أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - رجع الوجع / رواية بحلقات / 14















المزيد.....


رجع الوجع / رواية بحلقات / 14


حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)


الحوار المتمدن-العدد: 3519 - 2011 / 10 / 18 - 00:30
المحور: الادب والفن
    


بعد إختتام مجلس عزاء عمران ، يجتمع المختار الحاج جاسم هبلو ، و نجليه ناظم و فاضل ، و كريم : الأخ الأكبر لعمران ، و الحاج سالم في دار المختار مساء . الغرض : تحديد ما ينبغي عمله للأخذ بثأر القتيل المغدور . يلح الحاج سالم على وجوب الأخذ بعين الإعتبار خسارته المزدوجة : راعيه النادر المثال ، و زوجته الصغيرة الغالية ؛ أي أنه يستحق عليهما ديتين . و يصفق يداً بيد مؤكداً أن كل الذي حصل ما كان ليحصل لولا عيون الحاسدين الحارقة ! ثم يتدخل ناظم ليشير إلى أن العوجان لم يحضروا مجلس العزاء لفقيدهم المغدور ، و لجبر خواطرهم تطبيقاً للأصول و الأعراف الإجتماعية السائدة ، رغم قيام مراسلي شيوخ جميلة و الدليم و آلبو إسحق بإبلاغهم بالجريمة التي إقترفها رجلهم حمود الحايف بحق عمران . و أن مثل هذا التقصير الغريب جداً في أداء الواجب يتطلب حشماً . ثم يستطردون بالحديث عن الموقف المخزي و الجاحد لزيدان ، الذي لم يحضر مجلس الفاتحة رغم أفضال القتيل المغدور التي لا تعد و لا تحصى عليه . يخبرهم فاضل بأن زيداناً قد باع غنمه و بقرة حمود التي بقيت عنده ، و انتقل لبيجي بين عشية و ضحاها . و أخيراً يتفق الجميع على مراجعة شيوخ عشائرهم الثلاثة صباح اليوم التالي لمباشرة قضية المطالبة بدية القتيلين مع حشم عدم أداء الواجب من العوجان . هنا يتكلم كريم لأول مرة في الإجتماع :
- يا حاج سالم : دية شقيقي راعيك ، و زوجتك ، و حشم الإستنكاف عن حضور مجلس العزاء : كلها حصتك أنت ؛ أما أنا : فسأتكفل بحمود الحايف .
تدمع عيون الحاج جاسم و هو يقول :
- حقك و الله.
- و لكن كيف نأخذ دية القتل ، ثم نثأر به ؟
- يا حاج سالم : المرحوم قتل غدراً من الخلف و هو يصلي خلال رعيه بغنمك ، و الإعتداء على الراعي هو إعتداء على المعزب نفسه ، و الذي هو أنت ، و من حقك أخذ فصله . عدا هذا ، فالمرحوم هو شقيقي أنا ، و أنا لن أقبل بغير قصاص الدم بالدم ، و هذا حقي ! ثم لا تنس البون الشاسع بين شخصية المرحوم ، و هو الشاب الشريف الذي يحلف كل الناس برأسه ، و بين القاتل حمود الأعور ، و هو مجرم حقير بدأ حياته الإجرامية بسرقة الدجاج و الماعز ليلاً من بيوت الجيران ، لينتهي بالغدر بالمصلين الموجهين وجوههم لفاطر السموات و الأرض .
- صدقت ! أن سمو شخصية الضحية تغري السفلة بغدرها ! عدّاك العيب يا كريم !
- و لكن –
- لك علي يا حاج سالم بأنني لن ألمس القاتل بسوء إلّا بعد قبضك منه الدية التي تستحقها كاملة ! و لن ألجأ للمحاكم أبداً !
يسكت الجميع ، و آلاف الأفكار و الأسئلة تموج بعقولهم .
بعد مضي أسبوع من إنعقاد المجلس أعلاه ، تستولي عصابة القتلة و العملاء البعثيين على السلطة في العراق ، و يستشهد الزعيم العظيم عبد الكريم قاسم بقتله غيلة و هو صائم في مبنى الإذاعة و التلفزيون . ينتقل حمود الحايف فوراً من العوجة إلى بغداد ليصبح أحد مسؤولي التحقيق للحرس القومي الفاشي في معتقل نادي الأعظمية الرياضي . و هناك يشبع شهيته الرهيبة للقتل غدراً و الإغتصاب و الضرب من الأجساد العارية المكبلة للمعتقلين الوطنيين الأبرياء من الشيوعيين و الشيوعيات الشريفات و الديمقراطيين و الديمقراطيات من أصحاب أكبر العقول و أرفع الشهادات العالية و الكفاءات العلمية و الفنية و التربوية و الحرفية . كما يحذو حذوه زيدان و معه زوج أخته منير ؛ فينخرطان في صفوف الحرس القومي – و هي المنظمة الإرهابية التي أجازت لنفسها بنفسها اقتراف كل أنواع الجرائم و أبشعها بحق الوطنيين الأبرياء بغير حساب – و يدهمان دور أغنياء بغداد بتهمة الشيوعية ، و يعتقلاهم زوراً و عدواناً لإبتزازهم بمساومتهم على حريتهم المكتسبة بالولادة ، و يغتصبان الأتاوات الغالية منهم لقاء إطلاق سراحهم ، فيشتريان بها قصرين فخمين في محلة البيجية ببغداد ، و يؤثثانهما بأفخر الأثاث .
و بعد ثلاثة شهور من المجالس العشائرية المتعددة بين شيوخ عشائر القتيل المغدور عمران و العوجان ، يتحدد مبلغ ضخم جداً فصلاً لدم عمران و مريم لم يعهد من قبل بين عشائر الغربية : مائة ألف دينار . و لدفع هذا المبلغ و الإفلات بجلده من العقاب ، يأخذ حمود الأعور مفرزة من جلاوزة الحرس القومي ، فيسلب في وضح النهار معرض أشهر صائغ صابئي في شارع النهر ، و يدفع الديّة للحاج سالم ؛ الذي يتزوج بها مرة أخرى ، و يبيع غنمه ، و يسكن ببغداد . كان ذلك هو موسم هجرة السفلة و ربيبي السجون و الفاشلين في الحياة من أرياف كركوك و تكريت و الموصل و ديالى و الرمادي إلى بغداد . و لم يدّخر رجال الحرس القومي الأشاوس من أمثال حمود و زيدان أية رصاصة من ملايين صناديق العتاد المجاني بحوزتهم للتثبت من عدم بقاء رجال مثل الحاج جاسم و لا عمران و لا الملا غفور ولا المعلم نوري و المعلم سمين أحراراً في أرجاء العراق كافة إلا إذا تنجسوا بالقوادة لحزبهم معهم ، و ذلك في حملة غدر جماعي تطحن طحناً فاشياً رهيباً . و بذلك فقد دمرت الهوية الوطنية و التاريخية للعراق ، و أبيد أو غيّب عقل حاضره ، فضاع مستقبله .
يبقى كريم يتسقط أخبار حمود بسرية تامة ، فيعلم أنه قد إشترى قصراً منيفاً في البيجية ، و تزوّج ، و رزق بولد أسماه "عبد" إستبقاه عند مرضعة في العوجة . لا تثريب عليه : فحمود شخصيّة فذة تطأطئ الآلهة رؤوسها إزاء عظمتها ، و لذلك فإن من حقه أن يورث لإبنه شرف عبادته . ثم يسقط حكم البعث سقوطاً جباناً مخزياً مثل الطريقة التي جاء بها للحكم ، فيحمل كريم مسدسه البراوننغ الجديد ، و مشطي عتاده ، و تحويشة عمره ، و يودع أهله قائلاً لهم أنه ذاهب للمتاجرة بالحبوب شهراً كاملاً في كركوك . و بدلاً من كركوك ، يسافر لبغداد : إلى البيت الفارغ الذي سبق له و أن إستأجره بسريّة تامة قبل شهرين ، و الكائن قرب دار القاتل حمود ، ليراقب كل التحركات اليومية للأخير .
في أيام "العز" من حملة إبادة الشيوعيين و الوطنيين ، كان حمود قد ركّب له عيناً زجاجية ، و أستصدر له إجازة سوق مزورة ، و اشترى سيارة "دوج" خصوصي . أما بعد إستسلام "الإخوة النشامى" حسب الأصول ، فقد أصبح لابثاً بداره نهاراً ، و لا يخرج بسيارته إلا مساءً ، ليعود مخموراً في ساعة متأخرة من الليل .
فكر كريم : أين يذهب هذا القاتل كل مساء ؟ للبار أو للملهى طبعاً ! و لكن بغداد مليئة بالبارات و الملاهي ، و هو لا يستطيع تعقب سيارته بسيارة أجرة ليتبين مكان سهرته ، لأن من شأن ذلك أن ينبه هذا المجرم ، فيحتاط ، و تتعقد عليه مهمته . و لكونه لا يمتلك سيارة ، فهو لا يستطيع الانتظار ليلاً لحين خروج القاتل بسيارته ، فيقتله ، و ينسحب . سيؤدي صوت إطلاق الرصاص ليلاً إلى خروج أهل المحلة عن بكرة أبيهم ، و قد يلقى القبض عليه ، و يحاكم ، و يحكم بالتأكيد . لقد آلى على نفسه أن لا يزهق روح هذا القاتل غدراً مثلما فعل هو بأخيه . كلا ! سيواجهه وجهاً لوجه ، و يخلص الناس من شره بطلقة واحدة لا أكثر ، و ينسحب . كما ينبغي عليه أن لا يسمح مطلقاً بانكشاف هويته ، و لا أن يلقى عليه القبض أبداً . و لكنه يحتاج إلى شخص قريب من القاتل ينقل له أماكن تواجده و أخباره . فمن أين له بمثل هذا الشخص ؟
بعد مضي أسبوع من المراقبة المتواصلة لقصر حمود و تسجيل المعلومات عن الغادين و الرائحين إليه ، يشاهد كريم صبياً يدخل دار القاتل ظهراً ، و يخرج عصراً لوحده ، و هو يحك عجيزته . من هو هذا الصبي الأبيض البشرة ؟ يعصر عقله ، فيهتدي إلى هويته : إنه عبد الله بن زيدان ! يفور الدم برأسه : لقد كان هو السبب في الإحتكاك بين المرحوم شقيقه و حمود . و لكن ما ذنب هذا الصبي ؟ إنه ضحية أخرى من الضحايا العديدة للقاتل حمود . و لكن ما الذي يدفع هذا الصبي ، أو يجبره لمواصلة زيارة دار مغتصبه بعد أن حصل ما حصل ؟ لا بد أنها مصلحة شخصية ما لأبيه الحقير زيدان ؛ زيدان الذي هرب بجلده يوم الغدر بشقيقه ، و لم يكلف نفسه عناء حضور مجلس عزاء المرحوم الذي حفر قبر زوجته و أم إبنه الوحيد عبد الله بيديه ، و دفَن زوجته بيديه ، و بَنى قبرها بيديه ! و لكن هل لزيدان يد في الغدر بشقيقه ؟ ها ؟ لماذا ترك قرية مرعي في نفس يوم الغدر بعمران ؟ ها ؟ و لماذا تغيب عن حضور مجلس عزائه ؟ لماذا لا يقوم بخطف زيدان أو عبد الله أو كليهما معاً ، و يستجوبهما للكشف عن كل أسرار القضية ؟ ما هذه السخافة ؟ أين تبخرت رجاحة عقلك ، يا كريم ؟ تخطف رجلاً و ابنه ، و تستجوبهما ، و يجب عليك أن تطلق سراحهما بعدئذ ، ليعودا لصاحبهما ، و يبلغانه بكل شيء ، فتقعد ملوماً محسوراً . ثم ما يدريك أن ما سيدليان به من المعلومات سيكون مفيداً ؟ ركِّز على رأس الأفعى حمود ، و أترك غيره . المبدأ هو أن لا يتطرق الشك عند أحد إليك مطلقاً بعد قتله ، فتستطيع المشي في الشوارع بطولك دون أن تتلفت باحتراز خلفك .
طيب ، لما كان لا يملك سيارة يلاحق القاتل بها ساعة الصفر كي ينجز واجبه ، ثم ينسحب دون ترك أي أثر يدل عليه ؛ كما أنه لا يستطيع تكليف صديق مخلص له بمعاونته في جلب المعلومات الأكيدة له عن أماكن أماسيه دون التعرض لخطر كشف نفسه للقاتل لكون كل أصدقائه من قرية مرعي معروفين عند حمود ، فما هو الحل ؟ هل يمكن – ؟ نعم ، إنها فكرة لا بأس بها . يتسلل لدار حمود ملثماً بعد خروجه مساء ، و يكمن له هناك في زاوية من الدار ، و ينتظر عودته ليلاً و دخوله بسيارته للدار ، و نزوله منها ، فينفذ به ، ثم ينسحب . لا تبدو هذه الفكرة سيئة . ما الذي يتطلبه تنفيذها ؟ شيء واحد : تأمين الإنسحاب الآمن . ثم تذكر أن زوجة القاتل هي التي تفتح الباب له عند عودته مساء ، و لا يجوز له قتلهما معا ، فما العمل ؟ طيب ، لماذا لا يعدّل هذه الخطة ، فيدخل داره بعد عودته بعشرة أو خمسة دقائق فقط ، ثم يقوم بإصدار بعض الضوضاء التي تدفعه للخروج وحده إلى حديقة الدار ، فينفذ به الحكم العادل ، و ينسحب ؟ فكرة ممتازة ! و لكن ماذا عن تأمين طريق الإنسحاب ؟ لماذا لا يرتدي عباءة نسائية ، و بعد التنفيذ يعود إلى داره القريب دون أن يلفت إليه الإنتباه ؟ فكرة عاطلة ! إمرأة تسير بالليل لوحدها و ترتدي بنطالاً و أحذية الرجال : سيصبح فرجة لمن لا يريد أن يتفرج ! ثم ألا تستحي من نفسك : تتحول من فحل لحرمة ؟ و من ستستطيع خداعه بهذا الصنيع العاطل ؟ شغل مخك ! لماذا لا تجري تمريناً فتتسلل إلى دار القاتل لإستطلاع الوضع هناك ، و استكشاف كل الخيارات المتاحة أمامك قبل التنفيذ و ذلك عندما يكون القاتل خارج الدار ؟ فكرة ممتازة . نعم . و سينفذها مساء اليوم !
بعد خروج القاتل مساءً ، يتسلق كريم جدار قصره كالفهد الملثم ، و يتخفي تحت صف أشجار النارنج غير المقلمة لحديقة الدار . يستطلع المكان . الحديقة الواسعة تحيط بكل الأركان الأربعة للدار . جيد ! مدخل الباب الخارجي الوسطي يؤدي على طارمة مسقفة لها بابان : أحدهما لغرفة الإستقبال و الثاني للمطبخ مثلما يتضح من مفرغة الهواء في أعلاها . ماذا يوجد خلف غرفة الاستقبال و المطبخ ؟ يستطلع أركان الدار الأربعة . توجد غرفة واحدة للنوم خلف غرفة الإستقبال ، و أمامها مرافق صحية خلف المطبخ ، مع غرفتين في الطابق الثاني . و هناك باب ثان يؤدي لداخل البيت وسط ظهر الدار . الباب الخلفي غير مغلق ؛ إنه مفتوح قليلاً جداً ! لماذا ؟ هذا غير مهم ! هل يدخل ؟ كلا ! للبيوت حرمتها ! ليكمل استطلاعه ! يطل برأسه فوق الجدار الخلفي للدار ، أرض فضاء مليئة بالقصب ! إلى أين تؤدي هذه القطعة ؟ عليه دراسة موضوعها لاحقاً . أين يكمن له ؟ بين الأشجار ؟ لا ! أين إذن ؟ لا يوجد مكمن : الدار متوازي المستطيلات يشكل مستقيم و بدون دخلات و طلعات . يمكن له الإختباء خلف الركن الأمامي للدار ، و فيصدر الجلبة المطلوبة لاستراج القاتل ، و عندما يخرج له ، ينفذ به و ينسب . جيد ! تنبه لوجود أصوات لحوار جار في غرفة النوم . يبرك تحت الشباك العالي لغرفة النوم ، و يتصنت : الأصوات المتحاورة واضحة :
- أسمع ، فهمي ، لقد أخذت مني كل النقود الذي أملك ، و لم يبق عندي ما أعطيك !
- و لكنني بحاجة ماسة لمائة دينار كي أشتري السيارة ، يا حبيبتي الغالية !
- آسفة ! لا يوجد لدي و لا فلس واحد في الوقت الراهن !
- أهكذا تعاملين حبيبك الذي يموت عليك ؟
- و هل قصرت بحقّك ؟ ألم أهبك كل ما أملك ، و أكثر ؟
- حاشاك يا حبيبتي من التقصير ، و لكنني بحاجة ماسة للمائة دينار ، و ليس لدي أحد غيرك يعطيني إياها . هل تقبلين أن أذهب لإمرأة غيرك ؟
- بعد كل آلاف الدنانير التي أعطيتك إياها من دمي ؟ لا يا كلب ، يا حقير ! يا سافل ! أخرج من بيتي الآن يا ناكر الجميل ! هناك الكثير من الشباب ممن هم أشرف منك بألف مرة ممن يتمنون تقبيل تراب حذائي ! تفو ! أخرج الآن من بيتي ، و إلا أصرخ : حرامي ، فأجمع عليك الناس --
يعدو كريم إلى الجدار الأمامي للدار ، يستطلع الشارع : فارغ ! يتسلق الجدار بقفزة واحدة ، و يترجل بقفزة واحدة و هو ينزع لثامه . يضع اللثام تحت أبطه ، و يسرع لبلوغ عطفة الشارع المؤدية للدار المستأجرة من طرفه !
بعد دخوله داره ، و تدبر وقائع إستطلاعه للوضع ، يخاطب كريم نفسه : أولاً : عليه أن يختار لثاماً أنسب من قطعة القماش الأسود التي لديه . الفصل شتاء ، و أفضل إختيار هو أنت يبتاع لباس رأس من الصوف يكون قابلاً للتمدد حتى الرقبة و بفتحات للعينين . لباس يغطي به رأسه فقط ، و يستطيع بحركة واحدة سحبه من أعلى جبهته إلى أسفل رقبته ليصبح قناعاً . كما يستطيع برفعة واحدة إعادته كغطاء عادي للرأس . الشيء المطلوب الثاني هو إستطلاع الأرض الفضاء خلف الدار . الأمر الثالث ، هو تحديد ماهيّة الضوضاء المطلوبة لإستدراج القاتل إلى حديقة المنزل . الأمر الرابع هو إختيار ملابس مناسبة للمهمة . ما هو أفضل لباس مفيد لمهمة القتل ليلاً : بدلة زيتونية غامقة !
في صباح اليوم الثاني ، يذهب كريم لسوق الباب الشرقي ، فيشتري بدلة زيتونية غامقة . ثم يبحث عن لباس صوفي للرأس طويل قابل للإنزلاق لتغطية الوجه كله فلا يجد واحداً . أطول كنزة للرأس متوفرة في السوق لا تصل إلّا إلى نصف أنفه . يشتري واحدة سوداء ، ثم يشتري كرة من الصوف الأسود ، و مِرْوَدَي حياكة . يعود لداره ، و يحيك بقية لباس الرأس . يتذكر كيف كان يعلم أخاه المرحوم الحياكة وهم في المرعى ، و كيف إستطاع أخوه المغدور خلال يومين فقط من التدريب صنع أول جورب صغير له و هو في التاسعة من العمر ؛ جلبه إليه بعيون متهللة و بوجه متألق ببسمة الإنتصار : "ما رأيك بهذا ؟" . ينتحب و ينتحب و ينتحب ! ثم يكفكف دموعه ، و يغسل عينيه .
عاد و جرّب لباس الرأس : يفي بالغرض المطلوب . عليه الآن إستطلاع الأرض الفضاء الكائنة خلف دار القاتل . يخرج من البيت ، و يأخذ إليها طريقاً متعرجاً حول منعطفات الشارع كي يتأكد من عدم وجود رقيب عليه . يصل المكان المقصود . القطعة مليئة بالقصب النامي في بركة ضحلة من مياه الأمطار ! يدقق في المكان ، فيرى إلى اليمين ممشى ترابياً محصوراً بين أجمة القصب و جدار الدار التي تشكل زاوية رأسية مع الركن الأيسر لدار القاتل . الطريق ضيقة جداً ، و لا تكفي إلّا لشخص واحد بالكاد. لا بد أنها سدة ترابية بسمك شبر مصممة لمنع تسرب المياه إلى أسس الدار الرأسية المجاورة لها . ممتاز ! لن يستطيع أحد رؤيته و هو يتسلل عبرها إلا من طرف شخص يترصد له بالذات . ينظر حوله : لا يوجد أحد ! شكر الله على هذا الفأل الحسن !
عاد لبيته ، و فكر في طبيعة الصوت المطلوب لإستدراج القاتل للخروج له . و هنا لاحت له مشكلة لم تخطر بباله من قبل : ماذا لو خرج القاتل من الباب الخلفي لداره ؟ لا بد أنه يملك سلاحاً مسروقاً من أيام الحرس القومي ، و عليه فإن بمقدوره أن يخرج له مسلحاً من الباب الخلفي للدار ، فيتغدّى به قبل أن يتعشى هو به ، و يذهب دمه هدراً : فهو مسلح ، و لديه الدافع ، و يتواجد داخل دار قاتله ! شغّل مخك يا كريم ، و تذكر أن روح أخيك المغدور ما تزال هائمة تنتظر بفارغ الصبر الرقود بسلام ! إذن أحسن حل هو أن يُصْدِرَ الضوضاء خلف الدار ، و ليس أمامها ؛ و يكمن عند صف أشجار النارنج الكثيفة أمام الباب الخلفي للدار , فيتسنى له مواجهة القاتل من أي باب يخرج . كما أن مكمنه هذا لا يفصله عن طريق الإنسحاب غير الحائط الخلفي لدار القاتل . لماذا لم يفكر بهذا من قبل ؟ جيّد ! بقيت الأصوات المطلوبة لإستدراج القاتل ! هل يستخدم الحصى ، فيضرب به زجاج النافذة ؟ كلا ! قد يسترعي صوت تهشم الزجاج في سكون الليل إنتباه الجيران أيضاً ، فتكون الواقعة ، و تنتهي خطته بالفشل الذريع ، و ربما حتى بالسجن ! كما يمكن لزوجة القاتل أن تصرخ : "حرامي" ، فيتجمهر الجيران ، و و و ! طيب لماذا لم يأخذ هذا الإحتمال بعين الإعتبار من قبل ؟ القاتل رجل جبان لا يجيد غير القتل غيلة مثل كل من هم على شاكلته ، و لهذا فإن جباناً مثله لن يخرج له ليلا معرضاً نفسه للخطر . سيعمد إلى الطلب من زوجته أن تصرخ : "حرامي ، حرامي" ، فينتهي أمره ! كيف السبيل إلى منع الزوجة من الصراخ ، و إجبار القاتل الجبان على الخروج ؟ وجدتها ! لماذا لا يلعب دور حبيب زوجته فهمي ، و يناديها همساً من شباك غرفة النوم : "بست ! بست ! حبيبتي ! أنا حبيبك فهمي ، إفتحي لي الباب " ، فيسمع القاتل ذلك ، و يخرج ، و تصمت هي كي تواري سواد وجهها ، و يحصل هو على مراده ؟ أحسن خطة . متى سينفذ ؟ الليلة ! هل نسي أمراً لم يفكر به بعد ؟ نعم ! إنه صوت الطلقة الهادر في سكون الليل ! كيف يكتم الصوت ؟ لماذا لا يركّب مزماراً برأس مسدسه ؟ فكرة ! يخرج إلى حديقة الدار ، و يقطع منها قصبة ، و يصنع ثلاثة كواتم بأطوال مختلفة ، ثم يجرب كل واحد منها في مرافق الطابق الثاني لداره بعد أن يغلق الأبواب . يكتشف أنه كلما طالت القصبة المركبة بفوهة المسدس ، كلما كان الكتم أقوى . و لكن كيف السبيل إلى لصق القصبة بفوهة المسدس بإحكام ؟ يعود للحديقة ، و ينتقي غصن نارنج أسمك بأربعة أصابع من فوهة مسدسه . يقص من وسط الغصن قطعة بطول شبر . يجوّفها ، و يصنع منها وصلة أنبوبية بفتحتين متباينتي القطر ، تتلبسان بإحكام في فوهة المسدس من جانب ، و فوهة القصبة من جانب آخر . يجربها : ممتاز ! لا يعلو صوت إطلاق النار على صوت نقرة لإصبع على باب حديد ، ليس غير . تهدأ نفسه ، و يتذكر أخاه المغدور ، و ينتحب مرة أخرى !
بقي تحديد ساعة الصفر ! أفضل وقت هو بعد خمس أو ستة دقائق من دخوله الدار قبل أن يخلد القاتل المخمور للنوم . يخرج من داره متوجهاً لقطعة القصب الخلفية المهجورة كي يحسب المدة التي يستغرقها المسير الإعتيادي من داره إليها : عشر دقائق ! هذا كثير ! قد ينام القاتل المخمور فور دخوله الدار ! يقرر التسلل لدار القاتل قبل عودته إلى داره ليلاً ! و لكن ما هو موعد عودته ؟ يراجع المفكرة التي سبق له و أن سجل فيها مواعيد عودة القاتل مساء : بين الحادية عشرة و النصف و منتصف الليل . إذن فليتسلل داخل الدار في الساعة الحادية عشرة ليلاً ، و ينتظر متسمّعاً مجيء سيارته ، و صوت المنبه ، و فتح مصراعي الباب الخارجي ، و دخول السيارة ، و إطفاء المحرك ، و غلق الباب الخارجي ، و من ثم الداخلي . ثم يتربص خمس دقائق ، ثم يهمس ! ماذا سيفعل بعد التنفيذ ؟ هل يعود لداره القريبة من دار المنفذ به ؟ كلا ! سيعود مباشرة إلى مرآب سيارات النقل في ساحة الميدان ، و منها إلى كركوك ، و منها إلى قرية مرعي . و لكن ، لماذا لا يذهب لتكريت ، و يسجل حضوره صباحا عند شيخ عشيرته هناك بحجة جلب هدية العيد له ؟ فكرة معقولة !
يتبع ، لطفاً .



#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 13
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 12
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 11
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 10
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 9
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 8
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 7
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 6
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 5
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 4
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 3
- رجع الوجع / رواية بحلقات / 2
- رجع الوجع / رواية بحلقات
- كتاب الدرر البهية في حِكَمْ الإمبريالية الأمريكية
- رسالة من طفل عراقي إلى الرئيس بوش
- ملاحظات شخصية في الترجمة
- الحدّاد و القوّاد
- سيّد خوصة : المناضل سابقاً و المجاهد لاحقاً
- آخر أحكام رب العالمين في أهل العراق
- من أخبار شيخ الشط


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين علوان حسين - رجع الوجع / رواية بحلقات / 14