا المستقبل لها غير أكيد. لهذا بقيت تتعلق بكتف أخيها الكبير، وهي تنتظر حركة من يده، ترقب اللحظة التي تشعر فيها بنفسها خفيفة من جديد، نهاية الجُسوء، الأمر بالوقوف.
الجزائر 1969.07.14






























الحجرة

الروح من طبيعة مستقلة عن الجسد.
رونيه ديكارت

المراهقون الممزقون بين نداء الشهوة ورعب الخطيئة.
أندريه موروا

الإنسان هو الكائن الذي لا يمكنه الخروج من ذاته، الذي لا يعرف الآخرين إلا في ذاتهم.
مارسيل بروست


كانت لحجرتي أربعة جدران واطئة ونافذة واحدة بِصِفقين مغلقين دومًا، وكان الضوء يتسلل بالكاد منهما، بالقدر الذي تنقص معه العتمة. كانت حجرة صغيرة، مستطيلة، في الطابق الأول، تطل على الفناء. وفيما مضى، كانت أمي تجعل منها تَسقيفة البيت. كنت قد صنعت ستارًا من الشراشف القديمة الملونة، المثقوبة في الوسط وعلى الأطراف، لأقسم حجرتي قسمين، أحدهما أكبر من الآخر، ولأخفي سريري.
صعدت على كرسي من القش لأفحّم بقعة انحلت على جبين إليزابيث تيلور. كنت قد رسمت على الجدار صورة الممثلة التي أعبدها، وكنت أتمنى أن تتجلى لي ذات يوم بجسدها لأقضي معها ليالي الهوى الأكثر جنونًا. نمقت جبينها، وأعدت رسم حاجبيها المذهلين، ثم نزلت لألتصق بالجدار المقابل، وأفحص عن بعد اللمسات "السحرية" التي أضفتها. لم يرضني ما فعلت: كنت قد سودت الجبين أكثر مما يجب، فوق الحاجب الأيمن خاصة، وكأن ذلك ضربة عصا! لم أفعل ما يمكن إصلاحه، فلم أكن رسامًا. كنت قد أنجزت هذا الرسم دون ميزة ولا روح، دون استعارة ولا رسالة، لأنني لم أولد للرسم. كان ذلك لإنفاق الوقت، فقط، أو ربما لإضاعة الوقت.
- عدنان!
كانت أمي.
- ينتظرك شريف على الباب، انزل!
ألحت:
- انزل، يا عدنان! شريف ينتظرك!
كانت حجرتي تقع فوق المطبخ، وكنت أفضي إليها بالصعود على درج ضيق من الخشب. لم أكن أرغب في رؤية شريف، أعز أصدقائي. كان واقع أن أجد نفسي في حجرة معتمة، حجرة معلقة، يعمق من رغبتي في العزلة. كان عالمي ينحصر بين جدراني الأربعة الصغيرة، ولم يكن الخارج يثير اهتمامي. كان للقلق والحزن والعزلة في حجرتي مذاق لذيذ.
- هل تسمعني، يا عدنان؟ انزل، شريف ينتظرك!
سمعت قبقاب أمي، وهي تحاول الصعود بحذر، لهاثها التعب من وراء الباب، دقاتها: طُق، طُق، طُق... وهذا السؤال الذي لم يكن موجهًا إلا لطمأنتها:
- هل أنت هنا، يا عدنان؟
تماهت النبرة الحادة التي كانت لها منذ قليل بالقلق، كانت على التأكيد تفكر أنني لم أكن هناك، أنني خرجت دون أن أعلمها، وكان ذلك يقلقها كثيرًا: كانت تريد أن تعرف كل شيء عني، حركاتي، أفكاري، وكنت لا أحتمل ذلك. تخيلتها مصابة بالرعب، فأشفقت عليها. آه! يا للأم التعسة!
أمسكت أنفاسي، وعيناي تحطان على قبضة الباب. كنت أسبب لها القلق، مما أسعدني. وأنا أحتفظ بالصمت، كان ذلك كما لو كنت آخذ بثأري الصغير منها، في حين أنها رأتني أصعد إلى حجرتي قبل ساعة. كانت على التأكيد تتساءل أين أمكنني الذهاب، وعلى الخصوص كيف نجحت في التخلص من تنبهها. أدارت قبضة الباب بعصبية، كان الباب موصدًا. بقيت صامتًا، ونظرت إلى صورة معبودتي التي رأيتها تقترب مني فجأة. عادت أمي تطرق الباب بيدها الرقيقة، ولكن الشديدة والعريضة، دون أن تحصل على جواب. كانت الحجرة تسقط في صمت مطبق، وأنا، كنت أتجسد شخصية أخرى، شبحية. مُسِخْتُ في ظل وادع، بوداعة ظل معبودتي التي بدأتُ أحس بنفسها، وهو يمتزج بنفسي. لكن هدوئي كان خادعًا، لأنني كنت أقدر قلق أمي، ولم أكن أفعل شيئًا. ليدوم ثأري. كان ذلك شنيعًا من طرفي، لكنه أقوى مني. كانت تلك الطريقة الوحيدة للإفلات من سلطة أمي، وإرضاء جبني.
لم أزل أسمع بعض الخطوات المترددة، ثم عادت تنزل الدرج، وهي تطرق قبقابها دون أدنى حذر، الآن بعد أن اعتقدَتْ أنني لم أكن موجودًا. كنت قد أثرت غضبها. سمعتها بخفوت أقل، وهي تدخل الصالون، وتنفستُ الصعداء. انفك ارتباطي بالصورة، وفقد الرسم كل ما يشدني إليه. كانت فوضى الخطوط تشكل في العتمة لطخة على الصدر والكتفين، وكنت أشعر بالجفاف في حلقي، وأنا أقول لنفسي، لقد قهرتها، بالطبع أمي. ستقول لشريف: وجدت حجرته موصدة! خرج حتمًا دون أن أنتبه إلى ذلك، وهذا أمر غريب حقًا! إنها المرة الأولى التي يخدعني فيها هكذا، أنا أمه! سيقول شريف مخيبًا، وهو يقطب جبينه: طيب! قولي له أن يلحقني إلى المنزل، فلدي ما أقوله له. – ماذا؟ - آه! لا، يا مدام هاشمي. إنه سر ما بيننا. – سر؟ عدنان لا يخبئ شيئًا عن أمه. أبلغك أنني أمه، في حالة إذا لم تكن تعلم. – أعلم، يا مدام هاشمي. أعلم أنك أمه. مع السلامة، يا مدام هاشمي. إياك أن تنسي، ليلحقني إلى المنزل حال عودته. سيعطيها ظهره مفكرًا: آه! يا للأم المضجرة! سيداعب برفق الورود التي في الأصص، الموضوعة على درجات السلم الخارجي، ثم لن يفكر فيّ. كان ما يهم شريف شيء واحد: الحب. هذا ما كان يريد أن يقوله لي. الحب، الحب، الحب... على عكسي، دومًا ما كان لشريف مشروع جاهز لاقتناص بنت، وبنت عائلات، يعني غبية، لكنها تفي باللازم لبعض الوقت. جميلة أم لا، لم يكن ذلك مهمًا، لكنها غالبًا ما تكون جميلة، بالنظر إلى المحتِد الأرستقراطي لفرائسه المحظيات. ولماذا بنت عائلات على التحديد؟ لأن بنتًا من هذا النوع غالبًا ما تكون غبية، ومن السهولة أن تسقط في شباك ولد كريم النسب كشريف. أضف إلى ذلك أنهن غالبًا ما يكن حالمات، يعني مستعدات لكل شيء، رغم تربيتهن الصارمة، وكل المحرمات التي تتضمنها.
ابتسمت، وأدرت ظهري للرسم. سحبت الستار، وجلست على حافة سريري. كان من الحماقة ألا يهمني الحب بالقدر الذي يهم شريف. ربما كنت مختلفًا. كنت جافًا كرمل الصحراء، لأنني أكمم عواطفي منذ البداية. كنت أخشى الوقوع في الحب. كان شريف قادرًا على أن يحب فتاة في كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة، كل ثانية، وليس أنا. من جهة أخرى، لم يكن ذلك يسمى حبًا، كان ذلك يسمى حبًا عابرًا. في نهاية الأمر، لم يكن شريف يعرف عن الحب شيئًا. أنا كنت أعرف، وكنت أريده أن يكون مطلقًا. ربما كان ذلك ذريعة أبرر بها خوفي من الحب، ضعفي أمام أهوائي، هربي من كل عاطفة تبديها فتاة لي. كنت أفضل الظمأ عزلة على الارتواء رغبة.
كنت أربط أحيانًا هذا الموقف الذي أجده غير مألوف لشاب مثلي بوضعي المالي، فالواقع أنني منذ عامين لحصولي على الشهادة الثانوية العامة لم أجد عملاً. كان والدي قد أوقف نشاطه المهني لأسباب صحية، كان يشكو من ربو مزمن، وكان لي سبعة إخوة وأخوات، وأمي التي لم تكن تريد بأي حال من الأحوال التضحية بالمظاهر، كانت تحتاج وحدها إلى مرتب كامل.
وقع نظري فجأة على ركام من الأشياء في الزاوية المجاورة للنافذة. هذه الأشياء، الخالية من كل ذاتية، أثارت انتباهي. نهضت لأراها عن مقربة، وكنت أعرف مسبقًا أنها أشياء محطمة، وبالتالي ليست نافعة. مقاعد فقدت ذراعًا أو قدمًا، درفات ذات مرايا مشدوخة، منضدات معوجة، ملابس ممزقة، أغطية من الصوف قرضها العُث. ولكني لاحظت للمرة الأولى أن عنكبوتًا كانت قد نسجت شبكة ضخمة، وأقامت عشها في ثقب في السقف. رأيتها، عريضة وشديدة السواد، تختلف اختلافًا كبيرًا عن الحشرات التي اعتدت مصادفتها. وربما لأنها أحست بوجودي، تحركت العنكبوت، وبدأت تحدق فيّ بعينيها المدورتين والمستقصيتين. أحسست فجأة بالتفاهة. عادت العنكبوت إلى النسيج، فشعرت في فمي بخيط من اللعاب باردٍ برودة الخيط الذي كان يخرج من جوفها. فكرت: كلانا حشرة! لم يطل بالعنكبوت الأمر حتى اعتادتني، وخيل لي أنها حيتني قبل أن تغيب في ثقبها. نعم، كلانا حشرة. هذه الحجرة عشنا. في الماضي كانت تسقيفة البيت، واليوم، للعنكبوت ولي، مدانا الحيوي.
كان بإمكاني الاحتفاظ بحجرتي في الطابق الأرضي، وألا أقترح على أمي إقامة صغارها فيها. لكني كنت أريد بناء عالم لي وحدي دون معونة أحد، عالم منعزل، حيث أستطيع أن أكون فيه حرًا تمامًا. بدت لي التسقيفة المكان المثالي. أصلحنا ما يمكن إصلاحه، بعنا كل الخردوات المعدنية والنحاسية، أحرقنا الأشياء الأقل نفعًا، حتى أستطيع في النهاية دخول عالمي دخول المنتصرين.
دخول المنتصرين؟ ليس تمامًا. لأنني لم أكن مستقلاً إلا في الظاهر. ستبقى حريتي خدعة طالما ظلت أمي تلاحق خطواتي، أفكاري، رغباتي... ما عدا مغافلتها، وسرقة بعض لحظات المتعة، كنت مراقبًا بلا انقطاع. كانت فكرة أن أشارك عالم الظل وشبه الظل هذا العنكبوت السوداء مرعبة وعبقرية. كانت تجربة مبتكرة، تجربة لا يملكها أحد غيري نكاية في كل شيء. لم أكن أنكر علاقتي بالحشرة، ولم أكن أديم صراعًا من أجل العيش ما بيننا. كنت أعيش معها وكل الحشرات التي ألتقيها من وقت إلى آخر. كنت أعتبر نفسي عليها ملكًا، وهي رعيتي. وأنا بالنسبة لها سأكون الأقوى دومًا، الأكثر خطرًا، ولكن الأكثر ضعفًا بالعلاقة مع أمي وناس العالم الخارجي، الأكثر جبنًا.
وأنا أريد أن أمسح أُس كرسي من القش، أثرت زوبعة من الغبار. عندما نفخت على يدي، انتشرت في الحجرة رائحة صمغ ورطوبة. لم أستطع التحكم بسلسلة من العطس إلا بالتنفس عبر منديل من الورق. كنت خائفًا من أن تسمعني أمي. توصلت أخيرًا إلى تهدئة النوبة. ألصقت أذني على الباب للتأكد من أنها لم تكن تصعد درجي الضيق الخشبي، وبعد ذلك رميت بنفسي على سريري منهوكًا، وحدقت في السقف.

قالت أمي لأبي، أمي التي كانت تعتبر أنني لم أزل طفلاً:
- يقلقني الولد، راح دون أن يخطرني، وهو ليس عند شريف، فأين أمكنه أن يذهب؟
قال أبي:
- لم يعد طفلاً كما تعتقدين، فهو كبير بما فيه الكفاية ليذهب حيث يشاء، توقفي عن معاملته كطفل.
- سيظل لي طفلاً دومًا، طفلي، طفلي الوحيد.
- والأطفال الآخرون الذين لك، ليس لديهم حساب عندك؟
- لا، ليس لديهم حساب عندي، هم أولاً أطفالك.
- أطفالي وأطفالك.
- هم أولاً أطفالك. عدنان شيء آخر، عدنان طفلي، هو بكري، كل حب الأم الذي لدي له. هو مفضلي.
- ما أنت إلا أنانية، تفضلينه لأنه كبير الآن، لأنه يستطيع العمل لخدمتك.
- هذا بالتأكيد، لقد أحسنت القول، عليه العمل لخدمتي، لتحقيق كل رغباتي، وزد على ذلك سيكون الشيء نفسه للآخرين عندما يكونون في عمر يكدون فيه. على الجميع أن يتعاونوا بما أنك قاعد في البيت، مختبئ كامرأة.
- أنا المريض، مختبئ كامرأة!
وأخذه سعال عنيف.
- توقف عن السعال، هلا توقفت؟
لم يستطع التوقف.
- قلت لك توقف عن السعال، يا ضفدعة! توقف عن السعال!
توقف أخيرًا.
- لا تدعيني ضفدعة، من فضلك!
- عندما تبدأ بالسعال، وكأنك تفعل ذلك عمدًا كالضفدعة، وكأنك لن تتوقف أبدًا.
- لا تدعيني ضفدعة!
- وتريد أن أدعوك كيف؟ ليث، ثعلب؟ لا الليث ولا الثعلب يمكنهما أن يصبحا مربوئين، الضفدعة بلى.
- لا تدعيني ضفدعة!
- تستطيع الضفدعة الإمساك بالربو لأنها تعيش في الماء.
- لا تدعيني ضفدعة، قلت.
- لا تريد أن أدعوك ضفدعة، إذن كيف تريد؟
- لا شيء.
- أن أدعوك لا شيء! حلوة هذه النكتة. لكن في وضعك الحالي أنت لا شيء.
- لا تكلميني هكذا، من فضلك! كنت في الماضي شيئًا كبيرًا، وهذا أنت تعرفينه جيدًا.
- في الماضي.
- الآن هناك مفضلك. سنرى إذا كان على مستوى رغباتك الشهيرة، عدنانك.
- لا تسخر به، سيكون كما أريد، كبيرًا وجميلاً وغنيًا. سيحب أمه، ويفعل كل شيء من أجل رضاها، ليس مثلك، يا ضفدعة!
- قلت لك ألا تدعيني ضفدعة، يا رب السماء! لا تدعيني ضفدعة!
- لن أدعوك ضفدعة، ضفدعة.
- ليس ضفدعة! ليس ضفدعة! ليس ضفدعة!
وأخذته نوبة السعال من جديد. هربت منه أمي. ركضت إلى الخارج، وبكت.

نظرت بتقزز من حولي. كالعادة، جعل أبواي مني موضوع شجارهم. كان كلاهما ينتظر الكثير مني، كانت أمي تقول ذلك صراحة، وأبي يخفي ذلك خلف سعاله اللانهائي، كما لو كان يطلب مني يد العون، كما لو كنت وحدي من يستطيع تقديم يد العون له، الشيء نفسه لأمي التي كنت في حسابها الطفل الوحيد، الصانع الوحيد للعجائب. هذا ما كان بالطبع يدفعني إلى الغضب ضد نفسي، لأن في الوضع الحالي للأشياء، لم أكن قادرًا على أي فعل، لا لهم، ولا لي. كنت عاجزًا بكل بساطة. لا شيء، كما كانت أمي تقول لأبي. ربما سأكون قادرًا على تحقيق رغبات أمي والرغبات الأخرى، الخفية، لأبي، لو لم أكن أنا نفسي. في الواقع لم أُصنع لتحقيق الأحلام، الصغيرة أو الكبيرة. كنت أنا نفسي حلمًا زائفًا، وعليّ الاعتراف بأنني لا أحتمل ذلك.
كدت أختنق على فكرة أن أجد نفسي ملقيًا هنا دون أن أستطيع أن أفعل شيئًا. مررت بأصابعي المخدرة على عنقي، وبدأت أفك أزرار قميصي. خلعته، وخلعت بنطالي، سروالي القصير، وأردت أن أرى نفسي عاريًا في المرآة المشدوخة. لم تكن المرآة كبيرة بما فيه الكفاية. دخلت في سريري كالوليد الجديد، دون التوقف عن الحركة تحت الغطاء. أعدت قراءة أشعار بودلير التي كنت قد نسختها على الجدار، قرب مخدتي:

هي امرأة جميلة ذات عنق ثرية،
تترك ضفيرتها في نبيذها تسترسل.
مخالب الحب، سموم المقمرة،
كل شيء يزلق وكل شيء ينفل على غرانيت أديمها.
تضحك للموت وتزدري الفجور،
هذان الشيئان المخيفان اللذان يدهما، التي تحك دومًا وتَحُش،
احترمت رغم ذلك في ألعابها الهدامة
من هذا الجسد الركين والمستقيم مهابته المخيفة.
تمشي إلهة وترتاح سلطانة،
لها في المتعة العقيدة المحمدية،
وفي ذراعيها المفتوحتين، اللتين يملأهما نهداها،
تنادي بعينيها سلالة البشر.
تعتقد، هي أيضًا، هذه العذراء غير المُخْصَبة
ورغم ذلك الضرورية لسير العالم،
أن جمال الجسد هو...

لم أنه هذه المنحوتة الرمزية من زهور الشر، بسبب الجو المفجع الذي كان يسود. أردت الهرب من الموت والفجور، ورغم ذلك لم أكن خائفًا لا من الواحد ولا من الآخر. لكني لم أكن أجرؤ على مواجهتهما. غفوت، وحلمت بتلك العذراء غير المُخْصَبة، كما لو كنت أحلم بنفسي. عذراء بودلير تلك كانت أنا. كانت أمي في حلمي تطرق بابي. لم أكن أجيب. كانت تطرق أيضًا وأيضًا. لم أكن أجيب دومًا. انتهى بها الأمر إلى نزول الدرج الضيق الخشبي والذهاب مثقلة بالكرب. ذهبت عاريًا أنظر من وراء مصراعي النافذة: كان النهار في الخارج، وشجرة السرو. كان الفناء يبدو أوسع دون إخوتي وأخواتي حيث كانوا يلعبون بالكرة. رفعت عينيّ إلى البيت المقابل، إلى النافذة المفتوحة لجارتي، وأنا أفكر في أنها تمشط شعرها عارية أمام مرآتها، أو أنها تأخذ حمامها. كنت قد وقعت في حبها منذ عامين، وفي الوقت الحاضر كنت أعيش وحدتي دون حب. منذ عامين، كنت أحبها حبًا جنونيًا، ولا أتوقف عن الحلم بها، وأنا أجامعها في كل الأوضاع التي كان عقلي الصغير للمراهق يستطيع اختراعها. كانت حجرتها ممنوعة عليّ، فحاولت بكل الوسائل اختراقها، بتسلق السور مثلاً. لكني كنت أخاف أمها، شيطانة حقيقية كما كان يقال. لم أكن أستطيع أن أحبها من جديد، أو بتحديد أكثر أن أشتهيها، لأنني كنت قد اشتهيتها حتى الموت. كنت أدعي أنني أحبها، لكني في الواقع كنت أشتهيها حتى المنون.
في حلمي دومًا، كنت أرى أول ما أرى يدي ثم رأيتني كلي عاريًا على نافذة جارتي، فتضرب مصراعيها في وجهي، وبعد ذلك استيقظت.
نهضت لأتأمل جسدي في المرآة المشدوخة. بعد الحلم كانت لدي رغبة في رؤيته كله. كنت رجل كل يوم وليس عذراء بودلير. لمست وجهي، ثديي، فرجي. كانت الرغبة في جارتي تعود إلى الولادة، وتسيل في عروقي بالتدريج. غدوت مجنونًا رغبة، أهذي على التقريب. ذهبت وجئت في حجرتي، وأنا ألهث، وأقمع صرخاتي خوفًا من أن تسمعني أمي. رجعت أمام المرآة، وعدت ألمس وجهي، ثديي، فرجي، وأنا أفكر في جارتي. كانت معي، عارية، في المرآة.

كان سعيد يضحك بهيئة خليعة. كنت مع شريف ومازن، أخيه الصغير. أوفى سعيد لمازن، فسالت كلماته في أذني:
- أقسم بالله العظيم أن الأمر كما أقول لك!
افتر ثغر مازن، وانحنى عليه، ثم بخجل:
- لم أجرب أبدًا.
عاد سعيد إلى الضحك، وضحكاته تفعل في ذقني فعل الأسنان الصغيرة المعضعضة:
- جرب، إذن. ما عليك سوى أن تجرب.
سأل مازن مهتمًا:
- وهل هناك تلذذ؟ أريد القول هل نحظى بنفس المتعة؟
أحاب سعيد، وهو يأخذ هذه المرة هيئة شهوانية:
- أعظم متعة. لكن انتبه! ستكون بعد ذلك كآبة مبهمة، وحزن، وكذلك نوع من التمزق الداخلي يقترب من الخطيئة. إنه نوع من العذاب الروحاني بعد المتعة الجسدية التي حصلت عليها، وهذا لا يدور سوى بعض الوقت، ثم يذهب. جرب، من الأجدر لك أن تجرب.
صاح شريف، وهو يشعر بالأشياء وقد غدت جادة وبأخيه الصغير وقد كاد يسقط في شباك صديقه الفاسق:
- أيها القذر! لا تعلمه! اتركه، فهو طفل!
توقفت ضحكات سعيد المنحرفة فجأة، واحتج:
- لا تعتبره طفلاً، فهو رجل، وفي كل الأحوال عليه أن يصبح رجلاً!
تدخلت:
- بممارسة العادة السرية؟
- نعم، بممارسة العادة السرية. ما رأيك في ممارسة العادة السرية، أنت أيضًا؟
- لماذا؟ لأنني لست رجلاً؟
- لأنك لست رجلاً ولا امرأةً ولا شيئًا!
- وأنت، أنت شيء، أنت؟
- أنا رجل منذ ستة شهور تقريبًا، إذا أردت أن تعرف.
نبر شريف:
- يا للعار! يا للعار!
رد سعيد:
- العار أنتم، يا مضاجعي العذراوات المقدسات! ورغم ذلك يمكن لمازن أن يجرب، مرة واحدة، فهو يموت رغبة في المضاجعة، مثلكم كلكم، لكنكم لا تستطيعون، وثالثة الأثافي تخافون من أنفسكم، من أن تصبحوا ذكورًا، يعني رجالاً كما ينبغي.

توقفت فجأة عن لمس جسدي. كنت مرهبًا بجسدي. تركت الكلب المسعور فيّ يعوي حتى الإنهاك. أعدت ارتداء ثيابي بسرعة، ونزلت الدرج الضيق الخشبي قافزًا الدرجات اثنتين اثنتين. وأنا أقطع الصالون بأقصى سرعة، مضيت أمام أمي التي أمرتني بالرجوع، وشرح كل تلك التكتمات، لكني سارعت إلى الخروج غير مبال بها.

عدت من عمان، دون أقل أمل في الحصول على عمل. وجدت بانتظاري أمًا منهكة، مجردة من كل سلطة. كانت يائسة، وكان ذلك يقرأ بوضوح على وجهها. عندما أبلغتها وعود أصدقاء أبي القدامى، لم تستطع حبس دموعها. كانت تبكي وتعتذر كما لو كان خطأها كل ذلك البؤس الذي نسقط فيه. أبدت لي للمرة الأولى أنها كانت هشة، وأن سلطتها عليّ لم تكن سوى ظاهر، ككل شيء يخصها. إذن كل شيء فيها أو على علاقة بها كان بعيدًا عن الحقيقة. صورة. كل شيء كان كذبًا. كنت على وشك البكاء معها، لأجلها، لكني فضلت أن ألعب دور القاسي مرة واحدة في حياتي.
قلت لها، وأنا أزلق في شخصيتها الاستبدادية:
- جففي دمعك، واسمعيني جيدًا. سأصلح الأمور، يا أمي، هذا وعد أقطعه لك على نفسي.
همهمت أمي، وهي تمر بأطراف أصابعها على خديها:
- لا، يا عزيزي. لن يصلح شيء. ليست غلطتك، يا عدناني، يا صغيري عدنان، الحياة صنعت هكذا!
- لن تبقى الحياة إلى الأبد هكذا، يا أمي، يمكنك الاعتماد عليّ.
- أود أكثر ما أود الاعتماد عليك، لكن ماذا ستفعل؟
- لا أدري، لكن تستطيعين دومًا الاحتفاظ بالأمل فيّ.
- اعذرني، يا ولدي، إذا قلت لك إنه لم يعد لدي أمل في أحد.
- حتى فيّ، حبيبك، مفضلك؟
- حتى فيك، حبيبي، مفضلي! إياك أن تزعل مني، فلا أمل لي في أحد، في أحد!
وانفجرت تبكي من جديد. بكت على كتفي. للمرة الأولى، جرؤت أمي على البكاء على كتفي، ثم توقفت عن العويل. شَعَرَتْ فجأة بالحياء من نفسها، وقالت لي:
- عليك الذهاب لرؤية شريف. جاء عدة مرات يسأل عنك خلال وجودك في عمان. باح لي بأن لديه شيئًا مهمًا جدًا يريد أن يقوله لك.
هتفت:
- شيء مهم جدًا! ما هو؟
- لم يقل لي. ربما وجد لك عملاً، بواسطة عمه. عمه وزير، أليس كذلك؟
- كان سيقول لك لو تعلق الأمر بعمل.
- إذن لماذا جاء عدة مرات؟
قلت لنفسي لم يجئ شريف ليكلمني عن حبه العابر لهذه البنت أو تلك، ثم كان يعلم جيدًا أنني كنت في عمان... وفي الحال فكرت في محاكمته.
- لا بد أن لذلك علاقة بمحاكمته، كانت لديه جلسة في القدس.
- ربما تمت براءته.
- لو تم ذلك لقال لك. لماذا لم تسأليه؟
أخذت تعصر يدًا بيد حائرة، مقطبة الجبين، شاحبة الوجه.
- لم يخطر على بالي ذلك. الحق أن كل هذه القصة خرجت من رأسي، هذه المحاكمة، هذه المحكمة العسكرية، وكل ما يتبعها. كل هذا ما هو سوى مزاح لابن حسب ونسب كشريف، مع عم وزير. هل يهزأون بنا أم ماذا؟
- لا، هم لا يهزأون بنا عندما يتعلق الأمر بمصالحهم، من بيدهم الحكم، حتى ولو كان العم وزيرًا. إذا ما شعر بالخطر، لن يتردد العم عن الانقلاب على ابن أخيه، وحتى على ابنه، لن يتردد عن إرساله إلى السجن.
- ليس شريف على مثل هذا الخطر! له من العمر ما يقارب تسعة عشر عامًا مثلك، والكل يعلم أن المؤامرة المزعومة لقلب النظام التي يتهمونه بالمشاركة فيها قضية ملفقة من ألفها إلى يائها.
- نعم، ولكن النظام الطاغية مستعد لكل شيء ليحمي نفسه ويحمي الآخرين.
- الآخرون؟ أي آخرين؟
- أبناء عمنا.
- اليهود؟
- الإسرائيليون. ومع محاكمة كهذه، ضد أحد أبنائه، يريد النظام إخافة كل الناس، والتحذير من أية محاولة أخرى لتحرير البلاد.
- تحرير البلاد! أنت؟ شريف؟ أنت تمزح!
- ليس أنا، خاصة ليس أنا! أنا لا أستطيع شيئًا لنفسي، وأقل للبلاد. أنا ولدت لأكابد ثقل وجودي. البرهان على ذلك، أنا عاطل عن العمل منذ وقت طويل. لقد نجحوا معي ما لم ينجحوا مع شريف والآخرين.
- آه! يا عزيزي المسكين. أنت مع ذلك لن تعمل من صديقك المتأنق بطلاً!
- ولم لا؟ يكفى أن نعتقد بذلك. شخصيًا أنا لا أعتقد بشيء.
أكلت خبزًا محمصًا بالزيت والزعتر، وقضمت تفاحة حمراء. خبز من القمح، ومع ذلك لم يكن أي طعم له. والتفاحة من تفاح الشام اللذيذ، لكني لم أجد أية لذة لها. كان العالم سجنًا كبيرًا، والحياة سُخرة. ألقيت نظرة خفية على أمي. كانت تحتفظ بتلك الهيئة الخاضعة والمحزَنة. ندمت للألم الذي سببته لها. كنت قد أردت أن أتحدى نفسي بالتفوق عليها، لكنها كانت تبقى الأكثر قوة بخلقها المهيمن.
سمعتها تقول في ظهري:
- هذا الصباح، صعدت إلى حجرتك التي نسيت هذه المرة إغلاقها بالمفتاح وقمت بتنظيفها قليلاً.
كانت تنتظر مني رد فعل سلبي، ثم أفلتت، عدائية:
- أنا لا أفهم كيف يمكنك أن تترك سريرك النظيف هنا لتلقي بنفسك في الزبالة!
أجبت بفظاظة:
- شيء طبيعي ألا تفهمين! أنت لن تفهميني أبدًا!
- منذ قليل كنت تحدثني كبالغ والآن...
- أنت من بدأ.
- اعلم، يا ولدي، أنني لا أريد لك إلا الخير.
صحت، وأنا أسعى إلى مغادرة المكان:
- أما أنا فلا!
سارعت إلى القول:
- اسمع، يا عدنان!
توقفت. جاءت تنزرع أمامي، وعيناها محمرتان. كانت على وشك البكاء من جديد. لم أشفق عليها هذه المرة، كانت تزعجني مع طريقتها في إثبات أمومتها بالدموع والابتهال، لم يكن ذلك يشبهها. كان شيء رهيب قد حصل فيها، شيء مرعب يشبه موت الروح. في تلك اللحظة، فهمت أن لأمي روحًا ميتة، كانت قد غدت مثل كل أمهات هذا البلد، لكن من وقت إلى آخر، كانت تعتبر نفسها واحدة تمتلك روحًا حية، قادرة على الفعل في الأشياء. كانت تخطئ.
سألتني:
- هل ستبقى هكذا كل حياتك؟
- وأنت؟
كان ذلك فظًا من طرفي، وندمت على ما قلت في الحال. لم أجد ما أقول سوى:
- لننقذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
صاحت:
- ولكن فات الأوان. نحن لا يمكننا إنقاذ أي شيء. هم يخنقون حياتنا. هم يجعلون منا أمواتًا أحياء لئلا يمكننا القيام ومحاولة... لن أقول استعادة البلاد ورمي اليهود في البحر، هم بالأحرى الذين سيرموننا في الصحراء، ولكن فقط العودة إلى ديارنا. نعم، العودة إلى يافا، عندنا. هل تسمع؟ عندنا. هناك حيث تركت صورك رضيعًا، بشهورك الستة، عاريًا، على الحائط، هناك حيث خبأت مجوهراتي في الحديقة، هناك حيث ربى أبوك حمامه الزاجل في الفناء. قبل رحيلنا، أرسلنا رسائل نطلب فيها العون والمساعدة إلى العالم أجمع، لكنها لم تصل أبدًا. هل تعلم، يا ولدي، يا طفلي، أنني أفكر أحيانًا في ترك نابلس، وفي الهجرة بعيدًا عن ذكرياتي المضنية، بعيدًا جدًا، إلى أستراليا. ليس من الصواب أن أفكر في هذا.
- لا، ليس من الصواب.
- في 48، الحكام العرب، هؤلاء القذرون، هؤلاء الأوغاد، هؤلاء الخونة، قالوا لنا أن نترك مدننا وقرانا لأسبوع، فقط الوقت الذي يحررون فيه فلسطين التي باعوها في المزاد العلني، وها هي النتيجة، سنون وسنون من البؤس والعذاب. يهود امتلأوا بالحقد والجنون ذبحونا من ناحية، وهؤلاء القادة العرب الفاسدون الذين يعملون اليوم الباقي من ناحية.
- لم يكن من اللازم سماع قذرين من هذا النوع، لم يكن من اللازم الرحيل.
- لقد خدعنا هؤلاء العرب الفاسدون، يا ولدي.
- لم يكن من اللازم ترك البلاد.
- كانت مؤامرة فظيعة شارك فيها كل العالم.
- لم يكن من اللازم ترك البلاد.
- أقسم لك أن الأمر كان أقوى منا.
- لم يكن من اللازم ترك البلاد.
- وإذا متنا؟
- حتى موتى، لم يكن من اللازم ترك البلاد. لم يكن من اللازم سماع هؤلاء الخونة. لم يكن من اللازم الخوف من مذابح ارتكبت في دير ياسين وغير دير ياسين. لم يكن من اللازم ترك صور ومجوهرات وحمام من ورائكم.
- لم نكن جبناء بعد كل شيء!
- بلى.
- كيف تجرؤ؟
- ليس الكل. لكن لم يكن من اللازم ترك البلاد. واليوم، يجب عدم ترك نابلس، حتى أنه يجب ألا تداعب خيالك فكرة كهذه.
انفجرت أمي باكية. كان ذلك يومها، يوم العويل.
- إذن لا تقتلني، يا عدناني، يا صغيري عدنان! أنا أتألم لأجلك! عندما لا تكون في الخارج، تُحكم على نفسك إغلاق باب حجرتك، وأحيانًا لا أراك خلال أيام كاملة! الأمور لا تنتظم، لكني أقول لنفسي ربما...
- ماذا؟
- أقول لنفسي ربما... أقول لنفسي، ربما سيأتي اليهود يومًا، و...
- و...
- وكل فلسطين ستكون لهم.
- بماذا توحين؟
- إنها الطريقة الوحيدة للعودة إلى ديارنا.
- لا تكوني ساذجة، يا أمي! إذا جاء الإسرائيليون إلى نابلس يومًا، فهم لن يخرجوا منها أبدًا، ولن يتركونا أبدًا نعود إلى ديارنا. حكامهم، هؤلاء الفاسدون الآخرون، توسعيون حتى النخاع، وفي عروقهم تسيل فكرة إسرائيل الكبرى، المبنية على جثثنا.
- إذن ما العمل؟
- وما يدريني؟

أدهشني شريف، "المتأنق"، كما كانت تقول أمي:
- اسمع، علينا أن ننخرط في الحركة وإلا حفرنا قبرًا ندفن فيه أنفسنا بأيادينا.
قذفت في وجهه، بلدغة من السخرية:
- إذن أنت لم تتعلم شيئًا من محاكمتك.
- محاكمتي خراء بخراء، الكل يعرف هذا. وكل هؤلاء الضباط الذين يحاكمونني يبعثون في نفسي الغثيان...
- ... ولا يفعلون سوى تعزيز عزمك وتصميمك على الالتزام.
- على عكس ما كانوا يهدفون إليه، لقد نجحوا في أن يجعلوا مني مناضلاً، على الأقل، هذا ما أتمنى أن أكونه.
- أنت، اللاهث من وراء النساء، تريد أن تصبح مناضلاً في الوقت الحاضر؟
- نعم، أنا، اللاهث من وراء النساء! كل شيء ممكن في الحياة.
- لك، وليس لي.
- لماذا؟ يمكن للكل النضال، ليس فقط أبناء العائلات، كل من له نفس تأمل في تغيير الأشياء.
- والنفوس الضائعة أو بصريح العبارة الميتة، ماذا تفعل؟
- لا تقل لي إنك ستبقى في حجرتك تمارس العادة السرية وأنت تفكر في إليزابيث تيلور.
- أولاً أنا لا أمارس العادة السرية. ثانيًا حجرتي ملجأي. أمر شخصي كل هذا.
- لم يعد الآن. منذ يومين، ذهبت لرؤيتهم، في الحركة. قالوا لي إن الحرب وشيكة الوقوع.
- هذا لا يعنيني.
- لم يعد الآن.
- ما الذي سيتغير بالنسبة لك، سيكون دومًا الخراء إياه!
- ستكون حربك! بشرط أن تتهيأ لها، أن تلتزم فيها.
- أعرف أنه من واجبنا الوطني الدفاع عن أنفسنا في حالة الحرب، لكنها لن تكون أبدًا حربي. إنها لحرب خاسرة سلفًا.
- ليس إذا ما انخرطت في الحركة، إذا ما انخرطنا كلنا، ليثقل وزننا في وجه الجيوش العربية، جيوش يقودها خونة وأبدًا على مستوى مهمتها، جيوش ضعيفة بالنسبة "لتساهل"، لكنها قوية بما فيه الكفاية لقمع الناس والإبقاء على الأنظمة الدكتاتورية في مكانها.
- شيء جميل كل هذا، لكني أعتذر، هذه الحرب لن تكون أبدًا حربي.
- أنت تخيب أملي فيك، يا عدنان! أنت تخيب أملي فيك بالفعل!
- لن آسف على ذلك!
- الكل يتبدل، حتى عاهرات القدس، ما عداك.
- لأنهن عاهرات!
- لا، بجد، دعني على الأقل أقدمك إلى أحد المسئولين، فقط للتحدث في كل هذا.
- سبق أن تم ذلك.
- سبق أن تم ذلك! كيف هذا؟
- أنا أتحدث كما ترى، أنا أتحدث معك.
قطب شريف جبينه، وظل صامتًا. قلت له:
- هل تعرف، أحب حجرتك، لأنها حمراء كأفكارك الثورية هذه الأيام الأخيرة!
قال شريف:
- أرجوك، احتفظ بظرافتك إلى مرة أخرى.
- أنت تعتقد أنني غير قادر على فعل الثورة كأي أحمق، أليس كذلك؟
- الحق، نعم. وها أنا أكرر لك، أنت تخيب أملي فيك، يا عدنان، أنت تخيب أملي فيك كثيرًا.
لم يكن يتوقع مني قول:
- متى أستطيع التحدث إلى مسئولك الثوري التعب؟
- تتكلم بجد؟
- هل لي هيئة من يضحك؟
- اعتقدت أنني فهمت أنك...
- لست إنسانًا عاجزًا، أنت تعرف. استسلامي شغلي، كما سيكون التزامي إذا ما قطعت قراري. لكني لا أعدك بشيء. أنا موافق فقط على التحدث. النقاش أولاً، الثورة فيما بعد، إذا كانت هناك ثورة فيما بعد.

في تلك الليلة، قرأت في سريري كتابًا عن الثورة الكوبية. كاسترو، شي غيفارا، وثوريون آخرون كانوا برفقتي. كانت أطراف من حديثي مع شريف لم تزل تتصادى. لم أكن غير قادر بطبيعتي، ولم أكن غير جدير، كل شيء يتوقف على قناعاتي: الحرب القادمة لم تكن حربي، ولا الثورة. ربما كان من الفائدة الإشارة إلى أنني لم أكن جاهلاً، ولا قليل الذكاء، أنني شخص لا شيء، كما كانت تقول أمي بخصوص أبي، لكن ليس عديم الكفاءة. كنت أريد أن أبرهن لأعز أصدقائي أن باستطاعتي أن أكون أفضل منه، أن الثورة تستطيع أن تكون شغلي، حتى وإن كان تحرير فلسطين يبقى خداعًا. لهذا كنت أريد مقابلة مسئول الثورة ذاك، لأقول له إن تحرير فلسطين خداع، وإنه كان يلزم البحث عن وسائل أخرى لحل المشكل، سلميًا. على أي حال هذه الحرب التي ستتفجر عما قريب ستنتهي بهزيمة. كل ما سنستطيع كسبه منها سيكون تخلصنا من الهيمنة العربية، التي تختلف عن هيمنة أمي، هي التي لم تكن مختلقة. التخلص من الوصاية العربية لأجل الذهاب بالسلام إلى ما نرجو كالحرب إذا كنا مضطرين إلى قتال أعدائنا السود والبيض والشقر والسمر، ليس فقط في إسرائيل وإنما في العالم أجمع.
كنت قد ذهبت بعيدًا بعض الشيء، أعرف ذلك، بسبب هذا الكتاب التعب عن الثورة الكوبية. رميته، وبقيت ساكنًا دون حراك في شبكة الضوء الأصفر. كان الجدار المقابل قريبًا مني، وكانت إليزابيث تيلور المصلوبة تراقبني. في الصمت المطلق للحجرة، تابعت بانتباه كبير العنكبوت السوداء الزاحفة ببطء، ببطء شديد، باتجاهي. كانت سيقانها المشعرة تزحف، ولم يكن ذلك يقلقني على الإطلاق. كنت أحب حجرتي من كل قلبي مع كل ما تحويه من حشرات وأشياء، والظلال أيضًا كانت تألفني. لم يكن هذا العالم المغلق ثقبًا لخُلد أو لفأر. كنت راضيًا. لهذا لن يذهب لقائي بالمسئول الثوري بعيدًا. طريقتي في رؤية العالم، في خلق عالمي، لم تكن تنسجم مع طريقتهم. كان كاسترو قد تركني، وكذلك غيفارا والآخرون. لم أكن قد ولدت لأفعل الثورة ولكن لأجدني في الهدوء والصفاء حتى عنكبوت مشعرة لا تستطيع تعكيرهما.
وإذا ما هدموا نابلس؟ وإذا ما دمروا شارع الشويترة؟ وإذا ما حطموا ساعة السرايا القديمة؟
جعلتني هذه الأسئلة حائرًا مع مواقفي. لن يكون باستطاعتي أبدًا قبول أن تحدث كارثة كهذه. في الطابق التحتي أخذ أبي يسعل سعالاً حادًا، منذرًا بالخطر. أحسست بنفسي محاصرًا فجأة. كانت جدراني تقترب منى اقتراب السيقان المشعرة للعنكبوت السوداء، كانت على وشك سحقي. غطست في الهالة الخافتة للضوء الأصفر بينما تواصل الجدران زحفها خانقة إياي، ساحقة إياي. صرخت من الرعب.
نادت أمي، مضطربة:
- عدنان، كل شيء على ما يرام؟
دفعها صمتي إلى صعود الدرج الضيق الخشبي، وقنديلها القديم أمام وجهها. أعادت قرب الباب:
- هل كل شيء على ما يرام؟
أجبت، منقطع الأنفاس، لئلا تدخل:
- نعم، كل شيء على ما يرام!
- أنت واثق من أن كل شيء على ما يرام؟
- أنا واثق، أشكرك.
- إذا كان هناك أي شيء فلا تتردد عن مناداتي.
- كل شيء على ما يرام، أؤكد لك.
- إذا كان كل شيء على ما يرام، ليلة سعيدة إذن!
- ليلة سعيدة!

ذهبت وحدي إلى الموعد مع المسئول الثوري. اعتذر شريف عن عدم تمكنه من اصطحابي لأن عمه الوزير استدعاه بلا إبطاء، لم يكن يعرف لماذا. في منزل قديم من منازل حارة الياسمينة في المدينة القديمة، وجدتني وجهًا لوجه مع رجل قصير سمين ذي شارب، في الأربعين من عمره. لم يكن شكله محببًا، وكان حول في عينه اليسرى. ليعمل على نسيان بشاعته، كان يبتسم ببلاهة. كان محاطًا بأربعة من ملازميه، كلهم شباب، في مثل عمري.
بدأ بالحديث معي عن شباب مخيمات اللاجئين، الذين قتل آباءهم اليهود أو شردوهم. لم يستعمل أبدًا كلمة إسرائيليين. كان يقول اليهود أو الصهاينة. كان أولئك الشبان في أتعس حالة، بسبب سياسة الإنهاء خدمة "للصهاينة"، فكانوا أول من حمل السلاح، وغدوا فدائيين. "ليس مثلكم، يا أبناء المدينة – كان يقصدني – المدللين، الطريين، مغنوجي النظام."
لم يدعني أجيب، وذهب في خطبة لا تنتهي عن هدف حركته المزدوج: تحرير فلسطين الذي سيمضي بتحرير الأردن. أردت التدخل، لكنه لم يسمح لي. كان ملازموه في صمت تام. كان يبدي التقدير لهم، والاحتقار لي. أردت الدفاع عن نفسي، قول كلمتين، لكن ذلك كان مستحيلاً. حتى اللحظة التي سمعنا فيها صرخات آتية من الخارج، ورأينا فيها باب الحجرة التي كنا نوجد فيها محطمًا. كان رجال الشرطة يحاصروننا.

كانت حرب الستة أيام قد شُنت، وأنا في المعتقل. ستة أيام. لم يكن ذلك كثيرًا لحرب إسرائيل الحاسمة، التي رأت نفسها بغمضة عين ممتدة من النيل إلى الفرات أو يكاد. كان ذلك من السهولة بكثير، كاللعب لهم. كان ذلك دومًا كاللعب لهم، لتواطؤ الحكام العرب وسحق شعوبهم. لم يتغير شيء لي. الجلاد فقط. كانوا يعذبونني كل يوم، أولئك الساديون، تلك الأرواح الميتة. تخليت لهم عن كل شيء ما عدا روحي. كان ذلك ما سمح لي بالبقاء حيًا: تركت لهم جسدي لأحفظ روحي. نجحت في إنقاذها، ليس بفضل العقيدة أو الروحانية، ولكن بفضل الحلم. كنت أدخل في حلمي، وهناك، كنت وحيدًا وجهًا لوجه مع نفسي. كنت أحلم خلال تعذيبهم لي من أجل جريمة افتراضية كليًا. كنت هناك لأنني لم أنطق أقل كلمة في حضرة ذاك الخراء الثوري الصغير، لأن عم شريف، ذلك العفن، باعنا مقابل منصب رئيس للوزراء. كان قد سمح على ظهر تلك الخبطة الأساسية بإفشال الثورة.
شهور، سنون مضت قبل أن يطلقوا سراحي. لم تعد حجرتي أكثر من ذكرى بعيدة، كالعنكبوت السوداء، كإليزابيث تيلور، كالجدران الواطئة، كالكراسي المحطمة، كالمرآة المشدوخة، كالظلال، كالصرخات، كالتنهدات.
عندما وافقت سلطات الاحتلال في النهاية على إطلاق سراحي، ليس من دون أن تفرض عليّ شروطًا جائرة، وجدت أمي قد شاخت كثيرًا، وأبي قد ضعف جدًا، وإخوتي وأخواتي قد كبروا. لم يكونوا كلهم هناك. بالطبع لم يكونوا قد ارتكبوا الخطأ نفسه في 48، بمعنى ترك البلاد تاركين للخونة عبء المجيء لتحريرهم فيما بعد. كان معظم إخوتي وأخواتي وأبي وأمي قد بقوا كشوك السمك في حلق المحتل. أخبرتني أمي أن بعض إخوتي وأخواتي قد التحقوا بالمقاومة، في عمان أولاً ثم في بيروت. كانوا قد أقسموا على أن يعودوا يومًا لإطلاق سراحي. قلت ساخرًا إنني حر، دون أن أعمل ثورة ولا أي شيء آخر. ردت أمي "لسنا أحرارًا أبدًا تحت الاحتلال". لم أشأ النقاش معها. لم أشأ الاعتراف بكامل استسلامي وبيأسي. لم أشأ أن أقول لها إنني بعد سنوات في المعتقل لم أعد إلا ظل نفسي، شبحًا. قالت لي أمي إنها ذهبت إلى دارنا في يافا، إن المالك الحالي تركها تدخل لترى صوري المعلقة دومًا على الجدار، وتوقف الأمر عند ذلك الحد. لم تشأ حملها معها. قالت قبل أن تنفجر بالبكاء: "انتهت يافا إلى الأبد!" للهرب منها، من دموعها، صعدت إلى حجرتي. أرادت أمي مرافقتي، لكني رفضت. فضلت أن أجد نفسي من جديد وحيدًا في حجرتي، بعد كل تلك السنين.
كانت حجرتي تسبح في الشمس، والنافذة مفتوحة على مصراعيها. وعلى عكس عهدي بها، كانت شبه فارغة، وجد نظيفة. كانت أمي قد رمت الأثاث القديم، وخلعت الستار، بدلت الشراشف، وكنست شباك العناكب. لم يعد هناك أي أثر لصديقتي الحشرة السوداء. عندما وجدت نفسي في النهاية بين جدراني الواطئة الأربعة، أحسست بنفسي غريبًا. لم أعد أعرفني. لم أعد أعرف حجرتي. انقبض قلبي. اقتربت من النافذة لأنظر إلى الفناء الضيق، المحفر. كان لشجرة السرو ذات الأغصان المتكسرة شكل فتاة فارعة القوام بشعر قصير. كانت نافذة جارتي مغلقة، والسور مهدمًا. مررت بيدى على الجدار، وعلى ما تبقى من الرسم. أحسست ببرودة سني الغياب. ارتعشت. سارعت إلى ترك حجرتي، إلى نزول الدرج الضيق الخشبي، إلى نداء أمي، أبي، إخوتي وأخواتي. كنت أرغب في شدهم مرة أخرى إلى صدري. كانوا كلهم قد ذهبوا. إلى أين؟ لم أكن أعرف. وفي اللحظة ذاتها، سمعت طرقات مجنونة على الباب، وهذا الصوت المختنق:
- مدام هاشمي! مدام هاشمي!
فتحت بسرعة، ووجدتني وجهًا لوجه مع أم جارتي، وقد شاخت كثيرًا بعد كل هذا الوقت. كان لها وجه أصفر برتقالي، المعالم مدعوكة، والعيون عيون حيوان تائه وقع في الشرك. سألت المرأة العجوز، وهي تبحث بعينيها في البيت من ورائي:
- أمك ليست هنا؟
- لا، ليست...
كانت قد دفعتني، ودخلت:
- أبوك ليس هنا؟
- الظاهر أنه ليس...
أخذت تقتلع شعرها، تهز رأسها يمنة ويسرة:
- يا ويلي! يا ويلي!
سألت:
- ماذا جرى؟
لطمت، سقطت على الأرض، هسترت.
- قولي ماذا جرى؟
أمسكت بيدي، فساعدتها على الوقوف. مسحت دموعها بطرف ثوبها الطويل. سحبتني من ذراعي، وقالت لي بين زفراتها ونشيجها:
- ربما حلمت! أريد أن تتأكد أنت بنفسك.
- أتأكد من ماذا؟
- قال أولاد الحارة إن جنود الاحتلال كانوا يريدون التفتيش عندنا، ف...
- فماذا؟
- أريد أن تتأكد أنت بنفسك.
- وها أنا أعيد عليك، أتأكد من ماذا؟
- من هذا.
- من هذا ماذا.
- من هذا، من هذا...
كانت إصبعها تشير إلى الفراغ. سارت بي في الزقاق القائم خلف فنائنا حتى بيتها. تبعنا أولاد الحارة، فطردتهم، وأغلقت المرأة العجوز بابها بالمفتاح من خلفنا. جعلتني أصعد إلى الطابق الأول، وسألتني، وهي تشير إلى حجرة ابنتها، دون أن تكف عن الارتعاش:
- انظر في هذه الحجرة، هلا أردت؟
كان الباب موصدًا من الداخل. انحنيت، ونظرت من القفل.
- انظر! انظر!
لم أر شيئًا خاصًا.
قلت:
- لا شيء هناك.
- انظر أيضًا! انظر جيدًا!
ترددت بينما كانت تكرر من ورائي دون أن تقف في مكانها:
- انظر! انظر! انظر!
انتهى بها الأمر بدفعي، وبدورها ألصقت عينها في القفل، ثم ما لبثت أن ابتعدت صارخة. تركت نفسها تسقط على الأرض، ورجتني أن أفعل شيئًا، فدفعت الباب بكتفي، ووجدتني هناك، في تلك الحجرة المعتمة التي تفوح برائحة الموت. فتحت مصراعي النافذة، ورأيت، في الوجه المقابل، حجرتي أنا. كنت أخيرًا في تلك الحجرة التي طالما حلمت باختراقها، متخيلاً كل الحيل للوصول إلى ذلك، واللقاء بجسدها... استدرت، ووجدتني مقابلاً لها، جميلة كما لم تكن أبدًا، العنق داخل حبل. كان جسدها الجميل العاري يتأرجح، وكلاشينكوف معلق حول خاصرتيها، كان يتأرجح بهدوء، ببطء. كان يتأرجح... كان يتأرجح. كان يتحداني... كان يتحدى العالم.






























ساعة الصفر

يبدو لي لأن يكون المرء ذكيًا، من الجوهري أن يكون حذرًا، حتى من نفسه.
بول ليوتو

الحذر أبو اليقين.
جان دو لا فونتين


بعد منتصف الليل بقليل، وأضواء المصابيح الخافتة تتسلل بكلل من أردية الحلكة، كنت أرود أزقة القدس القديمة، وكان احتكاك أجنحة فراش الليل يصل إلى أذني بوضوح. وأنا أرفع رأسي، لاحظت غيومًا قاتمة تزحف، وتنتشر بثقل. غدا الليل أكثر فأكثر سمكًا، وكان ذلك غريبًا في ليلة من ليالي الصيف. أطرقت بصري، فرأيت حذائي ملوثًا بالطين. تعجبت! لم أصل إلى معرفة متى حصل هذا. قلت لنفسي إنني عبرت على التأكيد طريقًا لا يسلكها الكثير دون أن أدري. حاولت التذكر، ولكن بلا جدوى. انحنيت، وبأصابعي أخذت أمسح حذائي: رأسه، طرفه، نعله. حُفر، بلاط، حطام، خطوات غير متناسقة، انزلاقات، تعثرات ربما: عشت كل هذا دون أن أعرف كيف. لا بد أن الأمر كان مثيرًا!
انتصبت، وأنا أزفر طويلاً. فركت أصابعي، وتركت كتفًا أعلى من الآخر، وأنا أفكر أن هذا ليس موقف شخص يحذر حتى من نفسه. بقيت هكذا مدة دقيقة، دون حركة، وأنا أقول لنفسي إنني كنت في حالة من شرود الذهن، وإن ذلك كان أقوى مني. دفعتني نسمة باردة إلى التحرك من جديد. أول ما فعلت خفضت كتفي، وأنا أسحب نفسًا عميقًا. وقبل أن أعود إلى السير، ألقيت نظرة على حذائي، فدفع حذائي في وجهي لسانه.
لماذا كنت في الخارج ليلاً، ما بعد منتصف الليل، وفي تلك الليلة على التحديد؟ هل كنت أسير فقط لمتعة السير أم لأنني كنت مجبرًا على ذلك؟
الحقيقة أنني بعد زيارة طالت لصديق، وأنا أريد العودة إلى منزلي الكائن في القدس الجديدة، وجدت باب العامود مقفلاً. كان إشعار من رئيس البلدية يحدد: يقفل باب العامود على الساعة العاشرة كل مساء، ولن يفتح إلا عند صلاة الفجر، وهذا اعتبارًا من أول حزيران. تحذير للعامة. حرر في 1967.05.25.
أمضيت مدة طويلة، وأنا أتأمل إعجابًا إمضاء رئيس البلدية المهيب، الذي يصعب تقليده، وأنا أفكر أن الحذر لا يستثني دومًا عدم التبصر، وأن باستطاعتي تعريض نفسي للعديد من الأخطار. بعد ذلك، أدرت ظهري للإشعار، وعدت إلى السير. خطر على بالي أن أعبر من باب آخر يكون مفتوحًا، أو أرجع عند صديقي قائلاً: أقفلوا باب العامود، وسرعان ما سيفهمني. كان بإمكاني النزول في أول فندق لا تنطفئ لافتته طوال الليل، لكن لم تكن رغبتي في السير ليلاً وحدها التي جاءت بي هنا، إذ أنني أبلغ من العمر ما يجعلني قادرًا على قمع أية رغبة. كان مجرد التفكير في أنني أسير بعد منتصف الليل، في أزقة القدس القديمة، بعد منتصف تلك الليلة على الخصوص، يكفي لمحو كل علامة تعجب أو استفهام يثيرها ذلك الوضع حولي.

قال لي صديقي، وهو يهز رأسه بعصبية، وهو ينحني قليلاً نحوي:
- غدًا، أقول لك غدًا، من البداهة أن يهجموا غدًا، أؤكد لك.
لم يقل سنهجم. كان محررو الخراء أولئك قد عودوهم على الكلام عنهم بضمير الغائب كما لو كانوا يتكلمون عن غرباء. كنا غرباء لأنفسنا. حربنا كانت شغل الآخرين. قوتنا كانت في موضع آخر. لهذا كانت حربًا خاسرة سلفًا.
أعاد بشعور القوي، القوي جدًا، هو الضعيف الذي كان:
- أقول لك غدًا، يا رب السماء، سيهجمون غدًا.
وأنا، ماذا كان موقفي؟ كنت أنظر إليه بعين نصف مغلقة، وأشد على يده، الممدودة على الطاولة القصيرة التي كانت تفصل بيننا، يد نصف متينة. لم تكن لدي رغبة في النوم، على العكس، كانت الأحداث من الجسامة بحيث لا يمكن للعيون أن تغمض كل مساء، هانئة مطمئنة. لم تكن لدي رغبة في إبداء قوتي، كانت كل قوانا لا شيء مقابل قوة العدو. كنت الوحيد الذي يفكر أن الحرب سيكسبها "تساهل" سلفًا. ربما لأنني لم أكن أسمع الراديو كثيرًا، أو لأنني كنت حذرًا، أرتاب، وأخاف، ومن طبيعة وجلة، قليلاً ما أميل إلى الثقة بالناس أو المستقبل.
أضاف صديقي مع إحساس بالقوة تفلت منه.
- كنت أتوقع أن يهجموا اليوم، لكنهم لم يفعلوا. سيهجمون غدًا، أنا أحدس ذلك، أنا أحزر ذلك.
كانت تسحرني خصلاته السوداء، هي أيضًا كانت تهتز بعصبية كلما أخذته الحمية.
سألته:
- أتعرف فيم أرغب هذه اللحظة؟
أطلق صيحة حماسية كما لو أنه اصطاد سمكة كبيرة:
- أن يعطوك بندقية، أن يقودوك إلى الخطوط الأولى، وأن تطلق، تطلق.
ابتسمت لخصلاته المجنونة، لأنفه الدقيق. لم أكن أريد صدمه، لكني لم أكن أستطيع إخفاء ما يقعد على قلبي:
- كنت أعتبرك ذكيًا حتى الوقت الحاضر، لكنك تخيب أملي.
انتصب:
- ماذا؟
نفض رأسه. كان ذلك كافيًا لخصلاته السوداء كي تهتز، وتهز خيالي. تركته ينتظر قليلاً قبل أن أقول له:
- لك شعر جميل! يمدك بقوة كبيرة على الإغراء. يا له من حظ!
رد متوترًا:
- أنا لا أفهم.
تركته ينتظر من جديد. لاحظت خديه يحمران، صُدغيه ينتفخان.
- أنا لا أفهم. أوضح بسرعة وإلا لكمتك!
وأنا أراه يرتعش أمامي كاللهب بين أصابع الريح، أشفقت عليه. لم أقل له إنني أرغب في مداعبة خصلاته، إنني أفكر في أنني وقعت أسير جماله. لم أقل له إنني أريد أن أحيطه بذراعيّ، وبينما هو يقاومني، أن أجز شعره كالجدي.
قلت:
- سيهجمون اليوم أو غدًا أو بعد غد، لا يهم متى، لأنهم سيهجمون على التأكيد هذه المرة. شخصيًا، أنا أفكر في النصر مثلك، لكني أفكر فيه على طريقتي. لدي طريقتي الخاصة بي في التفكير، حتى في الانتصار.
- كيف؟ أنا لا أفهم.
- سأوضح لك.
ذهبت إلى النافذة، فتحتها، وانحنيت خارجها. كان هناك صبية مجردون من كل شيء، وهم يصيحون، ويهتفون للحرب.
قلت، وأنا أعود إلى مكاني:
- يُحَيّي الصبية الحرب.
قال صديقي:
- يبدو أن الكل يهنئ نفسه بالحرب ما عداك! ليس من الحسن أن تكون حذرًا مرتابًا إلى هذا الحد عندما يقطع مصير شعب بأكمله لحظة تاريخية كهذه.
- حاسمة، يجب القول لحظة حاسمة.
- إن شئت، لحظة حاسمة.
- دومًا ما كنت هكذا عندما يتعلق الأمر بحالة عصيبة. شيء أقوى مني.
- ستكون هذه الحرب حاسمة، وسنكسبها رغم كل تشاؤمك.
- أنت، ما يهمك، هو النصر، أليس كذلك؟
- نعم.
- ما ترغب فيه، هو هزيمة إسرائيل، أليس كذلك؟
- نعم.
- ما تأمله، هو استرجاع الفردوس الضائع، أليس كذلك؟
- نعم.
- وأنا أيضًا.
استشاط غضبًا:
- أنت تهذي! ما هذا الهذر؟ أوضح!
أحددت نظري إليه، ثم:
- أريد أن تخرّقني بالرصاص!
أعاد كلماتي، غير مصدق.
أضفت:
- نعم للنصر. لكن هذه الحرب لن تأتنا إلا بالألم والبؤس. لن يكسب داوود الصغير الذي هو نحن أبدًا ضد جالوت، العملاق العبري. لا، لست انهزاميًا، أنا حذر مرتاب كما قلت، وقبل كل شيء أنا شخص يفكر.
- تسمي هذا "تفكير" أن تطلب مني إطلاق الرصاص عليك؟
- في هذه اللحظة الحاسمة، أو إذا شئت التاريخية، ستنتحرون كلكم ما عداي. لهذا أريد أن أكون أول من يموت، ولأثبت لك أنني لست خائفًا من الموت. أنا أطلبه منك، لكني أعرف أنك لن تفعله، لأنك جبان.

في حارة النصارى، ذرعت زقاقًا طويلاً معتمًا عند نهايته قليل من الضوء. وقفت تحت المصباح لأنظر إلى ساعتي. كان الوقت يمضي رتيبًا. بقيت هناك، وأنا أنظر إليه، وهو يمضي، دون أن تخل نظرتي بنظام إيقاعه الأبدي. وماذا لو تندلع الحرب الآن؟ كان السؤال ينتهي مع علامة الاستفهام، ومع ذلك كان "الآن" يتجاوز، كما أرى، الزمن الحاضر، وكان هذا بالنسبة لي شيئًا غير مألوف، نعم هذا ما كان، كان كل شيء يبدو لي غير عادي.
التفت حولي، وأنا آمل في الوقوع على شيء استثنائي. ثم عدت إلى ساعتي، وأنا أحسها باردة حول معصمي. لمنعي من الارتعاش، أقنعت نفسي بالتقدم. قطعت حشرة الفضاء الجامد أمام عينيّ كالسهم، وملأ طنينها أذنيّ. قامت بنصف دورة، وعادت تقصفني. لمحت وميض عينيها، وقدرت مدى عزمها. عندما قررت خوض الحرب ضد الحشرة الليلية، وراود الحشرة الشعور بالهزيمة أمامي، اختارت الابتعاد، لتهيئ بشكل أفضل هجومها الجديد، كما كنت أفترض. رأيتها تحلق بعيدًا عني، قرب المصباح. لوحت بقبضتي مهددًا، لكنها تجاهلتني تمامًا.
خفضت رأسي، وتابعت طريقي. كان من اللازم الذهاب إلى مكان ما. كان من اللازم الاختيار بين قضاء باقي الليل في الأزقة الرطبة الضيقة واللجوء إلى مكان ما، مسجد أو كنيسة مثلاً. لكني رفضت الذهاب إليهما. كان مجرد التفكير في قضاء جزء من الليل ممددًا على بساط مهترئ أو جالسًا على مقعد منكسر يجعلني أتمرد على تنفيذ ذلك.
وأنا أخرج من الزقاق، لاح لي ضوء يومض غير بعيد. كان فندقًا. اتجهت صوبه، وأنا أفكر أنني سأطرق الباب، وأن موظف الاستقبال سيكون نائمًا. سأقول له: عفوك! لم أكن أعلم أنهم يقفلون باب العامود كل مساء على الساعة العاشرة. هذا يعني أن الوضع خطير للغاية. كل شيء لا يسير سيرًا حسنًا. – على العكس، كل شيء يسير سيرًا حسنًا، يا سيدي! والبرهان أنت، زبون يأتينا بعد منتصف الليل. – لديكم حجرة على التأكيد. – سرير واحد؟ - نعم، سرير واحد. أنا وحدي. لا ترعبني الوحدة. لهذا السبب لم أفكر بعد في الزواج. – أنت محظوظ، يا سيدي، أما أنا فلا، وهو يعطيني المفتاح. يقول لي رقم الحجرة، ويشرح لي كيف الذهاب إليها. عندما أجد نفسي بين الجدران الأربعة، لا أخلع ثيابي. أرمي بنفسي على السرير في كامل ملابسي بدافع الحذر. لكن حرصًا على نظافة الفراش، من اللائق أن أخلع حذائي الموحل. لن أنسى إقفال الباب بالمفتاح. لصوص القدس يجولون ويصولون حتى عشية حرب كبيرة. سيمكنهم مراوغة تيقظ مسئول الاستقبال، وعلى الخصوص عندما يغفو، وستكون لهم حرية التصرف. هذه الليلة، لن أنساها ما حييت! وماذا أيضًا؟ آه! لن أنسى إقفال النوافذ.
لكن في اللحظة التي وصلت فيها إلى منتصف الطريق إلى الفندق، انطفأت الأضواء فجأة. دوت صفارة الإنذار، وجاءت خطوات مذعورة من كل مكان، محاصرة إياي. حركت يدي، ولكمت أحدهم كان يمضي أمامي بسرعة هائلة. كان كل ذلك شؤمًا. أحسست بالضيق في كل حركة من حركاتهم. دفعتني أجساد ضخمة، أجساد قاسية الملمس. ضربتني قبضات خشنة، قبضات عنيفة سقطت عليّ.
- إلى الملجأ، أيها الأبله!
- إنها غارة! إلى الملجأ!
- ما هذا الخازوق الذي يعيق العبور!
- ادفعوه!
وإذا بضربة عنيفة أقصى عنف، سحقت بطني، وأسقطت جسدي، وحجر شديد أقصى شدة، شج رأسي، وأفقدني وعيي.

كان نعيق صفارة الإنذار يتصادى في أذنيّ، وكان أحدهم يبلل وجهي ليعيدني إلى نفسي. لكن كلما عدت إلى نفسي، كلما تضاعف النفير. حاولت النهوض، أردت الصراخ، إلا أن صوتي اختنق. ساعدتني امرأة شابة على الاستلقاء، بدفعة رقيقة من يدها ضاغطة على صدري، وسوت الضماد على رأسي. عندما لاحظت أنني صرت أقرب إلى السكينة والهدوء، قالت لي مفترة الثغر:
- لم تكن غارة، ولكن طائرة استطلاع، لا أكثر.
فتحت فمي، فانعقد لساني كالحبل.
تابعت:
- تريد أن أقول لك كيف ولماذا أنت هنا، أليس كذلك؟
الحقيقة، كيف ولماذا كنت هناك؟ ومن جديد، فتحت فمي، لكني لم أتوصل إلى نطق أقل كلمة.
قالت:
- ليس ما حصل على مثل هذه الغرابة. في الواقع، أردتُ الركض إلى ملجأ غير بعيد عن مسكني كالجميع، ووجدتك مغميًا عليك على عتبة بابي.
لم أطمئن تمامًا. ضغطت عنقي، رأسي، جبهتي. حركت رأسي يمنة ويسرة، يسرة ويمنة، بينما هي تجلس على حافة السرير تنظر إليّ، تنتظر أن يفرغ الطفل الذي كنته مع كل تلك الفوضى من الحركات.
سألتني:
- كل شيء على ما يرام؟
لم أجبها لحذري الدائم.
نهضت، وأعطتني ظهرها، فارعة القوام، هيفاء، في قميص النوم. لم تتأخر عن العودة مع فنجان شاي في يدها. حركت الشاي، ثم وضعت الفنجان على طاولة صغيرة قربي. أخذت مجلسًا على مقعد غير بعيد من ساعة حائط، عُلق فوقه شمعدان ولوحة لم أستطع تبيان تفاصيلها. كان مصباح يتدلى من السقف، واطئ لدرجة به يصدم العابر رأسه عند المرور أسفله. كان حذائي موضوعًا على الأرض، وثيابي على السرير. لم يكن لحذري منها ما يبرره، أرسلت إليها نظرة مليئة بالشكر والعرفان، فابتسمت، ومرة أخرى سألتني:
- أنت على ما يرام الآن؟
قلت، وأنا ألمس الضماد:
- ما حصل لي أمر عادي. لم أكن أعرف ما أفعل، بقيت منزرعًا هناك، معترضًا طريقهم. الإنذار شيء جاد دومًا، ومن الواجب اتباع التعليمات التي يقول بها.
وتفتحت الوردة البيضاء في فمها.
- هل أنت على ما يرام الآن؟
قلت:
- أنا على ما يرام، بفضلك. أشكرك!
سرها ذلك. هزت بهدوء قدميها الحافيتين المطلية أظافرهما بالأحمر القاني. نصحتني بشرب الشاي قبل أن يبرد.
بقي أحدنا ينظر إلى الآخر طويلاً دون أن ينبس بكلمة. أربكني ذلك الوضع بعض الشيء. لم يكن سبب ارتباكي الحذر وإنما الخجل. كنت أعتزم البدء بالحديث، بتبادل بعض الكلمات مع مضيفتي، ثم لا، لم أكن أجرؤ. أردت أن أقول لها كلمة لطيفة، شكرها مرة أخرى، لكني لا أقول شيئًا. كنت أستمع إلى دقات الساعة فقط، وضربات قلبي. أما عن الوردة البيضاء في فمها، فلم تذبل، صفاء الليل السابح في أعماق عينيها لم يتعكر.
وأنا أهم بتوجيه بعض المدائح إليها، سألتني:
- هل تعتقد أنهم سيهجمون؟
- من؟ نحن أم هم؟
- نحن. سنهجم نحن، سنبدأ الحرب نحن. هل تستطيع أن تتصور العكس؟
لم أرغب في معارضتها. لم أشأ أن أقول لها هم الذين سيشنون الحرب، وأن البرهان على ذلك طائرة الاستطلاع تلك التي ظهرت في السماء في النصف الثاني من الليل. اكتفيت بقول:
- سيهجمون على أي حال.
- متى؟
- غدًا.
- في هذه الساعة، أنت تعني اليوم، خلال عدة ساعات، ربما هذه اللحظة.
- ربما.
- هل أنت مسرور؟
لم أرغب في صدمها. لم أشأ أن أقول لها إن هذا لا يبهجني. اكتفيت بإجابة:
- لستُ أدري.
- بالله عليك، لستَ تدري!
- لستُ أدري.
- لستَ تدري، تقول لستَ تدري!
ابتسمت، وأعدت مرتبكًا:
- لستُ أدري.
- هل تشك في قوتنا؟
ومرة أخرى، لم أشأ معارضتها ولا صدمها. أكدت بصوت خفيض:
- نحن أقوياء.
- إذن لماذا أنت لست مسرورًا؟ لأنهم كسروا لك رأسك؟
قلت مبتسمًا:
- ربما.
- لكنك تعرف جيدًا أن ذلك كان حادثًا. كانوا يتدافعون، وأنت كنت...
قاطعتها، وأنا آخذ رأسي بين يديّ، مرددًا بعياء:
- رأسي مثقل، مثقل...
تنهدت، وسكتت.
أغمضت عينيّ، وفكرت في نهديها، في عنقها، في لحمها الوردي. سلخت في الحلم شفتيّ لكثرة ما قبلت شفتيها، سلخت وجهي على فخذيها. عدة أمتار كانت تفصل ما بيننا، وكان عليّ فقط أن أقطع هذه المسافة القصيرة، أن أحطم كل شيء في طريقي. هذه هي حربي. عدت أفتح عينيّ، وسألتها:
- هل تسكنين وحدك في هذا البيت؟
ردت بعداوة مفاجئة:
- وماذا يهمك أن أكون وحدي أم لا؟
- أسأل فقط.
- أنا أرمنية، من أصل أرمني إن كنت تفضل ذلك. ولدت هنا، في القدس. ثقافتي المزدوجة لا تمنعني من الحلم بالعربية كل ليلة. مات والداي، منذ عدة سنوات.
أضافت محزنة:
- ربما كانا يطلان علينا الآن من الجنة.
قلت مبتسمًا:
- أتمنى ألا يسيئا الظن بنا.
مدت ساقيها، ورمت رأسها على مسند المقعد. هذا الجسد الرخص هو وطني. كان على بعد خطوتين مني، الشيء الوحيد الموجود بالنسبة لي. هذا الجسد الجليل والمشتهى هو حقيقتي. إنه الحقيقة الوحيدة التي تربطني. كل شيء في الخارج كذب في كذب: وطنيتهم وشجاعتهم، كل شيء زائف.
فكرت في أن هذه الأرمنية قد تكلمت منذ قليل عن "قوتنا" عندما سمعتها تضيف:
- أنا أعمل عند باتا.
ألقيت نظرة على حذائي، وأنا أكرر القول: لقد تكلمت عن "قوتنا"، وها هي تسهر الليل كله بانتظار مجد، "مجدنا". شعرت بالعار. شخص ولد هنا، يحلم بالعربية، يحق له امتلاك القدس.
وضعت عينيها عليّ، وتركت أصابعها تبحر في بحر شعرها الأسود.
- كما تلاحظ، أنا سمراء وشعري أسود، فلا أحد يصدقني عندما أقول إنني أرمنية. يحتجون على الحرية التي علمني إياها والداي، ويعتبرونني عربية مزيفة!
- على العكس، على العكس...
اعتدلت، وسألتني:
- أنت لست ضدي إذن؟
- على العكس، على العكس...
- أنت لست ضدي؟
- يجب أن يبقى المرء معتدلاً في أحكامه. بفضل هذه الحرية التي علمك إياها والداك أجدني لم أزل حيًا!
ضحكت برقة. كنت أسمع ضحكتها، ولدي شعور بأنني رقيقها. كان ذلك يجعلني سعيدًا. كلهم عبيد في الخارج، ومع ذلك يعتبرون أنفسهم أحرارًا، ويريدون استعباد العالم.
فجأة، وصلت ضوضاء من الخارج، وهذا الصراخ:
- عاهرة قذرة!
قُذفت قنينة نفط على النافذة، تبعها عود كبريت. تفجر الزجاج، والتهمت النار الستارة. استطعت إطفاء كل شيء.
- ونحن، أيتها العاهرة!
سارعت لأرى من هم أولئك الزعران الذين تثيرهم الحرب لدرجة الحلم بالسرقة والاغتصاب. هرب ثلاثة أشخاص أو أربعة بأقصى سرعة.
- إنه الثمن الذي على المرأة الحرة أن تدفعه في هذا البلد.
- أعتذر لأجلهم، أزقة القدس لم تُصنع من حجارة القداسة.
- ليس هذا بالخطير. أنا معتادة. لنعد إليك الآن. لو لم أكن هناك منذ قليل لما استطعت فعل شيء؟
- لاستطاع سيل الغضب العارم جرفي معه، سيل الغضب هذا الذي يخطئ أحيانًا في معرفة عدوه من صديقه كما لاحظنا منذ عدة لحظات.
- لم تكن تريد النزول إلى الملجأ، أليس كذلك؟ لماذا؟
لم أشأ أن أقول لها إن هذه الحرب ليست حربي، إنني أحذر من الملاجئ.
- لأنني أفضل الموت وحدي، بعيدًا عن الجميع.
- لأن في رأيك حتى في الملاجئ سيموت الناس؟
- ليس لديهم مخارج للنجاة، بينما في الخارج...
- أنت تنسى أن النصر سيكون حليفنا، وأنه إذا كان على البعض أن يموتوا، فهم أعداؤنا.
قلت للمرة الأولى دون رِياء:
- نصركم أتركه لكم، ولي حرية اختيار موتي.
غرزت أصابعها في لحم كتفها حائرة، في المخمل والحرير، في الشهوة والمتعة، وخنقتني الرغبة في تمزيق شفتيّ على كتفها العاري.
- أن تختار موتك هكذا لهو من البلاهة لما يذهب كل البلد إلى النصر، إلى الحياة، كل البلاهة.
قلت وأنا أفكر أنها تعتبرني أبله بالفعل:
- أفضل أن أبقى في الخارج، بعيدًا عن الملاجئ.
- ولكن لماذا؟
ضحكت بخجل، واخترت الصمت.
ساد الصمت ما بيننا. نظرت إلى المصباح المتدلي، والمصباح المتدلي ينظر بدوره إليّ. أثارت نظرتي انتباه مضيفتي. لم أكن كالآخرين. لم أكن أركض ساعة الخطر كالآخرين، إلى الملجأ. لم أكن أعريها بنظراتي قبل أن أدعوها أو أرغمها على النوم معي. لم أكن شخصًا يغتصب الحياة الخاصة لشخص، حتى ولو كان جالسًا نصف عار أمامي. هكذا كنت، وهكذا سأكون، رغم كل الرغبة التي كنت أكابدها في تلك اللحظة، ولم أكن مسرورًا من نفسي. حتى هذه الحرب، حربي، حرب الحب هذه، وربما حرب الكره، يجعلونني أخسرها سلفًا.
بعد قليل الوقت، نهضت قائلة:
- سآوي في الحجرة المجاورة، إذا ما احتجت شيئًا ما عليك سوى أن تناديني. سأنهض في الحال، لأن ملائكتي خفيفة.
وأطفأت دافعة إياي في هاوية غائرة. شحذ الأثاث أنيابه التي بدأت بالتهامي، بتمزيق لحمي. انفصلت الأمواج عن الليل، وغمرتني. ليل تيه. ليل منفى. أحسست بنفسي أغرق في ذلك الليل المضل. ما لبثت أن ناديت:
- اتركي الضوء، من فضلك!
اعترت صوتي رعشة، فعادت تضيء الحجرة. أخذتُ نفسًا مديدًا، واستمددتُ من بسمتها الشجاعة.
هَمْهَمَتْ:
- إذن هو طفل يخاف الظلام، ولم أكن أعلم! كما تريد. سأترك الضوء مشتعلاً حتى تنام.
وأعطتني ظهرها، فهتفت بها قبل أن تذهب:
- لم تقولي لي اسمك!
كنت أراها من الجانب، وكانت تبتسم. اتحد الخفق بين قلبينا. فكرت أنني أحتل سريرها، وأنها تنام في الحجرة المجاورة. تخيلت ما كانت تفكر فيه: ربما كان عليّ قبول البقاء معه، لكنه يتركني أذهب دون أن يقول شيئًا، لأنه أبله، أو مغرور. له شكل الأبله، وفي العمق هو خجول كبير. يحذر حتى من مشاعره!
ومع ذلك، كانت تربطنا لحظة صغيرة الواحد بالآخر، عشر ثوان كبيرة صغيرة تثقل الوجود الذي كنا نحياه نحن الاثنان، كل واحد من جهته. إنها لحظة ضائعة، أو إنها لحظة نتركها تفلت. قصيرة وهائلة في آن. ساكنة وخطرة. كل شيء يتقرر خلالها، وأبدًا بعدها، بعدها يكون الوقت قد فات. لقد بدأ العد العكسي، بما أن ساعة الصفر قد أزفت. عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة، ستة، خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد، واحد، واحد، واحد... فكرت "صفر" بينما كانت تبتسم، لا مبالية، بريئة. ومع ذلك، كانت لها ابتسامة محرقة، فتيلة الزمن ولهب المعركة. فكرت في الصفر، وأنا أتعلق على شفتيها، كما لو كنت أريد تحاشي سقوطي، نهايتي. بجاه الإله! كيف يمكنني الوصول إلى الصفر، ووضع حد لحياة كاذبة بأكملها، لوجود عفن كامل، لكل الآمال الزائفة، لكل الأحلام الهدامة؟ وتلك الفاجعة المعلنة والممتنعة عن الولادة: واحد، واحد، واحد، واحد... الممتنعة عن أن تكون بيننا، المقتاتة من دمنا ودمعنا. واحد، واحد، واحد، واحد... قالت لي اسمها، وذهبت. ثم سمعت إغلاق بابها. تركت وراءها رائحة موت غامضة مختلطة بعطرها الأنثوي. شذى فكرتها عن الحياة أيضًا. وهذا "الواحد" الذي لا يني: واحد، واحد، واحد، واحد... والعقرب يتحرك، لكنه لا يتقدم. العقرب يغني، وأنا أفكر: لم تبق سوى ثانية، ثانية واحدة للاجتياز، واحدة، أخيرة، آخر ثانية، لكنها ثانية أخيرة عملاقة، تبدأ من حافة هذا السرير، وتنتهي بعد مليون عام من القهر.

وأنا أنهض، لم أفهم في الحال أنني قضيت عدة أيام نائمًا. ستة أيام. كانت الستارة مسدلة، وكان النهار في الخارج. كان يهيمن في الحجرة جو مفجع. قمت بعدة خطوات، خطوات مثقلة، خطوات شخص عاجز. وأنا أفكر فيها، قلت لنفسي إنها تنام في الحجرة المجاورة، ففتحت الباب، وألقيت نظرة في الممر. صمت غريب. ما لبثت أن عدت لأسحب الستارة. شمس غريبة. فتحت النافذة، وتنفست بشراهة. هواء غريب. هواء مسيخ قبض عليّ من حنجرتي. كان صباحًا ليس ككل صباح! كان الزقاق خاليًا. كانت الدرجات الصاعدة إلى السماء، التي كان المسيح قد استعارها، تفوح برائحة الجريمة والاغتصاب. كانت الجدران باردة وعارية، والبلاط قذرًا. كانت تفوح عنها رائحة الدنس. كان الوقت باكرًا، وإلا لمحت على الأقل بعض الذباب. إلا إذا كان هناك تفسير آخر. نظرت إلى ساعتي: واقفة! قرصت قلبي عقرب. كان المهم ألا يتوقف قلبي عن الخفق. لم أكن أريد الموت. كان كذبًا ما كنت قد قلته بخصوص موتي، بخصوص ما يدعى اختياري. لم أكن سوى جبان بين جبناء آخرين. احتددت ضد نفسي، ضد غياب الناس في الطريق، الآلهة في مدينة الآلهة. كانت الشمس هناك، وعاصفة من الأفكار السوداء تكتسح دماغي. كان الزقاق ميتًا تمامًا، وأنا كنت لم أزل حيًا.
ذهبت إلى الممر. كان باب في الصدر، وثان على اليمين، وثالث على اليسار. فتحت الباب الذي في الصدر: الحمام. قلت لنفسي: الباب الذي على اليسار هو باب المطبخ على التأكيد. لم أفتحه. قرعت الباب الأيمن ثلاثًا، ولم أنتظر جوابًا. دفعته. انفتح، وهو يَصِرُّ. سرير غير مرتب، بقايا دخان لم ينقشع، لطخة من العفن ليست ابنة الأمس. أخذ قلبي يدق دقًا جنونيًا. أين كان يمكنها أن تكون؟ كان الكل يدفن نفسه في بيته، أما هي، فقد خرجت تاركة إياي وحدي. كنت وحدي في ذلك البيت الذي لم يكن لي، وحدي في العالم الذي كان للآخرين. فحصت ساعتي الواقفة من جديد. لم أعد أستطيع تصديق الوقت، كان الوقت قد مضى، وكنت نائمًا خلال قطعه لي. خلعت ساعتي، وألقيت بها في عرض الحائط. كم كان ذلك يدعو إلى الرثاء: الذي فعلته حطمت وقتًا محنطًا!
اتجهت بسرعة نحو الباب المقابل: المطبخ كما توقعت. كان المطبخ باردًا بقدر الأشياء التي كانت تحيط بي. لم أكن أتحسب خروجها، تركها لي وحدي، لم أكن أفكر في هربها مني، في هربها من البيت. كان بيتها. لم يكن بيتي. كان بيتها هي. كانت قد ذهبت للعمل، بكل بساطة. في المساء، بعد عملها، ستعود إلى البيت.
رجعت إلى الحجرة التي كنت قد نمت فيها. وأنا أخلع الضماد من حول رأسي، علقت عيناي بورقة متروكة على الطاولة الصغيرة. هببت إليها كي أتلقف الكلمات التالية: الحرب بدأت بينما كنت نائمًا، فلم أشأ إيقاظك. لا تحقد عليّ لأجل هذا، لأن هذه الحرب ستُكسب بغمضة عين، وأنت بحاجة إلى الراحة. استدعاني بشكل عاجل الفدائيون الذين سمعت عنهم حتمًا، ربما تأخرت هذا المساء، ربما لا أعود قبل الغد، وربما لن أعود أبدًا...
نظرت إلى أصابعي المتشنجة على قطعة الورق. كان إزميل نحات يحفر فيها الموت، وقد امتنع صراخ متحجر عن تحرير حنجرتي. فتحت فمي على سعته، فأفلت منه صفير أشبه بالفحيح. تلألأ العرق على جبيني، وما لبث أن فتك بكل جسدي. كان لدي انطباع أنني سقطت في بركة من الفضلات. كنت أحس بنفسي قذرًا حتى أعمق نقطة في كياني. تلويت، والدم يجمد في شراييني. أردت القيء، نعم، القيء، بصق ذاتي، بصق أحشائي. ومن النافذة، بكل قوة كنت أقدر عليها، عويت:
- النصر!
أجابتني قهقهات تتصادى في الزقاق.
كان الموت هناك، كان في كل مكان، كان فيّ. لمحت في آخر الزقاق الهدم الذي فعله القصف: البيوت السلفية، الأشجار الألفية، الفندق الذي كنت أريد النزول فيه تلك الليلة. سمعت سلسلة من الانفجارات. رأيت الحرب أخيرًا، لكنى داومت على البقاء وحدي، متروكًا، وحدي، مسحوقًا. الحذر الذي كنت أظنه طبيعيًا لدي كان أبًا لعدم اليقين. كانت سحابات الدخان تعلو في كل مكان، وأجنحة الرماد تتساقط. وعلى الرغم من كل هذا، كانت الشمس تشرق، بوقاحة، والصباح يرجع بسفاهة.
ارتديت ثيابي، وخرجت، وأنا أتقاذف من زقاق إلى آخر. أخذت الجدران تقص عليّ قصص الذين كانوا قد هدموها، وكانت البلاطات لم تزل تتأوه من حملها لأقدام العمالقة الذين كانوا قد مضوا بها. أمس، كنت أسير هنا، كنت أتمشى هنا، وأمس، كانوا قد دفعوني لأنني كنت أعيق العبور، أولئك الصغار، أولئك الأقزام الذين لم يكن شأن لهم، والذين كانوا يبحثون عن ملجأ. كانوا يعملون أقوياء على ضعفاء. سال دمعي. كنت أبكي على ضعف كل تلك النفوس "الشجاعة"، على هزيمة كل تلك الأشخاص "المنتصرة". كنت أبكي على ضعفي، وعلى هزيمتي عندما فكرت فيها فجأة، في مضيفتي الغريبة، تلك التي ضاع اسمها في غابة ذكرياتي. أردت الانطلاق بحثًا عنها، اتباع آثارها. أردت استعارة الطريق نفسها التي استعارتها، الطريق الوحيدة المفتوحة في تلك القدس المهدمة، المقتولة، فتقدمت للحاق بها، للحاق بحياة الشرف. قمت بخطوة إلى الأمام، خطوة في حربي، لأنني دخلتها منذ قليل. كنت متأكدًا. كانت حربي، خطواتي، طريقي، فعجلت الخطى، وأنا أرفع قدمًا من الأنقاض، أدفع قدمًا في...


















الأعشاش المهدومة

كل نتيجة جديدة للجمع بين الطريحة والنقيضة في الجدل الهيغلي تخرج من تحليل نقدي تمهيدي: مرحلة من الهدم تسبقها وتعد لها.
إدغار لو روا


ماذا ستفعل، أيها الطائر البريّ؟
فكر سعدان قليلاً، ثم رفع عينيه إلى القمة الزرقاء لشجرة لوز. حمى عينيه من أشعة الشمس، وقال لنفسه: هذا حسن، سيكون النهار جميلاً! غرق بأصابعه في العشب، وأذاب الذهب في العينين، فأضاء النضار أهدابه. سيكون النهار جميلاً! كان قد وعد زوجته، نعيمة، إذا كان النهار جميلاً أن يفترشا العشب في المساء، ويلتحفا بالسماء.
شد انتباهه ماء الساقية الرقراق، فأحس بجريان الدم في عروقه، وانتفض على غناء البلابل. شعر بعضلات ذراعيه تتوتر كعضلات الجذافين، ورأى كيف رسمت أصابعه في العشب المراكب، وكيف أبحرت في بحر أخضر. ابتسم، وعاد يقول لنفسه: سيكون النهار جميلاً! اتسعت ابتسامته حتى بانت كل أسنانه، وسقط شعره الغزير على جبينه. كان يبتسم. كان يبتسم، ويبتسم. بقناعة. تابع بعينيه جناحي خُضَيْر يقطع السماء إلى عشه: سيكون الربيع جميلاً هذه السنة! نهض، وذهب إلى الساقية. وقف على حافتها، ونظر إلى الماء الرقراق. أراد أن يلقي بنفسه فيه، أن يغسل فيه كل بدنه. لكنه تردد: كان عمل كثير ينتظره في المزرعة.
مد قدمه الحافية في الماء معترضًا مجرى السيل، وغطس بها في الزبد المحمول على ظهر المويجات الكسولة، لكنه ما لبث أن عاد على عقبيه، وراح يعدو. لم يبتعد سوى عدة أمتار قبل أن يوقفه بعض الضحك. بحث عن مصدر الضحك من حوله، ووقع على زينب التي أخذت تضحك بملء شدقيها. أي قوام مختال، قوام زينب! دخل حقل الكرنب، وكاد يوقعها، وهو يسارع إلى الوقوف قربها. كانت زينب تداوم على الضحك الشجي، وفي يدها رأس كبير من الكرنب الأخضر. ابتسم سعدان ببلاهة، وقال لها:
- اضحكي! هيا اضحكي!
توقفت زينب عن الضحك دفعة واحدة، وتطلعت إليه بعينيها العسليتين، الصافيتين، فحسب أنه يرى في مرآة عينيها وجه طفل بشعره الغزير المتساقط على جبينه وبأنفه الدقيق الدبق.
- اضحكي، يا زينب، اضحكي! لماذا لم تعودي تضحكين؟
أعطته ظهرها، وانحنت لتقطع رؤوس الكرنب، وتضعها في سلتها. بقي سعدان ينظر إليها إلى أن ناداه عبد القادر، رئيس العمال:
- سعدان، تعال!
لكن زينب رمته بنظرات والهة، وغدا لها شكل الأرملة الحزينة فجأة.
- سعدان، تعال هنا حالاً!
لم يكن سعدان سعيدًا، كان يجدف بين أسنانه:
- يا ابن الكلب، يا سعدان! ما الذي يريده من سعدان؟
- هل تأتي؟
صاح على مضض:
- أنا آت.
ثم لزينب:
- أي نهار جميل!
كان الثناء لها بقدر ما هو للنهار. استعادت زينب بساطتها ومرحها، وأفلتت ضحكة صغيرة كي تسعده، بينما لم يزل عبد القادر يطلبه. تغضن وجه سعدان، وهو يكز على أسنانه مَغيظًا من نفسه:
- يا ابن الكلب، يا سعدان! لماذا لا يدعه وشأنه؟
كان يريد أن يبعث به إلى الشيطان، لكنه أجاب:
- سآتي!
أحس بخدر في ساقيه، فتحرك خطوة باتجاه زينب، وأعاد:
- أي نهار جميل!
كان ينعكس على الوجه الأسمر الريفي اخضرار الأرض، وكانت تترك نفسها تروح مع ذلك الاختلاج السخي لأجنحة طيور تحلق في الأجواء. فتحت فمها في الأخير، وقالت:
- اذهب إليه! هناك ما تعمله بانتظارك.
تأمل شفتيها مليًا، ثم أعطاها ظهره، والتحق بعبد القادر:
- ما الذي تريده من سعدان؟
رمى عبد القادر باستهزاء:
- أريد أن أتركه يتنزه، على أن يركب البغل لئلا يتعب قدميه. وعند عودته في المساء، أن أغلي له كوبًا من الشاي، وأفرش لسموه وسائد الحرير على الأرض!
نفخ عبد القادر، وأخذ يمسح بكوفيته العرق عن وجهه. نظر سعدان إلى وجنتيه المترهلتين قائلاً لنفسه: كأن لحمه من عجين!
قال عبد القادر:
- البيك كان هنا منذ قليل، وسأل عنك. قلت له إنك ذهبت بالخيول عند الحداد من أجل الحدوات.
- لكني لم أذهب بالخيول عند الحداد من أجل...
- إلى متى ستبقى طفلاً ساذجًا، يا سعدان؟ قلت له ذلك من أجلك، كذبت عليه لصالحك. هل تفهم الآن، أيها الطفل الأبله؟
عاد سعدان إلى تأمل الوجه العجيني.
- لو قلت له الحقيقة، لو قلت له إنك تمضي وقتك في ألا تعمل شيئًا، في الحلم أو الابتسام لزينب بغباء، أنت تعرف جيدًا ماذا سيكون عقابك.
- نعم، أعرف.
- إذن إذا أردت مواصلة اللعب كالأطفال في مثل سنك، فحذار من اللعب بالنار، وإلا طيرك التيار، ورماك في جوفها، وبعدها، سيكون ضياعك إلى الأبد بعدها.
كانت كلمات عبد القادر تشعره بجرم لم يرتكبه. مضى طائر فوقهما، وذهب الشمس يتموج على جناحيه. أراد سعدان أن يقول إنه كان يحسب نفسه طائرًا، إن كل تلك الأعشاش كانت له، إنه سيلقي بنفسه في الساقية، ويعوم في الماء البارد، لكنه لم يجرؤ على ذلك.
قال:
- إذن من الواجب عليّ أن أذهب بها.
- أن تذهب بها إلى أين، أيها الأبله؟
- بما أنك قلت للبيك يجب عليّ أن أذهب بالخيول عند الحداد.
رمى عبد القادر رأس الكرنب الذي قطعه في السلة، والشرر يتطاير من سكينه. قال، وهو يقهقه:
- يا له من طفل أبله! هل تظن أنها تنتظرك؟ لقد ذهبت بها بنفسي مع شروق الشمس.
قفز سعدان من الفرح، وهو يصفق، ويصيح:
- الله يحييك، يا عبد القادر! الله يحيي شنباتك!
ارتمى عليه شادًا إياه من خاصرتيه، لكن عبد القادر دفعه عنه مبعدًا، وهو يردد:
- توقف، أيها المجنون، توقف!
رفعت زينب رأسها، وصاحت،
- ماذا جرى له؟
- إنه مجنون! إنه طفل في كامل الحماقة، هذا كل ما هنالك!
تبسمت زينب عن لؤلؤ، وعبد القادر يردد: توقف! توقف!
قال سعدان، وهو يقطر نشوة:
- إذا أتيت عندي هذا المساء، طلبت من نعيمة أن تغلي لك إبريقًا من الشاي تشربه وحدك.
تذكر أن تلك الليلة ليلته، أنه سيقضيها في الحقل مع زوجته، لكنه قال لنفسه إن عبد القادر لن يأتي. وبالفعل، سمعه يقول:
- سنشرب الشاي في يوم آخر.
قبض عليه سعدان من ذراعه، لحظة، ثم خلاه. لم يلح، أخذ سلة وسكينًا ماضيًا ليقطع رؤوس الكرنب عندما قال رئيس العمال له:
- هناك عمل آخر ينتظرك.
شخص سعدان، وسأل:
- أوامر البيك؟
- ومن غيره يعطي الأوامر؟
- أنا أسأل فقط.
- نعم، أوامر البيك.
أضاف عبد القادر، وهو يقترب منه، ويطوي سكينه:
- عليك الذهاب إلى الحظيرة، ونقل القش إلى الإسطبل، فسيأتي البيك بحاضنة لتفريخ البيض يضعها هناك.
- أنقل القش إلى الإسطبل؟
- وقبل المغرب عليك أن تنتهي لتذهب في طلب الخيول.
رمى سعدان سلة القصب على الأرض ثم زرع سكينه في أحد رؤوس الكرنب الخضراء، والشفرة تهتز.
سأل سعدان:
- هذا كل ما هنالك؟
- هذا كل ما هنالك. حتى الساعة.
أعطى ظهره لرئيس العمال، وسار عدة خطوات، فقال هذا الأخير:
- ها أنا أنبهك! إياك أن تخدعك الشمس، فتترك العمل لتنام!
ابتسم سعدان، وعاد يأخذ طريقه، وهو ينظر إلى زينب، وزينب ترافقها نظرات الهيام الرقيقة، ثم صاح بأعلى صوت يقدر عليه:
- هذا النهار أجمل نهارات حياتي!
وانطلق يجري.

دخل الحظيرة كالسهم، فتفرقت الدجاجات هنا وهناك، وقاقت بهلع، بينما طار الديوك فوق الرفوف للالتحاق بإناثها، والخروج معها. تجمع سرب من الدجاج على عتبة الباب، وراح يختلس النظر إلى سعدان، فكش تلك الطيور الفضولية، وهو يضرب يديه على فخذيه، وهو يتظاهر بعزمه على ذبحها، حتى تفرقت خائفة في زوايا الفناء الأربع. كانت سذاجة الطيور تسلي سعدان كثيرًا، وكان عليه أن ينقل جبل القش من الحظيرة إلى الإسطبل، وأن ينتهي من كل شيء قبل غروب الشمس. عاير جبل الذهب ذاك من فوق إلى تحت، أخذ منه حزمة، وشم رائحتها مفكرًا: عندما نموت تكون لنا نفس الرائحة! أقلقته هذه الفكرة: لأنه كان شابًا، ولأن أباه علمه أن يحب الأرض والحياة. نثر حزمة كبيرة من القش على الأرض الملوثة بالروث، وجعلها ذهبية. جر عربة خشبية ذات عجلة واحدة، وفي الوقت نفسه طار ديك منها إلى أحد الرفوف، ولولا أن خفض سعدان رأسه لضربه الضيف في جبينه. التحق الديك بباقي إخوته وأخواته في الفناء، ففكر سعدان: لقد تركني وحدي! حرك مذراته، وقال لنفسه: هذا حسن! لنبدأ بهدم الجبل! زرع مذراته في بطن ما كان يدعوه "جبل"، ورفع كومة من القش رماها في العربة. انتشرت رائحة القش في كل مكان، وأثملته. عندما امتلأت العربة، دفعها حتى الإسطبل حيث لم يكن سوى بغل عجوز لم يميز سعدان وجوده إلا بعد أن اعتاد على العتمة. كان الحيوان ينظر إلي الفلاح الشاب بعينيه الحزينتين، فقال سعدان لنفسه: بغل أضاع حياته! أما عنه، فدم الشباب كان يسيل في شرايينه. وقف أمام البغل، وتبادل معه نظرات مفيضة بالحنان. كان كل منهما يريد أن يقول شيئًا للآخر، وما كان البغل العجوز يريد إفهامه لا علاقة له البتة بالشباب أو الشيخوخة. لاحظ سعدان أن الحوض كان مليئًا بالماء القذر، فحك رأسه حائرًا، وهو يفكر في الحالة التي يعيش فيها الحيوان. قال لنفسه إنه في يوم من الأيام سيكون أشبه بهذا البغل العجوز المنسي، وسيأتي أحدهم إليه، يكون في مثل حيويته وشبابه، سينظر إليه في العتمة، ولن يتبادل معه الكلام. كانت المرة الأولى التي تراوده فيها فكرة كهذه، هو الطفل "الأبله"، مجنون الطبيعة، المجنون بكل بساطة. قلب العربة، وعاد إلى الحظيرة.

كانت لآلئ المساء تداعب بأصابعها الشفيفة جبين سعدان، ففاض قلبه حبًا بها. هتف سعدان: نعم، كنت أعرف أن المساء سيكون جميلاً! عاد بالخيول الصهباء الثلاثة، وهو يجرها من اللجام مبتسمًا، والحيوانات الجميلة كانت تتبعه صاهلة، متبخترة. كان عليه الذهاب لإحضارها قبل الغروب، لكن نقل جبل القش قد أخذ منه وقتًا كثيرًا. هل سيوبخونه على ذلك؟ لم يكن ليهتم بذلك والقُبّة النجومية هي له الآن. غنى طائر الليل، وداعبت الأنسام العليلة شعره، فضم الطفل الكبير الطبيعة. ضمها بقوة حتى غدت جزءًا من لحمه. نسي الدرب الطويل، الغمام الأسود القابع خلف الضفة الأخرى لبحيرة الليل. نسي ما كان ينتظره ما بعد دربه. منذ وقت ليس بالبعيد، مواجهته مع البغل ذي شروط الحياة التعسة كانت لحظة نادرة في وجوده. كان سعدان يعيش من يوم ليوم، وعندما كان ينظر إلى المستقبل، لم يكن يفكر إلا في أشياء سارة. أخذ على نفسه تأخره: نعيمة بانتظاري، تركتها تنتظر طويلاً! جر الخيول بحزم، وعجل الخطى.
قرب الإسطبل، كان الليل حالكًا بغرابة، وبينما هو يقترب بحذر، لمح شبح أحدهم كان ينتظره. أحس بقلبه ينقبض، فسقط عليه صوت خشن:
- أين كنت لتعود بخيولي حتى هذه الساعة؟
عرف صوت البيك، وفكر: كم الليل حالك من هنا! انتابه شعور عميق بالذنب في اللحظة التي عاد فيها الصوت الخشن يسأله:
- إذن أين كنت؟
تقدم سعدان مواجهًا سيده، فبدا مسخًا أمام البيك، العملاق البدوي. كان البيك قد عُين حاكمًا عسكريًا قبل أن يمتلك كل المنطقة. أفلتت الكلمات من سعدان، فأشار إلى الخيول بإصبعه دون أن يكف عن النظر إلى السوط المهدد في القبضة الشرسة.
أعاد البيك، وهو يدفع بمقبض السوط سعدان في كتفه جاعلاً إياه يتراجع في الوقت ذاته والخيول:
- هل يمكنك أن تقول لي أين كنت حتى هذه الساعة؟
أجاب:
- ذهبت من أجلها، لأعود بها.
صفعه البيك:
- حتى هذه الساعة!
- تأخرت في نقل القش، كان كثيرًا!
عاد يصفعه:
- كثيرًا!
أفلت سعدان الأعنة ليخفف من التهاب وجنته القليل، دون نجاح. ردد مضطربًا:
- سيدي... سيدي...
ساطه سيده، فتوقد الليل، وشبت الخيول.
- سيدي... سيدي...
ركع على قدمي سيده ليقبلهما، والبيك يصرخ ويلهث لشد ما ساطه:
- قل أيضًا! أعد إلى ما لا نهاية!
- سيدي... سيدي...
مزق السوط كتفه، وسال الدم. كان سعدان مجنون الألم.
أمر البيك، وهو يدقه بقدمه:
- انهض!
رفع سعدان على سيده عينين مليئتين بالدمع، وهمهم:
- أقسم لك... أقسم لك...
لكنه ساطه أيضًا وأيضًا، فزرع سعدان أظافره في الأرض مكررًا:
- أقسم لك... أقسم لك...
سأل البيك، وهو يطحن أسنانه:
- ماذا يعني هذا؟
- أقسم لك... أقسم لك...
ضربه بقدمه:
- انهض!
اعتمد سعدان على يديه وقدميه دون أن يستطيع النهوض. كان الألم يسمره في الأرض، بينما كان البيك يأمر:
- قلت لك انهض!
استطاع الفلاح الشاب أن يقف في الأخير. كان دمه يسيل، والحصى يضحك منه. جره البيك من خناقه حتى الإسطبل:
- ستنقل هذا القش إلى الفناء حتى ولو قعدت الليل بطوله، أريده في الفناء، وليس هنا، في الفناء، مفهوم؟
وأعطاه ضربة عنيفة في معدته. سقط سعدان على القش، وابتلعه جبل الذهب. تركه البيك، وغادر المكان.

أيها الطائر! أيها الطائر!
كانت نعيمة تجري في الليل بحثًا عن سعدان، وكانت تفكر: لم يعد الطائر إلى العش هذا المساء! أحست بالفرخ الذي كان ينمو في بطنها يتحرك بشكل يدعو إلى القلق. عندما كانت تفكر في زوجها، كان الفرخ يحك منقاره ببطنها. كان يريد أن يُضحكها، وكانت تقول لنفسها: آه! كم هو مدلل، فرخي. لم يكن الوقت للدعابة. كانت قلقة على سعدان الذي لم يعد إلى العش ككل مساء.
لمحت على أرض الفناء بقعة حمراء كانت تعكس ضوء القمر، فخفق قلبها بقوة. جثت بثوب الفلاحة الطويل المطرز، ولمست كتل الدم اللزجة. ثم، نادته بعينين محملقتين:
- سعدان!
وانفجرت باكية. أخذت تجري في كل الاتجاهات دون أن تدري إلى أين تذهب. كانت الخيول تقضم العشب، وتمضغه بهدوء، فأقلقتها لامبالاتها في تلك اللحظة الجسيمة. دفعت باب الحظيرة، فانتصبت بعض الأعناق المريشة، وحدقت فيها بعض العيون المدورة. قوقأت إحدى الدجاجات كأنها تسأل عم كانت تفعله هناك، فعادت نعيمة أدراجها، ونادت من جديد:
- سعدان!
جرت نحو الإسطبل الغارق في محيط من القش والظلام، وألقت نظرة عبر الأمواج السوداء والذهبية، فلاحظت أن البغل العجوز كان يبكي. كانت دمعة كبيرة تفلت من عينيه، وكانت تضيء نظرته الحزينة. توقفت نعيمة عن البكاء، لكن عضلاتها ظلت تتقلص. وهي تنظر حولها، وقعت على قدم كانت تتحرك بصعوبة، وكان كل جسد سعدان لا يتحرك، فهرعت إليه، صائحة: سعدان! أيها الشقي، يا سعدان! وجذبته إلى صدرها. حاولت قليلاً تنظيف جراحه، وعادت إلى البكاء.

ساعدها البغل العجوز على نقل سعدان حتى الساقية. عهدت به إلى الحيوان العطوف الوقت الذي تذهب فيه لإحضار بعض الدقيق من كوخهم، دقيق عجنته، وبسطته على الجراح. مزقت طرف ثوبها لتعمل له ضمادًا، وسعدان ينظر إليها مبتسمًا.
سألته:
- هل أنت أحسن؟ قل لي إذا كنت تشعر بالتحسن.
واصل النظر إليها، وهو يبتسم. كانت بسمته تشبه ابتهالاً شقيًا، ارتعاشًا موجعًا. قالت، وقلبها مفعم بالألم:
- لا تتألم، يا سعدان، أنا هنا!
جذبها إلى صدره، لكنها ابتعدت، وابتهلت:
- توقف عن الألم، يا سعدان! إياك أن تتألم أبدًا!
همهم سعدان:
- مساء جميل! أليسه مساءً جميلاً؟
أمالت رأسها، ونظرت بعينين زائغتين إلى الساقية.
حدثها سعدان عن كل شيء: غضب البيك، أوامره، ضربات السياط. كانت عينا نعيمة تضيعان دومًا في الساقية. تأمل عنقها، ورغب في أن يلتهم بأصابعه العاج. نظر إلى ضفيرتيها، وترك أصابعه تطيران للالتقاء بهما. أخذ ينقل الذهب من عقدهما الفحمية، ويلقيه في الهواء. كان سعدان يتسلى كما لو نسي كل شيء. ملك نعيمة الخوف، فهتفت:
- أعرف أنك لست أبله، كما يدعي الجميع، لكنك ستبقى الطفل الذي هو أنت حتى ولو مزقوك إربًا!
فكر سعدان: كم أحب هذه المرأة! ارتعشت شفتاه، وأراد أن يبكي على صدرها، أن يقول لها إنه يحبها، يحبها، نعم، يحبها. أضافت بين زفراتها:
- سأقتل نفسي لو يقتلونك!
- لا تكوني مجنونة!
لم تتمالك نفسها:
- سأكون مجنونة، سأكون مجنونة، وسأقتل نفسي ليموت الطفل معي، ولا يعرف أبدًا آلام هذه الحياة.
اقترب سعدان منها، وأراد أن يأخذها بين ذراعيه. نظر إلى عينيها الحزينتين، واجتاحت قلبه عاصفة من الحب. لمس بطنها بأصابعه المتكسرة، وضغطه، وهو يحس بحركة الطفل. ضغط البطن بقوة أكثر فأكثر بلا شعور منه، وهو يفكر: أريد أن يكون ولدًا! كان يمكنه خنق الصغير. وعلى حين غرة، أعاده ضحك نعيمة الشهواني إلى الواقع، قاذفًا به على الأرض من جديد، جريحًا، بلا قوة، ولا إرادة.
قالت:
- أنت تدغدغني. ارفع يدك!
قال بصوت غريب:
- نعيمة!
وعاد لها قلقها وحزنها. تابعت تلك الغيمة القاتمة في عينيه. انتظرت أن يتكلم، لكنه هز رأسه لمرات ثلاث، وأخذ يضغط جراحه تحت الضمادات ضغطًا خفيفًا. أمال رأسه نحو الأرض، وهو يبحث بين الحصى عن الحجر الذي سخر به. لمست نعيمة كتفه، فقال كما لو وجد كلماته:
- ليكن كل شيء واضحًا ما بيننا، أريد أن يكون ولدًا!
وضع يد زوجته على صدره، فأحست بقلب سعدان يسارع الخفق. قالت لنفسها: كم يبالغ في رغباته! في الواقع، أبدًا لم تكن رغباته تتحقق كما يريد، أبدًا لم يكن يستطيع أن يفعل منها ما يريد. عذب روحها نداء غامض، فأجابت آسفة:
- ليت الأمر كان بيدي!
ترك يدها، واستشاط غضبًا:
- أريد أن يكون ولدًا وإلا قتلته!
أرادت أن تسأله لماذا، لكنها قالت لنفسها، وهي تنظر إليه برقة، إن لديه الحق ربما، هكذا يغدو ولدها رجلاً قويًا وشجاعًا ذات يوم. فك سعدان ضفيرتها الأولى. زحف بأصابعه الجسورة حتى ضفيرتها الثانية، وفكها أيضًا. نثر شعر الليل، وهو يفكر: شعر ماجن! شعر أسود ماجن! كانت ناحية عدم الحياء هذه التي تثيره لدى زوجته، الخجولة مع ذلك والمحتشمة.
هتف، وكله ابتسام:
- إذا كان ولدًا صنعت منه البيك الذي أريد أو على الأقل رجلاً كبيرًا كالبيك.
عبست نعيمة، وجعلتها تلك الفكرة المرعبة بشعة التقاطيع.
قالت:
- إذا كان الأمر كذلك، أجهضت نفسي.
- نعيمة، لماذا؟
- لأن الرجال كالبيك هم أشرار، وأنا أريد ابنًا طيبًا.
بالمقابل، كانت لا تعجبه هذه الناحية الأخلاقية. كان، هو، طيبًا بطبعه، ولكن ماذا استفاد؟ إذا أصبح ابنه كالبيك قويًا أصبح هو أيضًا قويًا، وأمكنه امتلاك المزارع وبيتًا من حجر. قال لنفسه: لكني لن أشتري له سوطًا! وعادت إليه أوجاعه من جديد.
قال كمن يتعزى:
- البكوات ليسوا كلهم أشرارًا.
- بلى. كلهم أشرار، وأنا أكرههم. إياك أن تفكر في أن تجعل من ابننا بيك زمانه!
- لماذا؟
- سبق وقلت لك. وفوق ذلك، ابن الفلاح لن يكون أبدًا بيك كل الفلاحين!
- سيكون بيك كل الفلاحين، لكنه لن يسمي نفسه البيك. سيكون البيك، لكن بشكل آخر.
- أنت، أيها الأبله، من تحسب نفسك؟ سيد المغول؟ قلت لك ألا تفكر في هذا.
حط الصمت بينهما، توقف طائر الليل عن الصداح، لم تعد نجوم السماء تتلألأ، لم تعد شفاه الأشجار تهمس. مضت عدة لحظات دون أن يكسر سعدان الصمت. وفي النهاية، جرؤ على قول:
- حسنًا، لن أفكر في هذا، لكني مع ذلك أريد أن يكون ولدًا.
أخذت يده بين يديها، وقالت كما لو كانت ثملى:
- غدًا، عندما سنكبر غدًا، سيأتي إلى عوننا، أليس كذلك؟
انفجر سعدان ضاحكًا:
- أنت أيضًا تريدين أن يكون ولدًا.
- سيشتري لنا حصانًا يساعدنا على التنقل.
مسح بيده على جبينها، وأراد عناقها، لكنه اكتفى بقول:
- حصان واحد فقط؟ سيشتري لنا عربة تجرها أربعة خيول.
هتفت بفرح:
- أربعة خيول دفعة واحدة؟
أكد، وهو يترك نفسه إلى الفرح هو أيضًا:
- نعم، أربعة خيول دفعة واحدة.
- آه! كم هو طيب، كم هو يحب والديه! لكن...
ترددت، وغدت شاحبة، حزينة:
- أنا خائفة، يا سعدان!
ترددت أكثر، وشدت يده بقوة بين يديها:
- أنا خائفة من أن تكون بنتًا.
انتفض، وسحب يده مهمهمًا:
- أبعد الله عنا الشر! سيكون يوم نحس لنا جميعًا!
- مع ذلك البنات فيهن الخير، أليس كذلك؟
- لسن على الرحب والسعة دومًا.
- البنات فيهن الخير مع ذلك، هذا ما كانت جدتي قد قالته لأبويّ يوم ميلادي.
فكر سعدان: يا لها من شقية. لم يكن يتمنى لابنته أن تعاني الآلام نفسها.
- أوقفي التفكير في هذا! لا أريد أن تحدثيني عنه!
غمرت يدها في المجرى، والماء الرقراق يداوم على السريان. حتى ولو أوقفت التفكير في هذا، فسيحصل ما يجب عليه أن يحصل. قالت لنفسها: بنت أم ولد، طيب أم شرير، هذا شيء يتجاوزنا على كل حال، لا نستطيع أمامه شيئًا. عاد طائر الليل إلى الصداح، والنجوم إلى التلألؤ، والشجر إلى الهمس. فجأة، سمعته يقول:
- أحبك، يا نعيمة! أحبك أكثر من كل شيء!
كانت خائفة من أن تسبب له الألم، لكنها رغبت في وضع ثغرها على ثغره، كالطيور، وفي عض منقاره. اقترب سعدان بأصابعه من ظهرها، وزلق بأصابعه الموجعة حتى تجويف خاصرتيها. أراد أن ينزع عنها ثوبها، ويلقي به في الماء، لكنها حالت دون ذلك.
سألته:
- وجبل القش؟ عليك أن تنقله أولاً.
كان سعدان يفكر: حقًا إنه مسائي! وكان النرجس يتفتح على ضفة البحيرة السماوية.

في الصباح التالي، حضر عبد القادر عند سعدان. أعلمه أن البيك يريد رؤيته، ولما جاءه سعدان، أمره البيك بقطع أشجار الغابة ابتداء من اليوم. كان عليه أن يسوّي الأرض التي سيبني البيك عليها حاضنة لتفريخ البيض. لم تكن الحظيرة واسعة بما فيه الكفاية ولا عملية. خلال ذلك، ستحل نعيمة محله في الحقول، وبالطبع لسوف تعفى من أعمالها المرهِقة في القصر.

حمل سعدان فأسه، وذهب إلى الغابة. كان الجو جميلاً، والحرارة خفيفة، والنسمة لطيفة، والأخضر والأزرق سيدي المكان. كان المرء ليحسب نفسه في الفردوس! بقي يقف طويلاً بين الأشجار، وهو يعانقها بعينيه واحدة واحدة. فكر أنه سيقطعها، وسيقتلعها بوحشية الهالكين في الجحيم. على منظر فأسه، كانت أسراب الطيور تغرد مع ذلك. قال سعدان لنفسه: الطيور لا تعرف الارتياب! احتار بين أن يزرع فأسه في جذوع الشجر أم في قلبه، لكن جبنه سيجعل منه الرجل الأكثر شجاعة.
زرع سعدان فأسه في جذع صنوبرة، وهو يهمهم بحزن: سأقتلعها من الجذور، وسأفزع الأفراخ! عاد يزرع في الجذر فأسه، ففتح فيه جرحًا أبيض. أخذ يسدد في الجرح الضربات، في صميمه، حتى مالت الشجرة، والطيور لا تفطن إلى ما يقوم به، كانت تواصل الغناء، وهو يواصل تسديد رأس فأسه في جرح الصنوبرة الأبيض، وقلبه قاس كالحجر. هكذا كان يترجم جبنه: بدلاً من أن يسدد في قلبه الضربات، كان يسددها في قلب الصنوبرة، ويضع حدًا لحياتها. بدأت الشجرة تُخرج من حلقها الزفرات، فضربها سعدان ضربة الموت الأخيرة، لتنكسر، وتهوي. فزعت الطيور، وهربت بصغارها عن الأعشاش بعيدًا بعد أن انتهى بها الأمر إلى فهم أن أحدهم قد اعتدى عليها وهزمها، ولكن بعد فوات الأوان.
كانت الطيور الفزعة تحلق في كل الاتجاهات فوق رأس سعدان، وكان الشاب الفلاح يشعر بارتكابه الفعل الأكثر إجرامًا في حياته. رمى الفأس، وخف ليرى قمة الصنوبرة الساقطة على الأرض، فوجد عشًا مهدمًا، وبيضًا محطمًا، وأفراخ ضعيفة جدًا لا تقوى على العيش. أحس بمخالب أمها وأبيها تمزق له نياط القلب، وكان يلزمه الصراخ لشدة أوجاعه. فكر سعدان في الجنين الذي ينمو في بطن زوجه، وقال لنفسه: إنه الآن مثلها! وسالت على خده دمعة.
كانت الطيور تروح وتأتي في مجموعات صغيرة فوق رأسه، ففكر بحذر: تريد أن تشن حربًا! عندما نقره أحدها من جبينه، حمل فأسه، وهزها مهددًا، فخافت، وابتعدت. وليشجع نفسه، ردد سعدان: إنها أوامر البيك! فلق جذعًا آخر، ونفخ. كان يعرق، وكانت الطيور قد شكلت مجموعات أكثر أهمية، لكنها لا تجرؤ دومًا على الاقتراب منه، إلا أنها امتنعت عن التغريد.

في تلك الليلة، بكى سعدان. سألته زوجته السبب، فقال لها إنه سيموت عما قريب، لأنه اقترف جرمًا في حق الطيور بهدم أعشاشها. ارتمت بين ذراعيه، وقبلته من عينيه، ومن شفتيه، ورجته:
- إذا مت إياك أن تذهب وحدك، إذا مت خذني معك!

وهم على أبواب الخريف، قال سعدان لزوجه:
- قطعت شجرًا كثيرًا.
- وهل ستتوقف أم ماذا؟
- قال لي البيك أن أستمر. يريد أن تكون الحاضنة ضخمة.
ثم بصوت كاب:
- هدمت أعشاشًا كثيرة، وأكثر ما يقلقني مصير الطيور بلا مأوى.
تأمل بطن زوجه الضخم كجبل، وزلق بيده تحت الثوب، وضغط بطنها.
طلبت نعيمة:
- توقف! أنت توجعني!
سحب يده، ونظر طويلاً في عينيها، ثم جال بطرفه في كل أنحاء الكوخ.
- ماذا سنغدو، نحن، لو هدموا لنا عشنا؟
على هذه الكلمات الجارحة، قطبت نعيمة حاجبيها، واكفهرت عيناها.
أضاف سعدان:
- إن الأمر سواء، أليس كذلك؟

في ليلة المخاض، دفعت نعيمة كوعها في خاصرة سعدان، وهي تعض شفتها السفلى حتى النزيف، وتتلوى من أشد وجع. أشعل سعدان المصباح، وجذبها إليه. كان يتوجع لوجعها، وكان يفكر: هذه الليلة ليلتها. أراد أن يهرع في طلب عون أحدهم، لكنها نادته. كانت الأوجاع قد توقفت. قالت له:
- لا تحضر أحدًا.
عاد يتمدد إلى جانبها، ولف كتفيها بذراعه. اقترب بوجهه من وجهها، وحك ذقنه بذقنها.
سأل سعدان:
- لماذا، يا لعبتي؟ لماذا، يا طفلتي؟ لماذا لا تريدين أن أحضر أحدًا؟
أجابت نعيمة:
- لأنني أخجل من أن يراني أحد.
- لكنك بحاجة إلى عون.
- ستعينني أنت.
- ولكن... أنا لا أعرف شيئًا.
- سأقول لك، سأقول لك ما عليك فعله.
تفجرت الأمواج فيها بقوة أكثر فأكثر، وكأن بحرًا من الزجاج المسحوق كان يخترقها. كانت تصعد من خاصرتيها حتى حلقها، مزلزلة إياها من طرف إلى طرف. أفلت منها الدمع، وسعدان يبكي من الألم معها. كان يعاني مما تعاني، وكان كمن يلد هو.
لم تلبث نعيمة أن غرقت في العرق، فمسح سعدان بكمه جبينها، ووجنتيها، وذقنها.
ابتسمت نعيمة، وسألت:
- أنت تفعل هذا من أجلي أم من أجل الولد؟
- من أجلك، أفعل هذا من أجلك.
- ومن أجل الولد.
- من أجلكما أنتما الاثنان، أفعل هذا من أجلكما أنتما الاثنان.
- آه! يا له من شقيّ، هذا الولد الذي يعذب أمه!
- نعم، يا له من شقيّ!
- ليس بالشقيّ الآن.
- نعم، ليس بالشقيّ الآن.
فكرت قليلاً، ثم:
- كيف سنسميه؟
لم يجب سعدان. شحبت ابتسامة نعيمة.
- قل لي، يا سعدان. كيف سنسميه؟
نهض، لكنها أمسكته من ذراعه.
- لا تتركني، يا سعدان.
- إذا تركتك في الحالة التي أنت عليها مت. سأذهب لأحضر زوجة عبد القادر.
- لا، يا سعدان. قلت لك إنني لا أريد أحدًا أن يراني.
غابت قليلاً، ثم:
- دومًا ما كانت أمي ترفض أن يراها أحد، وكانت تلد وحدها.
- ولكن، إنه لمن الجنون! جنون طفلة فاقدة الرشد تمامًا!
- من فينا فاقد الرشد أكثر، أنا أم أنت؟
- لست فاقد الرشد في اللحظات العسيرة.
ضحكت على الرغم منها:
- أنت تضحكني، يا سعدان!
مال عليها، وهو شديد القلق، وداعب وجنتيها وعنقها مهمهمًا:
- أحبك! انتبهي على نفسك! أنت لديك إرادة الحديد، أليس كذلك؟ كوني قوية!
عادت إلى الضحك على الرغم منها:
- أنا أم أنت من عليه أن يكون قويًا! اذهب وانظر إلى نفسك في المرآة، هيا، اذهب. لا تخش شيئًا، في البداية لا تجيء الطلقات تباعًا، هناك فترات طويلة أحيانًا. أنا لا أمسكك. اذهب وانظر إلى نفسك في المرآة، لتضحك قليلاً.
ابتسم سعدان دون أن يتحرك. فكرت في أنه قال لها "أحبك"، فغمرها شعاع سماوي.
همهمت:
- وأنا أيضًا، أحبك!
شحبت ابتسامتها شيئًا فشيئًا، ثم:
- لم تقل لي كيف سنسمي ابننا.
- لم أفكر في ذلك.
- إلى هذه الدرجة تكرهه؟
لم يجب.
- قل، أتكرهه إلى هذه الدرجة؟
- أنا لا أكرهه، لكنه يؤلمك بشدة.
مدت له يدها، فشدها بقوة. كانت باردة كقطعة الجليد:
- لا بأس في هذا، سيبقى ولدًا طيبًا، أليس كذلك؟
- أرجو ذلك.
- أنت ترجو ذلك؟ هل نسيت العربة التي تجرها الخيول الأربعة، العربة التي سيشتريها لنا عندما نصبح كبارًا؟ إنه ولد طيب.
- نعم، إنه ولد طيب.
- ولد طيب سيعنى بأمه العجوز الصغيرة، وبأبيه الشيخ الصغير.
- نعم، ولد طيب سيعنى بأمه العجوز الصغيرة، وبأبيه الشيخ الصغير.
- حسنًا. سخن الآن دلو الماء، واحضر الطشت هنا، قربي. احضر لي أيضًا الحفاضات، إنها جاهزة هناك، في الدولاب. هيأتها مع أسمال ولدنا. وانتبه جيدًا على ألا تُلبس الصغير قبل أن تغسله وإلا وسختها كلها. هيا، قم وافعل ما قلته لك.
خطا سعدان خطوتين، لكنها ما لبثت أن نادته، وغرزت أظافرها في ذراعه. كانت الآلام تتزايد، وكانت تقصف لها الأحشاء. كانت قلاع فيها تنهار، وكانت جذوة القنديل تئن. تقلصت، تقوست، يبست، وتركته في الأخير، وابتسمت ابتسامة شاحبة، وهي تلهث.
همهمت، وهي تلمس جرحًا صغيرًا على ذراعه:
- لقد أوجعتك. آه! كم هو شقيّ، هذا الولد الذي يوجع أمه. هل يعجبك ولد كهذا؟
- لا، لا يعجبني.
- لماذا؟ إنه طفل!
- طفل أم غير طفل، لا يعجبني، فهو يسبب لك الكثير من الألم.
- أنا، يعجبني، رغم كل آلام العالم. يعجبني طفلي. وأنت؟
- لا يعجبني.
- حسنًا. تستطيع أن تفعل ما طلبته منك.
أشعل البابور، ووضع عليه دلو الماء. قال لنفسه، والقلق يبدو عليه لحال نعيمة: على الماء أن يسخن بسرعة، ووصله صوت زوجته الواهي:
- أحبك، يا سعدان! دومًا ما كنت تريد إسعادي رغم كل ما نحن فيه من شقاء، وإذا مت؟ إذا ذهبت وحدي بعيدًا عنك؟ ستنقص مصيبة من مصائبك.
جاء قربها، وهو يرجوها أن تشفق به:
- أنت سعادتي، يا نعيمة! لا تحرميني من سعادتي، يا حبيبتي!
دفن وجهه بين نهديها ليشم أفضل ما يشم رائحتها المثملة، وقال بصوت مرتجف:
- أنا لا أريد أن أفقدك.
- هل تحبني إلى هذه الدرجة؟
- أحبك أكثر من كل شيء.
غدت شفتا نعيمة باردتين تمامًا، وحلقها جافًا، وأضلاعها سهلة الكسر، أكثر فأكثر سهلة الكسر, وكالطفل، دحدل شعبان رأسه بين نهدي زوجته، كان يبدو للناظر أنه هو من يموت، ومن يستغيث.
- لا تعذب نفسك، يا رجل! لن أموت. لي أفكار سيئة أحيانًا.
- أفكار امرأة مجنونة!
- سأكف عن اليأس. هل سأكف؟
- نعم، من أجلي.
- حسنًا. احضر لي الطشت، بدأت أنزف.
ترك الكوخ، وأخذ يجري في الليل نحو البئر، فمن عادته أن يغطيها بالطشت. فكر سعدان: ستلد عما قريب! لم يكن سعيدًا. كان يرزح تحت وطأة هذا الحدث. عندما وصل البئر، أخذ الطشت، وبقي طويلاً يسبر أغوارها. وبعد ذلك، رفع رأسه إلى السماء، ولمح غمامًا أسود كان يزحف على مهل. قال لنفسه، منقبض القلب، لما سمعها تصرخ فجأة: ستلد عما قريب، إنها على وشك الولادة! ترك الطشت يسقط في جوف البئر، وبدوره، سقط في ضجيج لا ينتهي. وثب إلى البيت للحاق بها، وعندما كان قرب السرير، رأى بين فخذيها شيئًا أشبه بحيوان صغير، بقط ربما، مغطى بالدم والغائط. كان هذا الشيء يصرخ ويبكي. أخذ نعيمة بين ذراعيه، كانت ثقيلة جدًا بحيث لم يستطع رفعها، ففهم أنها كانت ميتة.

قال سعدان:
- شقيقة النعمان هذه لها، وهذه، وهذه، ستكون باقة جميلة، وهذه أيضًا.
قطف شقائق النعمان، وهو يقفز من رابية إلى أخرى. كالسعدان. المعنى الآخر لاسمه. لكن منذ موت نعيمة، كان يفضل لو يدعونه نحسان. نحسه الأول كان موت زوجته، ونحسه الثاني سيكون ربما غدًا أو بعد غد، كان من الصعب التنبؤ به. لم يكن يعلم ما سيقع له ولا متى. الحقيقة أنه كان يحزره لكنه كان يبقى سره. ومنذ ذلك الحين، كان يخاف المستقبل، فيعمل كل شيء لاحتواء خوفه ويأسه. وشقيقة النعمان هذه أيضًا لها. لو كنت أقدر لقطفت لها روحي. وهذا المنثور. من أجل عيني نعيمة، الغادرة! ماتت وتركتني وحدي! وهذا أيضًا. انحنى وكأنه يصلي لإله الزهور. وزهر اللؤلؤ هذا. كانت تحب زهور الحقول! أخذ قلبه ينزف. أشار إليه منثور على كتف صخرة، فقفز صوبه. لم تزل الباقة صغيرة جدًا بعد. كانت تحب زهور الحقول من كل قلبها، وغالبًا ما كانت تغرز بها شعرها في المساء. ثلاث أو أربع. تذكر اليوم الذي كان فيه قد سرق باقة من القرنفل من حديقة البيك، وكيف كانت قد زوقت بقرنفلة دموية نهديها. عاد يقفز من مكان إلى آخر. نادته هندباء برية من سريرها المندى، فقطفها من جذرها، نظفها، وأحاط الزهور بها. قال لنفسه: ها هي ذي تنتظر! منذ غيابها، كان يشكل لها كل يوم باقة من الزهور التي كانت تحبها. تساءل: وإذا ما انتهت زهور الحقول؟ لكنه طمأن نفسه: لن تنتهي! هذه الأرض كالمرأة، تخصب في كل الفصول! شقيقة نعمان أخيرة، وجرى إلى المقبرة. قطع الأولاد ألعابهم لينظروا إليه، مستغربين ومليئين بالود في آن. وقف وسط القبور، وأجال نظره عليها. كان عالم الموتى يثير لديه الخشوع، السكون، والأبدية. اقترب من قبر امرأته، وتلا الفاتحة، وهو يشد باقة الزهور على صدره، ويكاد يكسر تيجانها. ثم وضع الزهور على المِسلة. جلس على الأرض قائلاً لنفسه: نعيمة سعيدة الآن. لم يكن بإمكانه أن يكبح مشاعره نحوها، وترك دمعه يسيل، لكنه منع نفسه عن الصياح بها: هاءنذا! تمدد على القبر، وغطاه بالقبلات. تعلق به، وعاد إلى البكاء.

عندما رجع سعدان إلى الحقل، وجد عبد القادر ينتظره. كان رئيس العمال قد أطلق لحيته، وكان له شكل الغصن الشائك. كان الغبار يغطي وجهه، وقنبازه القذر تفوح منه رائحة كريهة. كان عبد القادر الوحيد الذي يفهم ألم صديقه "الأبله"، الطفل الأبله، كما كان يقول. كان يرمي إلى أن يكون حاضرًا دومًا للوقوف إلى جانبه، وكان يتفنن في ابتكار كل الذرائع لئلا يدعه وحيدًا.
قال عبد القادر:
- كنت بانتظارك.
تطلع إليه طويلاً، كان الدمع قد جف على وجه سعدان، لكن الناظر إليه كان يرى أنه بكى. فكر رئيس العمال "يا لسعدان المسكين!" قبل أن يقول له:
- توقفت العفريتة!
هكذا كانوا يسمون التراكتور: العفريتة!
- لهذا أحضرت البغل الشيخ.
وأشار بإصبعه إليه.
كان البغل العجوز يرعى، أسنانه التعبة تسبب له الألم، ومع ذلك، كان يبدو طلق المحيا. لم يفه سعدان بكلمة، فتقدم عبد القادر منه خطوة، ووبخه بلطف:
- إذا بقيت على حالك هذه انتهى بك الأمر إلى الموت غمًا!
خلى سعدان كلماته دون أن يستطيع إخفاء يأسه:
- إذا متنا أو عشنا، الحال هو الحال، يا عبد القادر.
- لا، ليس الحال هو الحال. ونبرة اليأس التي تستعملها هذه، شيء جديد، شيء جديد حقًا! هناك بنت تركتها زوجتك من ورائها، ثم حياة مديدة مفتوحة أمامك عليك أن تعيشها حتى النهاية.
بعد أن تطلع إلى حاجبيه الكثين ولحيته الشائكة كما لو كان يراه للمرة الأولى، قال سعدان بهدوء:
- هذه الحياة لم تعد حياتي.
- بلى. هي حياتك. لا تنس ابنتك، إياك!
- كنت أريد أن يكون ولدًا، كنا نريده نحن الاثنان، أنا ونعيمة.
- مهما يكن من أمر، فهي بنت. ماذا تقترح أن نفعل بها؟ هيا، قل! ربما تريد أن نرميها في الغابة لتأكلها الذئاب؟ إنها ابنتك، شئت أم أبيت.
ظل سعدان صامتًا. فكر: إنها ابنتي على الرغم من كل شيء. حقًا لم يكن يريدها، لكنه أصر على تسميتها نعيمة كزوجته المتوفاة. كان قد عهد بها إلى زوجة عبد القادر لترضعها وتعنى بها.
نطق عبد القادر جملة كان لها أثر هجوم الطيور الجارحة:
- الحل الوحيد، يا سعدان، هو أن تتزوج، لأجل ابنتك، ولأجل أن تنسى. بنات الحلال كثيرات، وما عليك سوى الاختيار. لم لا زينب؟ زينب تحبك.
فكر سعدان: زينب تحبني. هذا الحب مصابي الثاني الذي يتربص بي بعد موت نعيمة، أنا النحسان.
تركه عبد القادر يفكر، وذهب ليربط المحراث بالبغل الذي جره من اللجام، فتحولت الأرض من ورائه إلى أثلام مستقيمة ومنتظمة. عندما تعب البغل، زرع حوافره في الأرض، ورفض القيام بأية حركة.
قال عبد القادر:
- ها هو "الأخ" يتوقف عن العمل، هو أيضًا، كما توقفت العفريتة.
سأل سعدان:
- ومتى سيصلحها البيك؟
- الله يعلم. ماذا سنفعل؟ البغل كبير كثيرًا، وهو على وشك الموت.
قفز سعدان نحو المحراث، فك البغل، وربط بالمحراث نفسه.
صاح:
- تعال، يا عبد القادر! احرث على ظهر هذا البغل قبل أن يموت هو الآخر!

بعد ست سنوات، كان سعدان وعبد القادر يحتسيان كأسًا من الشاي في مقهى القرية.
سأل عبد القادر:
- قل لي، يا سعدان، حتى متى ستبقى على عنادك؟ متى ستتزوج بزينب؟
أجاب سعدان:
- لست أدري. يوجع قلبي هذا النوع من الفتيات.
- يوجع قلبك لأنها رفضت إلى حد الآن كل خاطب؟
- ربما كان كذلك. ثم، بعد زوجتك، هي من تُعنى بابنتي.
- نعيمة تحبها من كل قلبها، وتدعوها "يمّا".
رشف سعدان شايه، تأمل شعر عبد القادر الأبيض ولحيته الناعمة اليوم، وهتف بابتسامة صغيرة:
- شاب شعرك كله، يا عبد القادر!
- إنها الرزانة التي تنقص الشباب!
وضحك حتى دمعت عيناه.
اقترب برأسه من رأس صديقه، وعهد إليه بشيء من الكآبة:
- سيأتي يوم نموت فيه جميعًا، يا سعدان. لهذا أنصحك بالزواج، لتترك من بعدك نسلاً يحمل اسمك. أنت كذلك شعرك قد بدأ يشيب.
مر سعدان بيده في شعره بينما تابع عبد القادر:
- أنت شبت قبل الأوان، وأنا أعرف لماذا، فلهذا الحريق الأبيض أسبابه.
- أنت أحسن من يعرف الوحل الذي نحن نتعثر فيه.
فكر عبد القادر: لا يقول الوحل الذي أتعثر أنا فيه. ربما كان يتكلم عن الوحلين، وبكلام آخر عن كل التعاسات التي كانوا كلهم يعانون منها.
- أذكرك إذا تزوجت زينب، جاءتك بكدها وعرقها مهرًا، ولن تنفق قرشًا واحدًا من أجل الجهاز. زينب ربة بيت لا غبار عليها، لديها كل ما يلزم، ستنقل فراشها إلى دارك، ويوم زواجكما، سأذبح لكما نعجتين.
سكت ليرى رد فعل صديقه، ثم:
- ماذا قلت؟ ما عليك سوى أن تحدد يوم الزواج، وسأتكلف بالباقي.
في تلك اللحظة، دخل المقهى شاب بأقصى سرعة، وقال بكلمات مضطربة:
- المعركة بدأت!
مما أدهش سعدان:
- عن أية معركة تتكلم؟
أحاط كل الرواد بالشاب ليعرفوا أية معركة هي. لم يكونوا ينتظرون حدثًا كهذا.
أوضح الشاب:
- يحاول اليهود احتلال جنين.
- ماذا؟!
- يحاول اليهود...
- ...احتلال جنين!!!
كانت بينهم وبين جنين مسافة عشرين كيلومترًا، لكنهم لم يكونوا ينتظرون أن يهجم الإسرائيليون، أن يجيئوا إلى هناك. كان عالمهم عالم البيك، سوطه، وصولجانه. كانوا لا يعرفون ما يجري خارج حدوده، ولا يسعون إلى معرفة ذلك. لكن "اليهود" كانوا يهجمون... استعاد الفلاحون صياحهم الضائع، وامتزجت أصواتهم المبحوحة. لم يكن في المقهى مذياع، ولا في كل القرية، ما عدا مذياع البيك، فكيف عرف غراب الشؤم هذا الخبر؟ من قال له؟
اقترح الشاب:
- اصعدوا فوق الهضبة، فيكون باستطاعتكم مشاهدة قصف المدافع والدبابات.
- ليس هذا صحيحًا!
- ما أنت إلا كاذب!
- ليس هناك غيرك من يقول هذا!
- لا بد أنك تهذي!
والآخر يدلي بالأيمان المغلظة، أنه عائد من نابلس، أنه رأى بأم عينه، عند مطلع الفجر، فرقة مدرعة، وقافلة من الجنود المشاة، وهي تقطع الحدود، الحدود الحقيقية، لا الأخرى، حدودهم، الوهمية!
وسعدان يغادر المقهى، قال لعبد القادر:
- كنت قد عزمت على الزواج بزينب، أما الآن والحرب بدأت...

بعد عدة أيام، تربع سعدان على الأرض أمام طاس من الألمنيوم مليء بالزيت، علي ركبته رغيف خبز أسود، وبيده كأس شاي. غمس الخبز في الزيت، ودفعه في فمه مع جرعة من الشاي. جلست الصغيرة نعيمة على مقربة منه، وهي تحك عينها اليسرى، وتنظر إلى أبيها.
سأل سعدان، وهو يبتسم لها:
- لماذا لا تأكلين؟
واصلت حك عينها بينما كان عنقود مخاطي يسيل من منخرها ليصل شفتها العليا، ويلتصق بها.
- نعيمة، لماذا لا تأكلين؟
واصلت حك عينها أكثر فأكثر.
- نعيمة، كلي!
نشقت العنقود المخاطي دفعة واحدة، وقالت:
- هذا الأكل، أنا لا أحبه، يابا.
وسال عنقود أصفر آخر من منخرها.
قال، وهو يقدم لها كسرة:
- لكنه خبز جيد، حتى ولو كان أسود وابن البارحة. ربما أنت لا تحبين خبز القرية، ، ومع ذلك، فهو خبز جيد، جيد جدًا، والزيت من أجود الزيوت.
ومن جديد، نشقت العنقود المخاطي، وتدحدلت خطوتين. تناولت كسرة الخبز، وعضتها، لكن الخبز كان يابسًا، فأوجع أسنانها. جذبت كمها على أنفها، ومسحته.
أوضح سعدان:
- عليك أن تغمسي خبزك في الزيت كي يطرى.
تركت كسرة الخبز تسقط على ركبتها، وخفضت رأسها بعناد. رفع لها أبوها وجهها بإصبع وضعها تحت ذقنها: وجه بقّعه البؤس والنمش.
- ما لك، يا نعيمة؟
- أنا لا أحب الزيت.
- ليس عندي زعتر. تريدين أن أذهب في طلب قليل منه لك؟ ما أطيب الزيت بالزعتر!
هزت رأسها علامة الموافقة.
قام سعدان بقفزة عند الجيران، ولم يتأخر عن الرجوع بحفنة من الزعتر.
قال لابنته:
- خذي، ها هو الزعتر. كلي!
توقفت الطفلة عن حك عينها، وقد غدت حمراء، فأخذ أبوها وجهها بين يديه، ونظر بانتباه.
- انظري إلى ما فعلت في عينك!
همهمت الصغيرة نعيمة:
- كانت تحكني.
- طيب، كلي.
قسمت قطعة خبز صغيرة، ورمتها ناشفة في فمها.
- أنت تسخرين مني أم ماذا!
- لماذا يابا؟
- والزعتر، لماذا طلبت من أن أستعيره من الجيران؟ أليس لتأكليه مع الزيت؟
- لكني لا أحب الزعتر، ولا الزيت، لا أحب شيئًا.
- أنت لا تحبين شيئًا، حقًا لا شيء!
- أنا لا أحب شيئًا، حقًا لا شيء.
وبعد لحظة:
- ما عدا شوربة زينب.
- ما عدا شوربة زينب!
- ما عدا شوربة زينب. أنا لا أحب شيئًا، ما عدا شوربة زينب.
أراد أن يقول لها في زمن الحرب، زينب لا تعمل شوربة، تأكل خبزًا مغموسًا في الزيت والزعتر كالجميع. كان البيك قد علق كل ما يدفع للفلاحين، حتى أنه كان قد شطب كل حصص الحبوب. وبانتظار أن تنتهي الحرب، وأن تعود الأمور إلى مجاريها، قرر سعدان إرسال ابنته لتعيش مع أطفال عبد القادر كالماضي، فتنسى قليلاً شوربة زينب.
قال سعدان:
- لم تعد زينب تعمل شوربة.
قالت الطفلة:
- أعرف.
- وكيف تعرفين؟
- لم يعد هناك كرنب، ولا أية خضروات. البيك أكلها كلها!
- من قال لك هذا؟
- زينب.
فكر: لقد علمتها زينب أشياء كثيرة!
- إذن كلي قليلاً من الزيت والزعتر، واشربي قليلاً من الشاي، هذا لذيذ مع الشاي. خذي، هذا كأسك.
- أنا لا أحب الشاي، أحب شوربة زينب.
- قلنا إن زينب لم تعد تعمل شوربة، وأنت يجب أن تأكلي لتكبري.
- صحيح أن اليهود يقتلون الأطفال الذين لا يريدون الأكل؟
- ماذا؟!
دست قطعة خبز في فمها، وأخذت جرعة شاي.
- من قال لك هذا؟
- زينب.
فكر سعدان: إذن هكذا جعلت زينب ابنتي عاشقة بشوربتها! أراد أن يقول لها إن ذلك ليس صحيحًا، إن لا علاقة للحرب بالأطفال الذين يرفضون الأكل، لكنه عدل عن ذلك:
- انسي كل هذا، وانتهي من الأكل.
رمت النحيفة الصغيرة كسرة الخبز، وقالت، وهي تركض نحو الخارج:
- شبعت.
وفي اللحظة ذاتها، دوى انفجار قوي في أقصى القرية، فصرخ سعدان:
- نعيمة!
وركض خلفها.
رآها في الحقل بعيدة، بينما كانت تمضي في السماء قاذفة قنابل.
- نعيمة، ارجعي!
رمت الصغيرة أباها بنظرة مذعورة، فقفز ليشدها إلى صدره بقوة، وهو يهمهم:
- يا طفلتي! يا صغيرتي!
ابتعد، فرأى وجه زوجته المتوفاة أمامه. ابتسم له الوجه ابتسامة مظللة بالعتاب، لأنه توقف عن وضع باقة الزهور المعتادة على قبرها، فقرر الذهاب إلى أبعد رابية لو يلزم ليقطف كل ما يوجد من زهور.
- يابا، انظر فوق!
رفع سعدان رأسه متابعًا الإصبع الصغيرة المقوسة، وحطت عيناه على قمة شجرة لوز.
- ماذا هناك، يا نعيمة؟
- العش، ألا ترى العش؟

وفي اللحظة ذاتها، حطم الفلاحون الجوعى، على رأسهم عبد القادر، بوابة قصر البيك، وأشعلوا النار فيه. سقط العديد منهم تحت رصاص حراس القصر، وبالمقابل قُتل البيك، وطُردت عائلته إلى ما وراء نهر الأردن، من حيث جاءت. وُزعت مخازن الحبوب على الجميع، وصاح عبد القادر بقوة وسط الحطام:
- نحن أحرار!
ومن وراء الهضبة، أصبح القصف أكثر فأكثر حدة، أكثر فأكثر قربًا.

- العش في الأعلى، ألم تره؟
أبعد سعدان أغصان شجرة اللوز الواطئة، ورأى عشًا من القش معلقًا على العرف.
قال:
- رأيته.
طلبت الصغيرة، وهي تقرص ظاهر يده:
- اصعد، واحضر لي بيضة.
- ولكن يجب ألا نزعج الطيور، حرام أن نسرق بيضها، ونضايق الأفراخ في عشها.
- أعرف، قالت لي زينب ذلك. سألعب معها قليلاً، ثم تصعد ثانية، وترجعها، أنا أعدك.
بقي سعدان في مكانه حائرًا.
- هيا، يابا! احضر لي بيضة!
- حسنًا. سأحضر لك بيضة، ترينها، وأرجعها في الحال إلى عشها، هذا إذا كان هناك بيض.
- هناك بيض، أنا أعرف.
- زينب أيضًا هي التي قالت لك ذلك؟
- لا.
- إذن كيف تعرفين؟
- لقد حلمت بذلك.
قرصها من ذقنها، وأخذ يتسلق شجرة اللوز حتى العش، فرأى فيه ست بيضات صغيرة جدًا، دون أبويها، ولا أحد. قال سعدان لنفسه: جعلت الحرب الطيور تهرب، ولم تحضن بيضها! أخذ بيضة بأصابع حذرة، ونزل بعجلة، وهو يقصف بعض الأغصان. قفز أمامها، وهو يلهث:
- خذي!
وشاهد اللؤلؤ بين شفتيها.
رددت الطفلة مستثارة كلها:
- يا يابا! يا يابا!
طوت أصابعها على البيضة، وهي تغني: يا يابا! يا يابا! كانت سعادتها! كانت تدور، وتدور، وهي تداعب البيضة الصغيرة، وهي تقبلها، وهي تضعها على صدرها. يا يابا! يا يابا! كان سعدان جذلان لجذلها، لسماعه لها. كانت الوحيدة التي لا تفكر في الحرب. انقبض قلبه، وهتف:
- هذا يكفي، يجب عليّ إرجاعها.
رجته الصغيرة:
- لا، انتظر قليلاً.
- هاتي البيضة!
أخذها من يديها، وعاد يتسلق شجرة اللوز.
سألت نعيمة بينما كان أبوها يصعد:
- هل تظن أن هناك عصفورًا صغيرًا فيها؟
- وما يدريني؟
أكدت البنت:
- هناك واحد، وهو صغير صغير كحبة القمح.
لم يجب، وهو يواصل الصعود، لكنها أوقفته:
- يابا...
- ماذا؟
- عندما تصبح البيضة فرخًا، هل ستحضره لي كي ألعب معه؟
ابتسم.
تابعت الطفلة:
- أعرف أن على الأطفال ألا يحرموا الأفراخ الصغيرة من أمها وإلا ماتت.
لم يعد سعدان يبتسم.
عندما وصل قرب العش، سمع ابنته تناديه من جديد، وفورًا بعد ذلك وصله صخب كان يشبه رشقة طلقات متواترة، فصاح من أعلى شجرة اللوز:
- هل أنت بخير، يا نعيمة؟
كان الصمت الجواب الوحيد، وكانت الأغصان المتأرجحة تحت قدميه تحجبها عنه.
- يا نعيمة، هل أنت بخير؟
لم تجب الصغيرة.
- أجيبيني، يا نعيمة!
الصمت دومًا.
رشقة طلقات متواترة أخرى، تلاها انفجار. تشنجت يده، فتكسرت البيضة الصغيرة بين أصابعه. من فوق، رأى النار والدخان في قصر البيك، وفي كل أكواخ القرية، المهدمة تمامًا. وكأن أحدهم سدد نصلاً في قلبه، وطعنه. وهو يعجل النزول من شجرة اللوز، لم يعرف كيف هدم العش، وكيف حطم البيض الذي فيه، لم يعرف كيف صرخ باسم ابنته الغالية على قلبه عدة مرات كالهالك في أرض الجحيم: كان يزلق، وكانت الأغصان تتكسر تحت ثقله، وكان يسلخ يديه، وكان يمزق صدره، ساعده، عقله، لأن نعيمة لم تكن تجيب، لم تكن تجيب. كان يواصل الانزلاق، الانهيار، السقوط، إلى أن وجد نفسه وحيدًا، مجردًا، دون قوة ولا أصدقاء، وجهًا لوجه مع رشاشات العوزي...













أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1980
3) الاغتراب 1982
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1998

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يوما بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011

الأعمال المسرحية النثرية

33) مأساة الثريا 1976
34) سقوط جوبتر 1977
35) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

36) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
37) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
38) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
39) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
40) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
41) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
42) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
43) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

44) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
45) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي
نموذجًا (جزءان) 1983
46) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
47) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
48) نصوص خاضعة للبنيوية 1985 – 1995
49) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
50) خطتي للسلام 2004

[email protected]
فهرس

الموت 5
الإرجاء 19
الهامشيون 55
الدم 63
الانتحال 83
الحجرة 113
ساعة الصفر 131
الأعشاش المهدومة 143
أعمال أفنان القاسم 167



















غالبًا ما لا تكون أعمال الشباب محبوبة من طرف مؤلفيها لحكمهم عليها غير كاملة وغير ناجحة شكلاً ومضمونًا، وعلى الرغم من ذلك، اختار أفنان القاسم أن يحفظ للأعشاش المهدومة مكانًا أساسيًا بين أعماله التي أعاد كتابتها بمناسبة نشرها باللغة الفرنسية.
خطوات أولى، كلمات أولى لشاب في الخامسة والعشرين، الأعشاش المهدومة على صورة مؤلفها، مجموعة بين عمرين، تستدعي عذابات طفولية ليست كغيرها، وتلامس مواضيع جسيمة تتسم بالعنف واليأس.
الموت، الدم، الهامشيون، والقصص الأخرى، تجعل القارئ يستغرق في أجواء الثورتين الجزائرية والفلسطينية، في قلب صراع الإنسان العربي، إن لم يكن الإنسان بكل إيجاز، من أجل استرداد حريته. ولارتباطها القوي بالأدبين الروسي والوجودي، تجسد هذه القصص تجسيدًا مسبقًا الموضوعات التي سبرها أفنان القاسم عبر مساره الأدبي: عبث الشرط الإنساني والمحاولات غير المجدية للإفلات منه.
تحتل الأعشاش المهدومة مكانًا مستقلاً في الأعمال الكاملة لتسلط هاجس الغوص في أعماق الكلمات على المؤلف والمساس بحساسيتنا، وذلك لتغيير نظرتنا إلى العالم ربما.
وعلى غرار كامو، الذي تسبر أعماله هو الآخر موضوعة العبث، يترك أفنان القاسم شخصياته تجد مخرجها الخاص بها، في الانتحار أحيانًا.









* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له خمسون عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإرجاء
- الحجرة
- سوريا: ما هكذا يا رشاد أبو شاور تورد الإبل
- الانتحال
- قصة الدم
- الدم
- سوريا إلى أين؟ - الحل الثالث للشارع السوري
- ضد فتح وحماس على الشارع الفلسطيني أن يتحرك
- اتفاق فتح حماس طبخة أمريكية-إسرائيلية جديدة
- في لهيب محمود درويش
- يهودي حائر أضاع الطريق إلى الصحراء
- شاعر شيوعي قديم يشرب كأس بيرة في بار الفردوس
- المثقف الفلسطيني وحالة التهميش والحصار التي يتعرّض لها
- ثلاث ملاحظات أساسية حول الثورة المصرية
- حكومة البخيت للإصلاح أم للإرعاب؟
- نافذة على الحدث الثورة المضادة
- حكاية فلسطيني عاد إلى يافا*
- شومسكي المخيب للآمال
- الوقت الضائع في عالم عربي ضائع
- ترجمة الفصول الخاصة باتفاقية أوسلو (2) تمهيد للأسر والتبعية ...


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - الأعشاش المهدومة