|
القصيدة العربية بين البعد الشفوي و الكتابي
مصطفى لغتيري
الحوار المتمدن-العدد: 3514 - 2011 / 10 / 12 - 18:20
المحور:
الادب والفن
من خلال" ابتهالات في العشق" للشاعر نورالدين بلكودري.
لا جدال في أن القصيدة العربية مرت بمراحل متعددة و دالة ، انطلاقا من نصوصها البكر ، التي تفاعلت مع محيطها بشكل كلي ، فجاءت صدى لإيقاعاته ،إذ نقلت ما يزخر به من حيوات ، تدب في قفار الصحراء العربية المترامية الأطراف ، حتى عدت- بحق- ديوان العرب، و مرورا بالتحولات العميقة التي طالتها خلال مسيرتها الطويلة ، و التي تجلت في التمرد على الأشكال القديمة ، من خلال اجتراح قوالب جديدة تتماشى مع طبعة العصر الذي تتنفس هواءه القصيدة ،محفزة بالمثاقفة حينا و تحولات الواقع حينا آخر ، و وصولا إلى ما تعرفه القصيدة اليوم من ثورة عميقة مست ماهيتها و أسسها و أشكالها ، وخصوصا انتقالها من المنطق الشفوي ، الذي أسرها طويلا، إلى المنطق الكتابي، الذي يحاول الزج بها في عوالمه الأثيرة ..و لا أكاد أضيف شيئا إذا اعتبرت قصيدة النثر من أفضل تجليات هذا التحول العميق ، الذي يطال القصيدة العربية. يترتب على ما تقدم أن القصيدة العربية في لحظتها الراهنة ملزمة – إن أرادت أن تعانق تاريخيتها و تلتحم بها- أن تقتحم ، بلا تردد، البعد الكتابي في العملية الإبداعية الشعرية ، والتخلص من هيمنة البعد الشفوي. - لكن كيف يتأتى لها ذلك ؟ - و هل كل الشعراء مؤهلون لكتابة هذا النوع من القصائد؟ و ما موقع ديوان "ابتهالات في العشق " من هذا الطرح؟- تتجلى الشفاهية في القصيدة أكثر ما تتجلى في الإيقاع الخارجي ، لأنه إيقاع سماعي يهدف إلى التأثير على الأذن و تشنيفها بموسيقى الكلمات، التي تكون في كثير من الأحيان مقصودة لذاتها. على عكس ذلك تلجأ القصيدة المعاصرة ، و أخص بالذكر تلك التي يكتبها الشعراء الشباب إلى التمرد على الإيقاع الخارجي بما يعني التفعيلة و البحر ، لتخلق لنفسها إيقاعا جديدا يتأسس على منطق الصورة الشعرية ، التي تتراص جنبا إلى جنب لتفجر في ذات القارئ أحاسيس و أفكار و تأملات ، تجعله يستغرق في حالة نفسية و عقلية و وجدانية معينة. و إذا كان الشاعر نورالدين بلكودري قد أهمل الإيقاع الخارجي بنوعيه، أعني التفعيلة و البحر ، فقد حافظت قصائده على الإيقاع الداخلي الذي يتولد من خلال استثمار بعض التقنيات البلاغية كالجناس مثلا ، غير أن توظيف الشاعر للصورة الشعرية كبديل عن الإيقاع ، ظل محتشما لا يدفع بها إلى حدودها القصوى ، بل ظلت في عمقها متأثرة و استمرارا للتعاطي الرومانسي معها، تذكرنا بصور الشعراء الرومانسيين ، و لعل طبيعة الثيمة المهيمنة على الديوان " تيمة العشق " فرضت على الشاعر هذا النوع من التعاطي يقول الشاعر: أيها الحب الجريح خذ كفنا توشح به جرحك غائر يطرق باب الموت. و يقول في قصيدة "المنسي" : وجعي يكبر يقتات مني يتفنن في رسم الخرائط فوق خاصرتي. ومن تجليات البعد الكتابي في القصيدة المعاصرة استثمارها للمعطى الكليغرافي و البعد البصري للورقة التي تحتضن القصيدة ، لذا نجد كثيرا من الشعراء يلتجئون إلى كتابة قصائدهم بخط أيديهم ، ليمنحوا القصيدة بعدا جماليا خاصا ، كما يحرصون على توزيع القصيدة خطيا على امتداد الورقة ، يمينا و شمالا ، أعلى و أسفل ، و في الزوايا ، مبررين ذلك بتمرير رسالة للقارئ ، مفادها أن القصيدة كتبت لتقرأ بصريا لا لتلقى شفويا ، أي أنها ليست للإلقاء ، الذي اعتمدت عليه كثيرا القصيدة التقليدية و سارت على نفس المنوال القصيدة الرومانسية و القصيدة الحديثة في بداياتها الأولى مع الرواد على الخصوص ، و لا زال ذلك ساريا لدى الكثير من الشعراء. في ديوان "ابتهالات العشق " لنورالدين بلكودري نلمس هذا التوجه في التعاطي مع القصيدة و إن لم يكن ذلك نهجا قارا ،و متبعا من طرف الشاعر في نسج كل قصائده ، بل استأثرت به قصائد دون أخرى ، أذكر منها قصيدة " أمير العشاق " و قصيدة "أتحداك " و قصيدة "توحد". و هروبا من شبح الغنائية الذي ران على القصيدة العربية منذ القدم، و الذي يعبر عن نفسه إبداعيا بهيمنة أشجان الذات و لواعجها و إهمال الواقع ، و سيادة الصوت الوحيد على القصيدة من بدايتها حتى نهايتها ، و يكون في الغالب صوت الأنا ، أنا الشاعر ، مع ما يترتب على ذلك من بوح ، و هيمنة الرؤيا الجوانية ن، التي تؤدي بالقصيدة إلى أن تضرب صفحا عن غنى الواقع و تفاصيله ، و إغفال وجهات نظر أخرى ، بلا شك تغني القصيدة في حال توفرها..أقول هروبا من هذا الشبح المخيف الذي يعده الكثيرون نقطة ضعف القصيد العربية ، يلتجئ الشعراء المعاصرون أو قلة منهم إلى بعض التقنيات التي تتيح للقصيدة التوفر على تعدد الأصوات ، و خلق نوع من الدرامية ، و تكريس البعد الكتابي للشعر ..و من بين هذه التقنيات "سردنة " الشعر ، باستثمار المعطى الحكائي. و إن كان المتلقي للديوان الذي بين أيدينا سيلاحظ – لا محالة- طغيان النفس الغنائي ، انسجاما مع طبيعة الثيمات العاطفية المهيمنة على القصائد ، فإن بعض النصوص حاولت توظيف النفس الحكائي ، و عن ظل ذلك في حدوده الدنيا ، جاء في قصيدة عبور : رحلت حاملة معك الضحكات في سكون الليل تسكنين تنتزعين ذكريات أمسنا تتطلعين إلى المساء تبحثين عن وميضي. و في قصيدة أخرى : على صهوة الفرس الأزرق تركبين ترمين تحية و باقة ورد و ياسمين أشق الطريق إليك كلي أمل ..كلي جنون و من بين التقنيات التي تساهم في تأجيج النفس الدرامي داخل القصيدة، بما يعني تعدد الأصوات و صراع الأضداد ، نجد الحوار المسرحي الذي يشي في أبسط تجلياته بوجود طرفين ، لكل منهما وجهة نظره و رؤياه و أحاسيسه و لغته ، مما يجعل من الشاعر "بناء" يبني المواقف المتخيله و يساهم في خلقها خلقا إبداعيا جميلا ، و قد التجأ شاعرنا في بعض قصائده إلى هذه التقنية ، و إن كانت مغلفة بجو رومانسي شفيف ، ومن ذلك ما جاء في قصيدة كنت ذات يوم" : تقولين : يا شاعري كم أحبك أبعث إليك ألحاني الحزينة. من مدينتي الجريحة و أنا أقرأ رسالة وداع على قبر حبك العاري. و في ختام هذه القراءة العاشقة لديوان "ابتهالات في العشق " للشاعر نورالدين بلكودري ، أتمنى أن أكون قد وفقت في وضع الإصبع على أهم ما يميز القصيدة اليوم ، خاصة في بعدها الكتابي في علاقة مع قصائد الديوان ، متمنيا للشاعر مستقبلا زاهرا في الكتابة الشعرية ،المعاصرة ، التي تتميز بانفتاحها على اليومي و خلق بلاغة جديدة، مدمكها الأساس استثمار الصورة الشعرية في بعدها الرؤيوي العميق ، فضلا على الانفتاح على الرمز و الأسطورة ، و باقي أجناس الإبداع ، كل ذلك من أجل أن تحقق القصيدة راهنيتها و تاريخيتها، و تقصي بالتالي شبح الغنائية و الكتابة من الذاكرة القرائية للشاعر.
#مصطفى_لغتيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شهادة مصطفى لغتيري ضمن ملف الرواية المغربية في مجلة سيسرا ال
...
-
المبدعون المغاربة والنقد... أية علاقة؟
-
مرور عشر سنوات على صدور مجموعتي القصصية الأولى -هواجس امرأة-
-
حب و برتقال ..مقاطع من رواية جديدة كتبتها ولم يحن أوان نشرها
...
-
الدكتورة سعاد مسكين تحفر عميقا في متخيل القصة المغربية القصي
...
-
**هواجس و تساؤلات حول الكتابة القصصية في المغرب
-
المحاكاة الساخرة في القصة القصيرة جدا عند أحمد جاسم الحسين
-
لغتيري يوقع رواياته في معرض الكتاب بالدارالبيضاء
-
مغرب جديد يصنعه شباب 20 فبراير
-
لماذا يجب النزول إلى الشارع يوم 20 مارس للتظاهر؟
-
أيام معتمة- للكاتبة المغربية البتول محجوب أو عندما تشع الكتا
...
-
لماذا سأنزل غدا إلى الشارع من أجل التظاهر؟
-
رواية -الحافيات- للأديبة دينا سليم أو عندما تتخذ المرأة من ج
...
-
أدباء وكتاب يتحدثون ل(الزمان) عن درجة الجرأة في الكتابة
-
الاحتفاء بالشخصية في المجموعة القصصية- الأب دحمان- للقاص الم
...
-
السعدية باحدة مبدعة من الزمن الجميل*
-
العوالم الافتراضية في الكتابة القصصية عند القاص المغربي محمد
...
-
إيقاع الصورة الشعرية في -ظلي بقعة حبر -للشاعرة التونسية عائش
...
-
كتابات ساخرة قصص قصيرة جدا لجميل حمداوي -تقديم مصطفى لغتيري.
-
وقفة تأملية عند -دموع فراشة- للقاص حميد ركاطة
المزيد.....
-
إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل
...
-
“قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم
...
-
روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
-
منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا
...
-
قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي
...
-
رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات
...
-
بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ
...
-
مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل
...
-
الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع
...
-
ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|