أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - خالد أبو شرخ - المطلق والنسبي في التاريخ التوراتي















المزيد.....


المطلق والنسبي في التاريخ التوراتي


خالد أبو شرخ

الحوار المتمدن-العدد: 3528 - 2011 / 10 / 27 - 07:36
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


"التاريخ المقدس أو التوراتي", هو القصص التاريخية الذي ترد في العهد القديم, ويختلف عن التاريخ الفعلي ويتناقض معه في أغلب الأحيان, ويصلح هذا التاريخ أحياناً مصدراً للتخيلات والفرضيات، وهو لا يمكن دراسته إلا باعتباره جزءاً من الرؤية الدينية اليهودية وحسب, وهذا التاريخ المقدَّس, هو جزء من العقيدة اليهودية, ويختلف تماماً عن ممارسات أعضاء الجماعة اليهودية, بتجاربهم التاريخية, فالنسق الديني اليهودي، بما يجسده من قيم مطلقة ومثاليات، يختلف عن الممارسات الدينية والدنيوية للعبرانيين واليهود، وهو ما يسجله العهد القديم, وفي هذا لا يختلف أعضاء الجماعات اليهودية, عن كل الجماعات والشعوب الإنسانية الأخرى, فتاريخ الهند والأقوام الهندية ليس تاريخ الهندوسية، وتاريخ الصين ليس تاريخ الكونفوشيوسية، وتاريخ أوربا في العصور الوسطى, لا يمكن تفسيره بأكمله, وبكل تركيبيته, بالعودة إلى النسق الديني المسيحي, السائد في ذلك الوقت، رغم فعالية هذا النسق في صياغة وعي الناس, ووجدانهم وتوجيه الكثير جوانب سلوكهم.
إن تاريخ المسيحية، كدين وفلسفة وفكر، لا يتطابق وتاريخ المسـيحيين, بحـيث يكونان شـيئاً واحداً (وذلك برغم ارتباط أحدهما بالآخر), وربما يتجلى اختلاف تاريخ المسيحية, عن تاريخ المسيحيين, ففي حملات الفرنجة, حيث قام الغرب الأوربي بالهجوم على الشرق باسم المسيحية, نهب القسطنطينية, عاصمة المسيحية الأرثوذكسية, ثم قام بالهجوم على فلسطين, دون أن يُفرِّق (في معظم الأحيان) بين مسلم ومسيحي ويهودي.
وكذلك تاريخ اليهودية، سواء أكانت اليهودية عقيدة أم كانت فكراً أم شيعاً وانقسامات، يختلف عن التجارب التاريخية التي خاضتها الجماعات اليهودية، برغم الارتباط الوثيق بينهما في بعض الأحيان, فتاريخ مملكة الخزر، وتحول الجماعات اليهودية إلى جماعات وظيفية وسيطة في أوروبا, في العصور الوسطى، وتحالف الصهيونية مع الاستعمار ثم مع النازية، هذه كلها ليست جزءاً من تاريخ اليهودية, وإنما تنتمي إلى تواريخ الجماعات اليهودية, ويظل تاريخ اليهودية هو تاريخ العقيدة الدينية, ونحن حين نقر هذا التمييز بين التاريخين، فإننا نتبنى بذلك نموذجاً أكثر تفسيرية, إذ يظل التاريخ نتاج تفاعل عدة عناصر من بينها الدين.
والتاريخ التوراتي المقدس, الذي ورد في العهد القديم, هو تاريخ ذو مغزى أخلاقي, تُستخلص منه العبَر, حيث إن العبرة قد تكون، في كثير من الأحيان، أهم من الحدث نفسه, وهو تاريخ يتبع نسقاً دينياً محدداً, يختار من الحدث ما يخدم الهدف، ويلجأ إلى الصور المجازية والرموز والمبالغة, ليوصل الحكمة إلى المتلقي, وبالتالى كثيراً ما تتناقض وقائع هذا التاريخ ووقائع التاريخ الفعلي, ولكن كثيراً من القصص التي وردت في العهد القديم، والتي تدَّعي لنفسها صفة التاريخية، لا يمكن إثباتها بالعودة إلى التاريخ الفعلي, كما أن بعض المدونات الآشورية والبابلية والمصرية تعطينا في أغلب الأحيان, صورة مختلفة تماماً, عما هو في العهد القديم, فوقائع هجرة العبرانيين من مصر، كما وردت في سفر الخروج، لم يستطع علم الآثار حتى اللحظه إثباتها, كما يأتي ذكر سليمان في التاريخ التوراتي المقدَّس, كملك عظيم مهيب، وأن المملكة المتحدة, قد ازدهرت تحت حكمه حقاً, ولكننا نعرف أيضًا أن هذا الازدهار كان محدودا ومؤقتاً, وناتجاً عن الفراغ السياسي المؤقت, في الشرق الأدنى القديم، كما نعرف أن مملكته, لم تكن تختلف كثيراً عن الدويلات الأخرى, التي ازدهرت في تلك المنطقة, بسبب غياب الإمبراطوريات العظمى, التي اكتسحتها فيما بعد، وتقاسمتها فيما بينها بعد ظهورها, وهذه كلها جوانب يُسقطها التاريخ المقدَّس, ولا يُعنى بها كما نعلم أن سليمان، حتى في أوج عظمته، لم يصل إلى تلك الأبعاد الأسطورية, التي تتحدث عنها الرواية التوراتية.
وثمة مدارس عديدة تتباين آراؤها في قصص العهد القديم، إذ يرى البعض أن التاريخ الذي يرد في العهد القديم هو تاريخ رمزي, فإبراهيم حسب هذا التصور، ليس شخصية تاريخية, وإنما يمثل مرحلة تاريخية وحسب، وبالتالى فهو رمزاً, أكثر أهمية ودلالة وعمقاً من الواقعة التاريخية. وهناك من يذهبون إلى النقيض, ويحاولون دراسة التاريخ من خلال المعلومات الواردة في العهد القديم, وثمة من يسلكون طريقاً وسطاً بين المدرستين, حيث يسترشد الباحث بالتاريخ المقدَّس في معرفة التاريخ الفعلى, دون أن يكون ذلك ملزماً له.
والفكر واليهودي والصهيوني, يتجه دائماً نحو محاولة اكتشاف الأنماط المتكررة في التاريخ المقدَّس, كما تتبدَّى في تاريخ الجماعات اليهودية في العالم وعبر التاريخ، بحيث تصبح حادثة مثل الإبادة النازية, تكراراً للعبودية في مصر, وتكراراً للتهجير البابلي، كما أن إعلان دولة إسرائيل, يشبه الخروج من مصر، والاستيطان في فلسطين, يشبه التغلغل في كنعان، وهجرة اليهود السوفييت, هي خروج اليهود من الاتحاد السوفيتي, بعد عبوديتهم في روسيا القيصرية والسوفيتية, بل إنهم يرون هذا التاريخ, باعتباره تاريخاً له بداية ونهاية, وكأنه مسرحية إلهية لها حبكة واضحة, وبالتالي يشكل إعلان دولة إسرائيل نهاية التاريخ.
يري اليهود أن تاريخهم مقدس, ويعبر عن الإرادة الربانية، فإله إسرائيل يتدخل دائماً في مسار التاريخ, لصالح شعب إسرائيل, ولم تأت الأمة اليهودية إلى الوجود, إلا من خلال تَدخل إلهي مباشر، أي أن الإله قد حل أو تجسد في الشعب وتاريخه.
فكرة حلول الروح الإلهية, في اليهود حولتهم إلى الشعب المختار, ومن الملاحَظ أن زوال ثنائية الخالق والمخلوق, التي تؤدي إلى التداخل الكامل بين المطلق والنسبي، أو بين الإله والشعب، أو بين الثابت والمتغير، أو بين التاريخ المقدَّس والتاريخ الإنساني, وهي سمة بنيوية أساسية في اليهودية, فكتاب اليهود المقدَّس, كتاب تاريخ الشعب، كما أن أعيادهم تحتفل بمناسبات كونية ثابتة, مثل عودة الربيع وخلق العالم، وبمناسبات تاريخية متغيرة, مثل الخروج من مصر, وتتركز الصلوات الدينية المختلفة, حول المناسبات القومية التاريخية، كما تأخذ العلاقة مع الإله, شكل حوار بين طرفين أحدهما مقدَّس مطلق، والآخر دنيوي نسبي، ومع هذا فالطرفان متساويان, والديانة اليهودية تتسم بوجود شريعتين, واحدة مكتوبة مُرسَلة من الإله، والأخرى شفوية يكتشفها حاخامات الشعب عبر تاريخهم, ومع هذا فللشريعة الشفوية من الشرعية والصلاحية ما للشريعة المكتوبة، بل إنها تفوقها في الاتساع والشمول والدقة, وظاهرة تعدد الأنبياء في اليهودية, تعبير عن حلول الإله في التاريخ، وهو حلول لا يتوقف عند نقطة, ما بل يستمر من بداية التاريخ حتى نهايته, وقد كانت هذه الرؤية الحلولية أو التجسيدية كامنة في العهد القديم, ثم ازدادت عمقاً في "التلمود", كتاب اليهودية الحاخامية الأساسي, ثم تبلورت وأخذت شكلاً حاداً ومتطرفاً في "القبَّالاه" التي سيطرت على الفكر الديني اليهودي, وعلى المؤسسات الدينية اليهودية, ابتداءً من القرن السادس عشر، وورثها المفكرون العلمانيون اليهود ابتداءً من "إسبينوزا".
ويرى بعض فلاسفة التاريخ في الغرب, أن اليهود أول من اكتشف فكرة التطور والتقدم, التي هي عماد الوعي التاريخي الغربي الحديث، على عكس الإغريق القدامى، وغيرهم من الشعوب القديمة، الذين كانوا يرون أن للتاريخ شكلاً فلسفياً هندسياً, كما رأى هؤلاء الفلاسفة أيضاً أن حلول الإله في التاريخ, قد حوَّله إلى خطّ مستقيم, يتحرك نحو هدف أعلى, وغاية نهائية بدلاً من أن يكون مجرد شكل هندسي دائري, يتحرك حول نفسه دون غاية.
ومما لا شك فيه أن العبرانيين القدامى (حسبما ورد في الكتب المقدَّسة عند اليهود), كان لديهم إحساس قوي, بما تصوروا أنه مغزى التاريخ الديني ومعناه المقدس, ولكن هذا الإحساس نفسه,هو أحد أسباب ضعف حسهم التاريخي, وضموره بل اختفائه, فالاهتمام اليهودي القديم بالتاريخ، هو اهتمام في صميمه معاد للتاريخ, لأنه يَصدُر عن رؤية دينية تتجاهل أن الظواهر التاريخية, لها منطقها الخاص والمستقل عن رغبات الإنسان, وأحلامه وأنها ليست تجلياً لإرادة إله يحابي شعباً، وهي رؤية تذهب إلى أن التاريخ بأجمعه, إلى غرض إلهي لا يستهدف البشر كافة, وإنما يدور حول الشعب المختار بالدرجة الأولى (باعتباره موضع الحلول والتجسيد الإلهي), وهذه الرؤية تُسطّح التاريخ, وتفرغه من تركيبيته وإنسانيته وعالميته، وهي السمات الأساسية التي تعطي التاريخ معناه الإنساني, المتعارف عليه بين الناس, ويظهر هذا التسطيح الذي يختزل كل الوقائع, ويردُّها جميعاً إلى مستوى واحد, في تَصوُّر الرؤية اليهودية (والصهيونية فيما بعد), للظواهر التاريخية باعتبارها ظواهر مقدَّسة, تقررت حركتها حسب خطة إلهية مسبقة, وُضعت قبل بدء التاريخ, بل إن التدخل المستمر والعلني للإله, هو تأكيد للقول بأن التاريخ يتم دفعه وتحريكه من الخارج، وأن الإرادة البشرية لا مجال لها فيه، وأن التاريخ اليهودي (المقدَّس والإنساني) بدأ من مطلق, لا يقبل النقاش أو التقييم, يبدأ بالعهد مع إبراهيم يقطعه الإله المطلق من حين لآخر (العهد مع إسحق ثم مع يعقوب)، وينتهي بمطلق أخير (ظهور الماشيَّح المنتظر أو وصول العصر المشيحاني الذي يشكل نهاية التاريخ).
وترد الوقائع التاريخية, في أسفار موسي الخمسة, بمقدار ما تكشف الغرض الإلهي, الذي يهدف إلى إعلاء جماعة إسرائيل, وإذا كانت أسفار الأنبياء المختلفة تتحدث عن الإرادة وعن المستقبل القريب, حين يتوب أعضاء جماعة إسرائيل. ويعودون إلى الإله، فإن هذا الحديث قد اختفى تماماً في أسفار الرؤى (أبوكاليبس), التي تتحدث عن المستقبل البعيد وعن الخلاص العجائبي.
وقد تبلورت كل هذه الأفكار الحلولية النظرة, التي تجعل الشعب اليهودي الغاية النهائية, وربما الوحيدة للتاريخ في عقيدة "الماشيح", فمسار التاريخ ذو هدف واحد واضح محدد, يأتي "الماشيَح" في آخر الأيام, ويعود باليهود إلى أرض الميعاد, ليؤسس حكومته العالمية في صهيون, وفكرة "الماشيَّح", قد تنطوي على فكرة التقدم نحو هدف أعلى، ولكنها مع هذا أسطورة لا تاريخية إلى أقصى حد، لأنها تفترض ثبات النقطة التي يتحرك نحوها التاريخ، كما تفترض الحتمية المطلقة لهذه الحركة، وعدم جدوى الفعل الإنساني, لأن نقطة النهاية الفردوسية, ستأتي عن طريق التدخل المباشر, والفجائي للإله في التاريخ, وهو تدخُل يُلغي التاريخ تماماً .
ويبدو أن هذه الرؤىة الدينية القومية الحلولية للتاريخ, هي التي شجعت النزعات المشيحانية, التي اتسمت بها تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية, منذ القرن الأول الميلادي، والتي تصاعدت حدتها ابتداءاً من القرن السابع عشر في الغرب, وقد أدَّى انتشار الجماعات اليهودية, وتَحولهم الى جماعات وظيفية منعزلة عن المجتمع, إلى زيادة حدة النزعة المعادية للتاريخ بينهم, ويرجع هذا إلى عدة أسباب
• يميل الإنسان الذي يعيش في عزلة, الى تجريد نفسه, إذ يرى ذاته مستقلا عن حركات التاريخ العام، وخصوصاً أن أعضاء الجماعات الوظيفية, يظنون أنهم يتمتعون بقداسة خاصة.
• أعضاء الجماعات الوظيفية يتمتعون بحركية غير عادية، الأمر الذي يجعل من العسير عليهم رؤية تَراكُم الأحداث داخل إطار محدد.
• يتعامل التاجر والمرابي مع مجردات ليست لها أية حدود (السلع ـ النقود ـ سعر الفائدة)، كما أن اليهود الذين اضطلعوا في العصور الوسطى بدور التجارة الدولية, في المجتمعات الزراعية, كانوا عناصر حركية متعددة الجنسيات, عابرة للقارات, غير قادرة على استيعاب فكرة الحدود, التي هي جوهر الوجدان التاريخي.
• بالإضافة الى كل هذا، كانت التجارة البدائية والربا, مهنتين ليست لهما علاقة فعلية بالعملية الإنتاجية ذاتها، فقد كانتا تنتميان إلى نوع من الاقتصاد المجرد, داخل بناء من الاقتصاد الطبيعي المبني على تَبادُل الخدمات وعلى الاكتفاء الذاتي.
• يُركز أعضاء الجماعة الوظيفية, على الوطن الأصلي، الحقيقي أو الوهمي، وهو بالنسبة إلى اليهود فلسطين، وهو تركيز يفقدهم الإحساس بالزمان والمكان.
لكل هذا، ضمر الإحساس بالزمان, وحل محله إحساس متطرف بالمكان وحسب، وتجسد هذا في فكرة الأرض, التي هيمنت على الوجدان اليهودي الحلولي, كل هذا، جعل أعضاء الجماعات اليهودية, طوائف مرشَّحة لأن تفقد حسها التاريخي، وأن تنغمس في التأملات الفردوسية, والدراسات التلمودية, وقد كان "الجيتو" التعبير الحضاري والنفسي, عن هذه العقلية, التي تتصور أنها تقف خارج التاريخ, ولذلك كان مثقف الجيتو، أو طالب المدرسة التلمودية، ينفق كل أيامه في دراسة الأساطير اليهودية, والدين اليهودي, وما يتصور أنه تاريخ اليهود المقدَّس، دون أي اهتمام بالدراسات التاريخية الحقة، سواء كانت التواريخ الحقيقية للجماعات اليهودية في العالم، أم تاريخ الحضارة التي يعيش بين ظهرانيها, ولقد توقفت دراسة العهد القديم هي الأخرى, كتاريخ مقدَّس، وحلَت محلها الدراسات التلمودية الفقهية, التي لا يدخل فيها عنصر الزمن بتاتاً، ثم حلت محل الدراسات التلمودية التفسيرات "القبالىة" ذات الطابع الغنوصي, المتطرف التي تُسقط التاريخ تماماً, وتأخذ شكل بنَى هندسية لا علاقة لها بأي واقع تاريخي, أو إنساني معين، والتي تهدف إلى تعويض اليهود, عما يلاقونه من عذاب حقيقي أو وهمي.
لكل هذا، حينما بدأ علم التاريخ بمعناه الحديث في الغرب، ابتداءً من القرن السابع عشر، كان إسهام أعضاء الجماعات اليهودية فيه منعدماً, ولم تبدأ إسهاماتهم في الدراسات التاريخية, إلا في مرحلة متأخرة من القرن التاسع عشر, بعد أن تآكل "الجيتو" تماماً، وبعد أن بدأت تظهر شرائح من أعضاء الجماعات اليهودية, ممن تلقوا ثقافة علمانية غربية مختلفة تماماً, عن الثقافة اليهودية التقليدية.
وقد قامت محاولتان داخل اليهودية لمكافحة النزعة المشيحانية المعادية للتاريخ, أولهما محاولة اليهودية الحاخامية, النظر إلى الرموز والعقـائد اليهودية القـديمة المختلفة، مثل العودة وصهيون والماشيَح، باعتبارها أموراً ستتحقق بأمر الإله, ومن ثم فإن فعاليتها تكمن خارج حدود التاريخ، وهو ما يحول التاريخ ذاته, إلى رقعة يمارس فيها الإنسان حريته, ويجعل اليهود بشراً ككل البشر, الذين يعيشون في العالم التاريخي النسبي (رغم كل تطلعاتهم الدينية والروحية), وقد نجحت المؤسسة الحاخامية بالفعل في كبح النزعات المشيحانية المتفجرة، الناجمة عن الرؤية الحلولية, وتَوقع المعجزة الربانية, ونهاية التاريخ في كل زمان ومكان.
أما المحـاولة الثانيـة، فهي المحاولة التي تمت بعد حركة (الهسكالاة) أي التنوير اليهودي، والتي أخذت شكل فصل الدين عن القومية في اليهودية الإصلاحية، فهي محاولة جوهرها اعتراف بالوجـود التاريخي النسـبي لليهـود, مــستقلاً عن مطلقاته الدينية, وقد أخذت هذه المحاولة أيضاً شكل الدراسات التاريخية اليهودية, التي تحاول أن تصل إلى التاريخ الدنيوي الإنساني, فيما يُسمى "علم اليهودية".
لكن اليهودية المحافظة, قامت بتوظيف الاتجاه التاريخي لحساب الأهداف الصهيونية، فالتراث التقليدي الديني, بكل حلوليته تمت علمنته, بحيث تحوَّل إلى ميراث تاريخي إنساني دنيوي. ولكنه مع هذا، لا يفقد شيئاً من قدسيته (فهي حلولية بدون إله), وأصبح الشعب اليهودي مقدساً، لا بسبب إلهه وإنما بسبب تاريخه المقدَّس, والواقع أن الصهيونية, امتداد لهذه الرؤية الحلولية للتاريخ, التي تحوله من تاريخ مركب يحوي داخله عناصر إيجابية وسلبية، إلى أسطورة بسيطة يمكن توظيفها.
تنبع رؤية الصهيونية للتاريخ, من عنصرين أساسيين، أحدهما عقائدي والآخر تاريخي، أولهما الحلولية اليهودية, بكل ما تحوي من مزج بين العناصر المطلقة والنسبية، وبكل ما تخلعه على الشعب اليهودي من مطلقية, وثانيهما التجربة التاريخية ليهود شرقي أوربا كجماعة وظيفية, فقد ساهمت هذه التجربة, في إعطاء ما يشبه الأساس الواقعي أو التاريخي للرؤية الصهيونية للتاريخ اليهودي، أي باعتباره كياناً مستقلاً, هذا كله أوهم المفكرين الصهاينة, بأن لليهود تاريخهم اليهودي المستقل, عن التاريخ العام, الذي يحيط بهم، وأنساهم أن استقلالية اليهود نفسها, إحدى سمات المجتمع الإقطاعي في أوروبا، وأن "الجيتو" اليهودي المستقل, هو في نهاية الأمر نتاج للبناء التاريخي الأوروبي، إذ أن الذي يحكم ظهور وسقوط "الجيتو", أو الأشكال الإدارية اليهودية المستقلة الأخرى, ليس الإرادة اليهودية المستقلة, وإنما حركة التاريخ الأوروبي, ومجموعة من العناصر المركبة يشكل أعضاء الجماعة اليهودية جزءاً منها وحسب.
ويمكن أن نقول إن الرؤية الصهيونية للتاريخ, لا تختلف في بنيتها عن الرؤية الحلولية اليهودية له، ولكن هناك فارقاً واحداً هو أن الرؤية الصهيونية, هي الرؤية الحلولية نفسها, بعد أن تمت علمنتها، أي أنها حلولية بدون إله (أو وحدة وجود مادية) فتاريخ اليهود، حسب تصور
"مارتن بوبر" وهو فيلسوف متصوف صهيوني، هو تاريخ يتدخل (أي يحل) فيه الرب بشكل مستمر، ولذا أصبحت جماعة إسرائيل أمة, ومجتمعاً دينياً في آن واحد، ولا تزال جماعة إسرائيل شعباً ومجتمعاً دينيًا (قومياً ومقدَّساً) حتى وقتنا هذا, وأن ثمة تطابقاً كاملاً بين الوحي والعقيدة والتاريخ في جماعة إسرائيل, فهي تتلقـى تجربتهـا الدينية الحاسمة, على مستـوى الشـعب كله، لا على مستوى الأنبياء وحسب (وهو ما يعـني في واقـع الأمر أن أعضاء جماعة إسرائيل كلهم أنبياء), ومن ثم، فإن مجتمع إسرائيل ككل, يعيش التاريخ والوحي, باعتبارهما ظاهرة واحدة, التاريخ باعتباره وحياً، والوحي باعتباره تاريخاً.
ولذا، فاليهود حسب التصور الحلولي عند "بوبر"، أمة تحمل وحياً إلهياً عبر تاريخها المقدَّس " الذي لم يكن سوى صراع لا ينتهي, من أجل وضع مُثــل الأنبياء موضع التطبيـق كمـا يقـول
" نحمان سيركين" الزعيم الصهيوني العمالى, ومعنى هذا أن كلاًّ من الفيلسوف المتصوِّف, والمفكر الاشتراكي, يدوران في نطاق الحلولية اليهودية, ويتفقان على خصوصية وقدسية واستقلالية ما يُسمَّى "التاريخ اليهودي", كما يتفقان على تَداخُل التاريخ المقدَّس والتاريخ الإنساني, وعلى أية حال، فإن من الواضح أن هناك تداخلاً في البنى التاريخية, وعدم إلمام بحركة التاريخ, ينعكسان بجلاء في الطريقة, التي تقرأ بها الصهيونية الواقع التاريخي, فهم حينما نظروا إلى فلسطين، في أواخر القرن الماضي، لم يروها أرضاً فيها شعب، أي واقعاً إنسانياً تاريخياً، وإنما رأوا مفهوماً دينياً يُدعى "إرتس إسرائيل", ولذلك وبدلاً من التعامل مع الواقع الحي، نجدهم يلفقون شعارات مثل "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" .
ويتبدَّى الرفض الصهيوني للتاريخ، بشكل واضح، في المصطلح الصهيوني, فالصهاينة حينما يستخدمون كلمة "تاريخ"، فإنهم لا يشيرون في العادة إلى التاريخ الحي المتعيِّن، وإنما إلى العهد القديم، أو إلى تراثهم الديني (المكتوب منه أو الشفوي)، أو إلى التاريخ المقدَّس, ولذا تصبح الحدود التاريخية, هي الحدود المقدَّسة المنصوص عليها في العهد القديم, (من نهر مصر إلى الفرات)، وهي حدود لم يشغلها العبرانيون, في أية لحظة من تاريخهم، ولا حتى أيام داود أو سليمان.
والحقوق التاريخية, هي أيضاً الحقوق المقدَّسة, التـي وردت في العهد القديم، والتي تؤكد أنهم شعب مقدَّس مختار، له حقوق تستمد شرعيتها, من العهد الإلهي, الذي قطعه الإله على نفسه لإبراهيم، وهو عهد يعبِّر عن الحلول الإلهي فيهم.
ويظهر الرفض الصهيوني, لتعين التاريخ وتركيبيته, على هيئة رؤية اختزالية تبسيطية للواقع, فمن المعروف أنه، قبل حرب السادس من أكتوبر (العاشر من رمضان)، كان لدى الإسرائيليين من المؤشرات الملموسة, ما يؤكد أن المصريين سيعبرون القناة إلى سيناء, ولكن الدلالات الملموسة, ظلت معلومات جامدة مبعثرة لم ينتظمها إطار، ولم تكتسب اتجاهاً محدداً, لأن نموذج الصهاينة التفسيري الاختزالي, معاد للتاريخ مُنكر لإمكانيات الآخر, والصهاينة لا يمكنهم إلا التحرك داخل إطار هذا النموذج, وقد تكرر هذا السيناريو مع الانتفاضة الفلسطينية، إذ كان لدى المخابرات الإسرائيلية من المعلومات, ما يؤكد أن ثمة تحركاً فلسطينياً ورفضاً شعبياً للاحتلال, ومع هذا فقد أنكرت أجهزة المخابرات وجود الانتفاضة، حتى بعد اندلاعها بعدة أسابيع، وإنكارهم هذا هو إنكار لتركيبية التاريخ والإنسان .
ولكن الصهيونية تعتمد على تصور إمكانية اجتياز الهوة، التي تفصل بين رؤيتهم للتاريخ, من جهة, وبين الواقع التاريخي من جهة أخرى، عن طريق العنف, فالعنف هو عادة الوسيلة الوحيدة, لفرض الاتساق الهندسي, على تعيُّن الواقع وتركيبيته، ولكن العنف الصهيوني حتى الآن لم يحقق إلا جزءاً صغيراً, من المخطط الصهيوني اللاتاريخي.
غير أن نموذج الصهاينة الاختزالي, ليس مقصوراً على تعاملهم مع التاريخ العربي, أو تاريخ الأغيار, وإنما يمتد إلى رؤيتهم لتواريخ الجماعات اليهودية, وإلى ما يسمونه "التراث اليهودي" ككل, فقد كتبوا تواريخ الجماعات اليهودية, بطريقة مأساوية فجة, تختزل تلك التواريخ, وتقسمها إلى قسمين اثنين, لا ثالث لهما, فترات مظلمة عديدة, وغير حقيقية, فقدت فيها الذات اليهودية وعيها, وأخذت موقفاً سلبياً, فلم تدافع عن ذاتها, فوقعت ضحية سهلة للأغيار؛ وفترات أخرى مضيئة وحقيقية, تمركزت فيها الذات اليهودية عن نفسها, ودافع اليهود فيها عن أنفسهم, بضراوة وشراسة, وحسب هذا الفهم، تكون الأعوام القليلة التي قامت فيها دولة يهودية في فلسطين, أكثر الفترات خصوبة فيما يُسمى "التاريخ اليهودي"، ويكون التمرد الحشموني، حين دافع اليهود عن الوجود اليهودي في فلسطين، هو إحدى القيم القليلة بل النادرة في هذا التاريخ، وتكون الحركة الصهيونية التعبير الحقيقي والأخير, عن هذا التمركز اليهودي الذي يجسد روح التاريخ اليهودي, ويشكل نهايته السعيدة.
مشكلة التقسيم البسيط, هي أن الصهيونية تكتسب شرعيتها من افتراض وجود هذا التاريخ اليهودي, ومن تعبيرها عنه, ولكن التاريخ اليهودي هو أساساً, نتاج انتشار اليهود في كثير من بلاد العالم، أي نتاج وجود الجماعات اليهودية في الدياسبورا أو المنفى، أي وجودهم في أنحاء العالم خارج فلسطين, ومن يتقبل نموذج التاريخ اليهودي, عليه أن يتقبل أيضا وجود اليهود في المنفى كحقيقة أساسية، لأن حالة المنفى جـزء لا يتـجزأ من البنـاء التاريخي اليهودي, الذي يفترض الصهاينة وجوده, وتعبِّر الكتابات الصهيونية عن هذا التناقض العميق، فهي تارة تمجد هذا التاريخ اليهودي تمجيداً لا حد له، وتارة أخرى تدمغه باعتباره مجرد انحراف عن مسار التاريخ اليهودي الحقيقي, ولكن الصهاينة سواء في تمجيدهم الدياسبورا أو هجومهم عليها، يفترضون، في كل الأحوال، وجود تاريخ يهودي منفصل عن تاريخ الشعوب والحضارات الأخرى التي عاش اليهود بين ظهرانيها.

والحديث عن التاريخ اليهودي، مثل الحديث عن "الأدب اليهودي" و"الشخصية اليهودية" وغير ذلك، يفترض أن العنصر الأساسي الذي يحرك اليهودي, ويشكل شخصيته, هو أساساً إيمانه بالدين اليهودي, أو انتماؤه إلى التراث اليهودي, وفي هذا تقليل من شـأن اليهود، وتضـييق لإنسـانيتهم ومسـاهمتهم في الحضـارة البشرية, فاليهودي مثله مثل أي إنسان آخر، ظاهرة مركبة، تحركه عناصر متشابكة، بعضها ملموس ومحدد, وبعضها غير ملموس وغير محدد، وليس مجرد عنصر واحد كما يتصور الصهاينة, وبالإضافة الى ذلك، فإن تبني نموذج التاريخ اليهودي المسـتقل, هو في نهاية الأمـر إيمان بأن اليهود موجـودون خارج التاريخ، أي أن تبني نموذج التاريخ اليهودي, هو في جوهره عودة إلى الرؤية اليهودية القديمة الحلولية, التي فشلت في رؤية الفارق بين المقدَّس والنسبي، وبين الإلهي والتاريخي، فألغت كل الثنائيات وسدت كل المسافات.



#خالد_أبو_شرخ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مخاطر التطبيع مع إسرائيل
- التاريخ اليهودي
- الصهيونية المسيحية (2 - 2)
- الدولة المدنية والقوميات بين الواقع والطموح
- الصهيونية المسيحية (1-2)
- لماذا نرفض يهودية إسرائيل
- الصهيونية (34) .. الدور الوظيفي الجديد
- الصهيونية (33) .. الدعاية المراوغة
- الصهيونية (32) .. إسرائيل العظمى إقتصاديا
- الصهيونية (31) .. المفهوم الصهيوني - الإسرائيلي للسلام
- الصهيونية (30) .. عسكرة المجتمع الإسرائيلي
- الصهيونية (29) .. نظرية الأمن الإسرائيلية (2)
- الصهيونية (28) .. نظرية الأمن الإسرائيلية (1)
- الصهيونية (27) .. الديموقراطية الإسرائيلية
- الصهيونية (26)..الإرهاب الصهيوني من عام 1967م وحتى إعلان الم ...
- الصهيونية (25).. الإرهاب الصهيوني حتى عام 1967
- الصهيونية (24).. التطهير العرقي في فلسطين أعوام (49-48-47)19 ...
- الصهيونية (23).. التطهير العرقي في فلسطين أعوام (47-48-49)19 ...
- الصهيونية (22) .. الإستعمار الإستيطاني حتى عام 1948م
- عودة إلى موضوع الهولوكوست


المزيد.....




- تحقيق لـCNN.. قوات الدعم السريع تطلق العنان لحملة إرهاب وترو ...
- ستتم إعادتهم لغزة.. مراسل CNN ينقل معاناة أمهات وأطفالهن الر ...
- أردوغان يريد أن يكمل -ما تبقى من أعمال في سوريا-
- استسلام مجموعة جديدة من جنود كييف للجيش الروسي (فيديو)
- عودوا إلى الواقع! لن نستطيع التخلص من النفط والغاز
- اللقاء بين ترامب وماسك - مجرد وجبة إفطار!
- -غباء مستفحل أو صفاقة-.. مدفيديف يفسر دوافع تصريحات باريس وب ...
- باشينيان ينضم إلى مهنئي بوتين
- صحة غزة: ارتفاع حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي إلى 31819 قتيلا ...
- هل مات الملك تشارلز الثالث؟ إشاعة كاذبة مصدرها وسائل إعلام ر ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - خالد أبو شرخ - المطلق والنسبي في التاريخ التوراتي