أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح كنجي - مهمة خاصة في زمن الحرب ..















المزيد.....

مهمة خاصة في زمن الحرب ..


صباح كنجي

الحوار المتمدن-العدد: 3518 - 2011 / 10 / 16 - 18:57
المحور: الادب والفن
    


مهمة خاصة في زمن الحرب ..
إلى الصديق فرات المحسن ..

قلقُ خالد وتوتره يزدادُ عكس الطلبة الذين يفرحون ويقيمون الولائم والعزائم في لحظة التخرج.. بدأ يتوجسُ ويتحسَبُ للأيام القادمة مع اقتراب يوم تجنيده. لازمه الضجر والانزعاج من جراء التفكير المتواصل بما لا تحمد عقباه.. أبواب الحرب المفتوحة الدائرة من سنتين ستستقبله كضابط مجندٍ بعد أيام حال مغادرته مدرج الجامعة التي ستمنحهُ شهادة تنهي علاقته بمرحلة مهمة من حياته..
في لحظة فاض فيها خياله لام نفسهُ.. كان عليّ أن أعيد السنة.. أنْ افتعل أية قضية كي لا انهي دراستي وأمددها سنة أخرى.. أنا مجنون.. أحمق.. غبي.. وتمتم سنة رسوب واستمرار بالدراسة.. ولا هذه النجمات التي يترافق معها كل هذا القلق والخوف..
مازلتُ مدنياً.. لكنّ هاجسَ الموت والعذاب يرافقني من الآن.. القلق المركب من احتمالات التدقيق والبحث عن الهوية والاتجاه الفكري.. يُدرك بيقين حجم الخطورة في الجيش والموقف الصعب عند الاشتباه بهِ.. انه الوحيد من دفعته لم يكن منظماً في صفوف حزب السلطة.. الأنكى منها أن جميع أقربائه معارضة بينهم من يقود حرب الأنصار في الجبل..
يا..ه.. ه.. ه.. ه.. ه... قالها بجزع.. بعد أن زفر طويلاً واصل معنفاً نفسه من جديد.. أنا غبي.. غبي للغاية.. عليّ أن أدفع ثمن غبائي.. لم يعد هناك وقت للعبث.. غداً سأرتدي ملابس الخاكي.. سأكون رقماً من أرقام هذه الحرب اللعينة.. انه اليوم الأخير بين البشر والناس.. في الغد سيكون أمري مختلفاً.. الحرب تحول الجيوش إلى كائنات لا علاقة لها بالبشر تتوقف عند إحصاء عدد حالات القتلى والموتى..
الموتى في الحرب هم البشر.. وما عداهم.. الأحياء المتناطحين بالسيوف والمتراشقين بالدبابات والصواريخ.. ليسوا إلاّ أعداء يجب سحقهم وقتلهم وسفك دمائهم وتدميرهم.. يصنفون ويلقبون بالحشرات والديدان يستوجب التخلص منها.. بهذه اللغة سيتحدثُ في الغد.. من أين لروحه أن تستكين.. كاد أن ينفجر.. لكنه استدرك منتبهاً.. انه مازال في مقهى.. أمامه قدح شاي بارد .. عاد من شروده.. لام نفسه من جديد.. حين همّ بالخروج انتبه لشخص ما يرتدي ملابس زيتونية اللون يتأمله.. يٌحَدِقُ به متفحصاً.. قرر تغافله.. مشى يخطو مغادراً..
عند الصباح حمل حقيبته الصغيرة.. ليتوجه نحو قاعدة الوليد العسكرية في جوف الصحراء القاحلة .. كانت ناقلة زيل عسكرية تنتظرهُ.. صعد إليها.. جلس بصمت بين عدد آخر من المحشورين في علبتها مع حقائبهم وحاجياتهم الشخصية.. بعد ساعة من سير في طرق ترابية توقفت ناقلة الزيل أمام بوابة النظام لتدخل دفعة المجندين الجدد من خريجي الكليات وتقذف بهم في ساحة العرضات كالغنم ليوزعوا على الجملونات ويقسموا إلى مجموعات للتدريب والإعداد القتالي..
تم تنسيبه مع مجموعة فصيل الإدارة للإشراف على إعداد الطعام ومخازن تموين الفرقة .. أصبح النقيب قاسم أول ضابط يتحكم بمصيرهم .. يأمرهم ويقرر برنامج العمل والتدريب.. يحدد لهم ما يجوز.. وما لا يجوز .. شكل الطعام ونوعه.. لا بل كانت صلاحياته العسكرية تمنحه حق إذلالهم وتحقيرهم بحكم تقاليد الجيش التي تفرض على المجند الخنوع والخضوع ولا تبيح المناقشة وإبداء الرأي في الظروف والأوضاع الطبيعية.. فكيف هي إذاً مع الحرب التي أوارها يشتد وسعيرها يحتد..
تقرير واحد من النقيب قاسم.. أوْ أيّ ضباط غيره كفيل بنقل المجند خالد والآخرين لخطوط المواجهة الأمامية ليعانقهم الموت من أول لحظة.. يا لهذه الصلاحيات التي تمنحُ النقيب قاسم حقّ التحول لعزرائيل يدفعُ بالمجندين كما يشاءُ من غير حسابٍ كأنه صاحب العرش يتحكمُ بمصير العباد في هذه البلاد بمباركة الجلاد ..
كاد خالد أن يفقد روحه.. شعر بالتلاشي.. من بداية يومه يستمعُ للمزيد من النصائح والتوجيهات والتحذيرات التي يطلقها النقيب قاسم.. لكنّ الأخطر من كل هذا.. تلك العيون التي أبت أن تبتعد عن وجه خالد.. والنظرات الحادة المتفحصة التي تنطلقُ منها سهام النقيب قاسم لتخترق كيانه وتوخز روحه لتباشر فعلها التدميري المنتج للرعب..
يا لها من مصيبة.. قالها أكثر من مرة مع كل نظرة من النقيب كانت تتمحور لتتجه نحوه وهو يحاول غض النظر عنها لكنه لم يفلح فقرر هو الآخر متابعة النقيب بنظرات تحدي تدقق الموقف .. عسى ولعل أن يكتشف السر الكامن خلفَ شعاع هذه النظرات المرعبة التي كادت أن تحرقهُ.
بعد الاستعراض طلب النقيب قاسم من خالد ومجموعة المجندين أن يتبعوه قادهم إلى المطبخ ليوزع عليهم المهام.. أنت تشرف على الطبخ.. أنت على التنظيف والغسل.. أمّا خالد فسيكون معي لمتابعة المخازن والثلاجات.. من اليوم ستكونون انتم المسئولين عن كل ما يحدث في قسم الإدارة.. عليكم تنفيذ التوجيهات والقرارات بلا تردد أو مناقشة.. أريد أن اسمع عنكم ما يَسرُ .. أحذروا التقصير.. العقوبات في العسكرية جاهزة.. المجاملات غير واردة.. القسوة سائدة.. الروح زائلة.. الندم بلا فائدة..
في الطريق إلى المخازن تفاجأ خالد بما لا يُسّرُ.. قال لهُ النقيب قاسم بعد أن أصبحا لوحدهم بلهجة صارمة..
ـ اسمع يا شيوعي.. ما أريد منك أي خطأ.. ستكون معي وتحت مراقبتي.. أية زلة منك ستؤدي بك للتهلكة وتجلب نهايتك.. وصلت معلومات مع ملف تجنيدك تفيد أن معظم ذويك مع المعارضة في الجبل.. إيّاك .. إيّاك أن تنسى انك في الجيش.. هذه عسكرية وما فيها لعب..
صدمته صراحة النقيب قاسم وتحذيراته... حاول أن يستشف منها موقفاً لكنه كان مذهولاً من وطأة وتأثير صدمة رافقته طوال نهار وليل جفاه النوم.. بقي يتقلب في فراشه ساهراً لا يدركه النعاس لغاية الفجر.. حينها نهض ليبدأ بتنفيذ الواجبات المكلف بها قبل التدريب.. بالرغم من التعب والإرهاق الذي تغلغل في ثنايا جسده واخترق عظامه ليلامس روحه.. مع ذلك واصل في تعقيب واجباته.. هكذا قضى يومه الأول.. بعدهُ مرقت أيام الأسبوع تتوالى ليحل بعدها أسبوعا ثانياً يداور أيامه تكررت فيها لقاءاته بالنقيب قاسم وأصبحت علاقته به في حدود الواجبات التي يكلف بها.. لكنه كان واثقاً أن النقيب قاسم يتابعه ويدقق خطواته بطريقة ما لم يكتشفها.. لذلك كان حريصاً في تنفيذ واجباته كآلة صماء.. يأتي ويذهب في طريقة غير آبه بالآخرين..يتجنب الخوض في مناقشات معهم.. لا بل كان يحرص على أن لا يحييهم إلا عند الضرورة..
قبيل نهاية الشهر.. عند منتصف الليل.. انفرد به قاسم ليطلب منه طلباً غريباً وهم في مخازن التموين... غداً ستكون وجبة الغذاء دجاج.. اخرج الدجاجات المجمدة من الآن.. اتركها لتتحلل وتتفسخ .. بعدها انتقل معه إلى صناديق الموز والبرتقال.. طلب فرز الموز والبرتقال الجيد والإبقاء على الرديء منها.. طلب من خالد إلقاء الفاكهة الجيدة في الزبالة مع الأوساخ..
في اليوم التالي.. أثناء تناول الطعام استمع للكثير من المجندين يتأففون من سوء الطعام ورائحة الطبخ الكريهة.. قال احدهم يبدو أن الدجاج قد تعفن في المخازن قبل طبخه بسبب قطع التيار الكهربائي من جراء التغطية الحربية والتمويه لغارة طائرات معادية كانت تستهدف الدجاج في الثلاجات.. وقال آخر أشم رائحة جيفه من المرق.. وثالث تندر معللاً السبب بالحر...
تكرر واجب خالد بين الحين والآخر.. كان النقيب قاسم يؤدي هذه المهمة بطريقة لا توحي بالمغزى منها.. كأنّ المطلوب منهم تقديم الأكل الرديء للمجندين وتلف الفاكهة الجيدة هي مهمة من مهام الحرب السرية لا يمكن الإعلان عنها والغوص في تفاصيلها وكشف أهدافها الإستراتيجية.. المطلوب منه تحديداً عدم فك طلاسمها الغامضة كي لا يكتشف العدو شفرتها .. مع الأيام تعود خالد أن ينفذ ما يؤمر به دون أن ينبس بكلمة بطريقة آلية تجبر المجند على تنفيذ ما يؤمر به دون أن يكون له حق الاعتراض والرفض..
لكنه في قرارة نفسه يتوق لمعرفة لغز حيرهُ.. ويسعى للوصول لسبب مقنع يفسرُ له سلوك النقيب قاسم.. لماذا اختاره بالذات لهذه المهمة.. التي تمنى في أعماقه التخلص منها.. ومن الشعور بعذاب من جراء فعل يشاركه فيه بدور غير مفهوم في تقديم الطعام العفن والفاكهة الرديئة للمجندين..
أحس النقيب قاسم بهذه الهواجس والقلق الذي أخذ ينتاب الملازم المجند الجديد فقرر أن ينقذه من حيرته ويبعده عن هوس الأوهام التي تعصف به.. قال وهو يدقق النظر في وجهه...
ـ اسمع يا خالد.. اعرف انك تسعى لمعرفة وفهم هذا التصرف.. لا تنسى انك في بداية تجنيدك.. من حسن حضك أني قد مزقتُ التقارير التي رافقت ملفك وتلفتها وإلا كنت ستكون في الخطوط الأمامية لجبهة الحرب من اليوم الأول لتجنيدك.. هذه الحرب طالت.. نحن في السنة الثالثة منها ولا يبدو للآن أي أفق لنهايتها..
مع الطعام اللذيذ والفاكهة الجيدة وغباء الجنود وفقرهم ستطول الحرب أكثر فأكثر وستزهق المزيد من الأرواح... هؤلاء المجندين.. إن شبعوا والتهموا المزيد من الفاكهة الجيدة .. سيدعون للطاغية ويتمنون استمرار حربه الضروس.. ولن يبالوا بعواقبها..
هذا هو سر العلاقة بين .. الدجاج الطيب والفاكهة الطازجة.. وإطالة مدة الحرب.. دعنا نواصل مهمتنا.. في تقديم الطعام الرديء للمجندين.. بلا تردد حتى يملوا ويهربوا من الجيش.. لنخفف من وطأة الحرب ونقصّر مدتها ..
من حينها أدرك خالد أن الحرب تخفي في سياق هديرها المميت الكثير من الأصوات المخفية التي تعشق الحياة ..

صباح كنجي
منتصف أكتبوبر2011
ـــــــــــــــــ
الأحداث حقيقية وخالد الآن عميد في الجيش



#صباح_كنجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مجهول يشتم حكومة البعث في مقر للشيوعيين في الموصل!..
- حوالة أبو عبود..
- الرحيل المؤلم لعاشق الحرية..
- حوار مع المعقبينَ على الرسالةِ المفتوحةِ..
- شاهد على جريمة العصر سائق الجرافة الذي دفن مجموعة من المؤنفل ...
- لقاء مع الكاتب والنصير صباح كنجي
- رسالة مفتوحة إلى السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي..
- مِنْ حَكايَا الأنفال..
- خلف جنيب ذلك البدوي والنصير الشيوعي الأصيل..
- أبو ظفر.. الطبيب الماهر والإنسان النادر
- حياة شرارة .. شعلة الكفاح وجريمة السفاح..!
- اختفاء نبيل فياض....
- سوريا الشعب وسوريا الدكتاتورية..!!
- جيش البعث السوري وجيش الاحتلال الإسرائيلي..
- أفياء وليل حمودي الطويل..
- -المنسيون-.. بقايَا ذكرى وبقايَا جُرح..
- إلى صديق غاب من بيننا ولم يرحل..إلى أبو جنان في ذكراهُ الأول ...
- كتاب عن الفرمانات الإسلامية ضد الأيزيديين ..!
- جذور الاستبداد الشرقي والكفاح من أجل الحرية والانعتاق
- مَلامِحُ عصر جديد..


المزيد.....




- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح كنجي - مهمة خاصة في زمن الحرب ..