أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى مجدي الجمال - الشيوعيون العرب في الحقبة السوفيتية (استرجاع)















المزيد.....



الشيوعيون العرب في الحقبة السوفيتية (استرجاع)


مصطفى مجدي الجمال

الحوار المتمدن-العدد: 3511 - 2011 / 10 / 9 - 08:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أنشر هنا دراسة موجزة عن
الحقبة السوفيتية
في الحركة الشيوعية العربية
(فلسطين- النظم الوطنية- القومية العربية)
لم يسبق نشرها في أي وسيلة.
وحرصت على تقديمها بصورة ميسرة بالنسبة للمناضلين غير المنغمسين في التنظير

نشأت الحركة الشيوعية في الوطن العربي كجزء من حركة الحداثة في المجتمعات العربية التي كانت تواجه تحدي الموروث القديم للمجتمع شبه الإقطاعي أو ما قبل الرأسمالي، ومما زاد هذا التحدي صعوبة وجود الاحتلال الاستعماري بكافة صور الهيمنة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وقد كان المستعمر نفسه تمثيلاً للحداثة التي تريد أن تنجز من الحداثة في الوطن العربي ما يكفي لخدمة المصالح الاستعمارية، بما في هذا خلق نخبة ليبرالية أو رأسمالية تابعة.
ولكن القطاعات الأكثر راديكالية (أو ثورية) من مثقفي الفئات المتوسطة والبرجوازية الصغيرة (بل وأحيانًا بعض العناصر الفردية في البرجوازية الكبيرة وكبار الملاك) رأوا في ظهور الاتحاد السوفيتي على ساحة النظام الدولي أملاً جديدًا في تغيير ثوري يحقق الحداثة دون التماهي مع المستعمر، ويحقق الاستقلال العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية دون أن يؤدي إلى تخليد نفوذ ومصالح الفئات البرجوازية العليا في المجتمع. ومما زاد من بريق النموذج السوفيتي إعلان النظام الجديد في موسكو عن موقف جديد في ما تسمى "المسألة الشرقية" حيث تم منح حق الاستقلال للأقاليم الإسلامية قي الإمبراطورية القيصرية التي انتهت على أيدي الثورة البلشفية عام 1917.
ورغم أن الفلسفة الماركسية أوربية النشأة والروح، إلا أنها وجدت صدىً لها في البلدان المستعمرة بجنوب العالم، حتى قبل الثورة البلشفية، فوجد العديد من المثقفين المتأثرين بالدولية الثانية وأفكارها عن الاشتراكية الإصلاحية أو التدرجية. إلا أن العقبة في وجه تطور فكر اشتراكية الدولية الثانية تمثلت في تأييد أحزاب هذه الدولية للاستعمار ومعاداتها لحركات الاستقلال الوطني. وهو الموقف المعاكس لموقف الدولية الثالثة التي رعتها موسكو والذي دعا إلى منح شعوب المستعمرات حق تقرير المصير.
وهكذا بدأت "الحقبة السوفيتية" في تطور الحركة الاشتراكية (الشيوعية) العربية. والمقصود بهذه الحقبة أولاً أن الأحزاب والجماعات الاشتراكية والشيوعية قد وجدت لنفسها مرجعية جديدة في الماركسية الثورية (البلشفية)، كما كان تكوين الكومنترن (وهو تجمع دولي يهيمن عليه الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي) إيذانًا بنوع من الوصاية المقبولة أو المرحب بها غالبًا من جانب الأحزاب الماركسية في الجنوب. ولكن العلاقة تجاوزت كثيرًا ما هو مفترض فيها من طابع الندية والتعامل الرفاقي، فاتخذت طابع الإملاء في السياسات والبرامج والتحالفات، وفي بعض الأحيان التدخل في اختيار واستبعاد القيادات.
ومن هنا ظهر تعبير "الأشقاء الكبار" الذي يوصف به القادة في الحزب الشيوعي السوفيتي، آخذين بالاعتبار النقاط التالية:
- أن الحزب الشيوعي السوفيتي قد تمكن من إنجاز نجاحات هائلة بإسقاط القيصرية والانتصار على التدخل الأجنبي وإقامة قاعدة صناعية هائلة، ثم الانتصار على النازية وتكوين الكتلة الاشتراكية.. الخ. وهو يشكل قوة معنوية كبيرة للحزب، جعلت الأحزاب الماركسية الصغيرة والناشئة لا تفرق بين النظرية الماركسية واجتهادات الشيوعيين السوفيت، فضلاً عن عدم التفرقة جيدًا بين الحزب والدولة السوفيتيين على الرغم من حقيقة أن مصالح الدولة السوفيتية نفسها كانت تلقي بثقلها على الاجتهادات السياسية للحزب نفسه.
- ندرة الكتابات النظرية والمرجعية الماركسية المنشورة باللغة العربية. ومن ثم كان الشيوعيون العرب لا يجدون مناصًا في أغلب الأحوال من الاعتماد في تحليلاتهم على الترجمات السوفيتية. وقد استلزم الأمر مرور وقت طويل قبل أن يتمكن الشيوعيون العرب من الاطلاع على اجتهادات أخرى ماوية وتروتسكية وجيفارية وشيوعية أوربية.
- امتلاك الحزب الشيوعي السوفيتي للإمكانيات الكبيرة للدولة السوفيتية، ومن هنا أهمية المساعدات المادية والإعلامية التي يقدمها الحزب لأشقائه في البلدان الأخرى، فضلاً عن النصائح السياسية "شبه الملزمة"، وتدريب القيادات في مدارس إعداد الكادر بالاتحاد السوفيتي.
- كما أن حصول جماعة ماركسية على اعتراف الدولية الثالثة بها كالحزب الشيوعي في بلدها، كان يعطي هذه الجماعة قوة كبيرة تجاه الجماعات الماركسية الأخرى في بلدها.

وفي واقع الحال أن الكومنترن لم يكن هيئة تمثيلية أو تنسيقية بين أنداد متساوين في الحركة الشيوعية العالمية، وإنما كان هيئة فوق الأحزاب الناشئة والصغيرة. بل كان الكومنترن يرسل كوادره لتنظيم وحل المشكلات التنظيمية، وحتى التفتيش- بمعنى الكلمة- على الأحزاب، لمراقبة انحرافاتها وتقديم التقارير المؤيدة للانضمام إلى الكومنترن.

******************************
هامــــــــــــــــش:
من الملفت للنظر أن معظم الكوادر التي أرسلها الكومنترن للمنطقة العربية كانوا من ذوي الأصول اليهودية، ومن أمثلة هؤلاء:
- بازريلي (أو: بيير جيه) واسمه الحقيقي جوزيف ميكائيل زيلسنيك، يهودي بولندي، أرسل إلى فلسطين عام 1920، وعاد إلى موسكو عام 1932 ليصبح من أهم الخبراء في شئون الشرق الأوسط، ثم أصبح صهيونيًا صريحًا فيما بعد.
- أبو زيام (أو: حيدر) واسمه الحقيقي "وولف أورباخ"، يهودي روسي، خبير أرسله الكومنترن إلى فلسطين عام 1922 لتأسيس الحزب الشيوعي هناك، وامتد نشاطه إلى سوريا ولبنان.
- أفيغدور ، أو "بهيل كوسي"، واسمه الحقيقي "قسطنطين ويس" يهودي أوكراني، التحق بالفيلق اليهودي في الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الأولى، أرسله القسم الشرقي في الكومنترن إلى مصر مرتين عامي 1922 و1924 ليشرف على عملية تأهيل الحزب الشيوعي المصري لعضوية الكومنترن. وأرسل مرة ثالثة عام 1932 للتفتيش على الأحزاب الشيوعية بالمشرق العربي.
*****************************

ومن أخطر الأدوار السلبية التي قام بها أولئك المتنفذون في الكومنترن، أنهم لم يهتموا بتوجيه الأحزاب الشيوعية الوليدة في المنطقة إلا إلى التركيز على الجانب الطبقي، مع الإهمال شبه العمدي للمسألتين الاستعمارية والقومية، الأمر الذي وضع هذه الأحزاب في تناقض حتمي عنيف مع القيادات الوطنية (من كبار ملاك وبرجوازية) المتصدية لقيادة النضال ضد المستعمر.

*****************************
هامـــــــش:
يورد د. ماهر الشريف في كتابه عن "فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن" أن الحزب الفلسطيني رفع مذكرة إلى اللجنة التنفيذية للكومنترن، في موسكو (بتاريخ 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1922) يطلب في بندها الأول: "العمل على ضمان إرسال توجيهات محددة من اللجنة التنفيذية للكومنترن حول أهم مهمات الحزب وتكتيكاته تجاه القضايا الرئيسية"!!
****************************

وهناك أهمية لتاريخ الحزب الشيوعي الفلسطيني في فهم هذه المسألة، فقد نشأ الحزب أساسًا وسط المستوطنين اليهود القادمين من روسيا منذ بدايات القرن العشرين، وتحديدًا وسط المهاجرين الذي صنعوا مزجًا بين الاشتراكية والصهيونية. رغم أنه إذا فرضنا إمكانية وواقعية هذا المزج (المسخ) يثور التساؤل حول كيف سيناضل العمال اليهود ضد البرجوازية اليهودية التي تنفق بسخاء على مشروع وجودهم على أرض فلسطين، وكيف يمكن لليهود في فلسطين أن يكونوا أعداء حقيقيين للاستعمار بينما مجرد وجودهم على هذه الأرض قد حقق مصلحة مهمة للقوى الرأسمالية الغربية بحل المسألة اليهودية بعيدًا عن القارة الأوربية؟
وهو الاستنتاج الذي أدركه الكومنترن في حينه فلم يعد يعتبر الحزب الفلسطيني "نقطته البؤرية" في الشرق، خاصة في ظل غلبة العنصر اليهودي في ذلك الحزب، وبدأ ينتبه إلى ضرورة التركيز على مواقع أكثر ثقلاً مثل مصر وسوريا الكبرى والعراق.
وقد استلزم الأمر بعض الوقت كي يتمكن الشيوعيون في فلسطين من ضم أعداد متزايدة من الحرفيين والعمال والمثقفين العرب. وكان من شروط قبول الحزب الشيوعي الفلسطيني في الكومنترن أن ينجح الحزب في بناء جبهة أممية موحدة بين العرب واليهود، في تصور مؤداه أن تلك الجبهة كفيلة بحل التناقض القومي والمسألة الاستعمارية، وذلك في تجاهل لحقيقة أنه لم تكن توجد من الأصل قوميتان على أرض فلسطين، وإنما نجم هذا الوضع عن الاستيطان اليهودي المسلح بأيديولوجية عنصرية (الصهيونية) مهما ارتدت من ثياب اشتراكية أو ليبرالية.
وقد تم بالفعل زيادة الطابع العربي للحزب الفلسطيني والجماعات التي انفرطت منه بعد ذلك، كما أخذت تنفض عنه العناصر اليهودية بكثرة بعد أن أصبح مشروع الدولة الصهيونية أكثر استقرارًا. والغريب أيضًا أن منظري الكومنترن كان لديهم استعداد قوي للقبول بحل المسألة اليهودية في أوربا على أرض فلسطين، متصورين أن النضال الاجتماعي المشترك بين العمال العرب واليهود كفيل بحل المشكلة القومية. والأغرب هو قبول هؤلاء المنظرين بأنه توجد من الأساس "أمة يهودية"، على الرغم من ترددهم في الوقت نفسه من القبول بوجود "أمة واحدة" للشعوب العربية.

هناك ظاهرة أخرى جديرة بالتأمل في معظم الأحزاب الشيوعية العربية الأخرى، وتتمثل في الدور التأسيسي، ثم الدور القيادي على مدى عقود، للأقليات الدينية والقومية والعرقية (اليهود، الأجانب والمتوطنون، الأكراد، الأرمن، المسيحيون، البربر..). ويفسر هذا عادة بالطابع "الأممي" و"المساواتي" والطبقي الذي تتسم به الماركسية، كما أن هذه الأقليات لم تكن تجد لها مكانًا مريحًا في معظم الأحزاب البرجوازية القوية (ربما باستثناء حزب الوفد في مصر).
ولكن هذا الوضع يشير إلى حقيقة أنه مهما كبر حجم هذه الأحزاب فلم تكن الزيادة نوعية بالقدر الكافي، كما أنه وضع لا يساعد بالطبع على زيادة شعبية الحزب، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار الحملات الدعائية الاستعمارية واليمينية المحلية التي ألصقت بالشيوعية كل التهم الممكنة من إلحاد ودموية وإثارة للكراهية، حتى أن الشيوعية كانت تعتبر في مصر جريمة جنائية وليست سياسية. كما أن نفوذ الأجانب والمتوطنين تسبب في أن الكثير من الجماعات الماركسية الوليدة نشأت أول الأمر كفروع للأحزاب الشيوعية في البلد الأم (مثل روسيا وفرنسا واليونان..).
ولا شك أن هذا كان له تأثيره على المواقف من القضايا الوطنية والقومية، كما كانت له نتائجه من حيث صعوبة الخروج من هوامش الحياة السياسية إلى ميدان العمل الفسيح على الصعيد المجتمعي. ولعل هذا كان الدافع الأول من أجل زيادة الطابع الوطني على عضوية وقيادة الأحزاب الشيوعية (مثل شعار "التمصير").

************************************
هامــــــــــــش:
من الملفت بشكل خاص أن الحزب الشيوعي الجزائري كان عمليًا أحد فروع الحزب الشيوعي الفرنسي، ولم يشغل نفسه إطلاقًا بقضية النضال من أجل الاستقلال، بل ربما اعتبرها موقفًا رجعيًا وعنصريًا، وحتى دافع البعض عن "الرسالة التمدينية" التي تقوم بها فرنسا في شمال أفريقيا، وإنما كرس الحزب كل جهوده على المطالب الاجتماعية مثل المساواة بين الفرنسيين والجزائريين والمطالبة بالجنسية المزدوجة واعتماد اللغة العربية كلغة رسمية إلى جوار الفرنسية وإقامة برلمان مشترك للجزائريين والفرنسيين..
وهكذا عزل الحزب نفسه عن واحدة من أهم الثورات الوطنية والديمقراطية في الوطن العربي..
وبالمثل لم يتخل الشيوعيون التونسيون عن شعار الاتحاد مع فرنسا إلا في أواخر الأربعينيات. أما الشيوعيون في المغرب فلم يرحبوا بالكفاح المسلح من أجل الاستقلال وتصوروا طريقًا "سلميًا" للتحرير.
*************************************

ومع ذلك فإن من المؤكد أن الشيوعيين العرب، وكذا الاتحاد السوفيتي بالطبع، كانوا من أشد الأعداء للصهيونية. والمثال الأفضل على هذا هو أن مصر قد شهدت (وفي توقيت واحد تقريبًا) ثلاثة أحزاب شيوعية جديدة في أوائل الأربعينيات بقيادة يهود ثلاثة هم هنري كوريل (الحركة المصرية للتحرر الوطني) ومارسيل إسرائيل (تحرير الشعب) وهليل شفارتز (إسكرا = الشرارة بالروسية)، ورغم هذا فإن تلك الأحزاب الثلاثة اتخذت موقفًا صارمًا من الصهيونية، وإن كان كوريل- كفرد أساسًا- قد تبنى مواقف أثارت لغطًا كبيرًا عن حق إسرائيل في الوجود وأدان تحرك الجيوش العربية عام 1948.

*********************************
هامـــــــــــــش:
أصدر الشيوعي المصري محمد يوسف الجندي كتابًا بعنوان "من أجل السلام العادل" في العام 1999 يتضمن رسائل هنري كوريل في منفاه بباريس إلى رفاقه وأنصاره في مصر تعبر عن مواقفه في هذه القضية. ومن أهم ما جاء فيها:
- "لما كان الامبرياليون لا يريدون السلام فان ذلك يستتبع أنه كلما زاد ارتباط الدول العربية بالامبريالية ، كلما أصبح لها موقف أكثر تطرفا في المشكلة العربية الإسرائيلية".
- "إن علينا أن ندين بشدة كل الاستفزازات العسكرية التي ستلجأ إليها بالتأكيد حكومات إسرائيل . أما من ناحيتنا فيجب أن تطالب بوقف إرسال الفدائيين إلى داخل الأراضي الإسرائيلية، ووقف إرسال المخربين والإرهابيين لأن أعمالهم ليس لها بالقطع أي فائدة إلا إثارة النزاعات الحالية ومساعدة حكومة بن غوريون على تحريض شعب إسرائيل بأنه لا فائدة من انتظار السلام من البلدان العربية".
- "إننا ننطلق من الحق المقدس والغير قابل للتقادم للجماعات القومية في الوجود القومي. ولهذا فإننا نعترف بحق إسرائيل في الوجود القومي، ولكن يجب في مقابله الاعتراف بنفس الحق لعرب فلسطين.
يجب أن نقول أولا بوضوح أننا ننطلق مع الغالبية العظمى من القوى التقدمية والاشتراكية في العالم من الحقيقة الإسرائيلية باعتبارها شرعية ، ويعتبر شيئا مسلمًا به أن اليهود في إسرائيل يكونون كيانا قوميا له مثل كل المجموعات القومية الحق في تقرير مصيرها وتكوين دولة قومية . ( يبقى ذلك صحيحا حتى إذا أعلنا أن إسرائيل هي واقع استعماري ، لأن كثيرا من الدول القومية أصلها وقائع استعمارية ، وقد تأكد ذلك بشكل خاص سواء في إفريقيا أو الشرق الأوسط). ونعتبر أيضا أن الجماهير اليهودية الإسرائيلية لها مثل كل شعوب العالم الحق في الأمن من ناحية وأن تتطلع إلى ذلك من ناحية أخرى".
************************************

وفي الحقيقة أن الحرب العالمية الثانية، ودور الاتحاد السوفيتي فيها، قد سمح بتزايد شعبية الماركسية في البلدان العربية، وكذلك قدر من التساهل في المعاملة البوليسية. وبعد الحرب تزايدت الأنشطة الوطنية التي لعب فيها الشيوعيون دورًا غير منكور. غير أن الشيوعيين أضفوا على الكفاح الوطني مذاقًا خاصًا، ألا وهو ربط هذا الكفاح بالبعد الاجتماعي وليس مجرد جلاء الاحتلال واستقلال العلم والنشيد والقرار السياسي الوطني.
بيد أن تقدم الحركة الشيوعية سرعان ما تلقى لطمة هائلة بقبول الاتحاد السوفيتي بقرار تقسيم فلسطين، وهو ما كان له آثار كارثية على سمعة وجماهيرية الحركة الشيوعية العربية، خاصة في ظل تصاعد نفوذ الحركتين الإسلامية والقومية العربية. غير أن الأخطر كان موافقة العديد من الأحزاب الشيوعية العربية على الموقف السوفيتي، والتورط في تبريره، على الرغم من أن الكومنترن كان قد تم حله عام 1943 في إطار التحالف ضد النازية أثناء الحرب العالمية، مما يشير إلى أن التبعية النظرية والسياسية والتنظيمية للاتحاد السوفيتي كانت- عند كثيرين- أقوى من التقييم السليم على الأقل لحالة المزاج الجماهيري، ناهيك عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني والتي لا يجوز أن ترتهن بالمصالح الظرفية للدولة العظمى.
برر البعض هذا الموقف السوفيتي بأنه انطوى على مبالغة في قوة اليسار اليهودي الذي قد ينجح في تحويل إسرائيل إلى دولة اشتراكية، ومن ثم إمكانية استعادة التوحيد مع الدولة العربية التي ستقام بموجب القرار. وقيل أيضًا إنه لم يكن هناك مفر من التقسيم بعد استحالة التعايش بين العرب واليهود في دولة واحدة وأصبح لكل جانب مقومات كاملة لإقامة دولة منفصلة عن الأخرى. وقيلت آراء أخرى عن الانزعاج السوفيتي من تأييد القوميين العرب للنازية.

************************************
هـــــــــــــــــــــامش:
- قال "غروميكو" في مجلس الأمن: "إنّ واقع عدم نجاح أي دولة أوروبية غربية في تأمين حماية الحقوق الأساسية للشعب اليهوديّ وفي الحفاظ عليه من عنف الجلادين الفاشيين، من شأنه أن يفسّر تطلع الشعب اليهوديّ إلى إقامة دولته. وسيعتبر عدم أخذ ذلك في الاعتبار وسلب الشعب اليهودي هذا الحق سلوكًا غير عادل... إنّ واقع أن سكان فلسطين يتألفون من شعبين، يهودي وعربي، هو واقع غير قابل للنقض، ولكل شعب منهما جذور تاريخية في فلسطين".
وقد علق "ديفيد بن غوريون" على هذا الخطاب في جلسة للجنة اليهودية القومية قائلاً: "منذ مدة طويلة لم نسمع على لسان مندوبي الدول العظمى أقوالاً مؤثرة وحقيقية من هذا القبيل. غير أنّ أهمية هذا الخطاب غير المتوقع لغروميكو تكمن في الاستنتاج الذي توصل إليه، لا في وصف مأساة الشعب اليهوديّ".

- أورد حنا بطاطو في كتابه عن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي أن المندوب السوري في الأمم المتحدة قد ناقش المندوب السوفيتي وعاتبه على هذا الموقف، وأن الأخير أخبره أن السوفيت أيدوا قيام دولة يهودية "لأنهم يتوقعون من العرب خيرًا أقل مما يتوقعون من اليهود" ولأن "معظم الدول العربية ألقت بنفسها بين الأيدي الأنجلو- سكسونية" وخاصة حكومات أنقرة وبغداد وعمان.. إلى جانب توقع أن التقسيم هو أقصر طريق لرحيل الاستعمار البريطاني عن فلسطين.

- كتب القائد الشيوعي العراقي عزيز شريف الحائز على جائزة لينين من أجل السلام في كتاب "السياسة الصحيحة لحل القضية الفلسطينية" عام 1948: "ليس مسموحًا أن نستمد مواقفنا في القضايا الوطنية من الاتحاد السوفيتي.. أو أن ننظر إلى سياسة دولة كالاتحاد السوفيتي على أنها مستوحاة في كل الحالات من المبادئ.. ألم يمر الاتحاد السوفيتي بصمت على سحق حكومة إيران لأذربيجان؟ ألم يقم الاتحاد السوفيتي علاقات اقتصادية وسياسية مع حكومة شيانغ كاي شيك (في الصين) بينما كانت عواطفه مع الحركة المعادية لتلك الحكومة؟.. إن الاتحاد السوفيتي دولة تفعل وتنفعل ضمن إطار وضع دولي، وتصوغ سياساتها في ضوء ذلك الواقع بكل تناقضاته وتعقيداته".. ثم يصل عزيز شريف إلى الاستنتاج الحاسم: "وإذا كانت مقاومتنا للصهيونية صحيحة.. قبل أن تحقق هذه أهدافها فلماذا يمنعونا من مقاومتها بعد أن حققت أهدافها؟".
**********************************

من المؤكد أن الشيوعيين العرب اشتركوا بفعالية في المد الوطني الذي عرفته المنطقة العربية في الخمسينيات، كما كانت لهم إضافتهم النوعية المتمثلة في البعدين الاجتماعي والتنويري. غير أن العزلة الجماهيرية التي لحقت بالأحزاب الشيوعية العربية بسبب من مواقفها من القضية الفلسطينية، قد تزايدت بسبب تبني تلك الأحزاب مواقف متناقضة من الثورات والحكومات الوطنية التي عرفتها المنطقة في الخمسينيات، بل وحتى وقوع الشيوعيين العرب ضحية لمواقفهم من الصراعات التي نشبت بين الأنظمة الوطنية العربية وقتذاك، وخاصة الصراع بين عبد الناصر وكريم قاسم.
فقد انقلب الشيوعيون العراقيون والسوريون على الوحدة التي سبق وأن رحبوا بها، واقترب بعض الشيوعيين المصريين من الموقف ذاته، وتم تقديم عبد الكريم قاسم على أنه البطل البديل لعبد الناصر بحجة أن لم يمس الأحزاب بسوء، ولكن الأخير استخدمهم أسوأ استخدام ليقضي عليهم أنفسهم بعد أن أدوا دورهم في ملاحقة القوميين العرب. وكانت نتيجة هذه التناقضات والمواقف المرتبكة أن وقع الشيوعيون ضحية لعمليات تصفية كبيرة على أيدي النظم الوطنية، وتراوحت بين اعتماد بروباغندا العداء للشيوعية والمذابح الدموية مرورًا بالتعذيب الوحشي داخل المعتقلات.
وكان من نتائج المد القومي العربي في تلك الفترة، مع ارتباك الشيوعيين العرب في التعامل معها، أن نشأ وسط حركة القوميين العرب تيار أخذ في تبني الماركسية اللينينية مع التأثر بشكل واضح بالماوية والجيفارية، فكان أن تبلور بشكل واضح تيار عريض أطلق عليه بشكل عام "الماركسيون القوميون" (من أهم منظريه وقياداته جورج حبش وقسطنطين رزيق ونايف حواتمة ومحسن إبراهيم ووديع حداد). وكان لهذا التيار تنظيمات مهمة مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان والجبهة القومية بتحرير الجنوب اليمني المحتل، وقد استطاعت الأخيرة تحرير وطنها والاستيلاء على سلطة الحكم.
من أهم سمات هذا التيار اعتباره قضية فلسطين قضية مركزية لكل الثوريين العرب، واعتماد الكفاح المسلح كأسلوب أساسي (وربما وحيد عمليًا). وبالطبع مر هذا التيار بانقسامات كثيرة، كما تفاوتت مواقفه من الاصطفاف الكامل مع النظام الناصري إلى الانفصال الكامل عنه (بل ومهاجمته علنًا وبقسوة) خاصة بعد هزيمة 1967.
ورغم أن هذا التيار كان تمردًا على النهج "السوفيتي" التقليدي للأحزاب الشيوعية العربية، إلا أنه وجد طريقه في النهاية لإقامة علاقات وثيقة مع المنظومة السوفيتية إلى حد الحصول على السلاح والتدريب العسكري. كما أثر هذا التيار بقوة على الأحزاب الشيوعية العربية، خاصة الجديدة منها التي بدأت المنطقة تعرفها منذ أوائل السبعينيات.
...
مع احتدام الحرب الباردة، وتفاقم الحروب بالوكالة بين القطبين الأعظم، أخذت الدولة السوفيتية تدرك الأهمية القصوى التي تتمتع بها النظم الوطنية العربية في هذا الصدد. وإلى جانب هذا الاعتبار الخاص بالجغرافيا السياسية والاستراتيجية، اعتمدت القيادة السوفيتية نظرية التطور اللارأسمالي، القائلة بإمكانية أن تحل القيادات البرجوازية الصغيرة في المجتمعات قبل الرأسمالية محل الدور القيادي للطبقة العاملة (الذي تفترضه النظرية الماركسية)، وأن بإمكان دول "التوجه الاشتراكي" هذه أن تستفيد من "الضعف النسبي" للإمبريالية (في عصر وصف "بعصر الثورات العالمية والانتقال إلى الاشتراكية"، وأن تعتمد على الدعم الأممي (السوفيتي) للتغلب على غياب الطبقة العاملة، شرط أن تستغل السلطة السياسية التي تقع في أيديها في ظروف خاصة من التحرير الوطني لتغيير البنى القديمة المتخلفة وإرساء الأساس المادي والثقافي للانتقال من مجتمعات إقطاعية وقبل رأسمالية إلى الاشتراكية دون المرور بمرحلة الرأسمالية حسبما كانت ترى الرؤية الستالينية لتحقيب التطور التاريخي (مشاعي بدائي- عبودي- إقطاعي- رأسمالي- اشتراكي).
وتقول هذه النظرية بوجود مصدرين للتراكم الاقتصادي يساعدان في تحقيق التنمية والتطور: مصدر داخلي، يأتي من التأميمات وأرباح القطاع العام. ومصدر خارجي: من القروض والمساعدات، سواء من البلدان الاشتراكية أم من البلدان الرأسمالية، شرط ألا يؤدي هذا إلى هيمنة الدول الرأسمالية.
لكن ما حدث على أرض الواقع، هو أنه بدلاً من أن تشكل هذه الاستراتيجية خطوة انتقالية نحو الاشتراكية، فقد مهدت الطريق للرأسمالية، حيث تم الانتقال من رأسمالية الدولة إلى رأسمالية تقليدية، ومن ثم القضاء على النفوذ السوفيتي نفسه والاختيار الحاسم بالاصطفاف وراء الغرب الرأسمالي، كرأسمالية تابعة.

ولقد لعبت تلك النظرية في حينها دورًا مهمًا في دفع الأحزاب الشيوعية إلى التماهي مع النظم الوطنية التقدمية، الأمر الذي وصل في مصر مثلاً إلى حد إعلان التنظيمات الشيوعية حل نفسها في منتصف الستينيات، بهدف توحيد القوى الثورية في "حزب طليعي واحد"، وهو الاجتهاد الذي ثبت فشله الذريع فيما بعد، بسبب التحولات الطبقية في طبيعة السلطة، وانعدام الرغبة من جانب الأخيرة في إقامة علاقات ديمقراطية أو ندية مع الماركسيين.
...
بعد هذا كان لبعض المواقف السوفيتية تأثير كبير على الأحزاب الشيوعية من حيث تعميق الخلافات أو اتخاذ مواقف تضعف من شعبية تلك الأحزاب.
ومن أمثلة ذلك الموقف السوفيتي المؤيد لقرار مجلس الأمن 242، ورغم قبول عبد الناصر للقرار في سياق ظرفي معروف (هزيمة 1967) فإن بعض القوى اليسارية العربية هاجمته بشدة، وخاصة من جانب التيارات الماركسية القومية.
كذلك ثارت في السبعينيات مشكلة الانفراج الدولي (الوفاق) بين العملاقين السوفيتي والأمريكي، بما لذلك من نتائج على الصراع العربي الإسرائيلي. ثم كانت مباركة اليسار العربي للغزو السوفيتي لأفغانستان.. وهي المواقف التي نجحت النظم والقوى اليمينية العربية في استثمارها لتشويه سمعة القوى اليسارية المتهمة بتبعيتها للمواقف السوفيتية.
غير أن أخطر مراحل التبعية للسوفيت تمثلت عند بداية الترويج البيروسترويكا في الاتحاد السوفيتي، حيث اندفعت قطاعات يسارية عربية كثيرة وراء هذا النهج الجديد رغم أنه ينطوي على نسف لكل المرحلة الستالينية التي كانت هذه القوى نفسها تباركها في حينها وتدافع عن جميع مواقفها تقريبًا. وهكذا كانت التبعية متواصلة حتى تشييع المنظومة السوفيتية إلى مثواها الأخير.

*******************************
هامـــــــــــــــش:
كتب المفكر الكبير محمود أمين العالم في مقال الشهير "الماركسية على سرير بروكوست":
"لنعترف أن معرفتنا الحقيقية بالماركسية هي معرفة محدودة مسطحة هشة، ولا شك أنها امتداد لمعرفتنا النظرية العامة التي تتسم بالمحدودية والتسطيح والهشاشة. فما اشد ضعف وتخلف الفكر النظري عامة في ثقافتنا العامة. نلتقي لنتناقش حول أزمة الماركسية فكرا وتطبيقا، ونحن جميعا، وبغير استثناء وبدرجات متفاوتة نسبيا، لا نملك المعرفة الحقيقية العميقة بالماركسية..
فماركس لم يترجم ترجمة كاملة شاملة في لغتنا العربية، أي انه حتى اليوم لم يدخل في ثقافتنا العامة فضلا عن انه لم يجد طريقه بشكل موضوعي في إعلامنا، وتعليمنا ومدارسنا وجامعاتنا وحتى مجلاتنا وكتاباتنا العلمية إلا في صورة عكسية أو ضدية في اغلب الأحيان..
ولعل أغلبنا قد اكتفى أو لم يجد أمامه إلا بعض ما ترجم من كتب ماركسية اغلبها ترجمة ركيكة، أو تبسيطات وملخصات مرت على المصفاة السوفييتية الأيديولوجية..
ولكن مع تقديرنا للدور العبقري المبدع لقيادة لينين لهذه الثورة منذ مراحلها الأولى حتى قيام سلطتها، سواء في كتاباته النظرية أو سياساته وممارساته العملية، فما أجدرنا أن نتساءل عن مدى الإضافة النظرية التي أضافها لينين إلى الماركسية، بحيث يصح القول بالماركسية- اللينينية. لعلنا نذكر مقولة ماركس الشهيرة "لست ماركسيا" في مواجهة محاولات تحويل أفكاره إلى أكليشيهات جامدة، ونظرية نهائية. وما اذكر أن لينين جعل، في حياته، من منجزاته النظرية والعلمية رغم أهميتها إضافة نظرية كاملة إلى الماركسية. وأتساءل:
هل حاول ستالين وهو الذي صاغ مفهوم اللينينية كإضافة نظرية إلى الماركسية، أن يعطي لهذا المفهوم مشروعية وطنية للسلطة السوفييتية، وبالتالي لسلطته هو نفسه، فضلا عن إعطاء هذه السلطة السوفييتية مشروعية أممية؟
إننا نستطيع أن نحدد المعالم النظرية التي صاغها ستالين لتأكيد هذه الإضافة النظرية للينينية إلى الماركسية في الأمور التالية: مسألة انتصار الثورة في بلد واحد، مسألة اضعف الحلقات، والنمو غير المتكافئ، وبناء الاقتصاد الاشتراكي، ودكتاتورية البروليتاريا، وحزب الطبقة العاملة، والمسألة الوطنية، ومسألة المستعمرات، ودراسته للامبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية، إلى غير ذلك، وهي بغير شك إضافات غنية فكرية وعملية إلى رصيد النضال الثوري، وهي بغير شك عناصر نظرية وإجرائية تعبر عن نظرية التجربة السوفييتية الثورية، وخاصة في بدايتها. وعندما أضافها ستالين إلى الماركسية كمرجعية للثورة الاشتراكية عامة كاد يجعلها في الحقيقة المرجعية الأساسية لهذه الثورة، بل كاد يخفت إلى جانبها الصوت الحقيقي للماركسية، لقد تحولت الماركسية في ثوبها اللينيني بمفهوم ستالين إلى مذهب رسمي للحزب الشيوعي السوفييتي وللسلطة السوفييتية.
وأصبحت هذه السلطة السوفييتية بسلاحها النظري هذا هي المرجعية الوحيدة للحركة الشيوعية في العالم اجمع. وهكذا جُمدت الماركسية وانتهت كعلم وكممارسة وكفلسفة، وأصبحت أدبياتها تلقينية تبسيطية مطلقة الصحة واليقين، بل تفرض نفسها فرضا إجباريا.
*************************************

ملحق:
الشيوعيون السوريون
كصورة شبه نمطية للحركة الشيوعية العربية

عقد الاجتماع التأسيسي بدعوة من فؤاد الشمالي ويوسف يزبك في أكتوبر 1924، ثم تم الحصول من السلطات في بيروت على ترخيص باسم "حزب الشعب اللبناني" في أبريل 1925. وفي العام نفسه انضم للحزب "اتحاد شبيبة سبارتاك" للمهاجرين الأرمن بقيادة أرتين مادويان. وكان الوسيط في هذه الأنشطة التوحيدية عضو الحزب الشيوعي الفلسطيني ومندوب الكومنترن إلياهو تيبر.
وعندما اندلعت الثورة السورية في يوليو 1925 حصل الحزب الجديد على عضوية الكومنترن، وتغير اسمه إلى "الحزب الشيوعي اللبناني السوري" وانتخب الشمالي سكرتيرًا عامًا، والذي شارك في العام التالي في المؤتمر السادس للكومنترن، حيث حصل على تأييد لسياسة تعريب الحزب، مع الاعتراف باستقلال الحزب الجديد عن الحزب الفلسطيني، وأصبح اسمه غير المعلن "الحزب الشيوعي السوري- فرع الإنترناسيونال". وهكذا اعتمدت تسمية "السوري" تعبيرًا عن التماشي مع تصاعد الدعوة إلى وحدة سوريا الكبرى. وقد أصاب هذا كلاً من الأرمن والشيوعيين اليهود في الحزب الفلسطيني بالغضب، خاصة مع الهجوم الذي شنه الشمالي وحزبه على الصهيونية. ورغم هذا استمر تأثير الأخيرين على الحزب من خلال نيخمان ليستفنسكي عضو اللجنة المركزية.
تزايد اهتمام الكومنترن بالحزب والقضايا العربية عامة بعد "حادث البراق" عام 1929 حينما استولى اليهود عليه ظنًا منهم أنه حائط المبكى، وهو ما أشعل ثورة الفلسطينيين. ولم تدرك القيادة الحزبية المغزى الاستيطاني لهذه الأحداث، واعتبرت الثورة الفلسطينية عملاً معاديًا للسامية، ودعت أعضاءها للاشتراك في وحدات الدفاع الذاتي مع الهاجاناه. وتعرضت القيادة لتقريع شديد من الكومنترن الذي قام بتجريم الحزب الفلسطيني، واتهم المسئولين عن مكافحة الصهيونية فيه (مثل أفيجدور وأبو زيام وبيغر) بالعمالة للاستعمار والصهيونية. وأصدر الكومنترن قرارًا بضرورة اشتراك الشيوعيين في الحركة القومية، بل دعا الأحزاب الشيوعية العربية إلى "العمل على نطاق عربي شامل".
وانتهت معركة تعريب الحزب بتأييد الكومنترن إلى تدخل الأخير من خلال ممثله محمود الأطرش بإقصاء دادوريان وديربدروسيان وأراميسيان وليستفنسكي من القيادة الحزبية عام 1933.
وفي هذه الأجواء ارتقى الشاب خالد بكداش إلى منصب سكرتارية الحزب بسرعة بالغة في العام نفسه، ولكنه أرسل إلى موسكو للتدريب ليعود منها عام 1937 ومعه قيادات أخرى لم ترتبط بالمنظور القومي العربي بنفس الدرجة. وبعد حكم الجبهة الشعبية في فرنسا ركز الحزب على مخاطر الفاشية أكثر من الاستعمار الفرنسي، حتى بعد اقتطاع لواء الإسكندرونة ومنحه لتركيا.
وفوجئ الحزب الشيوعي السوري بتوقيع المعاهدة السوفيتية- الألمانية في أغسطس 1939 قبل قيام الحرب العالمية بعشرة أيام، فكان أن أيد المعاهدة وأدان الحرب في آنٍ. ولكن الحزب سرعان ما استرجع شعاراته القديمة بعدما اعتدى هتلر على الاتحاد السوفيتي في يونيو 1941.
وقد لعب الحزب دورًا مهمًا في المقاومة ضد الفرنسيين الرافضين لاستقلال سوريا ولبنان، كما لعب الاتحاد السوفيتي دورًا دبلوماسيًا كبيرًا ساعد في حصول البلدين على الاستقلال.
ولكن سرعان ما جاءت أزمة تقسيم فلسطين، وكان بكداش يقف بشدة ضد التقسيم ويطالب بوقف الهجرة الصهيونية، ولكن بعد التصويت الروسي في مجلس الأمن لصالح التقسيم أصدر الحزب بيانًا يؤيده رغم معارضة قادة حزبيين مثل فرج الله الحلو ورشاد عيسى. وقد تصادم هذا الموقف تمامًا مع جحافل التظاهرات الشعبية. وبعد اندلاع حرب 1948 أصدر الحزب بيانًا يعتبرها "حربًا دينية عنصرية" و"عملاً وحشيًا ضد شعب لا يريد سوى تقرير مصيره"، وطالب البيان بالانسحاب الفوري للجيوش العربية من فلسطين.
ومع تغير السياسة السوفيتية بعد صفقة الأسلحة المصرية التشيكية عام 1955، غير الحزب بعض اتجاهاته السابقة، كما لم يكن بإمكانه الوقوف ضد إجماع الشعب السوري على الوحدة مع مصر عام 1958. ولكن بعد قيام ثورة 14 تموز/يوليو 1958 بالعراق عاد بكداش إلى مهاجمة الوحدة، واستغلال التناقضات بين السوفيت وعبد الناصر، ودخل الحزب في مواجهة قاسية مع النظام الناصري. وفي العام نفسه انفصل الحزب اللبناني.
وحينما وقع الانفصال أيده الحزب واصطف إلى جانب الإقطاعيين والبرجوازية، وهنأ بكداش قادة الانفصال على "استقلال سوريا" ونشر الحزب بيانًا بعنوان "ضد الاستعمار والتحكم الفرعوني". بل إن الشيوعيين أيدوا إلغاء التأميمات التي قامت بها حكومة الوحدة.
وفي ظل الاضطراب السياسي الشديد الذي عرفته سوريا في هذه الحقبة ازداد تقارب الحزب مع البعثيين في مواجهة الجماهيرية الواسعة للناصريين في سوريا. وفي الوقت نفسه تزايد دور يوسف فيصل نظرًا لاضطرار بكداش للغياب فترات طويلة عن البلاد. وكذلك برزت قيادات جديدة كثيرة مثل رياض الترك ومراد يوسف وعمر قشاش. كما بدأت المؤتمرات والاجتماعات الحزبية تشهد انتقادات شديدة للسياسات (وخاصة في القضايا القومية والمشاركة في السلطة) والممارسات التنظيمية الفردية لبكداش.
وفي أجواء خلافية وانقسامية شديدة استنجد بكداش بالاحتكام إلى الرفاق الكبار (السوفيت) الذين وقفوا مع توجهاته السياسية والتنظيمية (من بين الحكام السوفيت: سيزوف رئيس لجنة الرقابة، وكيرلنكو عضو المكتب السياسي)، وابتذل الخلاف إلى من يقف مع السوفيت ومن ضدهم؟ بل يقال إنه استعدى السلطات السورية أيضًا على خصومه. وحينما لاح أن بكداش في جانب الأقلية وقف السوفيت بقوة معه، وأعلنوا أنهم لن يعترفوا سوى بحزب واحد في سوريا.
وفي النهاية وقع الانشقاق وتكون "الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي)، ومن أبرز قياداته رياض الترك وفائز الفواز وعمر قشاش. ومن أهم المواقف التي اتخذها رفض إصدار إدانة ضد الإخوان المسلمين، انطلاقًا من أن تناقضه الأول هو مع السلطة. كذلك يرفض الحزب الانضواء مع القوى المعارضة التي تستقوى بالخارج على النظام. وتغير اسم الحزب عام 2005 إلى "حزب الشعب الديمقراطي".
وفي العام 1980 وقع انشقاق آخر في حزب بكداش قاده مراد يوسف وسبعة من أعضاء اللجنة المركزية وأعلن تكوين "الحزب الشيوعي السوري- منظمات القاعدة". ولكن هذا الانشقاق فقد معظم قوته بعد أن خرج منه تنظيم "اللجان التحضيرية من أجل حزب جديد" و"التنظيم الشيوعي الفلسطيني في سوريا".
ثم كان الانشقاق الأكبر الثاني الذي عرفه حزب بكداش والذي قام به يوسف فيصل عام 1987 بسبب خلافات تنظيمية وبعض التباين في المواقف من البيروسترويكا. وفي العام نفسه توحد مع مجموعة منشقة عن حزب الترك واسمها "اتحاد الشيوعيين" لم تكن راضية عن موقف الترك المتشدد نوعًا من النظام، ثم توحد عام 1991 مع منظمات القاعدة ومع مجموعات أخرى منشقة عن بكداش.
وفي العام 2000 حدث انشقاق جديد في جماعة بكداش باسم "وحدة الشيوعيين" وقائده قدري جميل الزوج السابق لابنة بكداش. وانضم لهذا الانشقاق بعض الأفراد المتسربين من كل المنظمات الأخرى. أما حزب بكداش الذي تقوده أرملته وصال فرحة وابنها عمار بكداش، فقد بات حزبًا صغيرًا نواته الأساسية من العرقية الكردية..
وإلى جانب هذا كله توجد بسوريا منظمات شيوعية أخرى صغيرة مثل حزب العمل الشيوعي وحزب العمل الثوري...
...
يعقب المفكر الماركسي سلامة كيلة على هذا الطابع الانقسامي المفرط بقوله: "لماذا حدثت الانشقاقات؟ هل نتيجة خلاف فكري سياسي، أم نتيجة «تناقضات» وخلافات لها طابع «ذاتي»؟ معظم الانشقاقات أشارت إلى «خلافات تنظيمية» ولم تشر إلى أي خلاف فكري أو سياسي جدي. وظلت تمارس السياسة ذاتها في الغالب، ربما مع تمايزات محدودة في التكتيك، أو في التعبير عن تلك المواقف. فقد ظلت في «الجبهة الوطنية التقدمية» وفي الحكومة ومختلف إدارات الدولة، أو بقيت على هامشها، ولكن ليس في المعارضة. وهو الأمر الذي يفرض التساؤل عن سبب هذه الانشقاقات. لقد كانت المسألة التنظيمية إشكالية لأن الحزب لم يكن ديموقراطياً، بل كان ينحكم لسلطة «الأمين العام»، الذي لم يكن يحتمل وجود تيارات في الحزب، أو حتى آراء غير رأيه. وبهذا كان الحزب «منضبطاً» و«حديدياً»، لكنه كان ينزف كتلة هامة من كادره ومثقفيه".
ويضيف: " ولقد أدى التحالف مع السلطة إلى إشكالين، الأول: هو تبقرط قطاع من الحزب أصبح جزءاً من تكوين السلطة، وبالتالي التماهي معها، والثاني: فقدان الطابع الفكري الواضح بعدما أصبحت الاشتراكية التي يطرحها هي ذاتها اشتراكية البعث (وبالتالي ليست اشتراكية)، وبعدما أصبح جزءاً من السلطة، ومسؤولاً فيها".



#مصطفى_مجدي_الجمال (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هاجس الفوضى والفاشية في الثورة المصرية
- احتكارات جنوبية!!
- معركة البحوث الاجتماعية في القضاء على الإيدز
- استراتيجيات إدارة المشروع الوطنى فى عصر المنافسة المفتوحة
- عندما تكونت جبهة التروتسكي والإخواني
- اليسار والمال.. من يقهر الآخر ؟!
- عندما تتناقض حرية الرأي مع حرمة الوطن
- كيف كنا نتساءل عن أزمة الديمقراطية المصرية قبل ثلاثة أعوام؟
- وطني وصباي وعبد الناصر !!
- تقدير موقف للثورة المصرية ومبادرة للحزب الاشتراكي
- فيروس الانقسامية في اليسار المصري
- الفطام الذي طال انتظاره
- المال السياسي
- الإخوان وأمريكا .. الغزل الماجن
- الديمقراطية .. والمدرب الأجنبي !!
- إنقاذ الثورات العربية من الاختراق
- ترجمة أفريقيا
- إصلاح الشرطة يبدأ من -كشف الهيئة-
- ميلاد الاشتراكي المصري.. والسماء تتسع لأكثر من قمر!!!
- الجبهة في بلاد العرب (محاولة في تنظير الواقع)


المزيد.....




- جبريل في بلا قيود:الغرب تجاهل السودان بسبب تسيسه للوضع الإنس ...
- العلاقات بين إيران وإسرائيل: من -السر المعلن- في زمن الشاه إ ...
- إيرانيون يملأون شوارع طهران ويرددون -الموت لإسرائيل- بعد ساع ...
- شاهد: الإسرائيليون خائفون من نشوب حرب كبرى في المنطقة
- هل تلقيح السحب هو سبب فيضانات دبي؟ DW تتحقق
- الخارجية الروسية: انهيار الولايات المتحدة لم يعد أمرا مستحيل ...
- لأول مرة .. يريفان وباكو تتفقان على ترسيم الحدود في شمال شرق ...
- ستولتنبرغ: أوكرانيا تمتلك الحق بضرب أهداف خارج أراضيها
- فضائح متتالية في البرلمان البريطاني تهز ثقة الناخبين في المم ...
- قتيلان في اقتحام القوات الإسرائيلية مخيم نور شمس في طولكرم ش ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مصطفى مجدي الجمال - الشيوعيون العرب في الحقبة السوفيتية (استرجاع)