أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فتحي المسكيني - الإساءة إلى الذات الإلهية















المزيد.....


الإساءة إلى الذات الإلهية


فتحي المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 3519 - 2011 / 10 / 17 - 10:22
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ممنوع اللمس...هناك "ذات إلهية"... !


في تونس جلبة حول "الذات الإلهية". – إنّ أحدهم، في فيلم كاريكاتوري "إيراني-فرنسي" (كيف تمّ التحالف بين هاتين القوميتين الإمبراطوريتين ضد "الله" ؟)، قد تجرّأ على "تجسيد" الذات الإلهية، فتكلّمت لأوّل مرة بلسان سينمائي بشري غير مبين. والممثّل الذي دبلج الصوت وصاحب القناة التي عرضت الفيلم وكلّ من يشارك في الدفاع عن هذا الفيلم هو متّهمون الآن في عرضهم الديني وحسن نواياهم تجاه الربّ نفسه. ربّما لا يثير التجسيد في عقلية المسيحيين مشكلا كبيرا، لأنّ المسيحية هي في صميمها تجربة تجسيد الذات الإلهية بلا منازع. لكنّ المسلمين يفزعون شديداً من هكذا فكرة، فماذا لو أنّ أحدهم قد ترجمها في عمل "سينمائي" هو ضرب من تجسيد التجسيد: حيث ينضاف إلى تكليم الله أو تكلّمه عنصر "الصورة" المرئية و"الحركة" و "الزمان" البشري. لأوّل مرة تمّ "التشبيه" بوسائل "حديثة" وأصبح لدينا "مشبّهة" معاصرون. وفجأة تمّ إقحام "الله" في حظيرة النوع البشري من جديد بوسائل جمالية هذه المرة. – لكنّ الإله الإسلامي ليس كبقية الآلهة التوحيدية . فهو ليس "يهوه" (الذي لا يُنطق باسمه) ولا هو "المسيح" (الذي يبلغ في حبّه لنا إلى اتخاذ الجسد البشري صورة له). الإله الإسلامي "ملك" وليس "أباً": إنّه يتكلّم من وراء حجاب.
ولكن، إلى أيّ مدى يحقّ لأحدهم أن يزعم أنّه وكيل على حماية "الذات الإلهية" دون غيره من بني البشر ؟ وفي المقابل، باسم أيّ حجّة سلطة يمكنني أن أزعم أنّني أملك حقّا أصليا في أن أقول ما أريد حول "كائن" يعتقد غيري بشكل جذري أنّه مقدّس، أي يشكّل منطقة ممنوعة على أيّ نوع من التدنيس، ولاسيّما من طرف كائن "بشريّ" ؟
علينا الإقرار بأنّ منطقة "الله" قد أخذت تطرح مشكلا سياسيا خطيرا جدّا على السلم المدنية. وهذا ربما يحدث لأوّل مرة، لهذا السبب بالذات. أجل، كان الله مشكلا جديرا بالبحث والتساؤل في كل الثقافات والعصور. وهو يُعدّ بحقّ أنبل فكرة عرفها البشر في تاريخهم الطويل. وباسمه قامت شرائع، أي سياسات ذاكرة روحية طويلة المدى لعدد كبير من الجماعات الأخلاقية، بعضها نجح في ترجمة تلك السياسات الهووية في دول عامة سيطرت لأمد على ناصية تاريخ العالم، ووجّهت فكرة الإنسانية إلى حدّ الآن. ومن ثمّ وُجدت دول وإمبراطوريات وممالك تحمل اسم الله أو تستمدّ منه شرعيتها وبرنامجها الأخلاقي وحتى علومها وحواسّها الجمالية. ورغم أنّ الأزمنة الحديثة، باكتشافاتها العلمية وثوراتها الوجودية وإعلاناتها القانونية قد أحدثت شرخاً عميقا في أنماط الاعتقاد ودرجات الإيمان وآداب الرجاء الأخروي، وفرضت حدّا أدنى من النظرة "العلمانية" أو الدنيوية لكلّ مساحة الحياة اليومية باعتبارها ساحة عمومية للمعنى المشترك بين "المحدثين" بعامة –المحدثين بالانتماء التاريخي وليس بدرجة التقدّم الأخلاقي-، فإنّ الدين لم ينسحب من أفق المجتمعات المعاصرة، بل، وعلى نحو مدهش فعلا، هو ما لبث يستفيد من عثرات الحضارة الغربية، تقنية وقيماً وتاريخاً، لكي يرمّم خطّته الأخلاقية ويعيد ترتيب تقنيات الرجاء بحيث تستوعب تحديات الحياة الحديثة، الخاصة والعمومية، دونما خسائر عقديّة كبيرة.
لكنّ ما وقع وسوف يقع منذ الآن بفضل أو "بسبب" الثورات ما بعد الحديثة في بلداننا، (وهي "ما بعد حديثة" لأنّها حدثت خارج نطاق حروب التحرير وبرامج دول الاستقلال التي وعدت شعوبنا يوما ما وعلى حين غرة بكلّ وعود الحداثة دون أن تستطيع الإيفاء بها) هو تحوّل فكرة الله إلى منطقة مدنية محرّمة على غير المؤمنين بها. فماذا يحدث لنا ؟
يبدو أنّ الحرية المدنية فكرة خطيرة جدّا، ليس لأنّنا لا نستحقّها، بل لأنّ الاستعمال العمومي للحرية إنّما يفرض علينا رفع تحدّيات أخلاقية غير مسبوقة. بعضنا لازال يعوّل على التسامح؛ وبعضنا أخذ يعوّل على آداب الحوار. التسامح قيمة دينية لم تثبت جدواها حتى بين المؤمنين بدين واحد إلاّ قليلا؛ وتتطلب ضربا من التقوى ما فوق الدينية لا يبدو أنّ الإنسان الحديث، هذا الحيوان الاستهلاكي والإشهاري والمتعجّل في كل شيء، يتوفّر عليها أو يملك وقتا كافيا للتدرّب على امتلاكها في أمد منظور؛ أمّا الحوار فهو فعالية عمومية وفعل إنجازي حديث العهد وهشّ حتى على مستوى نظري، وعلى كل حال هو قيمة مدنية لم تساهم دول الاستبداد في تمرين شعوبها أو مثقفيها على تملّك شروطه، بل عملت لمدة طويلة على جعله يبدو في عيون محكوميها بمثابة جنازة رسمية هزلية لتشييع الرأي الحر إلى مثواه الأخير.
هل كانت الثورات خطأ أخلاقيا ؟ هل أساءت الشعوب تقدير العواقب المدنية للثورة على الحاكم الهووي، الذي كان يؤمّن كلّ شيء، حتى الأوهام الدينية المناسبة، وبجرعات صحية طويلة المدى ؟ هل كانت الدكتاتورية أنسب من أيّ حلم ديمقراطي من أجل أنّها أقدر على الحفاظ على شروط السلم الأمنية بين المؤمنين و"غير المؤمنين" ؟
من الخطير جدّا أن نظنّ ظنّ السوء بهذه الثورات النبيلة وغير المسبوقة لشعوب انتظرت طويلا بل أطول من اللازم كي تسترجع حقّا الطبيعي في الحرية المدنية، وعلى كل حال هي قد دفعت ثمنا باهظا من الشهداء والخسائر المعنوية على صعيد حياة جيل واحد. ويكفي هذه الشعوب فضلا أنّها نجحت في إعادة فكرة الثورة إلى الاشتغال على مستوى الإنسانية المعاصرة، وليس ببعيد أن تتغيّر قبلة التحرّر على مستوى عالمي، ويأخذ الغربيون العاديون في النسج على منوال شعوب كانوا يظنّون أنّهم تجاوزوها على الصعيد الأخلاقي بلا رجعة. ثمّة خبّر سارّ غير مسبوق في هذه الثورات: إنّها ولادة الشخص الإنساني كمشكل مدني جذري، لأوّل مرة، وليس كمخلوق توحيدي أو حتى كمواطن لدولة قانونية حديثة.
لقد نقلتنا هذه الثورات من طور المواطنة القانونية القسرية لدولة هووية حديثة، إلى طور الشخصية المدنية الحرة التي تمتلك حقّا ثوريّا في المشاركة الجمهورية في اختراع المصير، وهذه المرة، ليس المصير الذي يحتكره "حزب" يستمدّ شرعية تاريخية أو سردية قاهرة من حرب تحرير خاصة بجيل بعينه، بل المصير الذي لم يعد يقبل بأيّ نوع من الشرعية التاريخية أو السردية، من فرط أنّها مصير مدني صرف. وإنّه على هذا المستوى فقط يحقّ لهذه الشعوب أن تطرح مسألة الديمقراطية باعتبارها استحقاقا مدنيّا بحتا، لا فضل فيه لأحد، لا لعلماني ولا لأصولي، إلاّ بالتقوى المدنية.
إنّ الديمقراطية هي نوع الحرية المدنية الوحيد الذي لا يهمّه التقابل بين العلماني والديني، ولا يكترث لأيّ خصومة إيديولوجية بين الأحزاب أو الجماعات أو الأفراد. إنّها كلّها من رواسب أشكال سابقة من الدول، أكانت دينية أو قومية أو شيوعية. إنّ الدولة المدنية هي عنوان بلا أيّ مضمون هووي جاهز. ويخطئ الليبراليون حين يعتقدون –كما يفعلون- أنّ معركة الحرية المدنية محسومة سلفا لصالحهم، بناءً على أنّ الحرية المدنية هي في صميمها قيمة ليبرالية حديثة. فليس المدنيّ ليبراليا بالضرورة. وذلك لأنّ المدني شيء، والقانونيّ شيء آخر. القانوني اكتشاف حقوقي حديث، أمّا المدني فهو يضرب بجذوره إلى اليونان، وإلى ما هو أبعد. نحن نعيش معاً، لكنّنا لا نعيش سويّة. ربما يكون القانون الحديث عادلا، لكنّه ليس بالضرورة منصفًا. إنّه بنيته الصورية في واد، ومضمونه الأخلاقي في واحد آخر.
من أجل ذلك علينا المسارعة بالإقرار بأنّ أصل خلافاتنا اليوم حول الدين ودوره في بلورة استحقاقات الثورات العربية الراهنة ليس شيئا آخر سوى الغموض الذي يكتنف فهمنا الحالي لمعنى الحرية المدنية، وبالتالي لطبيعة التحدّي الذي تثيره الديمقراطية في فضاءاتنا العمومية. وهي لا تزال عمومية، ولم تصبح مدنية بعد. إنّ العمومي هو اختراع الدولة الحديثة من حيث هي دولة قانونية صرفة، ولا تفهم المسائل المدنية، أي مسائل السلم الأخلاقية بين أبناء الوطن الواحد، إلاّ بقدر ما تفلح في اختزالها في مجرد مسائل أمنية، وحيث يؤدي القانون دور التغطية الشرعية فحسب.
لذلك فمن يعترض على استعمال "عمومي" معيّن لمنطقة الدين أو لطقوس نسكيّة أو لتقنية رجاء أو لزيّ طائفي، هو يماثل في طبيعة الموقف كلّ من يعترض على استعمال "عمومي" معيّن للحريات الشخصية أو للآراء الذاتية أو للموضات الجمالية أو للقناعات السياسية أو لتصوّر خاص لقيم الخير أو آداب السعادة أو سياسات الهوية أو الجنوسة أو الأقليّة، ...الخ. –فكرة "الاعتراض" نفسها هي علاقة عمودية واستبدادية. وعلينا أن نقول: هي علاقة "تأليهية"، أو صادرة عن تصوّر دفين للألوهية. وهذا هو بيت الداء.
ليس "الله" فكرة عادية في أيّ ثقافة. بل هو رمز مطلق لكلّ ما هو أبوي وأوّل ومذكّر وفوقي ورئيسي ورعويّ. وكلّ ما هو عمودي هو إلهي. وهي فكرة ميتافيزيقية قد تكون مرتبطة بطبيعة موقعنا في جغرافية الكوكب أكثر منها ناجمة عن إبداع حضارة ما. ومن يعترض على أفكار غيره هو يمارس عليه علاقة عمودية وأبوية ومذكّرة وقضيبية وجنسية وفوقية ورعوية...الخ. وعلينا أن نسأل: إلى أيّ مدى يمكننا الاطمئنان إلى المواقف "التأليهية" ؟ أي التي تستمدّ أصالتها أو شرعيتها من علاقة عمودية باسم مفارق ما ؟ فكلّ من يحرّم على شخص ما قيمة من القيم هو يلعب بالنسبة إليه دور "الله" نفسه. لكنّ الله وحده هو السلطة الأخيرة "للحكم" على قيم الكائنات البشرية مهما كانت. وحسب فكرة "الله" أنّها ساعدت الإنسانية على التحرّر من نفسها والبحث عن أفق معياري لوجودها في العالم خارج كلّ أشكال العدالة الأرضية. لكنّ ما كان قد استُعمل للتحرّر من طغيان الأرض قد وقع استعماله ضدّ الأرضيين لحرمانهم من حريتهم الأصلية في تقرير مصيرهم الميتافيزيقي. وفجأة تحوّل الله إلى سلطة، بعد أن كان تقنية رجاء رائعة وغير مشروطة بأيّ مؤسسة بشرية جاهزة.
إنّ تجريم العقول أو القيم أو المواقف الإبداعية هو مجرد استعمال عمودي ورعوي لفكرة الحرية. وذلك نتيجة تصوّر عمودي ورعوي لفكرة "الله" نفسها. لكنّ الله ليس عموديا أو رعويا إلاّ في أذهان البشر. فهم لا يعرفون بحكم طبيعتهم البشرية من معنى للسلطة المقدّسة إلاّ ما هو مذكّر وفوقي وعمودي، الخ. ربما كان هذا راسبا توحيديا قاهرا. عبّر عن نفسه في آلة تأنيب الضمير المسيحية؛ وهو يعبّر عن نفسه لدى المسلمين مثلنا من خلال آلة تكفير العقول. وإذا كان تأنيب الضمير مشكلا باطنيا وشخصيا جدّا، فإنّ تكفير العقول هو مشكل خارجي وجماعيّ جدّا. نحن ذوات "خارجية" إلى حدّ الندم. وهذه "الخارجية" أصلية وليس عارضا سياسيا. وكلّ من ينظر إلى هويته على أنّها في جوهرها بنية خارجية وعمومية لنفسه هو يفرض علينا طريقة مدنية خاصة للتعامل معه.
من أجل ذلك لا معنى لأيّ دفاع ليبرالي أو علماني عن حرية التعبير إلاّ في نطاق مجتمع ذي أصول مسيحية. فهذا موقف لن يكون سليما وسائغا ومنشودا إلاّ في نطاق مجتمع "حديث"، أي قائم على علمنة عمومية للقيم المسيحية بواسطة القانون. وهذا ما لم يقع في المجتمعات المسلمة ولن يقع. ولذلك على المفكّرين والمبدعين عندنا أن يبحثوا بكل قوة عن طروح أصيلة لهذه المشاكل والتفكير فيها بكل شجاعة من الداخل مهما كلّفهم ذلك من التعرّض إلى الصدام الأخلاقي والوجودي والمدني والحيوي مع كلّ من يعترض على حقّهم الكوني في الاجتهاد الكبير للحرية: اجتهاد المصير.
ولكن لنحترس من أيّ دفاع عمودي ورعوي عن الحرية تجاه فكرة الله أو تجاه أنفسنا. لا يكمن الفرق الخطير بين طرف علماني وطرف ديني، بل بين حرية وحرية. حرية لا تزال استبدادية وعمودية وفوقية ورعوية؛ وحرية نجحت في التحوّل إلى علاقة مدنية وأفقية بنفسها وقوة تشكيلية وإبداعية مفتوحة. وهذا ينطبق على فكرة "الله": نحن البشر ليس لنا الحق في الدخول في علاقة مباشرة مع أيّ كائن اسمه "الله"، بل فقط نحن يحقّ لنا دوما أن نجعل لأنفسنا إلها ما نجلّه أو نقدّسه أو نعبده أو نفكّر فيه. وهذا بحكم طبيعتنا البشرية وليس بسبب أيّ تدخّل خارجي في ضميرنا العميق. ولذلك ليس ثمة تصوّر واحد لفكرة "الله": هناك فكرة عمودية وسيئة وفوقية واستبدادية وارتكاسية عن معنى الله؛ وهي لم تعد صالحة للاستعمال العمومي، وصارت خطرا على السلم المدنية. وهناك بالتأكيد فكرة أفقية وتشكيلية وحرة ونشطة وفاعلة وإقرارية عن الله، وهي لاشكّ مناسبة ومطلوبة لتحقيق الحرية المدنية. ولذلك كان الله أيضا أحد عناوين الثورة. ولم ينكر ذلك أحد على أحد حين نزلنا إلى شوارع الاحتجاج ضد الحاكم الهووي.
ولأننا بشر جميعا، فلا أحد يحقّ له أن يزعم أنّه يملك حقّا متعاليا في تقسيم البشر إلى مؤمنين و"غير مؤمنين". – لا أحد يمكنه أن يدّعي أنّه مفوّض لمحاكمة أيّ شخص حول ضميره أو حرية معتقده أو صدق مشاعره الدينية. هذه مرحلة مظلمة من تاريخ أنفسنا القديمة قد ولّت. وكلّ من ينشّط آلة تكفير العقول أو تفتيش الضمير هو حيوان سياسي عدمي بلا أيّ أفق مدني طويل المدى. وعلينا أن نعترف: أنّه لا وجود أبدا لأيّ ملحد حقيقي بيننا. ما يُسمّى "الإلحاد" هو مجرد موقف أخلاقي أو وجودي داخل أفق الدين وليس خارجه. هو نوع من الغضب الديني المتنكّر الذي لم يجد شكل التعبير المناسب عن دلالته أو نوع الحرية الذي ينشده. وحسب نيتشه، فإنّ الإلحاد خاضع هو بدوره إلى سطوة المثل العليا النسكية. ليس هناك ملحدون، بل فقط مؤمنون على نحو مغاير. أو بعقائد حرية مغايرة. وينبغي على الجميع احترام أيّ شكل من الإيمان المغاير لإيماننا. وذلك أنّ جوهر الإيمان البشري واحد: إنّه التعلق بأفق رجاء قادر على مساعدة البشري على تحمّل ما يفوق طبيعته المتناهية، لا غير. ومن يحق له أن ينكر على أحدهم حقه في تقنية الرجاء التي يرضاها لنفسه ؟
من أجل ذلك، فإنّ أصل المشكل هو هذا: إلى أيّ حدّ يحق لأحدنا أن "يحاكم" الآخر باسم منطقة أخلاقية مفارقة دون غيرها، سواء سمّاها "الحياة الخاصة" أو سمّاها ثوابت "الهوية" ؟
الجواب: نعم يحقّ له "إلى حدّ ما"...وهذا الحدّ هو المشكل.
هناك حدّ ما بين الاستعمال "القانوني" للحرية وبين الاستعمال "المدني" لها: لا نعني بذلك الفكرة التقليدية للوسطية. فما هو "وسطي" ليس بالضرورة متوسّطا. إنّ الوسطي قد يكون أصعب من الأقصى، لأنّ ادّعاء الهويات القصوى أيسر من خوض معارك تفصيلية حول حرية اختيارنا لمن نكون. الوسط توازن عسير بين حريّتين. والحدّ الذي يثيره النقاش حول أحقّية الإساءة باسم الحرية الخاصة هو يوجد في مكان ما، منطقة وسطى بين نمطين من المشروعية، كلّ منهما هو الطرف الأقصى من حرية الآخر. نحن دوما الحد الأقصى من حرية غيرنا. والحديث عن الوسطية لا يعني ما يقول، إذا كان يقصد بذلك أن ندفع كلّ نوع من الحرية إلى التنكّر إلى طبيعته وأصالته الخاصة. لأنّنا عندئذ لن نجد أحرارا حقيقيين، بل ممثّلين سيّئين لحياة عمومية بلا مواطنين. وذلك كان حلم الحاكم الهووي.
أمّا بعد الثورات ما بعد الهووية، أي ما بعد أحلام الدولة /الأمة الحديثة، فإنّ الحرية المدنية قد صار لها مذاق آخر. إنّها ملكٌ لنوع جديد من المتحررين. وهو جديد لأنّه لم يعد يقوم على التفريق "الأنواري" بين حديث وما قبل حديث، بين "كنسي" و"علماني"، الخ. والذي انجرّ عنه التمييز الليبرالي بين "حياة خاصة" (حيث يحق للشخص أن يواصل مشاعره الدينية بطرق أخرى) وبين "حياة عمومية" (حيث تشرف الدولة على استعمال قانوني للانفعالات السياسية). – إنّ الجديد هو أنّ الحياة الخاصة قد أفلتت من التزاماتها الشخصية وتخلّصت من عقالها الأمني، ودخلت في تماسّ خطير جدّا مع الحياة العمومية. وفجأة لم يعد ممكنا لأحد أن يستعمل القانون لإعادة الحياة الخاصة إلى داخل حدودها.
لم يحدث هذا لأنّ مجتمعاتنا تحتوي على جماعات أصولية أو على أحزاب دينية. بل لأنّ نموذج السيادة الذي قامت عليه الدولة/الأمة نفسه قد انفجر من الداخل. ومن ثمّ ضعفت ضوابط التماس بين الحياة الخاصة والحياة العامة بشكل غير مسبوق. وفي المقابل، يمكننا الافتراض بأنّ مجتمعاتنا مؤهّلة أكثر من المجتمعات الغربية مثلا لخوض تجربة الحرية المدنية، من أجل أنّها لم تعرف حقّا في تاريخها غير مسوخ خارجية عن الفصل اللبرالي بين حياة خاصة وحياة عمومية. نحن عشنا دوما في مجتمعات "الجماعة"، ولم تكن دول الاستقلال اللبرالية غير قوس تاريخية قصيرة جدا، ولم تحقق لنا غير مكاسب قانونية ومعيارية هشة.
وفي حين أنّ الغرب يمرّ من "العمومي" الحديث إلى "المشترك" ما بعد الحديث والمعولم، نحن نعيش انتقالا عسيرا من "الجماعوي" إلى "المدني". وإنّ فشل دول الاستقلال يكمن خاصة في أنّها لم تعمل أبدا بشكل صارم على ترجمة "الجماعوي" العميق لشعوبنا (الموروث عن تاريخ الملة الطويل) في شكل حياة "عمومية" ذات مؤسسات راسخة (حديثة). ولذلك فالثورات الراهنة لم تفعل غير تعرية السطح الأخلاقي الذي تقف عليه شعوبنا، وإقحامنا فيه دون أيّ تحضير مناسب.
لذلك فإنّ أيّ صدام معياري بين الجماعويين والليبراليين بيننا هو حالة صحية وليس مرضا عضالا. نحن معرّضون بشكل جذري لمثل هذه الصدامات الأخلاقية لأنّ الحرية المدنية، وهو المكسب الأكبر لثوراتنا، هي لا تزال مولودا جديدا، ويحتاج إلى تمرين وجودي وخلقي طويل المدى. والجميع دون استثناء مطالب بالدخول إلى المدرسة المدنية لإتقان فن المشترك بين أعضاء مدنيين لئن كانوا يختلفون في التقويم فهم متفقون على الحرية.
أجل، في كلّ مكان، وتحت مسمّيات وسياقات مختلفة، قد ينفجر خلاف مبدئيّ حول منطقة الله أو حول واقعة الانتماء إلى عقيدة ما أو حول درجة التحرر في تناول العقائد أو حول أحقية المثقف أو حتى الشخص العادي في مناقشة قضايا عقدية تثير قلقا خاصا أو ربما نوعا ما من الإساءة أو الجرح النرجسي لدى هذا الطرف أو ذاك،- لكنّ هذه "الحوادث" الدينية طبيعية جدا، وتتطلبها تجربة الحرية، ولا تحتاج أي حياة مدنية إلى تدخل خارجي حتى تنخرط فيها.
نحن نقول "حوادث" بشكل مقصود. فهي ليست "أحداثا" بالمعنى التاريخي. إذ هي لا تؤسس شيئا. ومع ذلك هي أمارات على أنّ مجتمعاتنا على باب تحوّل أخلاقي واسع النطاق: لم يعد يمكن لأيّ طرف أن يزعم أنّه خارج دائرة المحاسبة المدنية عمّا يقول أو يفعل أو يرجو في مسائل الدين في نطاق الوطن الذي ينتمي إليه. ولا يتعلق الأمر بالله أو الرسل أو الكتب المقدسة أو الأماكن الحرام فحسب. بل كلّ ما يعتبره شعب ما جليلا أو موضوعا للإجلال، فهو ملك للضمير الإنساني الكوني، وليس غرضا أدبيّا أو فنّيا عاديا. لكنّ ذلك لا يجب أن يمنع أحدا من التفكير فيه بشكل حر تماما، أو من تحويله إلى أثر فني أو نظري، أو هذا العمل على التحرر من تصوّر بالِ ومضرّ له.
فليس المشكل في الإبداع نفسه، بل في الاستعمال "العمومي" له. وذلك أنّ كل ما من شأنه أن يعرّض السلم المدنية إلى الخطر، هو خطير. وينبغي التعامل معه على هذا الأساس. طبعا، لا يحقّ لأحد أن يمنع مجتمعاً حرّا من التجريب على نفسه لكلّ أنواع الخطر. وأكبر تلك الأخطار هو تجريب الحرية. وعليه فإنّ السلفيين الذين يريدون أن يفرضوا على المعاصرين، المشاركين لهم في الوطن، حدّا معيّنا من التحرّر إزاء المقدّسات، هم محقّون في إرادة الانضباط في مسائل الدين، ولكن ليس لأسباب سلفية أو لاهوتية، بل لأسباب مدنية صرفة. إنّ الاستخفاف بفكرة الله وتحويلها إلى كاريكاتور لئن كانت بوجه ما ضربا من الفنّ ناجما عن حرية تعبير علينا احترامها دائما لأنّها حق دستوري، فإنّه في نفس الكرّة تهديد مباشر للسلم الأخلاقية بين الناس، ومن ثمّ يمكن أن يعرّض الحياة المدنية كلها إلى خطر الحرب الأهلية. وليست كلّ الحروب الأهلية سيّئة، فبعضها ضروري لتحقيق الحرية التاريخية للشعوب.
بيد أنّه لا أحد له حقّ أصلي في حريته المدنية، كأنّه كائن يعيش بلا آخر. وحدها حالة الطبيعة الخارجة عن أيّ دستور مدني، يمكن أن توفّر مثل هذا الحق الحر من كل التزام عمومي، سواء في الحريات الشخصية الفردانية الجذرية أو في اعتناق الشعائر الرعوية للأديان القديمة التوحيدية وغير التوحيدية.
وهكذا فإنّ الله مثلا ليس معبودا خاصا بفئة تعاني من التأقلم مع المكاسب الأخلاقية والوجودية للحداثة؛ كما أنّ الجسد الخاص ليس مجرد شهوة نزّاعة إلى الخطيئة أو إلى الزنا. بل كلّ ما يدخل في مساحة الإنسان فهو منه. ومساحة الإنسان فينا قد ظلّت إلى حدّ الآن تعوّل على فكرة الله التوحيدية كي تؤسس الحضارة وتخترع سيرة خاصة في حفظ النوع والمساهمة في تعمير الأرض مع بقية أعضاء الإنسانية. وليس في هذه السيرة أي خطأ أخلاقي فادح، إن لم تكن أدباً عاليا لتأمين انتماءً نبيلا إلى فكرة الإنسانية. لكنّ السلفية ليست وصية على أيّ استعمال لفكرة لله في عقولنا أو في مشاعرنا أو في إبداعاتنا البشرية. ومن يدّعي أنّه وصيّ على منطقة الله في وعينا هو أفظع من أيّ حاكم هووي أو مستبد شرقي أو دكتاتور حديث. إنّ السلفي محقّ في شيء واحد: أنّ منطقة الله خطيرة جدا، وأنّ الفشل في تأمين استعمال عمومي مناسب لها سوف يؤدي إلى حوادث عمومية قد تلحق أشد الأضرار بالسلم المدنية.
وبما أنّه ليس ثمة حل جاهز للمستقبل، بل فقط تجريب متواصل على إمكانية الحرية المدنية، بوصفها الشرط الوحيد للنجاح في امتحان الديمقراطية،- علينا أن نقول: إنّه لا يمكن أن نطلب من الحرية إزاء العقائد إلاّ ما يمكن للشعوب أن تتحمّله من دون أن تدمّر شروط السلم المدنية. ولذلك فإنّ المهمة الحقيقية العاجلة ليس الحرية بل التدرّب المضني على استحقاقها بشكل شخصي. أمّا حماة العقائد فهم بالتأكيد لا يدافعون عن الضمائر الحرة بل عن ضرب معين من الاقتصاد في الاعتقاد، ولا نظنّ أنّهم يفعلون ذلك حماية للسلم المدنية، بل بناء على قناعة إيمانية صادقة. لكنّ الصدق ليس قيمة مدنية بالضرورة. والسؤال هو: كيف ننجح في نفس الوقت في ترجمة الحرية الشخصية في سلوك مدني قادر على التعاون والتضامن مع قناعة إيمانية صادقة، وذلك من أجل ترجمة هذه القناعة الإيمانية إلى قيمة مدنية قابلة للاستعمال العمومي من دون تعريض السلم المدنية إلى الانفجار ؟
كيف يمكن أن نحرّر فكرة الله من أيّ إساءة عمومية لها إذا كنّا نسمح لفريق معيّن بأن يستخدم تلك الفكرة كمصدر لشرعيته ؟ كيف نحمي شخصية الرسول من أيّ تجديف عليها إذا حوّلها طرف ما إلى وجه انتخابي قابل للتوظيف في قضايا غير دينية أصلا ؟ وفي المقابل، كيف ندافع عن حريتنا الشخصية إذا ما كنّا نسمح لأنفسنا بسلوك عدمي أو كلبيّ ينتهي لا محالة إلى تدمير القيم الإنسانية التي تعيش عليها مجتمعات بأكملها ؟ كيف ندافع عن حرية تعبير لا تعبّر عن طاقتها الإبداعية إلاّ بتدمير المقدّس ؟ ولكن أيضا إلى أيّ حدّ يمكننا التمتع بحرية مدنية غير قادرة على الإساءة لأحد ؟
يبدو أنّ تدبير الحرية أصعب من جميع الثورات.



#فتحي_المسكيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في أخلاق العبيد ´- فريدريك نيتشه
- بيوغرافيا البؤس
- بيان الشهداء قصيد
- هوية الثورة (1)
- الثورة والهوية أو الحيوي قبل الهووي
- الثورة والهوية
- قصائد إلى الياسمين المحرَّم
- قصيدة الأرض
- قصيد القيامة أو نشيد الإله الأخير
- شفة تحمرّ من خزف ونار
- سارتر -كان معلّمي-
- الغيرية والاعتذار أو الفلسفة ومسألة -تحريم الصور-
- نثر في حديقة نفسي ، بعد ألف سنة مما تعدون


المزيد.....




- ” نزليهم كلهم وارتاحي من زن العيال” تردد قنوات الأطفال قناة ...
- الشرطة الأسترالية تعتبر هجوم الكنيسة -عملا إرهابيا-  
- إيهود باراك: وزراء يدفعون نتنياهو لتصعيد الصراع بغية تعجيل ظ ...
- الشرطة الأسترالية: هجوم الكنيسة في سيدني إرهابي
- مصر.. عالم أزهري يعلق على حديث أمين الفتوى عن -وزن الروح-
- شاهد: هكذا بدت كاتدرائية نوتردام في باريس بعد خمس سنوات على ...
- موندويس: الجالية اليهودية الليبرالية بأميركا بدأت في التشقق ...
- إيهود أولمرت: إيران -هُزمت- ولا حاجة للرد عليها
- يهود أفريقيا وإعادة تشكيل المواقف نحو إسرائيل
- إيهود باراك يعلق على الهجوم الإيراني على إسرائيل وتوقيت الرد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فتحي المسكيني - الإساءة إلى الذات الإلهية