أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرج ياسين - طغراء المدينة















المزيد.....

طغراء المدينة


فرج ياسين

الحوار المتمدن-العدد: 3533 - 2011 / 11 / 1 - 14:06
المحور: الادب والفن
    


فرج ياسين
الي خلود المطلبي

لم أنس ،إنني حين دخلت ُ محل الخياط العجوز ؛ شاهدت ُ قفا امرأة بجلباب رصاصي ولفاع ابيض ، يتحرك مرفقاها إلى الأمام والى الخلف برقة محسوبة ؛ كأنها تنشر أو تطوي أو تدير أو تتفحص قطعة قماش : ثوبا ً أو بنطالا ً أو تنورة أو أي شيء آخر . بعد تلقي الخياط العجوز تحيتي الخاطفة وانكفائه على قماشه ومسطرته ، التفت ُ فباغتني وجه المرأة ؛ انه وجه شبابي قمحي بطرتين زهريتين مائلتين إلى الدكنة مرسومتين على خديها ، وانسكبت في روعي صورة وجه الجدة تاضي ولكن بهيئته التي أعقبت عودتها من النهر وهي في الرابعة عشرة من العمر ، حين أمسكت بقطعة حجر غرينية جافة بحجم راحة اليد ؛ وجعلت تفرك بها خديها مرات عدة . قالت لنا : حين عدت إلى البيت صرخت أمي تعالي يا مجنونة ، هل قرصك أحد من خديك وأنت في طريق الملايات ؟ فأقسمت لها وأنا أبكي وأتوسل حتى اعترفت لها بأنني فركت وجهي بحجر خشن ؛ لكي يصبح خداي كخدود العرائس . بعد عشية ذلك اليوم أصبح الخبر على كل لسان في بيوت محلة الحارة ، ولابد أنه تسلل إلى دواوين الرجال ؛ لأن المختار علي والمّلا أمين ولطّوف البلّام وجابر السقاء ، أسمعوا والدي كلمات فيها من التندر والاستلطاف أكثر مما فيها من اللوم والاستهجان . ومع أن والدي كان يضاحكهم إلا أنه حين يعود إلى البيت يصب جام غضبه في وجه والدتي التي لا حول لها ولا قوة ، إذ من المفترض أن لا أنزل إلى النهر إلا برفقة جارتي وصديقتي رازقّيه ، ورازقيه لم تأت ِ معي ذلك اليوم لأن حِبَهم مملوء بالماء وكذلك خوابيهم وقربهم .
في تلك اللحظة سمعت صوت الخياط وهو يجيب على سؤال يبدو أن الفتاة طرحته عليه ، حين كنت مستغرقا ً في استرجاعاتي
- لا ، انه قماش محلي لكنني التفت فلم أر َ سوى ظهرها وكثيب مؤخرتها ، لكن صوتها جاس مسارب دفينة في مخيلتي .
كنا أنا وصديقي رشيد ، ننتهز فرصة ذهاب الجدة تاضي إلى قرية الماويّة من أجل مقايضة بضاعتها من الحلي النحاسية والأصباغ والتوابل والسكاكر بالبيض والدجاج والذرة والقمح والسمسم ، فنتسلل إلى بيتها ، إذ كنا نعرف أين تضع المفتاح الخشبي الطويل المسنن ، ونعرف أين تخبئ مفتاح الحجرة الوحيدة في بيتها أيضا ً ، لأننا من أصدقائها المخلصين ؛ تحبنا وتقربنا وتحكي لنا ذكرياتها القديمة ، وتجربتها في زراعة الشطاطي أو العطارة ، ومشاهداتها الغريبة في ريف المدينة ، ولا عجب فهي جدة صديقي رشيد لأمه ! وكان أحب أحفادها إليها ؛ فهي تحنو عليه وتدلله وتعطيه أحيانا ً قطعة نقدية من فئة عشرة الفلوس ، داعية إياه للذهاب إلى حانوت ولي تجارتها إبراهيم القيسون وابتياع مايحلو له من السكاكر ، وكثيرا ً ما توصيه قائلة ً : لا تنس َ أن تشرك صديقك إسماعيل ببعض ما تشتريه ، على إننا كلما ندخل بيتها يبزغ لدينا إحساس بأننا ندخله كاللصوص ، لأن الأوقات التي نتخيرها مدعاة للريبة ، فهي أما في أثناء القيلولة ، أو بعد عودة الرجال من الدواوين ،أو في لحظات خلو الزقاق من المارة ، مع أن بإمكان حفيدها رشيد التردد على المنزل في أي وقت بحجة واقعية قد يتفهمها الجميع : وهي رعاية الدجاجات وجمع البيض وتفحص المكان ، مما يعد ضروريا ً في حالة غياب العجوز تاضي ؛ الذي قد يستمر إسبوعين أو أكثر . ولا أذكر الآن إن كانت قد نطقت بمثل هذه التوصية ،لكنّ هذا من قبيل تحصيل الحاصل ؛ لأن رشيد كان يسارع إلى تفقد الدجاج وزيارة مرافق البيت بحرص واضح ، قبل أن يذهب إلى مكان مفتاح الغرفة الداخلية . ويا له من طقس لا ينسى ! يرتقي حزمة من أغصان الغرب الغليظة المربوطة بإحكام ، ويدس يده في ثقب على الجدار المقابل لباب الحجرة ثم يستل المفتاح ، وهو بذلك يقلد من دون شك حركة العجوز نفسها ، إذ إنها قصيرة ومحدودبة الظهر ، يقترب جرم جسدها من طبيعة جسد صبيّ في العاشرة من عمره.
أيقظني صوت الخياط وهو يدعوني للجلوس على الكرسي المحاذي لمنضدة الخياطة ، ثم أنصرف إلى الفتاة ، التي خطت عدة خطوات باتجاه أدراج خشبية مرصوفة فوقها أطوال الأقمشة المختلفة الألوان . وبعد هنيهة خرجت فلحقت مسامعي بصدى همسها الوداعي المنسحب ، من دون أن أرى وجهها أيضا ً ؛ لكنني راقبت حركة خروجها ، ثم صورتها وهي تقف على رصيف الشارع من خلال واجهة محل الخياط الزجاجية . ظننت أولا ً أنها تنتظر مرور سيارة أجرة ، وكان شارع الزهور أكثر اكتظاظا ً بالعربات والمارة في تلك الساعة ، وصحوت ُ على صوت أذان المغرب وأنا أواصل مراقبة جسد الفتاة المنتصب بلا حراك في مواجهة الشارع ؛ لكن حركة ً أجراها الخياط العجوز اقتادت بصري إلى وقع أصابعه وهي تطوي البنطال الذي جئت لاستلامه ، وحين نهضت وأصبحت في مواجهته شغلت بالبحث عن الوصل في جيوبي ثم أخرجت النقود فعددتها ووضعتها أمامه على المنضدة . ولابد أنه أحس برغبتي بالمغادرة حين مد يده وصافحني قائلا ً : فرصة سعيدة ، عسى أن يكون عملي مرضيا ً . غدت الضوضاء تدك مسامعي بعد وقوفي أمام الباب المغلق في مواجه الشارع، وأول ما فعلته تفحص المكان الذي كانت تقف عنده الفتاة ، غير أنني لم أجدها في البقعة التي كانت تقف عندها ، تلفتّ في كل اتجاه لكنني لم أرها .
حين ذاك ، فطنت إلى أن غواية البحث عنها مجرد شهوة زائلة ، إذ إنَّ لحظة الشد الحقيقية انتهت منذ الصعقة الأولى التي جعلتني أتذكر وجه الجدة تاضي بصورته المتخيلة بعد حادثة النهر ، لكن تدفق استنطاق الذاكرة لم يتوقف ، فقبل اسبوع فقط شاركت في تشييع جنازة ولدها الوحيد حميد المتوفى عن تسع وسبعين عاما ً ،حينها أخذ رشيد بيدي ثم أشار إلى قبر دارس تقريبا ً هامسا ً في أذني ومحاذرا ً أن يرفع صوته بين المشيّعين : هذا قبر الجدة تاضي . فانقدح شئ ما في داخلي ، وتفجر مدويا ً بعبرة صامتة ، قلت له : سأقرأ لها الفاتحة وأسأل الله أن يغفر لنا ، لقد كنا ندخل بيتها من دون استئذان . لكنه رد علي قائلا ً : لا عليك ؛ لأنها كانت تعرف ذلك .
الآن ، وأنا أذرع رصيف شارع الزهور متجها ً جنوبا ً ، بين مطارق الضوضاء ، أتذكر أن رشيد كان ينقل نضد الفراش الموضوع في مؤخرة الحجرة ، ثم يعتليه حتى تصل يده إلى رف جصيّ في وسط الجدار ، ويشرع بإنزال عشرات العلب المعدنية المختلفة الأحجام ، ثم يبدأ بفتحها وتفحص ما في داخلها ؛ لكننا لم نكن نبق إلا على العلب التي تحتوي على الأصباغ ، أما علب البهارات والأوراق العطرية والمساحيق الأخرى التي لم نكن نعرف أسماءها ، فأننا نعيدها إلى مكانها على الرف قبل أن نُشرع بمهرجان اكتشاف الألوان واللعب بها .كنا نأخذ قبصة من كل لون ونضعها على ورقة أو قطعة قماش أو آجرة مما نجده في الفناء الصغير ، بعد ذلك نأتي بإبريق الماء ونسكب بضع قطرات على كل ِّ زوج من الألوان ، ثم نخلطها جميعا ً ونراقب بانبهار تمازجها وتحولاتها . لقد صارت تلك الخلوة إحدى مجالات المرح الطفو لي ، إلى أن حل ذلك اليوم الذي أسرع بي إلى حافات مرعبة ؛ مازلت أقيس بها كل ما طرأ على حياتي بعد ذلك .
كنا في الصف الخامس الابتدائي ، وقد بدأت العطلة الصيفية منذ بضعة أيام ، وكثيرا ً ما فاخرني رشيد بأن جدته تاضي سوف تأخذه معها إلى قرية الماوّية في زيارة قصيرة ، لاتزيد على ليلتين من أجل استيفاء ديونها . وما أن حل اليوم الموعود حتى جاء إليّ قائلا ً : أنه سوف يذهب مع جدته في الصباح ، يقصدان أولا ً شريعة القلعة ، ثم يستقلان المركب البخاري إلى الضفة الأخرى من النهر وبعد ذلك يذهبان مشيا ً على الأقدام إلى القرية التي لاتبعد كثيرا ً ، . وفي ظهيرة ذلك اليوم شعرت بفراغ عجيب ممتزجً بخيبة لا حدود لها ، ليس لها من مسوغ سوى حسدي لصديقي رشيد ، الذي ينعم بوجود جدة في حياته ؛ لذلك بدأ شيء ما يتململ ويتعاظم في نفسي ،وما أن حلت الظهيرة ، وسدرت بيوت المحلة في قيلولتها المعتادة ، حتى وجدتني أحث الخُطا باتجاه بيت الجدة تاضي . ها أنا أقف بازاء الباب ، ألزّ قامتي كلها إلى الحائط وأتلفت مذعورا ً في كل اتجاه ، أستطيع الآن أن أرفع يدي وأدخل كفي في فجوة صغيرة تحاذي عارضة الباب الخشبي العليا ، حيث يوجد المفتاح الخشبي المسنن ؛ ولكن الرجفة أخذت بجماع جسدي وصار عرقي يسيل فأهجس دبيبه في أعطافي ؛ لكن قوة الإقدام والتحدي بدأت تتعاظم لحظة بعد أخرى ، وبما أن الصمت يحيط بكل ما حولي ، فأن فرضية أن لا أحد سوف يظهر الآن، جعلت تلهب الرغبة في المطاولة . وفعلت ُ ، تقدمت خطوة وأدخلت كفي في الفجوة ، ولم يطل بأناملي الانتظار إذ سحبت المفتاح الخشبي المسنن ثم أدخلته في فتحة المزلاج ، مصغيا ً إلى صوت القلقلة المألوفة ، وأنا أحاول وضع المسنّنات في أماكنها . برهة ، ثم دفعت الباب ذي المسامير المعدنية المستديرة البارزة ، فاندفعت درفته الوحيدة إلى الداخل ، وصرت في مواجهة حوزة الجدة تاضي وبين فنائها وأمتعتها .
قاقت الدجاجات في وجهي ، وتخبطت سحلية شاردة بين قدمي ، وأقلعت فاختتان كانتا ترتميان على نثار روث الدجاج في وسط الفناء ؛ فذعر الطفل الراعش رعبا ً في داخلي .
استوقفني صديق قديم عند بلوغ الاستدارة المرورية بين أسواق الخليج وقاسم مول ، فأبدى استغرابه من تكاثر التجاعيد والحزون في جبهتي وعارضيَّ ورقبتي ثم ، مازحني حول هذه النظارة دائمة الحضور فوق مؤخرة أنفي ؛ ففهمت من دون عناء بأنه كان يمارس إسقاطا ً مفضوحا ً ، فهو – على كل حال – يبدو أكثر شيخوخة مني ، على أننا أبناء جيل واحد ، درجنا في فضاءات وأزقة محلة الحارة ، ودرسنا في مدرسة صلاح الدين الأيوبي ، وكبرنا معا ً . ولما كان من النو ع الذي يحب الاستطراد ، فقد سألني عما أحمله في يميني ، وعن سبب خروجي في هذا المساء ، ثم عرّج على ازدحام شارع الزهور ، والتحولات العمرانية التي انطلقت منذ أقل من خمس سنوات وشملت المدينة كلها ، ثم أنه ذكّرني بوفاة حميد وان كنت قد شهدت تشييعه ودفنه أو حضرت مجلس الفاتحة ، لكن نداء زوجته عليه وكانت قد خرجت توا ً من أسواق الخليج محملة بالأكياس البلاستيكية ، قطعت سلسلة أحاديثه الاستطرادية ، وأعادتني ملاحظته الأخيرة عن وفاة حميد ابن الجدة تاضي إلى تهويمتي الاستذكارية ، حتى وجدتني أنعطف يسارا ، وأخطو على الرصيف النظيف الخالي بمحاذاة دوائر حكومية وعرصات خالية .
توقفت قليلا ً ، وأرثت سيكارة ً ، جذبت منها نفسا ً عميقا ً فعاد خيط التذكر إلى حيث وقفت ، أمام الحجرة الوحيدة المكونة من وحدتين ذات دكاك واطئة ، فهالني أن وجدت بابها الخشبي ذي الدرفتين مفتوحا ً تماما ً ، ودجاجة وحيدة تقبع عند الدكة التي أصبحت مواجهة لعيني ؛ ولكن ماهذا الذي بدأ يبزغ شيئا ً فشيئا ً من وراء نضد الفراش ، كدت أفقد صوابي ، إذ إن ساقي حين نويت التراجع والابتعاد لم تستجيبا لإرادتي ، صاحت الصبية التي نهضت الآن بكامل جسدها : تعال يا إسماعيل .
إنني أعرف نساء المحلة وفتياتها الصغيرات والكبيرات ، وأعرف استحالة خروج إحداهن منفردة إلى أي مكان في هذا الوقت ناهيك عن أي وقت آخر ، وحين تجمدت حركتي وانحبس لساني كانت عيناي وحدهما تجحظان في مواجهة رشّة من ضوء زئبقي صار يتخاطف على الجدران والأرضية والمتاع ، ويشمل تخاطفه وجهي ودشداشتي وجماع قامتي ، فتندحر رؤيتي للأشياء قليلا ً ثم تعود . ودام ذلك إلى ما لم أتبينه منذ زمن ثم سمعت صوتها من جديد
- هيا ، لا تخف !
كان تخاطف الضوء قد توقف ، ولاح وجهها أدميا ً مألوفا ً لكن الرجفة لم تغادر جسدي ، غير أنني تنبهت إلى أنها لا ترتدي ملابس الصبيات المألوفة بيننا وقتذاك ، بل قميص فضفاض سابغ رمادي اللون مفتوح الجيب مثل كيس طحين ، بردنين عريضتين ، وفيما جعلت تقترب ، هجست أنها لم تكن تمشي على قدميها بل تنزلق انزلاقا ً، وعلى محياها تلوح ابتسامة ٌ أعادت السكون قليلا ً إلى قلبي ، ولا أدري كيف قلت لها : متى دخلت إلى بيت الجدة تاضي ؟
أجابت : أنا موجودة فيها ومعها .
- منذ متى ؟
- منذ أن بلغت سن الرابعة عشرة
- ولكنني ظننتك ابنة الخال حميد البعيد عن الديار دائما ً
- لا ، أنا ابنة المكان ، وحارسته ، وحاملة خاتمه أي مكان ؟
- تكريت ، أو تك ريتا ، أو برتو ، أو برتاي ، أو أي اسم آخر سيكون لها في المستقبل البعيد
جلست على الأرض وأشارت لي أن أجلس قبالتها أيضا ً ، وحين نظرت في عيني لم أستطع احتمال قوة نظرتها
قلت : ماهذه الأسماء التي ذكرتها الآن ؟
- هذه أسمائي
- ولكنك قلت أنك ابنة المدينة
- أنا وهي شيء واحد
فكرت ُ بأنني – ربما – في حضرة امرأة من الجن
وكأنها هجست خاطرتي فهتفت : لا ، وتستطيع قراءة المعوذات الآن
عاد الخوف يتفاقم في نفسي فنهضت وقلت لها : هل أذهب ؟
أجابت : لا ، لن تذهب ، عليك أن تعرف شيئا ً آخر
صحت : لا ، لا أريد
وهمست بحنو ورقة : بل عليك أن تعرف بأنني سأغادر هذا البيت عند وفاة الجدة تاضي
- وأين ستذهبين ؟
- سأحل في بيت آخر وفي كيان صبية أخرى ثم أخرى وهكذا !
- لماذا ؟
ثم جالت بأنظارها فوق سطوح الجدران ، وأخشاب السقف المدخنة ؛ رافعة يدها ومشيرة إلى صورة الفناء الصغير المضاء بشمس الظهيرة
- لأن المدينة القديمة هذه سوف تزول ، وتشاد مدينة جديدة على تخومها
- تزول !
- نعم ، ستأتي معاول كثيرة ...
- ولماذا تظلين هنا ؟
- ألم أقل لك ، لأنني موكلة بحمل خاتم هذه المدينة وإبلاغه مدى الدهر .
ثم أمرتني زاجرة : أجلس
لابد أن الأشخاص الذين كانوا يصادفونني في الطريق ، لاحظوا ميلي إلى اختصار اللقاء ، وعدم اكتراثي بمغادرتهم ، لكنني قبل أن أنعطف يسارا ً لأبدأ السير على أرصفة شارع الأربعين ، صرت أواجه المدينة القديمة المتوارية خلف الجدران الكونكريتية ، وأبراج المراقبة و نقاط التفتيش ، تذكرت أنني منذ أوائل الثمانينيات حرمت ُ من معاشرة نهرها وغرينها وشطاطيها وحاراتها وأزقتها وبيوتها وحجارتها المضيئة ، وأورق هاجس التذكر لوعة حارقة .
بعد معاودة الجلوس قبالتها رأيت في ضوء الظهيرة المنسكب على خديها طرتين زهريتين توشكان أن تغدوا ، مدورتين ، فوجدتني أقول لها بثقة عالية هذه المرة : ما هاتان الدائرتان اللامعتان على خديك ِ ؟
أخفت ضحكة خجول بأصابعها ، ومع اشراقة عينيها تمتمت بغنج واضح : أردت أن يصبح لي خدان كخدود العرائس ، فأخذت قطعة حجر غريني صلب وفركت بها خديّ .
********
تداركت أمرا ً ما فتوقفت ، إذ طالما شككت بصحة ما تداولته مع نفسي حول هذه الحكاية على مدى أربعة عقود . أحقا ً أن ما استقر في دخيلتي يمثل صورة لما حصل فعلا ً ! وماذا بشأن ذلك التكتم القصدي ، الذي ألزمت نفسي به ، فلم أبح بها لأي مخلوق أبدا ؟ أهو ما جعل يعيد الحكاية إلى باطن الذاكرة ، كلما أوزعني الاستهواء الى إعلانها ؟ لقد كنت طفلا ً في العاشرة ، خائفا ً ومرتعبا ً ، فهل كنت أهلا ً لأجراء حوار من ذلك النوع مع الفتاة ؟ أنا متأكد من أنني سألتها أهي ابنة الخال حميد ؟ لأن السؤال ظل يلصف في الذاكرة مثل وميض نجم بعيد ، لكن ماذا بشأن ما زين لي من أمر نبؤات الفتاة حول زوال المدينة القديمة ، وذكرها لأسماء المدينة من الزمن الآشوري والبابلي ؟ إلا يجوز أنه من قبيل التوهم الذي ألحقه ذلك الكتمان بذاكرتي ! ثم قلت كفى .
وكنت سأكمل طريقي على رصيف شارع الأربعين متجها ً شمالا ً تحت أضواء الأعمدة ، والدكاكين والمخازن ، صعودا ً إلى جامع الهدى ، حيث أنعطف يسارا ً فأصل البيت ، وتكون خطواتي قد رسمت بذلك دائرةَ كبيرةً في غضون أقل من ساعة واحدة ؛ لكن انفجارا ً هائلا ً دوى فاختضت أبواب المحال، ومادت الأرض تحت قدمي ، وما علمت أن مكان الانفجار قريب مني كل هذا القرب إلا حين التفت إلى الخلف ؛ فرأيت أعمدة الدخان واللهب ، و رأيت عددا ً من الرجال والنساء والأطفال وهم يجرون مسرعين باتجاهي ، ومع أن قلبي طفق يخفق بشدة ، وفرائصي ترتعد ، إلا أنني رأيتها بين النساء المذعورات اللائي نعمن بشيء من الطمأنينة ، حين رأينني أقف مفتعلا ً التماسك وعدم الاكتراث . كانت هي الفتاة التي أضعتها على رصيف شارع الزهور أمام محل الخياط العجوز . ولابد أنها عرفت من أكون فلاذت بظلي ، وتوقفت برهة ناظرة إليّ وكأنها تدعوني للتثبت من أن الطرتين الزهريتين الصادحتين ، مازالتا مرسومتين على خديها .



#فرج_ياسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فرج ياسين - طغراء المدينة