أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - ميثم الجنابي - المؤقتون القدماء والجدد















المزيد.....

المؤقتون القدماء والجدد


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 1048 - 2004 / 12 / 15 - 10:45
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


يقف العراق حاليا أمام ظاهرة يمكن تسميتها بظاهرة المؤقتين في ميدان النخب السياسية، أي ظاهرة أولئك الذين يشبهون عابري السبيل العاديين. الا أن الخلاف الجوهري بينهما يقوم في أن الأوائل لا يجمعهم بالأواخر سوى التشابه الشكلي في "العبور". ولكل منهما منطلقه وغايته. وإذا كان الإنسان بطبيعته كيانا عابر ا عندما ننظر اليه بمعايير الحياة والموت، فأنه لا عبور عرضي فيه من وجهة نظر المطلق. بمعنى أن لكل عبور أثره في الوجود والزمن. لكن ليس كل عبور له اثر في التاريخ.
وإذا كان التاريخ هو صيرورة وعي الذات، فإنه وثيق الارتباط بحقيقة الدولة والثقافة. بعبارة أخرى، إن العابرين في ميدان النخب السياسية هم كيانات مؤثرة في مجرى الزمن لا غير، بمعنى انهم يقدرون على تخريب ما يمكن تخريبه وأخذ ما يمكن أخذه، إلا أنهم ليسوا قادرين على ترك اثر إيجابي في التاريخ. وذلك لان حقيقة التاريخ هي تراكم نوعي للتجارب الإيجابية الفعالة. ومن ثم فهو الوحيد القادر على صنع وحدة فعالة في عقل ووجدان الأفراد والجماعات والأمم.
وليس مصادفة ألا نعثر في العراق المعاصر على تاريخ جدي، لكنه مليء بأزمنة الخراب! ولعل زمن التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية هو النتيجة الحتمية على غياب التاريخ الفعلي للدولة والمجتمع المدني والشرعية. فقد كانت هي مجرد زمن للسلطة، مع ما ترتب على ذلك من تدمير شامل لكل شئ له علاقة بالمؤسسة والنظام. بينما تشكل المؤسسة والنظام محور التاريخ الفعلي للدولة والمجتمع والثقافة. ففيهما فقط يمكن لتجارب الأمم أن تتراكم بهيئة أفكار وقيم ومنظومات وقواعد وآداب وغيرها مما يساهم في توسيع الأبعاد الإنسانية للبشر. وهو الأمر الذي جعل من العراق المعاصر مجرد وعاء لكل مؤقت في الحياة والمادية والروحية. مما يعطي لنا إمكانية القول،بأن ظاهرة المؤقت، التي أرقت تاريخ العراق المعاصر وأفقدته حقيقة التاريخ بوصفه تراكما متناميا لوعي الذات، هي إحدى الإشكاليات الكبرى القائمة أمام وعيه الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. وعلى حلها تتوقف إمكانية السير "بلا نهاية" في زمن فارغ أم الانتقال إلى التاريخ الفعلي "المحدود".
فالزمن الفارغ هو تيار لا متناه أشبه ما يكون بدهر الجاهلية، لا جديد فيه تحت الشمس! أما التاريخ فإنه يبتدأ وينتهي بأفعال لها قيمتها في الأجيال والذاكرة والوجود والمستقبل. وقيمتها على قدر ما فيها من تأثير في المعاصرة واستعداد لقبول الأجيال اللاحقة. فالأفعال الزمنية الفارغة تؤثر بصورة لا مثيل لها في الخراب والتخريب، لكنها في الوقت نفسه عرضة للزوال كما لو انها لم تكن، بينما الأفعال التاريخية العظمى قادرة على الحياة والإحياء المتجدد. من هنا قيمتها الخالدة. فالخالد ملموس من حيث القيمة والتأثير. وفي هذا تكمن قوته في التأثير على أحاسيس البشر وعقولهم ودفعهم للفعل والإبداع. وليس مصادفة أن يقول ابن المقفع يوما كلمة عظيمة مفادها "إن الزمن هو نحن". ولم يقصد بالزمن هنا سوى ما نقصده الآن بكلمة التاريخ. انطلاقا من أن للزمن بعدا سياسيا مهما هو "زماننا نحن". وليس مصادفة أن نتكلم أحيانا عن الزمن الجميل والزمن القبيح. أما في الواقع ، فإن الجميل والقبيح ليس إلا التعبير الخاص عن أذواقنا لما نراه ونعايشه من أحداث. ومن ثم ليس الجميل والقبيح في الزمن سوى ما نفعله ونتذوقه نحن. فالزمن هو تيار وجودنا ومرآة تاريخنا لا غير.
وعندما نطبق ذلك على تاريخ العراق المعاصر، فإننا نتوصل إلى انه في مجمله كان تاريخا مؤقتا أي زمنا عابرا. وهو زمن ابتدأ بانقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 وتوج في مؤامرة البعثيين عام 1963 الذي انتهى بعد أربعين عاما في أشنع صورة ومظهر من الهزيمة الشاملة للدولة والمجتمع والقيم والفكر. فقد شكل عام 1963 بداية "الزمن القبيح" و"نقطته الأولى"، التي انقلبت فيها قيم وآمال "ثورة 1958" ظهرا على عقب. ومذاك أصبح تحطيم مؤسسات الدولة والمجتمع أسلوبا لترسيخ الرذيلة، التي تجسدت تاريخيا في "بعث" الاستبداد، الذي بلغ ذروته الكبرى عام 2003. وهو أيضا عام سقوطه المخزي. وبهذا يكون العراق قد مر بمرحلة عمرها أربعين سنة هي مرحلة "العقود المظلمة"، التي تشكل بمعايير التاريخ السياسي "مرحلة ماضية" وبمعايير الرؤية الأيديولوجية "حقبة بائدة" وبمعايير الثقافة "همجية خالصة" وبمعايير الجمال "قبحا تاما" وبمعايير الأخلاق "رذيلة لا مثيل لها"، وبمعايير الزمن "شر الأزمان".
لقد شكلت المرحلة السابقة "شر الأزمان" لأنها أولا وقبل كل شئ كانت تجسيد نموذجيا للمؤقت في كل نواحي الوجود. فالدستور مؤقت، والقانون مؤقت، والقيم مؤقتة، والمفاهيم مؤقتة. لهذا كان يقابلها الثبات الدائم في الاستبداد والجور وانتهاك الحق والعدالة. وهي الحالة التي نقلت الكثير من مقوماتها وأسسها ونفسيتها الى الحالة العراقية الحالية. فالخراب الهائل للبنية الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية يتغلغل في كل مسام الوجود. إذ استطاعت المرحلة الدكتاتورية أن تفقد الفرد إحساسه الاجتماعي وجعلت منه ذرة متطايرة في فلك المصالح الضيقة، التي لا تتعدى في اغلبها العيش البهيمي والخوف الغريزي. وهي نفسية جعلت من الشرور الاجتماعية ظواهر معتادة و"طبيعية" مع مسيرة الناس ونمط حياتهم. من هنا استفحالها الشديد في ظروف الانحلال العارم للدكتاتورية.
فالمرحلة الانتقالية من التوتاليتارية إلى الديمقراطية هي مرحلة تحلل أيضا وليس بناء فقط. وهو الامر الذي يجعل منها تيارا جارفا بالضرورة لكل ما يعترض سبيله أو يواجهه. وبما أن التحول العاصف لاندثار مرحلة بأكملها في العراق قد جرى بصورة راديكالية وبمساعدة قوى خارجية، لهذا كان وما يزال من الصعب التحكم العقلاني في إعادة ترتيب الأمور والتحكم القانوني بمجرى التحولات. فالمجتمع غير قادر على رؤية حقوقه وواجباته، كما انه يعاني من ضعف شبه تام في قواه المادية والمعنوية، أما القوى السياسية فإنها هي الأخرى تعاني من ضعف بنيوي في قواها الاجتماعية ورؤيتها الاستراتيجية. كل ذلك يجعل المجتمع ونخبه السياسية في مستوى متقارب من حيث الحافر والرؤية في التعامل مع مجريات الأحداث. وهي حالة تجعل من ظهور المؤقتين أمرا حتميا!
إذ ليست ظاهرة المؤقتين سوى الصيغة الأدبية للطفيلية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهي ظاهرة دائمة في تاريخ المجتمعات والدول. غير أنها تتخذ في مراحل الانتقال طابعا فجا وفاجعا بسبب انهيار مؤسسات الدولة الرادعة وتشتت المجتمع في صراعات جزئية هائلة مع ما يترتب على ذلك من ضعف للتكامل الاجتماعي والوطني. مما يجعل منها قوة عابرة، أي مؤقتة بكافة المعايير. ولا شئ يحكم وجودها غير الاعتياش الدائم على حالة المؤقت في النظام والحقوق. وفي ظروف العراق الحالية، فإنها تشكل بغض النظر عن الانتماء الفكري والسياسي والاجتماعي والطائفي والقومي لحماليها "الوريث" الفعلي لبقايا وآلية فعل التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية.
فمن المعلوم، إن الرشوة والابتزاز كانتا تشكلان الأدوات العملية لآلية فعل وبقاء وعمل الأجهزة المتعددة والسائبة للدكتاتورية المنقرضة. فقد كانت الرشوة والابتزاز أدوات الربط الفعلية لأجهزة السلطة والداعم لديمومتها. وهو واقع جعل من العراق في المرحلة الدكتاتورية جمهورية الرشوة والابتزاز. وفي هذا الواقع وبقايا استمراره ينبغي البحث عن آلية عمل وإدارة التحكم والتسلط. وفيه أيضا ينبغي رؤية ارث الموروث في ظهور واستفحال المؤقتين.
فقد أفرغت التوتاليتارية الفرد من وسطه الاجتماعي وجعلت منه مجرد أداة فارغة لا همّ لها غير الحاجات الصغيرة، وحاصرته بالشكل الذي جعلته مستعدا لاقتراف الرذيلة مهما كان حجمها دون شعور بالذنب في الوقت الذي كان يصلي فيها ويصوم. وهي حالة أشد تخريبا وتدميرا لأنها تجعل من "الروحي" عاملا إضافيا في تزييف أفعاله. مما أدى في النهاية إلى مسخ كل شئ فيه.
كما أفرغت التوتاليتارية الإنسان من كل شئ وجعلت منه "كيس خراء". وهي حالة عادة ما تميز اندثار القيم الموجهة للسلوك الاجتماعي واستفحال الفردية المزيفة. وقد صورت المتصوفة في إحدى نكاتها نموذجا لهذه الحالة على مثال الشيخ الذي قطع طريق المسار المبتهج والفخفخة المفرطة لأحد السلاطين في موكبه، مما دفع حراسه للمسك بالشيخ واقتياده للسلطان الذي سأله
- لم قطعت الطريق أمامي؟! ألا تعرفني؟!
- بلا أعرفك!
- ومن أنا؟
- أنت! أولك نطفة وآخرك جيفة وما بينهما كيس يحمل الخراء!
لقد أرادوا القول، بأن الأبعاد الإنسانية الكبرى تفترض الارتقاء عن الأنا المزيفة. والأنا المزيفة هي الأنا العابرة. إذ ليست الفردانية المزيفة سوى تلك التي لا تعي نفسها وقدرها بمعايير المطلق، أو الدائم والثابت. وهو مطلق متعدد المستويات والأشكال. ففي مجال الدولة هو ثبات مؤسساتها، وفي المجتمع هو ثبات قواعد العيش والعمل بموجبها، وفي الفكر هو ثبات مرجعيات الإبداع الحر. بينما كان الثابت، أو مطلق التوتاليتارية والدكتاتورية هو المؤقت في كل شئ. مما جعل منها مجرد آلة مخربة لكل شئ وفي كل شئ. من هنا انتقال نفسية وذهنية وآلية المؤقت بكامل عتادها، كما نراه بوضوح في عمل الإدارات الموروثة. فهو نموذج للفساد والإفساد والخراب والتخريب. مما يجعل من المستحيل بناء العراق الجديد معها. إذ يستحيل بناء دولة قوية على أسس هشة، كما يستحيل إرساء أسس الفضيلة على الرذيلة.
وليس مصادفة ان تستقوي هذه النفسية بصورة نسبية و"غير متوقعة" في مرحلة الانتقال الحالية، التي أدخلت فيها القوى السياسية المتغربة بعد رجوعها للعراق نفحا جديدا من خلال صعود أولويات الحزبية الضيقة في مختلف ميادين نشاطها. وهي ظاهرة يمكن تفسيرها عل أنها "خطوة إلى الأمام" من حيث تقاسم "الغنية" وتوسيع القوى السياسية في الاشتراك المباشر في إدارة شئون الدولة والمجتمع. لكن الحافر في هذا التقاسم لم يتحول بعد إلى قوة اجتماعية، وذلك لان أغلب أسبابه وأهدافه مازالت بعيدة عن الهموم الاجتماعية الكبرى للعراق. وهو الأمر الذي جعل الكثير من الأحزاب السياسية "الكبرى" والناشئة حديثا أسيرة نفسية المؤقت، ومن ثم حاملة لقيمه في المبادئ والغايات. وهي ظاهرة برزت بوضوح في "النشاط المحموم" لجميع القوى السياسية المكونة "لمجلس الحكم الانتقالي". ولعل اكثرها واكبرها نموذجية بهذا الصدد هو ما برز في "تداول السلطة" و"المحاصصة".
وإذا كان لظاهرة "المحاصصة" ما يبررها من الناحية التاريخية والسياسية، والتي يمكن اعتبارها أيضا خطوة فعلية إلى الأمام في تهشيم بنية الاستفراد والاستبداد السائدة سابقا في تقاليد "قيادة" السلطة، فإن تحولها إلى أسلوب "المساومة السياسية" هو خطوة إلى الوراء في مجال بناء الدولة الشرعية. وذلك لأنه جعل من الدولة آلة خاضعة للأحزاب السياسية، وليس بالعكس. مما جعل منها مرتعا جديدا للمؤقتين الجدد، مع ما تترتب على ذلك من انحطاط سياسي ومعنوي للأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية نفسها. وهو انحطاط يمكن ملاحظة بوادره في الابتعاد عن فكرة الاختيار المبني على أساس الكفاءة والنزاهة في تعيين الكادر، والاجتهادات المتنوعة في توسيع وتضييق نسبة أحزاب والقوميات والطوائف. وهي ممارسات لا تؤدي على خلفية ضعف المجتمع والقوى السياسية والروح الأخلاقي وشبه انعدام لفكرة وتقاليد المؤسسات، إلا إلى استثارة غريزة النفس الحيوانية في كل فعل وقول. وليس غريبا أن تتفاقم ظاهرة النهم "غير الطبيعي" عند النخب والأحزاب السياسية "الكبرى" كما لو أنها قوى غازية أجنبية. إذ نرى الهمّّ الفاعل في أقوال وأعمال القوى القومية الكردية يدور حول سرقة شمال العراق، وفي أقوال وأعمال القوى الشيعية يدور حول سرقة الشيعة، وفي أقوال وأعمال القوى السنية يدور حول سرقة السلطة، وفي أقوال وأعمال الشيوعيين يدور حول سرقة المبادئ المعلنة، وفي أقوال وأعمال الليبراليين يدور حول مشاركة الجميع بالسرقة، وفي أقوال وأعمال المستقلين يدور حول كيفية السرقة المستقلة.
وهي حالة لا تدفع بالعراق صوب تكامله الذاتي، وذلك لأنها تبقي عليه في حالة المؤقت في كل شئ، بينما يقف هو في حالة انعطاف تاريخي هائل وصراع حاد وعنيف وديناميكية لم يواجهها في كل مجرى تاريخه المعاصر من اجل تجاوز هذه الحالة نفسها. إذ يقف للمرة الأولى أمام كيفية الانتقال من "الحكم المؤقت" إلى "الحكم الثابت". وهي قضية من بين اكثر القضايا الحقوقية والاجتماعية تعقيدا وأهمية بالنسبة لبناء الدولة الشرعية. وبالتالي الأكثر إلحاحا وإشكالية بالنسبة للفكر السياسي العملي. بل هي إشكالية اقرب ما تكون إلى ثنائية عصية على الحل بسبب الخلل الجوهري الذي ميز تاريخ الدولة الحديثة في العراق. وهو خلل يقوم مضمونه في ضعف الانسجام، بل والتناقض النسبي والحاد أحيانا بين السلطة والمجتمع. مع ما ترتب على ذلك من إلغاء لماهية الدولة وحقيقتها بالمعنى الدقيق والعصري للكلمة. إذ لم تكن الدول العراقية الحديثة في اغلب تاريخها الحديث والمعاصر اكثر من جغرافية بلا مؤسسات. مما أدى إلى فقدان العراق لفكرة ونموذج الحكم الثابت.
فقد كان تاريخه منذ عشرينيات القرن العشرين سلسلة من "الانقلابات" الحادة التي جعلت منه ميدانا لمختلف التجارب الراديكالية، التي تتوجت بصعود التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وفيهما تجسدت فكرة ونموذج "المؤقت" في كل شئ. بحيث تحول "المؤقت" فيه إلى ثبات دائم. وفي هذا تكمن إحدى السمات الجوهرية للخراب السياسي والاجتماعي الذي تعرض له المجتمع والدولة في العراق المعاصر.
إن انعدام الثبات الحقيقي في الدولة العراقية وتاريخها المعاصر يقوم في عدم استنادها إلى أرضية الحق الدائم والدستور الدائم. بينما هو الأساس الوحيد القادر على أن يضفي على تغير السلطة وتبدل أشخاصها قوة إضافية بالنسبة لترسيخ تقاليد الحق والشرعية وتراكم قوتها الذاتية في كافة الميادين.
وفي حال النظر إلى واقع العراق الحالي، فإننا نقف أمام نفس الضعف الفعلي المميز لنفسية وذهنية "الانتقال". وهي حالة لها مقدماتها التاريخية والسياسية في انعدام مؤسسات الدولة في المرحلة الدكتاتورية. من هنا انعدام إمكانية التراكم، وبالتالي تأسيس التقاليد الضرورية للدولة العصرية. وهي القضية التي تضع أمام القوى الاجتماعية والسياسية العقلانية العراقية مهمة الـتأسيس الجديد لقيمة الثبات في بنية الدولة. ومن هذا المنطلق أيضا ينبغي النظر إلى المصير السياسي والقيمة التاريخية للمؤقت في العراق، بوصفه كيانا عابرا وجزئيا ومن حيث شكله ومضمونه.
إن العراق لم يعش مرحلة "خيار الأزمان". مما يجعل من الحاضر والمستقبل قضية الرهان الفعلية. وبالتالي التعامل مع "خيار الأزمنة" على انه الخيار الوحيد الممكن والضروري بالنسبة له من اجل تجاوز ضعفه البنيوي الكبير منذ نشوء الدولة المعاصرة حتى الآن. وهو ضعف لا يمكن تجاوزه دون المرور بزمن "اجتماع الصلاح في الراعي والرعية"، أي في السلطة والمجتمع. وهو أمر ممكن التحقيق فقط من خلال بناء دولة الحقوق الشرعية والمجتمع المدني. مما يفترض بدوره المطالبة العامة والدائمة بسلطة قوية للقانون ومجتمع مدني أقوى. وبالتالي ترابطهما الضروري، باعتبار أن أي إخلال بأحدهما هو إخلال بالآخر، مع ما يترتب على ذلك من خراب الاثنين.
ولا يعني ذلك من الناحية السياسية سوى العمل من اجل تحويل الزمن إلى تيار المعاصرة وليس إلى مجرد الانهماك الدائم من اجل ترميم العلاقة "الطبيعية" بين السلطة والمجتمع. فالتجربة التاريخية للعراق في مجرى القرن العشرين كله تجعل من الضروري الإجماع الملزم للحركات الاجتماعية والسياسية على مبادئ عملية بالنسبة لبناء مكونات تيار المعاصرة، أو معاصرة المستقبل فيه. ولعل أهمها هو الاقتصاد الديناميكي، والنظام الاجتماعي العادل، والثقافة الإنسانية الراقية، والعلم المتنور والتكنولوجيا الرفيعة، والتربية العقلانية الشاملة. فهي العناصر العملية الوحيدة القادرة على تجاوز ضعفه البنيوي. وفي وحدتها فقط يمكن تذليل المؤقت فيه. ولا يعني تذليل المؤقت فيه سوى بناء أسس الزمن الذاتي، أي الزمن الذي ينفي الاغتراب والافتراق الفعلي بين المجتمع والدولة، أي بين الزمن والناس، أو بين التاريخ ووعي الذات. وبهذا المعنى يمكن اعتبار تحويل المؤقت إلى ثابت، أو الزمن إلى تاريخ مسئولية مشتركة للسلطة والمجتمع بقدر متكافئ.
إننا نعرف جيدا بان للسلطة زمن متناه، يقوم في كونها عرضة للتغير والتبدل والزوال. كما نعرف جيدا بان للزمن سلطة غير متناهية، يقوم في كونه تيار الوجود نفسه. وهي أمور بديهية من وجهة نظر المنطق، لكنها معضلة من وجهة نظر التاريخ والسياسة. من هنا فإن المهمة تقوم في حل هذه المعضلة من خلال جعل السلطة والزمن تيارا واحدا في معاصرة المستقبل.
لقد تجاوز العراق أو أنه في طور تجاوز كل النماذج السيئة للزمن. لكنه يقف الآن أمام التحدي الأكبر وهو الخلاص من فكرة الزمن، بالانتقال إلى ميدان التاريخ. بمعنى ضرورة تذليل الزمن المؤقت في المؤقتين والعابرين والهاربين. وهو انتقال ضروري بالنسبة لبناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني والثقافة العقلانية. ويفترض ذلك في ظروف العراق الحالية القيام بثورة اجتماعية جديدة تذلل نفسية وذهنية المؤقتتين عند الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية عبر رميها إلى سلة المهملات، ونخبها السياسية الحالية إلى سجون الفضيحة!
إن ظاهرة المؤقت والعابر هي قضية العراق وليست قضية حزب أو أحزاب أو قومية أو طائفة أو فئة أو أفراد. إن مهمة تحقيقها تفترض "ثورة اجتماعية جديدة" تكنس التوتاليتارية البعثية وتراثها الصدامي وورثتها الجدد من المؤقتين وأشباههم.

***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المعارضة والمقاومة – المفهوم والغاية
- الإرهاب والمخاض التاريخي للحرية في العراق
- المهمة التاريخية للمثقف العراقي
- علماء السوء – التدين المفتعل والسياسة المغامرة
- تأجيل الانتخابات ونفسية المصلحة السياسية
- معارك المدن العراقية - الأبعاد الوطنية والاجتماعية
- تأجيل الانتخابات أم تأصيل المغامرات
- خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طالع الشمس ما يغنيك عن زحل
- أدب التصوف
- اسلام الشرق و الشرق الاسلامي


المزيد.....




- نتنياهو لعائلات رهائن: وحده الضغط العسكري سيُعيدهم.. وسندخل ...
- مصر.. الحكومة تعتمد أضخم مشروع موازنة للسنة المالية المقبلة. ...
- تأكيد جزائري.. قرار مجلس الأمن بوقف إسرائيل للنار بغزة ملزم ...
- شاهد: ميقاتي يخلط بين نظيرته الإيطالية ومساعدة لها.. نزلت من ...
- روسيا تعثر على أدلة تورّط -قوميين أوكرانيين- في هجوم موسكو و ...
- روسيا: منفذو هجوم موسكو كانت لهم -صلات مع القوميين الأوكراني ...
- ترحيب روسي بعرض مستشار ألمانيا الأسبق لحل تفاوضي في أوكرانيا ...
- نيبينزيا ينتقد عسكرة شبه الجزيرة الكورية بمشاركة مباشرة من و ...
- لليوم السادس .. الناس يتوافدون إلى كروكوس للصلاة على أرواح ض ...
- الجيش الاسرائيلي يتخذ من شابين فلسطينيين -دروعا بشرية- قرب إ ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - ميثم الجنابي - المؤقتون القدماء والجدد